معاني كلمات القران الكريم




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بؤامج نداء الايمان

النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق/مدونة ديوان الطلاق//المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني / / /*الـذاكـر / /القرآن الكريم مع الترجمة / /القرآن الكريم مع التفسير / /القرآن الكريم مع التلاوة / / /الموسوعة الحديثية المصغرة/الموسوعة الفقهية الكبرى //برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم //برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية / /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة / /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين / /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر / /برنامج مكتبة السنة / /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية / /برنامج موسوعة شرح الحديث الشريف فتح البارى لشرح صحيح البخارى وشرح مسلم لعبد الباقى وشرح مالك للإمام اللكنوى / /خلفيات إسلامية رائعة / /مجموع فتاوى ابن تيمية / /مكتبة الإمام ابن الجوزي / /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني / /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي / /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي / /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي / /مكتبة الإمام ابن كثير / /مكتبة الإمام الذهبي / /مكتبة الإمام السيوطي / /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني / /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي / /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي / /مكتبة الشيخ حمود التويجري / /مكتبة الشيخ ربيع المدخلي / /مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ / /مكتبة الشيخ صالح الفوزان / /مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي / /مكتبة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم / /مكتبة الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان / /مكتبة الشيخ عبد المحسن العباد / /مكتبة الشيخ عطية محمد سالم / /مكتبة الشيخ محمد أمان الجامي /مكتبة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي / /مكتبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / /مكتبة الشيخ مقبل الوادعي / /موسوعة أصول الفقه / /موسوعة التاريخ الإسلامي / /موسوعة الحديث النبوي الشريف / /موسوعة السيرة النبوية / /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية / موسوعة توحيد رب العبيد / موسوعة رواة الحديث / موسوعة شروح الحديث / /موسوعة علوم الحديث / /موسوعة علوم القرآن / /موسوعة علوم اللغة / /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

الجمعة، 4 مارس 2022

ج2. منهاج السنة النبوية لابن تيمية من صفحة منهاج السنة النبوية من صفحة [[من صفحة 1 1------- الي منهاج السنة النبوية/16--]]

منهاج السنة النبوية/11.
فصل

والمقصود هنا أن يقال لهذا الإمامي وأمثاله ناظروا إخوانكم هؤلاء الرافضة في التوحيد وأقيموا الحجة على صحة قولكم ثم ادعوا إلى ذلك ودعوا أهل السنة والتعرض لهم فإن هؤلاء يقولون إن قولهم في التوحيد هو الحق وهم كانوا في عصر جعفر الصادق وأمثاله فهم يدعون أنهم أعلم منكم بأقوال الأئمة لا سيما وقد استفاض عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن أخالق هو أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله وهذا مما اقتدى به الإمام أحمد في المحنة فإن جعفر بن محمد من أئمة الدين باتفاق أهل السنة وهذا قول السلف قاطبة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ولكنهم لم يقولوا ما قاله ابن كلاب ومن اتبعه من أنه قديم لازم لذات الله وأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل هذا قول محدث أحدثه ابن كلاب واتبعه عليه طوائف

وأما السلف فقولهم إنه لم يزل متكلما وإنه يتكلم بمشيئته وقدرته

وكذلك قالوا بلزوم الفاعلية ونقلوا عن جعفر الصادق بن محمد أنه قال بدوام الفاعلية المتعدية وأنه لم يزل محسنا بما لم يزل فيما لم يزل إلى ما لم يزل كما نقل ذلك الثعلبي عنه بإسناده في تفسير قوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا سورة المؤمنون 115 مع قول جعفر وسائر المسلمين وأهل الملل وجماهير العقلاء من غير أهل الملل أن الله تعالى خالق كل شيء وأن ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن ليس مع الله شيء من العالم قديم بقدم الله

وأما هشام بن الحكم وهشام بن سالم وغيرهما من شيوخ الإمامية فكانوا يقولون إن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله كما قاله جعفر بن محمد وسائر أئمة السنة ولكن لا أعرف هل يقولون بدوام كونه متكلما بمشيئته كما يقوله أئمة أهل السنة أم يقولون تكلم بعد أن لم يكن متكلما كما تقوله الكرامية وغيرهم

قال الأشعري

واختلفت الروافض في القرآن وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم هشام بن الحكم وأصحابه يزعمون أن القرآن لا خالق ولا مخلوق وزاد بعض من يخبر عن المقالات في الحكاية عن هشام فزعم أنه كان يقول لا خالق ولا مخلوق ولا يقال أيضا غير مخلوق لأنه صفة والصفة لا توصف

قال

وحكى زرقان عن هشام بن الحكم أنه قال القرآن على ضربين إن كنت تريد المسموع فقد خلق الله الصوت المقطع وهو رسم القرآن فأما القرآن فهو فعل الله مثل العلم والحركة لا هو هو ولا غيره

والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه مخلوق محدث لم يكن ثم كان كما تزعم المعتزلة والخوارج

قال

وهؤلاء قوم من المتأخرين منهم

قلت

ومعلوم أن قول جعفر بن محمد الصادق وهؤلاء الذين قالوا من السلف ليس بمخلوق لم يريدوا أنه ليس بمكذوب بل أرادوا أنه لم يخلقه كما قالت المعتزلة وهذا قول متأخري الرافضة

فإن طائفة من متأخري الإمامية كأبي القاسم الموسوي المعروف بالمرتضى وغيره لما وافقوا المعتزلة على أنه محدث منفصل عن الله وأنه لم يكن يمكنه أن يتكلم ثم صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما وليس له كلام يقوم به بل كلامه من جملة مصنوعاته المنفصلة عنه ثم سمعوا عن السلف من أهل البيت مثل جعفر بن محمد وغيره أنهم قالوا إنه غير مخلوق قالوا لا نقول إنه مخلوق متابعة لهؤلاء بل نقول إنه محدث مجعول موافقة لما ظنوه من لفظ القرآن في قوله إنا جعلناه قرآنا عربيا سورة الزخرف 3 وقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث سورة الأنبياء وكثير من الناس غير الشيعة يقولون غير مخلوق ويقصدون في هذا المعنى أنه غير مكذوب مفترى فإنه يقال خلق هذا الحديث واختلقه إذا افتراه قال تعالى عن إبراهيم إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا سورة العنكبوت 17 وقال عن قوم هود قالوا إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين سورة الشعراء 137

فيقال لهؤلاء

كل من تدبر الآثار المنقولة عن السلف وما وقع من النزاع بين الأمة في أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق علم أنه لم يكن نزاعهم في أنه مفترى أو غير مفترى فإن من يقر بأن محمدا رسول الله لا يقول إن القرآن مفترى بل إنما يقول إنه مفترى من قال إن محمدا كاذب افترى القرآن كما قال تعالى أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله سورة يونس 38 وقال أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات سورة هود 13 وقال تعالى وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا سورة الفرقان 4 وقال أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى أجرامي وأنا برئ مما تجرمون سورة هود 3والذين تنازعوا في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق كانوا مقرين بأن محمدا رسول الله وأنه مبلغ للقرآن عن الله تعالى لم يفتره هو ولكن الجهمية والمعتزلة لما كان أصلهم أن الرب لا تقوم به الصفات والأفعال والكلام لزمهم أن يقولوا كلامه بائن عنه مخلوق من مخلوقاته وكان أول من ظهر عنه هذا الجعد بن درهم ثم الجهم ابن صفوان ثم صار هذا في المعتزلة

ولما ظهر هذا سألوا أئمة الإسلام مثل جعفر الصادق وأمثاله فقالوا لجعفر الصادق القرآن خالق أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله ومعلوم أن قوله ليس بخالق ولا مخلوق لم يرد به أنه ليس بكاذب ولا مكذوب لكن أراد أنه ليس هو الخالق للمخلوقات ولا هو من المخلوقات ولكنه كلام الخالق

وكذلك ما نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قيل له حكمت مخلوقا قال لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت القرآن

وما رواه ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية قال كتب إلى حرب الكرماني ثنا محمد بن المصفى ثنا عبدالله بن محمد عن عمرو بن جميع عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال لما حكم علي الحكمين قالت الخوارج حكمت رجلين قال ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن

حدثنا الأشج ثنا يحيى بن يمان ثنا حسن بن صالح عن عبدالله ابن الحسن قال قال علي للحكمين احكما بالقرآن كله فإنه كله لي

وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا الصهيبي ابن عم علي بن عاصم وعلي بن صالح عن عمران بن حدير عن عكرمة قال كان ابن عباس في جنازة فسمع رجلا يقول يا رب القرآن ارحمه فقال ابن عباس مه القرآن منه القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود

حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ثنا أبو مروان الطبري بمكة يعنى الحكم بن محمد ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق وفي رواية منه بدأ وإليه يعود وهذا رواه غير واحد عن سفيان بن عيينة عن عمرو ورواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد

وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا العباس بن عبدالعظيم ثنا رويم بن يزيد المقري ثنا عبد الله بن عباس عن يونس بن بكير عن جعفر بن محمد عن أبيه قال سئل على بن الحسين عن القرآن فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الخالق ورواه أو زرعة عن يحيى بن منصور عن رويم فذكره

وحدثنا جعفر بن محمد بن هارون ثنا عبدالرحمن بن مصعب ثنا موسى بن داود الكوفى عن رجل عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه سأله إن قوما يقولون القرآن مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله حدثنا موسى بن سهل الرملي ثنا موسى بن داود ثنا معبد أبو عبدالرحمن عن معاوية بن عمار الذهبي قال قلت لجعفر بن محمد إنهم يسألوني عن القرآن مخلوق أو خالق فقال إنه ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله

وحدثنا أبو زرعة ثنا سويد بن سعيد عن معاوية فذكره

وحدثنا أبي قال حدثنا الحسن بن الصباح ثنا معبد بمثله

حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي قال قال أبي وحدثت عن موسى بن داود بهذا الحديث عن معبد قال رأيت معبدا هذا ولم يكن به بأس وأثنى عليه ثم قال كان يفتى برأي ابن أبي ليلى

حدثنا عبدالله مولى المهلب بن أبي صفرة ثنا علي بن أحمد بن علي ابن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن أخيه موسى بن جعفر قال سئل أبي جعفر بن محمد عن القرآن خالق أو مخلوق قال لو كان خالقا لعبد ولو كان مخلوقا لنفد

ومثل هذه الآثار كثيرة عن الصحابة والتابعين والأئمة من أهل البيت وغيرهم فعلي رضي الله عنه لم يرد بقوله ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن أي ما حكمت كلاما مفترى فإن الخوارج إنما قالوا له حكمت مخلوقا من الناس وهما أبو موسى وعمرو بن العاص فقال لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت القرآن وهو كلام الله

فالحكم لله وهو سبحانه يصف كلامه بأنه يحكم ويقص ويفتى كقوله ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء سورة النساء 127 أي وما يتلى عليكم يفتيكم فيهن

وقوله وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه سورة البقرة 213

وإذا أضيف الحكم والقصص والإفتاء إلى القرآن الذي هو كلام الله فالله هو الذي حكم به وأفتى به وقص به كما أضاف ذلك إلى نفسه في غير موضع فهذا هو مراد علي بن أبي طالب وجعفر بن محمد وغيرهما من أهل البيت رضوان الله عليهم وسائر سلف الأمة بلا ريب فتبين أن هؤلاء الرافضة مخالفون لأئمة أهل البيت وسائر السلف في مسألة القرآن كما خالفوهم في غيرها

وأما قولهم إنه مجعول فالله لم يصفه بأنه مجعول معدى إلى مفعول واحد بل قال إنا جعلناه قرآنا عربيا سورة الزخرف 3 فإذا قالوا هو مجعول قرآنا عربيا فهذا حق وأما قوله تعالى وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث سورة الأنبياء 2 فهذه الآية تدل على أن الذكر نوعان محدث وغير محدث كما تقول ما جاءني من رجل عدل إلا قبلت شهادته وصفة النكرة للتخصيص وعندهم كل ذلك محدث والمحدث في القرآن ليس هو المحدث في كلامهم فلم يوافقوا القرآن

ثم إذا قيل هو محدث لم يلزم من ذلك أن يكون مخلوقا بائنا عن الله بل إذا تكلم الله به بمشيئته وقدرته وهو قائم به جاز أن يقال هو محدث وهو مع ذلك كلامه القائم بذاته وليس بمخلوق

وهذا قول كثير من أئمة السنة والحديث وقد احتج البخاري وغيره على ذلك بقول النبي ﷺ إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ومعلوم أن الذي أحدثه هو أمره أن لا يتكلموا في الصلاة لا عدم تكلمهم في الصلاة فإن ذلك يكون بإختيارهم ومنهم من تكلم بعد النهى لكن نهوا عن ذلك ولهذا قال يحدث من أمره ما يشاء

والمقصود هنا أنه يقال لهذا الإمامي إخوانك هؤلاء يقولون إن قولهم هو الحق دون قولك وأنت لم تحتج لقولك إلا بمجرد قولك إنه ليس بجسم وهؤلاء إخوانك يقولون إنه جسم فناظرهم فإنهم إخوانك في الإمامة وخصومك في التوحيد

وهكذا ينبغي لك أن تناظر الخوارج الذين هم خصومك وأما أهل السنة فهم وسط بينك وبين خصومك وأنت لا تقدر على قطع خصومك لا هؤلاء ولا هؤلاء

فإن قلت

حجتي على هؤلاء أن كل جسم محدث

قال لك إخوانك

بل الجسم عندنا ينقسم إلى قسمين قديم ومحدث كما أن القائم بنفسه والموجود والحي والعالم والقادر ينقسم إلى قديم ومحدث

فإن قال النافي

الجسم لا يخلو عن الحوادث وما لم يخل عن الحوادث فهو حادث

قال له إخوانه

لا نسلم أنه لا يخلو عن الحوادث وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن ما لم يخل عن الحوادث فهو حادث

فإن قال

الدليل على أنه لا يخلو من الحوادث أنه لا يخلو من الأعراض والأعراض حادثة فإن العرض لا يبقى زمانين

وعلى هذا اعتمد كثير من الكلابية في حدوث العالم وعليه أيضا اعتمد الآمدي وطعن في كل دليل غيره وذكر أن هذه طريقة الأشعرية

وضعف ذلك من تعقب كلامه وقال هذا يقتضى بناء هذا الأصل العظيم على هذه المقدمة الضعيفة وقد رأيت كلام الأشعري نفسه فرأيته اعتمد على أن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق بناء على أن الإجسام مركبة من الجواهر المنفردة فاحتج باستلزامها لهذا النوع من الأعراض وهذا النوع حادث لأنه من الأكوان لكنه مبنى على الجوهر الفرد وجمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم على نفيه

والمقصود هنا ذكر ما يبين أصول الطوائف وأن قول هؤلاء الرافضة المعتزلة من أفسد أقوال طوائف الأمة فإنه ليس معهم حجة شرعية ولا عقلية يمكنهم الإنتصاف بها من إخوانهم أهل البدع وإن كان أولئك ضالين مبتدعين أيضا وهم مناقضون لهم غاية المناقضة فكيف تكون لهم حجة على أهل السنة الذين هم وسط في الإسلام كما إن الإسلام وسط في الملل

فإذا قال النافي

الدليل على حدوثها استلزامها للأعراض

قالوا له

ليس هذا قولك وقول أئمتك المعتزلة وإنما هو قول الأشعرية وأما المعتزلة فعندهم أنه قد يخلو عن كثير من الأعراض وإنما يقولون ذلك في الأكوان أو في الألوان

وقالوا

لا نسلم أن الأعراض حادثة وأنها لا تبقى زمانين وهذا القول معلوم البطلان بالضرورة عند جمهور العقلاء مع أنه ليس قولك وقول شيوخك المعتزلة والرافضة

فإن قال الإمامي النافي

الدليل على أن الجسم لا يخلو من الحوادث أنه لا يخلو من الأكوان والأكوان حادثة إذ لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان

قالوا له

لا نسلم أن الأكوان كلها حادثة ولا نسلم أن السكون حادث بل يجوز أن يكون لنا جسم قديم أزلي ساكن ثم تحرك بعد أن لم يكن متحركا لأن السكون إن كان عدميا جاز أن يحدث أمر وجودي وإن كن وجوديا جاز أن يزول بحادث

قال النافي

القديم لا يزول

قال إخوانه

القديم إن كان معنى عدميا جاز زواله باتفاق العقلاء فإنه ما من حادث إلا وعدمه قديم والسكون عند كثير من الناس عدمي ونحن نختار أنه عدمي فيجوز زواله وإن كان وجوديا فلا نسلم أنه لا يجوز زواله

فإن قال النافي

السكون وجودي وإذا كان وجوديا قديما فالمقتضى لقدمه قديم من لوازم الواجب فيكون واجبا بوجوب سببه

قال إخوانه المجسمة

هذا الموضع يرد على جميع الطوائف المنازعين لنا من الشيعة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم فإنهم وافقونا على أن البارئ فعل بعد أن لم يكن فاعلا فعلم جواز حدوث الحوادث كلها بلا سبب حادث وهم يصرحون بأنه يجوز بل يجب حدوث الحوادث كلها بغير سبب حادث لامتناع حوادث لا أول لها عندهم وإذا جاز ذلك اخترنا أن يكون السكون عدميا والحادث هو الحركة التي هي وجودية فإذا جاز إحداث جرم بلا سبب حادث فإحداث حركة بلا سبب حادث أولى

ولو قيل إن السكون وجودي فإذا جاز وجود أعيان بعد أن لم تكن وذلك تحول من أن لا يفعل إلى أن يفعل سواء سمى مثل هذا تغيرا وانتقالا أو لم يسم جاز أن يتحرك الساكن وينتقل من السكون إلى الحركة وإن كانا وجوديين

وقول القائل

المقتضي لقدمه من لوازم الوجوب

جوابه أن يقال قد يكون بقاؤه مشروطا بعدم تعلق الإرادة بزواله أو بغير ذلك كما يقولونه في سبب الحوادث فإن الواجب انتقل من أن لا يفعل إلى أن يفعل فما كان جوابهم عن ذلك كان جوابا عن هذا وإن قالوا بدوام الفاعلية بطل قولهم وقولنا

وبالجملة هل يجوز أن يحدث عن القديم أمر بلا سبب حادث وترجيح أحد طرفي الممكن بمجرد القدرة وحينئذ فيجوز أن يحدث القادر ما به يزيل السكون الماضي من الحركة سواء كان ذلك السكون وجوديا أو عدميا

قال النافي هذا يلزم منه أن يكون البارئ محلا للحركة وللحوادث أو للأعراض وهذا باطل2)

قال إخوانه الإمامية

قد صادرتنا على المطلوب فهذا صريح قولنا فإنا نقول إنه يتحرك وتقوم به الحوادث والأعراض فما الدليل على بطلان قولنا

قال النافي

لأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث

قال إخوانه قولك ما قامت به الحوادث لم يخل منها فهذا ليس قول الإمامية ولا قول المعتزلة وإنما هو قول الأشعرية وقد اعترف الرازي والآمدي وغيرهما بضعفه وأنه لا دليل عليه وهم وأنتم تسلمون لنا أنه أحدث الأشياء بعد أن لم يكن هناك حادث بلا سبب حادث فإذا حدثت الحوادث من غير أن يكون لها أسباب حادثة جاز أن تقوم به بعد أن لم تكن قائمة به

فهذا القول الذي يقوله هؤلاء الإمامية ويقوله من يقوله من الكرامية وغيرهم من إثبات أنه جسم قديم وأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا أو تحرك بعد أن لم يكن متحركا لا يمكن هؤلاء الإمامية وموافقيهم من المعتزلة والكلابية إبطاله فإن أصل قولهم بامتناع الحوادث به وهؤلاء قد جوزوا ذلك ثم الكلابية لا تنفى قيام الحوادث به لانتفاء الصفات فإنهم يقولون بقيام أعيان الصفات القديمة به وإنما ينفون قدم النوع لتجدد أعيانه فإنها حوادث

وعمدتهم في نفى ذلك أن ما قبل الحوادث لم يخل منها وهذه مقدمة باطلة عند العقلاء وقد اعترف بذلك غير واحد من حذاقهم كالرازي والآمدي وغيرهما وأما أبو المعالي وأمثاله فلم يقيموا حجة عقلية على هذا المطلوب وإنما اعتمدوا على تناقض أقوال من نازعهم من الكرامية والفلاسفة وغيرهما

وتناقض أقوال هذه الطوائف يدل على فساد قولها بمجموع الأمرين لا يدل على صحة أحدهما بعينه وحينئذ فإذا كان هناك قول ثالث يمكن القول به مع فساد أحدهما أو كليهما لم يلزم صحة قول الكلابية وجميع الطوائف المختلفين المخالفين للكتاب والسنة وإنما عندهم إفساد بعضهم قول الآخرين وبيان تناقضه ليس عندهم قول صحيح يقال به

ولهذا كانت الفائدة المستفادة من كلامهم نقض بعضهم كلام بعض فلا يعتقد شيء منها ثم إن عرف الحق الذي جاء به الرسول فهو الصواب الموافق لصريح المعقول وإلا استفيد من ذلك السلامة من تلك الاعتقادات الباطلة وإن لم يعرف الحق فالجهل البسيط خير من الجهل المركب وعدم اعتقاد الأقوال الباطلة خير من اعتقاد شيء منها

وأما المعتزلة فتنفى قيام الحوادث به لأنها أعراض فلا تقوم به وهؤلاء يقولون بل تقوم به الأعراض

وعمدة المعتزلة أنه لو قامت به لكان جسما وهؤلاء التزموا أنه جسم وعمدة هؤلاء في نفي كونه جسما أن الجسم لا يخلو من الحوادث وهؤلاء قد نازعوهم في هذا وقالوا بل يخلو عن الحوادث وقالوا إن البارئ جسم قديم كما تقولون أنتم إنه ذات قديمة وإنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا وتجعلون مفعوله هو فعله لكن هؤلاء يقولون له فعل قائم به ومنفصل عنه وهؤلاء يقولون له مفعول منفصل عنه ولا يقوم به فعل

وعمدة هؤلاء أنه في الأزل إن كان ساكنا لم تجز عليه الحركة لأن السكون معنى وجودي أزلي فلا يزول وإن كان متحركا لزم حوادث لا تتناهى وهؤلاء يقولون بل كان ساكنا في الأزل ويقولون إن السكون عدم الحركة أو عدم الحركة عما يمكن تحريكه أو عدمه عما من شأنه أن يتحرك فلا يسلمون أن السكون أمر وجودي كما يقولون مثل ذلك في العمى والصمم والجهل البسيط

والقول بأن هذه الأمور عدمية ليس هو قول من يقوله من الفلاسفة وحدهم كما يظنه بعض المصنفين في الكلام بل هو قول كثير من النظار المتكلمين أهل القبلة والصلاة وتنازعهم في هذا كتنازعهم في نظائره مثل بقاء الأعراض وتماثل الأجسام وغير ذلك

وإن قالوا إنه وجودي فلا يسلمون أن كل أزلي لايزول بل يقولون في تبدل السكون بالحركة ما يقوله مناظروهم في تبدل الإمتناع بالإمكان فإن الطائفتين اتفقتا على أن الفعل كان ممتنعا في الأزل فصار ممكنا فهكذا يقوله هؤلاء في السكون الوجودي إن كان تبدله بالحركة في الأزل ممتنعا وهو فيما لا يزال ممكن فتبدل حيث أمكن التبدل كما يقولون جميعا إنه حدث الفعل حيث كان الحدوث ممكنا فهذا بحث هؤلاء الإمامية والكرامية مع هؤلاء الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة والكلابية وأتباعهم في هذه الأمور التي يعتمدون فيها على العقل وقد أجابهم طائفة من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم بأن الدليل الدال على حدوث العالم هو هذا الدليل الدال على حدوث الأجسام فإن لم يكن هذا صحيحا انسد طريق معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع

فقال المخالف لهؤلاء لا نسلم أن هذا هو الطريق إلى معرفة حدوث العالم ولا إلى إثبات الصانع بل هذا طريق محدث في الإسلام لم يكن أحد من الصحابة ولا القرابة ولا التابعين يسلك هذه الطريق وإنما سلكها الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف ومن وافقهما ولو كان العلم بإثبات الصانع وحدوث العالم لا يتم إلا بهذه الطريق لكان بيانها من الدين ولم يحصل الإيمان إلا بها

ونحن نعلم بالاضطرار أن النبي ﷺ لم يذكر هذه الطريق لأمته ولا دعاهم بها لا إليها ولا أحد من الصحابة فالقول بأن الإيمان موقوف علهيا مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام وكل أحد يعلم أنها طريق محدثة لم يسلكها السلف والناس متنازعون في صحتها فكيف يقولون إن العلم بالصانع والعلم بحدوث العالم موقوف عليها

وقالوا بل هذه الطريقة تنافى العلم بإثبات الصانع وكونه خالقا للعالم آمرا بالشرائع مرسلا للرسل فالذين ابتدعوها من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم قالوا إنها صحيحة في العقل وإن العلم بالنبوة وصحة دين الإسلام لايتم إلا بها

وقولهم إن العلم بذلك لا يتم إلا بها مما أنكره عليهم جماهير الأمة من الأولين والآخرين لا سيما السلف والأئمة وكلامهم في تبديع أهل هذا الكلام وذمه وذم أهله ونسبتهم إلى الجهل وعدم العلم من الأمور المتواترة عن السلف

وكذلك القول بصحتها من جهة العقل هو مما أنكره جمهور أئمة الأمة لكن سلم ذلك طوائف من الكرامية والكلابية وغيرهم ونازعوهم في موجب هذه الطريق ونازعوهم أيضا في توقف صحة دين الإسلام عليها كما ذكر ذلك غير واحد مثل ما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب وذكره الخطابي وأبو عمر الطلمنكي الأندلسي والقاضي أبو يعلى وغير واحد

وأما أئمة السنة وطوائف من أهل الكلام فبينوا أن هذه طريقة باطلة في العقل أيضا وأنها تنافى صحة دين الإسلام فضلا عن أن تكون شرطا في العلم به وأين اللازم لدين الإسلام من المنافي له

وبينوا أن تقدير ذات لم تزل غير فاعلة ولا متكلمة بمشيئتها وقدرتها ثم حدوث ما يحدث من مفعولات مثل كلام مؤلف منظوم وأعيان وغير ذلك بدون سبب حادث مما يعلم بطلانه بصريح المعقول وهو مناقض لكونه سبحانه خلق السماوات والأرض ولكون القرآن كلام الله وغير ذلك مما أخبر به الرسل بل حقيقته أن الرب لم يفعل شيئا ولم يتكلم بشيء لامتناع ما ذكروه من أن يكون فعالا أو مقالا له كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على مجامع الطرق والمقالات

قالت النفاة فإذا كانت طرقنا في إثبات العلم بالصانع وحدوث السماوات والأرض وإثبات العلم بالنبوة طرقا باطلة فما الطريق إلى ذلك

قالوا أولا لا يجب علينا في هذا المقام بيان ذلك بل المقصود ههنا أن هذه طريق محدثة مبتدعة يعلم أنها ليست هي الطريق التي جاء بها الرسول ﷺ فيمتنع أن تكون واجبة أو يكون العلم الواجب أو الإيمان بصدقة موقوفا عليها

وقالوا كل من العلم بالصانع وحدوث العالم له طرق كثيرة متعددة

أما إثبات الصانع فطرقه لا تحصى بل الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري مغروز في الجبلة ولهذا كانت دعوة عامة الرسل إلى عبادة الله وحده لا شريك له وكان عامة الأمة مقرين بالصانع مع إشراكهم به بعبادة ما دونه والذين أظهروا إنكار الصانع كفرعون خاطبتهم الرسل خطاب من يعرف أنه حق كقول موسى لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر سورة الإسراء 102 ولما قال فرعون وما رب العالمين سورة الشعراء 23 قال له موسى رب السموات والأرض إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون سورة الشعراء 24 227

ولما قال فرعون فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى سورة طه 49 50 فكان جواب موسى له جوابا للمتجاهل الذي يظهر أنه لا يعرف الحق وهو معروف عنده فإن سؤال فرعون بقوله وما رب العالمين استفهام إنكار لوجوده ليس هو استفهام طلب لتعريف ما هيته كما ظن ذلك بعض المتأخرين وقالوا إن فرعون طالبه ببيان الماهية فعدل عن ذلك لامتناع الجواب بذكرها فإن هذا غلط منهم فإن فرعون لم يكن مفرا بالصانع ألبته بل كان جاحدا له وكان استفهامه استفهام إنكار لوجوده ولهذا قال ما علمت لكم من إله غيري سورة القصص 38 وقال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات 24 ولو كان مقرا بوجوده طالبا لمعرفة ما هيته لم يقل هذا ولكان موسى ما أجابه إجابة لم تذكر فيها ماهيته

ومع أن القول بأن الماهية هي ما يقوله المنطقيون من ذكر الذاتي المشترك والذاتي المميز وهما الجنس والفصل كلام باطل قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وبين أن الماهية المغايرة للوجود الخارجي إنما هي ما يتصور في الذهن فإن ما في الأذهان من الصور الذهنية ليس هو نفس الموجودات الخارجية

وأما دعوى أهل المنطق اليوناني أن في الخارج ماهية ووجودا غير الماهية وأن الصفات اللازمة تنقسم إلى لازمة مقومة داخلة في الماهية ومفارقة عرضية لها غير مقومة وإلى لازمة لوجودها الخارجي دون ماهيتها الخارجية فكلام باطل من وجوه متعددة كما قد بسط هذا في موضعه وبين أن الصفات تنقسم إلى لازمة للموصوف وعارضة له فقط كما عليه نظار المسلمين من جميع الطوائف وبين كلام نظار المسلمين في الحد والبرهان وأن كلامهم في صريح المعقول أصح من كلام المتفلسفة اليونان ومن اتبعهم من المتسبين إلى الملل

وأيضا فنفس حدوث الإنسان يعلم به صانعه وكذلك حدوث كل ما يشاهد حدوثه وهذه الطريقة مذكورة في القرآن

وأيضا فالوجود يستلزم إثبات موجد قديم واجب بنفسه ونحن نعلم أن من الموجودات ما هو حادث فقد علم بالضرورة انقسام الموجود إلى قديم بنفسه وإلى محدث

وأما حدوث العالم فيمكن علمه بالسمع وبالعقل فإنه يمكن العلم بالصانع إما بالضرورة والفطرة وإما بمشاهدة حدوث المحدثات وإما بغير ذلك ثم يعلم صدق الرسول بالطرق الدالة على ذلك وهي كثيرة ودلالة المعجزات طريق من الطرق وطريق التصديق لا تنحصر في المعجزات ثم يعلم بخبر الرسول حدوث العالم

وأما بالعقل فيعلم أن العالم لو كان قديما لكان إما واجبا بنفسه وهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه من أن كل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وإما واجبا بغيره فيكون المقتضى له موجبا بذاته بمعنى أنه مستلزم لمقتضاه سواء كان شاعرا مريدا أم لم يكن فإن القديم الأزلي إذا قدر انه معلول مفعول فلا بد من أن تكون علة تامة مقتضية له في الأزل وهذا هو الموجب بذاته ولو كان مبدعة موجبا بذاته علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله ومقتضاه والحوادث مشهودة في العالم فعلم أن فاعله ليس علة تامة وإذا لم يكن علة تامة لم يكن قديما

وهذه الحوادث التي في العالم إن قيل إنها من لوازمه امتنع أن تكون العلة الأزلية التامة علة للملزوم دون لازمه وامتنع أيضا أن يكون علة للازمه لأن العلة التامة الأزلية لا تقتضي حدوث شيء وإن لم تكن الحوادث من لوازمه كانت حادثة بعد أن لم تكن فإن لم يكن لها محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة وإن كان لها محدث غير الواجب بنفسه كان القول في حدوث إحداثه إياها كالقول في ذلك المحدث وإن كان الواجب بنفسه هو المحدث فقد حدثت عنه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة وحينئذ فيكون قد تغير وصار محلا للحوادث بعد أن لم يكن والعلة التامة الأزلية لا يجوز عليها التغير والإنتقال من حال إلى حال وذلك لأن تغيرها لا بد أن يكون بسبب حادث والعلة التامة الأزلية لا يجوز أن يحدث فيها حادث فإنه إن حدث بها مع أنه لم يتجدد شيء لزم الحدوث بلا سبب وإن لم يحدث بها لزم حدوث الحوادث بلا فاعل فبطل أن تكون علة تامة أزلية وإن جوز مجوز عليها الإنتقال من حال إلى حال جاز أن يحدث العالم بعد أن لم يكن فبطل حجة من يقول بقدم العالم وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون المنتقل من حال إلى حال إلا فاعلا بالإختيار لا موجبا بالذات وإيضاح هذا أن الحوادث إما أن يجوز دوامها لا إلى أول وإما أن يجب أن يكون لها أول فإن وجب أن يكون أول بطل مذهب القائلين بقدم العالم القائلين بأن حركات الأفلاك أزلية

وأيضا فإذا وجب أن يكون لها أول لزم حدوث العالم لأنه متضمن للحوادث فإنه إما أن يكون مستلزما للحوادث أو تكون عارضة له فإن كان مستلزما لها ثبت أنه لا يخلوا عنها فإذا كان لها ابتداء كان له ابتداء لازما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها ولا يتقدم عليها فإذا قدر أن الحوادث كلها كائنة بعد أن لم يكن حادث أصلا كان المقرون بها الذي لم يتقدمها كائنا بعد أن لم يكن قطعا وإن كانت الحوادث عارضة للعالم ثبت حدوث الحوادث بلا سبب وإذا جاز حدوث الحوادث كلها بلا سبب حادث جاز حدوث العالم بلا سبب حادث فبطلت كل حجة توجب قدمه وكان القائل بقدمه قائلا بلا حجة أصلا وإذا قيل يجوز أن يكون العالم قديما عن علته بلا حادث فيه ثم حدثت فيه الحوادث كان هذا باطلا لأنه إذا جاز أن يحدثنا بعد أن لم يكن محدثا لم يكن موجبا بل فاعلا باختياره ومشيئته والفاعل باختياره ومشيئته لا يقارنه مفعوله كما قد بسط في موضعه

ولأنه على هذا يجب أن يقارنه القديم من مفعولاته ويجب أن يبقى معطلا عن الفعل إلى أن يحدث الحوادث فإيجاب تعطيله وإيجاب فعله جمع بين الضدين وتخصيص بلا مخصص فإنه بذاته إما أن يجب أن يكون فاعلا في الأزل وإما أن يمتنع كونه فاعلا في الأزل وإما أن يجوز الأمران

فإن وجب كونه فاعلا في الأزل جاز حدوث الحوادث في الأزل ووجب أن لا يكون لها ابتداء والتقدير أن لها ابتداء وإن امتنع كونه فاعلا في الأزل امتنع أن يكون شيء قديم في الأزل غيره فلا يجوز قدم العالم خاليا عن الحوادث ولا مع الحوادث وإن جاز أن يكون فاعلا في الأزل وجاز أن لا يكون لم يمتنع أن يكون فاعلا في الأزل فجاز حدوث الحوادث في الأزل

وإن قيل بل يكون فاعلا لغير الحوادث ثم يحدث الحوادث فيما لا يزال كما يقوله من يقول بقدم العقول والنفوس وأن الأجسام حدثت عن بعض ما حدث للنفس من التصورات والإرادات وكما يقوله من يقول بقدم القدماء الخمسة كان هذا من أفسد الأقوال لأنه يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب حادث أوجب حدوثها إذلم يكن هناك ما يقتضى تجدد إحداث الحوادث مع أن قول القائل بقدم النفس يقتضى دوام حدوث الحوادث فإن ما يحدث من تصورات النفس وإراداتها حوادث دائمة عندهم وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب حادث لم يكن هناك سبب يدل على قدم شيء من العالم والذين قالوا بدوام معلول معين عنه التزموا دوام الفاعلية فرارا من هذا المحذور فإذا كان هذا لازما لهم على التقديرين لم يكن لهم حاجة إلى ذلك الممتنع عند جماهير العقلاء ففي الجملة جواز كونه فاعلا في الأزل يستلزم جواز حدوث الحوادث في الأزل ولهذا لم يعرف من قال بكونه فاعلا في الأزل مع امتناع دوام الحوادث فإن القائلين بحدوث الأجسام عن تصور من تصورات النفس يقولون بدوام الحوادث في النفس والقائلين بالقدماء الخمسة لا يقولون إنه فاعل لها في الأزل بل يقولون إنها واجبة بنفسها هذا هو المحكي عنهم وقد يقولون إنها معلولة له لا مفعولة له

فإذا قدر أنه فاعل للعالم في الأزل وقدر امتناع الحدوث في الأزل جمع بين وجوب كونه فاعلا وامتناع كونه فاعلا

وإذا قيل يفعل ما هو قديم ولا يفعل ما هو حادث

قيل فعلى هذا التقدير يجوز تغيير القديم لأن التقدير ان المعلول القديم حدثت فيه الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب حادث والمعلول القديم لا يجوز تغييره فإنه يقتضي تغيير علته التامة الأزلية الموجبة له ثم على هذا التقدير المتضمن إثبات قديم معلول لله أو إثبات قدماء معلولة عن الله مع حدوث الحوادث الدائمة في ذلك القديم أو مع تجدد حدوث الحوادث فيها هو قول بحدوث هذا العالم كما يذكر ذلك عن ديمقراطيس ومحمد بن زكريا الرازي وغيرهما وهذا مبسوط في موضعه وكما هو قول من يقول بحدوث الأجسام كلها والرازي قد يجعل القولين قولا واحدا كما أشار إلى ذلك في محصله وغير محصله وذلك أن المعروف عن الحرنانيين هو القول بالقدماء الخمسة ثم بنوا عليه تصور النفس وقد حدث لها عشق تعلقت بسببه بالهيولي ليكون للأجسام سبب اقتضى حدوثها لكنه مع هذا باطل فإن حدوث الحوادث بلا سبب إن كان ممتنعا بطل هذا القول لأنه يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب وإذا كانت أحوال الفاعل واحدة وهو لا يقوم به شيء من الأمور الإختيارية امتنع أن يختص بعض الأحوال بسبب يقتضى حدوث الأجسام وإن كان ممكنا أمكن حدوث كل ما سوى الله بعد أن لم يكن وكانت هذه القدماء مما يجوز حدوثه

وأيضا فعلى هذا القول يكون موجبا بذاته لمعلولاته ثم يصير فاعلا بالإختيار لغيرها والقول بأحد القولين يناقض الآخر

وإن قيل إن الحوادث يجوز دوامها امتنع أن تكون علة أزلية لشيء منها والعالم لا يخلو منها على هذا التقدير بل هو مستلزم لها فيمتنع أن يكون علة تامة لها في الأزل ويمتنع أن يكون علة للملزوم دون لازمه

وأيضا فإن كل ما سوى الواجب يمكن وجوده وعدمه وكل ما كان كذلك فإنه لا يكون إلا موجودا بعد عدمه

وأيضا فإن القول بأن المفعول المعين يقارن فاعله أزلا وأبدا مما يعلم بطلانه بضرورة العقل ولهذا كان هذا مما اتفق عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين حتى أرسطو وأصحابه القدماء ومن اتبعه من المتأخرين فإنهم متفقون على أن كل ما أمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم وإنما أثبت ممكنا قديما ابن سينا ومن وافقه وقد أنكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة وبينوا أنه خالف في ذلك قول سلفه كما ذكر ذلك ابن رشد وغيره وكذلك عامة العقلاء من جميع الطوائف متفقون على أن كل ما يقال إنه مفعول أو مبدع أو مصنوع لا يكون إلا محدثا

ولهذا كان جماهير العقلاء إذا تصوروا أنه خلق السماوات والأرض تصوروا أنه أحدثها لا يتصور في عقولهم أن تكون مخلوقة قديمة وإن عبر عن ذلك بعبارات أخر مثل أن يقال هي مبدعة قديمة أو مفعولة قديمة ونحو ذلك بل هذا وهذا جمع بين الضدين عند عامة العقلاء وما يذكره من يثبت مقارنة المفعول لفاعله من قولهم حركت يدي فتحرك الخاتم ونحوه تمثيل غير مطابق لأنه ليس في شيء مما يذكرونه علة فاعلة تقدمت على المعلول المفعول وإنما الذي تقدم في اللفظ شرط أو سبب كالشرط ومثل ذلك يجوز أن يقارن المشروط هذا إذا سلم مقارنة الثاني للأول وإلا ففي كثير مما يذكرونه يكون متأخرا عنه مع اتصاله به كأجزاء الزمان بعضها مع بعض هو متصل بعضها ببعض مع التأخر

وأما ما ذكره الرازي في محصله وغير محصله حيث قال اتفق المتكلمون على أن القديم يمتنع استناده إلى الفاعل واتفقت الفلاسفة على أنه غير ممتنع زمانا فإن العالم قديم عندهم زمانا مع أنه فعل الله تعالى

فيقال

أما نقله عن المتكلمين فصحيح وهو قول جماهير العقلاء من جميع الطوائف وأما نقله عن الفلاسفة فهو قول طائفة منهم كابن سينا وليس هو قول جمهورهم لا القائلين بقدم العالم كأرسطو وأتباعه ولا القائلين بحدوث صورته وهم جمهور الفلاسفة فإن القائلين بقدمه لم يكونوا يثبتون له فاعلا مبدعا كما يقوله ابن سينا بل منهم من لا يثبت له علة فاعله وأرسطو يثبت له علة غائية يتشبه بها الفلك لم يثبت علة فاعله كما يقوله ابن سينا وأمثاله وأما من قبل أرسطو فكانوا يقولون بحدوث السماوات كما يقوله أهل الملل

ثم قال الرازي

وعندي أن الخلاف في هذا المقام لفظي لأن المتكلمين يمتنعون من إسناد القديم إلى المؤثر الموجب بالذات وكذلك زعم مثبتو الحال بناء على أن عالمية الله وعلمه قديمان مع أن العالمية والقادرية معللة بالعلم والقدرة وزعم أبو هاشم أن العالمية والقادرية والحيية والموجودية معللة بحال خامسة مع أن الكل قديم وزعم أبو الحسين أن العالمية حال معللة بالذات وهؤلاء وإن كانوا يمتنعون عن إطلاق لفظ القديم على هذه الأحوال ولكنهم يغطون المعنى في الحقيقة

فيقال

ليس في المتكلمين من يقول بأن المفعول قد يكون قديما سواء كان الفاعل يفعل بمشيئته أو قدر أنه يفعل بذاته بلا مشيئة والصفات اللازمة للموصوف

فإن قيل

إنها قديمة فليست مفعولة عند أحد من العقلاء بل هي لازمة للذات بخلاف المفعولات الممكنة المباينة للفاعل فإن هذا هو المفعول الذي أنكر جمهور العقلاء على من قال بقدمه والمتكلمون وسائر جمهور العقلاء متفقون على أن المفعول لا يكون قديما وإن قدر أنه فاعل بالطبع كما تفعل الأجسام الطبيعية فما ذكره عن المتكلمين فليس بلازم لهم

ثم قال وأما الفلاسفة فإنهم إنما جوزوا إسناد العالم القديم إلى البارئ لكونه عندهم موجبا بالذات حتى لو اعتقدو فيه كونه فاعلا بالإختيار لما جوزوا كونه موجبا للعالم القديم قال فظهر من هذا اتفاق الكل على جواز إسناد القديم إلى الموجب القديم وامتناع إسناده إلى المختار

فيقال بل الفلاسفة في كونه يفعل بمشيئته على قولين معروفين لهم وأبو البركات وغيره يقولون بأنه فاعل بمشيئته مع قولهم بقدم العالم فتبين أن ما ذكره عن المتكلمين باطل وما ذكره عن الفلاسفة باطل

أما الفلاسفة فعلى قولين وأما المتكلمون فمتفقون على بطلان ما حكاه عنهم أو ألزمهم به بل هم وجمهور العقلاء يقولون يعلم بالضرورة أن كل مفعول فهو محدث ثم كونه مفعولا بالمشيئة أو بالطبع مقام ثان

وليس العلم بكون المفعول محدثا مبنيا على كون الفاعل مريدا فإن الفعل عندهم لا يكون ابتداؤه إلا من قادر مريد لكن هذه قضية قائمة بنفسها وهذه قضية قائمة بنفسها وكل منهما دليل على حدوث كل ما سوى الله وهما أيضا قضيتان متلازمتان

وهذه الأمور لبسطها موضع آخر ولكن المقصود هنا أن المبطلين لأصول الجهمية والمعتزلة من أهل السنة والشيعة وغيرهم يقولون بهذه الطرق فهذه الطرق وغيرها مما يبين به حدوث كل ما سوى الله تعالى سواء قيل بأن كل حادث مسبوق بحادث أو لم يقل

وأيضا فما يقوله قدماء الشيعة والكرامية ونحوهم لهؤلاء أن يقولوا نحن علمنا أن العالم مخلوق بما فيه من آثار الحاجة كما قد تبين قبل هذا أن كل جزء من العالم محتاج فلا يكون واجبا بنفسه فيكون مفتقرا إلى الصانع فثبت الصانع بهذا الطريق

ثم يقولوا ويمتنع وجود حوادث لا أول لها فثبت حدوثه بهذا الطريق

ولهذا كان محمد بن الهيصم ومن وافقه كالقاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى في كتابه المسمى بالتلخيص لا يسلكون في إثبات الصانع الطريق التي يسلكها أولئك المعتزلة ومن وافقهم حيث يثبتون أولا حدوث العالم بحدوث الأجسام ويجعلون ذلك هو الطريق إلى إثبات الصانع بل يبتدئون بإثبات الصانع ثم يثبتون حدوث العالم بتناهي الحوادث ولا يحتاجون أن يقولوا كل جسم محدث

وبالجملة فالتقديرات أربعة فإن الحوادث إما أن يجوز دوامها وإما أن يمتنع دوامها ويجب أن يكون لها ابتداء وعلى التقديرين فإما أن يكون كل جسم محدثا وإما أن لا يكون وقد قال بكل قول طائفة من أهل القبلة وغيرهم

وكل هؤلاء يقولون بحدوث الأفلاك وأن الله أحدثها بعد عدمها ليس فيهم من يقول بقدمها فإن ذلك قول الدهرية سواء قالوا مع ذلك بإثبات عالم معقول كالعلة الأولى كما يقوله الإلهيون منهم أو لم يقولوا بذلك كما يقوله الطبيعيون منهم وسواء قالوا إن تلك العلة الأولى هي علة غائية بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه بها كما هو قول أرسطو وأتباعه أو قالوا إنها علة مبدعة للعالم كما يقوله ابن سينا وأمثاله أو قيل بالقدماء الخمسة كما يقوله الحرنانيون ونحوهم أو قيل بعدم صانع لها سواء قيل بوجوب ثبوت وجودها أو حدوثها لا بنفسها أو وجوب وجود المادة وحدوث الصورة بلا محدث كما يذكر عن الدهرية المحضة منهم

مع أن كثيرا من الناس يقولون إن هذه الأقوال من جنس أقوال السوفسطائية التي لا تعرف عن قوم معينين وإنما هي شيء يخطر لبعض الناس في بعض الأحوال وإذا كان كذلك فقد تبين أنه ليس لهذا الإمامي وأمثاله من متأخري الإمامية والمعتزلة وموافقيهم حجة عقلية على بطلان قول إخوانهم من متقدمي الإمامية وموافقيهم الذين نازعوهم في مسائل الصفات والقرآن وما يتبع ذلك فكيف يكون حالهم مع أهل السنة الذين هم أصح عقلا ونقلا
فصل

وأما قوله عن الإمامية

إنهم يقولون إنه قادر على جميع المقدرات

فهذا ملبس لا فائدة فيه فإن قول القائل إنه قادر على جميع المقدورات يراد به شيئان

أحدهما أنه قادر على كل ممكن فإن كل ممكن هو مقدور بمعنى أنه يقدر القادر على فعله والثاني أن يراد به أنه قادر على كل ما هو مقدور له لا يقدر على ما ليس بمقدور له

والمعنى الأول هو مراد أهل السنة المثبتين للقدر إذا قالوا هو قادر على كل مقدور فإنهم يقولون إن الله قادر على كل ما يمكن أن يكون مقدورا لأي قادر كان فما من أمر ممكن في نفسه إلا والله قادر عليه لا يتصور عندهم أن يقدر العباد على ما لم يقدر الله عليه وهذا معنى قوله تعالى إنه على كل شيء قدير سورة فصلت 3فأما الممتنع لنفسه فإنه ليس بشيء عند عامة العقلاء وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا

فأما الممتنع فلم يقل أحد إنه شيء ثابت في الخارج فإن الممتنع هو ما لا يمكن وجوده في الخارج مثل كون الشيء موجودا معدوما فإن هذا ممتنع لذاته لا يعقل ثبوته في الخارج وكذلك كون الشيء أسود كله أبيض كله وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين

والممتنع يقال على الممتنع لنفسه مثل هذه الأمور وعلى الممتنع لغيره مثل ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر أنه لا يكون وكتب أنه لا يكون فهذا لا يكون

وقد يقال إنه يمتنع أن يكون لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله بخلاف معلومه وخبره بخلاف مخبره لكن هذا هو ممكن في نفسه والله قادر عليه كما قال بلى قادرين على أن نسوي بنانه سورة القيامة 4 وقال تعالى وإنا على ذهاب به لقادرون سورة المؤمنون 18 وقال تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو بلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض سورة الأنعام 6وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هاتان أهون

ومن ذلك قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها سورة السجدة 13 ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة سورة هو 118 ولو شاء الله ما اقتتلوا سورة البقرة 253 إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء سورة سبأ 9 وأمثال ذلك مما أخبر الله تعالى أنه لو شاء لفعله فإه هذه الأمور التي أخبر الله أنه لو شاء لفعلها تستلزم أنها ممكنة مقدورة له

وقد تنازع الناس في خلاف المعلوم هل هو ممكن مقدور كإيمان الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن والذين زعموا أن الله يكلف العبد ما هو ممتنع احتجوا بتكليفه وزعموا أن إيمانه ممتنع لاستلزامه انقلاب علم الله جهلا

وجوابهم أن لفظ الممتنع مجمل يراد به الممتنع لنفسه ويراد به ما يمتنع لوجود غيره فهذا الثاني يوصف بأنه ممكن مقدور بخلاف الأول وإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مقدور له لكنه لا يقع وقد علم الله أنه لا يؤمن مع كونه مستطيع الإيمان كمن علم أنه لا يحج مع استطاعته الحج

ومن الناس من يدعى أن الممتنع لذاته مقدور ومنهم من يدعى إمكان أمور يعلم بالعقل امتناعها وغالب هؤلاء لا يتصور ما يقوله حق التصور أو لا يفهم ما يريده الناس بتلك العبارة فيقع الاشتراك والإشتباه في اللفظ أو في المعنى

وحقيقة الأمر ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه أنه على كل شيء قدير كما تقدم بيانه وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر

وأما القدرية من الإمامية والمعتزلة وغيرهم فإذا قالوا إنه قادر على كل المقدورات لم يريدوا بذلك ما يريده أهل الإثبات وإنما يريدون بذلك أنه قادر على كل ما هو مقدور له وأما نفس أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس فإن الله لا يقدر عليها عند القدرية وإنما تنازعوا هل يقدر على مثلها

وإذا كان كذلك كان قولهم إنه قادر على كل مقدور إنما يتضمن أنه قادر على كل ما هو مقدور له وغيره أيضا هو قادر على كل مقدور له لكن غاية ما يقولون إنه قادر على مثل مقدور العباد والعبد لا يقدر على مثل مقدور قادر آخر

وبكل حال فإذا كان المراد أنه قادر على ما هو مقدور له كان هذا بمنزلة أن يقال هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها مثل أن يقول القائل إنه فاعل لجميع المفعولات ومثل أن يقال زيد عالم بكل ما يعلمه وقادر على كل ما يقدر عليه وفاعل لكل ما يفعله

فإن الشأن في بيان المقدورات هل هو على كل شيء قدير فمذهب هؤلاء الإمامية وشيوخهم القدرية أنه ليس على كل شيء قديرا وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه ولا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقيم قاعدا باختياره ولا يقعد قائما باختياره ولا يجعل أحدا مسلما مصليا ولا صائما ولا حاجا ولا معتمرا ولا يجعل الإنسان لا مؤمنا ولا كافرا ولا برا ولا فاجرا ولا يخلقه هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا فهذه الأمور كلها ممكنة ليس فيها ما هو ممتنع لذاته وعندهم أن الله لا يقدر على شيء منها فظهر تمويههم بقولهم إن الله قادر على جميع المقدورات

وأما أهل السنة فعندهم أن الله تعالى على كل شيء قدير وكل ممكن فهو مندرج في هذا

وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما فهذا لا حقيقة له ولا يتصور وجوده ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء ومن هذا الباب خلق مثل نفسه وأمثال ذلك وأما قوله إنه عدل حكيم لا يظلم أحدا ولا يفعل القبيح وإلا لزم الجهل أو الحاجة تعالى الله عنهما

فيقال له

هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا ولا يظلم أحدا ولكن النزاع في تفسير ذلك فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد هل يقال إنه فعل ما هو قبيح منه وظلم أم لا

فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون ليس هو بذلك ظالما ولا فاعلا قبيحا والقدرية يقولون لو كان خالقا لأفعال العباد كان ظالما فاعلا لما هو قبيح منه

وأما كون الفعل قبيحا من فاعله فلا يقتضى أن يكون قبيحا من خالقه كما أن كونه أكلا وشربا لفاعله لا يقتضى أن يكون كذلك لخالقه لأن الخالق خلقه في غيره لم يقم بذاته فالمتصف به من قام به الفعل لا من خلقه في غيره كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلما كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون والريح والحركة والقدرة والعلم فهو المتحرك بتلك الحركة والمتلون بذلك اللون والعالم بذلك العلم والقادر بتلك القدرة فكذلك إذا خلق في غيره كلاما أو صلاة أو صياما أو طوافا كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام وهو المصلي وهو الصائم وهو الطائف

وكذلك إذا خلق في غيره رائحة خبيثة منتنة كان هو الخبيث المنتن ولم يكن الرب تعالى موصوفا بما خلقه في غيره وإذا خلق الإنسان هلوعا جزوعا كما أخبر تعالى بقوله إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا سورة المعارج 19 21 لم يكن هو سبحانه لا هلوعا ولا جزوعا ولا منوعا كما تزعم القدرية أنه إذا جعل الإنسان ظالما كاذبا كان هو ظالما كاذبا تعالى عن ذلك

وهذا يدل على قول جماهير المثبتين للقدر القائلين بأنه خالق أفعال العباد فإنهم يقولون إن الله تعالى خالق العبد وجميع ما يقوم به من إرادته وقدرته وحركاته وغير ذلك

وذهبت طائفة منهم من الكرامية وغيرهم كالقاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى إلى أن معنى كونه خالقا لأفعال العباد أنه خالق للأسباب التي عندها يكون العبد فاعلا ويمتنع ألا يكون فاعلا فما علم الله أن العبد يفعله خلق الأسباب التي يصير بها فاعلا ويقولون إن أفعال العباد وجدت من جهته لا من جهة الله ويقولون إن الله تعالى موجدها كما قالوا إن الله خالقها ويقولون إنه لم يكونها ولم يجعلها ويقولون إن العبد تحدث له إرادة مكتسبة لكن قد يقولون إنها بإرادة ضرورية يخلقها الله كما ذكر ذلك القاضي أبو خازم وغيره وقد يقولون بل العبد يحدث إرادته مطلقا كما قالته القدرية لكن هؤلاء يقولون إن الرب يسر خلق الأسباب التي تبعث داعية على إيقاع ما يعلم أنه يوقعه

ولكن على قول الجمهور من قال إن الفعل هو المفعول كما يقوله الجهم بن صفوان ومن وافقه كالأشعري وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقول إن أفعال العباد هي فعل الله

فإن قال أيضا وهي فعل لهم لزمه أن يكون الفعل الواحد لفاعلين كما يحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني وإن لم يقل هي فعل لهم لزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده كما يقوله جهم بن صفوان والأشعري ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم الذين يقولون إن الخلق هو المخلوق وإن أفعال العباد خلق لله عز وجل فتكون هي فعل الله وهي مفعول الله كما أنها خلقه وهي مخلوقة

وهؤلاء لا يقولون إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ولكن هم مكتسبون لها وإذا طولبوا بالفرق بين الفعل والكسب لم يذكروا فرقا معقولا ولهذا كان يقال عجائب الكلام ثلاثة أحوال أبي هاشم وطفرة النظام وكسب الأشعري وهذا الذي ينكره الأئمة وجمهور العقلاء ويقولون إنه مكابرة للحس ومخالفة للشرع والعقل

وأما جمهور أهل السنة المتبعون للسلف والأئمة فيقولون إن فعل العبد فعل له حقيقة ولكنه مخلوق لله ومفعول لله لا يقولون هو نفس فعل الله ويفرقون بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول

وهذا الفرق الذي حكاه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد عن العلماء قاطبة وهو الذي ذكره غير واحد من السلف والأئمة وهو قول الحنفية وجمهور المالكية والشافعية والحنبلية وحكاه البغوي عن أهل السنة قاطبة وحكاه الكلاباذي صاحب التعرف لمذهب التصوف عن جميع الصوفية وهو قول أكثر طوائف أهل الكلام من الهشامية وكثير من المعتزلة والكرامية وهو قول الكلابية أيضا أئمة الأشعرية فيما ذكره أبو علي الثقفي وغيره على قول الكرامية وأثبتوا لله فعلا قائما بذاته غير المفعول كما أثبتوا له إرادة قديمة قائمة بذاته وذكر سائر الاعتقاد الذي صنفوه لما جرى بينهم وبين ابن خزيمة نزاع في مسألة القرآن لكن ما أدري هل ذلك قول ابن كلاب نفسه أو قالوه هم بناء على هذا الأصل المستقر عندهم

ثم القدر فيه نزاع بين الإمامية كما بينهم النزاع في الصفات

قال أبو الحسن الأشعري في المقالات واختلفت الرافضة في أعمال العباد هل هي مخلوقة وهي ثلاث فرق

فالفرقة الأولى منهم وهم هشام بن الحكم يزعمون أن أعمال العباد مخلوقة لله

قال

وحكى جعفر بن حرب عن هشام بن الحكم أنه كان يقول إن أفعال الإنسان اختيار له من وجه اضطرار له من وجه اختيار له من وجه أنه أرادها واكتسبها واضطرار من جهة أنها لا تكون منه إلا عند حدوث السبب المهيج عليه

قال

والفرقة الثانية منهم يزعمون أن لا جبر كما قال الجهمي ولا تفويض كما قالت المعتزلة لأن الرواية عن الأئمة زعموا جاءت بذلك ولم يتكلفوا أن يقولوا في أفعال العباد هل هي مخلوقة أم لا شيئا

والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن أعمال العباد غير مخلوقة لله وهذا قول قوم يقولون بالاعتزال والإمامة

فإذن كانت الإمامية على ثلاثة أقوال منهم من يوافق المثبتة ومنهم من يوافق المعتزلة ومنهم من يقف

والواقفة معنى قولهم هو معنى قول أهل السنة ولكن توقفوا في إطلاق اللفظ فإن أهل السنة لا يقولون بالتفويض كما تقول القدرية ولا بالجبر كما تقول الجهمية بل أئمة السنة كالأوزاعي والثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم متفقون على إنكار قول الجبرية المأثور عن جهم بن صفوان وأتباعه وإن كان الأشعري يقول بأكثره وينفى الأسباب والحكم فالسلف مثبتون للأسباب والحكمة

والمقصود أن الإمامية إذا كان لهم قولان كانوا متنازعين في ذلك كتنازع سائر الناس لكنهم فرع على غيرهم في هذا وغيره فإن مثبتيهم تبع للمثبتة ونفاتهم تبع للنفاة إلا ما اختصوا به من افتراء الرافضة فإن الكذب والجهل والتكذيب بالحق الذي اختصوا به لم يشركهم فيه أحد من طوائف الأمة وأما ما يتكلمون به في سائر مسائل العلم أصوله وفروعه فهم فيه تبع لغيرهم من الطوائف يستعيرون كلام الناس فيتكلمون به وما فيه من حق فهو من أهل السنة لا ينفردون عنهم بمسألة واحدة صحيحة لا في الأصول ولا في الفروع إذ كان مبدأ بدعة القوم من قوم منافقين لا مؤمنين

وحينئذ فهذا النافي يناظر أصحابه في ذلك وهو لم يذكر حجة وقد تقدم تفصيل مذاهب أهل السنة في ذلك وقد ذكر أصحابه عن الأئمة ما يخالف قوله في ذلك

وأما قوله

إن الله يثيب المطيع ويعفو عن العاصي أو يعذبه

فهذا مذهب أهل السنة الخاصة وسائر من انتسب إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية وسائر فرق الأمة من المرجئة وغيرهم والخلاف في ذلك مع الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار

وأما الشيعة فالزيدية منهم أو أكثر الزيدية تقول بقول المعتزلة في ذلك والإمامية على قولين

قال الأشعري

وأجمعت الزيدية أن أصحاب الكبائر كلهم معذبون في النار خالدون فيها مخلدون أبدا لا يخرجون منها ولا يغيبون عنها

قال

واختلفت الروافض في الوعيد وهم فرقتان

فالفرقة الأولى منهم يثبتون الوعيد على مخالفيهم ويقولون إنهم يعذبون ولا يقولون بإثبات الوعيد فيمن قال بقولهم ويزعمون أن الله يدخلهم الجنة وإن أدخلهم النار أخرجهم منها ورووا في ذلك عن أئمتهم أن ما كان بين الله وبين الشيعة من المعاصي سألوا الله فيهم فصفح عنهم وما كان بين الشيعة وبين الأئمة تجاوزوا عنه وما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا لهم أئمتهم حتى يصفحوا عنهم

قال

والفرقة الثانية منهم يذهبون إلى إثبات الوعيد وأن الله عز وجل يعذب كل مرتكب للكبائر من أهل مقالتهم كان أو من غير أهل مقالتهم ويخلدهم في النار

وهذا قول أئمة هذا الإمامي من المعتزلة ونحوهم

وأما قوله

ويثيب المطيع لئلا يكون ظالما فقد قدمنا أن للمثبتين للقدر في تفسير الظلم الذي يجب تنزيه الله عنه قولين

أحدهما أن الظلم هو الممتنع لذاته وهو المحال لذاته وإن كان ما يمكن أن يكون فالرب قادر عليه وكل ما كان قادرا عليه لا يكون ظالما وهذا قول الجهم والأشعري وموافقيهما وقول كثير من السلف والخلف أهل السنة والحديث

ويروى عن إياس بن معاوية قال ما ناظرت بعقلي كله إلا القدرية قلت لهم أخبروني عن الظلم ماهو قالوا التصرف في ملك غيره قلت فلله كل شيء

وهذا قول كثير من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم فعلى هذا القول لا يقال يثيب الطائع لئلا يكون ظلما

فإن الممتنع لذاته الذي لا يكون مقدورا لا يتصور وقوعه فأي شيء كان مقدورا وفعل لم يكن ظلما عند هؤلاء وهؤلاء يجوزون أن يعذب الله العبد في الدنيا والآخرة بلا ذنب كما يجوزون تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم بلا ذنب ثم من هؤلاء من يقطع بدخول أطفال الكفار النار ومنهم من يجوزه ويتوقف فيه وطائفة من أصحاب أحمد يقطعون بذلك وينقلونه عن أحمد وهو خطاء على أحمد بل نصوص أحمد المتواترة عنه وعن غيره من الأئمة مطابقة للأحاديث الصحيحة في ذلك

وهؤلاء إنما اشتبه عليهم الأمر لأن أحمد سئل عنهم في بعض أجوبته فأجاب بالحديث الصحيح الله أعلم بما كانوا عاملين فظن هؤلاء أن أحمد أجاب بحديث روى عن خديجة أنها سألت النبي ﷺ عن أطفال المشركين فقال إنهم في النار فقالت بلا عمل فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وهذا الحديث كذب موضوع عند أهل الحديث ومن هو دون أحمد من أئمة الحديث يعرف هذا فضلا عن مثل أحمد

وأحمد لم يجب بهذا وإنما أجاب بالحديث الذي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبي هريرة اقرؤا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها سورة الروم 30 قالوا يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة أن النبي ﷺ سئل عن أطفال المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وقد بسط الكلام على هذا الأحاديث وأقوال الناس في هذه المسألة ونحوها في غير هذا الموضع مثل كتاب رد تعارض العقل والنقل وغير ذلك

والقول الثاني

أن الظلم ممكن مقدور وأنه منزه عنه لا يفعله لعلمه وعدله فهو لا يحمل على أحد ذنب غيره قال تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى سورة الإسراء 15 ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 11وعلى هذا فعقوبة الإنسان بذنب غيره ظلم ينزه الله عنه وأما إثابة المطيع ففضل منه وإحسان وإن كان حقا واجبا بحكم وعده باتفاق المسلمين وبما كتبه على نفسه من الحرمة وبموجب أسمائه وصفاته

فليس هو من جنس ظلم الأجير الذي استؤجر ولم يوف أجره فإن هذا معاوضة والمستأجر استوفى منفعته فإن لم يوفه أجره ظلمه

والله تعالى هو المحسن إلى العباد بأمره ونهيه وبإقداره لهم على الطاعة وبإعانتهم على طاعته وهم كما قال تعالى في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم مانقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه

فبين أن الخير الموجود من الثواب مما يحمد الله عليه لأنه المحسن به وبأسبابه وأما العقوبة فإنه عادل فيها فلا يلومن العبد إلا نفسه كما قيل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل

وأصحاب هذا القول يقولون الكتاب والسنة إنما تدل على هذا القول والله قد نزه نفسه في غير موضع عن الظلم الممكن المقدور مثل نقص الإنسان من حسناته وحمل سيئات غيره عليه

وأما خلق أفعال العباد واختصاصه أهل الإيمان بإعانتهم على الطاعة فليس هذا من الظلم في شيء باتفاق أهل السنة والجماعة وسائر المثبتين للقدر من جميع الطوائف ولكن القدرية تزعم أن ذلك ظلم وتتكلم في التعديل والتجوير بكلام متناقض فاسد كما قد بين في موضعه

وأما قوله

أو يعذبه بجرمه من غير ظلم له فهذا متفق عليه بين المسلمين أن الله تعالى ليس ظالما بتعذيب العصاة

وهم على ما تقدم من التنازع في مسمى الظلم هذا يقول لأن الظلم منه ممتنع وهذا يقول إنه وضع العقوبة موضعنا والظلم وضع الشيء في غير موضعه كما تقول العرب من أشبه أباه فما ظلم ومعلوم أن الواحد من العباد إذا عذب الظالم على ظلمه بالعدل لم يكن ظالما له وإن اعتقد أن الله خلق فعله وأنه تحت القضاء والقدر فإذا لم يكن المخلوق ظالما للمخلوق إذا عاقبه بظلمه وإن كان يعلم أن ذلك مقدر عليه فالخالق أولى أن لا يكون ظالما له وإن كان ما فعله مقدرا هذا مع ما أنه يحسن منه سبحانه بحكمته ما لا يحسن من الناس فإن الواحد من الناس لو رأى مماليكه يزنى بعضهم ببعض ويظلم بعضهم بعضا وهو قادر على منعهم ولم يمنعهم لكان مذموما بذلك مستحقا للوم والعقاب والبارئ تعالى يرى ما يفعله بعض مماليكه من ظلم وفاحشة وهو قادر على منعهم فلا يمنعهم وهو سبحانه حميد مجيد منزه عن استحقاق الذم فضلا عن عقاب إما لما له في ذلك من الحكمة على قول الأكثرين وإما لمحض المشيئة والإرادة على قول نفاة التعليل والإرادة من المثبتين للقدر فإذا كان يحسن منه من الأفعال ما لا يحسن من البشر بطل قياسه على خلقه وكان ما يحسن منا من عقوبة الظالم لا يقبح منه بطريق الأولى والأحرى فإن ما ينزه عنه من النقائص فهو أولى بتنزيهه وله من الحمد ما لا يستحقه غيره

وأما قوله

وأن أفعاله محكمة واقعة لغرض ومصلحة وإلا لكان عابثا

فقد تقدم أن لأهل السنة الذين ليسوا بإمامية قولين في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه وأن الأكثرين على التعليل والحكمة هل هي منفصلة عن الرب لا تقوم به أو قائمة به مع ثبوت الحكم المنفصلة أيضا فيه قولان لهم وهل تتسلسل الحكم أو لا تتسلسل أو تتسلسل في المستقبل دون الماضي هذا فيه أقوال لهم

وأما لفظ الغرض فتطلقه طائفة من أهل الكلام كالقدرية وطائفة من المثبتين للقدر أيضا يقولون إنه يفعل لغرض كما ذكر ذلك من يذكره من مثبتة القدر أهل التفسير والفقه وغيرهم ولكن الغالب على الفقهاء وغيرهم من المثبتين للقدر أنهم لا يطلقون لفظ الغرض وإن أطلقوا لفظ الحكمة لما فيه من إيهام الظلم والحاجة فإن الناس إذا قالوا فلان فعل هذا لغرض وفلان له غرض مع فلان كثيرا ما يعنون بذلك المراد المذموم من ظلم وفاحشة أو غيرهما والله تعالى منزه عن أن يريد ما يكون مذموما بإرادته

وأما قوله

إنه أرسل الرسل لإرشاد العالم

فهكذا يقول جماهير أهل السنة أن الله تعالى أرسل محمدا صلىالله عليه وسلم رحمة للعالمين والذين يمتنعون من التعليل يقولون أرسله وجعل إرساله رحمة في حق من آمن به أو في حقه وحق غيره

ويقولون هذه الرحمة جعلت عند ذلك كما يقولون في سائر الأمور

التي حصل عندها آثار فإن الجمهور المثبتين للحكمة يقولون فعل كذا لأجل ذلك وفعل كذا بكذا وأولئك يقولون فعل عنده لا به ولا له

وأما قوله

وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس لقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سورة الأنعام 103 ولأنه ليس في جهة

فيقال له

أولا النزاع في هذه المسألة بين طوائف الإمامية كما النزاع فيها بين غيرهم فالجهمية والمعتزلة والخوارج وطائفة من غير الإمامية تنكرها والإمامية لهم فيها قولان فجمهور قدمائهم يثبت الرؤية وجمهور متأخيريهم ينفونها وقد تقدم أن أكثر قدمائهم يقولون بالتجسيم

قال الأشعري

وكل المجسمة إلا نفرا قليلا يقول بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم

قلت وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤلاء وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة كالكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى والأحاديث بها متواترة عن النبي ﷺ عند أهل العلم بحديثه

وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقد ذكر الإمام أحمد وغيره من الأئمة العالمين بأقوال السلف أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار ومتفقون على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا ﷺ خاصة منهم من نفى رؤيته بالعين في الدنيا ومنهم من أثبتها وقد بسطت هذه الأقوال والأدلة من الجانبين في غير هذا الموضع والمقصود هنا نقل إجماع السلف على أثبات الرؤية بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا إلا الخلاف في النبي ﷺ خاصة

وأما احتجاجه واحتجاج النفاة أيضا بقوله تعالى لا تدركه الأبصار سورة الأنعام 103 فالآية حجة عليهم لا لهم لأن الإدراك إما أن يراد به مطلق الرؤية أو الرؤية أو الرؤية المقيدة بالإحاطة والأول باطل لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال إنه أدركه كما لا يقال أحاط به كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال ألست ترى السماء قال بلى قال أكلها ترى قال لا

ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة لا يقال إنه أدركها وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند المنع بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم إنه أدركه وهذا لا سبيل إليه كيف وبين لفظ الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص أو اشتراك لفظي فقد تقع رؤية بلا إدراك وقد يقع إدراك بلا رؤية فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه فأدركه ولم يره وقد قال تعالى فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين سورة الشعراء 61 62 فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي فعلم أنه قد يكون رؤية بلا أدراك والإدراك هنا هو إدراك القدرة أي ملحوقون محاط بنا وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفى إحاطة البصر أيضا

ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكره هذه الآية يمدح بها نفسه سبحانه وتعالى ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح لأن النفى المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا ولأن المعدوم أيضا لا يرى والمعدوم لا يمدح فعلم أن مجرد نفى الرؤية لا مدح فيه

وهذا أصل مستمر وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتا لا مدح فيه ولا كمال فلا يمدح الرب نفسه به بل ولا يصف نفسه به وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وقوله ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم سورة البقرة 255 وقوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض سورة سبأ 3 وقوله وما مسنا من لغوب سورة ق 38 ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية مثل كمال حياته وقيوميته وملكه وقدرته وعلمه وهدايته وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدما محضا ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه إنه لايرى فعلم أن نفى الرؤية عدم محض ولا يقال في العدم المحض لا يدرك وإنما يقال هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه

وإذا كان المنفى هو الإدراك فهو سبحانه وتعالى لا يحاط به رؤية كما لا يحاط به علما ولا يلزم من نفى إحاطة العلم والرؤية نفى العلم والرؤية بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى ويحاط به كما يعلم ولا يحاط به فإن تخصيص الإحاطة بالنفي يقتضي أن مطلق الرؤية ليس بمنفى وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم وقد روى معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وقد روى في ذلك حديث مرفوع إلى النبي ﷺ ولا تحتاج الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر الآية فلا نحتاج أن نقول لا نراه في الدنيا أو نقول لا تدركه الأبصار بل المبصرون أو لا تدركه كلها بل بعضها ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف

ثم نحن في هذا المقام يكفينا أن نقول الآية تحتمل ذلك فلا يكون فيها دلالة على نفي الرؤية فبطل استدلال من استدل بها على الرؤية وإذا أردنا أن نثبت دلالة الآية على الرؤية مع نفيها للإدراك الذي هو الإحاطة أقمنا الدلالة على أن الإدراك في اللغة ليس هو مرادفا للرؤية بل هو أخص منها وأثبتنا ذلك باللغة وأقوال المفسرين من السلف وبأدلة أخرى سمعية وعقلية

========












وأما قوله

ولأنه ليس في جهة

فيقال

للناس في إطلاق لفظ الجهة ثلاثة أقوال فطائفة تنفيها وطائفة تثبتها وطائفة تفصل

وهذا النزاع موجود في المثبتة للصفات من أصحاب الأئمة الأربعة وأمثالهم ونزاع أهل الحديث والسنة الخاصة في نفى ذلك وإثباته نزاع لفظي ليس هو نزاعا معنويا ولهذا كان طائفة من أصحاب الإمام أحمد كالتميميين والقاضي أبي يعلى في أول قولية تنفيها وطائفة أخرى أكثر منهم تثبتها وهو آخر قولى القاضي

والمتبعون للسلف لا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبين أن ما أثبت بها فهو ثابت وما نفى بها فهو منفى لأن المتأخرين قد صار لفظ الجهة في اصطلاحهم فيه إجمال وإبهام كغيرها من ألفاظهم الإصطلاحية فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي ولهذا كان النفاة ينفون بها حقا وباطلا ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلا مخالفا لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان وذلك أن لفظ الجهة قد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات فإنه بائن من المخلوقات

وإن أريد بالجهة أمر عدمى وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده

فإذا قيل إنه في جهة إن كان معنى الكلام أنه هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عال عليه

ونفاة لفظ الجهة يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه كان قبل الجهة وأنه من قال إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم أو أنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها

وهذه الأقوال ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أو لم يسم وهذا حق فإنه سبحانه منزه عن أن تحيط به المخلوقات أو أن يكون مفتقرا إلى شيء منها العرش أو غيره ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا كما جاء الحديث يكون العرش فوقه ويكون محصورا بين طبقتين من العالم فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة كما قد بسط في موضعه وكذلك توقف من توقف في نفى ذلك من أهل الحديث فإنما ذلك لضعف علمه بمعانى الكتاب والسنة وأقوال السلف

ومن نفى الجهة وأراد بالنفي كون المخلوقات محيطة به أو كونه مفتقرا إليها فهذا حق لكن عامتهم لا يقتصرون على هذا بل ينفون أن يكون فوق العرش رب العالمين أو أن يكون محمد ﷺ عرج به إلى الله أو أن يصعد إليه شيء وينزل منه شيء أو أن يكون مباينا للعالم بل تارة يجعلونه لا مباينا ولا محايثا فيصفونه بصفة المعدوم والممتنع وتارة يجعلونه حالا في كل موجود أو يجعلونه وجود كل موجود ونحو ذلك مما يقوله أهل التعطيل وأهل الحلول وإذا كان كذلك فهو قد استدل على عدم الرؤية بكونه ليس في جهة وهذا الموضع مما تنازع فيه مثبتو الرؤية فقال الجمهور بما دل عليه قول النبي ﷺ إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته وهذا الحديث متفق عليه من طرق كثيرة وهو مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث اتفقوا على صحته مع أنه جاء من وجوه كثيرة قد جمع طرقها أكثر أهل العلم بالحديث كأبي الحسن الدارقطنى وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر الآجري وغيرهم وقد أخرج أصحاب الصحيح ذلك من وجوه متعددة توجب لمن كان عارفا بها العلم القطعي بأن لرسول الله ﷺ قال ذلك وقالت طائفة إنه يرى لا في جهة لا أما الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته وهذا هو المشهور عند متأخري الأشعرية فإن هذا مبنى على اختلافهم في كون البارئ تعالى فوق العرش

فالأشعري وقدماء أصحابه كانوا يقولون إنه بذاته فوق العرش وهو مع ذلك ليس بجسم وعبدالله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي كانوا يقولون بذلك بل كانوا أكمل إثباتا من الأشعري فالعلو عندهم من الصفات العقلية وهو عند الأشعري من الصفات السمعية ونقل ذلك الأشعري عن أهل السنة والحديث كما فهمه عنهم وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقه هو وأئمة أصحابه كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي سليمان الدمشقي وأبي حاتم البستى وخلق كثير يقولون إن اتصافه بأنه مباين للعالم عال عليه هو من الصفات المعلومة بالعقل كالعلم والقدرة وأما الاستواء على العرش فهو من الصفات الخبرية وهذا قول كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأكثر أهل الحديث وهو آخر قولى القاضي أبي يعلى وقول أبي الحسن بن الزاغوني وهو قول كثير من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم وأما الأشعري فالمشهور عنه أن كليهما صفة خبرية وهو قول كثير من أتباع الأئمة الأربعة وهو أول قولى القاضي أبي يعلى وقول التميميين وغيرهم من أصحابه

وكثير من متأخري أصحاب الأشعري أنكروا أن يكون الله فوق العرش أو في السماء وهؤلاء الذين ينفون الصفات الخبرية كأبي المعالي وأتباعه فإن الأشعري وأئمة أصحابه يثبتون الصفات الخبرية وهؤلاء ينفونها فنفوا هذه الصفة لأنها على قول الأشعري من الصفات الخبرية ولما لم تكن هذه الصفة عند هؤلاء عقلية قالوا إنه يرى لا في جهة

وجمهور الناس من مثبتة الرؤية ونفاتها يقولون إن قول هؤلاء معلوم الفساد بضرورة العقل كقولهم في الكلام ولهذا يذكر أبو عبدالله الرازي أنه لا يقول بقولهم في مسألة الكلام والرؤية أحد من طوائف المسلمين

ونحن نسلك طريقين من البيان أحدهما نبين فيه أن هؤلاء الذين رد عليهم من مثبتى الرؤية كالأشعري وغيره أقرب إلى الصواب من قول النفاة الثاني نبين في الحق بيانا مطلقا لا نذب فيه عن أحد

الطريق الأول

أن نبين أن هذه الطائفة وغيرها من الطوائف المثبتة للرؤية أقل خطأ وأكثر صوابا من نفاة الرؤية ونقول لهؤلاء النفاة للرؤية أنتم أكثرتم التشنيع على الأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة في مسألة الرؤية ونحن نبين أنهم أقرب إلى الحق منكم نقلا وعقلا وأن قولهم إذا كان فيه خطأ فالخطأ الذي في قولكم أعظم وأفحش عقلا ونقلا

فإذا قلتم

هؤلاء إذا أثبتوا مرئيا لا في جهة كان هذا مكابرة للعقل

قيل لكم

لا يخلو إما أن تحكموا في هذا الباب العقل وإما أن لا تحكموه فإن لم تحكموه بطل قولكم وإن حكمتموه فقول من أثبت موجودا قائما بنفسه يرى أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه لا يرى ولا يمكن أن يرى وذلك لأن الرؤية لا يجوز أن يشترط في ثبوتها أمور عدمية بل لا يشترط في ثبوتها إلا أمور وجودية

ونحن لا ندعى هنا أن كل موجود يرى كما ادعى ذلك من ادعاه فقامت عليه الشناعات فإن ابن كلاب ومن اتبعه من أتباع الأئمة

الأربعة وغيرهم قالوا كل قائم بنفسه يرى وهكذا قالت الكرامية وغيرهم فيما أظن وهذه الطريقة التي سلكها ابن الزاغوني من أصحاب أحمد

وأما الأشعري فادعى أن كل موجود يجوز أن يرى ووافقه على ذلك طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وغيره ثم طرد قياسه فقال كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس ووافقه على ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي والرازي وكذلك القاضي أبو يعلى وغيرهم وخالفهم غيرهم فقالوا لا نثبت في ذلك الشم والذوق واللمس ونفوا جواز تعلق هذه بالبارئ والأولون جوزوا تعلق الخمس بالبارئ وآخرون من أهل الحديث وغيرهم أثبتوا ما جاء به السمع من اللمس دون الشم والذوق وكذلك المعتزلة منهم من أثبت جنس الإدراك كالبصريين ومنهم من نفاه كالبغداديين والمقصود هنا بأن المثبتة ولو أخطأوا في بعض كلامهم فهم أقرب إلى الحق نقلا وعقلا من نفاة الرؤية

فنقول من الأشياء ما يرى ومنها ما لا يرى والفارق بينهما لا يجوز أن يكون أمورا عدمية لأن الرؤية أمر وجودي والمرئى لا يكون إلا موجودا فليست عدمية لا تتعلق بالمعدوم ولا يكون الشرط فيه إلا أمرا وجوديا لا يكون عدميا وكل ما لا يشترط فيه إلا الوجود دون العدم كان بالوجود الأكمل أولى منه بالأنقص فكل ما كان وجوده أكمل كان أحق بأن يرى وكل ما لم يمكن أن يرى فهو أضعف وجودا مما يمكن أن يرى فالأجسام الغليظة أحق بالرؤية من الهواء والضياء أحق بالرؤية من الظلام لأن النور أولى بالوجود والظلمة أولى بالعدم والموجود الواجب الوجود أكمل الموجودات وجودا وأبعد الأشياء عن العدم فهو أحق بأن يرى وإنما لم نره لعجز أبصارنا عن رؤيته لا لأجل امتناع رؤيته كما أن شعاع الشمس أحق بأن يرى من جميع الأشياء

ولهذا مثل النبي ﷺ رؤية الله به فقال ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر شبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئى مثل المرئى ومع هذا فإذا حدق البصر في الشعاع ضعف عن رؤيته لا لامتناع في ذات المرئى بل لعجز الرائى فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله تعالى الآدميين وقواهم حتى أطاقوا رؤيته ولهذا لما تجلى الله عز وجل للجبل خر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين سورة الأعراف 143 قيل أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده فهذا للعجز الموجود في المخلوق لا لامتناع في ذات المرئى بل كان المانع من ذاته لم يكن إلا لنقص وجوده حتى ينتهى الأمر إلى المعدوم الذي لا يتصور أن يرى خارج الرائي

ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله كما أيد نبينا ﷺ قال تعالى وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون سورة الأنعام 8 9 قال غير واحد من السلف هم لا يطيقون أن يروا الملك في صورته فلو أنزلنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة بشر وحينئذ كان يشتبه عليهم هل هو ملك أو بشر فما كانوا ينتفعون بإرسال الملك إليهم فأرسلنا إليهم بشرا من جنسهم يمكنهم رؤيته والتلقي عنه وكان هذا من تمام الإحسان إلى الخلق والرحمة ولهذا قال تعالى وما صاحبكم بمجنون سورة التكوير 233

ولا مماسة ولا يتميز منه جانب عن جانب كان هذا مكابرة

فيقال لكم

أنتم يانفاة الرؤية تقولون ومن وافقكم من المثبتين للرؤية إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له

فإذا قيل لكم

هذا خلاف المعلوم بضرورة العقل فإن العقل لا يثبت شيئين موجودين إلا أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو داخلا فيه كما يثبت الأعيان المتباينة والأعراض القائمة بها وأما إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه فهذا مما يعلم العقل استحالته وبطلانه بالضرورة

قلتم

هذا النفى حكم الوهم لا حكم العقل وجعلتم في الفطرة حاكمين أحدهما الوهم والآخر العقل مع أن المعنى الذي سميتموه حاكمين أحدهما الوهم والآخر العقل مع أن المعنى الذي سميتموه الوهم قلتم هو القوة التي تدرك معاني جزئية غير محسوسة في الأعيان المحسوسة كالعداوة والصداقة كما تدرك الشاة معنى في الذئب ومعنى في الكبش فتميل إلى هذا وتنفر عن هذا وإذا كان الوهم إنما

وقال ما ضل صاحبكم وما غوى سورة النجم 2 وقال لقد جاءكم رسول من أنفسكم سورة التوبة 128 وقال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم سورة إبراهيم 4 ونحو ذلك من الآيات

فإن قلتم

هؤلاء يقولون إنه يرى لا في جهة وهذه مكابرة

فيقال

هذا قالوه بناء على الأصل الذي اتفقتم أنتم وهم عليه وهو أنه ليس في جهة ثم إذا كان الكلام مع الأشعري وأئمة أصحابه ومن وافقهم من أصحاب الحديث أصحاب أحمد وغيره كالتميميين وابن عقيل وغيرهم

فيقال

هؤلاء يقولون إنه فوق العالم بذاته وإنه ليس بجسم ولا متحيز

فإن قلتم

هذا القول مكابرة للعقل لأنه إذا كان فوق العالم فلا بد أن يتم منه جانب عن جانب وإذا تميز منه جانب عن جانب كان جسما فإذا أثبتوا موجودا قائما بنفسه فوق العرش لا يوصف بمحاذاة

يدرك أمورا معينة فهذه القضايا التي نتكلم فيها قضايا كلية عامة والقضايا الكلية العامة هي للعقل لا للحس ولا للوهم الذي يتبع الحس فإن الحس لا يدرك إلا أمورا معينة وكذلك الوهم عندكم وقد بسط الرد على هؤلاء في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا بيان أن قول أولئك أقرب من قولهم

فيقال

إذا عرضنا على العقل وجود موجودا لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له ووجود موجود مباين للعالم فوقه وهو ليس بجسم كان تصديق العقل بالثاني أقوى من تصديقه بالأول وهذا موجود في فطرة كل أحد فقبول الثاني أقرب إلى الفطرة ونفورها عن الأول أعظم فإن وجب تصديقكم في ذلك القول الذي هو عن الفطرة أبعد كان تصديق هؤلاء في قولهم أولى وحينئذ فليس لكم أن تحتجوا على بطلان قولهم بحجة إلا وهي على بطلان قولكم أدل

فإذا قلتم

وجود موجود فوق العالم ليس بجسم لا يعقل

قيل لكم

كما أن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه لا يعقل

فإذا قلتم

نفى هذا من حكم الوهم

قيل لكم

إن كان هذا النفى من حكم الوهم وهو غير مقبول فذلك النفى من حكم الوهم وهو غير مقبول بطريق الأولى

فإذا قلتم

حكم الوهم الباطل أن يحكم في أمور غير محسوسة حكمه في أمور محسوسه

قيل

لكم أجوبة

أحدها أن هذا يبطل حجتكم على بطلان قول هؤلاء لأن قولكم إنه يمتنع وجود موجود فوق العالم ليس بجسم ليس أقوى من قول القائل يمتنع وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ويمتنع وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين ويمتنع وجود موجود ليس داخل العالم ولا خارجا عنه فإن كنتم لا تقبلون هذا الأقوى لزعمكم أنه من حكم الوهم الباطل لزمكم أن لا تقبلوا ذلك الذي هو أضعف منه بطريق الأولى فإن كليهما على قولكم من حكم الوهم الباطل وفساد قولكم أبين في الفطرة من فساد قول منازعيكم فإن كان قولهم مردودا

فقولكم أولى بالرد وإن كان قولكم مقبولا فقولهم أولى بالقبول

الجواب الثاني

أن يقال أنتم لم تثبتوا وجود أمور لا يمكن الإحساس بها ابتداء حتى يصح هذا الكلام بل إنما أثبتم ما ادعيتم أنه لا يمكن الإحساس به ابتداء بإبطال هذا الحكم الفطري الذي يحيل وجود ما لا يمكن الإحساس به بحال فإن كان هذا الحكم لا يبطل حتى يثبت الأمور التي ليست بمحسوسة لزم الدور فلا يبطل هذا الحكم حتى يثبت ما لا يمكن الإحساس به ولا يثبت ذلك حتى يبطل هذا الحكم فلا يثبت ذلك

ويقال لكم

إن جاز وجود أمور لا يمكن الإحساس بها فوجود ما يمكن الإحساس به أولى وإن لم يمكن بطل قولكم فمن أثبت موجودا فوق العالم ليس بجسم يمكن الإحساس به كان قوله أقرب إلى العقل ممن أثبت موجودا لا يمكن الإحساس به وليس بداخل العالم ولا خارجه

ففي الجملة أنه ما من حجة يحتجون بها على بطلان قول منازعيهم إلا ودلالتها على بطلان قولهم أشد ولكنهم يتناقضون والذين وافقوهم على بعض غلطهم صاروا يسلمون لهم تلك المقدمة الباطلة النافية وهو إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مباينا لغيره ولا محايثا له ولا داخل العالم ولا خارجه ويطلبون طردها وطردها يستلزم الباطل المحض

فوجه المناظرة أن تلك المقدمة لا تسلم لكن يقال إن كانت باطلة بطل أصل قول النفاة وإن كانت صحيحة فهي أدل على إمكان قول أهل الإثبات فإن كان إثبات موجود ليس بجسم ولا هو داخل العالم ولا خارجه ممكنا فإثبات موجود فوق العالم وليس بجسم أولى بالإمكان وإن لم يكن ذلك ممكنا بطل أصل قول النفاة وثبت أن الله تعالى إما داخل العالم وإما خارجه فيكون قولهم بإثبات موجود ليس بداخل العالم ولا خارجه أبعد عن الحق على التقديرين وهو المطلوب

ثم يقال

رؤية ما ليس بجسم ولا في جهة إما أن يجوزه العقل وإما أن يمنعه فإن جوزه فلا كلام وإن منعه كان منع العقل لإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه بل هو حي بلا حياة عليم بلا علم قدير بلا قدرة أشد وأشد

فإن قلتم

هذا المنع من حكم الوهم

قيل لكم

والمنع من رؤية مرئى ليس في جهة من حكم الوهم وهذا هو الجواب الثالث

وبيان ذلك أن يقال حكم الوهم الباطل عندكم أن يحكم في أمور غير محسوسة بما يحكم به في الأمور المحسوسة

فيقال الباري تعالى إما أن تكون رؤيته ممكنة وأما أن لا تكون فإن كانت ممكنة بطل قولكم بإثبات موجود غير محسوس ولم يبق هنا وهم باطل يحكم في غير المحسوس بحكم باطل فإنكم لرؤية الباري أشد منعا من رؤية الملائكة والجن وغير ذلك فإذا جوزتم رؤيته فرؤية الملائكة والجن أولى وإن قلتم بل رؤيته غير ممكنة قيل فهو حينئذ غير محسوس فلا يقبل فيه حكم الوهم والحكم بأن كل مرئى لا بد أن يكون في جهة من حكم الوهم

وأما إذا قدرنا موجودا غير محسوس يرى لا في جهة رؤية غير الرؤية المتعلقة بذوات الجهة كان إبطال هذا مثل إبطال موجود لا داخل العالم ولا خارجه وإلا فإذا ثبت وجود هذا الموجود كانت الرؤية المتعلقة به مناسبة له ولم تكن كالرؤية المعهودة لللأجسام

فهذه الطريق ونحوها من المناظرة العقلية إذا سلك يتبين به أن كل من كان إلى السنة أقرب كان قوله إلى العقل أقرب وهو يوجب نصر الأقربين إلى السنة بالعقل لكن لما كان بعض الأقربين إلى السنة سلموا للأبعدين عنها مقدمات بينهم وهي في نفس الأمر باطلة مخالفة للشرع والعقل لم يمكن أن يكون قولهم مطابقا للأمر في نفسه ولا يمكن نصره لا بشرع صحيح ولا بعقل صريح لمن غرضه معرفة الحق في نفسه لا بيان رجحان بعض الأقوال على بعض وأما إذا كان المقصود بيان رجحان بعض الأقوال فهذا ممكن في نفسه وهذا هو الذي نسلكه في كثير مما عاب به الرافضة كثير من الطوائف المنتسبين إلى السنة في إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة فإنهم عابوا كثيرا منهم بأقوال هي معيبة مذمومة والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق وألا نقول عليه إلا بعلم وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا عن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق

ولهذا جعل هذا الكتاب منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة ردوا ما تقوله المعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع بكلام فيه أيضا بدعة وباطل وهذه طريقة يستجيزها كثير من أهل الكلام ويرون أنه يجوز مقابلة الفاسد بالفاسد لكن أئمة السنة والسلف على خلاف هذا وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة ويأمرون ألا يقول الإنسان إلا الحق لا يخرج عن السنة في حال من الأحوال وهذا هو الصواب الذي أمر الله تعالى به ورسوله ولهذا لم نرد ما تقوله المعتزلة والرافضة من حق بل قبلناه لكن بينا أن ما عابوا به مخالفيهم من الأقوال ففي أقوالهم من العيب ما هو أشد من ذلك

فالمنتسبون إلى إثبات خلافة الأربعة وتفضيل الشيخين وإن كان بعضهم يقول أقوالا فاسدة فأقوال الرافضة أفسد منها وكذلك المناظر للفلاسفة والمعتزلة من المنتسبين إلى السنة كالأشعري وأمثاله وإن كانوا قد يقولون أقوالا باطلة ففي أقوال المعتزلة والفلاسفة من الباطل ما هو أعظم منها فالواجب إذا اكان الكلام بين طائفتين من هذه الطوائف أن يبين رجحان قول الفريق الذي هو أقرب إلى السنة بالعقل والنقل ولا ننصر القول الباطل المخالف للشرع والعقل أبدا فإن هذا محرم ومذموم يذم به صاحبه ويتولد عنه من الشر ما لا يوصف كما تولد من الأقوال المبتدعة مثل ذلك ولبسط هذه الأمور مكان آخر والله أعلم

والمقصود هنا التنبيه على وجه المناظرة العادلة التي يتكلم فيها الإنسان بعلم وعدل لا بجهل وظلم وأما مناظرات الطوائف التي كل منها يخالف السنة ولو بقليل فأعظم ما يستفاد منها بيان إبطال بعضهم لمقالة بعض

وأبو حامد الغزالي وغيره يعتقدون أن هذه الفائدة هي المقصودة بالكلام دون غيرها لكن يعتقد مع ذلك أن ما ذكره هو العقيدة التي تعبد الشارع الناس باعتقادها وأن لها باطنا يخالف ظاهرها في بعض الأمور وما ذكره من الاعتقاد يوافق الشرع من وجه دون وجه وما ثبت عن صاحب الشرع فلا يناقض باطنه ظاهره والمقصود هنا أن يكون المقصود بالمناظرة بيان رجحان بعض الأقوال على بعض

ولهذا كان كثير من مناظرة أهل الكلام إنما هي في بيان فساد مذهب المخالفين وبيان تناقضهم لأنه يكون كل من القولين باطلا فما يمكن أحدهم نصر قوله مطلقا فيبين فساد قول خصمه وهذا يحتاج إليه إذا كان صاحب المذهب حسن الظن بمذهبه قد بناه على مقدمات يعتقدها صحيحة فإذا أخذ الإنسان معه في تقرير نقيض تلك المقدمات لم يقبل ولا يبين الحق ويطول الخصام كما طال بين أهل الكلام

فالوجه في ذلك أن يبين لذلك رجحان مذهب غيره عليه أو فساد مذهبه بتلك المقدمات وغيرها فإذا رأى تناقض قوله أو رجحان قول غيره على قوله اشتاق حينئذ إلى معرفة الصواب وبيان جهة الخطأ فيبين له فساد تلك المقدمات التي بنى عليها وصحة نقيضها ومن أي وجه وقع الغلط

وهكذا في مناظرة الدهرى واليهودي والنصراني والرافضي وغيرهم إذا سلك معهم هذا الطريق نفع في موارد النزاع فتبين لهم وما من طائفة إلا ومعها حق وباطل فإذا خوطبت بين لها أن الحق الذي ندعوكم إليه هو أولى بالقبول من الذي وافقناكم عليه ونبوة محمد ﷺ أولى بالقبول من نبوة موسى وعيسى عليهما السلام وخلافة أبي بكر وعمر أولى بالصحة من خلافة علي فما ذكر من طريق صحيح يثبت بها نبوة هذا وهذا إلا وهي تثبت بها نبوة محمد ﷺ بطريق الأولى وما من طريق صحيح يثبت بها خلافة علي إلا وهي تثبت خلافة هذين بطريق الأولى ويبين لهم أن ما يدفعون به هذا الحق يمكن أن يدفع به الحق الذي معهم فما يقدح شيء في موارد النزاع إلا كان قدحا في موارد الإجماع وما من شيء يثبت به موارد الإجماع إلا وهو يثبت به موارد النزاع وما من سؤال يرد على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وخلافة الشيخين إلا ويرد على نبوة غيره وخلافة غيرهما ما هو مثله أو أعظم منه وما من دليل يدل على نبوة غير محمد ﷺ وخلافة غيرهما إلا والدليل على نبوة محمد ﷺ وخلافتهما أقوى منه

وأما الباطل الذي بأيدي المنازعين فتبين أنه يمكن معارضته بباطل مثله وأن الطريق الذي يبطل به ذلك الباطل يبطل به باطلهم فمن ادعى الإلهية في المسيح أو علي أو غيرهما عورض بدعوى الإلهية في موسى وآدم وعمر بن الخطاب فلا يذكر شبهة يظن بها الإلهية إلا ويذكر في الآخر نظيرها وأعظم منها فإذا تبين له فساد أحد المثلين تبين له فساد الآخر فالحق يظهر صحته بالمثل المضروب له والباطل يظهر فساده بالمثل المضروب له لأن الإنسان قد لا يعلم ما في نفس محبوبه أو مكروهه من حمد وذم إلا بمثل يضرب له فإن حبك الشيء يعمى ويصم

والله سبحانه ضرب الأمثال للناس في كتابه لما في ذلك من البيان والإنسان لا يرى نفسه وأعماله إلا إذا مثلت له نفسه بأن يراها في مرآة وتمثل له أعماله بأعمال غيره ولهذا ضرب الملكان المثل لداود عليه السلام بقول أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه سورة ص 23 24 الآية وضرب الأمثال مما يظهر به الحال وهو القياس العقلي الذي يهدي به الله من يشاء من عباده قال تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون سورة الروم 27 وقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون سورة العنكبوت 43

وهذا من الميزان الذي أنزله الله كما قال تعالى الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان سورة الشورى 17 وقال لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط سورة الحديد 2وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن كل قياس عقلي شمولي سواء كان على طريقة المنطق اليوناني أو غير طريقه فإنه من جنس القياس التمثيلي وأن مقصود القياسين واحد وكلاهما داخل في معنى الميزان الذي أنزله الله تعالى وأن ما يختص به أهل المنطق اليوناني بعضه باطل وبعضه تطويل لا يحتاج إليه بل ضررة في الغالب أكثر من نفعه كما قد بسط الكلام على المنطق اليوناني وما يختص به أهل الفلسفة من الأقوال الباطلة في مجلد كبير

وأما الطريق الثاني

فيقال لهذا المنكر للرؤية المستدل على نفيها بانتفاء لازمها وهو الجهة قولك ليس في جهة وكل ما ليس في جهة لا يرى فهو لا يرى وهكذا جميع نفاة الحق ينفونه لانتفاء لازمه في ظنهم فيقولون لو رئى للزم كذا واللازم منتف فينتفى الملزوم

والجواب العام لمثل هذه الحجج الفاسدة بمنع إحدى المقدمتين إما معينة وإما غير معينة فإنه لا بد أن تكون إحداهما باطلة أو كلتاهما باطلة وكثيرا ما يكون اللفظ فيهما مجملا يصح باعتبار ويفسد باعتبار وقد جعلوا الدليل هو ذلك اللفظ المجمل ويسميه المنطقيون الحد الأوسط فيصح في مقدمة بمعنى ويصح في الأخرى بمعنى آخر ولكن اللفظ مجمل فيظن الظان لما في اللفظ من الإجمال وفي المعنى من الاشتباه أن المعنى المذكور في هذه المقدمة هو المعنى المذكور في المقدمة الأخرى ولا يكون الأمر كذلك

مثال ذلك في مسألة الرؤية أن يقال له أتريد بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميا فإذا أردت به أمرا وجوديا كان التقدير كل ما ليس في شيء موجود لا يرى وهذه المقدمة ممنوعة ولا دليل على أثباتها بل هي باطلة فإن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر

وإن أردت الجهة أمرا عدميا كانت المقدمة الثانية ممنوعة فلا نسلم أنه ليس بجهة بهذا التفسير

وهذا مما خاطبت به غير واحد من الشيعة والمعتزلة فنفعه الله به وانكشف بسبب هذا التفصيل ما وقع في هذا المقام من الإشتباه والتعطيل وكانوا يعتقدون أن ما معهم من العقليات النافية للرؤية قطعية لا يقبل في نقيضها نص الرسل فلما تبين لهم أنها شبهات مبنية على ألفاظ مجملة ومعان مشتبهة تبين أن الذي ثبت عن الرسول ﷺ هو الحق المقبول ولكن ليس هذا المكان موضع بسط هذا فإن هذا النافي إنما أشار إلى قولهم إشارة وكذلك لفظ الحيز قد يراد به معنى موجود ومعنى معدوم فإذا قالوا كل جسم في حيز فقد يكون المراد بالحيز أمرا عدميا وقد يراد به أمر وجودي

والحيز في اللغة هو أمر وجودي ينحاز إليه الشيء كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة سورة الأنفال 1وعلى الأول فإنه يراد بالمتحيز ما يشار إليه ولهذا كان المتكلمون يقولون نحن نعلم بالاضطرار أن المخلوق إما متحيز وإما قائم بالمتحيز فكثير منهم يقول بل نعلم أن كل موجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز ويثبتون ما يذكره بعض الفلاسفة من إثبات المجردات المفارقات التي لا يشار إليها بل هي معقولات مجردة إنما تثبت في الأذهان لا في الأعيان

وما يذكره الشهرستاني والرازي ونحوهما من أن متكلمي الإسلام لم يقيموا دليلا على نفي هذه المجردات ليس كما زعموا بل كتبهم مشحونة بما يبين انتفاءها كما ذكر في غير هذا الموضع

والرازي أورد في محصله سؤالا على الحيز فقال أما الأكوان

فقد اتفقوا على أن حصول الجوهر في حصول الحيز أمر ثبوتي فقيل هذا الحيز إن كان معدوما فكيف يعقل حصول الجوهر في المعدوم وإن كان موجودا فلا شك أنه أمر يشار إليه فهو إما جوهر وإما عرض فإن كان جوهرا كان الجوهر حاصلا في الجوهر وهو قول بالتداخل وهو محال اللهم إلا أن يفسر ذلك بالمماسة ولا نزاع فهيا وإن كان عرضا فهو حاصل في الجوهر فكيف يعقل حصول الجوهر فيه

وقد رد الطوسى هذا فقال هذا غلط من جهة اشتراك اللفظ فإن لفظة في يدل في قولنا الجسم في الجسم بمعنى التداخل والجسم في المكان والعرض في الجسم على معان مختلفة فإن الأول يدل على كون الجسم مع جسم آخر في مكان واحد والثاني يدل على كون الجسم في المكان والثالث يدل على كون العرض حالا في الجسم

والمكان هو القابل للأبعاد القائم بذاته الذي لا يمانع الأجسام عند قوم وعرض هو سطح الجسم الحاوي المحيط بالجسم ذي المكان عند قوم وهو بديهي الأينية خفي الحقيقة والمكان إن كان عدميا لم يكن حصول الجوهر في الأمر العدمي حصوله في المعدوم بمعنى أنه في العدم وإن كان جوهرا فالجوهر عند القوم الأول ينقسم إلى مقاوم للداخل عليه ممانع إياه وهو الذي لا يجوز عليه التداخل وإلى غير مقاوم يمتنع عليه الإنتقال وهو المكان والجوهر الممانع يمكن أن يداخل غير الممانع وذلك هو كون الجوهر في المكان

وأما عند القوم الثاني فحصول الجوهر في المكان الذي هو عرض بمعنى غير المعنى الذي يراد به في قولهم حصول العرض في الجوهر بمعنى الحلول فيه

قلت قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن ما ذكره الرازي من قوله قد اتفقوا على أن حصول الجوهر في الحيز أمر ثبوتي ليس كما قاله بل يقال إن أراد بقوله إن حصول الجوهر في الحيز أمر ثبوتي أنه صفة ثبوتية تقوم بالمحيز فلم يتفقوا على هذا بل ولا هذا قول محققيهم بل التحيز عندهم لا يزيد على ذات المتحيز

قال القاضي أبو بكر بن الباقلاني المتحيز هو الجرم أو الذي له حظ من المساحة والذي لا يوجد بحيث وجوده جوهر وقال أبو إسحاق الإسفراييني ما هو في تقدير مكان ما وما يشغل الحيز ومعنى شغل الحيز أنه إذا وجد في فراغ أخرجه عن أن يكون فراغا

وقال بعضهم الحيز تقدير مكان الجوهر

وقال أبو المعالي الجويني الملقب بإمام الحرمين الحيز هو المتحيز نفسه ثم إضافة الحيز إلى الجوهر كإضافة الوجود إليه

قال فإن قيل فهلا قلتم إن المتحيز متحيز بمعنى كما أن الكائن كائن بمعنى قلنا تحيزه نفسه أو صفة نفسه عند من يقول بالأحوال وكونه متحيزا راجع إلى نفسه وكذلك كونه جرما وذلك لا يختلف وإن اختلفت أكوانه بأعراضه ولو كان تحيزه حكما معللا لوجب أن يثبت له حكم الاختلاف عند اختلاف الأكوان فلما لم يختلف كونه جرما دل على أنه ليس من موجبات الأكوان والإختصاص بالجهات فما كان بمقتضى الأكوان كان في حكم الاختلاف

قال فإن قيل الجوهر لا يخلو عن الأكوان كما لا يخلو عن وصف التحيز قلنا قد أوضحنا أن تحيزه صفة نفسه فنقول صفة النفس تلازم للنفس ولا تعقل النفس دونها وكون الجوهر متحيزا بمثابة كونه ذاتا أو شيئا والتحيز قضية واحدة يجب لزومها ما بقيت النفس والكون اسم يقع على أجناس مختلفة

يم بسط الكلام في ذلك

وهذا يبين أن التحيز عندهم ليس قدرا زائدا على المتحيز فضلا عن كونه وصفا ثبوتيا وإن أراد بكونه ثبوتيا أنه أمر إضافي إلى الحيز فالأمور الإضافية عند أكثرهم عدمية إذا كانت بين موجودين فكيف إذا كانت بين موجود ومعدوم

وقوله

إن الحيز إذا كان معدوما فكيف يعقل حصول الجوهر في المعدوم

فيقال له

إنهم لم يريدوا بكونه في المعدوم إلا وجوده وحده من غير وجود آخر يحيط به لم يريدوا أنه يكون معدوما مع كونه موجودا

وأيضا فمن لم يعرف مرادهم هل الحيز عندهم وجود أو عدم كيف يحكى عنهم أنهم اتفقوا على أن كل ما سوى الله متحيز أو قائم بالمتحيز مع علمه وحكايته عنهم أنهم اتفقوا على أن كل ما سوى الله محدث فيمتنع مع هذا أن يكون ما سواه إما متحيزا أو حالا في المتحيز مع أن المتحيز هذا في حيز وجودي سوى الله وهو محدث فإن هذا تناقض ظاهر لأنه يستلزم أن يكون هنا ثلاثة موجودة محدثة متحيز وحيز وقائم بالمتحيز فتكون الموجودات سوى الله ثلاثة وهي محدثة عندهم وهذا يناقض قولهم إن ما سوى الله إما متحيز وإما قائم بمتحيز

وأما اعتراض الطوسى عليه فإنه مبنى على أن التحيز هو المكان وليس هذا هو المشهور عند المتكلمين بل المشهور عندهم الفرق بينهما وما ذكره من القولين في المكان هو نزاع بين المتفلسفة أصحاب أفلاطن وأصحاب أرسطو فأولئك يقولون هو جوهر قائم بنفسه تحل به الأجسام وليس هذا قول كثير من المتكلمين بل كل ما قام بنفسه فهو عندهم جسم إذ الجوهر الذي له هو جسم ليس عندهم جوهر قائم بنفسه غير هذين ومن أثبت منهم جوهرا غير جسم فإنه محدث عندهم لأن كل ما سوى الله فإنه محدث مسبوق بالعدم باتفاق أهل الملل سواء قالوا بدوام الفاعلية وأنه لا يزال يحدث شيئا بعد شيء أو لم يقولوا بدوام الفاعلية

والمتكلمون الذين يقولون كل ما سوى الله فهو جسم أو قائم بجسم قد يتناقضون حيث يثبت أكثرهم الخلاء أمرا موجودا ويقولون إنه لا يتقدر بل يفرض فيه التقدير فرضا وهذا الخلاء هو الجوهر الذي يثبته أفلاطن

ولكن يمتنع عند أهل الملل أن يكون موجود قديم مع الله فإن الله خالق كل شيء وكل مخلوق مسبوق بعدم نفسه وإن قيل مع ذلك بدوام كونه خالقا فخلقه شيئا بعد شيء دائما لا ينافى أن يكون كل ما سواه مخلوقا محدثا كائنا بعد أن لم يكن ليس من الممكنات قديم بقدم الله تعالى مساويا له بل هذا ممتنع بصرائح العقول مخالف لما أخبرت به الرسل عن الله كما قد بسط في موضعه

وأرسطو وأصحابه يقولون إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقى للسطح الظاهر من الجسم المحوى وهو عرض عند هؤلاء

وقوله إنه بديهي الأينية خفى الحقيقة أي عند هؤلاء وأما علماء المسلمين فليس عندهم ولله الحمد من ذلك ما هو خفي بل لفظ المكان قد يراد به ما يكون الشيء فوقه محتاجا إليه كما يكون الإنسان فوق السطح ويراد به ما يكون الشيء فوقه من غير احتياج إليه مثل كون السماء فوق الجو وكون الملائكة فوق الأرض والهواء وكون الطير فوق الأرض

ومن هذا قول حسان بن ثابت رضي الله عنه ...

تعالى علوا فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما

مع علم حسان وغيره من أصحاب رسول الله ﷺ أن الله غنى عن كل ما سواه وما سواه من عرش وغيره محتاج إليه وهو لا يحتاج إلى شيء وقد أثبت له مكانا

والسلف والصحابة بل النبي ﷺ كان يسمع مثل هذا ويقر عليه كما أنشده عبدالله بن رواحة رضي الله عنه

شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا

في قصته المشهورة التي ذكرها غير واحد من العلماء لما وطئ سريته ورأته امرأته فقامت إليه لتؤذيه فلم يقر بما فعل فقالت ألم يقل رسول الله ﷺ لا يقرأ الجنب القرآن فأنشد هذه الأبيات فظنت أنه قرآن فسكتت وأخبر ﷺ فاستحسنه

وقد يراد بالمكان ما يكون محيطا بالشيء من جميع جوانبه فأما أن يراد بالمكان مجرد السطح الباطن أو يراد به جوهر لا يحس بحال فهذا قول هؤلاء المتفلسفة ولا أعلم أحدا من الصحابة والتابعين وغيرهم من ائمة المسلمين يريد ذلك بلفظ المكان وذلك المعنى الذي أراده أرسطو بلفظ المكان عرض ثابت لكن ليس هذا هو المراد بلفظ المكان في كلام علماء المسلمين وعامتهم ولا في كلام جماهير الأمم علمائهم وعامتهم وأما ما أراده أفلاطن فجمهور العقلاء ينكرون وجوده في الخارج وبسط هذه الأمور له موضع آخر

وكذلك القول في تداخل الأجسام فيه نزاع معروف بين النظار وقول الرازي في التداخل ذلك محال هو موضع منع مشهور ولكن لم يقل أحد من النظار إن الجوهر في الحيز بمعنى التداخل سواء فسر الحيز بالأمر العدمي كما هو المعروف عند أئمة الكلام أو فسر بالمكان الوجودي الذي هو سطح الحاوي أو جوهر عقلي كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أو فسر الحيز بالمعنى اللغوي المعقول في مثل قوله أو متحيزا إلى فئة سورة الأنفال 16 وهذا الحيز هو جسم يحوز المتحيز ليس هو عدميا ولا عرضا ولا يجوز الجوهر العقلي المتنازع في وجوده

والمقصود أنه أي معنى أريد بلفظ الحيز فقول النظار إن الجوهر في الحيز ليس بمعنى التداخل المتنازع فيه وفي وجوده فلهذا لم يحتج إلى ذكر الكلام في مسألة التداخل في هذا المقام - فصل

وأما قوله

وأن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره

فيقال

هذه مسألة كلام الله تعالى والناس فيها مضطربون وقد بلغوا فيها إلى تسعة أقوال وعامة الكتب المصنفة في الكلام وأصول الدين لم يذكر أصحابها إلا بعض هذه الأقوال إذ لم يعرفوا غير ما ذكروه فمنهم من يذكر قولين ومنهم من يذكر ثلاثة ومنهم من يذكر أربعة ومنهم من يذكر خمسة وأكثرهم لا يعرفون قول السلف

أحدها

قول من يقول إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض إما من العقل الفعال عند بعضهم وإما من غيره وهذا قول الصابئة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم كأصحاب وحدة الوجود وفي كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها بل المضنون الكبير والمضنون الصغير ورسالة مشكاة الأنوار وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة وتارة يخالفه وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطالعة الأحاديث النبوية

وثانيها

قول من يقول إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه وهذا قول هذا الإمامي وأمثاله من الرافضة المتأخرين والزيدية والمعتزلة والجهمية

وثالثها

قول من يقول إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله هو الأمر والنهى والخبر والإستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره

ورابعها

قول من يقول إنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل وهذا قول طائفة من أهل الكلام وأهل الحديث ذكره الأشعري في المقالات عن طائفة وهو الذي يذكر عن السالمية ونحوهم وهؤلاء قال طائفة منهم إن تلك الأصوات القديمة هي الصوت

المسموع من القارئ أو هي بعض الصوت المسموع من القارئ وأما جمهورهم مع جمهور العقلاء فأنكروا ذلك قالوا هذا مخالف لضرورة العقل

وخامسها

قول من يقول إنه حروف وأصوات لكن تكلم به بعد أن لم يكن متكلما وكلامه حادث في ذاته كما أن فعله حادث في ذاته بعد أن لم يكن متكلما ولا فاعلا وهذا قول الكرامية وغيرهم وهو قول هشام بن الحكم وأمثاله من الشيعة وهؤلاء منهم من يقول هو حادث وليس بمحدث ومنهم من يقول بل هو محدث أيضا وقد ذكر القولين الأشعري عنهم في المقالات وذكر الخلاف بين أبي معاذ التومني وبين زهير الأثرى والكرامية يقولون حادث لا محدث وسادسها

قول من يقول إنه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء بكلام يقوم به وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام أزلي قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة

وسابعها

قول من يقول كلامه يرجع إلى ما يحدث من علمه وإرادته القائم بذاته ثم من هؤلاء من يقول لم يزل ذاك حادثا في ذاته كما يقوله أبو البركات صاحب المعتبر وغيره ومنهم من لا يقول بذلك وأبو عبدالله الرازي يقول بهذا القول في مثل المطالب العالية

وثامنها

قول من يقول كلامه يتضمن معنى قائما بذاته وهو ماخلقه في غيره ثم من هؤلاء من يقول في ذلك المعنى بقول ابن كلاب وهذا قول أبي منصور الماتريدي ومنهم من يقول بقول المتفلسفة وهذا قول طائفة من الملاحدة الباطنية متشيعهم ومتصوفهم

وتاسعها

قول من يقول كلام الله مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه من متأخري الأشعرية

وبالجملة أهل السنة والجماعة أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة من أهل التفسير والحديث والفقه والتصوف كالأئمة الأربعة وأئمة أتباعهم والطوائف المنتسبين إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية يقولون إن كلام الله غير مخلوق والقرآن كلام الله غير مخلوق وهذا هو المتواتر المستفيض عن السلف والأئمة من أهل البيت وغيرهم

والنقول بذلك متواترة مستفيضة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعي تابعيهم وفي ذلك مصنفات متعددة لأهل الحديث والسنة يذكرون فيها مقالات السلف بالأسانيد الثابتة عنهم وهي معروفة عند أهلها وذلك مثل كتاب الرد على الجهمية لمحمد بن عبدالله الجعفى ولعثمان بن سعيد الدارمي وكذلك نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسى والرد على الجهمية لعبد الرحمن بن أبي حاتم وكتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد رضي الله عنه ولأبي بكر الأثرم وللخلال وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري وكتاب التوحيد لأبي بكر بن خزيمة وكتاب السنة لأبي القاسم الطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني ولأبي عبدالله بن منده والأسماء والصفات لأبي بكر البيهقي والسنة لأبي ذر الهروى والإبانة لابن بطة وقبله الشريعة لأبي بكر الآجري وشرح أصول السنة لأبي القاسم اللالكائي والسنة لأبي حفص بن شاهين وأصول السنة لأبي عمر الطلمنكي وأمثال هذا الكتب ومصنفوها من مذاهب متبوعة مالكي وشافعي وحنبلي ومحدث مطلق لا ينتسب إلى مذهب أحد

ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون على الأقوال السبعة المتأخرة

وأما القولان الأولان فالأول قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم والصابئة المتفلسفة ونحوهم والثاني قول الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم من النجارية والضرارية

وأما الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم وقدماؤهم كانوا يقولون القرآن غير مخلوق كما يقوله أهل السنة والحديث وهذا القول هو المعروف عن أهل البيت كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر ابن محمد الصادق وغيرهم

ولهذا كانت الإمامية لا تقول إنه مخلوق لما بلغهم نفى ذلك عن أئمة أهل البيت وقالوا إنه محدث مجعول ومرادهم بذلك أنه مخلوق وظنوا أن أهل البيت نفوا أنه غير مخلوق أي مكذوب مفترى

ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين من قال إنه مخلوق ومن قال إنه غير مخلوق والنزاع بين أهل القبلة إنما كان في كونه مخلوقا خلقه الله أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته وأهل البيت إنما سئلوا عن هذا وإلا فكونه مكذوبا مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه

ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم فليس في أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق من كان ينكر الرؤية أو يقول بخلق القرآن أو ينكر القدر أو يقول بالنص على علي أو بعصمة الأئمة الاثنى عشر أو يسب أبا بكر وعمر والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة

وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الاعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه كما يقول ذلك المعتزلة وهم في الحقيقة إنما تلقوه عن المعتزلة وهم شيوخهم في التوحيد والعدل وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع وقولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة أو بعض أهل السنة ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غير الأربعة من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها بخلاف الشاذ الذي يعرف أنه لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ ولا سبقهم إليه أحد

ولم يقل أحد من علماء المسلمين إن الحق منحصر في أربعة من علماء المسلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كما يشنع بذلك الشيعة على أهل السنة فيقولون إنهم يدعون أن الحق منحصر فيهم بل أهل السنة متفقون على أن ما تنازع فيه المسلمون وجب رده إلى الله والرسول وأنه قد يكون قول ما يخالف قول الأربعة ما أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقول هؤلاء الأربعة مثل الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وغيرهم أصح من قولهم

فالشيعة إذا وافقت بعض هذه الأقوال الراجحة كان قولها في تلك المسألة راجحا ليست لهم مسألة واحدة فارقوا بها جميع أهل السنة المثبتين لخلافة الثلاثة إلا وقولهم فيها فاسد وهكذا المعتزلة وسائر الطوائف كالأشعرية والكرامية والسالمية ليس لهم قول انفردوا به عن جميع طوائف الأمة إلا وهو قول فاسد والقول الحق يكون مأثورا عن السلف وقد سبق هؤلاء الطوائف إليه

وإذا عرفت المذاهب فيقال لهذا قولك إن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره أتريد به أنه حادث في ذاته أم حادث منفصل عنه

والأول قول أئمة الشيعة المتقدمين والجهمية والمرجئة والكرامية مع كثير من أهل الحديث وغيرهم

ثم إذا قيل حادث أهو حادث النوع فيكون الرب قد صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما أم حادث الأفراد وأنه لم يزل متكلما إذا شاء والكلام الذي كلم به موسى مثلا هو حادث وإن كان نوع كلامه قديما لم يزل

فهذه ثلاثة أنواع تحت قولك وقد علم أنك إنما أردت النوع الأول وهو قول متأخري الشيعة الذين جمعوا بين التشيع والاعتزال فقالوا إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه

والإمامية وإن قالوا هو محدث وامتنعوا أن يقولوا هو مخلوق فمرادهم بالمحدث هو مراد هؤلاء بالمخلوق وإنما النزاع بينهم لفظي

فيقال لك إذا كان الله قد خلقه وأحدثه منفصلا عنه لم يكن كلامه فإن الكلام والقدرة والعلم وسائر الصفات إنما يتصف بها من قامت به لا من خلقها في غيره وأحدثها ولهذا إذا خلق الله حركة وعلما وقدرة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك العالم القادر بتلك الصفات ولم تكن تلك صفات لله بل مخلوقات له ولو كان متصفا بمخلوقاته المنفصلة عنه لكان إذا انطلق الجامدات كما قال يا جبال أوبى معه والطير سورة سبأ 10 وكما قال يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون سورة النور 24 وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء سورة فصلت 2وكما قال اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون سورة يس 65 ومثل تسليم الحجر على النبي ﷺ وتسبيح الحصى بيده وتسبيح الطعام وهم يأكلونه فإذا كان كلام الله لا يكون إلا ما خلقه في غيره وجب أن يكون هذا كله كلام الله فإنه خلقه في غيره وإذا تكلمت الأيدى فينبغي أن يكون ذاك كلام الله كما يقولون إنه خلق كلاما في الشجرة كلم به موسى بن بن عمران

وأيضا فإذا كان الدليل قد قام على أن الله تعالى خالق أفعال العباد وأقوالهم وهو المنطق لكل ناطق وجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه وهذا قالته الحلولية من الجهمية كصاحب الفصوص ابن عربي قال

وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه

وحينئذ فيكون قول فرعون أنا ربكم الأعلى سورة النازعات 24 كلام الله كما أن الكلام المخلوق في الشجرة إنني أنا الله لا إله إلا أنا سورة طه 14 يقولون إنه مخلوق في الشجرة أو غيرها وهو كلام الله

وأيضا فالرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه هو الذي تكلم والكلام قائم به لا بغيره ولهذا عاب الله من يعبد إلها لا يتكلم فقال أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا سورة طه 89 وقال ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا سورة الأعراف 148 ولا يحمد شيء بأنه يتكلم ويذم بأنه لا يتكلم إلا إذا كان الكلام قائما به

وبالجملة لا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم إلا من يقوم به القول والكلام لا يعقل في لغة أحد لا لغة الرسل ولا غيرهم ولا في عقل أحد أن المتكلم يكون متكلما بكلام لم يقم به قط بل هو بائن عنه أحدثه في غيره كما لا يعقل أنه متحرك بحركة خلقها في غيره ولا يعقل أنه متلون بلون خلقه في غيره ولا متروح برائحة خلقها في غيره وطرد ذلك أنه لايعقل أنه مريد بإرادة أحدثها في غيره ولا محب وراض وغضبان وساخط برضى ومحبة وغضب وسخط خلقه في غيره

وهؤلاء النفاة يصفونه بما لا يقوم به تارة بما يخلقه في غيره كالكلام والإرادة وتارة بما لا يقوم به ولا بغيره كالعلم والقدرة وهذا أيضا غير معقول فلا يعقل حي إلا من تقوم به الحياة ولا عالم إلا من يقوم به العلم كما لا يعقل باتفاق العقلاء متحرك إلا من تقوم به الحركة وطرد هذا أنه لا يعقل فاعل إلا من يقوم به الفعل

وقد سلم الأشعرية ومن وافقهم كابن عقيل وغيره فاعلا لا يقوم به الفعل كعادل لا يقوم به العدل وخالق ورازق لا يقوم به الخلق والرزق

وهذا مما احتجت به عليهم المعتزلة فقالوا كما جاز أن يكون عادلا خالقا رازقا بعدل وخلق ورزق لا يقوم به فكذلك عالم وقادر ومتكلم

والسلف رضي الله عنهم وجمهور أهل السنة يطردون أصلهم ولهذا احتج الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بقول النبي ﷺ أعوذ بكلمات الله تعالى التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر قالوا لا يستعاذ بمخلوق وكذلك ثبت عنه أنه قال اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك وقالوا لا يستعاذ بمخلوق وقد استعاذ النبي ﷺ بالرضا والمعافاة فكان ذلك عند أئمة السنة مما يقوم بالرب تعالى كما تقوم به كلماته ليس من المخلوقات التي لا تكون إلا بائنة عنه فمن قال إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفضلا عنه والمريد والمحب والمبغض والراضي والساخط ما تكون إرادته ومحبته وبغضه ورضاه وسخطه بائنا عنه لا يقوم به بحال من الأحوال قال ما لا يعقل ولم يفهم الرسل للناس هذا بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفضل عن الله وكذلك لم ترد بإرادته ومحبته ورضاه ونحو ذلك ما هو منفضل عنه بل ما هو متصف به

قالت الجهمية والمعتزلة

المتكلم من فعل الكلام والله تعالى لما أحدث الكلام في غيره صار متكلما

فيقال لهم

للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال

قيل

المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلا وهذا إنما قاله هؤلاء

وقيل المتكلم من قام به الكلام ولو لم يكن بفعله ولا هو بمشيئته ولا قدرته وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم وقيل المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته وقام به الكلام وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم

فأولئك يقولون هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات والصنف الثاني يقولون صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل وهو قائم به متعلق بمشيئته وقدرته

وإذا كان كذلك فقولهم إنه صفة فعل ينازعهم فيه طائفة وإذا لم ينازعوا في هذا فيقال هب أنه صفة فعل منفصلة عن القائل الفاعل أو قائمة به أما الأول فهو قولكم الفاسد وكيف تكون الصفة غيره قائمة بالموصوف أو القول غير قائم بالقائل

وقول القائل الصفات تنقسم إلى صفة ذات وصفة فعل ويفسر صفة الفعل بما هو بائن عن الرب كلام متناقض كيف يكون صفة للرب وهو لا يقوم به بحال بل هو مخلوق بائن عنه

وهذا وإن كانت الأشعرية قالته تبعا للمعتزلة فهو خطاء في نفسه فإن إثبات صفات الرب وهي مع ذلك مباينة له جمع لين المتناقضين المتضادين بل حقيقة قول هؤلاء إن الفعل لا يوصف به الرب فإن الفعل هو المخلوق والمخلوق لا يوصف به الخالق ولو كان الفعل الذي هو المفعول صفة له لكانت جميع المخلوقات صفات للرب وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن مسلم

فإن قلتم

هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به لأنه لو قام به لقامت به الحوادث

قيل والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل ونحن نعقل الفرق بين نفس الخلق والتكوين وبين المخلوق المكون

وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبدالله بن حامد والقاضي أبي يعلى في آخر قوليه وهو قول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث وحكاه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد عن العلماء مطلقا وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم

ثم القائلون بقيام فعله به منهم من يقول فعله قديم والمفعول متأخر كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم وهو الذي ذكره الثقفي وغيره من الكلابية لما وقعت المنازعة بينهم وبين ابن خزيمة

ومنهم من يقول بل هو حادث النوع كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية

ومنهم من يقول هو يقع بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا لكنه لم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد

وسائر الطوائف منهم من يقول بل الخلق حادث قائم بالمخلوق كما يقوله هشام بن الحكم وغيره ومنهم من يقول بل هو قائم بنفسه لا في محل كما يقوله أبو الهذيل العلاف وغيره ومنهم من يقول بمعان قائمة بنفسها لا تتناهى كما يقوله معمر بن عباد وغيره وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله فيقولون قد جمعنا بين حجتنا وحجتكم فقلنا العدم لا يؤمر ولا ينهى وقلنا الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم

فإن قلتم لنا

قد قلتم بقيام الحوادث بالرب

قالوا لكم

نعم وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجئ فقد ناقض كتاب الله تعالى

ومن قال إنه لم يزل ينادى موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل لأن الله يقول فلما جاءها نودى سورة النمل 8 وقال إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون سورة يس 82 فأتى بالحروف الدالة على الإستقبال

قالوا

وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يتكلم إذا شاء وانه يتكلم شيئا بعد شيء فنحن نقول به وما يقول به من يقول إن كلام الله قائم بذاته وإنه صفة له والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به وقد أخذنا

بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما

فإذا قالوا لنا

فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به

قلنا

ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته

ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأمراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك كما نزه نفسه عن السنة والنوم واللغوب وعن أن يؤوده حفظ السماوات والأرض وغير ذلك مما هو منزه عنه بالنص والإجماع

ثم إن كثيرا من نفاة الصفات المعتزلة وغيرهم يجعلون مثل هذا حجة في نفي قيام الصفات أو قيام الحوادث به مطلقا وهو غلط منهم فإن نفى الخاص لا يستلزم نفى العام ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال

ولكن يقوم به ما يشاؤه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة ونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية

فإن قال بالأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائما بالمتكلم لا منفصلا عنه كافيا في هذا الباب

وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا فإن جوزتم ذلك وهو قولكم لزم أن يفعل الحوادث من لم يكن فاعلا لها ولا لضدها فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها

ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل

فإن قلتم

القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده

قلنا

هذا ممنوع ولا دليل لكم عليه ثم إذا سلم ذلك فهو كقول القائل القدر على الشيء لا يخلو عن فعله وفعل ضده وأنتم تقولون إنه لم يزل قادرا ولم يكن فاعلا ولا تاركا لأن الترك عندكم أمر وجودي مقدور وأنتم تقولون لم يكن فاعلا لشيء من مقدوراته في الأزل مع كونه قادرا بل تقولون إنه يمتنع وجود مقدوره في الأزل مع كونه قادرا عليه

وإذا كان هذا قولكم فلأن لا يجب وجود المقبول في الأزل بطريق الأولى والأحرى فإن هذا المقبول مقدور لا يوجد إلا بقدرته وأنتم تجوزون وجود قادر مع امتناع مقدوره في حال كونه قادرا

ثم نقول إن كان القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث وتسلسل الحوادث إن كان ممكنا كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلما إذا شاء كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة

وإن لم يكن جائزا أمكن أن يقوم به الحادث بعد أن لم يكن قائما به كما يفعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا لها وكان قولنا هو الصحيح فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين

فإن قلتم لنا أنتم توافقونا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على نفى قدم العالم

قلنا لكم

موافقتنا لكم حجة جدلية وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم وأنتم تقولون إن قبل الحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك

قلنا

إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في قولنا إن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلا على صوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها

أكثر ما في هذا الباب أنا نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول نخالف فيه العقل والنقل فالقول بأن المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو منفصل عنه لا يقوم به مخالف للعقل والنقل بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلا ولا نقلا لكن قد نكون نحن لم نقله بلوازمه فنكون متناقضين وإذا كنا متناقضين كا الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه لا نرجع عن الصواب لنطرد الخطأ فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث

فإن قلتم إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية

قلنا بل قولكم إن الرب تعالى لم يزل معطلا لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئا ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضى ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادرا وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعا غير ممكن جمع بين النقيضين فكان فيما عليه المسلمون من أنه لم يزل قادرا ما يبين أنه لم يزل قادرا على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته

والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم وهو منقول عن جعفر ابن محمد الصادق في الأفعال المتعدية فضلا عن اللازمة وهو دوام إحسانه وذلك قوله وقول المسلمين ياقديم الإحسان إن عنى بالقديم قائم به

والفلاسفة الدهرية قالوا بقدم الأفلاك وغيرها من العالم وأن الحوادث فيه لا إلى أول وأن البارئ موجب بذاته للعالم ليس فاعلا بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه

ومعلوم بالاضطرار من دين الرسل أن الله تعالى خالق كل شيء ولا يكون المخلوق إلا محدثا فمن جعل مع الله شيئا قديما بقدمه فقد علم مخالفته لما أخبرت به الرسل مع مخالفته لصريح العقل

وأنتم وافقتموهم على طائفة من باطلهم حيث قلتم إنه لا يتصرف بنفسه ولا يقوم به أمر يختاره ويقدر عليه بل جعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه فوافقتموهم على بعض باطلهم

ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته وأنه قادر على الفعل بنفسه وعلى التكلم بنفسه كيف شاء وقلنا إنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما إذا شاء فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم ولا نقول إن كلامه شيء واحد أمرى ونهى وخبر وأن معنى التوراة والإنجيل واحد وأن الأمر والنهى صفة لشي واحد فإن هذا مكابرة للعقل ولا نقول إنه أصوات مقطعة متضادة أزلية فإن الأصوات لا تبقى زمانين

وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق إدراك لهم لما كان أزليا لم يزل

ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فإن هذا وصف له بالكمال بعد النقص وأنه صار محلا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب والقول في الثاني كالقول في الأول ففيه تجدد كمال بلا سبب ووصف له بالنقص الدائم من الأزل إلى أن تجدد له ما لا سبب لتجدده وفي ذلك تعطيل له عن صفات الكمال

وأما دوام الحوادث فمعناه هنا دوام كونه متكلما إذا شاء وهذا دوام كماله ونعوت جلاله ودوام أفعاله وبهذا يمكن أن يكون العالم وكل ما فيه مخلوق له حادث بعد أن لم يكن لأنه يكون سبب الحدوث هو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله وغير ذلك فيعقل سبب حدوث الحوادث ويمتنع مع هذا أن يقال بقدم شيء من العالم لأنه لو كان قديما لكان مبدعه موجبا بذاته ليلزمه موجبه ومقتضاه وإذا كان الخالق فاعلا بفعل يقول بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجبا بذاته لشي من الأشياء فامتنع قدم شيء من العالم وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئا منفصلا عنه مقارنا له مع أنه لا يقوم به فعل اختياري فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى لأنه على هذا التقدير لا يوجد المفعول حتى يوجد الفعل الإختياري الذي حصل بقدرته ومشيئته وعلى التقدير الأول يكفى فيه نفس المشيئة والقدرة والفعل الإختياري

ومعلوم أن ما توقف على المشيئة والقدرة والفعل الإختياري القائم به يكون أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف إلا على بعض ذلك

والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وأكثر الناس لا يعلمون كثيرا من هذه الأقوال ولذلك كثر بينهم القيل والقال وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب

والأصل الذي باين به أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم وسائر أئمة المسلمين للجهمية والمعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات أن الرب تعالى إنما يوصف بما يقوم به لا يوصف بمخلوقاته وهو أصل مطرد عند السلف والجمهور

ولكن المعتزلة استضعفت الأشعرية ومن وافقهم بتناقضهم في هذا الأصل حيث وصفوه بالصفات الفعلية مع أن الفعل لا يقوم به عندهم والأشعري تبع في ذلك للجهمية والمعتزلة الذين نفوا قيام الفعل به لكن أولئك ينفون الصفات أيضا بخلاف الأشعرية

والمعتزلة لهم نزاع في الخلق هل هو المخلوق أو غير المخلوق وإذا قالوا هو غير المخلوق فقد يقولون معنى قائم لا في محل كما تقوله البصريون في الإرادة وقد يقولون معاني لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله معمر منهم وأصحابه ويسمون أصحاب المعاني وقد يقولون إنه قائم بالمخلوق

وحجة الأشعري ومن وافقه على أن الخلق هو المخلوق أنهم قالوا لو كان غيره لكان إما قديما وإما محدثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق وهو محال بالاضطرار فيما علم حدوثه بالاضطرار والدليل فيما علم حدوثه بالدليل وإن كان محدثا كان مخلوقا فافتقر الخلق إلى خلق ثان ولزم التسلسل وأيضا فيلزم قيام الحوادث به وهذا عمدتهم في نفس الأمر

والرازي لم يكن له خبرة بأقوال طوائف المسلمين إلا بقول المعتزلة والأشعرية وبعض أقوال الكرامية والشيعة فلهذا لما ذكر هذه المسألة ذكر خلاف فيها مع فقهاء ما وراء النهر وقول هؤلاء هو قول جماهير طوائف المسلمين

والجمهور لهم في الجواب عن عمدة هؤلاء طرق كل قوم بحسبهم فطائفة قالت بل الخلق الذي هو التكوين والفعل قديم والمكون المفعول محدث لأن الخلق عندهم لا تقوم به الحوادث وهذا قول كثير من هؤلاء من الحنفية والحنبلية والكلابية والصوفية وغيرهم فإذا قالوا لهؤلاء فيلزم قدم المكون قالوا نقول في ذلك مثل ما قلتم في الإرادة الأزلية قلتم هي قديمة فإن كان المراد محدثا كذلك التكوين قديم وإن كان المكون محدثا




========






منهاج السنة النبوية/13




وطائفة قالت بل الخلق والتكوين حادث إذا أراد الله خلق شيء وتكوينه وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والفقه والتصوف قالوا لأن الله ذكر وجود أفعاله شيئا بعد شيء كقوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش سورة الأعراف 54 وقوله ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين سورة فصلت 11 وقوله ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سورة الأعراف 11 وقوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين سورة المؤمنون 12 14 وأمثال ذلك

وهولاء يلتزمون أنه تقوم به الأمور الإختيارية كخلقه ورضاه وغضبه وكلامه وغير ذلك مما دلت عليه النصوص وفي القرآن أكثر من ثلاثمائة موضع توافق قولهم وأما الأحاديث فكثيرة جدا والآثار عن السلف بذلك متواترة وهو قول أكثر الأساطين من الفلاسفة

ثم هؤلاء في التسلسل على قولين وهم يقولون المخلوق يحصل بالخلق والخلق يحصل بقدرته ومشيئته لا يحتاج إلى خلق آخر

ويقولون لمنازعيهم إذا جاز عندكم وجود المخلوقات المنفصلة بمجرد القدرة والمشيئة من غير فعل قائم به فلأن يجوز الفعل بمجرد القدرة الإرادة أولى وأحرى

ومن لم يقل بالتسلسل منهم يقول نفس القدرة القديمة والإرادة القديمة أوجبت ما حدث من الفعل والإرادة وبذلك يحصل المخلوق فيما لا يزال

ومن قال بالتسلسل منهم قال التسلسل الممتنع إنما هو التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للفاعل فاعل وهلم جرا إلى غير نهاية سواء عبر عن ذلك بأن للعلة علة وللمؤثر مؤثرا أو عبر عنه بأن للفاعل فاعلا فهذا هو التسلسل الممتنع في صريح العقل ولهذا كان هذا ممتنعا باتفاق العقلاء كما أن الدور الممتنع هو الدور القبلي

فأما التسلسل في الآثار وهو أن لا يكون الشيء حتى يكون قبله غيره أو لا يكون إلا ويكون بعد غيره فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال

قيل هو ممتنع في الماضي والمستقبل وقيل بل هو جائز في الماضي والمستقبل وقيل ممتنع في الماضي جائز في المستقبل

والقول بجوازه مطلقا هو معنى قول السلف وأئمة الحديث وقول جماهير الفلاسفة القائلين بحدوث هذا العالم والقائلين بقدمه

وقد بسط الكلام على أدلة الطائفتين في موضع آخر فإنا قد بسطنا الكلام فيما ذكره من أصول الدين أضعاف ما تكلم به هو ونبهنا على مجامع الأقوال - فصل

وأما قوله

وأن الأنبياء معصومون من الخطأ والسهو والمعصية صغيرها وكبيرها من أول العمر إلى آخره وإلا لم يبق وثوق بما يبلغونه فانتفت فائدة البعثة ولزم التنفير عنهم

فيقال أولا

إن الإمامية متنازعون في عصمة الأنبياء قال الأشعري في المقالات واختلفت الروافض في الرسول هل يجوز عليه أن يعصى أم وهم فرقتان

فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الرسول جائز عليه أن يعصى الله وأن النبي قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم فإن الرسول إذا عصى فإن الوحي يأتيه من قبل الله والأئمة لا يوحى إليهم ولا تهبط الملائكة عليهم وهم معصومون فلا يجوز عليهم أن يسهوا ولا يغلطوا وإن جاز على الرسول العصيان

قال والقائل بهذا القول هشام بن الحكم

والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه لا يجوز على الرسول أن يعصى الله عز وجل ولا يجوز ذلك على الأئمة لأنهم جميعا حجج الله وهم معصومون من الزلل ولو جاز عليهم السهو واعتماد المعاصي وركوبها لكانوا قد ساووا المأمومين في جواز ذلك عليهم كما جاز على المأمومين ولم يكن المأمومون أحوج إلى الأئمة من الأئمة لو كان ذلك جائزا عليهم جميعا

وأيضا فكثير من شيوخ الرافضة من يصنف الله تعالى بالنقائص كما تقدم حكاية بعض ذلك فزرارة بن أعين وأمثاله يقولون يجوز البداء عليه وأنه يحكم بالشيء ثم يتبين له مالم يكن علمه فينتقض حكمه لما ظهره له من خطئه فإذا قال مثل هؤلاء بأن الأنبياء والأئمة لا يجوز أن يخفى عليهم عاقبة فعلهم فقد نزهوا البشر عن الخطأ مع تجويزهم الخطأ على الله وكذلك هشام بن الحكم وزارة بن أعين وأمثالهما ممن يقول إنه يعلم ما لم يكن عالما به

ومعلوم أن هذا من أعظم النقائص في حق الرب فإذا قالوا مع ذلك إن الأنبياء والأئمة لا يبدو لهم خلاف ما رأوا فقد جعلوهم لا يعلمون ما لم يكونوا يعلمونه في مثل هذا وقالوا بجواز ذلك في غيره

وأما ما تقوله غلاتهم من إلا هية على أو نبوته وغلط جبريل بالرسالة فهو أعظم من أن يذكر هنا ولا ريب أن الشرك والغلو يخرج أصحابه إلى أن يجعلوا البشر مثل الإله بل أفضل من الإله في بعض الأمور كما ذكر الله عن المشركين حيث قال وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون سورة الأنعام 136 وقال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم سورة الأنعام 10فهؤلاء لما سبت آلهتهم سبوا الله مقابلة فجعلوهم مماثلين لله وأعظم في قلوبهم كما تجد كثيرا من المشركين يحب ما اتخذه من دون الله أندادا أكثر مما يحب الله تعالى وتجد أحدهم يحلف بالله ويكذب ويحلف بما اتخذه ندا من إمامه أو شيخه أو غير ذلك ولا يستجيز أن يكذب وتسأله بالله والله فلا يعطى وتسأله بما يعظمه من إمامه أو شيخه أو غير ذلك فيعطى ويصلى لله في بيته ويدعوه فلا يكون عنده كبير خشوع فإذا أتى إلى قبر من يعظمه ورجا أن يدعوه أو يدعو به أو يدعو عنده فيحصل له من الخشوع والدموع ما لا يحصل في عبادة الله ودعائه في بيت الله أو في بيت الداعي العابد وتجد أحدهم يغضب إذا ذكر ما اتخذه ندا بعيب أو نقص ويذكر الله بالعيوب والنقوص فلا يغضب له

ومثل هذا كثير في المشركين شركا محضا وفي من فيه شعبة من الشرك في هذه الأمة والنصارى ينزهون البشر عن كثير مما يصفون به الرب فيقولون لله ولد وينزهون كثيرا من عظمائهم أن يكون له ولد ويقول كثير منهم إن الله ينام والباب عندهم لا ينام ومثل هذا كثير

ثم يقال ثانيا

قد اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله فلا يجوز أن يقرهم على الخطأ في شيء مما يبلغونه عنه وبهذا يحصل المقصود من البعثة

وأما وجوب كونه قبل أن يبعث نبيا لا يخطئ أو لا يذنب فليس في النبوة يستلزم هذا وقول القائل لو لم يكن كذلك لم تحصل ثقة فيما يبلغونه عن الله كذب صريح فإن من آمن وتاب حتى ظهر فضله وصلاحه ونبأه الله بعد ذلك كما نبأ إخوة يوسف ونبأ لوطا وشعيبا وغيرهما وأيده الله تعالى بما يدل على نبوته فإنه يوثق فيما يبلغه كما يوثق بمن لم يفعل ذلك وقد تكون الثقة به أعظم إذا كان بعد الإيمان والتوبة قد صار أفضل من غيره والله تعالى قد أخبر أنه يبدل السيئات بالحسنات للتائب كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم من عهد الرسول ﷺ وقبل أن يصدر منهم ما يدعونه من الأحداث كانوا من خيار الخلق وكانوا أفضل من أولادهم الذين ولدوا بعد الإسلام

ثم يقال وأيضا

فجمهور المسلمين على أن النبي لا بد أن يكون من أهل البر والتقوى متصفا بصفات الكمال ووجوب بعض الذنوب أحيانا مع التوبة الماحية الرافعة لدرجته إلى أفضل مما كان عليه لا ينافي ذلك

وأيضا فوجوب كون النبي لا يتوب إلى الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحبه الله منه خيرا مما كان قبلها فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة غض من مناصب الأنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه فهو مخالف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله ﷺ بعد كفرهم وهداهم الله به بعد ضلالهم وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام

وهل يشبه بني الأنصار بالأنصار أو بنى المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له وأين المنتقل بنفسه من السيئات إلى الحسنات بنظره واستدلاله وصبره واجتهاده ومفارقته عاداته ومعاداته لأوليائه وموالاته لأعدائه إلى آخر لم يحصل له مثل هذه الحال وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية

وقد قال تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعلم عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما سورة الفرقان 68 7وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يارب قد عملت أشياء لا أراها ههنا فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه فأين من يبدل الله سيئاته حسنات إلى من لم تحصل له تلك الحسنات ولا ريب أن السيئات لا يؤمر بها وليس للعبد أن يفعلها ليقصد بذلك التوبة منها فإن هذا مثل من يريد أن يحرك العدو عليه ليغلبهم بالجهاد أو يثير الأسد عليه ليقتله ولعل العدو يغلبه والأسد يفترسه بل مثل من يريد أن يأكل السم ثم يشرب الترياق وهذا جهل بل إذا قدر من ابتلى بالعدو فغلبه كان أفضل ممن لم يكن كذلك وكذلك من صادفه الأسد وكذلك من اتفق أن شرب السم فسقى ترياقا فاروقا يمنع نفوذ سائر السموم فيه كان بدنه أصح من بدن من لم يشرب ذلك الترياق

والذنوب إنما تضر أصحابها إذا لم يتوبوا منها والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها

وحينئذ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم فإن الأعمال بالخواتيم

مع أن القرآن والحديث وإجماع السلف معهم في تقرير هذا الأصل

فالمنكرون لذلك يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان ويحرفون الكلم عن مواضعه كقولهم في قوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر سورة الفتح 2 أي ذنب آدم وما تأخر من ذنب أمته فإن هذا ونحوه من تحريف الكلم عن مواضعه

أما أولا فلأن آدم تاب وغفر له ذنبه قبل أن يولد نوح وإبراهيم فكيف يقول له إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ذنب آدم

وأما ثانيا فلأن الله يقول ولا تز وازرة وزر أخرى سورة الإسراء 15 فكيف يضاف ذنب أحد إلى غيره

وأما ثالثا فلأن في حديث الشفاعة الذي في الصحاح أنهم يأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته اشفع لنا إلى ربك فيذكر خطيئته ويأتون نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى فيقول لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان سبب قبول شفاعته كما عبودتيه وكمال مغفرة الله له فلو كانت هذه لآدم لكان يشفع لأهل الموقف

وأما رابعا فلأن هذه الآية لما نزلت قال أصحابه رضي الله عنهم يا رسول الله هذا لك فما لنا فأنزل الله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم سورة الفتح 4 فلو كان ما تأخر ذنوبهم لقال هذه الآية لكم

وأما خامسا فكيف يقول عاقل إن الله غفر ذنوب أمته كلها وقد علم أن منهم من يدخل النار وإن خرج منها بالشفاعة فهذا وأمثاله من خيار تأويلات المانعين لما دل عليه القرآن من توبة الأنبياء من ذنوبهم واستغفارهم وزعمهم أنه لم يكن هناك ما يوجب توبة ولا استغفار ولا تفضل الله عليه بمحبته وفرحه بتوبتهم ومغفرته ورحمته لهم فكيف بسائر تأويلاتهم التي فيها من تحريف القرآن وقول الباطل على الله ما ليس هذا موضع بسطه

وأما قوله

إن هذا ينفى الوثوق ويوجب التنفير فليس هذا بصحيح فيما قبل النبوة ولا فيما يقع خطأ ولكن غايته أن يقال هذا موجود فيما تعمد من الذنب

فيقال

بل إذا اعترف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واسغفاره ومغفرة الله له ورحمته دل ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله وبعده عن الكبر والكذب بخلاف من يقول ما بي حاجة إلى شيء من هذا ولا يصدر منى ما يحوجني إلى مغفرة الله لي وتوبته على ويصر على كل ما يقوله ويفعله بناء على أنه لا يصدر منه ما يرجع عنه فإن مثل هذا إذا عرف من رجل نسبه الناس إلى الكذب والكفر والجهل

وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال لن يدخل أحد منكن الجنة بعمله قالوا ولا أنت يارسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فكان هذا من أعظم ممادحه

وكذلك قوله ﷺ لا تطروني ما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله وكل من سمع هذا عظمه بمثل هذا الكلام وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير

وهذا كما أنه لما قال النبي ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني رواه أبو داود وغيره وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد رواه مالك وغيره كان هذا التواضع مما زاده الله به رفعة وكذلك لما سجد له بعض أصحابه فنهاه عن ذلك وقال إنه لا يصلح السجود إلا لله وكذلك لما كان بعض الناس يقول ما شاء الله وشاء محمد قال أجعلتني ندا لله قل ما شاء الله ثم شاء محمد وقوله في دعائه أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المعترف المقر بذنبه أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف من خضعت له رقبته وذل جسده ورغم أنفه لك ونحو هذه الأحوال التي رفع الله بها درجاته بما اعترف به من فقر العبودية وكمال الربوبية

والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية فأما العبد فكماله في حاجته إلى ربه وعبوديته وفقره وفاقته فكلما كانت عبوديته أكمل كان أفضل وصدور ما يحوجه إلى التوبة والاستغفار مما يزيده عبودية وفقرا وتواضعا

ومن المعلوم أن ذنوبهم ليست كذنوب غيرهم بل كما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين لكن كل يخاطب على قدر مرتبته وقد قال ﷺ كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون

وما ذكره من عدم الوثوق والتنفير قد يحصل مع الإصرار والإكثار ونحو ذلك وأما اللمم الذي يقترن به التوبة والاستغفار أو ما يقع بنوع من التأويل وما كان قبل النبوة فإنه مما يعظم به الإنسان عند أولى الأبصار

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد علم تعظيم رعيته له وطاعتهم مع كونه دائما كان يعترف بما يرجع عنه من خطأ وكان إذا اعترف بذلك وعاد إلى الصواب زاد في أعينهم وازدادوا له محبة وتعظيما

ومن أعظم ما نقمه الخوارج على علي أنه لم يتب من تحكيم الحكمين وهم وإن كانوا جهالا في ذلك فهو يدل على أن التوبة لم تكن تنفرهم وإنما نفرهم الأصرار على ما ظنوه هم ذنبا

والخوارج من أشد الناس تعظيما للذنوب ونفورا عن أهلها حتى أنهم يكفرون بالذنب ولا يحتملون لمقدمهم ذنبا ومع هذا فكل مقدم لهم تاب عظموه وأطاعوه ومن لم يتب عادوه فيما يظنونه ذنبا وإن لم يكن ذنبا فعلم أن التوبة والاستغفار لا توجب تنفيرا ولا تزيل وثوقا بخلاف دعوى البراءة مما يتاب منه ويستغفر ودعوى السلامة مما يحوج الرجوع إلى الله واللجأ إليه فإنه هو الذي ينفر القلوب ويزيل الثفة فإن هذا لم يعلم أنه صدر إلا عن كذاب أو جاهل وأما الأول فإنه يصدر عن الصادقين العالمين

ومما يبين ذلك أنه لم يعلم أحد طعن في نبوة أحد من الأنبياء ولا قدح في الثقة به بما دلت عليه النصوص التي تيب منها ولا احتاج المسلمون إلى تأويل النصوص بما هو من جنس التحريف لها كما يفعله من يفعل ذلك والتوراة فيها قطعة من هذا وما أعلم أن بني إسرائيل قدحوا في نبي من الأنبياء بتوبته في أمر من الأمور وإنما كانوا يقدحون فيهم بالإفتراء عليهم كما كانوا يؤذن موسى عليه السلام وإلا فموسى قد قتل القبطي قبل النبوة وتاب من سؤال الرؤية وغير ذلك بعد النبوة وما أعلم أحدا من بنى إسرائيل قدح فيه بمثل هذا

وما جرى في سورة النجم من قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى على المشهور عند السلف والخلف من أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله هو من أعظم المفتريات على قول هؤلاء ولهذا كان كثير من الناس يكذب هذا وإن كان مجوزا عليهم غيره إما قبل وإما بعدها لظنه أن في ذلك خطأ في التبليغ وهو معصوم في التبليغ بالاتفاق والعصمة المتفق عليها أنه لا يقر على خطأ في التبليغ بالإجماع ومن هذا فلم يعلم أحد من المشركين نفر برجوعه عن هذا وقوله إن هذا مما ألقاه الشيطان ولكن روى أنهم نفروا لما رجع إلى ذم آلهتهم بعد ظنهم أنه مدحها فكان رجوعهم لدوامه على ذمها لا لأنه قال شيئا ثم قال إن الشيطان ألقاه وإذا كان هذا لم ينفر فغيره أولى أن لا ينفر

وأيضا فقد ثبت أن النسخ نفر طائفة كما قال سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها سورة البقرة 142 وقوله وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا سورة النحل 101 102 فالتبديل الذي صرحوا بأنه منفر ونفروا به عنه لم يكن مما يجب نفيه عنه فكيف بالرجوع إلى الحق الذي لم يعلم أنهم نفروا منه وهو أقل تنفيرا لأن النسخ فيه رجوع عن الحق إلى حق وهذا رجوع إلى حق من غير حق

ومعلوم أن الإنسان يحمد على ترك الباطل إلى الحق ما لا يحمد على ترك ما لم يزل يقول إنه حق وإذا كان جائزا فهذا أولى وإذا كان في ذلك مصلحة ففي هذا أيضا مصالح عظيمة ولولا أن فيها وفي العلم بها مصالح لعباده لم يقصها في غير موضع من كتابه

وهو سبحانه وله الحمد لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر معه توبته لينزهه عن النقص والعيب ويبين أنه ارتفعت منزلته وعظمت درجته وعظمت حسناته وقربه إليه بما أنعم الله عليه من التوبة والاستغفار والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ذلك وليكون ذلك أسوة لمن يتبع الأنبياء ويقتدي بهم إلى يوم القيامة

ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز دل على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة كما يذكر من يذكر أشياء نزهه الله منها بقول تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين سورة يوسف 24 وقد قال تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه سورة يوسف 2والهم كما قال الإمام أحمد رضي الله عنه همان هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال إن الله تعالى يقول إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة كاملة فإن عملها فاكتبوها عشرا إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من جراي

فيوسف عليه الصلاة والسلام لما هم ترك همه لله فكتب الله به حسنة كاملة ولم يكتب عليه سيئة قط بخلاف امرأة العزيز فإنها همت وقالت وفعلت فراودته بفعلها وكذبت عليه عند سيدها واستعانت بالنسوة وحبسته لما اعتصم وامتنع عن الموافقة على الذنب ولهذا قالت وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم سورة يوسف 53 وهذا من قولها كما دل عليه القرآن ليس من كلام يوسف عليه السلام بل لما قالت هذا كان يوسف غائبا في السجن لم يحضر عند الملك بل لما برأته هي والنسوة استدعاه الملك بعد هذا وقال ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين سورة يوسف 5وأما من ذكر الله تعالى وتبارك عنه ذنبا كآدم عليه السلام فإنه لما قال وعصى آدم ربه فغوى ثم أجتباه ربه فتاب عليه وهدى سورة طه 121 12وقال فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم سورة البقرة 3وقال تعالى عن داود عليه السلام وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب سورة ص 24 2وقال لموسى عليه السلام والصلاة إنى لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم سورة النمل 10 1ومن احتج على امتناع ذلك بأن الإقتداء بهم مشروع والإقتداء بالذنب لا يجوز قيل له إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه لا فيما نهوا عنه كما أنه إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه ولم ينسخ ولم ينسه فيما نسخ وحينئذ فيكون التأسى بهم مشروعا مأمورا به لا يمنع وقوع ما ينهون عنه ولا يقرون عليه لا من هذا ولا من هذا وإن كان اتباعهم في المنسوخ لا يجوز بالاتفاق

ومما يبين أن النسخ أشد تنفيرا أن الإنسان إذا رجع عن شيء إلى آخر وقال الأول الذي كنت عليه حق أمرني الله به ورجوعي عنه حق أمرني الله به كان هذا أقرب إلى النفور عنه من أن يقول رجعت عما لم يأمرني الله به فإن الناس كلهم يحمدون من قال هذا وأما من قال أمري بهذا حق ونهيي عنه حق فهذا مما نفر عنه كثير من السفهاء وأنكره من أنكره من اليهود وغيرهم

ومما يبين الكلام في مسألة العصمة أن تعرف النبوة ولوازمها وشروطها فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله تعالى إذا كان جعل الشخص نبيا رسولا من أفعال الله تعالى فمن نفى الحكم والأسباب في أفعاله وجعلها معلقة بمحض المشيئة وجوز عليه فعل كل ممكن ولم ينزهه عن فعل من الأفعال كما هو قول الجهم بن صفوان وكثير من الناس كالشعري ومن وافقه من أهل الكلام من أتباع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من مثبتة القدر فهؤلاء يجوزون بعثة كل مكلف والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه النبوة عندهم صفة ثبوتية ولا مستلزمة لصفة يختص بها بل هي من الصفات الإضافية كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية

وهذا قول طوائف من أهل الكلام كالجهم بن صفوان والأشعري وأتباعهما ولهذا من يقول بها كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما يقول إن العقل لا يوجب عصمة النبي إلا في التبليغ خاصة فإن هذا هو مدلول المعجزة وما سوى ذلك إن دل السمع عليه وإلا لم تجب عصمته منه

وقال محققوا هؤلاء كأبي المعالى وغيره إنه ليس في السمع قاطع يوجب العصمة والظواهر تدل على وقوع الذنوب منهم وكذلك كالقاضي أبي بكر إنما يثبت ما يثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع لأن الإجماع حجة وما سوى ذلك فيقول لم يدل عليه عقل ولا سمع

وإذا احتج المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأن هذا يوجب التنفير ونحن ذلك فيجب من حكمة الله منعهم منه قالوا هذا مبنى على مسألة التحسين والتقبيح العقليين قالوا ونحن نقول لا يجب على الله شيء ويحسن منه كل شيء وإنما ننفى ما ننفيه بالخبر السمعي ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضا كما أوجبنا ثواب المطيعين وعقوبة الكافرين لإخباره أنه يفعل ذلك ونفينا أن يغفر لمشرك لإخباره أنه لا يفعل ذلك ونحو ذلك

وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم ممن يقول بأصله في التعديل والتجوير وأن الله لا يفضل شخصا على شخص إلا بعمله يقول إن النبوة أو الرسالة جزاء على عمل متقدم فالنبي فعل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة

وهؤلاء القدرية في شق وأؤلئك الجهمية الجبرية في شق

وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم وصدوره عن علة موجبة مع إنكارهم أن الله تعالى يفعل بقدرته ومشيئته وأنه يعلم الجزئيات فالنبوة عندهم فيض يفيض على الإنسان بحسب استعداده وهي مكتسبة عندهم ومن كان متميزا في قوته العلمية بحيث يستغنى عن التعليم وشكل في نفسه خطاب يسمعه كما يسمع النائم وشخص يخاطبه كما يخاطب النائم وفي العملية بحيث يؤثر في العنصريات تأثيرا غريبا كان نبيا عندهم

وهم لا يثبتون ملكا مفضلا يأتي بالوحي من الله تعالى ولا ملائكة بل ولا جنا يخرق الله بهم العادات للأنبياء إلا قوى النفس

وقول هؤلاء وإن كان شرا من أقوال كفار اليهود والنصارى وهو أبعد الأقوال عما جاءت به الرسل فقد وقع فيه كثير من المتأخرين الذين لم يشرق عليهم نور النبوة من المدعين للنظر العقلي والكشف الخيالي الصوفي وإن كان غاية هؤلاء الأقيسة الفاسدة والشك وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح

والقول الرابع وهو الذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار أن الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس والله أعلم حيث يجعل رسالاته فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره وفي عقله ودينه واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته كما قال تعالى وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا6)

بعضهم فوق بعض درجات سورة الزخرف 31 32 وقال تعالى ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم سورة البقرة 105 وقال تعالى لما ذكر الأنبياء بقوله ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم سورة الأنعام 84 87 فأخبر أنه اجتباهم وهداهم

والأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون والشهداء والصالحون فلولا وجوب كونهم من المقربين الذين هم فوق أصحاب اليمين لكان الصديقون أفضل منهم أو من بعضهم

والله تعالى قد جعل خلقه ثلاثة أصناف فقال تعالى في تقسيمهم في الآخرة وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم سورة الواقعة 7 12 وقال في تقسيمهم عند الموت فإما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمينفسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصليه جحيم سورة الواقعة 88 94 وكذلك ذكر في سورة الإنسان والمطففين هذه الأصناف الثلاثة والأنبياء أفضل الخلق وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة فيمتنع أن يكون النبي من الفجار بل ولا يكون من عموم أصحاب اليمين بل من أفضل السابقين المقربين فإنهم أفضل من عموم الصديقين والشهداء والصالحين وإن كان النبي أيضا يوصف بأنه صديق وصالح وقد يكون شهيدا لكن ذاك أمر يختص بهم لا يشركهم فيه من ليس بنبى كما قال عن الخليل وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين سورة العنكبوت 27 وقال يوسف توفني مسلما وألحقني بالصالحين سورة يوسف 10فهذا مما يوجب تنزيه الأنبياء أن يكونوا من الفجار والفساق وعلى هذا إجماع سلف الأمة وجماهيرها

وأما من جوز أن يكون غير النبي أفضل منه فهو من أقوال بعض ملاحدة المتأخرين من غلاه الشيعة والصوفية والمتفلسفة ونحوهم

وما يحكى عن الفضلية من الخوارج أنهم جوزوا الكفر على النبي فهذا بطريق اللازم لهم لأن كل معصية عندهم كفر وقد جوزوا المعاصى على النبي وهذا يقتضى فساد قولهم بأن كل معصية كفر وقولهم بجواز المعاصي عليهم وإلا فلم يلتزموا أن يكون النبي كافرا ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبا

وطوائف أهل الكلام الذين يجوزون بعثة كل مكلف من الجهمية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم متفقون أيضا على أن الأنبياء أفضل الخلق وأن النبي لا يكون فاجرا لكن يقولون هذا لم يعلم بالعقل بل علم بالسمع بناء على ما تقدم من أصلهم من أن الله يجوز أن يفعل كل ممكن

وأما الجمهور الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون نحن نعلم بما علمناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيا فاجرا وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة لا تكون شياطين كما قال تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين إلى قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون سورة الشعراء 192 22فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي وبين الشاعر والنبي لما زعم المفترون أن محمدا ﷺ شاعر وكاهن وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة لقد خشيت على نفسي قالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق

فاستدلت رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين أنه لا يجزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك بل علمته بمجرد عقلها الراجح

وكذلك لما ادعى النبوة من ادعاها من الكذابين مثل مسيلمة الكذاب والعنسى وغيرهما مع ما كان يشتبه من أمرهم لما كان ينزل عليهم من الشياطين ويوحون إليهم حتى يظن الجاهل أن هذا من جنس ما ينزل على الأنبياء ويوحى إليهم فكان ما يبلغ العقلاء وما يرونه من سيرتهم والكذب الفاحش والظلم ونحو ذلك يبين لهم أنه ليس بنبي إذ قد علموا أن النبي لا يكون كاذبا ولا فاجرا

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ لما قال له ذو الخويصرة اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال النبي ﷺ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء والرواية الصحيحة بالفتح أي أنت خاسر خائب إن لم أعدل إن ظننت أني ظالم مع اعتقادك أني نبي فإنك تجوز أن يكون الرسول الذي آمنت به ظالما وهذا خيبة وخسران فإن ذلك ينافى النبوة ويقدح فيها

وقد قال تعالى وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة سورة آل عمران 161 وفيه قراءتان يغل ويغل أي ينسب إلى الغلول بين سبحانه أنه ما لأحد أن ينسبه إلى الغلول كما أنه ليس له أن يغل فدل على أن النبي لا يكون غالا

ودلائل هذا الأصل عظيمة لكن مع وقوع الذنب الذي هو بالنسبة إليه ذنب وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والاستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة فضلا عن أن يجعله من الفجار

وقد قال تعالى في عموم وصف المؤمنين ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة سورة النجم 31 32 وقال وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين سورة آل عمران 133 136 وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 3وقال حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون سورة الأحقاف 15 1وقد قال في قصة إبراهيم عليه السلام فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم سورة العنكبوت 26 وقال في قصة شعيب عليه السلام قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين سورة الأعراف 88 89 وقال في سورة إبراهيم وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين سورة إبراهيم 13

وقد ذم الله تعالى وتبارك فرعون بكونه رفع نبوة موسى بما تقدم من قتله نفسا بغير حق فقال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين سورة الشعراء 18 21 وكان موسى ﷺ قد تاب من ذلك كما أخبر الله تعالى عنه وغفر له بقوله فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم سورة القصص 15

فإن قيل

فإذا كان قد غفر له فلماذا يمتنعون من الشفاعة يوم القيامة لأجل ما بدا منهم فيقول آدم إذا طلبت منه الشفاعة إني نهيت عن أكل الشجرة وأكلت منها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها والخليل يذكر تعريضاته الثلاث التي سماها كذبا وكانت تعريضا وموسى يذكر قتل النفس قيل

هذا من كمال فضلهم وخوفهم وعبوديتهم وتواضعهم فإن من فوائد ما يتاب منه أنه يكمل عبودية العبد ويزيده خوفا وخضوعا فيرفع الله بذلك درجته وهذا الإمتناع مما يرفع الله به درجاتهم وحكمة الله تعالى في ذلك أن تصير الشفاعة لمن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا كان ممن امتنع ولم يذكر ذنبا المسيح وإبراهيم أفضل منه وقد ذكر ذنبا ولكن قال المسيح لست هناكم اذهبوا إلى عبد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وتأخر المسيح عن المقام المحمود الذي خص به محمد ﷺ هو من فضائل المسيح ومما يقربه إلى الله صلوات الله عليهم أجمعين

فعلم أن تأخرهم عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعى من كمال مغفرة الله للعبد وكمال عبودية العبد لله ما اختص به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال المسيح اذهبوا إلى محمد عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع وإن كان لم يشفع إلا بعد الإذن بل إذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه لم يكن يحسنها قبل ذلك فيقال له أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع وهذا كله في الصحيحين وغيرهما

وأما من قيل له تقدم ولم يعرف أنه غفر له ما تأخر فيخاف أن يكون ذهابه إلى الشفاعة قبل أن يؤذن له في الشفاعة ذنبا فتأخر لكمال خوفه من الله تعالى ويقول أنا قد أذنبت وما غفر لي فأخاف أن أذنب ذنبا آخر فإن النبي ﷺ قال المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين

ومن معاني ذلك أنه لا يؤتى من وجه واحد مرتين فإذا ذاق الذائق ما في الذنب من الألم وزال عنه خاف أن يذنب ذنبا آخر فيحصل له مثل ذلك الألم وهذا كمن مرض من أكلة ثم عوفى فإذا دعى إلى أكل شيء خاف أن يكون مثل ذلك الأول لم يأكله يقول قد أصابني بتلك الأكلة ما أصابني فأخاف أن تكون هذه مثل تلك ولبسط هذه الأمور موضع آخر

والمقصود هنا أن الذين ادعوا العصمة مما يتاب منه عمدتهم أنه لو صدر منهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة لأن درجتهم أعلى فالذنب منهم أقبح وأنه يجب أن يكون فاسقا فلا تقبل شهادته وأنه حينئذ يستحق العقوبة فلا يكون إيذاؤه محرما وأذى الرسول محرم بالنص وأنه يجب الإقتداء بهم ولا يجوز الإقتداء بأحد في ذنب

ومعلوم أن العقوبة ونقص الدرجة إنما يكون مع عدم التوبة وهم معصومون من الإصرار بلا ريب

وأيضا فهذا إنما يتأتى في بعض الكبائر دون الصغيرة وجمهور المسلمين على تنزيههم من الكبائر لا سيما الفواحش وما ذكر الله تعالى عن نبي كبيرة فضلا عن الفاحشة بل ذكر في قصة يوسف ما يبين أنه يصرف السوء والفحشاء عن عباده المخلصين وإنما يقتدي بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه

وأيضا فالذنوب أجناس ومعلوم أنه لا يجوز منهم كل جنس بل الكذب لا يجوز منهم بحال أصلا فإن ذلك ينافي مطلق الصدق ولهذا ترد شهادة الشاهد للكذبة الواحدة وإن لم تكن كبيرة في أحد قولى العلماء وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ولو تاب شاهد الزور من الكذب هل تقبل شهادته فيه قولان للعلماء والمشهور عن مالك أنها لا تقبل وكذلك من كذب على رسول الله ﷺ في حديث واحد ثم تاب منه لم تقبل روايته في أحد قوليهم وهو مذهب مالك وأحمد حسما للمادة لأنه لا يؤمن أن يكون أظهر التوبة ليقبل حديثه

فلا يجوز أن يصدر من النبي ﷺ تعمد الكذب ألبتة سواء كان صغيرة أو كبيرة بل قد قال النبي ﷺ ماينبغي انبي أن تكون له خائنة الأعين وأما قوله صلى الله عليه وسلم لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله فتلك كانت معاريض فكان مأمورا بها وكانت منه طاعة لله والمعاريض قد تسمى كذبا لكونه أفهم خلاف ما في نفسه

وفي الصحيحين عن أم كلثوم قالت لم أسمع النبي ﷺ يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث حديث الرجل لامرأته وإصلاحه بين الناس وفي الحرب

قالت فيما يقول الناس إنه كذب وهو المعاريض

وأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع منه خطأ ولا ذنب صغير وكذلك الأئمة فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف

ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لكونهما أسلما بعد الكفر ويدعون أن عليا رضي الله عنه لم يزل مؤمنا وأنه لم يخط قط ولم يذنب قط وكذلك تمام الاثنى عشر

وهذا مما يظهر كذبهم وضلالهم فيه لكل ذي عقل يعرف أحوالهم ولهذا كانوا هم أغلى الطوائف في ذلك وأبعدهم عن العقل والسمع

ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا وأن ذلك يجب تنزيههم وعنه وهم مخطئون إما في هذه المقدمة وإما في هذه المقدمة

أما المقدمة الأولى فليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصا ولا مغضوضا منه بل هذا مفضل عظيم مكرم وبهذا ينحل جميع ما يوردونه من الشبه

وإذا عرف أن أولياء الله يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معصيته كما كان أفضل أولياء الله من هذه الأمة وهم السابقون الأولون يبين صحة هذا الأصل والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال فلا ينظر إلى نقص البداية ولكن ينظر إلى كمال النهاية فلا يعاب الإنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة إذا كان الله بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم

ومن نظر إلى ما كان فهو من جنس إبليس الذي قال أنا خير منه خلقني من نار وخلقته من طين سورة ص 76 وقد قال تعالى إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين سورة ص 71 72 فأمرهم بالسجود له إكراما لما شرفه الله بنفخ الروح فيه وإن كان مخلوقا من طين والملائكة مخلوقون من نور وإبليس مخلوق من نار كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال خلق الله الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم

وكذلك التوبة بعد السيئات قال تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين سورة البقرة 222 وفي الصحيحين عن النبي ﷺ من غير وجه أنه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فقال تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فكيف تجدون فرحه بها قالوا عظيما يا رسول الله قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته

ولهذا قال بعض السلف إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة

وإذا ابتلى العبد بالذنب وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يزيده عبودية وتواضعا وخشوعا وذلا ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات فإن النبي ﷺ قال لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين

وذلك أيضا يدفع عنه العجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان وهو أيضا يوجب الرحمة لخلق الله ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة

وهو أيضا يبين من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم

وهو أيضا يبين قوة حاجة العبد إلى الإستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له فإن من ذاق مرارة الإبتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك ولهذا قال بعضهم كان داود ﷺ بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة وقال بعضهم لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه

ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذنب من كثير من الذين لم يبتلوا بذنب كما في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد فإنه لما قتل رجلا بعد أن قال لا إله إلا الله فقال النبي ﷺ أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أثر هذا فيه حتى كان يمتنع أن يقتل أحدا يقول لا إله إلا الله وكان هذا مما أوجب امتناعه من القتال في الفتنة

وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله تائبا من الذنب كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وهو أحد الثلاثة الذين أنزل الله فيهم لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاذ يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم ليتوبوا إنه بهم رءوف رحيم سورة التوبة 117 ثم قال وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا صاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم سورة التوبة 11وإذا ذكر حديث كعب في قضية تبين أن الله رفع درجته بالتوبة ولهذا قال فوالله ما أعلم أحدا ابتلاه الله بصدق الحديث أعظم مما ابتلاني

وكذلك قال بعض من كان من أشد الناس عدواة لرسول الله ﷺ كسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ﷺ الذي كان من أشد الكفار هجاء وإيذاء للنبي ﷺ فلما تاب وأسلم كان من أحسن الناس إسلاما وأشدهم حياء وتعظيما للنبي ﷺ وكذلك الحارث بن هشام قال الحارث ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت ومثل هذا كثير في أخبار التوابين

فمن يجعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة فهو جاهل بدين الله تعالى وما بعث الله به رسوله وإذا لم يكن في ذلك نفص مع وجود ما ذكر فجميع ما يذكرونه هو مبنى على أن ذلك نقص وهو نقص إذا لم يتب منه أو هو نقص عمن ساواه إذا لم يصر بعد التوبة مثله فأما إذا تاب توبة محت أثره بالكلية وبدلت سيئاته حسنات فلا نقص فيه بالنسبة إلى حاله وإذا صار بعد التوبة أفضل ممن يساويه أو مثله لم يكن ناقصا عنه

ولسنا نقول إن كل من أذنب وتاب فهو أفضل ممن لم يذنب ذلك الذنب بل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس فمن الناس من يكون بعد التوبة أفضل ومنهم من يعود إلى ما كان ومنهم من لا يعود إلى مثل حاله والأصناف الثلاثة فيهم من هو أفضل ممن لم يذنب ويتب وفيهم من هو مثله وفيهم من هو دونه

وهذا الباب فيه مسائل كثيرة ليس هذا موضع تفصيلها ولبسطها موضع آخر والمقصود التنبيه

ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين متفقين على ما دل عليه الكتاب والسنة من أحوال الأنبياء لا يعرف عن أحد منهم القول بما أحدثته المعتزلة والرافضة ومن تبعهم في هذا الباب بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء ولا من قال هذا يمنع الوثوق أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام

وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه

وكذلك الغلاة في العصمة يعرضون عما أمروا به من طاعة أمرهم والإقتداء بأفعالهم إلى ما نهوا عنه من الغلو والإشراك بهم فيتخذونهم أربابا من دون الله يستغيثون بهم في مغيبهم وبعد مماتهم وعند قبورهم ويدخلون فيما حرمه الله تعالى ورسوله من العبادات الشركية التي ضاهوا بها النصارى

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال عند موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوه قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا

وفي الصحيحين أيضا أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكر حسنها وتصاوير فيها فقال إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة

وفي صحيح مسلم عن جندب عن النبي ﷺ أنه قال قبل أن يموت بخمس ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك وإني أبرأ إلى كل خليل من خليله ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعنى نفسه

وفي السنن عنه أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني وفي الموطأ وغيره أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي ﷺ إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد

وفي صحيح مسلم عن أبي هياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته فأرسل رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب وأرسل علي في خلافته من يفعل مثل ما أمره النبي ﷺ أن يسوى القبور المشرفة ويطمس التماثيل فإن هذه وهذه من أسباب الشرك وعبادة الأوثان قال الله تعالى لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا سورة نوح 23 24 قال غير واحد من السلف كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا وعكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم من دون الله

فالمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من العامة ومن أهل البيت كلها من البدع المحدثة المحرمة في دين الإسلام وإنما أمر الله أن يقصد لعبادته وحده لا شريك له المساجد لا المشاهد

قال الله تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين سورة الأعراف 29 وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم فيها خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين سورة التوبة 17 18 وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سورة الجن 18 ومثل هذا في القرآن كثير

وزيارة القبور على وجهين زيارة أهل التوحيد المتبعين للرسل وزيارة أهل البدع والشرك

فالأولى مقصودها أن يسلم على الميت ويدعى له وزيارة قبره بمنزلة الصلاة عليه إذا مات يقصد بها الدعاء له والله سبحانه يثيب هذا الداعي له عند قبره كما يثيب الداعي إذا صلى عليه وهو على سريره

والثانية مقصودها أن يطلب منه الحوائج أو يقسم على الله أو يظن أن دعاء الله عند قبره أقرب إلى الإجابة فهذا كله من البدع المنكرة باتفاق أئمة المسلمين ولم يكن شيء من هذا على عهد الرسول ﷺ وأصحابه والتابعين لهم بإحسان بل كان المسلمون لما فتحوا أرض الشام والعراق وغيرهما إذا وجدوا قبرا يقصد الدعاء عنده غيبوه كما وجدوا بتستر قبر دانيال فحفروا له بالنهار ثلاثة عشر قبرا ودفنوه بالليل في واحد منها وكان مكشوفا وكان الكفار يستسقون به فغيبه المسلمون لأن هذا من الشرك

وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ قال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها فنهى عن الصلاة إليها لما فيه من مشابهة المشركين الذين يسجدون لها وفي السنن والمسند قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام

والسبب الذي من أجله نهى عن الصلاة في المقبرة في أصح قولي العلماء هو سد ذريعة الشرك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وقت غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان والمشركون يسجدون لها حينئذ فنهى عن قصد الصلاة في هذا الوقت لما في ذلك من المشابهة لهم في الصورة وإن اختلف القصد

كذلك نهى عن الصلاة في المقبرة لله لما فيه من مشابهة من يتخذ القبور مساجد وأن المصلى الله لا يقصد ذلك سدا للذريعة فأما إذا قصد ليصلي هناك ليدعوا عند القبور ظنا أن هذا الدعاء هناك أجوب فهذا ضلال بإجماع المسلمين وهو مما حرمه الله ورسوله

وأبلغ من ذلك أن يدعى ويقسم على الله بالميت وأبلغ من ذلك أن يسأل الله به ونحو ذلك وأبلغ من ذلك أن يسافر إليه من مكان بعيد لهذا القصد أو ينذر له أو لمن عنده دهن أو شمع أو ذهب أو فضة أو قناديل أو ستور فهذا كله من نذور أهل الشرك ولا يجوز مثل هذا النذر باتفاق المسلمين ولا الوفاء به كما ثبت في صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه

ولا يجوز أن ينذر أحد إلا طاعة ولا يجوز أن ينذرها إلا لله فمن نذر لغير الله فهو مشرك كمن صام لغير الله وسجد لغير الله ومن حج إلى قبر من القبور فهو مشرك بل لو سافر إلى مسجد لله غير المساجد الثلاثة ليعبد الله فيها كان عاصيا لله ورسوله فكيف إذا سافر إلى غير الثلاثة ليشرك بالله وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا

ولهذا قال غير واحد من العلماء إن السفر لزيارة المشاهد سفر معصية ومن لم يجوز القصر في سفر المعصية منهم من لم يجوزه لا سيما إذا سمى ذلك حجا وصنفت فيه مصنفات وسميت مناسك حج المشاهد ومن هؤلاء من يفضل قصد المشاهد وحجها والسفر إليها على حج بيت الله الحرام الذي فرض الله حجه على الناس

وهذا أمر قد وقع فيه الغلاة في المشايخ والأئمة المنتسبين إلى السنة وإلى الشيعة حتى أن الواحد من هؤلاء في بيته يصلى لله الصلاة المفروضة بقلب غافل لاه ويقرأ القرآن بلا تدبر ولا خشوع وإذا زار قبر من يغلو فيه بكى وخشع واستكان وتضرع وانتحب ودمع كما يقع إذا سمع المكاء والتصدية الذي كان للمشركين عند البيت

وكثير من هؤلاء لا يحج لأجل ما أمر الله به ورسوله من حج البيت العتيق بل لقصد زيارة النبي ﷺ كما يزور شيوخه وائمته ونحو ذلك

والأحاديث المأثورة عن النبي ﷺ في زيارة قبره كلها ضعيفة بل موضوعة فلم يخرج أهل الصحيحين والسنن المشهورة شيئا منها ولا استدل بشيء منها أحد من أئمة المسلمين وإنما اعتمدوا على ما رواه أبو داود عن النبي ﷺ أنه قال ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام

وقد ذكر ابن عبدالبر هذا عاما مرفوعا إلى النبي ﷺ وبينه فقال ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام

وفي النسائي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة تبلغني عن أمتي السلام وفي السنن سنن أبي داود وغيره عن أوس الثقفي عن النبي ﷺ أنه قال أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي قد صرت رميما فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء

فهذا المعروف عنه في السنن هو الصلاة والسلام عليه كما أمر الله تعالى بذلك في كتابه بقوله يا أيها الذين آمنوا صلو عليه وسلموا تسليما سورة الأحزاب 56 وقد ثبت في الصحيح أنه قال من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا

لكن إذا صلى وسلم عليه من بعيد بلغ ذلك وإذا سلم عليه من قريب سمع هو سلام المسلم عليه

ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم إذا أتى أحدهم قبره سلم عليه وعلى صاحبيه كما كان ابن عمر يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك با أبا بكر السلام عليك يا أبه ولم يكن أحد منهم يقف يدعو لنفسه مستقبل القبر

ولهذا اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه إذا سلم عليه وأراد أن يدعو استقبل القبلة ودعا ولا يدعو مستقبل القبر ثم قالت طائفة كأبي حنيفة إذا سلم عليه يستقبل القبلة أيضا ويستدير القبر ويجعله عن يساره وقال الأكثرون مالك والشافعي وأحمد وغيرهم بل عند السلام يستقبل القبر ويستدير الكعبة وأما عند الدعاء فإنما يدعو الله وحده كما يصلي لله وحده فيستقبل القبلة كما يستقبل القبلة إذا دعا بعرفة والصفا والمروة وعند الجمرات

وكره مالك بن أنس وغيره أن يقول القائل زرت قبر النبي ﷺ وذلك أن هذا اللفظ قد يراد به ما هو منهى عنه من الزيارة البدعية كالزيارة لطلب الحوائج منه فكرهوا أن يتكلم بلفظ يتضمن شركا أحدثه الناس في هذا اللفظ من المعاني الفاسدة وإن كان لفظ الزيارة إذا عنى به الزيارة الشرعية لا بأس به وذكر مالك أنه لم ير أحدا من السلف يقف عند قبر النبي ﷺ يدعو لنفسه وغير هذا من البدع وقال إنما يصلح آخر هذه الأمة ما أصلح أولها ومالك قد أدرك التابعين بالمدينة وغيرها وهم كانوا أعلم خلق الله إذ ذاك بما يجب من حق الله وحق رسوله

فإذا كان هذا في حق خير خلق الله وأكرمهم على الله وسيد ولد آدم وصاحب لواء الحمد الذي آدم ومن دونه تحت لوائه يوم القيامة وهو خطيب الأنبياء إذا وفدوا على ربهم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وهو صاحب المقام المحمود يوم القيامة الذي يغبطه به الأولون والآخرون وهو خاتم النبيين وأفضل المرسلين أرسله الله بأفضل شريعة إلى خير أمة أخرجت للناس وأنزل عليه أفضل كتبه وجعله مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه الذي هدى الله به الخلق وأخرجهم به من الظلمات إلى النور وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال والغي والرشاد وطريق الجنة وطريق النار وهو الذي قسم الله به عباده إلى شقي وسعيد فالسعيد من آمن به وأطاعه والشقي من كذبه وعصاه وعلق به النجاة والسعادة فلا سبب ينجو به العبد من عذاب الله وينال السعادة في الدنيا والآخرة ممن بلغته دعوته وقامت عليه الحجة برسالته إلا من آمن به واتبع النور الذي أنزل معه

قال تعالى ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون سورة الأعراف 156 15وقد بين الله على لسانه ما يستحقه الله من الحقوق التي لا تصلح إلا لله وما يستحقه الرسول من الحقوق فقال تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا سورة الفتح 8 9 فالإيمان بالله والرسول والتعزير والتوقير للرسول والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده قال تعالى ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون سورة النور 52 فجعل الطاعة لله والرسول والخشية والتقوى لله وحده

وقال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون سورة التوبة 59 فجعل الإيتاء لله والرسول لأن المراد به الإيتاء الشرعي وهو ما أباحه الله على لسان رسوله بخلاف من آتاه الملك خلقا وقدرا ولم يطع الله ورسوله فيه فإن ذلك مذموم مستحق للعقاب وإن كان قد آتاه الله ذلك خلقا وقدرا وأما من رضي بما آتاه الله ورسوله فهو ممن رضي بما أحله الله ورسوله ولم يطلب ما حرم عليه كالذين قال الله فيهم ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ثم قال ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سورة التوبة 58 59 ولم يقل ورسوله لأن الله وحده كاف عبده كما قال الله تعالى أليس الله بكاف عبده سورة الزمر 36 وقال الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل سورة آل عمران 173 ثم دعاهم إلى أن يقولوا سيؤتينا الله من فضله ورسوله سورة التوبة 59 فذكر أن الرسول يؤتيهم وأن ذلك من فضل الله وحده لم يقل من فضله وفضل رسوله ثم ذكر قولهم إنا إلى الله راغبون سورة التوبة 59 ولم يقل ورسوله كما قال في الآية الأخرى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب سورة الشرح 7 وأما ما في القرآن من ذكر عبادته وحده ودعائه وحده والإستعانة به وحده والخوف منه وحده فكثير كقوله ولا يخشون أحدا إلا الله سورة الأحزاب 39 وقوله فإياي فارهبون سورة النحل 51 ووإياي فاتقون سورة البقرة 175 وقوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين سورة آل عمران 175 وكذلك قوله فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين سورة الشعراء 213 واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا سورة النساء 3وأما المحبة فهي لله ورسوله والإرضاء لله والرسول كقوله تعالى أحب إليكم من الله ورسوله سورة التوبة 24 وقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين سورة التوبة 62 فالرسول علينا أن نحبه وعلينا أن نرضيه بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وكذلك الطاعة لله والرسول قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله سورة النساء 8والعبادات بأسرها الصلاة والسجود والطواف والدعاء والصدقة والنسك والذي لا يصلح إلا لله ولم يخص الله بقعة تفعل الصلاة فيها إلا المساجد لا مقبرة ولا مشهدا ولا مغارة ولا مقام نبى ولا غير ذلك ولا خص بقعة غير المساجد بالذكر والدعاء إلا مشاعر الحج لا قبر نبي ولا صالح ولا مغارة ولا غير ذلك ولا يقبل على وجه الأرض شيء عبادة لله إلا الحجر الأسود ولا يتمسح إلا به وبالركن اليماني ولا يستلم الركنان الشاميان وهما من البيت فكيف غيرهما وقد طاف ابن عباس ومعاوية فجعل معاوية يستلم الأركان الأربعة فقال ابن عباس رضي الله عنه إن رسول الله ﷺ لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية ليس من البيت شيء مهجورا فقال ابن عباس رضي الله عنه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال معاوية صدقت ورجع إلى قوله

فالعبادات مبناها على أصلين أحدهما أن لا يعبد إلا الله وحده لا نعبد من دونه شيئا لا ملكا ولا نبيا ولا صالحا ولا شيئا من المخلوقات والثاني أن نعبده بما أمرنا به على لسان رسوله لا نعبده ببدع لم يشرعها الله ورسوله

والعبادات تتضمن كمال الحب وكمال الخضوع فمن أحب شيئا من المخلوقات كما يحب الخالق فهو مشرك قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165

وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال ثم أن تزانى بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون سورةالفرقان 6والنبي ﷺ قد أمر بالعبادة في المساجد وذكر فضل الصلاة في الجماعة ورغب في ذلك ولم يأمر قط بقصد مكان لأجل نبي ولا صالح بل نهى عن اتخاذها مساجد فلا يجوز أن تقصد للصلاة فيها والدعاء وهذا كله لتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله فقد قال بعض الناس يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أو بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون سورة البقرة 184وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يستغفرني فأغفر له من يسألني فأعطيه حتى يطلع الفجر

فالرسل صلوات الله عليهم وسلامه أمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعائه ونهوا أن يدعى أحد من دون الله تعالى وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال أحب البقاع إلى الله تعالى المساجد وأبغضها إلى الله تعالى الأسواق يعنى البقاع التي كانت تكون في مدينته ونحوها ولم يكن بالمدينة لا حانة ولا كنيسة ولا موضع شرك وهذه المواضع شر من الأسواق

وقد قال النبي ﷺ شرار الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد هذا إذا بنى المسجد

المسمى مشهدا على قبر صحيح فكيف وكثير من هذه المشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهم كذب وكثير منها مختلف فيه لا يتوثق فيه بنقل ينقل في ذلك مما يوجد بالشام والعراق وخراسان وغير ذلك والسبب في خفائها وكثرة الخلاف فيها أن الله حفظ الدين الذي بعث به رسوله بقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون سورة الحجر 9 واتخاذ هذه معابد ليس من الدين فلهذا لم يحفظ هذه المقامات والمشاهد بل مبنى أمرهم على الجهل والضلال وإنما يستند أهلها إلى منامات تكون من الشياطين أو إلى أخبار إما مكذوبة وإما منقولة عمن ليس قوله حجة

والشياطين تضل أهلها كما تضل عباد الأصنام فتارة تكلمهم وتارة تتراءى لهم وتارة تقضى بعض حوائجهم وتارة تصيح وتحرك السلاسل التي فيها القناديل وتطفئ القناديل وتارة تفعل أمورا أخر كما تفعل عبادة الأوثان التي كانت للعرب وهي اليوم تفعل مثل ذلك في أوثان الترك والصين والسودان وغيرهم فيظنون أن ذلك هو الميت أو ملك صور على صورته وإنما هو شيطان أضلهم بالشرك كما يجرى ذلك لعباد الأصنام المصورة على صورة الآدميين وهذا باب واسع ليس هذا موضع استقصائه
فصل

وأما قوله

وأن الأئمة معصومون كالأنبياء في ذلك

فهذه خاصة الرافضة الإمامية التي لم يشركهم فيها أحد لا الزيدية الشيعة ولا سائر طوائف المسلمين إلا من هو شر منهم كالإسماعيلية الذين يقولون بعصمة بني عبيد المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر القائلين بأن الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر وأولئك ملاحدة منافقون

والإمامية الاثنا عشرية خير منهم بكثير فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطنا وظاهرا ليسوا زنادقة منافقين لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم وأما أولئك فأئمتهم الكبار العارفون بحقيقة دعوتهم الباطنية زنادقة منافقون وأما عوامهم الذين لم يعرفوا باطن أمرهم فقد يكونون مسلمين

وأما المسائل المتقدمة فقد شرك غير الإمامية فيها بعض الطوائف إلا غلوهم في عصمة الأنبياء فلم يوافقهم عليه أحد أيضا حيث ادعوا أن النبي ﷺ لا يسهو فإن هذا لا يوافقهم عليه أحد فيما علمت اللهم إلا أن يكون من غلاة جهال النساك فإن بينهم وبين الرافضة قدرا مشتركا في الغلو وفي الجهل والإنقياد لما لا يعلم صحته والطائفتان تشبهان النصارى في ذلك وقد يقرب إليهم بعض المصنفين في الفقه من الغلاة في مسألة العصمة

والكلام في أن هؤلاء أئمة فرض الله الإيمان بهم وتلقى الدين منهم دون غيرهم ثم في عصمتهم عن الخطأ فإن كلا من هذين القولين مما لا يقوله إلا مفرط في الجهل أو مفرط في أتباع الهوى أو في كليهما فمن عرف دين الإسلام وعرف حال هؤلاء كان عالما بالاضطرار من دين محمد ﷺ بطلان هذا القول لكن الجهل لا حد له وهو هنا لم يذكر حجة غير حكاية المذهب فأخرنا الرد إلى موضعه

وأما قوله

وأخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين الناقلين عن جدهم رسول الله ﷺ إلى آخره

فيقال أولا

القوم المذكورون إنما كانوا يتعلمون حديث جدهم من العلماء به كما يتعلم سائر المسلمين وهذا متواتر عنهم فعلى بن الحسين يروى تارة عن أبان بن عثمان بن عفان عن أسامة بن زيد قول النبي ﷺ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وسمع من أبي هريرة قول النبي ﷺ من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من النار حتى فرجه بفرجه أخرجاه في الصحيحين ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه عن رجال من الأنصار رمى بنجم فاستنار رواه مسلم وأبو جعفر محمد بن علي يروى عن جابر بن عبدالله حديث مناسك الحج الطويل وهو أحسن ما روى في هذا الباب ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر

وأما ثانيا

فليس في هؤلاء من أدرك النبي ﷺ وهو مميز إلا علي رضي الله عنه وهو الثقة الصدوق فيما يخبر به عن النبي ﷺ كما أن أمثاله من الصحابة ثقات صادقون فيما يخبرون به أيضا عن النبي ﷺ وأصحاب النبي ﷺ ولله الحمد من أصدق الناس حديثا عنه لا يعرف فيهم من تعمد عليه كذبا مع أنه كان يقع من أحدهم من الهنات ما يقع ولهم ذنوب وليسوا معصومين ومع هذا فقد جرب أصحاب النقد والامتحان أحاديثهم واعتبروها بما تعتبر به الأحاديث فلم يوجد عن أحد منهم تعمد كذبة بخلاف القرن الثاني فإنه كان في أهل الكوفة جماعة يتعمدون الكذب

ولهذا كان الصحابة كلهم ثقات باتفاق أهل العلم بالحديث والفقه حتى الذين كانوا ينفرون عن معاوية رضي الله عنه إذا حدثهم على منبر المدينة يقولون وكان لا يتهم في الحديث عن رسول الله ﷺ وحتى بسر بن أبي أرطاة مع ما عرف منه روى حديثين رواهما أبو داود وغيره لأنهم معروفون بالصدق عن النبي ﷺ وكان هذا حفظا من الله لهذا الدين ولم يتعمد أحد الكذب على النبي ﷺ إلا هتك الله ستره وكشف أمره ولهذا كان يقال لو هم رجل بالسحر أن يكذب على رسول الله ﷺ لأصبح والناس يقولون فلان كذاب

وقد كان التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة لا يكاد يعرف فيهم كذاب لكن الغلط لم يسلم منه بشر ولهذا يقال فيمن يضعف منهم ومن أمثالهم تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه أي من جهة سوء حفظه فيغلط فينسى لا من جهة تعمده للكذب

وأما الحسن والحسين فمات النبي ﷺ وهما صغيران في سن التمييز فروايتهما عن النبي ﷺ قليلة

وأما سائر الإثنى عشر فلم يدركوا النبي ﷺ فقول القائل إنهم نقلوا عن جدهم إن أراد بذلك أنه أوحى إليهم ما قاله جدهم فهذه نبوة كما كان يوحى إلى النبي ﷺ ما قاله غيره من الأنبياء

وإن أراد أنهم سمعوا ذلك من غيرهم فيمكن أن يسمع من ذلك الغير الذي سمعوه منهم سواء كان ذلك من بني هاشم أو غيرهم فأي مزية لهم في النقل عن جدهم إلا بكمال العناية والإهتمام فإنه كل من كان أعظم اهتماما وعناية بأحاديث النبي ﷺ وتلقيها من مظانها كان أعلم بها

وليس هذا من خصائص هؤلاء بل في غيرهم من هو أعلم بالسنة من أكثرهم كما يوجد في كل عصر كثير من غير بني هاشم أعلم بالسنة من أكثر بني هاشم فالزهري أعلم بأحاديث النبي ﷺ وأحواله وأقواله وأفعاله باتفاق أهل العلم من أبي جعفر محمد بن علي وكان معاصرا له

وأما موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي فلا يستريب من له من العلم نصيب أن مالك بن أنس وحماد بن زيد حماد بن سلمة والليث بن سعد والأوزاعي ويحيى بن سعيد ووكيع بن الجراح وعبدالله ابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثالهم أعلم بأحاديث النبي صلىالله عليه وسلم من هؤلاء

وهذا أمر تشهد به الآثار التي تعاين وتسمع كما تشهد الآثار بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أعظم فتوحا وجهادا بالمؤمنين وأقدر على قمع الكفار والمنافقين من غيره مثل عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين

ومما يبين ذلك أن القدر الذي نقل عن هؤلاء من الأحكام المسندة إلى النبي ﷺ ينقل عن أولئك ما هو أضعافه

وأما دعوى المدعي أن كل ما أفتى به الواحد من هؤلاء فهو منقول عنده عن النبي ﷺ فهذا كذب على القوم رضي الله عنهم أجمعين فإنهم كانوا يميزون بين ما يروونه عن النبي ﷺ وبين ما يقولونه من غير ذلك وكان علي رضي الله عنه يقول إذا حدثتكم عن رسول الله ﷺ فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلى من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة ولهذا كان يقول القول ويرجع عنه ولهذا كانوا يتنازعون في المسائل كما يتنازع غيرهم وينقل عنهم الأقوال المختلفة كما ينقل عن غيرهم وكتب السنة ووالشيعة مملوءة بالروايات المختلفة عنهم

وأما قوله

إن الإمامية يتناقلون ذلك عن الثقات خلفا عن سلف إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين

فيقال أولا

إن كان هذا صحيحا فالنقل عن المعصوم الواحد يغنى عن غيره فلا حاجة في كل زمان إلى معصوم

وأيضا فإذا كان النقل موجودا فأي فائدة في هذا المنتظر الذي لا ينقل عنه شيء إن كان النقل عن أولئك كافيا فلا حاجة إليه وإن لم يكن كافيا لم يكن ما نقل عنهم كافيا للمتقدى بهم

ويقال ثانيا

متى ثبت النقل عن أحد هؤلاء كان غايته أن يكون كما لو سمع منه وحينئذ فله حكم أمثاله

ويقال ثالثا

الكذب على هؤلاء في الرافضة أعظم الأمور لا سيما على جعفر بن محمد الصادق فإنه ما كذب على أحد ما كذب عليه حتى نسبوا إليه كتاب الجفر والبطاقة والهفت واختلاج الأعضاء وجدول الهلال وأحكام الرعود والبروق ومنافع سور القرآن وقراءة القرآن في المنام وما يذكر عنه من حقائق التفسير التي ذكر كثيرا منها أبو عبدالرحمن السلمي وصارت هذه مكاسب للطرقية وأمثالهم حتى زعم بعضهم أن كتاب رسائل إخوان الصفا من كلامه مع علم كل عاقل يفهمها ويعرف الإسلام أنها تناقض دين الإسلام

وأيضا فهي إنما صنفت بعد موت جعفر بن محمد بنحو مائتي سنة فإن جعفر بن محمد توفى سنة ثمان وأربعين ومائة وهذه وضعت في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت الدولة العبيدية بمصر وبنوا القاهرة فصنفت على مذهب أولئك الإسماعيلية كما يدل على ذلك ما فيها وقد ذكروا فيها ما جرى على المسلمين من استيلاء النصارى على سواحل الشام وهذا إنما كان بعد المائة الثالثة وقد عرف الذين صنفوها مثل زيد بن رفاعة وأبي سليمان بن معشر البستي المعروف بالمقدسي وأبي الحسن علي بن هارون الزنجاني وأبي أحمد النهرجوري والعوفي ولأبي الفتوح المعافى بن زكرياء الجريري صاحب كتاب الجليس والأنيس مناظرة معهم وقد ذكر ذلك أبو حيان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة وفي الجملة فمن جرب الرافضة في كتابهم وخطابهم علم أنهم من أكذب خلق الله فكيف يثق القلب بنقل من كثر منهم الكذب قبل أن يعرف صدق الناقل وقد تعدى شرهم إلى غيرهم من أهل الكوفة وأهل العراق حتى كان أهل المدينة يتوقون أحاديثهم وكان مالك يقول نزلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم

وقال له عبدالرحمن مهدى يا أبا عبدالله سمعنا في بلدكم أربعمائة حديث في أربعين يوما ونحن في يوم واحد نسمع هذا كله فقال له يا عبدالرحمن ومن أين لنا دار الضرب أنتم عندكم دار الضرب تضربون بالليل وتنفقون بالنهار

وهذا مع أنه كان في الكوفة وغيرها من الثقات الأكابر كثير لكن لكثرة الكذب الذي كان أكثره في الشيعة صار الأمر يشتبه على من لا يميز بين هذا وهذا بمنزلة الرجل الغريب إذا دخل بلدا نصف أهله كذابون خوانون فإنه يحترس منهم حتى يعرف الصدوق الثقة وبمنزلة الدراهم التي كثر فيها الغش فإنه يحترس عن المعاملة بها من لا يكون نقادا ولهذا كره لمن لا يكون له نقد وتمييز النظر في الكتب التي يكثر فيها الكذب في الرواية والضلال في الآراء ككتب أهل البدع وكره تلقى العلم من القصاص وأمثالهم الذين يكثر الكذب في كلامهم وإن كانوا يقولون صدقا كثيرا فالرافضة أكذب من كل طائفة باتفاق أهل المعرفة بأحوال الرجال

======






منهاج السنة النبوية/14





فصل

وأما قوله

ولم يلتفوا إلى القول بالرأي والاجتهاد وحرموا الأخذ بالقياس والاستحسان

فالكلام على هذا من وجوه

أحدهما

أن الشيعة في هذا مثل غيرهم ففي أهل السنة في الرأي والاجتهاد والقياس والاستحسان كما في الشيعة النزاع في ذلك فالزيدية تقول بذلك وتروى فيه الروايات عن الأئمة

الثاني

أن كثيرا من أهل السنة العامة والخاصة لا تقول بالقياس فليس كل من قال بإمامة الخلفاء الثلاثة قال بالقياس بل المعتزلة البغداديون لا يقولون بالقياس والفقهاء أهل الظاهر كداود بن علي وأتباعه وطائفة من أهل البيت والصوفية لا يقولون بالقياس

وحينئذ فإن كان القياس باطلا أمكن الدخول في السنة وترك القياس وإن كان حقا أمكن الدخول في أهل السنة والأخذ بالقياس

الثالث

أن يقال القول بالرأي والاجتهاد والقياس والاستحسان خير من الأخذ بما ينقله من يعرف بكثرة الكذب عمن يصيب ويخطئ نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ولا يشك عاقل أن رجوع مثل مالك وابن أبي ذئب وابن الماجشون والليث بن سعد والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وشريك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر والحسن بن زياد اللؤلؤي والشافعي والبويطي والمزني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي داود السجستاني والأثرم وإبراهيم الحربي والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وأبي بكر بن خزيمة ومحمد بن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي وغير هؤلاء إلى إجتهادهم واعتبارهم مثل أن يعلموا سنة النبي ﷺ الثابتة عنه ويجتهدوا في تحقيق مناط الأحكام وتنقيحها وتخريجها خير لهم من أن يتمسكوا بنقل الروافض عن العسكريين وأمثالهما فإن الواحد من هؤلاء لأعلم بدين الله ورسوله من العسكريين أنفسهما فلو أفتاه أحدهما بفتيا كان رجوعه إلى اجتهاده أولى من رجوعه إلى فتيا أحدهما بل ذلك هو الواجب عليه فكيف إذا كان ذلك نقلا عنهما من مثل الرافضة

والواجب على مثل العسكريين وأمثالهما أن يتعلموا من الواحد من هؤلاء

ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد كانوا هم العلماء الفضلاء وأن من بعدهم من الإثنى عشر لم يعرف عنه من العلم ما عرف من هؤلاء ومع هذا فكانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم حتى قال أبو عمران بن الأسيب القاضي البغدادي أخبرنا أصحابنا أنه ذكر ربيعة بن أبي عبدالرحمن جعفر بن محمد وأنه تعلم العلوم فقال ربيعة إنه اشترى حائطا من حيطان المدينة فبعث إلي حتى أكتب له شرطا في ابتياعه نقله عنه محمد بن حاتم بن ريحويه البخاري في كتاب إثبات إمامة الصديق

فأما تحقيق المناط فهو متفق عليه بين المسلمين وهو أن ينص الله على تعليق الحكم بمعنى عام كلي فينظر في ثبوته في آحاد الصور أو أنواع ذلك العام كما نص على اعتبار العدالة وعلى استقبال الكعبة وعلى تحريم الخمر والميسر وعلى حكم اليمين وعلى تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك فينظر في الشراب المتنازع فيه هل هو من الخمر أم لا كالنبيذ المسكر وفي اللعب المتنازع فيه كالنرد والشطرنج هل هو من الميسر أم لا وفي اليمين المتنازع فيها كالحلف بالحج وصدقة المال والعتق والطلاق والحرام والظهار هل هي داخلة في الأيمان فتكفر أم في العقود المحلوف بها فيلزم ما حلف به أم لا يدخل لا في هذا ولا في هذا فلا يلزمه شيء بحال كما ينظر فيما وقعت فيه دم أو ميتة أو لحم خنزير من الماء والمائعات ولم يتغير لونه ولا طعمه بل استهلت النجاسات فيه واستحالت أو رفعت منه واستحال فيه ما خالطه من أجزائها فينظر في ذلك هل يدخل في مسمى الماء المذكور في القرآن والسنة أو في مسمى الميتة والدم ولحم الخنزير

وأما تنقيح المناط وتخريجه ففيهما نزاع وهذا الإمامي لم يذكر أصلا حجة على بطلان الاجتهاد والرأي والقياس ليرد ذلك بل ذكر أن طائفته لا تقول بذلك وهذ يدل على جهلهم بالإستنباط والإستخراج وعدم معرفتهم بما في الشريعة من الحكم والمعاني وعدم معرفتهم بالجمع بي المتماثلين والفرق بين المختلفين وهم بمعاني القرآن وأحاديث الرسول ﷺ جهال أيضا فهم جهال بأصول الشرع الكتاب والسنة والإجماع بمنصوص ذلك ومستنبطه

وإنما عمدتهم على نقل عمن يقلدونه وهذا حال الجهال المقلدين لآحاد العلماء المستدلين ثم من سواهم ممن يقلد العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم له معرفة بأقوال هؤلاء وبطرق يميزون بها بين صحيح أقوالهم وضعيفها ومعرفة بأدلتهم ومآخذهم

وأما الرافضة فلا يميزون بين ما يصح نقله عن أئمتهم وما لا يصح ولا يعرفون أدلتهم ومآخذهم بل هم من أهل التقليد بما يقلدون فيه وهم يعيبون هؤلاء الجمهور بالاختلاف وفيما ينقلونه عمن يقلدونه من الاختلاف وفيما لا ينقلونه عمن يقلدونه من الاختلاف ما لا يكاد يحصى

الرابع

أن يقال لا ريب أن ما ينقله الفقهاء عن مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم هو أصح مما ينقله الروافض عن مثل العسكريين ومحمد بن علي الجواد وأمثالهم ولا ريب أن هؤلاء أعلم بدين النبي ﷺ من أولئك فمن عدل عن نقل الأصدق عن الأعلم إلى نقل الأكذب عن المرجوح كان مصابا في دينه أو عقله أو كليهما

فقد تبين أن ما حكاه عن الإمامية مفضلا لهم به ليس فيه شيء من خصائصهم إلا القول بعصمة الأئمة وإنما شاركهم فيه من هو شر منهم وما سواه حقا كان أو باطلا فغيرهم من أهل السنة القائلين بخلافة الثلاثة يقول به وما اختصت به الإمامية من عصمة الأئمة فهو في غاية الفساد والبعد عن العقل والدين وهو أفسد من اعتقاد كثير من النساك في شيوخهم أنهم محفوظون وأضعف من اعتقاد كثير من قدماء الشاميين أتباع بني أمية أن الإمام تجب طاعته في كل شيء وأن الله إذا استخلف إماما تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات لأن الغلاة في الشيوخ وإن غلوا في شيخ فلا يقصرون الهدى عليه ولا يمنعون اتباع غيره ولا يكفرون من لم يقل بمشيخته ولا يقولون فيه من العصمة ما يقوله هؤلاء اللهم إلا من خرج عن الدين بالكلية فذاك في الغلاة في الشيوخ كالنصيرية والإسماعيلية والرافضة

فبكل حال الشر فيهم أكثر من غيرهم والغلو فيهم أعظم وشر غيرهم جزء من شرهم

وأما غالية الشاميين أتباع بني أمية فكانوا يقولون إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وربما قالوا إنه لا يحاسبه ولهذا سأل الوليد بن عبدالملك عن ذلك بعض العلماء فقالوا له يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أم داود وقد قال له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب سورة ص 2وكذلك سؤال سليمان بن عبدالملك عن ذلك لأبي حازم المدني في موعظته المشهورة له فذكر له هذه الآية

ومع خطأ هؤلاء وضلالهم فكانوا يقولون ذلك في طاعة إمام منصوب قد أوجب الله طاعته في موارد الاجتهاد كما يجب طاعة والي الحرب وقاضي الحكم لا يجعلون أقواله شرعا عاما يجب على كل أحد ولا يجعلونه معصوما من الخطأ ولا يقولون إنه يعرف جميع الدين لكن غلط من غلط منهم من جهتين من جهة أنهم كانوا يطيعون الولاة طاعة مطلقة ويقولون إن الله أمرنا بطاعتهم الثانية قول من قال منهم إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وأين خطأ هؤلاء من ضلال الرافضة القائلين بعصمة الأئمة

ثم قد تبين مع ذلك أن ما نفردوا به عن جمهور أهل السنة كله خطأ وما كان معهم من صواب فهو قول جمهور أهل السنة أو بعضهم ونحن لسنا نقول إن جميع طوائف أهل السنة مصيبون بل فيهم المصيب والمخطئ لكن صواب كل طائفة منهم أكثر من صواب الشيعة وخطأ الشيعة أكثر

وأما ما انفردت به الشيعة عن جميع طوائف السنة فكله خطأ وليس معهم صواب إلا وقد قاله بعض أهل السنة

فهذا القدر في هذا المقام يبطل به ما ادعاه من رجحان قول الإمامية فإنه بهذا القدر يتبين أن مذهب أهل السنة أرجح ولكل مقام مقال وقد يقال إن الإيمان أرجح من الكفر إذا احتيج إلى المفاضلة عند من يظن أن ذلك أرجح وكذلك يقال في الخير والشر

قال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء 125

وقال تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون سورة الجمعة 9 وقال تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم سورة النور 30 وقال لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلك خير لكم سورة النور 27 بل قد يفضل الله سبحانه نفسه على ما عبد من دونه كقوله ءآلله خير أما يشركون سورة النمل 59 وقول المؤمنين للسحرة والله خير وأبقى سورة طه 73

وكذلك قد تبين أن الكفار أكثر جرما إذا وقعت المفاضلة قال تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير سورة البقرة 217 ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل سورة البقرة 217 وهذه الآية نزلت لما عير المشركون سرية المسلمين بأنهم قتلوا رجلا في الشهر الحرام وهو ابن الحضرمي فقال الله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم بين أن ذنوب المشركين أعظم عند الله

وأما في جانب التفضيل فقال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء 123 125 وقال تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل سورة المائدة 59 60
فصل

ثم قال هذا الإمامي

أما باقي المسلمين فقد ذهبوا كل مذهب فقال بعضهم وهم جماعة الأشاعرة إن القدماء كثيرون مع الله تعالى هي المعاني يثبتونها موجودة في الخارج كالقدرة والعلم وغير ذلك فجعلوه تعالى مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم وفي كونه قادرا إلى ثبوت معنى هو القدرة وغير ذلك ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته ولا حيا لذاته بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولا يقولون هذه الصفات ذاتية واعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال إن النصارى كفروا بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة

فيقال

الكلام على هذا من وجوه

أحدها أن هذا كذب على الأشعرية ليس فيهم من يقول إن الله ناقص بذاته كامل بغيره ولا قال الرازي ما ذكرته من الإعتراض عليهم بل هذا الإعتراض ذكره الرازي عمن اعترض به واستهجن الرازي ذكره وهو اعتراض قديم من اعتراضات نفاة الصفات حتى ذكره الإمام أحمد في الرد على الجهمية فقال قالت الجهمية لما وصفنا الله بهذه الصفات إن زعمتم أن الله لم يزل ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته

قلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل الله بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر

فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء

فقلنا نحن نقول قد كان ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته

وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمارا واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه كان في وقت من الأوقات ولا يقدر حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق لنفسه علما والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال ذرني ومن خلقت وحيدا سورة المدثر 11 وقد كان هذا الذي سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد

وهذا الذي ذكره الإمام أحمد يتضمن أسرار هذه المسائل وبيان الفرق بين ما جاءت به الرسل من الإثبات الموافق لصريح العقل وبين ما تقوله الجهمية وبين أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه

الثاني أن يقال هذا القول المذكور ليس هو قول الأشعري ولا جمهور موافقيه إنما هو قول مثبتى الحال منهم الذين يقولون إن العالمية حال معللة بالعلم فيجعلون العلم يوجبه حال آخر ليس هو العلم بل هو كونه عالما وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وأول قول أبي المعالي

وأما جمهور مثبتة الصفات فيقولون إن العلم هو كونه عالما ويقولون لا يكون عالما إلا بعلم ولا قادرا إلا بقدرة أي يمتنع أن يكون عالما من لا علم له وأن يكون قادرا من لا قدرة له وأن يكون حيا من لا حياة له وعندهم علمه هو كونه عالما وقدرته هو كونه قادرا وحياته هو كونه حيا وهذا في الحقيقة قول أبي الحسين البصري وغيره من حذاق المعتزلة

ولا ريب أن هذا معلوم ضرورة فإن وجود اسم الفاعل بدون مسمى المصدر ممتنع وهذا كما لو قيل مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وناطق بلا نطق

فإذا قيل لا يكون ناطق إلا بنطق ولا مصل إلا بصلاة لم يكن المراد أن هنا شيئين أحدهما الصلاة والثاني حال معلل بالصلاة بل المصلى لا بد أن يكون له صلاة

وهم أنكروا قول نفاة الصفات الذين يقولون هو حي لا حياة له وعالم لا علم له وقادر لا قدرة له

فمن قال هو حي عليم قدير بذاته وأراد بذلك أن ذاته مستلزمة لحياته وعلمه وقدرته لا يحتاج في ذلك إلى غيره فهذا قول مثبتة الصفات وإن أراد بذلك أن ذاته مجردة ليس لها حياة ولا علم ولا قدرة فهذا هو القول المنكر من أقوال نفاة الصفات

وهذا الكلام الذي قاله هذا قد سبقه إله المعتزلة وهذا اللفظ وجدته في كلام أبي الحسين البصري ومع هذا من تدبر كلام أبي الحسين وأمثاله وجده مضطرا إلى إثبات الصفات وأنه لا يمكنه أن يفرق بين قوله وبين قول المثبتين بفرق محقق فإنه يثبت كونه حيا وكونه عالما وكونه قادرا ولا يجعل هذا هو هذا ولا هذا هو هذا ولا هذه الأمور هي الذات فقد أثبت هذه المعاني الزائدة على الذات المجردة وقد بسطنا هذا في غيره هذا الموضع

الوجه الثالث

أن يقال أصل هذا القول هو قول مثبتة الصفات وهذا لا تختص به الأشعرية بل هو قول جميع طوائف المسلمين إلا الجهمية كالمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة وقد قدمنا أن هذا القول هو قول قدماء الإمامية فإن كان خطأ فأئمة الإمامية أخطأوا وإن كان صوابا فمتأخروهم أخطأوا

الوجه الرابع

أن يقال قول القائل إنهم أثبتوا قدماء كثيرين لفظ مجمل موهم القول أنهم أثبتوا آلهة غير الله في القدم أو أثبتوا موجودات منفصلة قديمة مع الله أم أثبتوا لله صفات الكمال القائمة به كالحياة والعلم والقدرة

فإن قلت أثبتوا آلهة غير الله أو موجودات قديمة منفصلة عن الله كان هذا بهتانا عليهم والمشنع وإن لم يقصد هذا لكن لفظه فيه إبهام وإيهام

وإن قلت أثبتوا له صفات قائمة به قديمة بقدمه وهي صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة فهذا هو الحق وهل ينكر هذا إلا مخذول مسفسفط فمن أنكر هذه الصفات وقال هو حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر بلا قدرة كان قوله ظاهر البطلان وكذلك إن قال علمه هو قدرته وقدرته علمه وإن قال مع ذلك إنه هو العلم والقدرة فجعل الموصوف هو الصفة وهذه الصفة هي الأخرى كما يوجد مثل ذلك في أقوال نفاة الصفات من الفلاسفة والمعتزلة فنفس تصور قولهم على الحقيقة يبين فساده والكلام عليهم وعلى شبههم مبسوط في غير هذا الموضع

الوجه الخامس

قولك جعلوا قدماء مع الله عز وجل ليس بصواب فإن هذه المعاني ليست خارجة عن مسمى اسم الله عند مثبتة الصفات بل قد يقولون هي زائدة على الذات أي على الذات المجردة عن الصفات التي يثبتها النفاة لا على الذات المتصفة بالصفات واسم الله سبحانه يتناول الذات المتصفة بالصفات ليس هو اسما للذات المجردة حتى يقولوا نحن نثبت قدماء مع الله تعالى وكيف وهم لا يجوزون أن يقال إن الصفة غير الموصوف فكيف يقولون هي مع الله

بل طائفة من المثبتة كابن كلاب لا تقول عن الصفات وحدها إنها قديمة حتى لاتقول بتعدد القدماء لما منعت النفاة هذا الإطلاق بل تقول الله بصفاته قديم

الوجه السادس

قولك فجعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم

فيقال أولا هذا إنما يقال على قول مثبتة الحال وأما قول الجمهور فعندهم كونه عالما هو العلم وبتقدير أن يقال كونه عالما مفتقرا إلى العلم الذي هو لازم لذاته ليس في هذا إثبات فقر له إلى غير

ذاته فإن ذاته مستلزمة للعلم والعلم مستلزم لكونه عالما فذاته هي الموجبة لهذا ولهذا فإذا قدر أنها أوجبت الإثنين كان أعظم من أن توجب أحدهما إذا لم يكن أحدهما نقصا ومعلوم أن العلم كمال وكونه عالما كمال فإذا أوجبت ذاته هذا وهذا كان كما لو أوجبت الحياة والقدرة

السابع

قوله جعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم عبارة ملبسة فإن لفظ الإفتقار يشعر بأنه محتاج إلى من يجعله عالما يفيده العلم وهذا باطل وإنما ثبوت هذا بطريق اللزوم لذاته فذاته موجبة لعلمه ولكونه عالما ومعنى كونها موجبة لذلك أي مستلزمة له بمعنى أنه لا تكون ذاته إلا عالمة لا بمعنى أنها أبدعت العلم أو فعلته ومن أثبت المعنيين قال لا يكون عالما حتى يكون له علم وهو عالم قطعا فله علم فهو يجعل ذلك من باب الاستدلال ويستدل بكونه عالما على العلم ويقول إن ذاته أوجبت ذلك لا أنه هنا شيء غير ذاته جعلته عالما أو جعلت له علما ولو قدر أنها أوجبته بواسطة فموجب الموجب موجب كما أنها أوجبت كونه حيا وكونه عالما والعلم مشروط بالحياة فلا يقال إنه يفتقر في كونه عالما إلى غيره فإن هذه الأمور المشروط بعضها ببعض كلها من لوازم ذاته لا يفتقر ثبوتها إلى غيره

الوجه الثامن

قوله ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته بل لمعان قديمة إن أراد بذلك أنهم لا يجعلون ذاته علما وقدرة أو لا يجعلونها عالمة قادرة وليس لها علم ولا قدرة فهذا صحيح وهو عين الحق وإن أراد أنهم لا يجعلون ذاته مستلزمة لكونه عالما قادرا ولا هي الموجبة لكونه عالما قادرا فهذا كذب عليهم بل ذاته هي الموجبة لذلك كما أنها هي الموجبة لكونه عالما مع كونها موجبة لكونه حيا ولا يكون عالما حتى يكون حيا وكذلك يقول هؤلاء لا يكون عالما حتى يكون له علم

التاسع

قوله لم يجعلوه عالما لذاته ولا قادرا لذاته إن أراد أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذات مجردة عن العلم والقدرة كما يقول نفاة الصفات إنه ذات مجردة عن الصفات فهذا صحيح وهو عين الحق لأن الذات المجردة عن العلم والقدرة لا حقيقة لها في الخارج ولا هي الله ولا تستحق العبادة وإن أراد أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذاته المستلزمة للعلم والقدرة فهذا غلط عليهم بل نفس ذاته الموجبة لعلمه وقدرته هي التي أوجبت كونه عالما قادرا وأوجبت علمه وقدرته وجعلت العلم والقدرة توجب كونه عالما قادرا فإن كل هذه الأمور متلازمة وذاته المتصفة بهذه الصفات هي الموجبة لهذا كله لا تفتقر في ذلك إلى شيء مباين لها

العاشر

قوله لمعان لقديمة يفتقر في هذه الصفات إليها ليس هو قولهم فإن المعاني القديمة هي الصفات عندهم وأما الخبر عن ذلك فيقولون هو الوصف ولا ريب أنه لا يمكن وصف الموصوف بأنه عالم إلا أن يكون له علم ولكن هو سبحانه الموجب لتلك المعاني القديمة القائمة به فإذا كان لا يوصف بالعلم والقدرة والحياة إلا بها وهو الموجب لها لم يكن مفتقرا إلى غيره كما أنه إذا لم يوصف بالعلم إلا إذا كان موصوفا بالحياة وهو الموجب للحياة لم يكن مفتقرا إلى غيره ولو قال لمعان قديمة تستلزم هذه الصفات ثبوتها وذاته مستلزمة لهذه وهذه وتلك المعاني مستلزمة لثبوت هذه الصفات كان كلاما صحيحا فالتلازم حاصل من الجهات الثلاث

الحادي عشر

قوله فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره كلام باطل فإنه هو الذات الموصوفة بهذه الصفات فليس هنا شيء يمكن تقدير حاجته إلى هذه الصفات إلا الذات المجردة وتلك لا وجود لها في الخارج فليس في الخارج ذات مجردة عن هذه الصفات حتى توصف بحاجة أو غنى وذات الله مستلزمة لهذه الصفات والصفات الملزومة لذات الموصوف التي لا يكون إلا بها ليس له تحقق دونها حتى يقال إنه محتاج ناقص بل حقيقة الأمر أن الذات المجردة عن صفات الكمال ناقصة بدونها محتاجة إلى صفات الكمال فهذا حق لكن تلك الذات المجردة ليست هي الله بل لا حقيقة لها في الخارج وأيضا فهم لا يطلقون على الصفات لفظ الغير

الثاني عشر

إن قول القائل إن النصارى كفرو بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة كلام باطل فإن الله لم يكفر النصارى بقولهم القدماء ثلاثة بل قال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام سورة المائدة 73 75 فقد بين سبحانه أنهم كفروا بقولهم إن الله ثالث ثلاثة لقوله بعد ذلك ومامن إله إلا إله واحد ولم يقال ما من قديم إلا قديم واحد ثم أتبع ذلك بذكر حال المسيح وأمه لأنهما هما الآخران اللذان اتخذوهما إلهين كما بين ذلك في الآية الأخرى بقوله وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله سورة المائدة 116 فهذه الآية موافقة لسياق تلك الآية وفي ذلك بيان أن الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قالوا إنه ثالث ثلاثة آلهة هو والمسيح وأم المسيح وليس في القرآن ذكر قدماء ثلاثة ولا صفات ثلاثة بل ليس في الكتاب ولا في السنة ذكر القديم في أسماء الله تعالى وإن كان المعنى صحيحا لكن المقصود هنا بيان أن ما ذكروه لم يكفر الله تعالى النصارى به

الثالث عشر

أنه هب أن النصارى كفروا بقولهم إنه ثالث ثلاثة قدماء فالصفاتية لا تقول إن الله تاسع تسعة قدماء بل اسم الله تعالى عندهم يتضمن صفاته فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه بل إذا قال القائل آمنت بالله أو دعوت الله كانت صفاته داخلة في مسمى اسمه وهم لا يطلقون عليها أنها غير الله فكيف يقولون إن الله تاسع تسعة أو ثالث ثلاثة وقد قال النبي ﷺ من خلف بغير الله فقد أشرك وثبت في الصحيح الحلف بعزة الله ولعمر الله فعلم أن الحلف بذلك ليس حلفا بما يقال إنه غير الله

الرابع عشر

إن حصر الصفات في ثمانية وإن كان يقوله بعض المثبتين من الأشعرية ونحوهم فالصواب عند جماهير المثبتة وأئمة الأشعرية أن الصفات لا تنحصر في ثمانية بل ولا يحصرها العباد في عدد وحينئذ فنقل الناقل عنهم أنه تاسع تسعة باطل لو كان هذا مما يقال

الخامس عشر

أن النصارى أثبتوا أقانيم وقالوا إنها ثلاثة جواهر يجمعها جوهر واحد وإن كل واحد إله يخلق ويرزق والمتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة والعلم وهو الإبن وهذا القول متناقض في نفسه فإن المتحد إن كان صفة فالصفة لا تخلق ولا ترزق وهي أيضا لا تفارق الموصوف وإن كان هو الموصوف فهو الجوهر الواحد وهو الأب فيكون المسيح هو الأب وليس هذا قولهم فإين هذا ممن يقول الإله واحد وله الأسماء الحسنى الدالة على صفاته العلى ولا يخلق غيره ولا يعبد سواه فبين المذهبين من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق

ومما افترته الجهمية على المثبتة أن ابن كلاب لما كان من المثبتين للصفات وصنف الكتب في الرد على النفاة وضعوا على أخته حكاية أنها كانت نصرانية وأنه لما أسلم هجرته فقال لها يا أختي إني أريد أن أفسد دين المسلمين فرضيت عنه لذلك

ومقصود المفترى بهذه الحكاية أن يجعل قوله بإثبات الصفات هو قول النصارى وأخذ هذه الحكاية بعض السالمية وبعض أهل الحديث والسنة يذم بها ابن كلاب لما أحدثه من القول في مسألة القرآن ولم يعلم أن الذين عابوه بها هم أبعد عن الحق في مسألة القرآن وغيرها منه وأنهم عابوه بما تمدح أنت قائله وعيب ابن كلاب عندك كونه لم يكمل القول به بل بقيت عليه بقية من كلامهم

وهذا نظير ما عمله ابن عقيل في مسألة القرآن فإنه أخذ كلام المعتزلة الذي طعنوا به على الأشعرية في كونهم يقولون هذا القرآن ليس كلام الله بل عبارة عنه فطعن به هو على الأشعرية ومقصود المعتزلة بذلك إثبات أن القرآن مخلوق والأشعرية خير منهم في نفى الخلق عن القرآن ولكن عيبهم في تقصيرهم في إكمال السنة

وكذلك بعض أهل الحديث السالمية المصنفين في مثالب ابن كلاب والأشعري وابن كرام ذكروا حكايات بعضها كذب قطعا وهي مما وضعته المعتزلة أعداء هؤلاء عليهم لكونهم يثبتون الصفات والقدر فجاء هؤلاء فذكروا تلك الحكايات ومقصودهم التنفير عما اعتقدوا في أقوالهم من الخطاء وتلك الحكايات وضعها من هو أبعد عن السنة منهم وكذلك السالمية أتباع الشيخ أبي الحسن بن سالم هم في غالب أصولهم على قول أهل السنة والجماعة لكن لما وقع في بعض أقوالهم من الخطاء زاد في الرد عليهم من صنف في الرد عليهم حتى رد عليهم قطعة مما قالوه من الحق فصل


قال الرافضي المصنف

وقالت جماعة الحشوية والمشبهة إن الله تعالى جسم له طول وعرض وعمق وأنه يجوز عليه المصافحة وأن الصالحين من المسلمين يعانقونه في الدنيا وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز رؤيته في الدنيا وأنه يزورهم ويزورونه وحكى عن داود الطائي أنه قال أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك وقال إن معبودي جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء كيد ورجل ولسان وعينين وأذنين وحكي عنه أنه قال هو أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك وله شعر قطط حتى قالوا اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وأنه يفضل من العرش من كل جانب أربع أصابع

فيقال

الكلام على هذا من وجوه

أحدها أن يقال هذا اللفظ بعينه أن الله جسم له طول وعرض وعمق أول من عرف أنه قاله في الإسلام شيوخ الإمامية كهشام بن الحكم وهشام بن سالم كما تقدم ذكره وهذا مما اتفق عليه نقل الناقلين للمقالات في الملل والنحل من جميع الطوائف مثل أبي عيسى الوراق وزرقان وابن النوبختى وأبي الحسن الأشعري وابن حزم والشهرستاني وغير هؤلاء ونقل ذلك عنهم موجود في كتب المعتزلة والشيعة والكرامية والأشعرية وأهل الحديث وسائر الطوائف وقالوا أول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم

ونقل الناس عن الرافضة هذه المقالات وما هو أقبح منها فنقلوا ما ذكره الأشعري وغيره في كتب المقالات عن بيان بن سمعان التميمي الذي تنتسب إليه البيانية من غالية الشيعة أنه كان يقول إن الله على صورة الإنسان وإنه يهلك كله إلا وجهه وادعى بيان أنه يدعو الزهرة فتجيبه وأنه يفعل ذلك بالاسم الأعظم فقتله خالد بن عبدالله القسري وحكى عنهم أن كثيرا منهم يثبت نبوة بيان بن سمعان ثم يزعم كثير منهم أن أبا هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية نص على نبوة بيان بن سمعان وجعله إماما

ونقلوا عن المغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد أنهم يزعموه أنه كان يقول إنه نبي وأنه يعلم اسم الله الأكبر وأن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج وله من الأعضاء والخلق مثل ما للرجل وله جوف وقلب تنبع منه الحكمة وأن حروف أبي جاد على عدد أعضائه قالوا والألف موضع قدمه لا عوجاجها وذكر الهاء فقال لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمرا عظيما يعرض لهم بالعورة وبأنه قد رآه لعنه الله وأخزاه

وزعم أنه يحيى الموتى باسم الله الأعظم وأراهم أشياء من النيرنجيات والمخاريق وذكر لهم كيف ابتدأ الله الخلق فزعم أن الله كان وحده ولا شيء معه فلما أراد أن يخلق الأشياء تكلم باسمه الأعظم فطار فوقع فوق رأسه على التاج قال وذلك قوله سبح اسم ربك الأعلى سورة الأعلى 1 وذكروا عنه من هذا الجنس أشياء يطول وصفها وقتله خالد بن عبد الله القسري

وذكروا عن المنصورية أصحاب أبي منصور أنهم كانوا يقولون عنه أنه قال إن آل محمد هم السماء والشيعة هم الأرض وأنه هو الكسف الساقط في بنى هاشم وأنه عرج به إلى السماء فمسح معبوده رأسه بيده ثم قال له أي بني اذهب فبلغ عنى ثم نزل به إلى الأرض ويمين أصحابه إذا حلفوا لا والكلمة وزعم أن عيسى بن مريم أول من خلق الله من خلقه ثم علي وأن رسل الله لا تنقطع أبدا وكفر بالجنة والنار وزعم أن الجنة رجل وأن النار رجل واستحل النساء والمحارم وأحل ذلك لأصحابه وزعم أن الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والميسر حلال قال لم يحرم الله ذلك علينا ولا حرم شيئا تقوى به أنفسنا وإنما هذه الأسماء أسماء رجال حرم الله ولا يتهم وتأول في ذلك قول الله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا سورة المائدة 93 وأسقط الفرائض وقال هي أسماء رجال أوجب الله ولا يتهم فأخذه يوسف بن عمر والي العراق في أيام بني أمية فقتله والنصيرية الموجودون في هذه الأزمنة يشبهون هؤلاء في كثير من الوجوه

وذكروا عن الخطابية أصحاب أبي الخطاب بن أبي زينب أنهم يزعمون أن الأئمة أنبياء محدثون ورسل الله وحججه على خلقه لا يزال منهم رسولان واحد ناطق والآخر صامت فالناطق محمد والصامت علي فهم في الأرض اليوم طاعتهم مفترضة على جميع الخلق يعلمون ما كان وما هو كائن وزعموا أن أبا الخطاب نبي وأن أولئك الرسل فرضوا طاعة أبي الخطاب وقالوا الأئمة آلهة وقالوا في أنفسهم مثل ذلك وقالوا ولد الحسين أبناء الله وأحباؤه ثم قالوا ذلك في أنفسهم وتأولوا قول الله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين سورة الحجر 29 قالوا فهو آدم ونحن ولده وعبدوا أبا الخطاب وزعموا أنه إله وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر المنصور فقتله عيسى بن موسى في سبخة الكوفة وهم يتدينون بشهادة الزور لموافقيهم وذكروا عن البزيغية أنهم يقولون إن جعفر بن محمد هو الله وأنه ليس بالذي يرى وأنه يشبه للناس في هذه الصورة وزعموا أن كل محدث في قلوبهم وحى وأن كل مؤمن يوحى إليه

وقال الأشعري وقد قال قائلون بإلهية سلمان الفارسي

قال وفي النساك من الصوفية من يقول بالحلول وأن البارئ يحل في الأشخاص وأنه جائز أن يحل في إنسان وسبع وغير ذلك من الأشخاص وأصحاب هذه المقالة إذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا ندري لعل الله حال فيه ومالوا إلى اطراح الشرائع وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده

قال ومن الغالية من يزعم أن روح القدس هو الله كانت في النبي ﷺ ثم في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في علي بن الحسين ثم في محمد بن علي ثم في جعفر ابن محمد ثم في موسى بن جعفر ثم في علي بن موسى بن جعفر ثم في محمد بن علي بن موسى ثم في علي بن محمد بن علي بن موسى ثم في الحسن بن علي بن محمد بن علي ثم في محمد بن الحسن بن علي بن محمد

قال وهؤلاء آلهة عندهم كل واحد منهم إله على التناسخ والإله عندهم يدخل في الهياكل وهؤلاء هم من الإمامية الإثنى عشرية

قال ومن الغالية صنف يزعمون أن عليا هو الله ويكذبون النبي ﷺ ويشتمونه ويقولون إن عليا وجه به ليبين أمره فادعى الأمر لنفسه

قال ومنهم صنف يزعمون أن الله تعالى في خمسة أشخاص في النبي وعلي والحسن والحسين وفاطمة فهؤلاء آلهة عندهم

ولهم خمسة أضداد أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص ثم منهم من قال إن هذه الأضداد محمودة لأنه لا يعرف فضل الأشخاص الخمسة إلا بأضدادها فهي محمودة من هذا الوجه ومنهم من قال بل هي مذمومة لا تحمد بحال من الأحوال

قال ومنهم صنف يقال لهم السبئية أصحاب عبدالله بن سبأ يزعمون أن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وذكروا عنه أنه قال لعلي أنت أنت

والسبئية يقولون بالرجعة وأن الأموات يرجعون إلى الدنيا وكان السيد الحميري يقول برجعة الأموات وفي ذلك يقول

إلى يوم يؤوب الناس فيه ... إلى دنياهم قبل الحساب .

قال ومنهم صنف يزعمون أن الله وكل الأمور وفوضها إلى محمد ﷺ وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها وأن الله لم يخلق من ذلك شيئا ويقول ذلك كثير منهم في على ويزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع وتهبط عليهم الملائكة وتظهر عليهم أعلام المعجزات ويوحى إليهم

ومنهم من يسلم على السحاب ويقول إذا مرت سحابة إن عليا فيها وفيهم يقول بعض الشعراء

برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب

ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب

فهذا بعض ما نقله الأشعري وغيره عنهم وهو بعض ما فيهم من هذا الباب فإن الإسماعيلية والنصيرية لم يكونوا حدثوا إذ ذاك والنصيرية من نوع الغلاة والإسماعيلية ملاحدة أكفر من النصيرية

ومن شيعة النصيرية من يقول

أشهد ألا إله إلا ... حيدرة الأنزع البطين

ولا حجاب عليه إلا ... محمد الصادق الأمين

ولا طريق إليه إلا ... سلمان ذو القوة المتين

ويقولون إن شهر رمضان أسماء ثلاثين رجلا والثلاثون أسماء ثلاثين امرأة وأن الصلوات الخمس عبارة عن خمسة أسماء وهي علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة إلى أنواع من الكفر الشنيع الذي يطول وصفه

وهذا أمر معلوم فإن أهل العلم متفقون على أن هذه المقالات الغالية في وصف الرب بالعيوب والنقائص المتضمنة تشبيه الخالق بالمخلوق في صفات النقص وتشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية هي أكثر ما يكون في الشيعة باتفاق الناس فلا يوجد في طوائف الأمة أشنع في الحلول والتمثيل والتعطيل مما يوجد فيهم

ولهذا صارت الملاحدة والغالية علمين على بعض من ينتسب إليهم فالملاحدة علم على الإسماعيلية والغالية علم على القائلين بالإلهية في البشر كالنصيرية والمشهور بالغلو وادعاء الإلهية في البشر هم النصارى والغالية من الشيعة وقد يوجد بعض الإلحاد والغلو في غيرهم من النساك وغيرهم لكن الذي فيهم أكثر وأقبح

وإذا كان الأمر كذلك كان الذي يطعن على أهل السنة والجماعة بأن فيهم تجسيما وحلولا ويثنى على طائفة الإمامية إما من أجهل الناس بمقالات شيعته وإما من أعظم الناس ظلما وعدوانا وعدولا عن العدل والإنصاف في المقابلة والموازنة

ثم أهل السنة يطلبون من الإمامية المتأخرين أن يقطعوا سلفهم بالحجج العقلية أو الشرعية وهم عاجزون عن ذلك كما تقدم التنبيه عليه

وهؤلاء المجسمون من الشيعة منهم من أكابر أهل الكلام المتكلمين في جميع أنواعه في الجليل والدقيق ولهم كتب مصنفة

قال الأشعري ورجال الرافضة ومؤلفوا كتبهم هشام بن الحكم وهو قطعى وعلي بن منصور ويونس بن عبدالرحمن القمى والسكاك وأبو الأخوص داود بن أسد البصري

قال وقد انتحلهم أبو عيسى الوراق وابن الراوندي وألف لهم كتبا في الإمامة

الوجه الثاني

أن يقال هذه المقالات التي نقلها لا تعرف عن أحد من المعروفين بمذهب أهل السنة والجماعة لا من أئمة أصحاب أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل لا من أهل الحديث ولا من أهل الرأي فلا يعرف في هؤلاء من قال إن الله جسم طويل عريض عميق وأنه يجوز عليه المصافحة وأن الصالحين من المسلمين يعاينونه في الدنيا فإن كان مقصوده بجماعة الحشوية والمشبهة بعض هؤلاء فهو كذب ظاهر عليهم وهذه كتب هذه الطوائف ورجالهم الأحياء والأموات لا يعرف عن أحد منهم شيء من ذلك بل أئمة هؤلاء الطوائف المعروفون بالعلم فيهم متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا بالعيون وإنما يرى في الآخرة كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت

والمذهب الشائع الظاهر فيهم مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار ومن أنكر ذلك كان مبتدعا عندهم وإن كان في المنتسبين إليهم من يقول ذلك فليس هو قول أئمتهم ولا الذين يفتى بقولهم ومن أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسم القائل والناقل وإلا فكل أحد يقدر على الكذب فقد تبين كذبه فيما نقله عن أهل السنة كما تبين أن تلك الأقوال وما هو أشنع منها من أقوال سلف الإمامية

الوجه الثالث

أن يقال إن الطائفة إنما تتميز باسم رجالها أو بنعت أحوالها فالأول كما يقال النجدات والأزارقة والجهمية والنجارية والضرارية ونحو ذلك والثاني كما يقال الرافضة والشيعة والقدرية والمرجئة والخوارج ونحو ذلك

فأما لفظ الحشوية فليس فيه ما يدل على شخص معين ولا مقالة معينة فلا يدري من هم هؤلاء وقد قيل إن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد فقال كان عبدالله بن عمر حشويا وكان هذا اللفظ في اصطلاح من قاله يريد به العامة الذين هم حشو كما تقول الرافضة عن مذهب أهل السنة مذهب الجمهور

فإن كان مراده بالحشوية طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة دون غيرهم كأصحاب أحمد أو الشافعي أو مالك فمن المعلوم أن هذه المقالات لا توجد فيهم أصلا بل هم يكفرون من يقولها ولو قدر أن بعضها وجد في بعضهم فليس ذلك من خصائصهم بل كما يوجد مثل ذلك في سائر الطوائف

وإن كان مراده بالحشوية أهل الحديث على الإطلاق سواء كانوا من أصحاب هذا أو هذا فاعتقاد أهل الحديث هو السنة المحضة لأنه هو الاعتقاد الثابت عن النبي ﷺ وليس في اعتقاد أحد من أهل الحديث شيء من هذا والكتب شاهدة بذلك

وإن كان مراده بالحشوية عموم أهل السنة والجماعة مطلقا فهذه الأقوال لا تعرف في عموم المسلمين وأهل السنة وجمهور المسلمين لا يظنون أن أحدا قال هذا وإذا كان في بعض جهال العامة من يقول هذا أو أكثر من هذا لم يجز أن يجعل هذا اعتقادا لأهل السنة والجماعة يعابون به وإنما العيب فيما قالته رجال الطائفة وعلماؤها كما ذكرناه عن أئمة الشيعة فإن أئمة الشيعة هم القائلون للمقالات الشنيعة كما قد علم

وأما لفظ المشبهة فلا ريب أن أهل السنة والجماعة والحديث من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم متفقون على تنزيه الله تعالى عن مماثلة الخلق وعلى ذم المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه ومتفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات قال تعالى ليس كمثله شيء فهذا رد على الممثلة وهو السميع البصير سورة الشورى 11 رد على المعطلة

فقولهم في الصفات مبنى على أصلين أحدهما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك

والثاني أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الإختصاص بما له من الصفات فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات

ولكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات مشبها بل المعطلة المحضة الباطنية نفاة الأسماء يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبها فيقولون إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين وكذلك إذا قلنا هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير وإذا قلنا هو رءوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرءوف الرحيم بل قالوا إذا قلنا إنه موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات لاشتراكهما في مسمى الوجود

فقيل لهؤلاء فقولوا ليس بموجود ولا حي

فقالوا أو من قال منهم إذا قلنا ذلك فقد شبهناه بالمعدوم وبعضهم قال ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت

فقيل لهم فقد شبهتموه بالممتنع بل جعلتموه نفسه ممتنعا فإنه كما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين فمن قال إنه موجود معدوم فقد جمع بين النقيضين ومن قال ليس بموجود ولا معدوم فقد رفع النقيضين وكلاهما ممتنع فكيف يكون الواجب الوجود ممتنع الوجود

والذين قالوا لا نقول هذا ولا هذا

قيل لهم عدم علمكم وقولكم لا يبطل الحقائق في أنفسها بل هذا نوع من السفسطة فإن السفسطة ثلاثة أنواع نوع هو جحد الحقائق والعلم بها وأعظم من هذا قول من يقول عن الموجود الواجب القديم الخالق إنه لا موجود ولا معدوم وهؤلاء متناقضون فإنهم جزموا بعدم الجزم

ونوع هو قول المتجاهلة اللاأدرية الواقفة الذين يقولون لا ندري هل ثم حقيقة وعلم أم لا وأعظم من هذا قول من يقول لا أعلم ولا أقول هو موجود أو معدوم أو حي أو ميت

ونوع ثالث قول من يجعل الحقائق تتبع العقائد

فالأول ناف لها والثاني واقف فيها والثالث يجعلها تابعة لظنون الناس

وقد ذكر صنف رابع وهو الذي يقول إن العالم في سيلان فلا يثبت له حقيقة وهؤلاء من الأول لكن هذا يوجبه قولهم

والمقصود هنا أن إمساك الإنسان عن النقيضين لا يقتضى رفعهما وحاصل هذا القول منع القلوب والألسنة والجوارح عن معرفة الله وذكره وعبادته فهو تعطيل وكفر بطريق الوقف والإمساك لا بطريق النفى والإنكار

وأصل ضلال هؤلاء أن لفظ التشبيه لفظ فيه إجمال فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يتفق فيه الشيئان ولكن ذلك المشترك المتفق عليه لا يكون في الخارج بل في الذهن ولا يجب تماثلهما فيه بل الغالب تفاضل الأشياء في ذلك القدر المشترك فأنت إذا قلت عن المخلوقين حي وحي وعليم وعليم وقدير وقدير لم يلزم تماثل الشيئين في الحياة والعلم والقدرة ولا يلزم أن تكون حياة أحدهما وعلمه وقدرته نفس حياة الآخر وعلمه وقدرته ولا أن يكونا مشتركين في موجود في الخارج عن الذهن

ومن هنا ضل هؤلاء الجهال بمسمى التشبيه الذي يجب نفيه عن الله وجعلوا ذلك ذريعة إلى التعطيل المحض والتعطيل شر من التجسيم والمشبه يعبد صنما والمعطل يعبد عدما والممثل أعشى والمعطل أعمى

ولهذا كان جهم إمام هؤلاء وأمثاله يقولون إن الله ليس بشيء وروى عنه أنه قال لا يسمى باسم يسمى به الخالق فلم يسمه إلا بالخالق القادر لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له وربما قالوا ليس بشيء كالأشياء، ولا ريب أن الله تعالى ليس كمثله شيء ولكن ليس مقصودهم إلا أن حقيقة التشبيه منتفية عنه حتى لا يثبتون أمرا متفقا عليه

وتحقيق هذا الموضع بالكلام في معنى التشبيه والتمثيل أما التمثيل فقد نطق الكتاب بنفيه عن الله في غير موضع كقوله تعالى ليس كمثله شيء سورة الشورى 11 وقوله هل تعلم له سميا سورة مريم 65 وقوله ولم يكن له كفوا أحد وقوله فلا تجعلوا لله أندادا سورة البقرة 22 وقوله فلا تضريوا لله الأمثال سورة النحل 74 ولكن وقع في لفظ التشبيه إجمال كما سنبينه إن شاء الله تعالى

وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك فلم ينطق كتاب ولا سنة بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا

وأول من عرف عنه التكلم بذلك نفيا وإثباتا أهل الكلام المحدث من النفاة كالجهمية والمعتزلة ومن المثبتة كالمجسمة من الرافضة وغير الرافضة

فالنفاة نفوا هذه الأسماء وأدخلوا في النفى ما أثبته الله ورسوله من صفات كعلمه وقدرته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه وعلوه وقالوا إنه لا يرى ولا يتكلم بالقرآن ولا غيره ولكن معنى كونه متكلما أنه خلق كلاما في جسم من الأجسام غيره ونحو ذلك

والمثبتة أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله حتى قالوا إنه يرى في الدنيا بالأبصار ويصافح ويعانق وينزل إلى الأرض وينزل عشية عرفة راكبا على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان وقال بعضهم إنه يندم ويبكي ويحزن وعن بعضهم أنه لحم ودم ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين

والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص والله تعالى منزه عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال وليس له مثل في شيء من صفات الكمال فهو منزه عن النقص مطلقا ومنزه في الكمال أن يكون له مثل كما قال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص 1 4 فبين أنه أحد صمد واسمه الأحد يتضمن نفى المثل واسمه الصمد يتضمن جميع صفات الكمال كما قد بينا ذلك في الكتاب المصنف في تفسير قل هو الله أحد

وأما لفظ الجسم فإن الجسم عند أهل اللغة كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما هو الجسد والبدن وقال تعالى وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم سورة المنافقون 4 وقال تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم سورة البقرة 247 فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة والغلظ كلفظ الجسد ثم قد يراد به نفس الغليظ وقد يراد به غلظه فيقال لهذا الثوب جسم أي غلظ وكثافة ويقال هذا أجسم من هذا أي أغلظ وأكثف

ثم صار لفظ الجسم في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك فيسمون الهواء وغيره من الأمور اللطيفة جسما وإن كانت العرب لا تسمى هذا جسما وبينهم نزاع فيما يسمى جسما هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا يتميز منها شيء عن شيء إما جواهر متناهية كما يقوله أكثر القائلين بالجوهر الفرد وإما غير متناهية كما يقوله النظام والتزم الطفرة المعروفة بطفرة النظام أو هو مركب من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما يقوله أكثر الناس وهو قول الهشامية والكلابية والنجارية والضرارية وكثير من الكرامية على ثلاثة أقوال وكثير من الكتب ليس فيها إلا القولان الأولان

والصواب أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما قد بسط في موضعه

وينبني على هذا أن ما يحدثه الله من الحيوان والنبات والمعادن فإنها أعيان يخلقها الله تعالى على قول نفاة الجوهر الفرد وعلى قول مثبتية إنما يحدث أعراضا وصفات وإلا فالجواهر باقية ولكن اختلف تركيبها وينبنى على ذلك الاستحالة

فمثبتة الجوهر الفرد يقولون لا تستحيل حقيقة إلى حقيقة أخرى ولا تنقلب الأجناس بل الجواهر يغير الله عز وجل تركيبها وهي باقية والأكثرون يقولون باستحالة بعض الأجسام إلى بعض وانقلاب جنس إلى جنس وحقيقة إلى حقيقة كما تنقلب النطفة إلى علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة عظاما وكما ينقلب الطين الذي خلق الله منه آدم لحما ودما وعظاما وكما تنقلب المادة التي تخلق منها الفاكهة ثمرا ونحو ذلك وهذا قول الفقهاء والأطباء وأكثر العقلاء

وكذلك ينبنى على هذا تماثل الأجسام فأولئك يقولون الأجسام مركبة من الجواهر وهي متماثلة فالأجسام متماثلة والأكثرون يقولون بل الأجسام مختلفة الحقائق وليست حقيقة التراب حقيقة النار ولا حقيقة النار حقيقة الهواء وهذه المسائل مسائل عقلية لبسطها موضع آخر والمقصود هنا بيان منشأ النزاع في مسمى الجسم

والنظار كلهم متفقون فيما أعلم على أن الجسم يشار إليه وإن اختلفوا في كونه مركبا من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة أو لا من هذا ولا من هذا

وقد تنازع العقلاء أيضا هل يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يمكن أن يرى على ثلاثة أقوال فقيل لا يمكن ذلك بل هو ممتنع وقيل بل هو ممتنع في المحدثات الممكنة التي تقبل الوجود والعدم دون الواجب وقيل بل ذلك ممكن في الممكن والواجب وهذا قول بعض الفلاسفة ومن وافقهم من أهل الملل ما علمت به قائلا من أهل الملل إلا من أخذه عن هؤلاء الفلاسفة

ومثبتو ذلك يسمونها المجردات والمفارقات وأكثر العقلاء يقولون إنما وجود هذه في الأذهان لا في الأعيان وإنما يثبت من ذلك وجود نفس الإنسان التي تفارق بدنه وتتجرد عنه

وأما الملائكة التي أخبرت بها الرسل فالمتفلسفة المنتسبون إلى المسلمين يقولون هي العقول والنفوس المجردات وهي الجواهر العقلية

وأما أهل الملل ومن علم ما أخبر الله به صفات الملائكة فيعلمون قطعا أن الملائكة ليست هذه المجردات التي يثبتها هؤلاء من وجوه كثيرة قد بسطت في غير هذا الموضع فإن الملائكة مخلوقون من نور كما أخبر بذلك النبي ﷺ في الحديث الصحيح

وهم كما قال الله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين سورة الأنبياء 26 2وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم أتوا إبراهيم ولوطا في صورة البشر حتى قدم لهم إبراهيم العجل وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي ﷺ في صورة دحية الكلبي وأتاه مرة في صورة أعرابي حتى رآه الصحابة وقد رآه النبي ﷺ في صورته التي خلق عليها مرتين مرة بين السماء والأرض ومرة في السماء عند سدرة المنتهى

والملائكة تنزل إلى الأرض ثم تصعد إلى السماء كما تواترت بذلك النصوص وقد أنزلها الله يوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق لنصر رسوله والمؤمنين كما قال تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين سورة الأنفال 9 وقال ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها سورة التوبة 26 وقال فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها سورة الأحزاب 9 وقال أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون سورة الزخرف 80 وقال حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون سورة الأنعام 61 وقال الله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم سورة الأنفال ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم سورة الأنعام 93

ومثل هذا في القرآن كثير يعلم ببعضه أن ماوصف الله به الملائكة يوجب العلم الضروري أنها ليست ما يقوله هؤلاء في العقول والنفوس سواء قالوا إن العقول عشرة والنفوس تسعة كما هو المشهور عندهم أو قالوا غير ذلك

وليست الملائكة أيضا القوى العالمة التي في النفوس كما قد يقولونه بل جبريل عليه السلام ملك منفصل عن الرسول يسمع كلام الله من الله وينزل به على رسول الله ﷺ كما دل على ذلك النصوص والإجماع من المسلمين

وهؤلاء يقولون إن جبريل هو العقل الفعال أو هو ما يتخيل في نفس النبي ﷺ من الصور الخيالية وكلام الله ما يوجد في نفسه كما يوجد في نفس النائم

وهذا مما يعلم كل من له علم بما جاء به الرسول أنه من أعظم الأمور تكذيبا للرسول ويعلم أن هؤلاء أبعد عن متابعة رسول الله ﷺ من كفار اليهود والنصارى وهذا مبسوط في مواضع والمقصود هنا الكلام على مجامع ما يعرف به ما أشار إليه هذا من عقائد المسلمين واختلافهم

فإذا عرف تنازع النظار في حقيقة الجسم فلا ريب أن الله سبحانه ليس مركبا من الأجزاء المنفردة ولا من المادة والصورة ولا يقبل سبحانه التفريق والإنفصال ولا كان متفرقا فاجتمع بل هو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد

فهذه المعاني المعقولة من التركيب كلها منتفية عن الله تعالى لكن المتفلسفة ومن وافقهم تزيد على ذلك وتقول إذا كان موصوفا بالصفات كان مركبا وإذا كانت له حقيقة ليست هي مجرد الوجود كان مركبا

فيقول لهم المسلمون المثبتون للصفات النزاع ليس في لفظ المركب فإن هذا اللفظ إنما يدل على مركب ركبه غيره ومعلوم أن عاقلا لا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الاعتبار

وقد يقال لفظ المركب على ما كانت أجزاؤه متفرقة فجمع إما جمع امتزاج وإما غير امتزاج كتركيب الأطعمة والأشربة والأدوية والأبنية واللباس من أجزائها ومعلوم نفى هذا التركيب عن الله ولا نعلم عاقلا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الاعتبار

وكذلك التركيب بمعنى أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وهو التركيب الجسمي عند من يقول به وهذا أيضا منتف عن الله تعالى والذين قالوا إن الله جسم قد يقول بعضهم إنه مركب هذا التركيب وإن كان كثير منهم بل أكثرهم ينفون ذلك ويقولون إنما نعنى بكونه جسما أنه موجود أو أنه قائم بنفسه أو أنه يشار إليه أو نحو ذلك لكن بالجملة هذا التركيب وهذا التجسيم يجب تنزيه الله تعالى عنه

وأما كونه سبحانه ذاتا مستلزمة لصفات الكمال له علم وقدرة وحياة فهذا لا يسمى مركبا فيما يعرف من اللغات وإذا سمى مسم هذا مركبا لم يكن النزاع معه في اللفظ بل في المعنى العقلي ومعلوم أنه لا دليل على نفى هذا كما قد بسط في موضعه بل الأدلة العقلية توجب إثباته

ولهذا كان جميع العقلاء مضطرين إلى إثبات معان متعددة لله تعالى فالمعتزلي يسلم أنه حي عالم قادر ومعلوم أن كونه جسما ليس هو معنى كونه عالما ومعنى كونه عالما ليس معنى كونه قادرا

والمتفلسف يقول إنه عاقل ومعقول وعقل ولذيذ ومتلذذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق ومعلوم بصريح العقل أن كونه يحب ليس هو كونه يعلم وكونه محبوبا معلوما ليس هو معنى كونه محبا عالما والمتفلسف يقول معنى كونه عالما هو معنى كونه قادرا مؤثرا فاعلا وذلك هو نفس ذاته فيجعل العلم هو القدرة وهو الفعل ويجعل القدرة هي القادر والعلم هو العالم والفعل هو الفاعل

وبعض متأخريهم وهو الطوسى ذكر في شرح كتاب الإشارات أن العلم هو المعلوم ومعلوم فساد هذه الأقوال بصريح العقل ومجرد تصورها التام يكفى في العلم بفسادها

وهؤلاء فروا من معنى التركيب وليس لهم قط حجة على نفى مسمى التركيب بجميع هذه المعاني بل عمدتهم أن المركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وربما قالوا الصفة مفتقرة إلى محل والمفتقر إلى محل لا يكون واجبا بنفسه بل يكون معلولا

وهذا الحجة ألفاظها كلها مجملة فلفظ الواجب بنفسه يراد به الذي لا فاعل له فليس له علة فاعلة ويراد به الذي لا يحتاج إلى شيء مباين له ويراد به القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مباين له

وعلى الأول والثاني فالصفات واجبة الوجود وعلى الثالث فالذات الموصوفة بالصفات هي الواجبة والصفة وحدها لا يقال إنها واجبة الوجود

ويراد به مالا تعلق له بغيره وهذا لا وجود له في الخارج

والبرهان إنما قام على أن الممكنات لها فاعل واجب الوجود قائم بنفسه أي عني عما سواه والصفة ليست هي الفاعل

وقوله إذا كانت له ذات وصفات كان مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره

فلفظ الغير مجمل يراد بالغير المباين فالغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود وهذا اصطلاح الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ويراد بالغيرين ما ليس أحدهما الآخر أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر وهذا اصطلاح طوائف من المعتزلة والكرامية وغيرهم

وأما السلف كالإمام أحمد وغيره فلفظ الغير عندهم يراد به هذا ويراد به هذا ولهذا لم يطلقوا القول بأنه علم الله غيره ولا أطلقوا القول بأنه ليس غيره ولا يقولون لا هو هو ولا هو غيره بل يمتنعون عن إطلاق اللفظ المجمل نفيا وإثباتا لما فيه من التلبيس فإن الجهمية يقولون ما سوى الله مخلوق وكلامه غيره فيكون مخلوقا فقال أئمة السنة إذا أريد بالغير والسوى ما هو مباين له فلا يدخل علمه وكلامه في لفظ الغير والسوى كما لم يدخل في قول النبي ﷺ من حلف بغير الله فقد أشرك وقد ثبت في السنة جواز الحلف بصفاته كعزته وعظمته فعلم أنها لا تدخل في مسمى الغير عند الإطلاق وإذا أريد بالغير أنه ليس هو إياه فلا ريب أن العلم ليس هو العالم والكلام ليس هو المتكلم

وكذلك لفظ الإفتقار يراد به افتقار المفعول إلى فاعله ونحو ذلك ويراد به التلازم بمعنى أنه لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر وإن لم يكن أحدهما مؤثرا في الآخر كالأمور المتضايفة مثل الأبوة والبنوة

والمركب قد عرف ما فيه من الاشتراك فإذا قال القائل لو كان عالما لكان مركبا من ذات وعلم فليس المراد به أن هذين كانا مفترقين فاجتمعا ولا أنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بل المراد أنه إذا كان عالما فهناك ذات وعلم قائم بها

وقوله والمركب مفتقر إلى أجزائه فمعلوم أن افتقار المجموع إلى أبعاضه ليس بمعنى أن أبعاضه فعلته أو وجدت دونه وأثرت فيه بل بمعنى أنه لا يوجد إلا بوجود المجموع ومعلوم أن الشيء لا يوجد إلا بوجود نفسه

وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه بهذا المعنى لم يكن هذا ممتنعا بل هذا هو الحق فإن نفس الواجب لا يستغنى عن نفسه

وإذا قيل هو واجب بنفسه فليس المراد أن نفسه أبدعت وجوبه بل المراد أن نفسه موجودة بنفسها لم تفتقر إلى غيره في ذلك ووجوده واجب لا يقبل العدم بحال

فإذا قيل مثلا العشرة مفتقرة إلى العشرة لم يكن في هذا إفتقار لها إلى غيرها وإذا قيل هي مفتقرة إلى الواحد الذي هو جزؤها لم يكن افتقارها إلى بعضها بأعظم من افتقارها إلى المجموع التي هي هو

وإذا لم يكن ذلك ممتنعا بل هو الحق فإنه لا يوجد المجموع إلا بالمجموع فكيف يمتنع أن يقال لا يوجد المجموع إلا بوجود جزئه والدليل إنما دل على أن الممكنات لها مبدع واجب بنفسه خارج عنها أما كون ذلك المبدع مستلزما لصفاته أو لا يوجد إلا متصفا بصفات الكمال فهذا لم تنفه حجة أصلا ولا هذا التلازم سواء سمى فقرا أو لم يسم مما ينفى كون المجموع واجبا قديما أزليا لا يقبل العدم بحال

وأيضا فتسمية الصفات القائمة بالموصوف جزءا له ليس هو من اللغة المعروفة وإنما هو اصطلاح لهم كما سموا الموصوف مركبا بخلاف تسمية الجزء صفة فإن هذا موجود في كلام كثير من الأئمة والنظار كالإمام أحمد وابن كلاب وغيرهما وإلا فحقيقة الأمر أن الذات المستلزمة للصفة لا توجد إلا وهي متصفة بالصفة وهذا حق

وإذا تنزل إلى اصطلاحهم المحدث وسمى هذا جزءا فالمجموع لا يوجد إلا بوجود جزئه الذي هو بعضه

وإذ قيل هو مفتقر إلى بعضه لم يكن هذا إلا دون قول القائل هو مفتقر إلى نفسه الذي هو المجموع وإذا كان لا محذور فيه فهذا أولى

وإذا قيل جزؤه غيره والواجب لا يفتقر إلى غيره

قيل إن أردت أن جزأه مباين له وأنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بوجه من الوجوه فهذا باطل فليس جزؤه غيره بهذا التفسير وإن أردت أنه يمكن العلم بأحدهما دون العلم بالآخر كما نعلم أنه قادر قبل العلم بأنه عالم ونعلم الذات قبل العلم بصفاتها فهو غيره بهذا التفسير وقد علم بصريح العقل أنه لا بد من إثبات معان هي أغيار بهذا التفسير وإلا فكونه قائما بنفسه ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس هو كونه حيا وكونه حيا ليس هو كونه قادرا ومن جعل هذه الصفة هي الأخرى وجعل الصفات كلها هي الموصوف فقد انتهى في السفسطة إلى الغاية وليس هذا إلا كمن قال السواد هو البياض والسواد والبياض هو الأسود والأبيض

ثم هؤلاء الذين نفوا المعاني التي يتصف بها كلهم متناقضون يجمعون في قولهم بين النفي والإثبات وقد جعلوا هذا أساس التعطيل والتكذيب بما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول

فالذين ينفون علمه بالأشياء يقولون لئلا يلزم التكثر والذين ينفون علمه بالجزيئات يقولون لئلا يلزم التغير فيذكرون لفظ التكثر والتغير وهما لفظان مجملان يتوهم السامع أنه تتكثر الآلهة أو أن الرب يتغير ويستحيل من حال إلى حال كما يتغير الإنسان إما بمرض وإما بغيره وكما تتغير الشمس إذا اصفر لونها ولا يدري أنه عندهم إذا أحدث مالم يكن محدثا سموه تغيرا وإذا سمع دعاء عباده سموه تغيرا وإذا رأى ما خلقه سموه تغيرا وإذا كلم موسى بن عمران سموه تغيرا وإذا رضي عمن أطاعه وسخط على من عصاه سموه تغيرا إلى أمثال هذه الأمور

ثم إنهم ينفون ذلك من غير دليل أصلا فإن الفلاسفة يجوزون أن يكون القديم محلا للحوادث لكن من نفى منهم ما نفاه فإنما هو لنفيه الصفات مطلقا وكذلك المعتزلة ولهذا كان الحاذق من هؤلاء وهؤلاء كأبي الحسين البصري وأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهما قد خالفوهم في ذلك وبينوا أنه ليس لهم دليل عقلي ينفى ذلك وأن الأدلة العقلية والشرعية توجب ثبوت ذلك وهذا كله قد بسط في موضع آخر

والمقصود هنا أن من نفى الجسم وأراد به نفى التركيب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فقد أصاب في المعنى ولكن منازعوه يقولون هذا الذي قلته ليس هو مسمى الجسم في اللغة ولا هو أيضا حقيقة الجسم الإصطلاحي فإن الجسم ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا وهو يقول هذا حقيقة الجسم الإصطلاحي وإذا كان منازعوه من لا ينفى التركيب من هذا وهذا فالفريقان متفقان على تنزيه الرب عن ذلك لكن أحدهما يقول نفى لفظ الجسم لا يفيد هذا التنزيه وإنما يفيده لفظ التركيب ونحوه والآخر يقول بل نفى لفظ الجسم يفيد هذا التنزيه

ومن قال هو جسم فالمشهور عن نظار الكرامية وغيرهم ممن يقول هو جسم أنه يفسر ذلك بأنه الموجود أو القائم بنفسه لا بمعنى المركب

وقد اتفق الناس على أن من قال إنه جسم وأراد هذا المعنى فقد أصاب في المعنى لكن إنما يخطئه من يخطئه في اللفظ

أما من يقول الجسم هو المركب فيقول أخطأت حيث استعملت لفظ الجسم في القائم بنفسه أو الموجود

وأما من لا يقول بأن كل جسم مركب فيقول تسميتك لكل موجود أو قائم بنفسه جسما ليس هو موافقا للغة العرب المعروفة ولا تكلم بهذا اللفظ أحد من السلف والأئمة ولا قالوا إن الله جسم فأنت مخطئ في اللغة والشرع وإن كان المعنى الذي أردته صحيحا

فيقول أنا تكلمت بالإصطلاح الكلامي فإن الجسم عند النظار من المتكلمين والفلاسفة هو ما يشار إليه ثم ادعى طائفة منهم أن كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة ونازعهم طائفة أخرى في هذا المعنى وقالوا ليس كل ما يشار إليه هو مركب لا من هذا ولا من هذا فإذا أقام صاحب هذا القول دليلا عقليا على نفى تركيب المشار إليه خصم منازعيه إلا من يقول إن أسماء الله تعالى توقيفية فيقول له ليس لك أن تسميه بذلك

وأما أهل السنة المتبعون للسلف فيقولون كلكم مبتدعون في اللغة والشرع حيث سميتم كل ما يشار إليه جسما فهذا اصطلاح لا يوافق اللغة ولم يتكلم به أحد من سلف الأمة

قال المدعون أن الجسم هو المركب بل قولنا موافق للغة والجسم في اللغة هو المؤلف المركب والدليل على ذلك أن العرب تقول هذا أجسم من هذا عند زيادة الأجزاء والتفضيل إنما يقع بعد الاشتراك في الأصل فعلم أن لفظ الجسم عندهم هو المركب وكلما زاد التركيب قالوا أجسم

فيقال لهم أما كون العرب تقول لما كان أغلظ من غيره أجسم فهذا صحيح مع أن بعض أهل اللغة أنكروا هذا وأما دعواكم أنهم يقولون هذا لأن الجسم مركب من الأجزاء المفردة وكل ما يشار إليه فهو مركب فيسمونه جسما فهذه دعوى باطلة عليهم من وجوه

أحدها أنه قد علم بنقل الثقات عنهم والاستعمال الموجود في كلامهم أنهم لا يسمون كل ما يشار إليه جسما ولا يقولون للهواء اللطيف جسما وإنما يستعملون لفظ الجسم كما يستعملون لفظ الجسد وهكذا نقل عنهم أهل العلم بلسانهم كالأصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهما كما نقله الجوهري في صحاحه وغير الجوهري فلفظ الجسم عندهم يتضمن معنى الغلظ والكثافة لا معنى كونه يشار إليه

الوجه الثاني

أنهم لم يقصدوا بذلك كونه مركبا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة بل لم يخطر هذا بقلوبهم بل إنما قصدوا معنى الكثافة والغلظ وأما كون الكثافة والغلظ تكون بسبب كثرة الجواهر المفردة أو بسبب كون الشيء في نفسه غليظا كثيفا كما يكون حارا وباردا وإن لم تكن حرارته وبرودته بسبب كونه مركبا من الجواهر الفردة فالجسم له قدر وصفات وليست صفاته لأجل الجواهر فكذلك قدره فهذا ونحوه من البحوث العقلية الدقيقة لم تخطر ببال عامة من تكلم بلفظ الجسم من العرب وغيرهم

الوجه الثالث

أنه من المعلوم أن اللفظ المشهور في اللغة الذي يتكلم به الخاص والعام ويقصدون معناه لا يجوز أن يكون معناه مما يخفى تصوره على أكثر الناس ويقف العلم بصحة ذلك المعنى على أدلة دقيقة عقلية ويتنازع فيها العقلاء فإن الناطقين به جميعهم متفقون على إرادة المعنى الذي يدل اللفظ عليه في اللغة وما كان دقيقا لا يفهمه أكثر الناس لا يكون مراد الناطقين به وكذلك ما كان متنازعا فيه ولهذا قال من قال من الأصوليين اللفظ المشهور لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعلمه إلا خواص الناس كلفظ الحركة ونحوه

ومعلوم أن لفظ الجسم مشهور في لغة العرب مع عدم تصور أكثرهم للتركيب وعدم علمهم بدليل التركيب وإنكار كثير منهم للتركيب من الجواهر الفردة والمادة والصورة وهذا مما يعلم به قطعا أنه ليس موضوعه في اللغة ما تنازع فيه النظار ومعرفته تتوقف على النظر والأدلة الخفية

الوجه الرابع

أنهم لو قصدوا التركيب فإنما قصدوه فما كان غليظا كثيفا فدعوى المدعى عليهم أنهم يسمون كل ما يشار إليه جسما ويقولون مع ذلك إنه مركب دعوتان باطلتان

وجمهور المسلمين الذين يقولون ليس بجسم يقولون من قال إنه جسم وأراد بذلك أنه موجود أو قائم بنفسه أو نحو ذلك أو قال إنه جوهر وأراد بذلك أنه قائم بنفسه فهو مصيب في المعنى لكن أخطأ في اللفظ

وأما إذا أثبت أنه مركب من الجواهر الفرده ونحو ذلك فهو مخطئ في المعنى وفي تكفيره نزاع بينهم

ثم القائلون بأن الجسم مركب من الجواهر الفردة قد تنازعوا في مسماه فقيل الجوهر الواحد بشرط انضمام غيره إليه يكون جسما وهو قول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما

وقيل بل الجوهران فصاعدا وقيل بل أربعة فصاعدا وقيل بل ستة فصاعدا وقيل بل ثمانية فصاعدا وقيل بل ستة عشر وقيل بل اثنان وثلاثون وقد ذكر عامة هذه الأقوال الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين

فقد تبين أن في هذا اللفظ من المنازعات اللفظية اللغوية والإصطلاحية والعقلية والشرعية ما يبين أن الواجب على المسلمين الإعتصام بالكتاب والسنة كما أمرهم الله تعالى بذلك في قوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا سورة آل عمران 103 وقوله تعالى ألمص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون سورة الأعراف 1 3 وقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله سورة الأنعام 153 وقوله كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سورة البقرة 213 وقوله يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا سورة النساء 59 61 وقوله فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه 123 126 قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية ومثل هذا كثير من الكتاب والسنة وهذا مما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها

فالواجب أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله ورسوله أثبتناه وما نفاه الله ورسوله نفيناه والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفى فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني وننفى ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني وأما الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين مثل لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك فلا تطلق نفيا ولا إثباتا حتى ينظر في مقصود قائلها فإن كان قد أراد بالنفى والإثبات معنى صحيحا موافقا لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد بها والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها وأما إن أريد بها معنى باطل نفى ذلك المعنى

=======






منهاج السنة النبوية/15










وإن جمع بين حق وباطل أثبت الحق وأبطل الباطل

وإذا اتفق شخصان على معنى وتنازعا هل يدل ذلك اللفظ عليه أم لا عبر عنه بعبارة يتفقان على المراد بها وكان أقربهما إلى الصواب من وافق اللغة المعروفة كتنازعهم في لفظ المركب هل يدخل فيه الموصوف بصفات تقوم به وفي لفظ الجسم هل مدلوله في اللغة المركب أو الجسد أو نحو ذلك

وأما لفظ المتحيز فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة سورة الأنفال 16 وهذا لابد أن يحيط به حيز وجودي ولا بد أن ينتقل من حيز إلى حيز ومعلوم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته فلا يكون متحيزا بهذا المعنى اللغوي

وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا فيجعلون كل جسم متحيزا والجسم عندهم ما يشار إليه فتكون السماوات والأرض وما بينهما متحيزا على اصطلاحهم وإن لم يسم ذلك متحيزا في اللغة

والحيز تارة يريدون به معنى موجودا وتارة يريدون به معنى معدوما ويفرقون بين مسمى الحيز ومسمى المكان فيقولون المكان أمر وجودي والحيز تقدير مكان عندهم فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود فلا تكون في مكان وهي عندهم متحيزة ومنهم من يتناقض فيجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما كالرازي وغيره كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

فمن تكلم باصطلاحهم وقال إن الله متحيز بمعنى أنه أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطئ فهو سبحانه بائن من خلقه وما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق وإذا كان الخالق بائنا عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق وامتنع أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار

وإن أراد بالحيز أمرا عدميا فالأمر العدمي لا شيء وهو سبحانه بائن عن خلقه فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزا وقال يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزا فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن خلقه كما قد بسط في غير هذا الموضوع

وهما مما احتج به سلف الأمة وأئمتها على الجهمية كما احتج به الإمام أحمد في رده على الجهمية وعبد العزيز الكناني وعبدالله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وغيرهم وبينوا أنه سبحانه كان موجودا قبل أن يخلق السماوات والأرض فلما خلقهما فإما أن يكون قد دخل فيهما أو دخلت فيه وكلاهما ممتنع فتعين أنه بائن عنهما وقرروا ذلك بأنه يجب أن يكون مباينا لخلقه أو مداخلا له

والنفاة يدعون وجود موجود لا يكون مباينا لغيره ولا مداخلا له وهذا ممتنع في بداية العقول لكن يدعون أن القول بامتناع ذلك هو من حكم الوهم لا من حكم العقل ثم إنهم تناقضوا فقالوا لو كان فوق العرش لكان جسما لأنه لا بد أن يتميز ما يلي هذا الجانب عما يلي هذا الجانب

فقال لهم أهل الإثبات معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا بمداخل له فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى

وإذا قلتم نفى هذا الثاني من حكم الوهم الباطل

قيل لكم فنفى الأول أولى أن يكون من حكم الوهم الباطل وإن قلتم إن نفى الأول من حكم العقل المقبول فنفى الثاني أولى أن يكون من حكم العقل المقبول

وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه

وكذلك الكلام في لفظ الجهة فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى ويراد به أمر عدمى كما وراء العالم

فإذا أريد الثاني أمكن أن يقال كل جسم في جهة وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر

فمن قال الباري في جهة وأراد بالجهة أمرا موجودا فكل ما سواه مخلوق له ومن قال إنه في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ

وإن أراد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العالم وقال إن الله فوق العالم فقد أصاب وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات

وأما إذا فسرت الجهة بالأمر العدمي فالعدم لا شيء

وهذا ونحوه من الإستفسار وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه

فإذا قال نافي الرؤية: لو رؤى لكان في جهة وهذا ممتنع فالرؤية ممتنعة

قيل له إن أردت بالجهة أمرا وجوديا فالمقدمة الأولى ممنوعة وإن أردت بها أمرا عدميا فالثانية ممنوعة فيلزم بطلان إحدى المقدمتين على كل تقدير فتكون الحجة باطلة

وذلك أنه إن أراد بالجهة أمرا وجوديا لم يلزم أن يكون كل مرئى في جهة وجودية فإن سطح العالم الذي هو أعلاه ليس في جهة وجودية ومع هذا تجوز رؤيته فإنه جسم من الأجسام فبطل قولهم كل مرئى لا بد أن يكون في جهة وجودية إن أراد بالجهة أمرا وجوديا

وإن أراد بالجهة أمرا عدميا منع المقدمة الثانية فإنه إذا قال الباري ليس في جهة عدمية وقد علم ان العدم ليس بشيء كان حقيقة قوله إن الباري لا يكون موجودا قائما بنفسه حيث لا موجودا إلا هو وهذا باطل

وإن قال

هذا يستلزم أن يكون جسما أو متحيزا عاد الكلام معه في مسمى الجسم والمتحيز

فإن قال

هذا يستلزم أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وغيره ذلك من المعاني الممتنعة على الرب لم يسلم له هذا التلازم

وإن قال

يستلزم أن يكون الرب مشارا إليه ترفع الأيدي إليه في الدعاء وتعرج الملائكة والروح إليه وعرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إليه وتنزل الملائكة من عنده وينزل منه القرآن ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بها الكتاب والسنة وما كان في معناها

قيل له

لا نسلم انتفاء هذه اللوازم

فإن قال

ما استلزم هذه اللوازم فهو جسم

قيل

إن أردت أنه يسمى جسما في اللغة أو في الشرع فهذا باطل

وإن أردت أنه يكون جسما مركبا من المادة والصورة أو من الجواهر المفردة فهذا أيضا ممنوع في العقل فإن ما هو جسم باتفاق العقلاء كالأحجار لا نسلم أنه مركب بهذا الاعتبار كما قد بسط في موضعه فما الظن بغير ذلك

وتمام ذلك بمعرفة البحث العقلي في تركيب الجسم الإصطلاحي من هذا وهذا وقد بسط في غير هذا الموضع وبين فيه أن قول هؤلاء وهؤلاء باطل مخالف للأدلة العقلية القطعية ولكن هذا الإمامي لم يذكر هنا من الأدلة ما يصل به إلى آخر البحث وقد ذكر في كلامه ما يناسب

هذا الموضع ومن شرع في تقرير ما ذكره بالمقدمات الممنوعة شرع معه في نقضها وإبطالها بمثل ذلك ولكل مقام مقال

وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع وبين أن ما تنفيه نفاة الصفات التي نطق بها الكتاب والسنة في علو الله سبحانه وتعالى على خلقه وغير ذلك كما أنه لم ينطق بما ذكروه كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قال بقولهم أحد من المرسلين ولا الصحابة والتابعين ولم يدل عليه أيضا دليل عقلي بل الأدلة العقلية الصريحة موافقة للأدلة السمعية الصحيحة ولكن هؤلاء ضلوا بألفاظ متشابهة ابتدعوها ومعان عقلية لم يميزوا بين حقها وباطلها

وجميع البدع كبدع الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية لها شبه في نصوص الأنبياء بخلاف بدع الجهمية النفاة فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي أصلا ولهذا كانت آخر البدع حدوثا في الإسلام ولما حدثت أطلق السلف والأئمة القول بتكفير أهلها لعلمهم بأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق ولهذا يصير محققوهم إالى مثل قول فرعون مقدم المعطلة بل وينتصرون له ويعظمونه وهؤلاء المعطلة ينفون نفيا مفصلا ويثبتون شيئا مجملا يجمعون في بين النقيضين وأما الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيثبتون إثباتا مفصلا وينفون نفيا مجملا يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل وينفون عنه التمثيل

وقد علم أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي تسميها النفاة تجسيما ومع هذا فلم ينكر رسول الله ﷺ وأصحابه على اليهود شيئا من ذلك ولا قالوا أنتم مجسمون

بل كان أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبي ﷺ شيئا من الصفات أقرهم الرسول على ذلك وذكر ما يصدقه كما في حديث الحبر الذي ذكر له إمساك الرب سبحانه وتعالى للسماوات والأرض المذكور في تفسير قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره الآية سورة الزمر 6وقد ثبت ما يوافق حديث الحبر في الصحاح عن النبي ﷺ من غير وجه من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما

ولو قدر بأن النفى حق فالرسل لم تخبر به ولم توجب على الناس اعتقاده فمن اعتقده وأوجبه فقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن دينه مخالف لدين النبي ﷺ
فصل

ومما يبين الأمر في ذلك أن المسلمين متفقون على تنزيه الله تعالى عن العيوب والنقائص وأنه متصف بصفات الكمال لكن قد ينازعون في بعض الأمور هل النقص إثباتها أو نفيها وفي طريق العلم بذلك

فهذا المصنف الإمامي اعتمد على طريق المعتزلة ومن تابعهم من أن الإعتماد في تنزيه الرب عن النقائص على نفى كونه جسما ومعلوم أن هذه الطريقة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا هي مأثورة عن أحد من السلف فقد علم أنه لا أصل لها في الشرع وجمهور أصحابها يسلمون ذلك لكن يدعون أنها معلومة من جهة العقل

فقال لهم القادحون في طريقهم هذا أيضا باطل فإنه لا يمكن تنزيه الله تعالى عن شيء من النقائص والعيوب لاستلزام ذلك كونه جسما فإنه ما من صفة يقول القائل إنها تستلزم التجسيم إلا والقول فيما أثبته كالقول فيما نفاه

وهو لا بد أن يثبت شيئا وإلا لزم أن ينفى الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فأي صفة قال فيها إنها لا تكون إلا لجسم أمكن أن يقال له مثل ذلك فيما أثبته وإن كانت تلك صفة نقص فلو أراد أن ينزه الله تعالى عن الجهل والعجز والنوم وغير ذلك فإن هذه الصفات لا تكون إلا للأجسام قيل هل له وما تثبته أنت من الأسماء أو الأحكام أو الصفات لا تكون إلا للأجسام

ولهذا كان من رد بهذه الطريق على الواصفين لله بالعيوب والنقائص كلامهم متناقض ولهذا لم يعتمد الله ولا رسوله ولا أحد من سلف الأمة فيما ينكرونه على اليهود وغيرهم ممن وصف الله تعالى بشيء من النقائص كالبخل والفقر واللغوب والصاحبة والولد والشريك على هذه الطريق

ثم إن كثيرا ممن يسلك هذه الطريق حتى من الصفاتية يقولون إن كون الرب منزها عن النقص متصفا بالكمال مما لا نعرفه بالعقل بل بالسمع وهو الإجماع الذي استند إليه

وهؤلاء لا يبقى عندهم طريق عقلي ينزهون الله تعالى به عن شيء من النقائص والإجماع الذي اعتمدوا عليه إنما ينفع في الجمل دون التفاصيل التي هي محل نزاع بين المسلمين فإنه يمتنع أن يحتج بالإجماع في موارد النزاع ثم الإجماع يستندون فيه إلى بعض النصوص ودلالة النصوص على صفات الكمال أظهر وأكثر وأقطع من دلالة النصوص على كون الإجماع حجة

وإذا عرف ضعف أصول النفاة للصفات فيما ينزهون عنه الرب فهؤلاء الرافضة طافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب فعمدتهم في العقليات على عقليات باطلة وفي السمعيات على سمعيات باطلة ولهذا كانوا من أضعف الناس حجة وأضيقهم محجة وكان الأكابر من أئمتهم متهمين بالزندقة والإنحلال كما يتهم غير واحد من أكابرهم

والمقصود هنا أن هذا الباب تكلم الناس فيه بألفاظ مجملة مثل التركيب والإنقسام والتجزئة والتبعيض ونحو ذلك والقائل إذا قال إن الرب تعالى ليس بمنقسم ولا متجزئ ولا متبعض ولا مركب ونحو ذلك فهذا إذا أريد به ما هو المعروف من معنى ذلك في اللغة فلا نزاع بين المسلمين أن الله منزه عن ذلك فلا يجوز أن يقال إنه مركب من أجزاء متفرقة سواء قيل إنه مركب بنفسه أو ركبه غيره ولا أنه مركب يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض وإن لم يكن كان متفرقا فاجتمع كما يقال ذلك في الأجسام فإنه سبحانه وإن كان خلق الحيوان والنبات فأنشأه شيئا بعد شيء لم تكن يد الإنسان ورجله ورأسه متفرقة فجمع بينها بل خلق هذه الأعضاء جملة لكن يمكن تفريق بعضها عن بعض فيمتنع أن يقال إن الله سبحانه وتعالى يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض بهذا الاعتبار فهذان معنيان متفق عليهما لا أعلم مسلما له قول في الإسلام قال بخلاف ذلك

وإن قال إن المراد بالتركيب أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وبالإنقسام والتجزئة أنه مشتمل على هذه الأجزاء فجمهور العقلاء يقولون إن هذه المخلوقات المشار إليها كالشمس والقمر والأفلاك والهواء والنار والتراب ليست مركبة لا هذا التركيب ولا هذا التركيب وكيف برب العالمين

فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المخلوق المشار إليه الذي هو عال على غيره كعلو السماء على الأرض إذا كان جمهور العقلاء يقولون إنه ليس مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ وهي الجواهر المنفردة عند القائلين بها ولا من المادة والصورة كان منعهم أن يكون رب العالمين مركبا من هذا وهذا أولى

وأما من قال إن هذه الأعيان المشار إليها مركبة من هذا وهذا فكثير منهم كالمعتزلة والأشعرية ينفون عن الرب تعالى هذا التركيب ولكن كثير من شيوخ الكلام يقولون إن الله تعالى جسم فإذا كان من هؤلاء من يقول إن الجسم مركب من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة فقد يقول إنه مركب بهذا الاعتبار وبهذا

وهذا القول باطل عند جماهير المسلمين لكن جمهور العقلاء ينكرون هذاالتركيب في المخلوقات فهم في الخالق أشد إنكارا ومن قال إن المشار إليه المخلوق مركب هذا التركيب فهؤلاء يحتاجون في نفى ذلك عن الرب إلى برهان عقلي يبين امتناع مثل ذلك فإن منازعيهم الذين يقولون بثبوت مثل هذا المعنى الذي جعلوه تركيبا يقولون إنه لا برهان لهم على نفيه بل المقدمات التي وافقونا عليها من إثبات مثل هذا التركيب في الشاهد يدل على ثبوته في الغائب كما في نظائر ذلك مما يستدل به على الغائب بالشاهد

وبين الطائفتين في هذا منازعات عقلية ولفظية ولغوية قد بسطت في غير هذا الموضع

وأما جمهور العقلاء مع السلف والأئمة فعندهم أن الطائفتين مخطئتان وتنزيه الرب عن ذلك تبين بالعقل مع الشرع كما بين من غير سلوك الشبهات الفاسدة

وأما إذا قيل المراد بالإنقسام أو التركيب أن يتميز منه شيء عن شيء مثل تميز علمه عن قدرته أو تميز ذاته عن صفاته أو تميز ما يرى منه عما لا يرى كما قاله السلف في قوله تعالى لا تدركه الأبصار سورة الأنعام 103 قالوا لا تحيط به وقيل لابن عباس رضي الله عنه أليس الله تعالى يقول لا تدركه الأبصار قال ألست ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا فذكر أن الله يرى ولا يدرك أي لا يحاط به ونحو ذلك

فهذا الإمتياز على قسمين أحدهما امتياز في علم العالم منا بأن نعلم شيئا ولا نعلم الآخر فهذا أيضا لا يمكن العاقل أن ينازع فيه بعد فهمه وإن قدر أن فيه نزاعا فإن الإنسان قد يعلم أنه موجود قبل أن يعلم أنه عالم ويعلم أنه قادر قبل أن يعلم أنه مريد ونحو ذلك

فما من أحد من الناس إلا وهو يعلم شيئا ولا يعلم الآخر فالإمتياز في علم الناس بين ما يعلم وما لا يعلم مما لا يمكن عاقلا المنازعة فيه إلا أن يكون النزاع لفظيا أو يتكلم الإنسان بما لا يتصور حقيقة قوله

فهذا الوجه من الإمتياز متفق على إثباته كما أن الأول متفق على نفيه وأما الإمتياز في نفس الأمر من غير قبول تفرق وانفصال كتميز العلم عن القدرة وتميز الذات عن الصفة وتميز السمع عن البصر وتميز ما يرى منه عما لا يرى ونحو ذلك وثبوت صفات له وتنوعها فهذا مما تنفيه الجهمية نفاة الصفات وهو مما أنكر السلف والأئمة نفيهم له كما ذكر ذلك أئمة المسلمين المصنفين في الرد على الجهمية كالإمام أحمد رضي الله عنه في رده على الجهمية وغيره من أئمة المسلمين ولكن ليس في أئمة المسلمين من قال إن الرب مركب من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة

وقد تنازع النظار في الأجسام المشهودة هل هي مركبة من جواهر أو من أجزاء أو لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال

فمن قال إن المخلوق ليس مركبا لا من هذا ولا هذا فالخالق أولى أن لا يكون مركبا

ومن قال إن المخلوق مركب فهو بين أمرين إما أن ينفى التركيب عن الرب سبحانه ويحتاج إلى دليل وأدلتهم على ذلك ضعيفة وإما أن يثبت تركيبه من هذا وهذا وهو قول سخيف فكلا القولين النفى والإثبات ضعيف لضعف الأصل الذي اشتركوا فيه

وهذا الموضع من محارات كثير من العقلاء في صفات المخلوق والخالق مثال ذلك الثمرة كالتفاحة والأترجة لها لون وطعم وريح وهذه صفات قائمة بها ولها أيضا حركة فمن النظار من قال صفاتها ليست أمورا زائدة على ذاتها ويجعل لفظ التفاحة يتناول هذا كله ومنهم من يقول بل صفاتها زائدة على ذاتها

وهذا في التحقيق نزاع لفظي فإن عنى بذاتها ما يتصوره الذهن من الذات المجردة فلا ريب أن صفاتها زائدة على هذه الذات وإن عنى بذاتها الذات الموجودة في الخارج فتلك متصفة بالصفات لا تكون داتا موجودة في الخارج إلا إذا كانت متصفة بصفاتها اللازمة لها فتقديرها في الخارج منفكة عن الصفات حتى يقال هل الصفات زائدة عليها أو ليست زائدة تقدير ممتنع والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع

وقد حكى عن طائفة من النظار كعبدالرحمن بن كيسان الأصم وغيره أنهم أنكروا وجود الأعراض في الخارج حتى أنكروا وجود الحركة والأشبه والله أعلم أنه لم ينقل قولهم على وجهه فإن هؤلاء أعقل من أن يقولوا ذلك وعبدالرحمن الأصم وإن كان معتزليا فإنه من فضلاء الناس وعلمائهم وله تفسير ومن تلاميذه إبراهيم بن إسماعيل بن علية ولإبراهيم مناظرات في الفقه وأصوله مع الشافعي وغيره

وفي الجملة فهؤلاء من أذكياء الناس وأحدهم أذهانا وإذا ضلوا في مسألة لم يلزم أن يضلوا في الأمورالظاهرة التي لا تخفى على الصبيان

وهذا كما أن الأطباء وأهل الهندسة من أذكياء الناس ولهم علوم صحيحة طبية وحسابية وإن كان ضل منهم طوائف في الأمور الإلهية فذلك لا يستلزم أن يضلوا في الأمور الواضحة في الطب والحساب فمن حكى عن مثل أرسطو أو جالينوس أو غيرهما قولا في الطبيعيات ظاهر البطلان علم أنه غلط في النقل عليه وإن لم يكن تعمد الكذب عليه

بل محمد بن زكريا الرازي مع إلحاده في الإلهيات والنبوات ونصرته لقول ديمقراطيس والحرنانيين القائلين بالقدماء الخمسة مع أنه من أضعف أقوال العالم وفيه من التناقض والفساد ما هو مذكور في موضع آخر كشرح الأصبهانية والكلام على معجزات الأنبياء والرد على من قال إنها قوى نفسانية المسماة بالصفدية وغير ذلك فالرجل من أعلم الناس بالطب حتى قيل له جالينوس الإسلام فمن ذكر عنه في الطب قولا يظهر فساده لمبتدئ الأطباء كان غالطا عليه وكذلك عبدالرحمن بن كيسان وأمثاله لا ينكر أن يكون للثمرة طعما ولونا وريحا وهذا من المراد بالأعراض في اصطلاح النظار فكيف يقال إنهم أنكروا الأعراض

بل إذا قالوا إن الأعراض ليست صفات زائدة على الجسم بمعنى أن الجسم اسم للذات التي قامت بها الأعراض فالعرض داخل في مسمى الجسم وهذا مما يمكن أن يقوله هؤلاء وأمثالهم

ثم رأيت أبا الحسين البصري وهو أحذق متأخري المعتزلة قد ذكر في تصفيح الأدلة والأجوبة هذا المعنى وذكر أن مرادهم هو هذا المعنى وذكر من كلامهم ما يبين ذلك فاختار هو هذا وأثبت الأحوال التي يسميها غيره أعراضا زائدة وعاد جمهور النزاع إلى أمور لفظية

وإذا كان كذلك فمن المعلوم أنا نحن نميز بين الطعم واللون والريح بحواسنا فنجد الطعم بالفم ونرى اللون بالعين ونشم الرائحة بالأنف كما نسمع الصوت بالأذن فهنا الآلات التي تحس بها هذه الأعراض مختلفة فينا يظهر اختلافها في أنفسها لاختلاف الآلات التي تدركها بخلاف ما يقوم بأنفسنا من علم وإرادة وحب فإنا لا نميز بين هذا وهذا بحواس مختلفة وإن كان أدلة العلم بذلك مختلفة فالأدلة قد تكون أمورا منفصلة عن المستدل

فهذا مما يقع به الفرق بين الصفات المدركة بالحس والصفات المعلومة بالعقل وإلا فمعلوم أن اتصاف الأترجة والتفاحة بصفاتها المتنوعة هو أمر ثابت في نفسه سواء وجدنا ذلك أو لم نجده ومعلوم أن طعمها نفسه ليس هو لونها ولونها ليس هو ريحها وهذا كلها صفات قائمة بها متنوعة بحقائقها وإن كان محلها الموصوف بها واحدا

ثم الصفات نوعان نوع لا يشترط فيه الحياة كالطعم واللون والريح ونوع يشترط فيه الحياة كالعلم والإرادة والسمع والبصر

فأما الأول فحكمه لا يتعدى محله فلا يتصف باللون والريح والطعم إلا ما قام به ذلك وأما هذا الثاني فقد تنازع فيه النظار لما رأوا أن الإنسان يوصف بأنه عالم قادر مريد والعلم والإرادة لم تقم بعقبه ولا بظهره وإنما هو قائم بقلبه

فمنهم من قال الأعراض المشروطة بالحياة يتعدى حكمها محلها فإذا قامت بجزء من الجملة وصف بها سائر الجملة كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم

ومنهم من يقول بل الموصوف بذلك جزء منفرد في القلب

ومنهم من يقول بل حكمها لا يتعدى محلها وإنه بكل جزء من أجزاء البدن حياة وعلم وقدرة

ومن هؤلاء من يقول لا يشترط في قيام هذه الأعراض بالجوهر الفرد البنية المخصوصة كما يقوله الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي أحمد وغيرهم وهؤلاء بنوا هذا على ثبوت الجوهر الفرد وهو أساس ضعيف فإن القول به باطل كما قد بسط في موضعه

ثم من المتفلسفة المشائين من ادعى أن محل العلم من الإنسان ما لا ينقسم ومعنى ذلك عندهم أن النفس الناطقة لا يتميز منها شيء عن شيء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يصعد ولا ينزل ولا يدخل في البدن ولا غيره من العالم ولا يخرج منه ولا يقرب من شيء ولا يبعد منه

ثم منهم من يدعى أنها لا تعلم الجزئيات وإنما تعلم الكليات كما يذكر ذلك عن ابن سينا وغيره وكان أعظم ما اعتمدوا عليه من المعلومات ما لا ينقسم فالعلم به لا ينقسم لأن العلم مطابق للمعلوم فمحل العلم لا ينقسم لأن ما ينقسم لا يحل في منقسم

وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين بعض ما في هذا الكلام من الغلط مع أن هذا عندهم هو البرهان القاطع الذي لا يمكن نقضه وقواهم على ذلك أن بعض من عارضهم كأبي حامد والرازي لم يجيبوا عنه بجواب شاف بل أبو حامد قد يوافقهم على ذلك

ومنشأ النزاع إثبات ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه في الوجود الخارجي

فيقال لهم

لا نسلم أن في الوجود ما لا يتميز منه شيء عن شيء

فإذا قالوا: النقطة

قيل لهم: النقطة والخط والسطح الواحد والإثنان والثلاثة قد يراد بها هذه المقادير مجردة عن موصوفاتها وقد يراد بها ما اتصف بها من المقدرات في الخارج

فإذا أريد الأول فلا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان فليس في الخارج عدد مجرد عن المعدود ولا مقدار مجرد عن المقدر لا نقطة ولا خط ولا سطح ولا واحد ولا اثنان ولا ثلاثة بل الموجودات المعدودات كالدرهم والحبة والإنسان والمقدرات كالأرض التي لها طول وعرض وعمق فما من سطح إلا وله حقيقة يتميز بها عن غيره من السطوح كما يتميز التراب عن الماء وكا يتميز سطوح كل جسم عن سطوح الآخر

وإن قالوا

ما لا ينقسم هي العقول المجردة التي تثبتها الفلاسفة كان دون إثبات هذه خرط القتادة فلا يتحقق منها إلا ما يقدر في الأذهان لا ما يوجد في الأعيان

والملائكة التي وصفتها الرسل وأمروا بالإيمان بها بينها وبين هذه المجردات من أنواع الفرقان ما لا يخفى إلا على العميان كما قد بسط في غير هذا المكان

وإن أرادوا بما لا ينقسم واجب الوجود وقالوا إنه واحد لا ينقسم ولا يتجزأ

قيل

إن أردتم بذلك نفى صفاته وأنه ليس لله حياة وعلم وقدرة تقوم به فقد علم أن جمهور المسلمين وسائر أهل الملل بل وسائر عقلاء بني آدم من جميع الطوائف يخالفونكم في هذا

وهذا أول المسألة وأنتم وكل عاقل قد يعلم بعض صفاته دون بعض والمعلوم هو غير ما ليس بمعلوم فكيف ينكر أن يكون له معان متعددة

وأدلة إثبات الصانع كثيرة ليس هذا موضعها فلم قلتم بإمكان وحود مثل هذا في الخارج فضلا عن تحقيق وجوده وقد عرف فساد حجتكم على نفى الصفات وإن سميتم ذلك توحيدا فحينئذ الواحد الذي لا يتميز منه شيء عن شيء لم يعلم ثبوته في الخارج حتى يحتج على أن العلم به كذلك والعالم به كذلك

وقد احتج بعضهم على وجود ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه بأن قالوا الوجود في الخارج إما بسيط وإما مركب والمركب لا بد له من بسيط

وهذا ممنوع فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب من هذا البسيط الذي أثبتموه وإنما الموجود الأجسام البسيطة وهو ما يشبه بعضه بعضا كالماء والنار والهواء ونحو ذلك

وأما ما لا يتميز منه شيء عن شيء فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب منه بل لا موجود إلا ما يتميز منه شيء عن شيء

وإذا قالوا

فذلك الشيء هو البسيط

قيل لهم

وذلك إنما يكون بعضا من غيره لا يعلم مفردا ألبتة كما لا يوجد مفردا ألبتة

ثم يقال

من المعلوم أن بدن الإنسان ينقسم بالمعنى الذي يذكرونه ويتميز منه شيء عن شيء والحياة والحس سار في بدنه فما المانع أن تقوم الحياة والعلم بالروح كما قامت الحياة والحس بالبدن وإن كان البدن منقسما عندكم

وإن قلتم: الحياة والحس منقسم عندكم

قيل: إن أردتم بذلك أنه يمكن كون البعض حيا حساسا مع مفارقة البعض قيل هذا لا يطرد بل قد يذهب بعضه وتبقى الحياة والحس في بعضه وقد تذهب الحياة والحس عن بعضه بذهاب ذلك عن البعض كما في القلب

وعلى التقديرين فالحياة والحس يتسع باتساع محله والأرواح متنوعة وما يقوم بها من العلم والإرادة وغير ذلك يتنوع بتنوعها فما عظم من الموصوفات عظمت صفاتها وما كان دونها كانت صفاته دونه

وأيضا فالوهم عندهم قوة جسمانية قائمة بالجسم مع أنها تدرك في المحسوس ما ليس بمحسوس كالصداقة والعداوة وذلك المعنى مما لا ينقسم بانقسام محله عندهم

وأيضا فقوة الإبصار التي في العين قائمة بجسم ينقسم عندهم مع أنها لا تنقسم بانقسام محلها بل الاتصال شرط فيها فلو فسد بعض محلها فسدت ولا يبقى بعضها مع فساد أي بعض كان فما كان المانع أن يكون قيام الحياة والعلم والقدرة والإرادة ببعض الروح إذا قيل يتميز بعضها عن بعض مشروطا بقيامه بالبعض الآخر بحيث يكون الاتصال شرطا في هذا الإتصاف كما يوجد ذلك في الحياة والحس في بعض البدن لا تقوم به الحياة والحس إلا إذا كان متصلا نوعا من الاتصال

وبسط الكلام في كثير من هذه الأمور يتعلق بالكلام على روح الإنسان التي تسمى النفس الناطقة وعلى اتصافها بصفاتها فبهذا يستعين الإنسان على الكلام في الصفات الإلهية وبذلك يستعين على ما يرد عليه من الشبهات وقد تكلمنا على ذلك في مواضع

والناس قد تنازعوا في روح الإنسان هل هي جسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة أو جوهر لا يقبل الصعود والنزول والقرب والبعد ونحو ذلك وكلا القولين خطأ كما ذكر في غير هذا الموضع

وأضعف من ذلك قول من يجعلها عرضا من أعراض البدن كالحياة والعلم

وقد دخل في الأول قول من قال إن الإنسان ليس هو إلا هذه الجمل المشاهدة وهي البدن ومن قال إنها الريح التي تتردد في مخاريق البدن ومن قال إنها الدم ومن قال إنها البخار اللطيف الذي يجري في مجاري الدم وهو المسمى بالروح عند الأطباء ومن قال غير ذلك

والثاني قول من يقول بذلك من المتفلسفة ومن وافقهم من النظار

وقد ينظر الإنسان في كتب كثيرة من المصنفة في هذه الأمور ويجد في المصنف أقوالا متعددة والقول الصواب لا يجده فيها

ومن تبحر في المعارف تبين له خلاصة الأمور وتحقيقها هو ما أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى في جميع هذه الأمور لكن إطالة القول في هذا الباب لا يناسب هذا الكتاب وإنما المقصود التنبيه على أن ما تشنع به الرافضة على أهل السنة من ضعيف الأقوال هم به أخلق والضلال بهم أعلق ولكن لا بد من جمل يهتدى بها إلى الصواب

وباب التوحيد والأسماء والصفات مما عظم فيه ضلال من عدل عما جاء به الرسول إلى ما يظنه من المعقول وليست المعقولات الصريحة إلا بعض ما أخبر به الرسول يعرف ذلك من خبر هذا وهذا
فصل

وهذا الموضع أشكل على كثير من الناس لفظا ومعنى أما اللفظ فتنازعوا في الأسماء التي تسمى الله بها وتسمى بها عباده كالموجود والحي والعليم والقدير فقال بعضهم هي مقولة بالاشتراك اللفظي حذرا من إثبات قدر مشترك بينهما لأنهما إذا اشتركا في مسمى الوجود لزم أن يمتاز الواجب عن الممكن بشيء آخر فيكون مركبا وهذا قول بعض المتأخرين كالشهرستاني والرازي في أحد قوليهما وكالآمدي مع توقفه أحيانا وقد ذكر الرازي والآمدي ومن اتبعهما هذا القول عن الأشعري وأبي الحسين البصري وهو غلط عليهما وإنما ذكروا ذلك لأنهما لا يقولان بالأحوال ويقولان وجود كل شيء عين حقيقته فظنوا أن من قال وجود كل شيء عين حقيقته يلزمه أن يقول إن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي عليهما لأنه لو كان متواطئا لكان بينهما قدر مشترك فيمتاز أحدهما عن الآخر بخصوص حقيقته والمشترك ليس هو المميز فلا يكون الوجود المشترك هو الحقيقة المميزة والرازي والآمدي ونحوهما ظنوا أنه ليس في المسألة إلا هذا القول وقول من يقول بأن اللفظ متواطئ ويقول وجوده زائد على حقيقته كما هو قول أبي هاشم وأتباعه من المعتزلة والشيعة أو قول ابن سينا بأنه متواطئ أو مشكك مع أنه الوجود المقيد بسلب كل أمر ثبوتي عنه

وذهب من ذهب من القرامطة الباطنية وغلاة الجهمية إلى أن هذه الأسماء حقيقة في العبد مجاز في الرب قالوا هذا في اسم الحي ونحوه حتى في اسم الشيء كان الجهم وأتباعه لا يسمونه شيئا وقيل عنه إنه لم يسمه إلا بالقادر الفاعل لأن العبد عنده ليس بقادر ولا فاعل فلا يسميه باسم يسمى به العبد وذهب أبو العباس الناشئ إلى ضد ذلك فقال إنها حقيقة للرب مجاز للعبد

وزعم ابن حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدل على المعاني فلا يدل عليم على علم ولا قدير على قدرة بل هي أعلام محضة وهذا يشبه قول من يقول بأنها تقال بالاشتراك اللفظي

وأصل غلط هؤلاء شيئان إنا نفى الصفات والغلو في نفى التشبيه وإما ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج

فالأول هو مأخذ الجهمية ومن وافقهم على نفى الصفات قالوا إذا قلنا عليم يدل على علم وقدير يدل على قدرة لزم من إثبات الأسماء إثبات الصفات وهذا مأخذ ابن حزم فإنه من نفاة الصفات مع تعظيمه للحديث والسنة والإمام أحمد ودعواه أن الذي يقوله في ذلك هو مذهب أحمد وغيره

وغلطه في ذلك بسبب أنه أخذ أشياء من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه ولم يتفق له من يبين له خطأهم ونقل المنطق بالإسناد عن متى الترجمان وكذلك قالوا إذا قلنا موجود وموجود وحي وحي لزم التشبيه فهذا أصل غلط هؤلاء

وأما الأصل الثاني فمنه غلط الرازي ونحوه فإنه ظن أنه إذا كان هذا موجودا وهذا موجودا والوجود شامل لهما كان بينهما وجود مشترك كلى في الخارج فلا بد من مميز يميز هذا عن هذا والمميز إنما هو الحقيقة فيجب أن يكون هناك وجود مشترك وحقيقة مميزة

ثم إن هؤلاء يتناقضون فيجعلون الوجود ينقسم إلى واجب وممكن أو قديم ومحدث كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة كلفظ سهيل القول على سهيل الكوكب وعلى سهيل بن عمرو فإن تلك لا يقال فيها إن هذا ينقسم إلى كذا وكذا ولكن يقال إن هذا اللفظ يطلق على هذا المعنى وعلى هذا المعنى وهذا أمر لغوي لا تقسيم عقلي

وهناك تقسيم عقلي تقسيم المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام مورد التقسيم مشترك بين الأقسام وقد ظن بعض الناس أنه يخلص من هذا بأن يجعل لفظ الوجود مشككا لكون الوجود الواجب أكمل كما يقال في لفظ السواد والبياض المقول على سواد القار وسواد الحدقة وبياض الثلج وبياض العاج

ولا ريب أن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها بل أكثرها كذلك وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي ولهذا كان من الناس من قال هو نوع من المتواطئ لأن واضع اللغة لم يضع اللفظ العام بإزاء التفاوت الحاصل لأحدهما بل بإزاء القدر المشترك

وبالجملة فالنزاع في هذا لفظي فالمتواطئة العامة تتناول المشككة وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة وإذ جعلت المتواطئة نوعين متواطئا عاما وخاصا كما جعل الإمكان نوعين عاما وخاصا زال اللبس

والمقصود هنا أن يعرف أن قول جمهور الطوائف من الأولين والآخرين أن هذه الأسماء عامة كلية سواء سميت متواطئة أو مشككة ليست ألفاظا مشتركة اشتراكا لفظيا فقط وهذا مذهب المعتزلة والشيعة والأشعرية والكرامية وهو مذهب سائر المسلمين أهل السنة والجماعة والحديث وغيرهم إلا من شذ

وأما الشبه التي أوقعت هؤلاء فجوابها من وجهين تمثيل وتخييل أما التمثيل فأن يقال القول في لفظ الوجود كالقول في لفظ الحقيقة والماهية والنفس والذات وسائر الألفاظ التي تقال على الواجب والممكن بل تقال على كل موجود

فهم إذا قالوا يشتركان في الوجود ويمتاز أحدهما عن الآخر بحقيقته

قيل لهم القول في لفظ الحقيقة كالقول في لفظ الوجود فإن هذا له حقيقة وهذا له حقيقة كما أن لهذا وجودا ولهذا وجودا وأحدهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به كما هو ممتاز عنه بحقيقته التي تختص به فقول القائل إنهما يشتركان في مسمى الوجود ويمتاز كل واحد منهما بحقيقته التي تخصه كما لو قيل هما مشتركان في مسمى الحقيقة ويمتاز كل منهما بوجوده الذي يخصه

وإنما وقع الغلط لأنه اخذ الوجود مطلقا لا مختصا وأخذت الحقيقة مختصة لا مطلقة ومن المعلوم أن كلا منهما يمكن أن يوجد مطلقا ويمكن أن يوجد مختصا فإذا أخذا مطلقين تساويا في العموم وإذا أخذا مختصين تساويا في الخصوص وأما أخذ أحدهما عاما والآخر مختصا فليس هذا بأولى من العكس

وأما حل الشبهة فهو أنهم توهموا أنه إذا قيل إنهما مشتركان في مسمى الوجود يكون في الخارج وجود مشترك هو نفسه في هذا وهو نفسه في هذا فيكون نفس المشترك فيهما والمشترك لا يميز فلا بد له من مميز

وهذا غلط فإن قول القائل يشتركان في مسمى الوجود أي يشتبهان في ذلك ويتفقان فيه فهذا موجود وهذا موجود ولم يشرك أحدهما الآخر في نفس وجوده ألبتة وإذا قيل يشتركان في الوجود المطلق الكلي فذاك المطلق الكلي لا يكون مطلقا كليا إلا في الذهن فليس في الخارج مطلق كلي يشتركان فيه بل هذا له حصة منه وهذا له حصة منه وكل من الحصتين ممتازة عن الأخرى

ومن قال المطلق جزء من المعين والموجود جزء من هذا الموجود والإنسان جزء من هذا الإنسان إن أراد به أن المعين يوصف به فيكون صفة له ومع كونه صفة له فما هو صفة له لا توجد عينه لآخر فهذا معنى صحيح ولكن تسمية الصفة جزء الموصوف ليس هو المفهوم منها عند الإطلاق

وإن أريد أن نفس ما في المعين من وجود أو إنسان هو في ذلك بعينه فهذا مكابرة

وإن قال إنما أردت أن النوع في الآخر عاد الكلام في النوع فإن النوع أيضا كلى

والكليات الخمسة كليات الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام والقول فيها واحد فليس فيها ما يوجد في الخارج كليا مطلقا ولا تكون كلية مطلقة إلا في الأذهان لا في الأعيان وما يدعى فيها من عموم وكلية أو من تركيب كتركيب النوع من الجنس والفصل هي أمور عقلية ذهنية لا وجود لها في الخارج فليس في الخارج شيء يعم هذا وهذا ولا في الخارج إنسان مركب من هذا وهذا بل الإنسان موصوف بهذا وهذا وهذا بصفة يوجد نظيرها في كل إنسان وبصفة يوجد نظيرها في كل حيوان وبصفة يوجد نظيرها في كل نام

وأما نفس الصفة التي قامت به ونفس الموصوف الذي قامت به الصفة فلا اشتراك فيه أصلا ولا عموم ولا هو مركب من عام وخاص

وهذا الموضع منشأ زلل كثير من المنطقيين في الكليات وكثير من المتكلمين في مسألة الحل وبسبب ذلك غلط من غلط من هؤلاء وهؤلاء في الإلهيات فيما يتعلق بهذا فإن المتكلمين أيضا رأوا أن الأشياء تتفق بصفات وتختلف بصفات والمشترك عين المميز فصاروا حزبين حزبا أثبت هذه الأمور في الخارج لكنه قال لا موجودة ولا معدومة لأنها لو كانت موجودة لكانت أعيانا موجودة أو

صفات للأعيان ولو كانت كذلك لم يكن فيها اشتراك وعموم فإن صفة الموصوف الموجودة لا يشركه فيها غيره

وآخرون علموا أن كل موجود مختص بصفة فقالوا لا عموم ولا اشتراك إلا في الألفاظ دون المعاني

والتحقيق أن هذه الأمور العامة المشترك فيها هي ثابتة في الأذهان وهي معاني الألفاظ العامة فعمومها بمنزلة عموم الألفاظ فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى والمعنى عام وعموم اللفظ يطابق عموم المعنى وعموم الخط يطابق عموم اللفظ

وقد اتفق الناس على أن العموم يكون من عوارض الألفاظ وتنازعوا هل يكون من عوارض المعاني فقيل يكون أيضا من عوارض المعاني كقولهم مطر عام وعدم عام وخصب عام

وقيل بل ذلك مجاز لأن المطر الذي حل بهذه البقعة ليس هو المطر الذي حل بهذه البقعة وكذلك الخصب والعدل

والتحقيق أن معنى المطر القائم بقلب المتكلم عام كعموم اللفظ سواء بل اللفظ دليل على ذلك المعنى فكيف يكون اللفظ عاما دون معناه الذي هو المقصود بالبيان فأما المعاني الخارجية فليس فيها شيء بعينه عام وإنما العموم للنوع كعموم الحيوانية للحيوان والإنسانية للإنسان

فمسألة الكليات والأحوال وعروض العموم لغير الألفاظ من جنس واحد ومن فهم الأمر على ما هو عليه تبين له أنه ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا

وإذا قال نوعه موجود أو الكلى الطبيعي موجود أو الحقيقة موجودة أو الإنسانية من حيث هي موجودة ونحو هذه العبارات فالمراد به أنه وجد في هذا نظير ما وجد في هذا أو شبهه ومثله ونحو ذلك

والمتماثلان يجمعهما نوع واحد وذلك النوع هو الذي بعينه يعم هذا ويعم هذا لا يكون عاما مطلقا كليا إلا في الذهن وأنت إذا قلت الإنسانية موجودة في الخارج والكلى الطبيعي موجود في الخارج كان صحيحا بمعنى أن ما تصوره الذهن كليا يكون في الخارج لكنه إذا كان في الخارج لا يكون كليا كما أنك إذا قلت زيد في الخارج فليس المراد هذا اللفظ ولا المعنى القائم في الذهن بل المراد المقصود بهذا اللفظ موجود في الخارج ومن هنا تنازع الناس في مسألة الاسم والمسمى ونزاعهم شبيه بهذا النزاع وأنت إذا نظرت في الماء أو المرآة فقلت هذه الشمس أو هذا القمر فهو صحيح وليس مرادك أن نفس ما في السماء حصل في الماء أو المرآة ولكن ذلك شوهد في المرآة وظهر في المرآة وتجلى في المرآة

فإذا قلت الكليات في الخارج فصحيح أو الإنسان من حيث هو في الخارج فصحيح لكن لا يكون في الخارج إلا مقيدا مخصوصا لا يشركه في نفس الأمر شيء من الموجودات الخارجية

وبهذا ينحل كثير من المواضع التي اشتبهت على كثير من المنطقيين وغلطوا فيها مثل زعمهم أن الماهية الموجودة في الخارج غير الوجود فإنك تتصور المثلث قبل أن تعلم وجوده وبنوا على ذلك الفرق بين الصفات الذاتية واللازمة العرضية وغير ذلك من مسائلهم

ولا ريب أن الفرق ثابت بين ما هو في الذهن وما هو في الخارج فإذا جعلت الماهية اسما لما في الذهن والوجود اسما لما في الخارج فالفرق ثابت كما لو جعل الوجود اسما لما في الذهن والماهية اسما لما في الخارج

لكن لما كان لفظ الماهية مأخوذا من قول السائل ماهو وجواب هذا هو المقول في جواب ما هو وذلك كلام يتصور معناه المجيب عبر بالماهية عن الصور الذهنية وأما الوجود فهو تحقق الشيء في الخارج

لكن هؤلاء لم يقتصروا على هذا بل زعموا أن ما هيات الأشياء ثابتة في الخارج وأنها غير الأعيان الموجودة وهذا غلط بالضرورة فإن المثلث الذي تعرفه قبل أن تعرف وجوده في الخارج هو المثلث المتصور في الذهن الذي لا وجود له في الخارج وإلا فمن الممتنع أن تعلم حقيقة المثلث الموجود في الخارج قبل أن تعلم وجوده في الخارج فما في الخارج لا تعلم حقيقته حتى تعلم وجوده وما علمت حقيقته قبل وجوده لم يكن له حقيقة بعد إلا في الذهن ومن هذا الباب ظن من ظن من هؤلاء أن لنا عددا مجردا في الخارج أو مقدارا مجردا في الخارج وكل هذا غلط وهذا مبسوط في موضع آخر وإنما نبهنا هنا على هذا لأن كثيرا من أكابر أهل النظر والتصوف والفلسفة والكلام ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية ضلوا في مسألة وجود الخالق التي هي رأس كل معرفة والتبس الأمر في ذلك على من نظر في كلامهم لأجل هذه الشبهة وقد كتبنا في مسألة الكليات كلاما مبسوطا مختصا بذلك لعموم الحاجة وقوة المنفعة وإزالة الشبهة بذلك

وبهذا يتبين غلط النفاة في لفظ التشبيه فإنه يقال الذي يجب نفيه عن الرب تعالى اتصافه بشيء من خصائص المخلوقين كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق أو أن يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب وأما إذا قيل حي وحي وعالم وعالم وقادر وقادر أو قيل لهذا قدرة ولهذا قدرة ولهذا علم ولهذا علم كان نفس علم الرب لم يشركه فيه العبد ونفس علم العبد لا يتصف به الرب تعالى عن ذلك وكذلك في سائر الصفات بل ولا يماثل هذ هذا وإذا اتفق العلماء في مسمى العلم والعالمان في مسمى العالم فمثل هذا التشبيه ليس هو المنفى لا بشرع ولا بعقل ولا يمكن نفى ذلك إلا بنفى وجود الصانع

ثم الموجود والمعدوم قد يشتركان في أن هذا معلوم مذكور وهذا معلوم مذكور وليس في إثبات هذا محذور فإن المحذور إثبات شيء من خصائص أحدهما للآخر وقولنا إثبات الخصائص إنما يراد إثبات مثل تلك الخاصة وإلا فإثبات عينها ممتنع مطلقا

فالأسماء والصفات نوعان نوع يختص به الرب مثل الإله ورب العالمين ونحو ذلك فهذا لايثبت للعبد بحال ومن هنا ضل المشركون الذين جعلوا لله أندادا

والثاني ما يوصف به العبد في الجملة كالحي والعالم والقادر فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلا فإنه لو ثبت له مثل ما يثبت له للزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه وذلك يستلزم اجتماع النقيضين كما تقدم بيانه

وإذا قيل

فهذا يلزم فيما اتفقا فيه كالوجود والعلم والحياة

قيل

هذه الأمور لها ثلاثة اعتبارات

أحدها ما يختص به الرب فهذا ما يجب له ويجوز ويمتنع عليه ليس للعبد فيه نصيب

والثاني

ما يختص بالعبد كعلم العبد وقدرته وحياته فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم لم يتعلق ذلك بعلم الرب وقدرته وحياته فإنه لا اشتراك فيه

والثالث

المطلق الكلى وهو مطلق الحياة والعلم والقدرة فهذا المطلق ما كان واجبا له كان واجبا فيهما وما كان جائزا عليه كان جائزا عليهما وما كان ممتنعا عليه كان ممتنعا عليهما

فالواجب أن يقال هذه صفة كمال حيث كانت فالحياة والعلم والقدرة صفة كمال لكل موصوف والجائز عليهما اقترانهما بصفة أخرى كالسمع والبصر والكلام فهذه الصفات يجوز أن تقارن هذه في كل محل اللهم إلا إذا كان هناك مانع من جهة المحل لا من جهة الصفة وأما الممتنع عليهما فيمتنع أن تقوم هذه الصفات إلا بموصوف قائم بنفسه وهذا ممتنع عليها في كل موضع فلا يجوز أن تقوم صفات الله بأنفسها بل بموصوف وكذلك صفات العباد لا يجوز أن تقوم بأنفسها بل بموصوف

وإذا تبين هذا فقول هذا المصنف وأشباهه قول المشبهة

إن أراد بالمشبهة من أثبت من الأسماء ما يسمى به الرب والعبد فطائفته وجميع الناس مشبهة

وإن أراد به من جعل صفات الرب مثل صفات العبد فهؤلاء مبطلون ضالون وهم في الشيعة أكثر منهم في غيرهم وليس هؤلاء طائفة معينة من أهل السنة والجماعة

وإن قال

أردت به من يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين والاستواء ونحو ذلك

قيل له أولا

ليس هي هؤلاء من التشبيه ما امتازوا به عن غيرهم فإن هؤلاء يصرحون بأن صفات الله ليست كصفات الخلق وأنه منزه عما يختص بالمخلوقين من الحدوث والنقص وغير ذلك فإن كان هذا تشبيها لكون العباد لهم ما يسمى بهذه الأسماء كان جميع الصفاتية مشبهة بل والمعتزلة والفلاسفة أيضا مشبهة لأنهم يقولون حي عليم قدير ويقولون موجود وحقيقة وذات ونفس والفلاسفة تقول عاقل ومعقول وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق وغير ذلك من الأسماء الموجودة في المخلوقات

وإن قال

سموا مشبهة لأنهم يقولون إنه جسم والأجسام متماثلة بخلاف من أثبت الصفات ولم يقل هو جسم

قيل أولا

هذا باطل لأنك ذكرت الكرامية قسما غيرهم والكرامية تقول إنه جسم

وقيل لك ثانيا

لا يطلق لفظ الجسم إلا أئمتك الإمامية ومن وافقهم

وقيل لك ثالثا

فهذا مبنى على تماثل الأجسام وأكثر العقلاء يقولون إنها ليست متماثلة والقائلون بتماثلها من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وطائفة من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ليست لهم حجة على تماثلها أصلا كما قد بسط ذلك في موضعه وقد اعترف بذلك فضلاؤهم حتى الآمدي في كتاب أبكار الأفكار اعترف بأنه لا دليل لهم على تماثل الأجسام إلا تماثل الجواهر ولا دليل لهم على تماثل الجواهر والأشعري في الإبانة جعل هذا القول من أقوال المعتزلة التي أبطلها

وسواء كان تماثلها حقا أو باطلا فمن قال إنه جسم كهشام بن الحكم وابن كرام لا يقول بتماثل الأجسام فإنهم يقولون إن حقيقة الله تعالى ليست مثل شيء من الحقائق فهم أيضا ينكرون التشبيه فإذا وصفوا به لاعتقاد الواصف أنه لازم لهم أمكن كل طائفة أن يصفوا الأخرى بالتشبيه لاعتقادها أنه لزم لها فالمعتزلة والشيعة توافقهم على أن أخص وصف الرب هو القدم وأن ما شاركه في القدم فهو مثله فإذا أثبتنا صفة قديمة لزم التشبيه وكل من أثبت صفة قديمة فهو مشبه وهم يسمون جميع من أثبت الصفات مشبها بناء على هذا

فإن قال هذا الإمامي فأنا ألتزم هذا

قيل له تناقضت لأنك أخرجت الأشعرية والكرامية عن المشبهة في اصطلاحك فأنت تتكلم بألفاظ لا تفهم معناها ولا موارد استعمالها وإنما تقوم بنفسك صورة تبني عليها

وكأنك والله أعلم عنيت بالحشوية المشبهة من ببغداد والعراق من الحنبلية ونحوهم أو الحنبلية دون غيرهم وهذا من جهلك فإنه ليس للحنبلية قول انفردوا به عن غيرهم من طوائف أهل السنة والجماعة بل كل ما يقولونه قد قاله غيرهم من طوائف أهل السنة بل يوجد في غيرهم من زيادة الإثبات ما لا يوجد فيهم

ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة ومتنازعون في إجماع من بعدهم

وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة والصبر في المحنة فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على من امتحنه ليفارقها وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخروا الرافضة وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة حتى تهددوا بعضهم بالقتل وقيدوا بعضهم وعاقبوهم وأخذوهم بالرهبة والرغبة وثبت الإمام أحمد بن حنبل على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم ولم يأتوا بما يوجب موافقته لهم بل بين خطأهم فيما ذكروه من الأدلة وكانوا قد طلبوا له أئمة الكلام من أهل البصرة وغيرهم مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وأمثاله ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية وأنواع المرجئة فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا لكن جهم أشد تعطيلا لأنه ينفى الأسماء والصفات والمعتزلة تنفى الصفات دون الأسماء

وبشر المريسى كان من المرجئة لم يكن من المعتزلة بل كان من كبار الجهمية وظهر للخليفة المعتصم أمرهم وعزم على رفع المحنة حتى ألح عليه ابن أبي دؤاد يشير عليه إنك إن لم تضر به وإلا انكسر ناموس الخلافة فضربه فعظمت الشناعة من العامة والخاصة فأطلقوه

ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة للصفات وصنف الناس في ذلك مصنفات

وأحمد وغيره من علماء أهل السنة والحديث مازالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة ولكن بسبب المحنة كثر الكلام ورفع الله قدر هذا الإمام فصار إماما من أئمة السنة وعلما من أعلامها لقيامه بإعلامها وإظهارها واطلاعه على نصوصها وآثارها وبيانه لخفى أسرارها لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا

ولهذا قال بعض شيوخ المغرب المذهب لمالك والشافعي والظهور لأحمد يعنى أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد وهو كما قال فتخصيص الكلام من أحمد وأصحابه في مسائل الإمامة والاعتزال كتخصيصه بالكلام معه في مسائل الخوارج الحرورية بل في نبوة نبينا ﷺ والرد على اليهود والنصارى

والخطاب بتصديق الرسول فيما أخبر به وطاعته فيما أمر به قد شمل جميع العباد ووجب على كل أحد فأسعدهم أطوعهم لله وأتبعهم لرسول الله وإذا قدر أن في الحنبلية أو غيرهم من طوائف أهل السنة من قال أقوالا باطلة لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك بل يرد على من قال ذلك الباطل وتنصر السنة بالدلائل

ولكن الرافضي أخذ ينكت على كل طائفة بما يظن أنه يجرحها به في الأصول والفروع ظانا أن طائفته هي السليمة من الجرح

وقد اتفق عقلاء المسلمين على أنه ليس في طائفة من طوائف أهل القبلة أكثر جهلا وضلالا وكذبا وبدعا وأقرب إلى كل شر وأبعد عن كل خير من طائفته ولهذا لما صنف الأشعري كتابه في المقالات ذكر أولا مقالتهم وختم بمقالة أهل السنة والحديث وذكر أنه بكل ما ذكر من أقوال أهل السنة والحديث يقول وإليه يذهب

وتسمية هذا الرافضي وأمثاله من الجهمية معطلة الصفات لأهل الإثبات مشبهة كتسميتهم لمن أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة ناصبيا بناء على اعتقادهم فإنهم لما اعتقدوا أنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة من هؤلاء جعلوا كل من لم يتبرأ من هؤلاء ناصبيا كما أنهم لما اعتقدوا أن القدمين متماثلان أو أن الجسمين متماثلان ونحو ذلك قالوا إن مثبتة الصفات مشبهة

فيقال لمن قال هذا إن كان مرادك بالنصب والتشبيه بغض علي وأهل البيت وجعل صفات الرب مثل صفات العبد فأهل السنة ليسوا ناصبية ولا مشبهة

وإن كنت تريد بذلك أنهم يوالون الخلفاء ويثبتون صفات الله تعالى فسم هذا بما شئت إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان

والمدح والذم إنما يتعلق بالأسماء إذا كان لها أصل في الشرع كلفظ المؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل ثم من أراد أن يمدح أو يذم فعليه أن يبين دخول الممدوح والمذموم في تلك الأسماء التي علق الله ورسوله بها المدح والذم فأما إذا كان الاسم ليس له أصل في الشرع ودخول الداخل فيه مما ينازع فيه المدخل بطلت كل من المقدمتين وكان هذا الكلام مما لا يعتمد عليه إلا من لا يدري ما يقول

والكتاب والسنة ليس فيه لفظ ناصبية ولا مشبهة ولا حشوية ولا فيه أيضا لفظ رافضة ونحن إذا قلنا رافضة نذكره للتعريف لأن مسمى هذا الاسم يدخل فيه أنواع مذمومة بالكتاب والسنة من الكذب على الله ورسوله وتكذيب الحق الذي جاء به رسوله ومعاداة أولياء الله بل خيار أوليائه وموالاة اليهود والنصارى والمشركين كما تبين وجوه الذم

وأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعمهم معنى مذموم في الكتاب والسنة بحال كما يعم الرافضة نعم يوجد في بعضهم ما هو مذموم ولكن هذا لا يلزم منه ذمهم كما أن المسلمين إذا كان فيهم من هو مذموم لذنب ركبه لم يستلزم ذلك ذم الإسلام وأهله القائمين بواجباته

الوجه الرابع

أن يقال أما القول بأنه جسم أو ليس بجسم فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام والنظر وهي مسألة عقلية وقد تقدم أن الناس فها على ثلاثة أقوال نفي وإثبات ووقف وتفصيل وهذا هو الصواب الذي عليه السلف والأئمة

ولهذا لما ذكر أبو عيسى برغوث لأحمد هذا في مناظرته إياه وأشار إلى أنه إذا قلت إن القرآن غير مخلوق لزم أن يكون الله جسما لأن القرآن صفة وعرض ولا يكون إلا بفعل والصفات والأعراض والأفعال لا تقوم إلا بالأجسام أجابة الإمام أحمد بأنا نقول إن الله أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأن هذا الكلام لا يدرى مقصود صاحبه به فلا نطلقه لا نفيا ولا أثباتا أما من جهة الشرع فلأن الله ورسوله وسلف الأمة لم يتكلموا بذلك لا نفيا ولا إثباتا فلا قالوا هو جسم ولا قالوا هو ليس بجسم

ولما سلك من سلك في الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام ودخلوا في هذا الكلام ذم السلف الكلام وأهله حتى قال أبو يوسف من طلب الدين بالكلام تزندق وقال الشافعي حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وقال لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خيرا له من أن يبتلى بالكلام وقد صنفت في ذمهم مصنفات مثل كتاب أبي عبد الرحمن السلمي وكتاب شيخ الإسلام الأنصاري وغير ذلك

وأما من جهة العقل فلأن هذا اللفظ مجمل يدخل فيه نافيه معاني يجب أثباتها لله ويدخل فيه مثبته ما ينزه الله تعالى عنه فإذا لم يدر مراد المتكلم به لم ينف ولم يثبت وإذا فسر مراده قبل الحق وعبر عنه بالعبارات الشرعية ورد الباطل وإن تكلم بلفظ لم يرد عن الشارع للحاجة إلى إفهام المخاطب بلغته مع ظهور المعنى الصحيح لم يكن بذلك بأس فإنه يجوز ترجمة القرآن والحديث للحاجة إلى الإفهام وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له صحة القول وفساده وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول

وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب ترى أحدهم يذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ بلغتهم وبين به بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك وأذعنوا له كالتركي والبربري والرومي والفارسي الذي يخاطبه بالقرآن العربي ويفسره فلا يفهمه حتى يترجم له شيئا بلغته فيعظم سروره وفرحه ويقبل الحق ويرجع عن باطله لأن المعاني التي جاء بها الرسول أكمل المعاني وأحسنها وأصحها لكن هذا يحتاج إلى كمال المعرفة لهذا ولهذا كالترجمان الذي يريد أن يكون حاذقا في فهم اللغتين

وهذا الإمامي يناظر في ذلك أئمته كهشام بن الحكم وأمثاله ولا يمكنه أن يقطعهم بوجه من الوجوه كما لا يمكنه أن يقطع الخوارج بوجه من الوجوه وإن كان في قول الخوارج والمجسمة من الفساد ما فيه فلا يقدر أن يدفعه إلا أهل السنة

ونحن نذكر مثالا فنقول أهل السنة متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة لم يتنازع أهل السنة إلا في رؤية النبي ﷺ مع أن أئمة السنة على أنه لم يره أحد بعينه في الدنيا مطلقا وقد ذكر عن طائفة أنهم يقولون إن الله يرى في الدنيا وأهل السنة يردون على هذا بالكتاب والسنة مثل استدلالهم بأن موسى عليه السلام منع منها فمن هو دونه أولى وبقول النبي ﷺ واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت رواه مسلم في صحيحه وروى هذا عن النبي ﷺ من وجوه متعددة وبطرق عقلية كبيانهم عجز الأبصار في الدنيا عن الرؤية ونحو ذلك

وأما هذا وأمثاله فليست لهم على هؤلاء حجة لا عقلية ولا شرعية فإن عمدتهم في نفى الرؤية أنه لو رئى لكان في جهة ولكان جسما وهؤلاء يقولون إنه يرى في الدنيا بل يقولون إنه في جهة وهو جسم

فإن أخذوا في الاستدلال على نفى الجهة ونفى الجسم كان منتهاهم معهم إلى أنه لا تقوم به الصفات وهؤلاء يقولون تقوم به الصفات فإن استدلوا على ذلك كان منتهاهم معهم إلى أن الصفات أعراض وما قامت به الأعراض محدث وهؤلاء يقولون تقوم به الأعراض وهو قديم والأعراض عند هؤلاء تقوم بالقديم

فإن قالوا: الجسم لا يخلو عن الحركة أو السكون وما لا يخلو عنهما فهو محدث لامتناع حوادث لا أول لها فهذا منتهى ما عند المعتزلة وأتباعهم من الشيعة

قال لهم أولئك: لا نسلم أن الجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون الوجوديي بل يجوز خلوه عن الحركة لأن السكون عدم الحركة مطلقا وعدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها فيجوز ثبوت جسم قديم ساكن لا يتحرك

وقالوا لهم: لا نسلم امتناع حوادث لا أول لها وطعنوا في أدلة نفى ذلك بالمطاعن المعروفة حتى حذاق المتأخرين كالرازي وأبي الحسن الآمدي وأبي الثناء الأرموي وغيرهم طعنوا في ذلك كله وطعن الرازي في ذلك في مواضع وإن كان اعتمد عليه في

مواضع والآمدي طعن في طرق الناس إلا طريقة ارتضاها وهي أضعف من غيرها طعن فيها غيره

فهذان مقامان من المقامات العقلية لا يقدر هؤلاء أن يغلبوا فيها شيوخهم المتقدمين فإذا كانوا لا ينفون رؤيته في الدنيا إلا بهذه الطريق لم يكن لهم حجة إلا على من يقول إنه يرى ويصافح وأمثال ذلك من المقالات مع أن هذا من أشنع المقالات عند أهل السنة والجماعة ولا يعرف له قائل معدود من أهل السنة والحديث

وبيان هذا بالوجه الخامس وهو أن يقال هذه الأقوال حكاها الناس عن شرذمة قليلة أكثرهم من الشيعة وبعضهم من غلاة النساك وداود الجواربي قال الأشعري في المقالات وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان إن الله جسم وأنه جثة وأعضاء على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن داود الجواربي أنه كان يقول إنه أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك

وقال هشام بن سالم الجواليقي إن الله على صورة الإنسان وأنكر أن يكون لحما ودما وإنه نور ساطع يتلألأ بياضا وإنه ذوا حواس خمس كحواس الإنسان سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم وإن له وفرة سوداء

قلت أما داود الجواربي فقد عرف عنه القول المنكر الذي أنكره عليه أهل السنة وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان فلعلهم زادوا في النقل عنه أو نقلو عنه أو نقلوا عن غير ثقة وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد وقد قال الشافعي من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره واطلاعه كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء وأنكروها عليه فلا يستريب أحد في فقهه وفههمه وعلمه وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه وهي كذب عليه قطعا مثل مسألة الخنزير البري ونحوها وما يبعد أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب

وهذا الإمامي نقل النقل المذكور عن داود الطائي وهذا جهل منه أو من نقله هو عنه فإن داود الطائي كان رجلا صالحا زاهدا عابدا فقيها من أهل الكوفة في زمن أبي حنيفة والثوري وشريك وابن أبي ليلى وكان قد تفقه ثم انقطع للعبادة وأخباره وسيرته مشهورة عند العلماء ولم يقل الرجل شيئا من هذا الباطل وإنما القائل لذلك داود الجواربي فكأنه اشتبه عليه أو على شيوخه الجواربي بالطائي إن لم يكن الغلط في النسخة التي أحضرت إلى وداود الجواربي أظنه كان من أهل البصرة متأخرا عن هذا وقصته معروفة

قال الأشعري

وفي الأمة قوم ينتحلون النسك يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا ندري لعلع ربما هو

ومنهم من يقول إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن

ومنهم من يجوز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح

وكان من الصوفية رجل يعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه ويغتم ويحزن إذا عصوه وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم العبادات وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم

وفيهم من يزعم أن العبادة بتلغ بهم إلى أن يروا الله ويأكلوا من ثمار الجنة ويعانقوا الحور العين في الدنيا ويحاربوا الشياطين

ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين

قلت هذه المقالات التي حكاها الأشعري وذكروا أعظم منها موجودة في الناس قبل هذا الزمان وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله ومن هؤلاء من يسجد للأمرد ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام لكنه يتعبد بمظاهر الجمال لما في ذلك من اللذة له فيتخذ إلهه هواه وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقا ولا يعين الصورة الجميلة بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة ومنهم من يقول إن المواضع المخضرة خطا عليها وإنما اخضرت من وطئه عليها وفي ذلك حكايات متعددة يطول وصفها وأما القول بالإباحة وحل المحرمات أو بعضها للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة ولهذا يضرب بهم المثل فيقال فلان يستحل دمى كاستحال الفلاسفة محظورات الشرائع وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم وبسط الكلام على هذا له موضع آخر

ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة وهي وأشنع منها موجودة في الشيعة

وكثير من النساك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار ما يغيب به عن حسه الظاهر حتى يظن أن ذلك هو شيء يراه بعينه الظاهرة وإنما هو موجود في قلبه

ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية ويخاطبها أيضا بذلك ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه وإنما هو موجود في نفسه كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله فهذه الأمور تقع كثيرا في زماننا وقبله ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج

وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان ويرى نورا أو عرشا أو نورا على العرش ويقول أنا ربك ومنهم من يقول أنا نبيك وهذا قد وقع لغير واحد ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك ويكون المخاطب له جنيا كما قد وقع لغير واحد لكن بسط الكلام على ما يرى ويسمع وما هو في النفس والخارج وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع

وكثير من الجهال أهل الحال وغيرهم يقولون إنهم يرون الله عيانا في الدنيا وأنه يخطوا خطوات

وقد يقولون مع ذلك من المقالات ما هو أعظم من الكفر كقول بعضهم كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان لا أريده وقول بعضهم إن شيخهم هو شيخ الله ورسوله وأمثال ذلك من مقالات الغلاة في الشيوخ لكن يوجد في جنس المنتسبين إلى الشيعة من الإسماعيلية والغلاة من النصيرية وغيرهم ما هو أعظم غلوا وكفرا من هذه المقالاات فلا يكاد يوجد من المنتسبين إلى السنة مقالة خبيثة إلا وفي جنس الشيعة ما هو أخبث منها

وأهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض يدعون أنهم يشاهدون الله دائما فإن عندهم مشاهدته في الدنيا والآخرة على وجه واحد إذ كانت ذاته الوجود المطلق الساري في الكائنات

فهذه المقالات وأمثالها موجودة في الناس ولكن المقالات الموجودة في الشيعة أشنع وأقبح كما هو موجود في الغالية من النصيرية وأمثالهم ولهذا كان النصيرية يعظمون القائلين بوحدة الوجود وكان التلمساني شيخ القائلين بالوحدة الذي شرح مواقف النفرى وصنف غير ذلك قد ذهب إلى النصيرية وصنف لهم كتابا وهم يعظمونه جدا وحدثني نقيب الأشراف عنه أنه قال قلت له أنت نصيري قال نصير جزء مني والنصيرية يعظمونه غاية التعظيم

وأما ما ذكره هذا الإمامي من رمده وعيادة الملائكة له وبكائه على طوفان نوح عليه السلام فهذا قد رأيناهم ينقلونه عن بعض اليهود ولم أجد هذا منقولا عمن أعرفه من المسلمين فإن كان هذا قد قاله بعض أهل القبلة فلا ينكر وقوع مثل ذلك فإن النبي ﷺ قد قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقدة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه لكن مشابهة الرافضة لليهود ووجود مثل هذا فيهم أظهر من وجوده في المنتسبين إلى السنة والجماعة

=========
منهاج السنة النبوية/16  . 
وأما قوله: إنه يفضل عنه العرش من كل جانب أربع أصابع، فهذا لا أعرف قائلا له ولا ناقلا ولكن روى في حديث عبدالله بن خليقة أنه ما يفضل من العرش أربع أصابع يروى بالنفى ويروى بالإثبات والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدثين كالإسماعيلي وابن الجوزي ومن الناس من ذكر له شواهد وقواه

ولفظ النفى لا يرد عليه شيء فإن مثل هذا اللفظ يرد لعموم النفى كقول النبي ﷺ ما في السماء موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد أي ما فيها موضع ومنه قول العرب ما في السماء قدر كف سحابا وذلك لأن الكف تقدر بها الممسوحات كما يقدر بالذراع وأصغر الممسوحات التي يقدرها الإنسان من أعضائه كفه فصار هذا مثلا لأقل شيء

فإذا قيل إنه ما يفضل من العرش أربع أصابع كان المعنى ما يفضل منه شيء والمقصود هنا بيان أن الله أعظم وأكبر من العرش

ومن المعلوم أن الحديث إن لم يكن النبي ﷺ قد قاله فليس علينا منه وإن كان قد قاله فلم يجمع بين النفى والإثبات وإن كان قاله بالنفى لم يكن قاله بالإثبات والذين قالوه بالإثبات ذكروا فيه ما يناسب أصولهم كما قد بسط ي غير هذا الموضع

فهذا وأمثاله سواء كان حقا أو باطلا لا يقدح في مذهب أهل السنة ولا يضرهم لأنه بتقدير أن يكون باطلا ليس هو قول جماعتهم بل غايته أنه قد قالته طائفة ورواه بعض الناس وما كان باطلا رده جمهور أهل السنة كما يردون غير ذلك فإن كثيرا من المسلمين يقول كثيرا من الباطل فما يكون هذا ضار لدين المسلمين وفي أقوال الإمامية من المنكرات ما يعرف مثل هذا فيه لو كان قد قاله بعض أهل السنة
فصل

قال الإمامي

وذهب بعضهم إلى أن الله ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد راكبا على حمار حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفا يضع كل ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء هل من تائب هل من مستغفر تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية في حقه تعالى

وحكى عن بعض المنقطعين المباركين من شيوخ الحشوية أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نفاط ومعه أمرد حسن الصورة قطط الشعر على الصفات التي يصفون ربهم بها فألح الشيخ بالنظر إليه وكرره وأكثر تصويبه إليه فتوهم فيه النفاط فجاء إليه ليلا وقال أيها الشيخ رأيتك تلح بالنظر إلى هذا الغلام وقد أتيتك به فإن كان لك فيه نية فأنت الحاكم فحرد الشيخ عليه وقال إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله ينزل على صورته فتوهمت أنه الله تعالى فقال له النفاط ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة

فيقال: هذه الحكاية وأمثالها دائرة بين أمرين إما أن تكون كذبا محضا ممن افتراها على بعض شيوخ أهل بغداد وإما أن تكون قد وقعت لجاهل مغمور ليس بصاحب قول ولا مذهب وأدنى العامة أعقل منه وأفقه

وعلى التقديرين فلا يضر ذلك أهل السنة شيئا لأنه من المعلوم لكل ذي علم أنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان الذي لا ينطلي على صبي من الصبيان ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا مع أنها صحيحة واقعة

وأما هذه الحكاية فحدثني طائفة من ثقات أهل بغداد أنها كذب محض عليهم وضعها إما هذا المصنف أو من حكاها له للشناعة وهذا هو الأقرب فإن أهل بغداد لهم من المعرفة والتمييز والذهن ما لا يروج عليهم معه مثل هذا

ومما يبين كذب ذلك عليهم أن هذا الحديث الذي ذكره لم يروه أحد لا بإسناد صحيح ولا ضغيف ولا روى أحد من أهل الحديث أن الله تعالى ينزل ليلة الجمعة ولا أنه ينزل ليلة الجمعة إلى الأرض ولا أنه ينزل في شكل أمرد بل لا يوجد في الآثار شيء من هذا الهذيان بل ولا في شيء من الأحاديث الصحيحة أن النبي ﷺ قال إن الله ينزل إلى الأرض وكل حديث روى فيه هذا فإنه موضوع كذب مثل حديث الجمل الأورق وأن الله ينزل عشية عرفة فيعانق الركبان ويصافح المشاة وحديث آخر أنه رأى ربه في الطواف وحديث آخر أنه رأى ربه في بطحاء مكة وأمثال ذلك فإن هذه كلها أحاديث مكذوبة باتفاق أهل المعرفة بالحديث والذين وضعوها منهم طائفة وضعوها على أهل الحديث ليقال إنهم ينقلون مثل هذا كما وضعوا مثل حديث عرق الخيل عليهم وطائفة من الجهال والضلال وضعوا مثل هذا الكذب على النبي ﷺ كما وضعت الروافض ما هو أعظم وأكثر من هذا الكذب ولو لم يكن إلا ما ذكره هذا الإمامي في مصنفه هذا من الأحاديث فإن فيها من الكذب الذي أجمع أهل العلم بالحديث على كذبه ومن الكذب الذي لا يخفى أنه كذب إلا على مفرط في الجهل ما قد ذكره في منهاج الندامة

وقد قدمنا القول بأن أهل السنة متفقون على أن الله لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي ولم يتنازع الناس في ذلك إلا في نبينا محمد ﷺ خاصة مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه أصلا وإنما روى ذلك بإسناد ضعيف موضوع من طريق أبي عبيدة ذكره الخلال والقاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل وأهل العلم بالحديث متفقون على أنه حديث موضوع كذب

وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله هل رأيت ربك قال نور أنى أراه ولم يثبت أن أحدا من الصحابة سأل النبي ﷺ عن الرؤية إلا ما في الحديث

وما يرويه بعض العامة أن أبا بكر سأله فقال رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره كذب باتفاق أهل العلم لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد صحيح ولا ضعيف ولهذا اعتمد الإمام أحمد على قول أبي ذر في الرؤية وكذلك عثمان بن سعيد الدارمي

وأما أحاديث النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة فهي الأحاديث المعروفة الثابتة عند أهل العلم بالحديث وكذلك حديث دنوه عشية عرفة رواه مسلم في صحيحه وأما النزول ليلة النصف من شعبان ففيه حديث اختلف في إسناده

ثم إن جمهور أهل السنة يقولون إنه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحان بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد يقول وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء وأنه لا يعلم كيف ينزل ولا تمثل صفاته بصفات خلقه

وقد تنازعوا في النزول هل هو صفة فعل منفصل عن الرب في المخلوقات أو فعل من يقوم به على قولين معروفين لأهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والتصوف

وكذلك تنازعهم في الاستواء على العرش هل هو فعل منفصل عنه يفعله بالعرش كتقريبه إليه أو فعل يقوم بذاته على قولين والأول قول ابن كلاب والأشعري والقاضي أبي يعلى وأبي الحسن التميمي وأهل بيته وأبي سليمان الخطابي وأبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم ممن يقول إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته

والثاني قول أئمة الحديث وجمهورهم كابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي والبخاري وحرب الكرماني وابن خزيمة ويحيى بن عمار السجستاني وعثمان بن سعيد الدارمي وابن حامد وأبي بكر عبدالعزيز وأبي عبدالله بن مندة وأبي إسماعيل الأنصاري وغيرهم وليس هذا موضعا لبسط الكلام في هذه المسائل وإنما المقصود التنبيه على أن ما ذكره هذا مما يعلم العقلاء أنه لا يقوله أحد من علماء أهل السنة ولا يعرف أنه قاله لا جاهل ولا عالم بل الكذب عليه ظاهر
فصل

قال الرافضي المصنف: وقالت الكرامية إن الله في جهة فوق ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة

فيقال له أولا:

لا الكرامية ولا غيرهم يقولون إنه في جهة موجودة تحيط به أو يحتاج إليها بل كلهم متفقون على أن الله تعالى غني عن كل ما سواه سمى جهة أو لم يسم

نعم قد يقولون هو في جهة ويعنون بذلك أنه فوق العالم فهذا مذهب الكرامية وغيرهم وهو أيضا مذهب أئمة الشيعة وقدمائهم كما تقدم ذكره وأنت لم تذكر حجة على إبطاله فمن شنع على الناس بمذاهبهم فلا بد أن يشير إلى إبطاله وجمهور الخلق على أن الله فوق العالم وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة فهم يعتقدون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم أن ربهم فوق ويقولون إن هذا أمر فطروا عليه وجبلوا عليه كما قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني لبعض من أخذ ينكر الاستواء ويقولون لو استوى على العرش لقامت به الحوادث فقال أبو جعفر ما معناه إن الاستواء علم بالسمع ولو لم يرد به لم نعرفه وأنت قد تتأوله فدعنا من هذا وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا ألله إلا وقبل أن ينطق بلسانه يجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فهل عندك من حيلة في دفع هذه الضرورة عن قلوبنا فلطم المتكلم رأسه وقال حيرني الهمداني حيرني الهمداني حيرني الهمداني

ومضمون كلامه أن دليلك على النفى لو صح فهو نظري ونحن نجد عندنا علما ضروريا بهذا فنحن مضطرون إلى هذا العلم وإلى هذا القصد فهل عندك من حيلة في دفع هذا العلم الضروري والقصد الضروري الذي يلزمنا لزوما لا يمكننا دفعه عن أنفسنا ثم بعد ذلك قرر نقيضه

وأما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن لأن النظريات غايتها أن يحتج عليها بمقدمات ضرورية فالضروريات أصل النظريات فلو قدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحا في أصل النظريات فتبطل الضروريات والنظريات فيلزمنا بطلان قدحه على كل تقدير إذ كان قدح الفرع في أصله يقتضى فساده في نفسه وإذا فسد بطل قدحه فيكون قدحه باطلا على تقدير صحته وعلى تقدير فساده فإن صحته مستلزمة لصحة أصله فإذا صح كان أصله صحيحا وفساده لا يستلزم فساد أصله إذ قد يكون الفساد منه ولو قدح في أصله للزم فساده وإذا كان فاسدا لم يقبل قدحه فلا يقبل قدحه بحال

وهذا لأن الدليل النظري الموقوف على مقدمات وعلى تأليفها قد يكون فساده من فساد هذه المقدمة ومن فساد الأخرى ومن فساد النظم فلا يلزم إذا كان باطلا أن يبطل كل واحد من المقدمات بخلاف المقدمات فإنه متى كان واحد منها باطلا بطل الدليل وأيضا فإن هؤلاء قرروا ذلك بأدلة عقلية كقولهم كل موجودين إما متباينان وإما متداخلان وقالوا إن العلم بذلك ضروري وقالوا إثبات موجود لا يشار إليه مكابرة للحس والعقل

وأيضا فمن المعلوم أن القرآن نطق بالعلو في مواضع كثيرة جدا حتى قد قيل إنها نحو ثلثمائة موضع والسنن متواترة عن النبي ﷺ بمثل ذلك وكلام السلف المنقول عنهم بالتواتر يقتضي اتفاقهم على ذلك وأنه لم يكن فيهم من ينكره

ومن يريد التشنيع على الناس ودفع هذه الأدلة الشرعية والعقلية لا بد أن يذكر حجة ولنفرض أنه لا يناظره إلا أئمة أصحابه وهو لم يذكر دليلا إلا قوله ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة

فيقال له لم يعلموا ذلك ولم تذكر ما به يعلم ذلك فإن قولك ما هو محتاج إلى تلك الجهة إنما يستقيم إذا كانت الجهة أمرا وجوديا وكانت لازمة له لا يستغنى عنها فلا ريب أن من قال إن الباري لا يقوم إلا بمحل يحل فيه لا يستغنى عن ذلك وهي مستغنية عنه فقد جعله محتاجا إلى غيره وهذا لم يقله أحد

أيضا لم نعلم أحدا قال إنه محتاج إلى شيء من مخلوقاته فضلا عن أن يكون محتاجا إلى غير مخلوقاته ولا يقول أحد إن الله محتاج إلى العرش مع أنه خالق العرش والمخلوق مفتقر إلى الخالق لا يفتقر الخالق إلى المخلوق وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات وهو العنى عن العرش وكل ما سواه فقير إليه

فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون إن الله محتاج إلى العرش فقد افترى عليهم كيف وهم يقولون إنه كان موجودا قبل العرش فإذا كان موجودا قائما بنفسه قبل العرش لا يكون إلا مستغنيا عن العرش

وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجا إليه فإن الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله فالهواء فوق الأرض وليس محتاجا إليها وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجا إليها وكذلك السماوات فوق السحاب والهواء والأرض وليس محتاجا إلى ذلك فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء محتاجا إلى مخلوقاته لكونه فوقها عاليا عليها ونحن نعلم أن الله خالق كل شيء وأنه لا حول ولا قوة إلا به وأن القوة التي في العرش وفي حملة العرش هو خالقها بل نقول إنه خالق أفعال الملائكة الحاملين للعرش فإذا كان هو الخالق لهذا كله ولا حول ولا قوة إلا به امتنع أن يكون محتاجا إلى غيره

ولو احتج عليه سلفه مثل يونس بن عبدالرحمن القمى وأمثاله ممن يقول بأن العرش يحمله بمثل هذا لم يكن له عليهم حجة فإنهم يقولون لم نقل إنه محتاج إلى غيره بل ما زال غنيا عن العرش وغيره ولكن قلنا إنه على كل شيء قدير فإذا جعلناه قادرا على هذا كان ذلك وصفا له بكمال الاقتدار لا بالحاجة إلى الأغيار

وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ الجهة يراد به أمر موجود وأمر معدوم فمن قال إنه فوق العالم كله لم يقل إنه في جهة موجودة إلا أن يراد بالجهة العرش ويراد بكونه فيها أنه عليها كما قد قيل في قوله إنه في السماء أي على السماء، وعلى هذا التقدير فإذا كان فوق الموجودات كلها وهو غنى عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكن فيها فضلا عن أن يحتاج إليها

وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فذاك ليس بشيء ولا هو أمر موجود حتى يقال إنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا وأوهموا أنه إذا كان في جهة كان في كل شيء غيره كما يكون الإنسان في بيته وكما يكون الشمس والقمر والكواكب في السماء ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره والله تعالى غنى عن كل ما سواه وهذه مقدمات كلها باطلة

وكذلك قوله كل ما هو في جهة فهو محدث لم يذكر عليه دليلا وغايته ما تقدم من أن الله لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث

وكل هذه المقدمات فيها نزاع فمن الناس من يقول قد يكون في الجهة ما ليس بجسم فإذا قيل له هذا خلاف المعقول قال هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن قبل العقل ذاك قبل هذا بطريق الأولى وإن رد هذا رد ذاك بطريق الأولى وإذا رد ذاك تعين أن يكون في الجهة فثبت أنه في الجهة على التقديرين

ومن الناس من لا يسلم أن كل جسم محدث كسلفه من الشيعة والكرامية وغيرهم والكلام معهم وهؤلاء لا يسلمون له أن الجسم لا يخلو من الحوادث بل يجوز عندهم خلو الجسم عن الحركة وكل حادث كما يجوز منازعوهم خلو الصانع من الفعل إلى أن فعل وكثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة ينازعهم في قولهم إن ما لا يخلو عن الحادث فهو حادث وكل مقام من هذه المقامات تعجز شيوخ الرافضة الموافقين للمعتزلة عن تقرير قولهم فيه على إخوانهم القدماء من الرافضة فضلا عن غيرهم من الطوائف






فصل

قال الرافضي وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العباد

فيقال له هذه المسألة من دقيق الكلام وليست من خصائص أهل السنة ولا القائلون بخلافة الخلفاء متفقون عليها بل بعض القدرية يقول بذلك وأما أهل السنة المثبتون للقدر فليس فيهم من يقول بذلك وإنما يقوله من شيوخ القدرية الذين هم شيوخ هؤلاء الإمامية المتأخرين في مسائل التوحيد والعدل فإن جميع ما يذكره هؤلاء الإمامية المتأخرون في مسائل التوحيد والعدل كابن النعمان والموسوي الملقب بالمرتضى وأبي جعفر الطوسي وغيرهم هو مأخوذ من كتب المعتزلة بل كثير منه منقول نقل المسطرة وبعضه قد تصرفوا فيه

وكذلك ما يذكرونه من تفسير القرآن في آيات الصفات والقدر ونحو ذلك هو منقول من تفاسير المعتزلة كالأصم والجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني والرماني وأبي مسلم الأصبهاني وغيرهم لا ينقل عن قدماء الإمامية من هذا حرف واحد لا في الأصول العقلية ولا في

تفسير القرآن وقدماؤهم كانوا أكثر اجتماعا بالائمة من متأخريهم يجتمعون بجعفر الصادق وغيره فإن كان هذا هو الحق فقدماؤهم كلهم ضلال وإن كان ضلالا فمتأخروهم هم الضلال
فصل

قال الرافضي

وذهب الأكثر منهم إلى أن الله عز وجل يفعل القبائح وأن جميع أنواع المعاصي والكفر وأنواع الفساد واقعة بقضاء الله وقدره وأن العبد لا تأثير له في ذلك وأنه لا غرض لله في أفعاله وأنه لا يفعل لمصلحة العباد شيئا وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة وهذا يستلزم أشياء شنيعة

فيقال الكلام على هذا من وجوه:

أحدها أنه قد تقدم غير مرة أن مسائل القدر والتعديل والتجوير ليست ملزومة لمسائل الإمامة ولا لازمة فإن كثيرا من الناس يقر بإمامة الخلافاء الثلاثة ويقول ما قاله في القدر وكثير من الناس بالعكس وليس أحد من الناس مرتبطا بالآخر أصلا وقد تقدم النقل عن الإمامية هل أفعال العباد خلق الله تعالى على قولين وكذلك الزيدية

قال الأشعرى واختلفت الزيدية في خلق الأفعال وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن أفعال العباد مخلوقة لله خلقها وأبدعها واخترعها بعد أن لم تكن فهي محدثة له مخترعة والفرقة الثانية منهم يزعمون أنها غير مخلوقة لله ولا محدثة وأنها كسب للعباد أحدثوها واخترعوها وابتدعوها وفعلوها

قلت بل غالب الشيعة الأولى كانوا مثبتين للقدر وإنما ظهر إنكاره في متأخريهم كإنكار الصفات فإن غالب متقدميهم كانوا يقرون بإثبات الصفات والمنقول عن أهل البيت في إثبات الصفات والقدر لا يكاد يحصى وأما المقرون بإمامة الخلفاء الثلاثة مع كونهم قدرية فكثيرون في المعتزلة وغير المعتزلة فعامة القدرية تقر بإمامة الخلفاء ولا يعرف أحد من متقدمي القدرية كان ينكر خلافة الخلفاء وإنما ظهر هذا لما صار بعض الناس رافضيا قدريا جهميا فجمع أصول البدع كصاحب هذا الكتاب وأمثاله

والزيدية المقرون بخلافة الخلفاء الثلاثة هم من الشيعة وفيهم قدرية وغير قدرية والزيدية خير من الإمامية وأشبههم بالإمامية هم الجارودية أتباع أبي الجارود الذين يزعمون أن النبي ﷺ نص على علي بالوصف لا بالتسمية فكان هو الإمام من بعده وان الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد رسول الله ﷺ ثم الحسن هو الإمام ثم الحسين

ثم من هؤلاء من يقول إن عليا نص على إمامة الحسن والحسن نص على إمامة الحسين ثم هو شورى في ولدهما فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربه وكان عالما فاضلا فهو الإمام

والفرقة الثانية من الزيدية السليمانية أصحاب سليمان بن جرير يزعمون أن الإمامة شورى وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر وقد قيل إنها كانت خطأ لا يفسق صاحبها لأجل التأويل

والثالثة البترية أصحاب كثير النواء قيل سموا بترية لأن كثيرا كان يلقب بالأبتر يزعمون أن عليا أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ وأولاهم بالإمامة وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ لأن عليا ترك ذلك لهما ويقفون في عثمان وقتله ولا يقدمون عليه بإكفار كما يحكى عن السليمانية وهذه الطائفة أمثل الشيعة ويسمون أيضا الصالحية لأنهم ينسبون إلى الحسن بن صالح بن حي الفقيه

وهؤلاء الزيدية فيهم من هو في القدر على قول أهل السنة والجماعة وفيهم من هو على قول القدرية

الوجه الثاني أن يقال نقله عن الأكثر أن العبد لا تأثير له في الكفر والمعاصي نقل باطل بل جمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب وينب النبات بالماء ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون أن لها تأثيرا لفظا ومعنى حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم

وإن كان هناك التأثير هناك أعم منه في الآية لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه ولابد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره مع خلق الله له إلا بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع

ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى ولا طبائع ويقولون إن الله فعل عندها لا بها ويقولون إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل

وأبلغ من ذلك قول الأشعري إن الله فاعل فعل العبد وإن عمل العبد ليس فعلا للعبد بل كسبا له وإنما هو فعل الله فقط وجمهور الناس من أهل السنة من جميع الطوائف على خلاف ذلك وعلى أن العبد فاعل لفعله حقيقة

وأما ما نقله من نفي الغرض الذي هو الحكمة وكون الله لا يفعل لمصلحة العباد فقد قدمنا أن هذا هو قول قليل منهم كالأشعري وطائفة توافقه في موضع ويتناقضون في قولهم في موضع آخر

وجمهور أهل السنة يثبتون الحكمة في أفعال الله تعالى وأنه يفعل لنفع عباده ومصلحتهم ولكن لا يقولون بما تقوله المعتزلة ومن وافقهم بأن ما حسن منه حسن من خلقه وما قبح من خلقه قبح منه فلا هذا ولا هذا وأما لفظ الغرض فتطلقه المعتزلة وبعض المنتسبين لأهل السنة ويقولون إنه يفعل لغرض أي حكمة وكثير من أهل السنة يقولون يفعل لحكمة ولا يطلقون لفظ الغرض

وأما قوله وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة فهذا قول طائفة منهم وهم الذين يوافقون القدرية فيجعلون المشيئة والإرادة والمحبة والرضا نوعا واحدا ويجعلون المحبة والرضا والغضب بمعنى الإرادة كما يقول ذلك الأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه وطائفة ممن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد

وأما جمهور أهل السنة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري وغيرهم فيفرقون بين الإرادة وبين المحبة والرضا فيقولون إنه وإن كان يريد المعاصي فهو لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله وبين محبته وهذا قول السلف قاطبة

وقد ذكر أبو المعالي الجويني أن هذا قول القدماء من أهل السنة وأن الأشعري خالفهم فجعل الإرادة هي المحبة فيقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ماشاء الله فقد خلقه وأما المحبة فهي متعلقة بأمره فما أمر به فهو يحبه ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله وإن كان واجبا أو مستحبا ولو قال إن أحب الله حنث إذا كان واجبا أو مستحبا

والمحققون من هؤلاء يقولون الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان إرادة خلقية قدرية كونية وإرادة دينية أمرية شرعية فالإرادة الشرعية الدينية هي المتضمنة للمحبة والرضا والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث كقول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذا كقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام وقوله عن نوح ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون سورة هود

فهذه الإرادة تعلقت بالإضلال والإغواء وهذه هي المشيئة فإن ما شاء الله كان

ومنها قوله ولكن الله يفعل ما يريد سورة البقرة أي ما شاء خلقه لا ما يأمر به

وقد يريد بالإرادة المحبة كما يقال لمن يفعل الفاحشة هذا فعل ما لا يريده الله تعالى وقد يريد المشيئة كما يقولون لما لم يكن هذا لم يرده الله

وأما الدينية فقول الله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة : 185 وقوله يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا سورةالنساء 26 28 وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم سورة المائدة 6 وقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الأحزاب 33

فهذه الإرادة في هذه الآيات ليست هي التي يجب مرادها كما في قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام سورة الأنعام 120 وقول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن بل هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله أي لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به

وهذا التقسيم في الإرادة قد ذكره غير واحد من أهل السنة وذكروا أن المحبة والرضا ليست الإرادة الشاملة لكل المخلوقات كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم كأبي بكر عبدالعزيز وغيره وإن كان طائفة أخرى يجعلون المحبة والرضا هي الإرادة والأول أصح

وأيضا فالفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل وبين إرادته من غيره أن يفعل والأمر لا يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أمره به وقد لا يريد ذلك وإن كان مريدا منه فعله

وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله هل هو مستلزم لإرادته أم لا فلما زعمت المعتزلة أنه لا بد أن يشاء ما يأمر به فيريده وزعموا أن ما نهى عنه ما شاء وجوده ولا أراده قابلهم كثير من متأخري المثبتين للقدر ممن اتبع أبا الحسن من المصنفين في أصول الفقه وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فقالوا إن الله يأمر بما لا يريده كالكفر والفسوق والعصيان

واحتجوا على ذلك بما أنه لو حلف على واجب ليفعلنه وقال إن شاء الله فإنه لا يحنث وبأن الله أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرده منه بل نسخ ذلك قبل فعله وكذلك الخمسون صلاة ليلة المعراج

وحقيقته أنه يأمر بما لا يشاء أن يخلقه لكن لا يأمر إلا بما يحبه ويرضاه فيريد من العبد أن يفعله بمعنى أنه يحب ذلك ولا يريد هو أن يخلقه فيعين العبد عليه وهذا كالكفر والفسوق والعصيان ولو حلف الحالف ليفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث وإن كان واجبا

ولو قال إن أحب الله حنث كما لو قال إن أمر الله ولو قال لأفعلنه إذا أراد الله فقد يريد بالإرادة المحبة كما يقولون لمن يفعل القبائح يفعل ما لا يريده الله وقد يريد المشيئة كما يقولون لما لم يكن هذا لم يرده الله تعالى فإن أراد هذا حنث

وأما أمر إبراهيم ﷺ بذبح ابنه فإنه كان الذي يحبه ويريده منه في نفس الأمر أن قصد إبراهيم الامتثال وعزم على الطاعة فأظهر الأمر امتحانا له وابتلاء فلما أسلما وتله للجبين ناداه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وكذلك الأمر بالخمسين
فصل

قال المصنف الرافضي:

وهذا يستلزم أشياء شنيعة منها أن يكون الله أظلم من كل ظالم لأنه يعاقب الكافر على كفره وهو قدره عليه ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فكما أنه يلزم الظلم لو عذبه على لونه وطوله وقصره لأنه لا قدرة له فيها كذا يكون ظالما لو عذبه على المعصية التي فعلها فيه

فيقال

الظلم قد تقدم أن للجمهور المثبتين للقدر في تفسيره قولين أحدهما أن الظلم ممتنع لذاته غير مقدور كما يصرح بذلك الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني وغير هؤلاء يقولون إنه يمتنع أن يوصف بالقدرة على الكذب والظلم وغيرهما من أنواع القبائح ولا يصح وصفه بشيء من ذلك

قالوا والدلالة على استحالة وقوع الظلم والقبيح منه أن الظلم والقبيح ما شرع الله وجوب ذم فاعله وذم الفاعل لما ليس له فعله ولن يكون كذلك حتى يكون متصرفا فيما غيره أملك به وبالتصرف فيه منه فوجب استحالة ذلك في حقه من حيث إنه لم يكن آمرا لنا بذمه ولا كان ممن يجوز دخول أفعاله تحت تكليف من نفسه لنفسه ولا يكون فعله تصرفا في شيء غيره أملك به فثبت بذلك استحالة تصوره في حقه

وحقيقة قول هؤلاء أن الذم إنما يكون لمن تصرف في ملك غيره ومن عصى الآمر الذي فوقه والله سبحانه وتعالى يمتنع أن يأمره أحد ويمتنع أن يتصرف في ملك غيره فإن له كل شيء

وهذا القول يروى عن إياس بن معاوية قال ما خاصمت بعقلي كله إلا القدرية قلت لهم أخبروني ما الظلم قالوا أن يتصرف الإنسان في ما ليس له قلت فلله كل شيء

وهم لا يسلمون أنه لو عذبه بسبب لونه وطوله وقصره كان ظالما حتى يحتج عليهم بهذا القياس بل يجوزون التعذيب لا بجرم سابق ولا لغرض لاحق وهذا المشنع لم يذكر دليلا على بطلانه فلم يذكر دليلا على بطلان قولهم

والقول الثاني أن الظلم مقدور والله تعالى منزه عنه وهذا قول الجمهور من المثبتين للقدر ونفاته وهو قول كثير من النظار المثبتة للقدر كالكرامية وغيرهم وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول القاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى وغيره وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره كما قال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 11وهؤلاء يقولون الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الاختياري وغير فعله الاختياري مستقر في فطر العقول فإن الإنسان لو كان له ابن في جسمه مرض أو عيب خلق فيه لم يحسن ذمه ولا عقابه على ذلك ولو ظلم ابنه أحدا لحسن عقوبته على ذلك

ويقولون الاحتجاج بالقدر على الذنوب مما يعلم بطلانه بضرورة العقل فإن الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتج ظالمه بالقدر أيضا فإن كان القدر حجة لهذا فهو حجة لهذا وإلا فلا

والأولون أيضا يمنعون الاحتجاج بالقدر فإن الاحتجاج به باطل باتفاق أهل الملل وذوي العقول وإنما يحتج به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متبع لهواه كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به

ولو كان القدر حجة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحد أحدا ولا يعاقب أحد أحدا فكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح ويحتج بأن ذلك مقدر عليه

والمحتجون على المعاصي بالقدر أعظم بدعة وأنكر قولا وأقبح طريقا من المنكرين للقدر فالمكذبون بالقدر من المعتزلة والشيعة وغيرهم المعظمون للأمر والنهي والوعد والوعيد خير من الذين يرون القدر حجة لمن ترك المأمور وفعل المحظور كما يوجد ذلك في كثير من المدعين للحقيقة الذين يشهدون القدر ويعرضون عن الأمر والنهي من الفقراء والصوفية والعامة وغيرهم فلا عذر لأحد في ترك مأمور ولا فعل محظور بكون ذلك مقدرا عليه بل لله الحجة البالغة على خلقه

والقدرية المحتجون بالقدر على المعاصي شر من القدرية المكذبين بالقدر وهم أعداء الملل وأكثر ما أوقع الناس في التكذيب بالقدر احتجاج هؤلاء به ولهذا اتهم بمذهب القدر غير واحد ولم يكونوا قدرية بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر كما قيل للإمام أحمد كان ابن أبي ذئب قدريا فقال الناس كل من شدد عليهم المعاصي قالوا هذا قدري وقد قيل إنه بهذا السبب نسب إلى الحسن القدر لكونه كان شديد الإنكار للمعاصي ناهيا عنها ولذلك نجد الواحد من هؤلاء ينكر على من ينكر المنكر ويقول هؤلاء قدر عليهم ما فعلوه فيقال لهذا وإنكار هذا المنكر أيضا بقدر الله فنقضت قولك بقولك

وهؤلاء يقول بعض مشايخهم أنا كافر برب يعصى ويقول لو قتلت سبعين نبيا لم أكن مخطئا ويقول بعض شعرائهم

أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات

ومن الناس من يظن أن احتجاج آدم على موسى بالقدر كان من هذا الباب وهذا جهل عظيم فإن الأنبياء من أعظم الناس أمرا بما أمر الله به ونهيا عما نهى الله عنه وذما لمن ذمه الله وإنما بعثوا بالأمر بالطاعة لله والنهي عن معصية الله فكيف يسوغ أحد منهم أن يعصي عاص لله محتجا بالقدر ولأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولأنه لو كان القدر حجة لكان حجة لإبليس وفرعون وسائر الكفار ولكن كان ملام موسى لآدم عليهما السلام لأجل المصيبة

التي لحقتهم بسبب أكله ولهذا قال له لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة

والمؤمن مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب لا عند الذنوب والمعاصي فيصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك سورة غافر 55 وقال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها الأية سورة الحديد 22 وقال ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه سورة التغابن قال ابن مسعود رضي الله عنه هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم

ولهذا قال غير واحد من السلف والصحابة والتابعين لهم بإحسان لا يبلغ الرجل حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما اخطأه لم يكن ليصيبه

فالإيمان بالقدر والرضا بما قدره الله من المصائب والتسليم لذلك هو من حقيقة الإيمان وأما الذنوب فليس لأحد أن يحتج فيها بقدر الله تعالى بل عليه أن لا يفعلها وإذا فعلها فعليه أن يتوب منها كما فعل آدم ولهذا قال بعض الشيوخ اثنان أذنبا ذنبا آدم وإبليس فآدم تاب فتاب الله عليه واجتباه وهداه وإبليس أصر واحتج بالقدر فمن تاب من ذنبه أشبه أباه آدم ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس

وإذا كان الفرق بين الفاعل المختار وبين غيره مستقرا في بدائه العقول حصل المقصود وكذلك إذا كان مستقرا في بدائه العقول أن الأفعال الاختيارية تكسب نفس الإنسان صفات محمودة وصفات مذمومة بخلاف لونه وطوله وعرضه فإنها لا تكسبه ذلك

فالعلم النافع والعمل الصالح والصلاة الحسنة وصدق الحديث وإخلاص العمل لله وأمثال ذلك تورث القلب صفات محمودة كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن للحسنة لنورا في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لسوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق

ففعل الحسنة له آثار محمودة موجودة في النفس وفي الخارج وكذلك فعل السيئات والله تعالى جعل الحسنات سببا لهذا والسيئات سببا لهذا كما جعل أكل السم سببا للمرض والموت وأسباب الشر لها أسباب تدفع بمقتضاها فالتوبة والأعمال الصالحة تمحى بها السيئات والمصائب في الدنيا تكفر بها السيئات كما أن السم تارة يدفع موجبه بالدواء وتارة يورث مرضا يسيرا ثم تحصل العافية

وإذا قيل خلق الفعل مع حصول العقوبة عليه ظلم كان بمنزلة أن يقال خلق أكل السم ثم حصول الموت به ظلم والظلم وضع الشيء في غير موضعه واستحقاق هذا الفاعل لأثر فعله الذي هو معصية الله كاستحقاقه لأثره إذا ظلم العباد

وهذا الآن ينزع إلى مسألة التحسين والتقبيح فإن الناس متفقون على أن كون الفعل يكون سببا لمنفعة العبد وحصول ما يلائمه وسببا لحصول مضرته وحصول ما ينافيه قد يعلم بالعقل وكذلك كونه قد يكون صفة كمال وصفة نقص وإنما تنازعوا في كونه يكون سببا للعقاب والذم على قولين مشهورين

والنزاع في ذلك بين أصحاب أحمد وبين اصحاب مالك وبين أصحاب الشافعي وغيرهم وأما أبو حنيفة وأصحابه فيقولون بالتحسين والتقبيح وهو قول جمهور الطوائف من المسلمين وغيرهم وفي الحقيقة فهذا النزاع يرجع إلى الملاءمة والمنافرة والمنفعة والمضرة فإن الذم والعقاب مما يضر العبد ولا يلائمه فلا يخرج الحسن والقبح عن حصول المحبوب والمكروه فالحسن ما حصل المحبوب المطلوب المراد لذاته والقبيح ما حصل المكروه البغيض فإذا كان الحسن يرجع إلى المحبوب والقبيح يرجع إلى المكروه بمنزلة النافع والضار والطيب والخبيث ولهذا يتنوع بتنوع الأحوال فكما أن الشيء الواحد يكون نافعا إذا صادف حاجة ويكون ضارا في موضع آخر كذلك الفعل كأكل الميتة يكون قبيحا تارة ويكون حسنا أخرى

وإذا كان كذلك فهذا الأمر لا يختلف سواء كان العبد هو الفاعل بغير أن يخلق الله له القدرة والإرادة أو بأن يخلق الله له ذلك كما في سائر ما هو نافع وضار ومحبوب ومكروه

وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه وفعل العبد من جملة الحوادث وكل ممكن يقبل الوجود والعدم فإن شاء الله كان وإن لم يشأ لم يكن وفعل العبد من جملة الممكنات وذلك لأن العبد إذا فعل الفعل فنفس الفعل حادث بعد أن لم يكن فلا بد له من سبب

وإذا قيل حدث بالإرادة فالإرادة أيضا حادثة فلا بد لها من سبب وإن شئت قلت الفعل ممكن فلا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وعلى طريقة بعضهم فلا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وكون العبد فاعلا له حادث ممكن فلا بد له من محدث مرجح ولا فرق في ذلك بين حادث وحادث والمرجح لوجود الممكن لا بد أن يكون تاما مستلزما وجود الممكن وإلا فلو كان مع وجود المرجح يمكن وجود الفعل تارة وعدمه أخرى لكان ممكنا بعد حصول المرجح يمكن وجوده وعدمه وحينئذ فلا يترجح وجوده علىعدمه إلا بمرجح وهذا المرجح إما أن يكون تاما مستلزما وجود الفعل وإما أن يكون الفعل معه يمكن وجوده وعدمه فإن كان الثاني لزم ان لا يوجد الفعل بحال ولزم التسلسل الباطل

فعلم أن الفعل لا يوجد إلا إذا وجد مرجح تام يستلزم وجوده وذلك المرجح التام هو الداعي التام والقدرة وهذا مما سلمه طائفة من المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره سلموا أنه إذا وجد الداعي التام والقدرة التامة لزم وجود الفعل وأن الداعي والقدرة خلق لله عز وجل وهذا حقيقة قول أهل السنة الذين يقولون إن الله خالق أفعال العباد كما أن الله خالق كل شيء فإن أئمة أهل السنة يقولون إن الله خالق الأشياء بالأسباب وأنه خلق للعبد قدرة يكون بها فعله وأن العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي للعبد التي بها يكون الفعل ويقول إنه لا أثر لقدرة العبد أصلا في فعله كما يقول ذلك جهم وأتباعه والأشعري ومن وافقه

وليس قول هؤلاء قول أئمة السنة ولا جمهورهم بل أصل هذا القول هو قول الجهم بن صفوان فإنه كان يثبت مشيئة الله تعالى وينكر أن يكون له حكمة أو رحمة وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثرة وحكي عنه أنه كان يخرج إلى الجذمي ويقول أرحم الراحمين يفعل مثل هذا إنكارا لأن تكون له رحمة يتصف به وزعما منه أنه ليس إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة بل يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح

وهذا قول طائفة من المتأخرين وهؤلاء يقولون إنه لم يخلق لحكمة ولم يأمر لحكمة وأنه ليس في القرآن لام كي لا في خلق الله ولا في أمر الله وهؤلاء الجهمية المجبرة هم والمعتزلة والقدرية في طرفين متقابلين

وقول سلف الأمة وأئمة السنة وجمهورها ليس قول هؤلاء ولا قول هؤلاء وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول جهم فالكلام إنما هو في أهل السنة المثبتين لإمامة أبي بكر وعمر وعثمان والمثبتين للقدر وهذا الاسم يدخل فيه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة التفسير والحديث والفقه والتصوف وجمهور المسلمين وجمهور طوائفهم لا يخرج عن هذا إلا بعض الشيعة وأئمة هؤلاء وجمهورهم على القول الوسط الذي ليس هو قول المعتزلة ولا قول جهم وأتباعه الجبرية فمن قال إن شيئا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس لم يخلقها الله تعالى فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية

ولهذا قال بعض السلف من قال إن كلام الآدميين أو أفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من قال إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة

والله تعالى يخلق ما يخلق لحكمة كما تقدم ومن جملة المخلوقات ما قد يحصل به ضرر عارض لبعض الناس كالأمراض والآلام وأسباب ذلك فخلق الصفات والأفعال التي هي أسبابه من جملة ذلك فنحن نعلم ان لله في ذلك حكمة وإذا كان قد فعل ذلك لحكمة خرج عن أن يكون سفها وإذا كان العقاب على فعل العبد الاختياري لم يكن ظلما فهذا الحادث بالنسبة إلى الرب له فيه حكمة يحسن لأجل تلك الحكمة وبالنسبة إلى العبد عدل لأنه عوقب على فعله فما ظلمه الله ولكن هو ظلم نفسه

واعتبر ذلك بأن يكون غير الله هو الذي عاقبه على ظلمه لو عاقبه ولي أمر على عدوانه على الناس فقطع يد السارق أليس ذلك عدلا من هذا الوالي وكون الوالي مأمورا بذلك يبين أنه عادل

لكن المقصود هنا أنه مستقر في فطر الناس وعقولهم أن ولي الأمر إذا أمر الغاصب برد المغصوب إلى مالكه وضمن التالف بمثله أنه يكون حاكما بالعدل وما زال العدل معروفا في القلوب والعقول ولو قال هذا المعاقب أنا قد قدر علي هذا لم يكن هذا حجة له ولا مانعا لحكم الوالي أن يكون عدلا

فالله تعالى أعدل العادلين إذا اقتص للمظلوم من ظالمه في الآخرة أحق بأن يكون ذلك عدلا منه فإن قال الظالم هذا كان مقدرا علي لم يكن هذا عذرا صحيحا ولا مسقطا لحق المظلوم وإذا كان الله هو الخالق لكل شيء فذاك لحكمة أخرى له في الفعل فخلقه حسن بالنسبة إليه لما له فيه من الحكمة والفعل القبيح المخلوق قبيح من فاعله لما عليه

فيه من المضرة كما أن أمر الوالي بعقوبة الظالم يسر الوالي لما فيه من الحكمة وهو عدله وأمره بالعدل وذلك يضر المعاقب لما عليه فيه من الألم

ولو قدر أن هذا الوالي كان سببا في حصول ذلك الظلم على وجه لا يلام عليه لم يكن عذرا للظالم مثل حاكم شهد عنده بينة بمال لغريم فأمر بحبسه أو عقوبته حتى ألجأه ذلك إلى أخذ مال آخر بغير حق ليوفيه إياه فإن الحاكم أيضا يعاقبه فيه فإذا قال أنت حبستني وكنت عاجزا عن الوفاء ولا طريق لي إلى الخلاص إلا أخذ مال هذا لكان حبسه الأول ضررا عليه وعقوبته ثانيا على أخذ مال الغير ضررا عليه والوالي يقول أنا حكمت بشهادة العدول فلا ذنب لي في ذلك وغايتي أني أخطأت والحاكم إذا أخطأ له أجر وقد يفعل كل من الرجلين بالآخر من الضرر ما يكون فيه معذورا والآخر معاقبا بل مظلوما لكن بتأويل

وهذه الأمثال ليست مثل فعل الله تعالى فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فإنه سبحانه يخلق الاختيار في المختار والرضا في الراضي والمحبة في المحب وهذا لا يقدر عليه إلا الله

ولهذا أنكر الأئمة على من قال جبر الله العباد كالثوري والأوزاعي والزبيدي وأحمد بن حنبل وغيرهم وقالوا الجبر لا يكون إلا من عاجز كما يجبر الأب ابنته على خلاف مرادها

والله خالق الإرادة والمراد فيقال جبل كما جاءت به السنة ولا يقال جبر فإن النبي ﷺ في الحديث الصحيح قال لأشج عبد القيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما قال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله

ومما يبين هذا أن الله سبحانه وتعالى جهة خلقه وتقديره غير جهة أمره وتشريعه فإن أمره وتشريعه مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه وما يضرهم بمنزلة أمر الطبيب للمريض بما ينفعه فأخبر الله على ألسن رسله بمصير السعداء والأشقياء وأمر بما يوصل إلى السعادة ونهى عما يوصل إلى الشقاوة وخلقه وتقديره يتعلق به وبجملة المخلوقات فهو يفعل لما فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه وإن كان في ضمن ذلك مضرة لبعض الناس كما أنه ينزل المطر لما فيه من الرحمة والنعمة العامة والحكمة وإن كان في ضمن ذلك تضرر بعض الناس بسقوط منزله وانقطاعه عن سفره وتعطيل معيشته وكذلك يرسل نبيه محمدا ﷺ لما في إرساله من الرحمة العامة وإن كان في ضمن ذلك سقوط رياسة قوم وتألمهم بذلك فإذا قدر على الكافر كفره قدره الله لما له في ذلك من الحكمة والمصلحة العامة وعاقبه لاستحقاقه ذلك بفعله الاختياري وإن كان مقدرا ولما له في عقوبته من الحكمة والمصلحة العامة

وقياس أفعال الله علىأفعال العباد خطأ ظاهر لأن السيد إذا أمر عبده بأمر أمره لحاجته إليه ولغرض السيد فإذا أثابه على ذلك كان من باب المعاوضة وليس له حكمة يطلبها إلا حصول ذلك المأمور به وليس هو الخالق لفعل المأمور فإذا قدر أن السيد لم يعوض المأمور أو لم يقم بحق عبده الذي يقضي حوائجه كان ظالما كالذي يأخذ سلعة ولا يعطي ثمنها أو يستوفي منفعة الأجير ولم يوفه أجره

والله تعالى غني عن العباد إنما أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم فهو محسن إلى عباده بالأمر لهم محسن لهم بإعانتهم على الطاعة ولو قدر أن عالما صالحا أمر الناس بما ينفعهم ثم أعان بعض الناس على فعل ما أمرهم به ولم يعن آخرين لكان محسنا إلى هؤلاء إحسانا تاما ولم يكن ظالما لمن لم يحسن إليه وإذا قدر أنه عاقب المذنب العقوبة التي يقتضيها عدله وحكمته لكان أيضا محمودا على هذا وهذا وأين هذا من حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين

فأمره لهم إرشاد وتعليم وتعريف بالخير فإن أعانهم على فعل المأمور كان قد أتم النعمة على المأمور وهو مشكور علىهذا وهذا وإن لم يعنه وخذله حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى وإن كانت مستلزمة تألم هذا فإنما تألم بأفعاله الاختيارية التي من شأنها أن تورثه نعيما أو ألما وإن كان ذلك الإيراث بقضاء الله وقدره فلا منافاة بين هذا وهذا فجعله المختار مختارا من كمال قدرته وحكمته وترتيب آثار الاختيار عليه من تمام حكمته وقدرته

لكن يبقى الكلام في نفس الحكمة الكلية في هذه الحوادث فهذه ليس على الناس معرفتها ويكفيهم التسليم لما قد علموا أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها

ومن المعلوم ما لو علمه كثير من الناس لضرهم علمه ونعوذ بالله من علم لا ينفع وليس اطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكم الله في كل شيء نافعا لهم بل قد يكون ضارا قال تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم

وهذه المسألة مسألة غايات أفعال الله ونهاية حكمته مسألة عظيمة لعلها أجل المسائل الإلهية وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وكذلك بسط الكلام على مسائل القدر وإنما نبهنا تنبيها لطيفا على امتناع أن يكون خلق الفعل ظلما سواء قيل إن الظلم ممتنع من الله أو قيل إنه مقدور فإن الظلم الذي هو ظلم أن يعاقب الإنسان على عمل غيره فأما عقوبته على فعله الاختياري وإنصاف المظلومين من الظالمين فهو من كمال عدل الله تعالى

وهذا التفصيل في باب التعديل والتجوير بين مذهب القدرية الذين يقيسون الله بخلقه في عدلهم وظلمهم وبين مذهب الجبرية الذين لا يجعلون لأفعال الله حكمة ولا ينزهونه عن ظلم يمكنه فعله ولا فرق عندهم بالنسبة إليه بين ما يقال هو عدل وإحسان وبين ما يقال هو ظلم

وقول هؤلاء من الأسباب التي قويت بها شناعات القدرية حتى غلوا في الناحية الأخرى وخيار الأمور أوسطها ودين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه وقد ظهر الفرق بين عقوبته على الكفر وغيره من المعاصي وبين عقوبته على اللون والطول كما يظهر الفرق بينهما إذا كان المعاقب بعض الناس فإن الكفر وإن كان خلق فيه إرادته وقدرته عليه فهو الذي فعله باختياره وقدرته وإن كان كذلك كله مخلوقا كما يعاقبه غيره عليه مع كون ذلك كله مخلوقا

وأما قوله ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فهذا قاله على قول من يقول من أهل الإثبات إن القدرة لا تكون إلا مع الفعل فكل من لم يفعل شيئا لم يكن قادرا عليه ولكن يكون عاجزا عنه وهؤلاء قد يقولون لا يكلف العبد ما يعجز عنه ولكن يكلف ما يقدر عليه بناء على أن القدرة لا تكون إلا مع الفعل

وحقيقة قولهم أن كل من ترك واجبا لم يكن قادرا عليه وليس هذا قول جمهور أهل السنة بل جمهور أهل السنة يثبتون للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي وهذه قد تكون قبله لا يجب أن تكون معه ويقولون أيضا إن القدرة التي يكون بها الفعل لا بد ان تكون مع الفعل لا يجوزون أن يوجد الفعل بقدرة معدومة ولا بإرادة معدومة كما لا يوجد بفاعل معدوم

وأما القدرية فيزعمون أن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ومن قابلهم من المثبتة يقولون لا تكون إلا مع الفعل

وقول الأئمة والجمهور هو الوسط أنها لا بد أن تكون معه وقد تكون مع ذلك قبله كقدرة المأمور العاصي فإن تلك القدرة تكون متقدمة على الفعل بحيث تكون لمن لم يطع كما قال تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا سورة آل عمران 97 فأوجب الحج على المستطيع فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج ولم يعاقب أحد على ترك الحج وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام

وكذلك قال تعالى فاتقوا الله مااستطعتم سورة التغابن 16 فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ولا يعاقب من لم يتق وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام

وهؤلاء إنما قالوا هذا لأن القدرية والمعتزلة والشيعة وغيرهم قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل لتكون صالحة للضدين الفعل والترك وأما حين الفعل فلا يكون إلا الفعل فزعموا أو من زعم منهم أنه حينئذ لا يكون قادرا لأن القادر لا بد أن يقدر على الفعل والترك وحين الفعل لا يكون قادرا على الترك فلا يكون قادرا

وأما أهل السنة فإنهم يقولون لا بد أن يكون قادرا حين الفعل ثم أئمتهم قالوا ويكون أيضا قادرا قبل الفعل وقالت طائفة منهم لا يكون قادرا إلا حين الفعل وهؤلاء يقولون إن القدرة لا تصلح للضدين عندهم فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل وهي مستلزمة له لا توجد بدونه إذ لو صلحت للضدين على وجه البدل أمكن وجودها مع عدم أحد الضدين والمقارن للشيء مستلزم له لا يوجد مع عدمه فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع وما قالته القدرية فهو بناء على أصلهم الفاسد وهو أن إقدار الله المؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان بل يقولون إن إعانته للمطيع والعاصي سواء ولكن هذا بنفسه رجح الطاعة وهذا بنفسه رجح المعصية كالوالد الذي أعطى كل واحد من ابنيه سيفا فهذا جاهد به في سبيل الله وهذا قطع به الطريق أو أعطاهما مالا فهذا أنفقه في سبيل الله وهذا أنفقه في سبيل الشيطان

وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع المؤمن نعمة دينية خصه بها دون الكافر وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات 7 فبين أنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فالقدرية تقول هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق أو هو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين ولهذا قال أولئك هم الراشدون والكفار ليسوا راشدين

وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام 12وقال أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون سورة الأنعام 12وقال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الأنعام 53

وقال تعال يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين سورة الحجرات 1وقد أمر الله عباده أن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم

والدعاء إنما يكون لشيء مستقبل غير حاصل يكون من فعل الله تعالى وهذه الهداية المطلوبة غير الهدي الذي هو بيان الرسول ﷺ وتبليغه

وقال تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام سورة المائدة

وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحد من أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم

وقال الخليل ﷺ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا سورة البقرة

وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون سورة السجدة

وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار سورة القصص

ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يبين سبحانه وتعالى اختصاصه عباده المؤمنين بالهدى والإيمان والعمل الصالح والعقل يدل على ذلك فإنه إذا قدر أن جميع الأسباب الموجبة للفعل من الفاعل كما هي من التارك كان اختصاص الفاعل بالفعل ترجيحا لأحد المثلين على الآخر بلا مرجح وذلك معلوم الفساد بالضرورة وهو الأصل الذي بنوا عليه إثبات الصانع فإن قدحوا في ذلك انسد عليهم طريق إثبات الصانع

وغايتهم أن قالوا القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالجائع والخائف وهذا فاسد فإنه مع استواء الأسباب الموجبة من كل وجه يمتنع الرجحان

وأيضا فقول القائل يرجح بلا مرجح إن كان لقوله يرجح معنى زائد على وجود الفعل فذاك هو السبب المرجح وإن لم يكن له معنى زائد كان حال الفعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح وهذا مكابرة للعقل

فما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك وإنما تكون للفاعل والقدرة لا تكون إلا من الله وما كان من الله لم يكن مختصا بحال وجود الفعل ثم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل قالوا لا تكون مع الفعل لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك وحال وجود الفعل يمتنع الترك فلهذا قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل وهذا باطل قطعا لأن وجود الأثر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل فنقيض قولهم حق وهو أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين حزبا قالوا لا تكون القدرة إلا معه ظنا منهم أن القدرة نوعا واحد لا تصلح للضدين وظنا من بعضهم أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين فيمتنع وجودها قبل الفعل

والصواب الذي عليه أئمة الفقه والسنة أن القدرة نوعان نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي فهذه تحصل للمطيع والعاصي وتكون قبل الفعل وهذه تبقى إلى حين الفعل إما ببقائها عند من يقول ببقاء الأعراض وإما بتجدد أمثالها عند من يقول إن الأعرض لا تبقى وهذه قد تصلح للضدين

وأمر الله لعباده مشروط بهذه الطاقة فلا يكلف الله من ليست معه هذه الطاقة وضد هذه العجز وهذه المذكورة في قول الله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات سورة النساء وقوله تعالى وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون سورة التوبة 42 وقوله في الكفارة فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا سورة المجادلة 4 فإن هذا نفي لاستطاعة من لم يفعل فلا يكون مع الفعل

ومنه قول النبي ﷺ لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب فإنما نفى استطاعة لا فعل معها

وأيضا فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون مما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه فالشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر وما جعل عليهم في الدين من حرج

والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة مرضه وتأخر برئه فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه وإن كان يسميه بعض الناس مستطيعا

فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل بل ينظر إلى لوازم ذلك فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية كالذي يقدر أن يحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله أو يصلي قائما مع زيادة مرضه أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ونحو ذلك فإن كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة فكيف يكلف مع العجز

ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن هذه مثل جعل الفاعل مريدا فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة

والاستطاعة المقارنة للفعل تدخل فيها الإرادة الجازمة بخلاف المشروطة في التكليف فإنه لا يشترط فيها الإرادة والله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه

وهذا الفرقان هو فصل الخطاب في هذا الباب وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض فإن الإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة لزم وجود الفعل ولا بد أن يكون هذا المستلزم للفعل مقارنا له لا يكفي تقدمه عليه إن لم يقارنه فإنه العلة التامة للفعل والعلة التامة تقارن المعلول لا تتقدمه ولأن القدرة شرط في وجود الفعل وكون الفاعل قادرا والشرط في وجود الشيء الذي به القادر يكون قادرا لا يكون الشيء مع عدمه بل مع وجوده وإلا فيكون الفاعل فاعلا حين لا يكون قادرا أو غير القادر لا يكون قادرا

وهذا معنى قول أهل الاثبات الذي يذكره مثل القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أن المصحح لكون الفاعل فاعلا هو كونه قادرا ووجدنا كل مصحح لأمر من الأمور فإنه يستحيل ثبوت ذلك الأمر والحكم مع عدم المصحح له ألا ترى أنه لما ثبت أن المصحح لكون القادر العالم كونه حيا استحال كونه عالما قادرا مع عدم كونه حيا وكذلك لما كان المصحح لكون المتلون متلونا وكونه متحركا كونه جوهرا استحال كونه متلونا ومتحركا وليس بجوهر وكذلك يستحيل كونه فاعلا في حال ليس هو فيها قادرا

قالوا وهذا من الأدلة المعتمدة وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد من وجود القدرة على الفعل ولكن لا ينفي وجودها قبل الفعل فإن المصحح يصح وجوده قبل وجود المشروط وبدون ذلك كما يصح وجود الحياة بدون العلم والجوهر بدون الحركة

وهذا مما يحتج به على الفلاسفة في مسألة حدوث العالم فإنهم إذا قالوا العلة القديمة تحدث الدورة الثانية بشرط انقضاء الأولى

قيل لهم لا بد عند وجود المحدث من العلة التامة وكون الفاعل قادرا تام القدرة مريدا تام الإرادة فلا يكفي في الإحداث مجرد وجود شيء متقدم على الإحداث فكيف يكفي مجرد عدم شيء يتقدم عدمه على الإحداث بل لا بد حين الإحداث من المؤثر التام ثم كذلك عند حدوث المؤثر التام لا بد له من مؤثر تام فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية يقارنها معلولها لزم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا

وهذا يدل على أن الرب تعالى يتصف بما به يفعل الحوادث المخلوقة من الأقوال القائمة به الحاصلة بقدرته ومشيئته كما قد بسط في موضعه

وهذا التفصيل في الإرادة والقدرة وتقسيمها إلى نوعين يزيل الاشتباه والاضطراب الحاصل في هذا الباب

وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق فإن من قال القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق وليس هذا الإطلاق قول جمهور أهل السنة وأئمتهم بل يقولون إن الله تعالى قد أوجب الحج على المستطيع حج أو لم يحج وكذلك أوجب صيام الشهرين في الكفارة على المستطيع كفر أو لم يكفر وأوجب العبادات على القادرين دون العاجزين فعلوا أو لم يفعلوا

وما لا يطاق يفسر بشيئين يفسر بما لا يطاق للعجز عنه فهذا لم يكلفه الله أحدا ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده فهذا هو الذي وقع فيه التكليف كما في أمر العباد بعضهم بعضا فإنهم يفرقون بين هذا وهذا فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم ويعلم الفرق بين هذا وهذا بالضرورة

وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا على نكتها بحسب ما يليق بهذا الموضع

وعلى هذا فقوله لم يخلق فيه قدرة على الإيمان ليس هو قول جمهور أهل السنة بل يقولون خلق له القدرة المشروطة في التكليف المصححة للأمر والنهي كما في العباد إذا أمر بعضهم بعضا فما يوجد من القدرة في ذلك الأمر فهو موجود في أمر الله لعباده بل تكليف الله أيسر ورفعه للحرج أعظم والناس يكلف بعضهم بعضا أعظم مما أمرهم الله به ورسوله ولا يقولون إنه تكليف ما لا يطاق ومن تأمل أحوال من يخدم الملوك والرؤساء ويسعى في طاعتهم وجد عندهم من ذلك ما ليس عند المجتهدين في العبادة لله
فصل

قال الرافضي:

ومنها إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم لأن النبي إذا قال للكافر آمن بي وصدقني يقول قل للذي بعثك يخلق في الإيمان والقدرة المؤثرة فيه حتى أتمكن من الإيمان وأومن بك وإلا فكيف تكلفني الإيمان ولا قدرة لي عليه بل خلق في الكفر وأنا لا أتمكن من مقاهرة الله تعالى فينقطع النبي ولا يتمكن من جوابه

فيقال

هذا مقام يكثر فيه خوض النفوس فإن كثيرا من الناس إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدرة وقال حتى يقدر الله لي ذلك أو يقدرني الله على ذلك أو حتى يقضي الله ذلك وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال الله قضى علي بذلك أي حيلة لي في هذا ونحو هذا الكلام

والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه أو ترك ما يجب عليه من حقوقه بل يطلب منه ما له عليه ويعاقبه على عدوانه عليه وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم فكما أنك تعلم فسادها بالضرورة وإن كانت تعرض كثيرا لكثير من الناس حتى قد يشك في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف الضرورية فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك ولكن تعلم القلوب بالضرورة ان هذه شبهة باطلة ولهذا لا يقبلها أحد من أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة وهو المأمور به وهو الذي ينبغي فعله لم يحتج بالقدر وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به لم يحتج بالقدر بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم احتج بالقدر

ولهذا لما قال المشركون لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء سورة الأنعام 148 قال الله تعالى قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين سورة الأنعام فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة باطلة

فإن أحدهم لو ظلم الآخر في ماله أو فجر بامرأته أو قتل ولده أو كان مصرا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال لو شاء الله لم أفعل هذا لم يقبلوا منه هذه الحجة ولا هو يقبلها من غيره وإنما يحتج بها المحتج دفعا للوم بلا وجه فقال الله لهم هل عندكم من علم فتخرجوه لنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله وأنه مصلحة ينبغي فعله إن تتبعون إلا الظن فإنه لا علم عندكم بذلك إن تظنون ذلك إلا ظنا وإن أنتم إلا تخرصون تحرزون وتفترون فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره فإن مجرد المشيئة والقدر لا يكون عمدة لأحد في الفعل ولا حجة لأحد على أحد ولا

عذرا لأحد إذ الناس كلهم مشتركون في القدر فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبر والفاجر ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم

وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده والايمان به لو احتج به بعضهم على بعض في إسقاط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا ويعادي بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا على فعل ما يرونه تركا لحقهم أو ظلما فلما جاءهم رسول الله ﷺ يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة امره احتجوا بالقدر فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حق ربهم ومخالفة أمره بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم

وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال له يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك حقهم عليه أن لا يعذبهم

فالاحتجاج بالقدر حال أهل الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره لا في ترك ما يرونه حقا لهم ولا في مخالفة أمرهم

ولهذا تجد كثيرا من المحتجين به والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم

وهذا أصل شريف من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي كثيرا ما يوصون أتباعهم باتباع العلم والشرع لأنه كثيرا ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنها دين الله وليس معهم إلا الظن والذوق والوجد الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة فإذا اتبعوا العلم وهو ماجاء به الشارع ﷺ خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس واتبعوا ما ماجاءهم من ربهم وهو الهدى

كما قال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى سورة طه 123

وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى عن المشركين في سورة الأنعام والنحل والزخرف كما قال تعالى وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون سورة الزخرف 20 فبين أنه لا علم لهم بذلك إن هم إلا يخرصون

وقال في سورة الأنعام قل فلله الحجة البالغة سورة الأنعام 149 أي بإرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل سورة النساء 165 ثم أثبت القدر بقوله فلو شاء لهداكم أجمعين سورة الأنعام فأثبت الحجة الشرعية وبين المشيئة القدرية وكلاهما حق

وقال في النحل وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين بين سبحانه أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاؤوهم به ليس حجة لهم فإن هذا لو كان حجة لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم ففي فطرة بني آدم أنه ليس حجة صحيحة بل من احتج به احتج لعدم العلم واتباع الظن كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب

كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أغير

من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فبين أنه سبحانه يحب أن يمدح وأن يعذر ويبغض الفواحش فيحب أن يمدح بالعدل والإحسان وأن لا يوصف بالظلم

ومن المعلوم أنه من تقدم إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا وبين لهم وأزاح علتهم ثم تعدوا حدوده وأفسدوا أموره كان له أن يعذبهم وينتقم منهم

فإذا قالوا أليس الله قدر علينا هذا لو شاء الله ما فعلنا هذا

قيل لهم أنتم لا حجة لكم ولا عندكم ما تعتذرون به يبين أن ما فعلتموه كان حسنا أو كنتم معذورين فيه فهذا الكلام غير مقبول منكم وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار

ولو أن ولي الأمر أعطى قوما مالا ليوصلوه إلى بلد آخر فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد وباتوا في مكان بعيد منه وكان ولي الأمر قد أرسل جندا له يغزون بعض الأعداء فاجتازوا تلك الطريق فرأوا ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا لكان يحسن منه أن يعاقب الأولين على تفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم بحفظه

ولو قالوا له أنت لم تعلمنا أنك تبعث خلفنا جندا حتى نحترز المال منهم قال لهم هذا لا يجب علي ولو فعلته لكان زيادة إعانة لكم لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظ الودائع والأمانات وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن إن عاقبهم ظالما وإن كان لم يعنهم بالإعلام بذلك الجند لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين

والله تعالى وله المثل الأعلى حكيم عدل في كل ما يفعله ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم وإذا خلق أمورا أخرى فإذا فرطوا واعتدوا بسبب خلقه لأمور أخرى أوجبت الضرر الحاصل من تفريطهم وعدوانهم وكان له في خلق المخلوق الثاني حكمة ومصلحة أخرى كان عادلا حكيما في خلق هذا وخلق هذا والأمر بهذا والأمر بهذا وإن كان لم يمد الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح منها فإن الضدين لا يجتمعان

والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل لعدم اتباع الحق الذي بينه العلم فإن الإنسان حي حساس متحرك بالإرادة

ولهذا قال النبي ﷺ أصدق الأسماء الحارث وهمام فالحارث الكاسب العامل والهمام الكثير الهم والهم مبدأ الإرادة والقصد فكل إنسان حارث همام وهو المتحرك بالإرادة وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب

والحي مفطور على حب ما يلائمه وينفعه وبغض ما يكرهه ويضره فإذا تصور الشيء الملائم النافع أراده وأحبه وإذا تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه لكن ذلك التصور قد يكون علما وقد يكون ظنا وخرصا فإذا كان عالما بأن مراده هو النافع وهو المصلحة وهو الذي يلائمه كان على الهدى والحق وإذا لم يكن معه علم بذلك كان متبعا للظن وما تهوى نفسه فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة أخذ يحتج بالقدر حجة لدد وتعريج عن الحق لا حجة اعتماد على الحق والعلم فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر إلا لعدم العلم بأن ما هو عليه هو الحق

وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرا بأن ما هو عليه ليس معه به علم وإنما تكلم بغير علم ومن تكلم بغير علم كان مبطلا في كلامه ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة فإما أن يكون جاهلا فعليه أن يتبع العلم وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه

فتبين أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله

وحينئذ فالجواب في هذا المقام من وجوه

أحدها أن هذا إنما يكون انقطاعا لو كان الاحتجاج بالقدر سائغا فأما إذا كان الاحتجاج بالقدر باطلا بطلانا ضروريا مستقرا في جميع الفطر والعقول لم يكن هذا السؤال متوجها وذلك أنه من المستقر في فطر الناس وعقولهم أنه من طلب منه فعل من الأفعال الاختيارية لم يكن له أن يحتج بمثل هذا ومن طلب دينا له على آخر لم يكن له أن يقول لا أعطيك حتى يخلق الله في العطاء ومن أمر عبده بأمر لم يكن له أن يقول لا أفعله حتى يخلق الله في فعله ومن ابتاع شيئا وطلب منه الثمن لم يكن له أن يقول لا أقضيه حتى يخلق الله في القضاء أو القدرة على هذا

وهذا أمر جبل الله عليه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم مقرهم بالقدر ومنكرهم له ولا يخطر ببال أحد منهم الاعتراض بمثل هذا مع اعترافهم بالقدر فإذا كان هذا الاعتراض معروف الفساد في بدائه العقول ولم يكن لأحد أن يحتج به على الرسول

الثاني أن الرسول يقول له أنا نذير لك إن فعلت ما أمرتك به نجوت وسعدت وإن لم تفعله عوقبت كما قال النبي ﷺ لما صعد على الصفا ونادى يا صباحاه فأجابوه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن عدوا مصبحكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد وقال أنا النذير العريان

ومن المعلوم أن من أنذر بعدو يقصده لم يقل لنذيره قل لله يخلق في قدرة على الفرار حتى أفر بل يجتهد في الفرار والله هو الذي يعينه على الفرار

فهذا الكلام لا يقوله إلا مكذب للرسل إذ ليس في الفطرة مع تصديق النذير الاعتلال بمثل هذا وإذا كان هذا تكذيبا حاق به ما حاق بالمكذبين

الوجه الثالث أن يقول له أنا ليس لي أن أقول لربي مثل هذا الكلام بل علي أن أبلغ رسالاته وإنما علي ما حملت وعليك ما حملت وليس علي إلا البلاغ المبين وقد قمت به

الرابع أن يقول ليس لي ولا لغيري أن يقول له لم لم تجعل في هذا كذا وفي هذا كذا فإن الناس على قولين من يقول إنه لا حكمة إلا محض المشيئة يقول إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن يقول إن له حكمة يقول لم يفعل شيئا إلا لحكمة ولم يتركه إلا لانتفاء الحكمة فيه

وإذا كان كذلك لم يكن للعبد أن يقول له مثل ذلك ولهذا قال تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون سورة الأنبياء 23

الوجه الخامس أن يقول إعانتك على الفعل هو من أفعاله هو فما فعله فالحكمة وما لم يفعله فلانتفاء الحكمة وأما نفس الطاعة فمن أفعالك التي تعود مصلحتها عليك فإن أعانك كان فضلا عليك منه وإن خذلك كان عدلا منه فتكليفك ليس لحاجة له إلى ذلك ليحتاج إلى اعانتك كما يأمر السيد عبده بمصلحته

فإذا كان العبد غير قادر أعانه حتى يحصل مراد الآمر الذي يعود إليه نفعه بل التكليف إرشاد وهدى وتعريف للعباد بما ينفعهم في المعاش والمعاد ومن عرف أن هذا الفعل ينفعه وهذا الفعل يضره وأنه يحتاج إلى ذلك الذي ينفعه لم يمكنه أن يقول لا أفعل الذي أنا محتاج إليه وهو ينفعني حتى يخلق في الفعل بل مثل هذا يخضع ويذل لله حتى يعينه على فعل ما ينفعه كما لو قيل هذا العدو قد قصدك أو هذا السبع أو هذا السيل المنحدر فإنه لا يقول لا أهرب وأتخلص منه حتى يخلق الله في الهرب بل يحرص على الهرب ويسأل الله الإعانة على ذلك ويفر منه إذا عجز وكذلك إذا كان محتاجا إلى طعام أو شراب أو لباس فإنه لا يقول لا آكل ولا أشرب ولا ألبس حتى يخلق الله في ذلك بل يريد ذلك ويسعى فيه ويسأل الله تيسيره عليه

فالفطرة مجبولة على حب ما تحتاج إليه ودفع ما يضرها وأنها تستعين الله عز وجل على ذلك هذا هو موجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده وإيجابها ذلك ولهذا أمر الله العباد أن يسألوا الله أن يعينهم على فعل ما أمر

===================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل المقحمات هي الذنوب العظام كما قال النووي أم أنها ذنوب أرتكبت بقصد طاعة الله لكن التسرع والاندفاع دافع للخطأ من غير قصد

تعقيب علي المقحمات يتبين من تعريف المقحمات بين النووي ومعاجم اللغة العتيدة أن النووي أخطأ جدا في التعريف { المقحمات مفتوح للكتابة...