معاني كلمات القران الكريم




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بؤامج نداء الايمان

النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق/مدونة ديوان الطلاق//المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني / / /*الـذاكـر / /القرآن الكريم مع الترجمة / /القرآن الكريم مع التفسير / /القرآن الكريم مع التلاوة / / /الموسوعة الحديثية المصغرة/الموسوعة الفقهية الكبرى //برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم //برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية / /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة / /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين / /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر / /برنامج مكتبة السنة / /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية / /برنامج موسوعة شرح الحديث الشريف فتح البارى لشرح صحيح البخارى وشرح مسلم لعبد الباقى وشرح مالك للإمام اللكنوى / /خلفيات إسلامية رائعة / /مجموع فتاوى ابن تيمية / /مكتبة الإمام ابن الجوزي / /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني / /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي / /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي / /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي / /مكتبة الإمام ابن كثير / /مكتبة الإمام الذهبي / /مكتبة الإمام السيوطي / /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني / /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي / /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي / /مكتبة الشيخ حمود التويجري / /مكتبة الشيخ ربيع المدخلي / /مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ / /مكتبة الشيخ صالح الفوزان / /مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي / /مكتبة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم / /مكتبة الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان / /مكتبة الشيخ عبد المحسن العباد / /مكتبة الشيخ عطية محمد سالم / /مكتبة الشيخ محمد أمان الجامي /مكتبة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي / /مكتبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / /مكتبة الشيخ مقبل الوادعي / /موسوعة أصول الفقه / /موسوعة التاريخ الإسلامي / /موسوعة الحديث النبوي الشريف / /موسوعة السيرة النبوية / /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية / موسوعة توحيد رب العبيد / موسوعة رواة الحديث / موسوعة شروح الحديث / /موسوعة علوم الحديث / /موسوعة علوم القرآن / /موسوعة علوم اللغة / /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

الجمعة، 4 مارس 2022

ج 6- مننهاج السنة {35}لابن تيمية من {{ من ص 35. الي صفحة و36 و37 و38 و 39 واخر 40-----}}



منهاج السنة النبوية/35
فإذا قيل الصفات الذاتية الداخلة في الماهية والخارجة عن الماهية وعني بالداخل ما دل عليه اللفظ بالتضمن وبالخارج ما دل عليه بالالتزام فهذا صحيح
وهذا الدخول والخروج هو بحسب ما تصوره المتكلم فمن تصور حيوانا ناطقا فقال إنسان كانت دلالته على المجموع مطابقة وعلى أحدهما تضمن وعلى اللازم مثل كونه ضاحكا التزام وإذا تصور إنسانا ضاحكا كانت دلالة إنسان على المجموع مطابقة وعلى أحدهما تضمن وعلى اللازم مثل كونه ناطقا التزام
وأما أن تكون الصفات اللازمة للموصوف في الخارج بعضها داخل في حقيقته وماهيته وبعضها خارج عن حقيقته وماهيته والداخل هو الذاتي والخارج ينقسم إلى لازم للماهية والوجود وإلى لازم للوجود دون الماهية فهذا كله مما قد بسط الكلام عليه في مواضع وبينا ما في المنطق اليوناني من الأغاليط التي بعضها من معلمهم الأول وبعضها من تغيير المتأخرين
وتكلمنا على ما ذكره أئمتهم في ذلك واحدا واحدا كابن سينا وأبي البركات وغيرهما وأنه يوجد من كلامهم أنفسهم ومن رد بعضهم على بعض ما يبين أن ما ذكروه من تقسيم الصفات اللازمة للموصوف إلى هذه الأقسام الثلاثة تقسيم باطل إلا إذا جعل ذلك باعتبار ما في الذهن من الماهية لا باعتبار ماهية موجودة في الخارج 3 وكذلك ما فرعوه على هذا من أن الإنسان مركب من الجنس والفصل فإن هذا التركيب ذهني لا حقيقة له في الخارج وتركبه من الحيوان والناطق من جنس تركبه من الحيوان والضاحك إذا جعل كل من الصفتين لازما ملزوما وأريد الضاحك بالقوة والناطق بالقوة
وأما إذا قيل في الخارج الإنسان مركب من هذا وهذا فإن أريد به أن الإنسان موصوف بهذا وهذا فهذا صحيح وكذلك إذا فرق بين الصفات اللازمة للإنسان التي لا يكون إنسانا إلا بها كالحيوانية والناطقية والضاحكية وبين ما يعرض لبعض الناس كالسواد والبياض والعربية والعجمية فهذا صحيح
أما إذا قيل هو مركب من صفاته اللازمة له وهي أجزاء له وهي متقدمة عليه تقدما ذاتيا فإن الجزء قبل الكل والمفرد قبل المركب وأريد بذلك التركيب في الخارج فهذا كله تخليط فإن الصفة تابعة للموصوف فكيف تكون متقدمة عليه بوجه من الوجوه
وإذا قيل هو مركب من الحيوانية والناطقية أو من الحيوان والناطق فإن أريد أنه مركب من جوهرين قائمين بأنفسهما لزم أن يكون في كل موصوف جواهر كثيرة بعدد صفاته فيكون في الإنسان جوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك بالإرادة وجوهر هو ناطق
ومعلوم أن هذا خطأ بل الإنسان جوهر قائم بنفسه موصوف بهذه الصفات فيقال جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق
وإن أريد به أنه مركب من عرضين فالإنسان جوهر والجوهر لا يتركب من أعراض لاحقة له فضلا عن أن تكون سابقة له متقدمة عليه
وهذا كله قد بسطناه في مواضع وإنما كان المقصود هنا أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما يغلطون في جعل الأمور الذهنية المعقولة في النفس فيجعلون ذلك بعينه أمورا موجودة في الخارج فأصحاب فيثاغورس القائلون بالأعداد المجردة في الخارج من هنا كان غلطهم وأصحاب أفلاطون الذي أثبتوا المثل الأفلاطونية من هنا كان غلطهم وأصحاب صاحبه أرسطو الذين أثبتوا جواهر معقولة مجردة في الخارج مقارنة للجواهر الموجودة المحسوسة كالمادة والصورة والماهية الزائدة على الوجود في الخارج من هنا كان غلطهم
وهم إذا أثبتوا هذه الماهية قيل لهم أهي في الذهن أم في الخارج ففي أيهما أثبتوها ظهر غلطهم وإذا قالوا نثبتها مطلقة مع قطع النظر عن هذا وهذا أو أعم من هذا وهذا قيل عدم نظر الناظر لا يغير الحقائق عما هي عليه في نفس الأمر إما في الذهن وإما في الخارج
وما كان أعم منها فهو أيضا في الذهن فإنك إذا قدرت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج لم تكن مقدرا إلا في الذهن ومعنى ذلك أن هذا التقدير في الذهن لا أن الماهية التي قيل عنها ليست في الذهن هي في الذهن بل الماهية التي تصورها الإنسان في ذهنه يمكنه تقديرها ليست في ذهنه مع أن تقديرها ليست في ذهنه هو في ذهنه وإن كان تقديرا ممتنعا
بل يجب الفرق بين الماهية المقيدة بكونها في الذهن وبين الماهية المطلقة التي لا تتقدر بذهن ولا خارج مع العلم بأن هذه الماهية المطلقة لا تكون أيضا إلا في الذهن وإن أعرض الذهن عن كونها في الذهن فكونها في الذهن شيء والعلم بكونها في الذهن شيء آخر
وهؤلاء يتصورون أشياء ويقدرونها وذلك لا يكون إلا في الذهن لكن حال ما يتصور الإنسان شيئا في ذهنه ويقدره قد لا يشعر بكونه في الذهن كمن رأى الشيء في الخارج فاشتغل بالمرئي عن كونه رائيا له وهذا يشبه ما يسميه بعضهم الفناء الذي يفنى بمذكوره عن ذكره وبمحبوبه عن محبته وبمعبوده عن عبادته ونحو ذلك كما يقدر الشيء بخلاف ما هو عليه كما إذا قدر أن الجبل من ياقوت والبحر من زئبق فتقدير الأمور على خلاف ما هي عليه هو تقدير اعتقادات باطلة
والاعتقادات الباطلة لا تكون إلا في الأذهان فمن قدر ماهية لا في الذهن ولا في الخارج فهو مثل من قدر موجودا لا واجبا ولا ممكنا ولا قديما ولا محدثا ولا قائما بنفسه ولا قائما بغيره وهذا التقدير في الذهن
وقد بسطنا الكلام على ذلك لما بينا فساد احتجاج كثير من أهل النظر بالتقديرات الذهنية على الإمكانات الخارجية كما يقوله الرازي وغيره إنا يمكننا أن نقول الموجود إما داخل العالم وإما خارج العالم وإما لا داخل العالم ولا خارجه وكل موجود إما مباين لغيره وإما محايث له وإما لا مباين ولامحايث فهذا يدل على إمكان القسم الثالث وكذلك إذا قلنا الموجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز وإما لا متحيز ولا قائم بالمتحيز وهذا يدل على إمكان القسم الثالث وهذا غلط فإن هذا كقول القائل الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما لا قائم بنفسه ولا بغيره فدل على إمكان القسم الثالث فإن هذا غلط
وكذلك إذا قيل إما قديم وإما محدث وإما لا قديم ولا محدث وإما واجب وإما ممكن وإما لا واجب ولا ممكن وكذلك ما أشبه هذا
ودخل الغلط على هؤلاء حيث ظنوا أن مجرد تقدير الذهن وفرضه يقتضي إمكان ذلك في الخارج وليس كذلك بل الذهن يفرض أمورا ممتنعة لا يجوز وجودها في الخارج ولا تكون تلك التقديرات إلا في الذهن لا في الخارج
وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ولكن المقصود هنا ذكر ما اختلف فيه الناس من جهة الذم والعقاب وبينا أن الحال يرجع إلى أصلين أحدهما أن كل ما تنازع فيه الناس هل يمكن كل أحد اجتهاد يعرف به الحق أم الناس ينقسمون إلى قادر على ذلك وغير قادر
والأصل الثاني المجتهد العاجز عن معرفة الصواب هل يعاقبه الله أم لا يعاقب من اتقى الله ما استطاع وعجز عن معرفة بعض الصواب
وإذا عرف هذان الأصلان فأصحاب رسول الله ﷺ جميع ما يطعن به فيهم أكثره كذب والصدق منه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ والخطأ مغفور والذنب له أسباب متعددة توجب المغفرة ولا يمكن أحد أن يقطع بأن واحدا منهم فعل من الذنوب ما يوجب النار لا محالة وكثير مما يطعن به على أحدهم يكون من محاسنه وفضائله فهذا جواب مجمل
ثم نحن نتكلم على ما ذكرته الرافضة من المطاعن على وجه التفصيل كما ذكره أفضل الرافضة في زمنه صاحب هذا الكتاب لما ذكر أن الكلبي صنف كتابا في المثالب
قال الرافضي وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة ونحن نذكر منها شيئا يسيرا منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر إن النبي ﷺ كان يعتصم بالوحي وإن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه
والجواب أن يقال هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق رضي الله عنه وأدلها على أنه لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا فلم يكن طالب رياسة ولا كان ظالما وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها وإن زغت عنها فقوموني كما قال أيضا أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم
والشيطان الذي يعتريه يعترى جميع بني آدم فإنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن
والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قيل وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير
وفي الصحيح عنه قال لما مر به بعض الأنصار وهو يتحدث مع صفية ليلا قال على رسلكما إنها صفية بنت حيي ثم قال إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئا إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم
ومقصود الصديق بذلك إني لست معصوما كالرسول ﷺ وهذا حق
وقول القائل كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية كلام جاهل بحقيقة الإمامة فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته حتى يستغني عنهم ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا فلا بد له من إعانتهم ولا بد لهم من إعانته كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق إن سلك بهم الطريق اتبعوه وإن أخطأ عن الطريق نبهوه وأرشدوه وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم علي دفعه لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم
وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلوا بصلاته وإن سها سبحوا به فقوموه إذا زاغ
وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه وإن غلط قوموه
والناس بعد الرسول لا يتعلمون الدين من الإمام بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة بل قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآيةسورة النساء 59 فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعا لطاعة الرسول
ولهذا قال النبي ﷺ إنما الطاعة في المعروف وقال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه وقول القائل كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه
وارد في كل متعاونين ومتشاركين يحتاج كل منهما إلى الاخر حتى الشركاء في التجارات والصناعات وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة فإن المأمومين يحتاجون إليه وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقومونه ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتبعوه فيها ونظائره متعددة
ثم يقال استعانة علي برغيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك
وكانوا إذا أمرهم أطاعوه وعلي رضى الله عنه لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن ثم رأى أن يبعن فقال له قاضيه عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة
وكان يقول اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي
وكانت رعيته كثيرة المعصية له وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي يخالفهم فيه ثم يتبين له أن الصواب كان معهم كما أشار عليه الحسن بأمور مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة وأن لا يخرج إلى الكوفة وأن لا يقاتل بصفين وأشار عليه أن لا يعزل معاوية وغير ذلك من الأمور
وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعلي رضي الله عنهم فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية كانوا هم ورعيتهم أفضل وإن كان لكمال المتولي وحده فهو أبلغ في فضلهم وإن كان ذلك لفرط نقص رعية علي كان رعية علي أنقص من رعية أبي بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان
ورعيته هم الذين قاتلوا معه وأقروا بإمامته ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة علي لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه
وأيضا فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعلي فيلزم أن تكون رعية معاوية خيرا من رعية علي ورعية معاوية شيعة عثمان وفيهم النواصب المبغضون لعلي فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي فيلزم على كل تقدير إما أن يكون الثلاثة أفضل من علي وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي والروافض
وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة فإنهم يدعون أن عليا أكمل من الثلاثة وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة فضلا عن أصحاب معاوية
والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعلي فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة على رأيهم أعظم اضطرابا وأقل انتظاما من الإمام الناقص والرعية الناقصة بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم
ولم يكن في أصحاب علي من العلم والدين والشجاعة والكرم إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين
ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من علي فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أولى وأحرى فعلم أنهم شر وأنقص من غيرهم
وهم يقولون المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة علم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل
وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيره
فصل
قال الرافضي وقال أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم فإن كانت إمامته حقا كانت استقالته منها معصية وإن كانت باطلة لزم الطعن
والجواب أن هذا كذب ليس في شيء من كتب الحديث ولا له إسناد معلوم فإنه لم يقل وعلي فيكم بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة بايعوا أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح فقال له عمر بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله ﷺ قال عمر كنت والله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من تأمري على قوم فيهم أبو بكر
ثم لو قال وعلي فيكم لاستخلفه مكان عمر فإن أمره كان مطاعا
وأما قوله إن كانت إمامته حقا كانت استقالته منها معصية
فيقال إن ثبت أنه قال ذلك فإن كونها حقا إما بمعنى كونها جائزة والجائز يجوز تركه وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولوا غيره ولم يقيلوه وأما إذا أقالواه وولوا غيره لم تكن واجبة عليه
والإنسان قد يعقد بيعا أو إجارة ويكون العقد حقا ثم يطلب الإقالة وهو لتواضعه وثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة وإن لم يكن هناك من هو أحق بها منه وتواضع الإنسان لا يسقط حقه
فصل
قال الرافضي وقال عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل فيلزم تطرق الطعن إلى عمر وإن كانت باطلة لزم الطعن عليهما معا
والجواب أن لفظ الحديث سيأتي قال فيه فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن وقي الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ومعناه أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار لكونه كان متعينا لهذا الأمر كما قال عمر ليس فيكم من تقطع إليه الاعناق مثل أبي بكر
وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه وتقديم رسول الله ﷺ له على سائر الصحابة أمرا ظهرا معلوما فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريث بخلاف غيره فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والإنتظار والتريث فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك
وهذا قد جاء مفسرا في حديث عمر هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم وقد رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال كنت اقرىء رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إلى عبد الرحمن بن عوف فقال لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت فغضب عمر ثم قال إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمورهم فقال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول مقالتك متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها فقال عمر أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلت بالرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف فأنكر علي وقال ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي إن الله بعث محمدا ﷺ بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله ﷺ ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله إن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ألا إن رسول الله ﷺ قال لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر لبايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه ﷺ أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا لا عليكم أن لا تقربوهم أقضوا أمركم فقلت والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا هذا سعد بن عبادة فقلت ما له قالوا يوعك فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحصنونا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن فقال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة قال عمر وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فساد فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا قال مالك وأخبرني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما عويمر بن ساعدة ومعن بن عدي وهما ممن شهد بدرا قال ابن شهاب وأخبرني سعيد بن المسيب أن الذي قال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب الحباب بن المنذر
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ مات وأبوبكر بالسنح فقام عمر يقول والله ما مات رسول الله ﷺ قال وقال عمر والله ما كان يقع في قلبي إلا ذاك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن رسول ﷺ فقبله فقال بأبي وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج فقال أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبوبكر وأثنى عليه وقال ألا من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال الله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون سورة الزمر 30 وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل أنقلبتم على أعاقبكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله سشيئا شيئا وسيجزي الله الشاكرين سورة آل عمران 144 قال فنشج الناس يبكون واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول والله ما أردت بذلك إلا أني هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال حباب ابن المنذر لا والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأعربهم أحسابا فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله ﷺ فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس فقال قائل قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله
وفي صحيح البخاري عن عائشة في هذه القصة قالت ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي رسول الله ﷺ فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم قال كنت أرجو أن يعيش رسول الله ﷺ حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم فإن يكن محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به به هدى الله محمدا وإن إبا بكر صاحب رسول الله ﷺ ثاني اثنين وإنه أولى المسلمين بأموركم فقوموا فبايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قيل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر
وعنه قال سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ اصعد المنبر فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة
وفي طريق أخرى لهذه الخطبة أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى الله به رسوله ﷺ
فصل
قال الرافضي وقال أبو بكر عند موته ليتني كنت سألت رسول الله ﷺ هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على أنه في شك من إمامته ولم تقع صوابا
والجواب أن هذا كذب على أبي بكر رضي الله عنه وهو لم يذكر له إسنادا ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل فلا بد أن يذكر إسنادا تقوم به الحجة فكيف بمن يطعن في السابقين الأولين بمجرد حكاية لا إسناد لها
ثم يقال هذا يقدح فيما تدعونه من النص على علي فإنه لو كان قد نص عل علي لم يكن للأنصار فيه حق ولم يكن في ذلك شك
فصل
قال الرافضي وقال عند احتضاره ليت أمي لم تلدني يا ليتني كنت تبنة في لبنة مع أنهم قد نقلوا عن النبي ﷺ أنه قال ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار
والجواب أن تكلمه بهذا عند الموت غير معروف بل هو باطل فلا ريب بل الثابت عنه أنه لما احتضر وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال ليس كذلك ولكن قولي وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد سورة ق 14ولكن نقل عنه أنه قال في صحته ليت أمي لم تلدني ونحو هذا قاله خوفا إن صح النقل عنه ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفا وهيبة من أهوال يوم القيامة حتى قال بعضهم لو خيرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة وبين أن أصير ترابا لاخترت أن أصير ترابا وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال والله لوددت أني شجرة تعضد وقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء قال حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن علي الصائغ حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا السري بن يحيى قال قال عبد الله بن مسعود لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي اختر في أيهما تكون أو تكون رمادا لاخترت أن أكون رمادا
وروى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا يحيي بن سعيد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال رجل عند عبد الله بن مسعود ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين أكون من المقربين أحب إلي فقال عبد الله بن مسعود لكن ها هنا رجل ود أنه إذا مات لم يبعث يعني نفسه
والكلام في مثل هذا هل هو مشروع أم لا له موضع آخر لكن الكلام الصادر عن خوف العبد من الله يدل على إيمانه بالله وقد غفر الله لمن خافه حين أمر أهله بتحريقه وتذرية نصفه في البر ونصفه في البحر مع أنه لم يعمل خيرا قط وقال والله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه وقال ما حملك على ما صنعت قال من خشيتك يا رب فغفر له أخرجاه في الصحيحين
فإذا كان مع شكه في القدرة والمعاد إذا فعل ذلك غفر له بخوفه من الله علم أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقية إذا قدر أنها ذنوب
فصل
قال الرافضي وقال أبو بكر ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت الوزير قال وهو يدل على أنه لم يكن صالحا يرتضي لنفسه الإمامة
والجواب أن هذا إن كان قاله فهو أدل دليل على أن عليا لم يكن هو الإمام وذلك إن قائل هذا إنما يقوله خوفا من الله أن يضيع حق الولاية وأنه إذا ولى غيره وكان وزيرا له كان أبرأ لذمته فلو كان علي هو الإمام لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضا وكان يكون وزيرا لظالم غيره وكان قد باع آخرته بدنيا غيره وهذا لا يفعله من يخاف الله ويطلب براءة ذمته
وهذا كما لو كان الميت قد وصى بديون فاعتقد الوارث أن المستحق لها شخص فأرسلها إليه مع رسوله ثم قال يا ليتني أرسلتها مع من هو أدين منه خوفا أن يكون الرسول الأول مقصرا في الوفاء تفريطا أو خيانة وهناك شخص حاضر يدعي أنه المستحق للدين دون ذلك الغائب فلو علم الوارث أنه المستحق لكان يعطيه ولا يحتاج إلى الإرسال به إلى ذلك الغائب
فصل
قال الرافضي وقال رسول الله ﷺ في مرض موته مرة بعد أخرى مكررا لذلك أنفذوا جيش أسامة لعن الله المتخلف عن جيش أسامة وكان الثلاثة معه ومنع أبو بكر وعمر من ذلك
والجواب أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي ﷺ أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة وإنما روي ذلك في عمر وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة وقد استخلفه يصلي بالمسلمين مدة مرضه وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الإثنين اثني عشر يوما ولم يقدم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر ولم تكن الصلاة التي صلاها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي ﷺ صلاة ولا صلاتين ولا صلاة يوم ولا يومين حتى يظن ما تدعيه الرافضة من التلبيس وأن عائشة قدمته بغير أمره بل كان يصلي بهم مدة مرضه فإن الناس متفقون على أن النبي ﷺ لم يصل بهم في مرض موته إلا أبو بكر وعلي أنه صلى بهم عدة أيام وأقل ما قيل إنه صلى بهم سبعة عشرة صلاة صلى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة وخطب بهم يوم الجمعة هذا مما تواترت به الأحاديث الصحيحة ولم يزل يصلي بهم إلى فجر يوم الاثنين صلى بهم صلاة الفجر وكشف النبي ﷺ الستارة فرآهم يصلون خلف أبي بكر فلما رأوه كادوا يفتنون في صلاتهم ثم أرخى الستارة وكان ذلك آخر عهدهم به وتوفي يوم الإثنين حين اشتد الضحى قريبا من الزوال
وقد قيل إنه صلى به أكثر من ذلك من الجمعة التي قبل فيكون قد صلى بهم مدة مرضه كلها لكن خرج النبي ﷺ في صلاة واحدة لما وجد خفة في نفسه فتقدم وجعل أبا بكر عن يمينه فكان أبو بكر يأتم بالنبي ﷺ والناس يأتمون بأبي بكر وقد كشف الستارة يوم الإثنين صلاة الفجر وهم يصلون خلف أبي بكر ووجهه ﷺ كأنه ورقة مصحف فسر بذلك لما رأى اجتماع الناس في الصلاة خلف أبي بكر ولم يروه بعدها
وقد قيل إن آخر صلاة صلاها كانت خلف أبي بكر وقيل صلى خلفه غيرها
فكيف يتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس
وأيضا فإنه جهز جيش أسامة قبل أن يمرض فإنه أمره على جيش عامتهم المهاجرون منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده ﷺ وكانوا ثلاثة آلاف وأمره أن يغير على أهل مؤتة وعلى جانب فلسطين حيث أصيب أبوه وجعفر وابن رواحة فتجهز أسامة ابن زيد للغزو وخرج في ثقله إلى الجرف وأقام بها أياما لشكوى رسول الله ﷺ فدعا رسول الله ﷺ أسامة فقال اغد على بركة الله والنصر والعافية ثم أغر حيث أمرتك أن تغير قال أسامة يا رسول الله قد أصبحت ضعيفا وأرجو أن يكون الله قد عافاك فاذن لي فأمكث حتى يشفيك الله فإني إن خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي نفسي منك قرحة وأكره أن أسأل عنك الناس فسكت عنه رسول الله ﷺ وتوفي رسول الله ﷺ بعد ذلك بأيام فلما جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة لأنه ذو رأي ناصح للإسلام فأذن له وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله ﷺ فأصاب في ذلك العدو مصيبة عظيمة وغنم هو وأصحابه وقتل قاتل أبيه وردهم الله سالمين إلى المدينة
وإنما أنفذ جيش أسامة أبوبكر الصديق بعد موت النبي ﷺ وقال لا أحل راية عقدها رسول الله ﷺ وأشار عليه غير واحد أن يرد الجيش خوفا عليهم فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي ﷺ فامتنع أبو بكر من رد الجيش وأمر بإنفاذه فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي ﷺ كان ذلك مما أيد الله به الدين وشد به قلوب المؤمنين وأذل به الكفار والمنافقين وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصديق وإيمانه ويقينه وتدبيره ورأيه
فصل
قال الرافضي وأيضا لم يؤل النبي ﷺ أبا بكر ألبتة عملا في وقته بل ولى عليه عمرو بن العاص تارة وأسامة أخرى ولما أنفذه بسورة براءة رده بعد ثلاثة أيام بوحي من الله وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي ﷺ بوحي من الله لأداء عشر آيات من براءة
والجواب أن هذا من أبين الكذب فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسير والحديث والفقه وغيرهم أن النبي ﷺ استعمل أبا بكر على الحج عام تسع وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله ﷺ ولم يكن قبله حج في الإسلام إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة فإن مكة فتحت سنة ثمان أقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد الذي استعمله النبي ﷺ على أهل مكة ثم أمر أبا بكر سنة تسع للحج بعد رجوع النبي ﷺ من غزوة تبوك وفيها أمر أبا بكر بالمناداة في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولم يؤمر النبي ﷺ غير أبي بكر على مثل هذه الولاية فولاية أبي بكر كانت من خصائصه فإن النبي ﷺ لم يؤمر على الحج أحد كتأمير أبي بكر ولم يستخلف على الصلاة أحدا كاستخلاف أبي بكر وكان علي من رعيته في هذه الحجة فإنه لحقه فقال أمير أو مأمور فقال علي بل مأمور وكان علي يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه ونادى علي مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر
وأما ولاية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره كولاية علي وغيره فلم يكن لعلي ولاية إلا ولغيره مثلها بخلاف ولاية أبي بكر فإنها من خصائصه ولم يول النبي ﷺ على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص
فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه
وأما قصة عمرو بن العاص فإن النبي ﷺ كان أرسل عمرا في سرية وهي غزوة ذات السلاسل وكانت إلى بني عذرة وهم أخوال عمرو فأمر عمرا ليكون ذلك سببا لإسلامهم للقرابة التي له منهم ثم أردفه بأبي عبيدة ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين وقال تطاوعا ولا تختلفا فلما لحق عمرا قال أصلي بأصحابي وتصلي بأصحابك قال بل أنا أصلي بكم فإنما أنت مدد لي فقال له أبو عبيدة إن رسول الله ﷺ أمرني أن أطاوعك فإن عصيتني أطعتك قال فإنى أعصيك فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر فكانوا يصلون خلف عمرو مع علم كل أحد أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أفضل من عمرو وكان ذلك لفضلهم وصلاحهم لأن عمرا كانت إمارته قد تقدمت لأجل ما في ذلك من تآلف قومه الذين أرسل إليهم لكونهم أقاربه ويجوز تولية المفضول لمصلحة راجحة كما أمر أسامة بن زيد ليأخذ بثأر أبيه زيد بن حارثة لما قتل في غزوة مؤتة فكيف والنبي ﷺ لم يؤمر على أبي بكر أحدا في شيء من الأمور
بل قد علم بالنقل العام المتواتر أنه لم يكن أحد عنده أقرب إليه ولا أخص به ولا أكثر اجتماعا به ليلا ونهارا سرا وعلانية من أبي بكر ولا كان أحد من الصحابة يتكلم بحضرة النبي ﷺ قبله فيأمر فيأمر وينهى ويخطب ويفتي يوقره النبي ﷺ على ذلك راضيا بما يفعل
ولم يكن ذلك تقدما بين يديه بل بإذن منه قد علمه وكان ذلك معونة للنبي ﷺ وتبليغا عنه وتنفيذا لأمره لأنه كان أعلمهم بالرسول وأحبهم إلى الرسول واتبعهم له
وأما قول الرافضي إنه لما أنفذه ببراءة رده بعد ثلاثة أيام فهذا من الكذب المعلوم أنه كذب فإن النبي ﷺ لما أمر أبا بكر على الحج ذهب كما أمره وأقام الحج في ذلك العام عام تسع للناس ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج وأنفذ فيه ما أمره به النبي ﷺ فإن المشركين كانوا يحجون البيت وكانوا يطوفون بالبيت عراة وكان بين النبي ﷺ وبين المشركين عهود مطلقة فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام وكان علي بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي ﷺ بعلي بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود
قالوا وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فبعث عليا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة لم يبعثه لشيء آخر ولهذا كان علي يصلي خلف أبي بكر ويدفع بدفعه في الحج كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم
وكان هذا بعد غزوة تبوك واستخلافه له فيها على من تركه بالمدينة وقوله له أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى
ثم بعد هذا أمر أبا بكر على الموسم وأردفه بعلي مأمورا عليه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان هذا مما دل على أن عليا لم يكن خليفة له إلا مدة مغيبه عن المدينة فقط ثم أمر أبا بكر عليه عام تسع ثم إنه بعد هذا بعث عليا وأبا موسى الأشعري ومعاذا إلى اليمن فرجع علي وأبو موسى إليه وهو بمكة في حجة الوداع وكل منهما قد أهل بإهلال النبي ﷺ فأما معاذ فلم يرجع إلا بعد وفاة النبي ﷺ في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
فصل
قال الرافضي وقطع يسار سارق ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى
والجواب أن قول القائل إن أبا بكر يجهل هذا من أظهر الكذب ولو قدر أن أبا بكر كان يجيز ذلك لكان ذلك قولا سائغا لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعين اليمين لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود فاقطعوا أيمانهما وبذلك مضت السنة ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع اليسرى وأين الإسناد الثابت بذلك وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك ولا نقل أهل العلم بالاختلاف ذلك قولا مع تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه
فصل
قال الرافضي وأحرق الفجاءة السلمي بالنار وقد نهى النبي ﷺ عن الإحراق بالنار
الجواب أن الإحراق بالنار عن علي أشهر وأظهر منه عن أبي بكر وأنه قد ثبت في الصحيح أن عليا أتى بقوم زنادقة من غلاة الشيعة فحرقهم بالنار فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار لنهى النبي ﷺ أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي ﷺ من بدل دينه فاقتلوه فبلغ ذلك عليا فقال ويح ابن أم الفضل ما أسقطه على الهنات
فعلي حرق جماعة بالنار فإن كان ما فعله أبو بكر منكرا ففعل علي أنكر منه وإن كان فعل علي مما لا ينكر مثله على الأئمة فأبو بكر أولى أن لا ينكر عليه
فصل
قال الرافضي وخفي عليه أكثر أحكام الشريعة فلم يعرف حكم الكلالة وقال أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان وقضى في الجد بسبعين قضية وهو يدل على قصوره في العلم
والجواب أن هذا من أعظم البهتان كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة ولم يكن بحضرة النبي ﷺ من يقضي ويفتي إلا هو ولم يكن النبي ﷺ أكثر مشاورة لأحد من أصحابه منه له ولعمر ولم يكن أحد أعظم اختصاصا بالنبي ﷺ منه ثم عمر وقد ذكر غير واحد مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني وغيره إجماع أهل العلم على أن الصديق أعلم الأمة وهذا بين فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة كما بين لهم موت النبي ﷺ وتثبيتهم على الإيمان وقراءته عليهم الآية ثم بين لهم موضع دفنه وبين لهم قتال مانعي الزكاة لما استراب فيه عمر وبين لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة لما ظن من ظن أنها تكون في غير قريش
وقد استعمله النبي ﷺ على أول حجة حجت من مدينة النبي ﷺ وعلم المناسك أدق ما في العبادات ولولا سعة علمه بها لم يستعمله وكذلك الصلاة استخلفه فيها ولولا علمه بها لم يستخلفه ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة
وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله ﷺ أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما روي فيها وعليه اعتمد الفقهاء
وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسسائل من الشريعة غلط فيها وقد عرف لغيره مائل كثيرة كما بسط في موضعه
وقد تنازعت الصحابة بعده في مسائل مثل الجد والإخوة ومثل العمرتين ومثل العول وغير ذلك من مسائل الفرائض وتنازعوا في مسألة الحرام والطلاق الثلاث بكلمة والخلية والبرية والبتة وغير ذلك من مسائل الطلاق
وكذلك تنازعوا في مسائل صارت مسائل نزاع بين الأمة إلى اليوم وكان تنازعهم في خلافة عمر نزاع اجتهاد محض كل منهم يقر صاحبه على اجتهاده كتنازع الفقهاء أهل العلم والدين
وأما في خلافة عثمان فقوى النزاع في بعض الأمور حتى صار يحصل كلام غليظ من بعضهم لبعض ولكن لم يقاتل بعضهم بعضا باليد ولا بسيف ولا غيره
وأما في خلافة علي فتغلظ النزاع حتى تقاتلوا بالسيوف
وأما في خلافة أبي بكر فلم يعلم أنه استقر بينهم نزاع في مسألة واحدة من مسائل الدين وذلك لكمال علم الصديق وعدله ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع فلم يكن يقع بينهم نزاع إلا أظهر الصديق من الحجة التي تفصل النزاع ما يزول معها النزاع وكان عامة الحجج الفاصلة للنزاع يأتي بها الصديق ابتداء وقليل من ذلك يقوله عمر أو غيره فيقره أبو بكر الصديق
وهذا مما يدل على أن الصديق ورعيته أفضل من عمر ورعيته وعثمان ورعيته وعلي ورعيته فإن أبا بكر ورعيته أفضل الأئمة والأمة بعد النبي ﷺ
ثم الأقوال التي خولف فيها الصديق بعد موته قوله فيها أرجح من قول من خالفه بعد موته وطرد ذلك الجد والإخوة فإن قول الصديق وجمهور الصحابة وأكابرهم أنه يسقط الإخوة وهو قول طوائف من العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي العباس بن سريج من الشافعية وأبي حفص البرمكي من الحنابلة ويذكر ذلك رواية عن أحمد
والذين قالوا بتوريث الإخوة مع الجد كعلي وزيد وابن مسعود اختلفوا اختلافا معروفا وكل منهم قال قولا خالفه فيه الآخر وانفرد بقوله عن سائر الصحابة وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع في مصنف مفرد وبينا أن قول الصديق وجمهور الصحابة هو الصواب وهو القول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية من وجوه كثيرة ليس هذا موضع بسطها
وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صديق الأمة رضي الله عنه من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع وأن من طلق ثلاثا بكلمة واحدة لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح دون من يحرم الفسخ ويلزم بالثلاث فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي ﷺ وخلافة أبي بكر دون القول المخالف لذلك
ومما يدل على كمال حال الصديق وأنه أفضل من كل من ولى الأمة بل وممن ولى غيرها من الأمم بعد الأنبياء أنه من المعلوم أن رسول الله ﷺ أفضل الأولين والأخرين وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين
وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال فوا بيعة الأول فالأول
ومن المعلوم أنه من تولى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن سياسة الأول ظهر ذلك النقص ظهورا بينا وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولى ملك بعد ملك أو قاض بعد قاض أو شيخ بعد شيخ أو غير ذلك فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصا بينا ظهر ذلك فيه وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظمها وألفها ثم الصديق تولى بعد أكمل الخلق سياسة فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه بل قاتل المرتدين حتى عاد الأمر إلى ما كان عليه وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه ثم شرع في قتال الكفار من أهل الكتاب وعلم الأمة ما خفي عليهم وقواهم لما ضعفوا وشجعهم لما جبنوا وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم وقدرتهم ودينهم وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها وهذا مما يحقق أنه أحق الناس بخلافة رسول الله ﷺ
وأما قول الرافضي لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه
فالجواب أن هذا من أعظم علمه فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر بكر وهو من لا ولد له ولا والد والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وابن معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه أجران كرأي الصديق فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد
وقد قال قيس بن عباد لعلي أرأيت مسيرك هذا ألعهد عهده إليك رسول الله ﷺ أم رأى رأيته فقال بلى رأي رأيته رواه أبو داود وغيره
فإذا كان مثل هذا الرأى الذي حصل به من سفك الدماء ما حصل لا يمنع صاحبه أن يكون إماما فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه
وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية فهذا كذب وليس هو قول أبي بكر ولا نقل هذا عن أبي بكر بل نقل هذا عن أبي بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم ولكن نقل بعض الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضية ومع هذا هو باطل عن عمر فإنه لم يمت في خلافته سبعون جدا كل منهم كان لابن ابنه إخوة وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولا مختلفة بل هذا الاختلاف لا يحتمله كل جد في العالم فعلم أن هذا كذب
وأما مذهب أبي بكر في الجد فإنه جعله أبا وهو قول بضعة عشر من الصحابة وهو مذهب كثير من الفقهاء كأبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حفص البرمكي ويذكر رواية عن أحمد كما تقدم وهو أظهر القولين في الدليل
ولهذا يقال لا يعرف لأبي بكر خطأ في الفتيا بخلاف غيره من الصحابة فإن قوله في الجد أظهر القولين والذين ورثوا الإخوة مع الجد وهم علي وزيد وابن مسعود وعمر في إحدى الروايتين عنه تفرقوا في ذلك وجمهور الفقهاء على قول زيد وهو قول مالك والشافعي وأحمد فالفقهاء في الجد إما على قول أبي بكر وإما على قول زيد الذي أمضاه عمر ولم يذهب أحد من أئمة الفتيا إلى قول علي في الجد وذلك مما يبين أن الحق لا يخرج عن أبي بكر وعمر فإن زيدا قاضي عمر مع أن قول أبي بكر أرجح من قول زيد وعمر كان متوقفا في الجد وقال ثلاث وددت أن رسول الله ﷺ بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا
وذلك لأن الله تعالى سمى الجد أبا في غير موضع من كتابه كما قال تعالى أخرج أبويكم من الجنة سورة الأعراف 27 وقوله ملة أبيكم إبراهيم سورة الحج 78 وقد قال يا بني إسرائيل يا بني آدم في غير موضع
وإذا كان ابن الابن ابنا كان أبو الأب أبا ولأن الجد يقوم مقام الأب في غير مورد النزاع فإنه يسقط ولد الأم كالأب ويقدم على جميع العصبات سوى البنين كالأب ويأخذ مع الولد السدس كالأب ويجمع له بين الفرض والتعصيب مع البنات كالأب
وأما في العمريتين زوج وأبوين وزوجة وأبوين فإن الأم تأخذ ثلث الباقي والباقي للآب ولو كان معها جد لأخذت الثلث كله عند جمهور الصحابة والعلماء إلا ابن مسعود لأن الأم أقرب من الجد وإنما الجدة نظير الجد والأم تأخذ مع الأب الثلث والجدة لا تأخذ مع الجد إلا السدس وهذا مما يقوى به الجد ولأن الإخوة مع الجد الأدنى كالأعمام مع الجد الأعلى
وقد وقد اتفق المسلمون على أن الجد الأعلى يقدم على الأعمام فكذلك الجد الأدنى يقدم على الإخوة لأن نسبة الإخوة إلى الجد الأدنى كنسبة الأعمام إلى الجد الأعلى ولأن الأخوة لو كانوا لكونهم بني الأب يشاركون الجد لكان بنو الإخوة كذلك كما يقوم بنو البنين مقام آبائهم ولما كان بنو الإخوة لا يشاركون الجد كان آباؤهم الإخوة كذلك وعكسه البنون لما كان الجد يفرض له مع البنين فرض له مع بني البنين
وأما الحجة التي تورى عن علي وزيد في أن الإخوة يشاركون الجد حيث شبهوا ذلك بأصل شجرة خرج منها فرع خرج منه غصنان فأخذ الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الأصل وبنهر خرج منه نهر آخر ومنه جدولان فأحدهما إلى الآخر أقرب من الجدول إلى النهر الأول
فمضمون هذه الحجة أن الإخوة أقرب إلى الميت من الجد
ومن تدبر أصول الشريعة علم أن حجة أبي بكر وجمهور الصحابة لا تعارضها هذه الحجة فإن هذه لو كانت صحيحة لكان بنو الأخ أولى من الجد ولكان العم أولى من جد الأب فإن نسبة الإخوة من الأب إلى الجد أبي الأب كنسبة الأعمام بني الجد الأعلى إلى الجد الأعلى جد الأب فلما أجمع المسلمون على أن الجد أولى من الأعمام كان الجد الأدنى أولى من الإخوة
وهذه حجة مستقلة تقتضي ترجيح الجد على الإخوة
وأيضا فالقائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متعارضة متناقضة لا دليل على شيء منها كما يعرف ذلك من يعرف الفرائض فعلم أن قول أبي بكر في الجد أصح الأقوال كما أن قوله دائما أصح الأقوال
فصل
قال الرافضي فأي نسبة له بمن قال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض قال أبو البختري رأيت عليا صعد المنبر بالكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله ﷺ متقلدا بسيف رسول الله ﷺ متعمما بعمامة رسول الله ﷺ وفي إصبعه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد على المنبر وكشف عن بطنه فقال سلوني من قبل أن تفقدوني فإنما بين الجوانح مني علم جم هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله ﷺ هذا ما زقني رسول الله ﷺ زقا من غير وحي إلى فوالله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الله التوراة والإنجيل فتقول صدق علي قد أفتاكم بما أنزل الله في وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون
والجواب أما قول علي سلوني فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلمهم العلم والدين فإن غالبهم كانوا جهالا لم يدركوا النبي ﷺ وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر أصحاب النبي ﷺ الذين تعلموا من رسول الله ﷺ العلم والدين فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأدينها وأما الذين كان علي يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين وكان كثير منهم من شرار التابعين ولهذا كان علي رضي الله عنه يذمهم ويدعو عليهم وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرا منهم
وقد جمع الناس الأقضية والفتاوي المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فوجدوا أصوبها وأدلها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثم عمر
ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وجد نص يخالفها عن عمر أقل مما وجد عن علي وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم ولم يكن يعرف منهم اختلاف على عهده وعامة ما تنازعوا فيه من الأحكام كان بعد أبي بكر
والحديث المذكور عن علي كذب ظاهر لا تجوز نسبة مثله إلى علي فإن عليا أعلم بالله وبدين الله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن كما قال تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك سورة المائدة إلى قوله تعالى فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين سورة المائدة 42 إلى قوله فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا سورة المائدة 48 إلى قوله وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله من أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون سورة المائدة 4وإذا كان من المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع أن الحاكم بين اليهود والنصارى لا يجوز أن يحكم بينهم إلا بما أنزل الله على محمد سواء وافق ما بأيديهم من التوراة والإنجيل أو لم يوافقه كان من نسب عليا إلى أنه يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى أو يفتيهم بذلك ويمدحه بذلك إما أن يكون من أجهل الناس بالدين وبما يمدح به صاحبه وإما أن يكون زنديقا ملحدا أراد القدح في علي بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب دون المدح والثواب
فصل
قال الرافضي وروى البيهقي بإسناده عن رسول الله ﷺ أنه قال من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب فأثبت له ما تفرق فيهم
والجواب أن يقال أولا أين إسناد هذا الحديث والبيهقي يروي في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم
ويقال ثانيا هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب عند أهل العلم بالحديث ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث وإن كانوا حراصا على جمع فضائل علي كالنسائي فإنه قصد أن يجمع فضائل علي في كتاب سماه الخصائص والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله وفيها ما هو ضعيف بل موضوع ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه
فصل
قال الرافضي قال أبو عمر الزاهد قال أبو العباس لا نعلم أحدا قال بعد نبيه سلوني من شيث إلى محمد إلا علي فسأله الأكابر أبو بكر وعمر وأشباههما حتى انقطع السؤال ثم قال بعد هذا يا كميل ابن زياد إن ههنا العلما جما لو أصبت له حملة
والجواب أن هذا النقل إن صح عن ثعلب فثعلب لم يذكر له إسنادا حتى يحتج به وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه حتى يقال قد صح عنده كما إذا قال ذلك أحمد أو يحيى ابن معين أو البخاري ونحوهم بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها فكيف ثعلب وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد
وعلي رضي الله عنه لم يكن يقول هذا بالمدينة لا في خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان وإنما كان يقول هذا في خلافته في الكوفة ليعلم أولئك الذين لم يكونوا يعلمون ما ينبغي لهم علمه وكان هذا لتقصيرهم في طلب العلم وكان علي رضي الله عنه يأمرهم بطلب العلم والسؤال
وحديث كميل بن زياد يدل على هذا فإن كميلا من النابغين لم يصحبه إلا بالكوفة فدل على أنه كان يرى تقصيرا من أولئك عن كونهم حملة للعلم ولم يكن يقول هذا في المهاجرين والأنصار بل كان عظيم الثناء عليهم
وأما أبو بكر فلم يسأل عليا قط عن شيء وأما عمر فكان يشاور الصحابة عثمان وعليا وعبد الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم فكان علي من أهل الشورى كعثمان وابن مسعود وغيرهما ولم يكن أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصان عليا بسؤال والمعروف أن عليا أخذ العلم عن أبي بكر كما في السنن عن علي قال كنت إذا سمعت من النبي ﷺ حديثا نفعني الله به ما شاء أن ينفعني وإذا حدثني غيره حديثا استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ما من عبد مؤمن يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له
فصل
قال الرافضي وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حده حيث قتل مالك بن نويرة وكان مسلما وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل
والجواب أن يقال أولا أن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر على الأئمة كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان على علي فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نوبرة وهو خليفة المسلمين وقد قتل مظلوما شهيدا بلا تأويل مسوغ لقتله وعلي لم يقتل قتلته وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي
فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعلي أولى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان
وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة وترك إنكار ما هو أعظم منها على علي فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم
وكذلك إنكارهم على عثمان كونه لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان هو من هذا الباب
وإذا قال القائل علي كان معذورا في ترك قتل قتلة عثمان لأن شروط الإستيفاء لم توجد إما لعدم العلم بأعيان القتلة وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة ونحو ذلك
قيل فشروط الإستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة وقتل قاتل الهرمزان لوجود الشبهة في ذلك والحدود تدرأ بالشبهات
وإذا قالوا عمر أشار على أبي بكر بقتل خالد بن الوليد وعلي أشار على عثمان بقتل عبيد الله بن عمر
قيل وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا على علي بقتل قتلة عثمان مع أن الذين أشاروا على أبي بكر بالقود أقام عليهم حجة سلموا لها إما لظهور الحق معه وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد
وعلي لما لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد علم وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفين فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ ففي ذلك أولى وإن قالوا عثمان كان مباح الدم
قيل لهم فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نويرة أظهر من إباحة دم عثمان بل مالك بن نويرة لا يعرف أنه كان معصوم الدم ولم يثبت ذلك عندنا وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى
ومن قال إن عثمان كان مباح الدم لم يمكنه أن يجعل عليا معصوم الدم ولا الحسين فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم علي والحسين وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين وشبهة قتلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قتلة علي والحسين فإن عثمان لم يقتل مسلما ولا قاتل أحدا على ولايته ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلا فإن وجب أن يقال من قتل خلقا من السلمين على ولايته إنه معصوم الدم وإنه مجتهد فيما فعله فلأن يقال عثمان معصوم الدم وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأولى والأحرى ثم يقال غاية ما يقال في قصة مالك ابن نويرة إنه كان معصوم الدم وإن خالدا قتله بتأويل وهذا لا يبيح قتل خالد كما أن أسامة ابن زيد لما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله وقال له النبي ﷺ يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله فأنكر عليه قتله ولم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة
وقد روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية قوله تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا الآية سورة النساء 94 نزلت في شأن مرداس رجل من غطفان بعث النبي ﷺ جيشا إلى قومه عليهم غالب الليثي ففر أصحابه ولم يفر قال إني مؤمن فصبحته الخيل فسلم عليهم فقتلوه وأخذوا غنمه فأنزل الله هذه الآية وأمر رسول الله ﷺ برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم ونهى المؤمنين عن مثل ذلك
وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولا ورفع النبي ﷺ يديه وقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ومع هذا فلم يقتله النبي ﷺ لأنه كان متأولا
فإذا كان النبي ﷺ لم يقتله مع قتله غير واحد من المسلمين من بني جذيمة للتأويل فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك ابن نويرة بطريق الأولى والأحرى
وقد تقدم ما ذكره هذا الرافضي من فعل خالد ببني جذيمة وهو يعلم أن النبي ﷺ لم يقتله فكيف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله لكن من كان متبعا لهواه أعماه عن اتباع الهدى
وقوله إن عمر أشار بقتله
فيقال غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالدا وكان رأي عمر فيها قتله وليس عمر بأعلم من أبي بكر لا عند السنة ولا عند الشيعة ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح فكيف يجوز أن يجعل مثل هذا عيبا لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علما ودينا
وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد
وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله فهذا مما لم يعرفه ثبوته ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة هل تجب للكافر على قولين وكذلك تنازعوا هل يجب على الذمية عدة وفاة على قولين مشهورين للمسلمين بخلاف عدة الطلاق فإن تلك سببها الوطء فلا بد من براءة الرحم وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا فيه نزاع وكذلك إن كان دخل بها وقد حاضت بعد الدخول حيضة
هذا إذا كان الكافر أصليا وأما المرتد إذا قتل أو مات على ردته ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة لأن النكاح بطل بردة الزوج وهذه الفرقة ليست طلاقا عند الشافعي وأحمد وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها كما ليس عليها عدة من الطلاق
ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتدا فإذا كان لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم وفي الآخر بثلاث حيض وإن كان كافرا أصليا فليس على أمرأته عدة وفاة في أحد قوليهم وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراء لدلالته على براءة الرحم
وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم وهذا مما حرمه الله ورسوله
فصل
قال الرافضي وخالف أمر النبي ﷺ في توريث بنت النبي ﷺ ومنعها فدكا وتسمى بخليفة رسول الله ﷺ من غير أن يستخلفه
والجواب أما الميراث فجميع المسلمين مع أبي بكر في ذلك ما خلا بعض الشيعة وقد تقدم الكلام في ذلك وبينا أن هذا من العلم الثابت عن النبي ﷺ وأن قول الرافضة باطل قطعا
وكذلك ما ذكر من فدك والخلفاء بعد أبي بكر على هذا القول وأبو بكر وعمر لم يتعلقا من فدك ولا غيرها من العقار بشيء ولا أعطيا أهلهما من ذلك شيئا وقد أعطيا بني هاشم أضعاف أضعاف ذلك
ثم لو احتج محتج بأن عليا كان يمنع المال ابن عباس وغيره من بني هاشم حتى أخذ ابن عباس بعض مال البصرة وذهب له لم يكن الجواب عن علي إلا بأنه إمام عادل قاصد للحق لا يتهم في ذلك
وهذا الجواب هو في حق أبي بكر بطريق الأولى والأحرى وأبو بكر أعظم محبة لفاطمة ومراعاة لها من علي لابن عباس وابن عباس بعلي أشبه من فاطمة بأبي بكر فإن فضل أبي بكر على فاطمة أعظم من فضل علي على ابن عباس
وليس تبرئة الإنسان لفاطمة من الظن والهوى بأولى من تبرئة أبي بكر فإن أبا بكر إمام لا يتصرف لنفسه بل للمسلمين والمال لم يأخذه لنفسه بل للمسلمين وفاطمة تطلب لنفسها وبالضرورة نعلم أن بعد الحاكم عن اتباع الهوى أعظم من بعد الخصم الطالب لنفسه فإن علم أبي بكر وغيره بمثل هذه القضية لكثرة مباشرتهم للنبي ﷺ أعظم من علم فاطمة
وإذا كان أبو بكر أولى بعلم مثل ذلك وأولى بالعدل فمن جعل فاطمة أعلم منه في ذلك وأعدل كان من أجهل الناس لا سيما وجميع المسلمين الذين لا غرض لهم هم مع أبي بكر في هذه المسألة فجميع أئمة الفقهاء عندهم أن الأنبياء لا يورثون مالا وكلهم يحب فاطمة ويعظم قدرها رضي الله عنها لكن لا يترك ما علموه من قول النبي ﷺ لقول أحد من الناس ولم يأمرهم الله ورسوله أن يأخذوا دينهم من غير محمد ﷺ لا عن أقاربه ولا عن غير أقاربه وإنما أمرهم الله بطاعة الرسول وأتباعه وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال لا أفلح قوم ولوا أمرهم أمرأة فكيف يسوغ للأمة أن تعدل عما علمته من سنة رسول الله ﷺ لما يحكى عن فاطمة في كونها طلبت الميراث تظن أنها ترث
فصل
وأما تسميته بخليفة رسول الله فإن المسلمين سموه بذلك فإن كان الخليفة هو المستخلف كما ادعاه هذا كان رسول الله ﷺ قد استخلفه كما يقول ذلك من يقول من أهل السنة وإن كان الخليفة هو الذي خلف غيره وإن كان لم يستخلفه ذلك الغير كما يقوله الجمهور لم يحتج في هذا الاسم إلى الاستخلاف
والاستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا الاسم يتناول كل من خلف غيره سواء استخلفه أو لم يستخلفه كقوله تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعلمون سورة يونس 14 وقوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف الأرض الآية سورة الإنعام 165 وقال ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون سورة الزخرف 60 وقوله واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح سورة الأعراف 69 وفي القصة الأخرى خلفاء من بعد عاد سورة الأعراف 74 وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي سورة الأعراف فهذا استخلاف
وقال تعالى وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر سورة الفرقان 62 وقال إن في اختلاف الليل والنهار سورة يونس 6 أي هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا فهما يتعاقبان وقال موسى عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون سورة الأعراف 129 وقال تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم سورة النور 55 وقال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة سورة البقرة 30 وقال يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض سورة ص 2فغالب هذه المواضع ليكون الثاني خليفة عن الأول وإن كان الأول لم يستخلفه وسمي الخليفة خليفة لأنه يخلف من قبله والله تعالى جعله يخلفه كما جعل الليل يخلف النهار والنهار يخلف الليل ليس المراد أنه خليفة عن الله كما ظنه بعض الناس كما قد بسطناه في موضع آخر
والناس يسمون ولاة أمور المسلمين الخلفاء وقال النبي ﷺ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي
ومعلوم أن عثمان لم يستخلف عليا وعمر لم يستخلف واحدا معينا وكان يقول إن أستخلف فإن أبا بكر استخلف وإن لم استخلف فإن رسول الله ﷺ لم يستخلف
وكان مع هذا يقول لأبي بكر يا خليفة رسول الله
وكذلك خلفاء بني أمية وبني العباس كثير منهم لم يستخلفه من قبله فعلم إن الاسم عام فيمن خلف غيره
وفي الحديث إن صح وددت أني رأيت أو قال رحمة الله على خلفائي قالوا ومن خلفاؤك يا رسول الله قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس
وهذا إن صح من قول النبي ﷺ فهو حجة في المسألة وإن لم يكن من قوله فهو يدل على أن الذي وضعه كان من عادتهم استعمال لفظ الخليفة فيمن خلف غيره وإن لم يستخلفه فإذا قام مقامه وسد مسده في بعض الأمور فهو خليفة عنه في ذلك الأمر (تم بحمد الله)
فصل
قال الرافضي
ومنها ما رووه عن عمر روى أبو نعيم الحافظ في كتابه حلية الأولياء أنه قال لما احتضر قال يا ليتني كنت كبشا لقومي فسمنوني ما بدا لهم ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني فجعلوا نصفي شواء ونصفي قديدا فأكلوني فأكون عذرة ولا أكون بشرا وهل هذا إلا مساو لقول الكافر يا ليتني كنت ترابا سورة النبأ 4قال وقال لابن عباس عند احتضاره لو أن لي ملء الأرض ذهبا ومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع وهذا مثل قوله ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب سورة الزمر 47 فلينظر المنصف العاقل قول الرجلين عند احتضارهما وقول علي
متى ألقى الأحبة محمدا وحزبه
متى ألقاها متى يبعث أشقاها
وقوله حين قتله ابن ملجم فزت ورب الكعبة
والجواب أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله وذلك أن ما ذكره عن علي قد نقل مثله عمن هو دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بل نقل مثله عمن يكفر علي بن أبي طالب من الخوارج كقول بلال عتيق أبي بكر عند الاحتضار وأمرأته تقول واحرباه وهو يقول واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه
وكان عمر قد دعا لما عارضوه في قسمة الأرض فقال اللهم اكفني بلالا وذويه فما حال الحول وفيهم عين تطرف
وروى أبو نعيم في الحلية حدثنا القطيعي حدثنا الحسن بن عبد الله حدثنا عامر بن سيار حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر ابن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن الحارث بن عمير قال طعن معاذ وأبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد فقال معاذ إنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم وقبض الصالحين قبلكم اللهم آت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة فما أمسى حتى طعن ابنه عبد الرحمن بكره الذي كان يكنى به وأحب الخلق إليه فرجع من المسجد فوجده مكروبا فقال يا عبد الرحمن كيف أنت قال يا أبت الحق من ربك فلا تكونن من الممترين قال وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين فأمسكه ليلة ثم دفنه من الغد وطعن معاذ فقال حين اشتد به النزع نزع الموت فنزع نزعا لم ينزعه أحد وكان كلما أفاق فتح طرفه وقال رب اخنقني خنقك فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك
وكذلك قوله فزت ورب الكعبة قد قالها من هو دون علي قالها عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق لما قتل يوم بئر معونة وكان قد بعثه النبي ﷺ مع سرية قبل نجد قال العلماء بالسير طعنه جبار بن سلمى فأنفذه فقال عامر فزت والله فقال جبار ما قوله فزت والله قال عروة بن الزبير يرون أن الملائكة دفنته
وشبيب الخارجي لما طعن دخل في الطعنة وجعل يقول وعجلت إليك رب لترضى
وأعرف شخصا من أصحابنا لما حضرته الوفاة جعل يقول حبيبي ها قد جئتك حتى خرجت نفسه ومثل هذا كثيره
وأما خوف عمر ففي صحيح البخاري عن المسور بن مخرمة قال لما طعن عمر جعل يألم فقال ابن عباس وكأنه يجزعه أي يزيل جزعه يا أمير المؤمنين ولئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله ﷺ فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون فقال أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ﷺ ورضاه فإنما ذاك من من الله من به على وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك من من الله من به علي وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون في حديث قتل عمر يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال الصنع قال نعم قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا الحمد لله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يدعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة وكان العباس أكثرهم رقيقا فقال إن شئت فعلت أي إن شئت قتلنا قال كذبت بعد ما تعلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول لا بأس وقائل يقول أخاف عليه فأتى بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتى بلبن فشربه فخرج من جرحه فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه وجاء رجل شاب فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله ﷺ وقدم في الإسلام ما قد علمت ووليت فعدلت ثم شهادة قال وددت أن ذلك كفافا لا علي ولا لي فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض فقال ردوا على الغلام قال يا ابن أخي ارفع إزارك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك يا عبد الله بن عمر انظر ما على من الدين فحسبوه فوجوده ستة وثمانين ألفا أو نحوه قال إن وفى له مال آل عمر فأد من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم وإلا فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فاد عني هذا المال انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله ابن عمر وقد جاء فقال ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت قال الحمد لله ما كان شيء أهم من ذلك فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم وقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين وذكر تمام الحديث
ففي نفس الحديث أنه يعلم أن رسول الله ﷺ مات وهو عنه راض ورعيته عنه راضون مقرون بعدله فيهم ولما مات كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل مصيبته لعظمها عندهم
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ولم يقتل عمر رضي الله عنه رجل من المسلمين لرضا المسلمين عنه وإنما قتله كافر فارسي مجوسى
وخشيته من الله لكمال علمه فإن الله تعالى يقول إنما يخشى الله من عباده العلماء سورة فاطر 2وقد كان النبي ﷺ يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وقرأ عليه ابن مسعود سورة النساء فلما بلغ إلى قوله فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا سورة النساء 41 قال حسبك فنظرت إلى عينيه وهما تذرفان
وقد قال تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم سورة الأحقاف
وفي صحيح مسلم أنه قال لما قتل عثمان ين مظعون قال ما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم
وفي الترمذي وغيره عن أبي ذر عن النبي ﷺ أنه قال إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله وددت أني كنت شجرة تعضد وقوله وددت أني كنت شجرة تعضد قيل إنه من قول أبي ذر لا من قول النبي ﷺ وقال تعالى إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون 2 الآية سورة المؤمنون59 - وفي الترمذي عن عائشة قالت قلت يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف فقال لا يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه
======
منهاج السنة النبوية/36
وأما قول الرافضي وهل هذا إلا مساو لقول الكافر يا ليتني كنت ترابا سورة النبأ 4فهذا جهل منه فإن الكافر يقول ذلك يوم القيامة حين لا تقبل توبة ولا تنفع حسنة وأما من يقول ذلك في الدنيا فهذا يقوله في دار العمل على وجه الخشية لله فيثاب على خوفه من الله
وقد قالت مريم يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا سورة مريم 23 ولم يكن هذا كتمني الموت يوم القيامة
ولا يجعل هذا كقول أهل النار كما أخبر الله عنهم بقوله ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك سورة الزخرف 7وكذلك قوله ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون سورة الزمر 47 فهذا إخبار عن حالهم يوم القيامة حين لا ينفع توبة ولا خشية
وأما في الدنيا فالعبد إذا خاف ربه كان خوفه مما يثيبه الله عليه فمن خاف الله في الدنيا أمنه يوم القيامة ومن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الآخرة فهو كمن جعل الظلمات كالنور والظل كالحرور والأحياء كالأموات ومن تولى أمر المسلمين فعدل فيهم عدلا يشهد به عامتهم وهو في ذلك يخاف الله أن يكون ظلم فهو أفضل ممن يقول كثير من رعيته إنه ظلم وهو في نفسه آمن من العذاب مع أن كليهما من أهل الجنة
والخوارج الذين كفروا عليا واعتقدوا أنه ظالم مستحق للقتل مع كونهم ضلالا مخطئين هم راضون عن عمر معظمون لسيرته وعدله وبعدل عمر يضرب المثل حتى يقال سيرة العمرين سواء كانا عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز كما هو قول أهل العلم والحديث كأحمد وغيره أو كانا أبا بكر وعمر كما تقوله طائفة من أهل اللغة كأبي عبيد وغيره فإن عمر بن الخطاب داخل في ذلك على التقديرين
ومعلوم أن شهادة الرعية لراعيها أعظم من شهادته هو لنفسه وقد قال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا سورة البقرة 143
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت وجبت قالوا يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض
وفي المسند عن النبي ﷺ أنه قال يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا رسول الله قال بالثناء الحسن وبالثناء السىء
ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقا وغربا وكانت رعية عمر خيرا من رعية علي وكانت رعية علي جزءا من رعية عمر ومع هذا فكلهم يصفون عدله وزهده وسياسته ويعظمونه والأمة قرنا بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته ولا يعرف أن أحدا طعن في ذلك
والرافضة لم تطعن في ذلك بل لما غلت في علي جعلت ذنب عمر كونه تولى وجعلوا يطلبون له ما يتبين به ظلمه فلم يمكنهم ذلك
وأما علي رضي الله عنه فإن أهل السنة يحبونه ويتولونه ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين لكن نصف رعيته يطعنون في عدله فالخوارج يكفرونه وغير الخوارج من أهل بيته وغير أهل بيته يقولون إنه لم ينصفهم وشيعة عثمان يقولون إنه ممن ظلم عثمان وبالجملة لم يظهر لعلي من العدل مع كثرة الرعية وانتشارها ما ظهر لعمر ولا قريب منه
وعمر لم يول أحدا من أقاربه وعلي ولى أقاربه كما ولى عثمان أقاربه وعمر مع هذا يخاف أن يكون ظلمهم فهو أعدل وأخوف من الله من علي فهذا مما يدل على أنه أفضل من علي
وعمر مع رضا رعيته عنه يخاف أن يكون ظلمهم وعلي يشكو من رعيته وتظلمهم ويدعو عليهم ويقول إني أبغضهم ويبغضوني وسئمتهم وسئموني اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني
فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون
فصل
قال الرافضي وروى أصحاب الصحاح الستة من مسند ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال في مرض مرض موته أئتوني بدواة وبياض أكتب لكم كتابا لا تضلون به من بعدي فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله فكثر اللغط فقال رسول الله ﷺ أخرجوا عني لا ينبغي التنازع لدي فقال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله ﷺ وقال عمر لما مات رسول الله ﷺ ما مات محمد ولا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم فلما نهاه أبو بكر وتلا عليه إنك ميت وإنهم ميتون سورة الزمر 30 وقوله أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم سورة آل عمران 144 قال كأني ما سمعت هذه الآية
والجواب أن يقال أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله مالم يثبت لأحد غير أبي بكر ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي ﷺ أنه كان يقول قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب وفي لفظ للبخاري لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر
وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلى عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال قال رسول الله ﷺ بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا ما أولت ذلك يا رسول الله قال الدين
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال عمر وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر وللبخاري عن أنس قال قال عمر وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى سورة البقرة 125
وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب وبلغني معاتبة النبي ﷺ بعض أزواجه فدخلت عليهم فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت إحدى نسائه فقالت يا عمر أما في رسول الله ﷺ ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن الآية سورة التحريم وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله ﷺ يريد أن يكتبه فقد جاء مبينا كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ﷺ في مرضه ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر
وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد قال قالت عائشة وارأساه فقال رسول الله ﷺ لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك قالت عائشة واثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال رسول الله ﷺ بل أنا وارأساه لقد همت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ويدفع الله ويأبى المؤمنون
وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة قال سمعت عائشة وسئلت من كان رسول الله ﷺ مستخلفا لو استخلف قالت أبو بكر فقيل لها ثم من بعد أبي بكر قالت عمر قيل لها ثم من بعد عمر قالت أبو عبيدة عامر بن الجراح ثم انتهت إلى هذا
وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي ﷺ من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال ماله أهجر فشك في ذلك ولم يجزم بأنه هجر والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي ﷺ لا سيما وقد شك بشبهة فإن النبي ﷺ كان مريضا فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات
والنبي ﷺ قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر
وقول ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب الكتاب يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد
ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه وأما الشيعة القائلون بأن عليا كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصا جليا ظاهرا معروفا وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب
وإن قيل إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أولى وأحرى
وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي ﷺ يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبا ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله ولو أن عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر ثم تبين له أو شك في بعض الأمور فليس هو أعظم ممن يفتي ويقضي بأمور ويكون النبي ﷺ قد حكم بخلافها مجتهدا في ذلك ولا يكون قد علم حكم النبي ﷺ فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه
وكل هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذه به كما قضى على في الحامل المتوفى عنها زوجها أنها تعتد أبعد الأجلين مع ما ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ أنه لما قيل له إن أبا السنابل بن بعكك أفتى بذلك لسبيعة الأسلمية فقال رسول الله ﷺ كذب أبو السنابل بل حللت فانكحى من شئت فقد كذب النبي ﷺ هذا الذي أفتى بهذا وأبو السنابل لم يكن من أهل الاجتهاد وما كان له أن يفتي بهذا مع حضور النبي ﷺ
وأما علي وابن عباس رضي الله عنهما وإن كانا أفتيا بذلك لكن كان ذلك عن اجتهاد وكان ذلك بعد موت النبي ﷺ ولم يكن بلغهما قصة سبيعة
وهكذا سائر أهل الاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم إذا اجتهدوا فأفتوا وقضوا وحكموا بأمر والسنة بخلافه ولم تبلغهم السنة كانوا مثابين على اجتهادهم مطيعين لله ورسوله فيما فعلوه من الاجتهاد بحسب استطاعتهم ولهم أجر على ذلك ومن اجتهد منهم وأصاب فله أجران
والناس متنازعون هل يقال كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد وفصل الخطاب أنه إن أريد بالمصيب المطيع لله ورسوله فكل مجتهد أتقى الله ما استطاع فهو مطيع لله ورسوله فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وهذا عاجز عن معرفة الحق في نفس الأمر فسقط عنه
وان عنى بالمصيب العالم بحكم الله في نفس الأمر فالمصيب ليس إلا واحدا فإن الحق في نفس الأمر واحد
وهذا كالمجتهدين في القبلة إذا أفضى اجتهاد كل واحد منهم إلى جهة فكل منهم مطيع لله ورسوله والفرض ساقط عنه بصلاته إلى الجهة التي اعتقد أنها الكعبة ولكن العالم بالكعبة المصلى إليها في نفس الأمر واحد وهذا قد فضله الله بالعلم والقدرة على معرفة الصواب والعمل به فأجره أعظم كما أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير رواه مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ
وكذلك قضى علي رضي الله عنه في المفوضة بأن مهرها يسقط بالموت مع قضاء النبي ﷺ في بروع بنت واشق بأن لها مهر نسائها وكذلك طلبه نكاح بنت أبي جهل حتى غضب النبي ﷺ فرجع عن ذلك وقوله لما ندبه وفاطمة النبي ﷺ إلى الصلاة بالليل فاحتج بالقدر لما قال ألا تصليان فقال علي إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فولى النبي ﷺ وهو يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا
وأمثال هذا إذا لم يقدح في علي لكونه كان مجتهدا ثم رجع إلى ما تبين له من الحق فكذلك عمر لا يقدح فيه ما قاله باجتهاده مع رجوعه إلى ما تبين له من الحق
والأمور التي كان ينبغي لعلي أن يرجع عنها أعظم بكثير من الأمور التي كان ينبغي لعمر أن يرجع عنها مع أن عمر قد رجع عن عامة تلك الأمور وعلي عرف رجوعه عن بعضها فقط كرجوعه عن خطبة بنت أبي جهل وأما بعضها كفتياه بأن المتوفى عنها الحامل تعتد أبعد الأجلين وأن المفوضة لا مهر لها إذا مات الزوج وقوله إن المخيرة إذا اختارت زوجها فهي واحدة مع أن رسول الله ﷺ خير نساءه ولم يكن ذلك طلاقا
فهذه لم يعرف إلا بقاؤه عليها حتى مات وكذلك مسائل كثيرة ذكرها الشافعي في كتاب اختلاف علي وعبد الله وذكرها محمد بن نصر
المروزي في كتاب رفع اليدين في الصلاة وأكثرها موجودة في الكتب التي يذكر فيها أقوال الصحابة إما بإسناد وإما بغير إسناد مثل مصنف عبد الرزاق وسنن سعيد بن منصور ومصنف وكيع ومصنف أبي بكر ابن أبي شيبة وسنن الأثرم ومسائل حرب وعبد الله بن أحمد وصالح وأمثالهم مثل كتاب ابن المنذر وابن جرير الطبري والطحاوي ومحمد بن نصر وابن حزم وغير هؤلاء
فصل
قال الرافضي ولما وعظت فاطمة أبا بكر في فدك كتب لها كتابا بها وردها عليها فخرجت من عنده فلقيها عمر بن الخطاب فحرق الكتاب فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤه به وعطل حدود الله فلم يحد المغيرة بن شعبة وكان يعطى أزواج النبي ﷺ من بيت المال أكثر مما ينبغي وكان يعطى عائشة 3 وحفصة في كل سنة عشرة آلاف درهم وغير حكم الله في المنفيين وكان قليل المعرفة في الأحكام
والجواب أن هذا من الكذب الذي لا يستريب فيه عالم ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم ولا يعرف له إسناد وأبو بكر لم يكتب فدكا قط لأحد لا لفاطمة ولا غيرها ولا دعت فاطمة على عمر
وما فعله أبو لؤلؤة كرامة في حق عمر رضي الله عنه وهو أعظم مما فعله ابن ملجم بعلي رضي الله عنه وما فعله قتلة الحسين رضي الله عنه به فإن أبا لؤلؤة كافر قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن وهذه الشهادة أعظم من شهادة من يقتله مسلم فإن قتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين وقتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد موت فاطمة بمدة خلافة أبي بكر وعمر إلا ستة أشهر فمن أين يعرف أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة
والداعي إذا دعا على مسلم بأن يقتله كافر كان ذلك دعاء له لا عليه كما كان النبي ﷺ يدعو لأصحابه بنحو ذلك كقوله يغفر الله لفلان فيقولون لو أمتعتنا به وكان إذا دعا لأحد بذلك استشهد
ولو قال قائل إن عليا ظلم أهل صفين والخوارج حتى دعوا عليه بما فعله ابن ملجم لم يكن هذا أبعد عن المعقول من هذا وكذلك لو قال إن آل سفيان بن حرب دعوا على الحسين بما فعل به
وذلك أن عمر لم يكن له غرض في فدك لم يأخذها لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي ﷺ بل كان يقدمهم في العطاء على جميع الناس ويفضلهم في العطاء على جميع الناس حتى انه لما وضع الديوان للعطاء وكتب اسماء الناس قالوا نبدأ بك قال لا ابدأوا بأقارب رسول الله ﷺ وضعوا عمر حيث وضعه الله فبدأ ببني هاشم وضم إليهم بني المطلب لأن النبي ﷺ قال إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام فقدم العباس وعليا والحسن والحسين وفرض لهم أكثر مما فرض لنظرائهم من سائر القبائل وفضل أسامة بن زيد على ابنه عبد الله في العطاء فغضب ابنه وقال تفضل علي أسامة قال فإنه كان أحب إلى رسول الله منك وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيكوهذا الذي ذكرناه من تقديمه بني هاشم وتفضيله لهم أمر مشهور عند جميع العلماء بالسير لم يختلف فيه اثنان فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول وعنزته أيظلم أقرب الناس إليه وسيدة نساء أهل الجنة وهي مصابة به في يسير من المال وهو يعطى أولادها أضعاف ذلك المال ويعطى من هو أبعد عن النبي ﷺ منها ويعطى عليا
ثم العادة الجارية بأن طلاب الملك والرياسة لا يتعرضون للنساء بل يكرمونهن لأنهن لا يصلحن للملك فكيف يجزل العطاء للرجال والمرأة يحرمها من حقها لا لغرض أصلا لا ديني ولا دنيوي
وأما قول الرافضي وعطل حدود الله فلم يحد المغيرة بن شعبة
فالجواب أن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة وأن البينة إذا لم تكمل حد الشهود ومن قال بالقول الآخر لم ينازع في أن هذه مسألة اجتهاد وقد تقدم أن ما يرد على علي بتعطيل إقامة القصاص والحدود على قتلة عثمان أعظم فإن كان القادح في علي مبطلا فالقادح في عمر أولى بالبطلان
والذي فعله بالمغيرة كان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وأقروه على ذلك وعلي منهم والدليل على إقرار علي له أنه لما جلد الثلاثة الحد أعاد أبو بكرة القذف وقال والله لقد زنى فهم عمر بجلده ثانيا فقال له علي إن كنت جالده فارجم المغيرة يعني أن هذا القول إن كان هو الأول فقد حد عليه وإن جعلته بمنزلة قول ثان فقد تم النصاب أربعة فيجب رجمة فلم يحده عمر وهذا دليل على رضا علي بحدهم أولا دون الحد الثاني وإلا كان أنكر حدهم أولا كما أنكر الثاني
وكان من هو دون علي يراجع عمر ويحتج عليه بالكتاب والسنة فيرجع عمر إلى قوله فإن عمر كان وقافا عند كتاب الله تعالى
روى البخاري عن ابن عباس قال قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر كهولا كانوا أو شبانا فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه فقال سأستأذن لك عليه قال ابن عباس فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر فلما دخل عليه قال هيه يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه ﷺ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين سورة الأعراف 19وإن هذا من الجاهلين فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان عمر وقافا عند كتاب الله
وعمر رضي الله عنه من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذ في الله لومة لائم حتى أنه أقام على ابنه الحد لما شرب بمصر بعد أن كان عمرو ابن العاص ضربه الحد لكن كان ضربه سرا في البيت وكان الناس يضربون علانية فبعث عمرو إلى عمر يزجره ويتهدده لكونه حابي ابنه ثم طلبه فضربه مرة ثانية فقال له عبد الرحمن ما لك هذا فزجر عبد الرحمن وما روى أنه ضربه بعد الموت فكذب على عمر وضرب الميت لا يجوز
وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم أكثر من أن تذكر هنا
وأي غرض كان لعمر في المغيرة بن شعبة وكان عمر عند المسلمين كالميزان العادل الذي لا يميل إلى ذا الجانب ولا ذا الجانب
وقوله وكان يعطى أزواج النبي ﷺ من بيت المال أكثر مما ينبغي وكان يعطى عائشة وحفصة من المال في كل سنة عشرة آلاف درهم
فالجواب أما حفصة فكان ينقصها من العطاء لكونها ابنته كما نقص عبد الله بن عمر وهذا من كمال احتياطه في العدل وخوفه مقام ربه ونهيه نفسه عن الهوى وهو كان يرى التفضيل في العطاء بالفضل فيعطى أزواج النبي ﷺ أعظم مما يعطى غيرهن من النساء كما كان يعطى بني هاشم من آل أبي طالب وأل العباس أكثر مما يعطى أعدادهم من سائر القبائل فإذا فضل شخصا كان لأجل اتصاله برسول الله ﷺ أو لسابقته واستحقاقه وكان يقول ليس أحد أحق بهذا المال من أحد وإنما هو الرجل وغناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وسابقته والرجل وحاجته فما كان يعطى من يتهم على إعطائه بمحاباة في صداقة أو قرابة بل كان ينقص ابنه وابنته ونحوهما عن نظرائهم في العطاء وإنما كان يفضل بالأسباب الدينية المحضة ويفضل أهل بيت النبي ﷺ على جميع البيوتات ويقدمهم
وهذه السيرة لم يسرها بعده مثله لا عثمان ولا علي ولا غيرهما فإن قدح فيه بتفضيل أزواج النبي ﷺ فليقدح فيه بتفضيل رجال أهل بيت رسول الله ﷺ بل وتقديمهم على غيرهم
فصل
وأما قوله وغير حكم الله في المنفيين
فالجواب أن التغيير لحكم الله بما يناقض حكم الله مثل إسقاط ما أوجبه الله وتحريم ما أحله الله والنفي في الخمر كان من باب التعزير الذي يسوغ فيه الاجتهاد وذلك أن الخمر لم يقدر النبي ﷺ حدها لا قدره ولا صفته بل جوز فيها الضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب وعثكول النخل والضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين وضربوا ثمانين وقد ثبت في الصحيح عن علي رضي الله عنه أنه قال وكل سنة والفقهاء لهم في ذلك قولان قيل الزيادة على أربعين حد واجب كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وقيل هو تعزير للإمام أن يفعله وأن يتركه بحسب المصلحة وهذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى وهو أظهر وكان عمر رضي الله عنه يحلق في شرب الخمر وينفى أيضا وكان هذا من جنس التعزير العارض فيها
وقد روى عن النبي ﷺ أنه أمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما
وقد تنازع العلماء هل هو منسوخ أو محكم أو هو من باب التعزير الذي يفعله الإمام إن احتاج إليه ولا يجب على ثلاثة أقوال وعلي رضي الله عنه كان يضرب في الحد فوق الأربعين وقال ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر فإنه لو مات لوديته فإن شيء فعلناه برأينا رواه الشافعي وغيره واستدل الشافعي بهذا على أن الزيادة من باب التعزير الذي يفعل بالاجتهاد ثم هذا مبنى على مسألة أخرى وهو أن أقيم عليه حد أو تعزير أو قصاص فمات من ذلك هل يضمن اتفق العلماء على أن الواجب المقدر كالحد لا تضمن سرايته لأنه واجب عليه واختلفوا في المباح كالقصاص وفي غير المقدر كالتعزير وضرب الرجل امرأته وضرب الرائض للدابة والمؤدب للصبي على ثلاثة أقوال فقيل لا يضمن في الجميع لأنه مباح وهو قول أحمد بن حنبل ومالك فيما أظن وقيل يضمن في المباح دون الواجب الذي ليس بمقدر لأن له تركه وهو قول أبي حنيفة وقيل يضمن غير المقدر وهو قول الشافعي لأن غير المقدر يتبين أنه أخطأ إذا تلف به
فصل
قال الرافضي وكان قليل المعرفة بالأحكام أمر برجم حامل فقال له علي إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فأمسك وقال لولا علي لهلك عمر
والجواب أن هذه القصة إن كانت صحيحة فلا تخلو من أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل فأخبره علي بحملها ولا ريب أن الأصل عدم العلم والإمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل فعرفه بعض الناس بحالها كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس المغيبات ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية
وإما أن يكون عمر قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم فلما ذكره علي ذكر ذلك ولهذا أمسك ولو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها ولم يرجع إلي رأي غيره وقد مضت سنة النبي ﷺ في الغامدية لما قالت إني حبلى من الزنا فقال لها النبي ﷺ اذهبي حتى تضعيه ولو قدر أنه خفى عليه علم هذه المسألة حتى عرفه لم يقدح ذلك فيه لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمة يعطى الحقوق ويقيم الحدود ويحكم بين الناس كلهم وفي زمنه انتشر الإسلام وظهر ظهورا لم يكن قبله مثله وهو دائما يقضى ويفتى ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأى عيب في ذلك
وعلي رضي الله عنه قد خفى عليه من سنة رسول الله ﷺ أضعاف ذلك ومنها ما مات ولم يعرفه
ثم يقال عمر رضي الله عنه قد بلغ من علمه وعدله ورحمته بالذرية أنه كان لا يفرض للصغير حتى يفطم ويقول يكفيه اللبن فسمع امرأة تكره ابنها على الفطام ليفرض له فأصبح فنادى في الناس أن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع وتضرر الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن إيذائهم فهذا إحسانه إلى ذرية المسلمين
ولا ريب أن العقوبة إذا أمكن أن لا يتعدى بها الجاني كان ذلك هو الواجب ومع هذا فإذا كان الفساد في ترك عقوبة الجاني أعظم من الفساد في عقوبة من لم يجن دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما رمى النبي ﷺ أهل الطائف بالمنجنيق مع أن المنجنيق قد يصيب النساء والصبيان
وفي الصحيحين أن الصعب بن جثامة سأل النبي ﷺ عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم فقال هم منهم
ولو صالت المرأة الحامل على النفوس والأموال المعصومة فلم يندفع صيالها إلا بقتلها قتلت وإن قتل جنينها
فإذا قدر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظن أن إقامة الحدود من هذا الباب حتى تبين له أنه ليس من هذا الباب لم يكن هذا بأعظم من القتال يوم الجمل وصفين الذي أفضى إلى أنواع من الفساد أعظم من هذا وعلي رضي الله عنه كان مع نظره واجتهاده لا يظن أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ولو علم ذلك لما فعل ما فعل كما أخبر عن نفسه
فصل
قال الرافضي وأمر برجم مجنونة فقال له علي رضي الله عنه إن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق فأمسك وقال لولا على لهلك عمر
والجواب أن هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث ورجم المجنونة لا يخلو إما أن يكون لم يعلم بجنونها فلا يقدح ذلك في علمه بالأحكام أو كان ذاهلا عن ذلك فذكر بذلك أو يظن الظان أن العقوبات لدفع الضرر في الدنيا والمجنون قد يعاقب لدفع عدوانه على غيره من العقلاء والمجانين والزنا هو من العدوان فيعاقب على ذلك حتى يتبين له أن هذا من باب حدود الله تعالى التي لا تقام إلا على المكلف
والشريعة قد جاءت بعقوبة الصبيان على ترك الصلاة كما قال ﷺ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع
والمجنون إذا صال ولم يندفع صياله إلا بقتله قتل بل البهيمة إذا صالت ولم يندفع صيالها إلا بقتلها قتلت وإن كانت مملوكة لم يكن على قاتلها ضمان للمالك عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم وأبو حنيفة يقول إنه يضمنها للمالك لأنه قتلها لمصلحته فهو كما لو قتلها في المخمصة والجمهور يقولون هناك قتلها بسبب منه لا بسبب عدوانها وهنا قتلها بسبب عدوانها
ففي الجملة قتل غير المكلف كالصبي والمجنون والبهيمة لدفع عدوانهم جائز بالنص والاتفاق إلا في بعض المواضع كقتلهم في الإغارة والبيات وبالمنجنيق وقتلهم لدفع صيالهم
وحديث رفع القلم عن ثلاثة إنما يدل على رفع الإثم لا يدل على منع الحد إلا بمقدمة أخرى وهو أن يقال من لا قلم عليه لا حد عليه وهذه المقدمة فيها خفاء فإن من لا قلم عليه قد يعاقب أحيانا ولا يعاقب أحيانا والفصل بينهما يحتاج إلى علم خفي ولو استكره المجنون امرأة على نفسها ولم يندفع إلا بقتله فلها قتله بل عليها ذلك بالسنة واتفاق أهل العلم
فلو اعتقد بعض المجتهدين أن الزنا عدوان كما سماه الله تعالى عدوانا بقوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون سورة المؤمنون 7 فيقتل به المجنون حتى يتبين له أن هذا حد الله فلا يقام إلا بعد العلم بالتحريم والمجنون لم يعلم التحريم لم يشنع عليه في هذا إلا من شنع بأعظم منه على غيره
فلو قال قائل قتال المسلمين هو عقوبة لهم فلا يعاقبون حتى يعلموا الإيجاب والتحريم وأصحاب معاوية الذين قاتلهم علي لم يكونوا يعلمون أن لهم ذنبا فلم يجز لعلي قتالهم على ما لا يعلمون أنه ذنب وإن كانوا مذنبين فإن غاية ما يقال إنهم تركوا الطاعة الواجبة لكن كثير منهم أو أكثرهم لم يكونوا يعلمون أنه يجب عليهم طاعة علي ومتابعته بل كان لهم من الشبهات والتأويلات ما يمنع علمهم بالوجوب فكيف جاز قتال من لم يعلم أنه ترك واجبا أو فعل محرما مع كونه كان معصوما لم يكن مثل هذا قدحا في إمامة علي فكيف يكون ذلك قدحا في إمامة عمر
لا سيما والقتال على ترك الواجب إنما يشرع إذا كانت مفسدة القتال أقل من مفسدة ترك ذلك الواجب والمصلحة بالقتال أعظم من المصلحة بتركه
ولم يكن الأمر كذلك فإن القتال لم يحصل الطاعة المطلوبة بل زاد بذلك عصيان الناس لعلي حتى عصاه وخرج عليه خوارج من عسكره وقاتله كثير من أمراء جيشه وأكثرهم لم يكونوا مطيعين له مطلقا وكانوا قبل القتال أطوع له منهم بعد القتال
فإن قيل علي كان مجتهدا في ذلك معتقدا أنه بالقتال يحصل الطاعة
قيل فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفورا مع أنه أفضى إلى قتل ألوف من المسلمين بحيث حصل الفساد ولم يحصل المطلوب من الصلاح أفلا يكون الاجتهاد في قتل واحد لو قتل لحصل به نوع المصلحة من الزجر عن الفواحش اجتهادا مغفورا مع أن ذلك لم يقتله بل هم به وتركه
وولي الأمر إلى معرفة الأحكام في السياسة العامة الكلية أحوج منه إلى معرفة الأحكام في الحدود الجزئية وعمر رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن المجنون ليس بمكلف لكن المشكل أن من ليس بمكلف هل يعاقب لدفع الفساد هذا موضع مشتبه فإن الشرع قد جاء بعقوبة غير المكلفين في دفع الفساد في غير موضع والعقل يقتضي ذلك لحصول مصلحة الناس والغلام الذي قتله الخضر قد قيل إنه كان لم يبلغ الحلم وقتله لدفع صوله على أبويه بأن يرهقهما طغيانا وكفرا
وقول النبي ﷺ رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ إنما يقتضي رفع المأثم لا رفع الضمان باتفاق المسلمين فلو أتلفوا نفسا أو مالا ضمنوه وأما رفع العقوبة إذا سرق أحدهما أو زنى أو قطع الطريق فهذا علم بدليل منفصل بمجرد هذا الحديث
ولهذا اتفق العلماء على أن المجنون والصغير الذي ليس بمميز ليس عليه عبادة بدنية كالصلاة والصيام والحج واتفقوا على وجوب الحقوق في أموالهم كالنفقات والأثمان واختلفوا في الزكاة فقالت طائفة كأبي حنيفة أنها لا تجب إلا على مكلف كالصلاة وقال الجمهور كمالك والشافعي وأحمد بل الزكاة من الحقوق المالية كالعشر وصدقة الفطر وهذا قول جمهور الصحابة
فإذا كان غير المكلف قد تشتبه بعض الواجبات هل تجب في ماله أم لا فكذلك بعض العقوبات قد تشتبه هل يعاقب بها أم لا لأن من الواجبات ما يجب في ذمته بالاتفاق ومنها مالا يجب في ذمته بالاتفاق وبعضها يشتبه هل هو من هذا أو هذا
وكذلك العقوبات منها مالا يعاقب به بالاتفاق كالقتل على الإسلام فإن المجنون لا يقتل على الإسلام فإن المجنون لا يقتل على الإسلام ومنها ما يعاقب به كدفع صياله ومنها ما قد يشتبه
ولا نزاع بين العلماء أن غير المكلف كالصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا وكذلك المجنون يضرب على ما فعله لينزجر لكن العقوبة التي فيها قتل أو قطع هي التي تسقط عن غير المكلف
وهذا إنما علم بالشرع وليس هو من الأمور الظاهرة حتى يعاب من خفيت عليه حتى يعلمها
وأيضا فكثير من المجانين أو أكثرهم يكون له حال إفاقة وعقل فلعل عمر ظن أنها زنت في حال عقلها وإفاقتها ولفظ المجنون يقال على من به الجنون المطبق والجنون الخانق ولهذا يقسم الفقهاء المجنون إلى هذين النوعين والجنون المطبق قليل والغالب هو الخانق
وبالجملة فما ذكره من المطاعن في عمر وغيره يرجع إلى شيئين إما نقص العلم وإما نقص الدين ونحن الآن في ذكره فما ذكره من منع فاطمة ومحاباته في القسم ودرء الحد ونحو ذلك يرجع إلى أنه لم يكن عادلا بل كان ظالما ومن المعلوم للخاص والعام أن عدل عمر رضي الله عنه ملأ الأفاق وصار يضرب به المثل كما قيل سيرة العمرين وأحدهما عمر بن الخطاب والآخر قيل إنه عمر بن عبد العزيز وهو قول أحمد بن حنبل وغيره من أهل العلم والحديث وقيل هو أبو بكر وعمر وهو قول أبي عبيدة وطائفة من أهل اللغة والنحو
ويكفي الإنسان أن الخوارج الذين هم أشد الناس تعنتا راضون عن أبي بكر وعمر في سيرتهما وكذلك الشيعة الأولى أصحاب علي كان يقدمون عليه أبا بكر وعمر وروى ابن بطة ما ذكره الحسن بن عرفة حدثني كثير بن مروان الفلسطيني عن أنس بن سفيان عن غالب بن عبد الله العقيلي قال لما طعن عمر دخل عليه رجال منهم ابن عباس وعمر يجود بنفسه وهو يبكي فقال له ابن عباس ما يبكيك يا أميرالمؤمنين فقال له عمر أما والله ما أبكي جزعا على الدنيا ولا شوقا إليها ولكن أخاف هول المطلع قال فقال له ابن عباس فلا تبك يا أمير المؤمنين فوالله لقد أسلمت فكان إسلامك فتحا ولقد أمرت فكانت إمارتك فتحا ولقد ملأت الأرض عدلا وما من رجلين من المسلمين يكون بينهما ما يكون بين المسلمين فتذكر عندهما إلا رضيا بقولك وقنعا به قال فقال عمر أجلسوني فلما جلس قال عمر أعد على كلامك يا ابن عباس قال نعم فأعاده فقال عمر أتشهد لي بهذا عند الله يوم القيامة يا ابن عباس قال نعم يا أمير المؤمنين أنا أشهد لك بهذا عند الله وهذا علي يشهد لك وعلي بن أبي طالب جالس فقال علي بن أبي طالب نعم يا أمير المؤمنين
وهؤلاء أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم وليس لهم غرض مع أحد بل يرجحون قول هذا الصاحب تارة وقول هذا الصاحب تارة بحسب ما يرونه من أدلة الشرع كسعيد بن المسيب وفقهاء المدينة مثل عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وعلي بن الحسين وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد وسالم بن عبد الله بن عمر وغير هؤلاء
ومن بعدهم كابن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد وأبي الزناد وربيعة ومالك بن أنس وابن أبي ذئب وعبد العزيز الماجشون وغيرهم
ومثل طاووس اليماني ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وعبيد بن عمير وعكرمة مولى ابن عباس
ومن بعدهم مثل عمرو بن دينار وابن جريج وابن عيينة وغيرهم من أهل مكة
ومثل الحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد أبي الشعثاء ومطرف بن عبد الله بن الشخير ثم أيوب السختياني وعبد الله ابن عون وسليمان التيمي وقتادة وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وأمثالهم مثل علقمة والأسود وشريح القاضي وأمثالهم ثم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي والحكم بن عتيبة ومنصور بن المعتمر إلى سفيان الثوري وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك إلى وكيع بن الجراح وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأمثالهم
ثم الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبو عبيد القاسم بن سلام والحميدي عبد الله بن الزبير وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وأبو بكر بن المنذر ومن لا يحصى عددهم إلا الله من أصناف علماء المسلمين كلهم خاضعون لعدل عمر وعلمه
وقد أفرد العلماء مناقب عمر فإنه لا يعرف في سير الناس كسيرته كذلك قال أبو المعالي الجويني قال ما دار الفلك على شكله قالت عائشة رضي الله عنها كان عمر أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها وكانت تقول زينوا مجالسكم بذكر عمر وقال ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة ابنة صاحب مدين إذ قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين سورة القصص 26 وخديجة في النبي ﷺ وأبو بكر حين استخلف عمر
وكل هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم يعلمون أن عدل عمر كان أتم من عدل من ولي بعده وعلمه كان أتم من علم من ولى بعده
وأما التفاوت بين سيرة عمر وسيرة من ولي بعده فأمر قد عرفته العامة والخاصة فإنها أعمال ظاهرة وسيرة بينة يظهر لعمر فيها من حسن النية وقصد العدل وعدم الغرض وقمع الهوى مالا يظهر من غيره
ولهذا قال له النبي ﷺ ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك لأن الشيطان إنما يستطيل على الإنسان بهواه وعمر قمع هواه
وقال النبي ﷺ لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر
وقال إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه
ووافق ربه في غير واحدة نزل فيها القرآن بمثل ما قال
وقال ابن عمر كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر
وهذا لكمال نفسه بالعلم والعدل قال الله تعالى وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا سورة الأنعام 115 فالله تعالى بعث الرسل بالعلم والعدل فكل من كان أتم علما وعدلا كان أقرب إلى ما جاءت به الرسل
وهذا كان في عمر أظهر منه في غيره وهذا في العمل والعدل ظاهر لكل أحد وأما العلم فيعرف برأيه وخبرته بمصالح المسلمين وما ينفعهم وما يضرهم في دينهم ودنياهم ويعرف بمسائل النزاع التي له فيها قول ولغيره فيها قول فإن صواب عمر في مسائل النزاع وموافقته للنصوص أكثر من صواب عثمان وعلي
ولهذا كان أهل المدينة إلى قوله أميل ومذهبهم أرجح مذاهب أهل الأمصار فإنه لم يكن في مدائن الإسلام في القرون الثلاثة أهل مدينة أعلم بسنة رسول الله ﷺ منهم وهم متفقون على تقديم قول عمر على قول علي
وأما الكوفيون فالطبقة الأولى منهم أصحاب ابن مسعود يقدمون قول عمر على قول علي وأولئك أفضل الكوفيين حتى قضاته شريح وعبيدة السلماني وأمثالهما كانوا يرجحون قول عمر وعلي على قوله وحده
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما رأيت عمر قط إلا وأنا يخيل لي أن بين عينيه ملكا يسدده وروى الشعبي عن علي قال ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال حذيفة بن اليمان كان الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا فلما قتل كان كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدا وقال ابن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر وقال أيضا إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر كا ن إسلامه نصرا وإمارته فتحا
وقال أيضا كان عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله وأعرفنا بالله والله لهو أبين من طريق الساعين يعنى أن هذا أمر بين يعرفه الناس
وقال أيضا عبد الله بن مسعود لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح عليهم وقال أيضا لما مات عمر إني لأحسب هذا قد ذهب بتسعة أعشار العلم وإني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب مع عمر يوم أصيب
وقال مجاهد إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا برأيه
وقال أبو عثمان النهدي إنما كان عمر ميزانا لا يقول كذا ولا يقول كذا
وهذه الآثار وأضعافها مذكورة بالأسانيد الثابتة في الكتب المصنفة في هذا الباب ليس من أحاديث الكذابين والكتب الموجودة فيها هذه الآثار المذكورة بالأسانيد الثابتة كثيرة جدا
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد حدثنا قيس بن أبي حازم قال قال عبد الله بن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر وقد روى عن النبي ﷺ من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه قال اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب قال فغدا عمر على رسول الله ﷺ فأسلم يومئذ وفي لفظ أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك
وروى النضر عن عكرمة عن ابن عباس قال لما أسلم عمر قال المشركون قد انتصف القوم منا
وروى أحمد بن منيع حدثنا ابن عليه حدثنا أيوب عن أبي معشر عن إبراهيم قال قال ابن مسعود كان عمر حائطا حصينا على الإسلام يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما قتل عمر انثلم الحائط فالناس اليوم يخرجون منه
وروى ابن بطة بالإسناد المعروف عن الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أم أيمن قالت وهي الإسلام يوم مات عمر
والثوري عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال كان الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا فلما قتل كان كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدا
ومن طريق الماجشون قال أخبرني عبد الواحد بن أبي عون عن القاسم بن محمد كانت عائشة رضي الله عنها تقول من رأى عمر بن الخطاب علم أنه خلق غناء للإسلام كان والله أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها
وقال محمد بن إسحاق في السيرة أسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره فامتنع به أصحاب رسول الله ﷺ حتى عزوا وكان عبد الله بن مسعود يقول ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه
وكذلك رواه مسندا محمد بن عبيد الطنافسى قال حدثنا إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال قال عبد الله بن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر والله لو رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر فقاتلهم حتى تركونا فصلينا
وقد روى من وجوه ثابتة عن مكحول عن غضيف عن أبي ذر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به وفي لفظ جعل الحق على لسان عمر وقلبه أو قلبه ولسانه وهذا مروى من حديث ابن عمر وأبي هريرة
وقد ثبت من غير وجه عن الشعبي عن علي قال ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر ثبت هذا عن الشعبي عن علي وهو قد رأى عليا وهو من أخبر الناس بأصحابه وحديثه
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر بن الخطاب
وثبت عن طارق بن شهاب قال إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكذب الكذبة فيقول احبس هذه ثم يحدثه الحديث فيقول احبس هذه فيقول كل ما حدثتك به حق إلا ما أمرتني أن أحبسه
وروى ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية قال فبينا عمر يخطب في الناس فجعل يصيح على المنبر يا سارية الجبل يا سارية الجبل قال فقدم رسول الجيش فسأله فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا فإذا بصائح يا سارية الجبل يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله فقيل لعمر بن الخطاب إنك كنت تصيح بذلك على المنبر
وفي الصحيحين عن عمر أنه قال وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى سورة البقرة 125 وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن قال فنزلت آية الحجاب واجتمع على رسول الله ﷺ نساؤه في الغيرة فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك
وفي الصحيحين أنه لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول الله ﷺ ليصلى عليه قال عمر فلما قام دنوت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي عليه وهو منافق فأنزل الله ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره سورة التوبة 84 وأنزل الله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم سورة التوبة 8وثبت عن قيس عن طارق بن شهاب قال كنا نتحدث أن عمر يتحدث على لسانه ملك
وعن مجاهد قال كان عمر إذا رأى الرأي نزل به القرآن
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال رأيت كأن الناس عرضوا علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما هو دون ذلك وعرض على عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا فما أولته يا رسول الله قال الدين
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال بينا أنا نائم رأيتني أتيت بقدح فشربت منه حتى أني لا أرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا ما أولت ذلك يا رسول الله قال العلم
وفي الصحيحين عنه قال رأيت كأني أنزع على قليب بدلو فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعة ضعف والله يغفر له ثم أخذ عمر بن الخطاب فاستحالت في يده غربا فلم أر عبقريا من الناس يفرى فريه حتى ضرب الناس بعطن
وقال عبد الله بن أحمد حدثنا الحسن بن حماد حدثنا وكيع عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله بن مسعود قال لو أن علم عمر وضع في كفه ميزان ووضع علم خيار أهل الأرض في كفه لرجح عليهم بعلمه قال الأعمش فأنكرت ذلك وذكرته لإبراهيم فقال ما أنكرت من ذلك قد قال ما هو أفضل من ذلك قال إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب مع عمر بن الخطاب
وروى ابن بطة بالإسناد الثابت عن ابن عيينة وحماد بن سلمة وهذا لفظه عن عبد الله بن عمير عن زيد بن وهب أن رجلا أقرأه معقل بن مقرن أبو عميرة آية وأقرأها عمر بن الخطاب آخر فسألا ابن مسعود عنها فقال لأحدهما من أقرأكها قال أبو عميرة بن معقل بن مقرن
وقال للآخر من أقرأكها قال عمر بن الخطاب فبكى ابن مسعود حتى كثرت دموعه ثم قال اقرأها كما أقرأكها عمر فإنه كان أقرأنا لكتاب الله وأعلمنا بدين الله ثم قال كان عمر حصنا حصينا على الإسلام يدخل في الإسلام ولا يخرج منه فلما ذهب عمر انثلم الحصن ثلمة لا يسدها أحد بعده وكان إذا سلك طريقا اتبعناه ووجدناه سهلا فإذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر فحيهلا بعمر فحيهلا بعمر وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا هشيم حدثنا العوام عن مجاهد قال إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به
وروى ابن مهدي عن حماد بن زيد قال سمعت خالدا الحذاء يقول نرى أن الناسخ من قول رسول الله ﷺ ما كان عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وروى ابن بطة من حديث أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا عبيد بن جناد حدثنا عطاء بن مسلم عن صالح المرادي عن عبد خير قال رأيت عليا صلى العصر فصف له أهل نجران صفين فلما صلى أومأ رجل منهم إلى رجل فأخرج كتابا فناوله اياه فلما قرآه دمعت عيناه ثم رفع رأسه إليهم فقال يا أهل نجران أو يا أصحابي هذا والله خطى بيدي وإملاء عمر علي فقالوا يا أمير المؤمنين اعطنا ما فيه فدنوت منه فقلت إن كان رادا على عمر يوما فاليوم يرد عليه فقال لست رادا على عمر شيئا صنعه إن عمر كان رشيد الأمر وإن عمر أعطاكم خيرا مما أخذ منكم وأخذ منكم خيرا مما أعطى ولم يجر لعمر نفع مع أخذ لنفسه إنما أخذه لجماعة المسلمين
وقد روى أحمد والترمذي وغيرهما قال أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بكر بن عمرو المعافري عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر الجهني قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب
ورواه ابن وهب وغيره عن ابن لهيعة عن مشرح فهو ثابت عنه
وروى ابن بطة من حديث عقبة بن مالك الخطمى قال قال رسول الله ﷺ لو كان غيري نبي لكان عمر بن الخطاب وفي لفظ لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر وهذا اللفظ في الترمذي
وقال عبدالله بن أحمد حدثنا شجاع بن مخلد حدثنا يحيى بن يمان حدثنا سفيان عن عمرو بن محمد عن سالم بن عبد الله عن أبى موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر فكلم امرأة في بطنها شيطان فقالت حتى يجيء شيطاني فأسأله فقال رأيت عمر متزرا بكساء يهنأ إبل الصدقة وذلك لا يراه الشيطان إلا خر لمنخرية للملك الذي بين عينيه روح القدس ينطق على لسانه
ومثل هذا في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال استأذن عمر على رسول الله ﷺ وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن فلما استأذن عمر قمن فابتدرن الحجاب فأذن له رسول الله ﷺ ورسول الله ﷺ يضحك فقال عمر أضحك الله سنك يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب فقال عمر قلت يا رسول الله أنت أحق أن يهبن ثم قال عمر أي عدوات أنفسهن تهبنني ولا تهبن رسول الله ﷺ قلن نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله ﷺ قال رسول الله والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك
وفي حديث آخر أن الشيطان يفر من حس عمر
وقال أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن واصل عن مجاهد قال كنا نتحدث أن الشياطين كانت مصفدة في إمارة عمر فلما قتل عمر وثبت
وهذا باب طويل قد صنف الناس فيه مجلدات في مناقب عمر مثل كتاب أبي الفرج بن الجوزي وعمر بن شبه وغيرهما غير ما ذكره الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة العلم مثل ما صنفه خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة والدارقطني والبيهقي وغيرهم
ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبى موسى الأشعري تداولها الفقهاء وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس في مجلسك ووجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من أدعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا. ومن ادعى حقا غائبا فامدد له أمدا ينتهي إليه فإن جاء ببينة فأعطه حقه وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعمى. ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم وليس يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور أو مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان. ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك وفيما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك ثم اعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق. وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالخصوم فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله عز وجل فإن الله عز وجل لا يقبل من العبد إلا ما كان له خالصا فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته.
وروى ابن بطة من حديث أبي يعلى الناجي حدثنا العتبي عن أبيه قال خطب عمر بن الخطاب يوم عرفة يوم بويع له فقال الحمد لله الذي ابتلاني بكم وابتلاكم بي وأبقاني فيكم من بعد صاحبيَّ. من كان منكم شاهدا باشرناه ومن كان غائبا ولينا أمره أهل القوة عندنا فإن أحسن زدناه وإن أساء لم نناظره أيتها الرعية إن للولاة عليكم حقا وإن لكم عليهم حقا واعلموا أنه ليس حلم أحب إلى الله وأعظم نفعا من حلم إمام وعدله وليس جهل أبغض إلى الله تعالى من جهل وال وخرقِه وأنه من يأخذ العافية ممن تحت يده يعطه الله العافية ممن هو فوقه
قلت وهو معروف من حديث الأحنف عن عمر قال الوالي إذا طلب العافية ممن هو دونه أعطاه الله العافية ممن هو فوقه
وروى من حديث وكيع عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن يحيى بن جعدة قال قال عمر رضي الله عنه لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لحقت بالله لولا أن أسير في سبيلي الله أو أضع جبهتي في التراب ساجدا أو أجالس قوما يلتقطون طيب الكلام كما يلتقط طيب الثمر
وكلام عمر رضي الله عنه من أجمع الكلام وأكمله فإنه ملهم محدث كل كلمة من كلامه تجمع علما كثيرا مثل هؤلاء الثلاث التي ذكرهن فإنه ذكر الصلاة والجهاد والعلم وهذه الثلاث هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة قال أحمد بن حنبل أفضل ما تطوع به الإنسان الجهاد وقال الشافعي أفضل ما تطوع به الصلاة وقال أبو حنيفة ومالك العلم
والتحقيق أن كلا من الثلاثة لا بد له من الآخرين وقد يكون هذا أفضل في حال وهذا أفضل في حال كما كان النبي ﷺ وخلفاؤه يفعلون هذا وهذا وهذا كل في موضعه بحسب الحاجة والمصلحة وعمر جمع الثلاث
ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال قال لي عمر إنه والله يا ابن عباس ما يصلح لهذا الأمر إلا القوي في غير عنف اللين في غير ضعف الجواد في غير سرف الممسك في غير بخل قال يقول ابن عباس فوالله ما أعرفه غير عمر
وعن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان إذا ذكر عمر قال لله در عمر لقل ما سمعته يقول يحرك شفتيه بشيء قط يتخوفه إلا كان حقا
فصل
قال الرافضي وقال في خطبة له من غالى في مهر أمرأة جعلته في بيت المال فقالت له امرأة كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال وأتيتم إحداهن قنطارا سورة النساء 20 فقال كل أحد أفقه من عمر حتى المخدرات
والجواب أن هذه القصة دليل على كمال فضل عمر ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له وأنه يقبل الحق حتى من امرأة ويتواضع له وأنه معترف بفضل الواحد عليه ولو في أدنى مسألة وليس من شرط الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمر من الأمور فقد قال الهدهد لسليمان أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين سورة النمل 22 وقد قال موسى للخضر هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا سورة الكهف 66 والفرق بين موسى والخضر أعطم من الفرق بين عمر وبين أشباهه من الصحابة ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريبا من موسى فضلا عن أن يكون مثله بل الأنبياء المتبعون لموسى كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم أفضل من الخضر
وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل فإن الصداق فيه حق لله تعالى ليس من جنس الثمن والأجرة فإن المال والمنفعة يستباح بالإباحة ويجوز بذله بلا عوض وأما البضع فلا يستباح بالإباحة ولا يجوز النكاح بغير صداق لغير النبي ﷺ باتفاق المسلمين واستحلال البضع بنكاح لا صداق فيه من خصائص النبي ﷺ لكن يجوز عقده بدون التسمية ويجب مهر المثل فلو مات قبل أن يفرض لها ففيها قولان للصحابة والفقهاء أحدهما لا يجب شيء وهو مذهب علي ومن اتبعه كمالك والشافعي في أحد قوليه والثاني يجب مهر المثل وهو مذهب عبد الله بن مسعود ومذهب أبي حنيفة وأحمد والشافعي في قوله الآخر
والنبي ﷺ قضى في بروع بنت واشق بمثل ذلك فكان هذا قضاء رسول الله ﷺ فعمر لم يستقر قوله على خلاف النص فكان حاله أكمل من حال من استقر قوله على خلاف النص وإذا كان الصداق فيه حق لله أمكن أن يكون مقدرا بالشرع كالزكاة وفدية الأذى وغير ذلك ولهذا ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن أقله مقدر بنصاب السرقة وإذا جاز تقدير أقله جاز تقدير أكثره
وإذا كان مقدرا اعتبر بالسنة فلم يتجاوز به ما فعله رسول الله ﷺ في نسائه وبناته
وإذا قدر أن هذا لا يسوغ كانت قد بذلت لمن لا يستحقها فلا يعطاها الباذل لحصول مقصوده ولا الآخذ لكونه لا يستحقها فتوضع في بيت المال كما تقوله طائفه من الفقهاء إن المتجر جمال غيره يتصدق بالربح وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات وكما يقوله محققو الفقهاء فيمن باع سلاحا في الفتنة أو عصيرا أو عنبا للخمر إنه يتصدق بالثمن
ففي الجملة عمر لو نفذ اجتهاده لم يكن أضعف من كثير من اجتهاد غيره الذي أنفذه وكيف لم ينفذه
وقوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا سورة النساء 20 يتأول كثير من الناس ما هو أصرح منها بأن يقولوا هذا قيل للمبالغة كما قالوا في قول رسول الله ﷺ التمس ولو خاتما من حديد أنه قاله على سبيل المبالغة فإذا كان المقدرون لأدناه يتأولون مثل هذا جاز أن يكون المقدر لأعلاه يتأول مثل هذا
وإذا كان في هذا منع للمرأة المستحقة فكذلك منع المفوضة المهر الذي استحقته بسنة رسول الله ﷺ لا سيما والمزوجة بلا تسمية لم تغال في الصداق وعمر مع هذا لم يصر على ذلك بل رجع إلى الحق
فعلم أن تأييد الله له وهدايته إياه أعظم من تأييده لغيره وهدايته إياه وأن أقواله الضعيفة التي رجع عنها ولم يصر عليها خير من أقوال غيره الضعيفة التي لم يرجع عنها
والله تعالى قد غفر لهذه الأمة الخطأ وإن لم يرجعوا عنه فكيف بمن رجع عنه
وقد ثبت في موضع غير هذا أن اجتهادات السلف من الصحابة والتابعين كانت أكمل من اجتهادات المتأخرين وأن صوابهم أكمل من صواب المتأخرين وخطأهم أخف من خطأ المتأخرين فالذين قالوا من الصحابة والتابعين بصحة نكاح المتعة خطؤهم أيسر من خطأ من قال من المتأخرين بصحة نكاح المحلل من أكثر من عشرين وجها قد ذكرناها في مصنف مفرد والذين قالوا من الصحابة والتابعين بجواز الدرهم بدرهمين خطؤهم أخف من خطأ من جوز الحيل الربوية من المتأخرين وأن الذين أنكروا ما قاله الصحابة عمر وغيره في مسألة المفقود من أن زوجها إذا أتى خير بين أمرأته ومهرها قولهم ضعيف وقول الصحابة هو الصواب الموافق لأصول الشرع والذين عدوا هذا خلاف القياس وقالوا لا ينفذ حكم الحاكم إذا حكم به قالوا ذلك لعدم معرفتهم بمآخذ الصحابة ودقة فهمهم فإن هذا مبني على وقف العقود عند الحاجة وهو أصل شريف من أصول الشرع
وكذلك ما فعله عمر من جعل أرض العنوة فيئا هو فيه على الصواب دون من لم يفهم ذلك من المتأخرين وأن الذي أشار به علي بن أبي طالب في قتال أهل القبلة كان علي رضي الله عنه فيه على الصواب دون من أنكره عليه من الخوارج وغيرهم
وما أفتى به ابن عباس وغيره من الصحابة في مسائل الأيمان والنذور والطلاق والخلع قولهم فيها هو الصواب دون قول من خالفهم من المتأخرين
وبالجملة فهذا باب يطول وصفه فالصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها ولهذا أحسن الشافعي رحمه الله في قوله هم فوقنا في كل علم وفقة ودين وهدى وفي كل سبب ينال به علم وهدى ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا أو كلاما هذا معناه
وقال أحمد بن حنبل أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال أيها الناس من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وقال حذيفة رضي الله عنه يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا
فصل
قال الرافضي ولم يحد قدامة في الخمر لأنه تلا عليه ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا سورة المائدة 93 الآية فقال له علي ليس قدامة من أهل هذه الآية فلم يدركم يحده فقال له أمير المؤمنين حده ثمانين إن شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى
والجواب أن هذا من الكذب البين الظاهر على عمر رضي الله عنه فإن علم بن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أبين من أن يحتاج إلى دليل فإنه قد جلد في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله وكانوا يضربون فيها تارة أربعين وتارة ثمانين وكان عمر أحيانا يعزر فيها بحلق الرأس والنفي وكانوا يضربون فيها تارة بالجريد وتارة بالنعال والأيدي وأطراف الثياب وقد تنازع علماء المسلمين في الزائد عن الأربعين إلى الثمانين هل هو حد يجب إقامته أو تعزير يختلف باختلاف الأحوال على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد أحدهما أنه حد لأن أقل الحدود ثمانون وهو حد القذف وأدعى أصحاب هذا القول أن الصحابة أجمعت على ذلك وأن ما نقل من الضرب أربعين كان بسوط له طرفان فكانت الأربعون قائمة مقام الثمانين وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما واختاره الخرقي والقاضي أبو يعلي وغيرهما
والثاني أن الزائد على الأربعين جائز فليس بحد واجب وهو قول الشافعي واختاره أبو بكر وأبو محمد وغيرهما وهذا القول أقوى لأنه قد ثبت في الصحيح عن علي رضي الله عنه أنه جلد الوليد أربعين وقال جلد رسول الله ﷺ أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي
وفي الصحيحين عن أنس قال أتى رسول الله ﷺ برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ثم أتى به أبو بكر ففعل به مثل ذلك ثم أتى به عمر فاستشار الناس في الحدود
فقال ابن عوف أخف الحدود ثمانون فضربه عمر
ولأنه يجوز الضرب فيه بغير السوط كالجريد والنعال والأيدي وأطراف الثياب فلما لم تكن صفة الضرب مقدرة بل يرجع فيها إلى الاجتهاد فكذلك مقدار الضرب وهذا لأن أحوال الشاربين تختلف ولهذا أمر أولا بقتل الشارب في المرة الرابعة وقد قيل إن هذا منسوخ وقيل بل هو محكم وقيل بل هو تعزير جائز يفعل عند الحاجة إليه وهذا لأن الضرب بالثوب ليس أمرا محدودا بل يختلف باختلاف قلته وكثرته وخفته وغلظته والنفوس قد لا تنتهي فيه عنه مقدار فردت أكثر العقوبة فيه إلى الاجتهاد وإن كان أقلها مقدرا كما أن من التعزيرات ما يقدر أكثره ولا يقدر أقله
وأما قصة قدامة فقد روى أبو إسحاق الجوزجاني وغيره حديثه عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر ما يحملك على ذلك فقال إن الله يقول ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات الآية سورة المائدة 93 وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد، فقال عمر أجيبوا الرجل فسكتوا عنه فقال لابن عباس أجبه فقال إنما أنزلها الله عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه سورة المائدة 90 حجة على الناس ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين جلدة فجلد عمر ثمانين ففيه أن عليا أشار بالثمانين وفيه نظر
فإن الذي ثبت في الصحيح أن عليا جلد أربعين عند عثمان بن عفان لما جلد الوليد بن عقبة وأنه أضاف الثمانين إلى عمر وثبت في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين فلم يكن جلد الثمانين مما استفاده عمر من علي وعلي قد نقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين فدل على انه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين وروى عن علي أنه قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات لوديته لأن النبي ﷺ لم يسنه لنا
وهذا لم يقل به أحد من الصحابة والفقهاء في الأربعين فما دونها ولا ينبغي أن يحمل كلام علي على ما يخالف الإجماع وإنما تنازع الفقهاء فيما إذا زاد على الأربعين فتلف هل يضمن على قولين فقال جمهورهم لا يضمن أيضا وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم وقال الشافعي يضمنه إما بنصف الدية في أحد القولين جعلا له قد تلف بفعل مضمن وغير مضمن وإما أن تقسط الدية على عدد الضربات كلها فيجب من الدية بقدر الزيادة على الأربعين في القول الأخر
والشافعي بني هذا على أن الزيادة تعزير غير مقدر ومن أصله أن من مات بعقوبة غير مقدرة ضمن لأنه بالتلف يتبين عدوان المعزر كما إذا ضرب الرجل امرأته والمؤدب الصبي والرائض الدابة
وأما الجمهور فمنهم من يخالفه في الأصلين ومنهم من يخالفه في أحدهما فأبو حنيفة ومالك يقولان الثمانون حد واجب وهو قول أحمد في إحدى الروايتين وفي الأخرى يقول كل من تلف بعقوبة جائزة فالحق قتله سواء كانت واجبة أو مباحة وسواء كانت مقدرة أو غير مقدرة إذا لم يتعد وعلى هذا لا يضمن عنده سراية القود في الطرف وإن لم يكن واجبا وقد اتفق الأئمة على أنه إذا تلف في عقوبة مقدرة واجبة لا يضمن كالجلد في الزنا والقطع في السرقة وتنازعوا في غير ذلك فمنهم من يقول يضمن في الجائز ولا يضمن في الواجب كقول أبي حنيفة فإنه يقول يضمن سراية القود ولا يضمن سراية التعزير لحق الله تعالى ومنهم من يقول يضمن غير المقدر ولا يضمن في المقدر سواء كان واجبا أو جائزا كقول الشافعي ومنهم من يقول لا يضمن لا في هذا ولا في هذا كقول مالك وأحمد وغيرهما
فصل
قال الرافضي وأرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفا فقال له الصحابة نراك مؤدبا ولا شيء عليك ثم سأل أمير المؤمنين فأوجب الدية على عاقلته
والجواب أن هذه مسألة اجتهاد تنازع فيها العلماء وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة رضي الله عنهم في الحوادث يشاور عثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم حتى كان يشاور ابن عباس وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه ولهذا كان من أسد الناس رأيا وكان يرجع تارة إلى رأي هذا وتارة إلى رأى هذا
وقد أتى بامرأة قد أقرت بالزنا فاتفقوا على رجمها وعثمان ساكت فقال مالك لا تتكلم فقال أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم فرجع فاسقط الحد عنها لما ذكر له عثمان ومعنى كلامه أنها تجهر به وتبوح به كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحا مثل الأكل والشرب والتزوج والتسري
والاستهلال رفع الصوت ومنه استهلال الصبي وهو رفعه صوته عند الولادة وإذا كانت لا تعلمه قبيحا كانت جاهلة بتحريمه والحد لا يجب إلا على من بلغه التحريم فإن الله تعالى يقول وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا سورة الإسراء 15 وقال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل سورة النساء 165 ولهذا لا يجوز قتال الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة حتى يدعوا إلى الإسلام
ولهذا من أتى شيئا من المحرمات التي لم يعلم تحريمها لقرب عهده بالإسلام أو لكونه نشأ بمكان جهل لم يقم عليه الحد ولهذا لم يعاقب النبي ﷺ من أكل من أصحابه حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود لأنهم أخطأوا في التأويل
ولم يعاقب أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله لأنه ظن جواز قتله لما اعتقد أنه قالها تعوذا
وكذلك السرية التي قتلت الرجل الذي قال إنه مسلم وأخذت ماله لم يعاقبها لأنها كانت متأولة
وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة لما قالوا صبأنا لم يعاقبه لتأويله
وكذلك الصديق لم يعاقب خالدا على قتل مالك بن نويرة لأنه كان متأولا
وكذلك الصحابة لما قال هذا لهذا أنت منافق لم يعاقبه النبي ﷺ لأنه كان متأولا
ولهذا قال الفقهاء الشبهة التي يسقط بها الحد شبهة اعتقاد أو شبهة ملك فمن تزوج نكاحا اعتقد أنه جائز ووطىء فيه لم يحد وإن كان حراما في الباطن وأما إذا علم التحريم ولم يعلم العقوبة فإنه يحد كما حد النبي ﷺ ماعز بن مالك إذ كان قد علم تحريم الزنا ولكنه لم يكن يعلم أن الزاني المحصن يرجم فرجمه النبي ﷺ لعلمه بتحريم الفعل وإن لم يعلم أنه يعاقب بالرجم
والمقصود هنا أن عمر رضي الله عنه كان يشاورهم وأنه من ذكر ما هو حق قبله وذلك من وجهين أحدهما أن يتبين في القصة المعينة مناط الحكم الذي يعرفونه كقول عثمان إنها جاهلة بالتحريم فإن عثمان لم يفدهم معرفة الحكم العام بل أفادهم إن هذا المعين هو من أهله وكذلك قول علي إن هذه مجنونة قد يكون من هذا فأخبره بجنونها أو بحملها أو نحو ذلك
والثاني أن يتبين نصا أو معنى نص يدل على الحكم العام كتنبيه المرأة له على قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا سورة النساء 20 وكإلحاق عبد الرحمن حد الشارب بحد القاذف ونحو ذلك
فصل
قال الرافضي وتنازعت امرأتان في طفل ولم يعلم الحكم وفزع فيه إلى أمير المؤمنين علي فاستدعى أمير المؤمنين المرأتين ووعظهما فلم ترجعا فقال ائتوني بمنشار فقالت المرأتان ما تصنع به فقال أقده بينكما نصفين فتأخذ كل واحدة نصفا فرضيت واحدة وقالت الأخرى الله الله يا أبا الحسن إن كان ولا بد من ذلك فقد سمحت لها به فقال علي الله أكبر هو ابنك دونها ولو كان ابنها لرقت عليه فاعترفت الأخرى أن الحق مع صاحبتها ففرح عمر ودعا لأمير المؤمنين
والجواب أن هذه قصة لم يذكر لها إسنادا ولا يعرف صحتها ولا أعلم أحدا من أهل العلم ذكرها ولو كان لها حقيقة لذكروها ولا تعرف عن عمر وعلي ولكن هي معروفة عن سليمان بن داود عليهما السلام وقد ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت هذه لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال أئتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى قال أبو هريرة والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ ما كنا نقول إلا المدية
فإن كان بعض الصحابة علي أو غيره سمعوها من النبي ﷺ كما سمعها أبو هريرة أو سمعوها من أبي هريرة فهذا غير مستبعد وهذه القصة فيها أن الله تعالى فهم سليمان من الحكم ما لم يفهمه لداود كما فهمه الحكم إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكان سليمان قد سأل ربه حكما يوافق حكمه ومع هذا فلا يحكم بمجرد ذلك بأن سليمان أفضل من داود عليهما السلام
فصل
قال الرافضي وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فقال له علي إن خاصمتك بكتاب الله تعالى خصمتك إن الله يقول وحمله وفصاله ثلاثون شهرا سورة الأحقاف 15 وقال تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة سورة البقرة 233
والجواب أن عمر كان يستشير الصحابة فتارة يشير عليه عثمان بما يراه صوابا وتارة يشير عليه علي وتارة يشير عليه عبد الرحمن بن عوف وتارة يشير عليه غيرهم وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله تعالى وأمرهم شورى بينهم سورة الشورى 38 والناس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها حمل ولم يكن لها زوج ولا سيد ولا ادعت شبهة هل ترجم فمذهب مالك وغيره من أهل المدينة والسلف أنها ترجم وهو قول أحمد في إحدى الروايتين ومذهب أبي حنيفة والشافعي لا ترجم وهي الرواية الثانية عن أحمد قالوا لأنها قد تكون مستكرهة على الوطء أو موطوءة بشبهة أو حملت بغير وطء
والقول الأول هو الثابت عن الخلفاء الراشدين وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب خطب الناس في آخر عمره وقال الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الأعتراف فجعل الحبل دليلا على ثبوت الزنا كالشهود وهكذا هذه القضية وكذلك اختلفوا في الشارب هل يحد إذا تقيأ أو وجدت منه الرائحة على قولين والمعروف عن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين أنهم كانوا يحدون بالرائحة وبالقيء وكان الشاهد إذا شهد أنه تقيأها كان كشهادته بأنه شربها والاحتمالات البعيدة هي مثل احتمال غلط الشهود أو كذبهم وغلطه في الإقرار أو كذبه بل هذه الدلائل الظاهرة يحصل بها من العلم مالا يحصل بكثير من الشهادات والإقرارات
والشهادة على الزنا لا يكاد يقام بها حد وما أعرف حدا أقيم بها وإنما تقام الحدود إما باعتراف وإما بحبل ولكن يقام بها ما دون الحد كما إذا رئيا متجردين في لحاف ونحو ذلك فلما كان معروفا عند الصحابة أن الحد يقام بالحبل فلو ولدت المرأة لدون ستة أشهر أقيم عليها الحد
والولادة لستة أشهر نادرة إلى الغاية والأمور النادرة قد لا تخطر بالبال فأجرى عمر ذلك على الأمر المعتاد المعروف في النساء كما في أقصى الحمل فإن المعروف من النساء أن المرأة تلد لتسعة أشهر وقد يوجد قليلا من تلد لسنتين ووجد نادرا من ولدت لأربع سنين ووجد من ولدت لسبع سنين فإذا ولدت امرأة بعد إبانة زوجها لهذه المدة فهل يلحقه النسب فيه نزاع معروف وهذه من مسائل الاجتهاد فكثير من العلماء يحد لأقصى الحمل المدة النادرة هذا يحد سنتين وهذا يحد أربعا وهذا يحد سبعا ومنهم من يقول هذا أمر نادر لا يلتفت إليه وإذا أبانها وجاءت بالولد على خلاف المعتاد مع ظهور كونه من غيره لم يجب إلحاقه به
======
منهاج السنة النبوية/37
فصل
قال الرافضي وكان يضطرب في الأحكام فقضى في الجد بمائة قضية
والجواب أن عمر رضي الله عنه أسعد الصحابة المختلفين في الجد بالحق فإن الصحابة في الجد مع الإخوة على قولين أنه يسقط الإخوة وهذا قول أبي بكر وأكثر الصحابة كأبي بن كعب وأبي موسى وابن عباس وابن الزبير ويذكر عن أربعة عشر منهم وهو مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كابن سريج من أصحاب الشافعي وأبي حفص البرمكي من أصحاب أحمد ويذكر هذا رواية عن أحمد
وهذا القول هو الصحيح فإن نسبة بني الإخوة من الأب إلى الجد كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد أبي الأب وقد اتفق المسلمون على أن الجد أبا الأب أولى من الأعمام فيجب أن يكون الجد أبو الأب أولى من الإخوة
وأيضا فإن الإخوة لو كانوا لكونهم يدلون ببنوة الأب بمنزلة الجد لكان أبناؤهم وهم بنو الإخوة كذلك كان أولادهم ليسوا بمنزلتهم علم أنهم لا يتقدمون ببنوة الأب ألا ترى أن الابن لما كان أولى من الجد كان ابنه ابن الابن بمنزلته
وأيضا فإن الجدة كالأم فيجب أن يكون الجد كالأب ولأن الجد يسمى أبا وهذا القول هو إحدى الروايتين عن عمر
والقول الثاني أن الجد يقاسم الإخوة وهذا قول علي وزيد وابن مسعود وروى عن عثمان القولان ولكنهم مختلفون في التفصيل اختلافا متباينا
وجمهور أهل هذا القول على مذهب زيد كمالك والشافعي وأحمد وأما قول علي في الجد فلم يذهب إليه أحد من أئمة الفقهاء وإنما يذكر عن ابن أبي ليلى أنه كان يقضى به ويذكر عن علي فيه أقوال مختلفة فإن كان القول الأول هو الصواب فهو قول لعمر وإن كان الثاني فهو قول لعمر
وإنما نفذ قول زيد في الناس لأنه كان قاضي عمر وكان عمر ينفذ قضاءه في الجد لورعه لأنه كان يرى أن الجد كالأب مثل قول أبي بكر فلما صار جدا تورع وفوض الأمر في ذلك لزيد
وقول القائل إنه قضى في الجد بمائة قضية، إن صح هذا لم يرد به أنه قضى في مسألة واحدة بمائة قول فإن هذا غير ممكن وليس في مسائل الجد نزاع أكثر مما في مسألة الخرقاء أم وأخت وجد والأقوال فيها ستة فعلم أن المراد به إن كان صحيحا أنه قضى في مائة حادثة من حوادث الجد وهذا مع أنه ممكن لكن لم يخرج قوله عن قولين أو ثلاثة وقول علي مختلف أيضا
وأهل الفرائض يعلمون هذا وهذا مع أن الأشبه أن هذا كذب فإن وجود جد وإخوة في الفريضة قليل جدا في الناس وعمر إنما تولى عشر سنين وكان قد أمسك عن الكلام في الجد
وثبت عنه في الصحيح أنه قال ثلاث وددت أن رسول الله ﷺ كان بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا ومن كان متوقفا لم يحكم فيها بشيء
ومما يبين هذا أن الناس إنما نقلوا عن عمر في فريضة واحدة قضاءين قضى في المشركة فروى عنه بالإسناد المذكور في كتب أهل العلم أنه قضى فيها مرة بعدم التشريك وهذا قول علي وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل في المشهور عنه
وقضى في نظيرها في العام الثاني بالتشريك وقال ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضى وهذا قول زيد وهو قول مالك والشافعي فإنهما وغيرهما مقلدان لزيد في الفرائض وهي رواية حرب عن أحمد ابن حنبل
وهذا مما استدل به الفقهاء على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
وعلي رضي الله عنه يوافق على ذلك فإنه قد ثبت عنه أنه قال كان رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم قد رأيت أن يبعن فقال له قاضيه عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة فعلي له في المسألة قولان ومعلوم أن ما قضى به في عتقهن ومنع بيعهن هو وعمر لم يكن ينقضه وإنما كان يرى أن يستأنف فيما بعد أن يجوز بيعهن
والمسائل التي لعلي فيها قولان وأكثر كثيرة ونفس الجد مع الإخوة قد نقل عنه فيها اختلاف كثير
ونقل عنه أنه كان إذا أرسل إليه بعض نوابه يسأله عن قضية في ذلك يأمره فيها باجتهاده ويقول قطع الكتاب فإنه رضي الله عنه رأى أنه إنما يتكلم فيها بالاجتهاد للضرورة وهو مضطر إلى الاجتهاد في هذه المعينة وكره أن يقلده غيره من غير اجتهاد منه فأمره بتقطيع الكتاب لذلك
بخلاف ما إذا كان معه فيها نص فإنه كان يبلغه ويأمره بتبليغه ولا يأمر بقطع كتابه
والعلماء مختلفون في بيع الكتب التي فيها العلم بالرأي هل يجوز بيعه وغير ذلك من الأحكام فيه على قولين
فصل
قال الرافضي وكان يفضل في الغنيمة والعطاء وأوجب الله تعالى التسوية
والجواب أما الغنيمة فلم يكن يقسمها هو بنفسه وإنما يقسمها الجيش الغانمون بعد الخمس وكان الخمس يرسل إليه كما يرسل إلى غيره فيقسمه بين أهله ولم يقل عمر ولا غيره إن الغنيمة يجب فيها التفضيل ولكن تنازع العلماء هل للإمام أن يفضل بعض الغانمين على بعض إذا تبين له زيادة نفع فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد إحداهما أن ذلك جائز وهو مذهب أبي حنيفة لأن النبي ﷺ نفل في بدايته الربع بعد الخمس وفي رجعته الثلث بعد الخمس رواه أبو داود وغيره
وهذا تفضيل لبعض الغانمين من أربعة الأخماس ولأن في الصحيح صحيح مسلم أن النبي ﷺ أعطى سلمة بن الأكوع سهم راجل وفارس في غزوة الغابة وكان راجلا لأن أتى من القتل والغنيمة وإرهاب العدو بما لم يأت به غيره
والقول الثاني لا يجوز ذلك وهو مذهب مالك والشافعي ومالك يقول لا يكون النفل إلا من الخمس والشافعي يقول لا يكون إلا من خمس الخمس
وقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال غزونا مع النبي ﷺ قبل نجد فبلغت سهماننا اثنى عشر بعيرا ونفلنا رسول الله ﷺ بعيرا بعيرا وهذا النفل لا يقوم به خمس الخمس
وفي الجملة فهذه مسألة اجتهاد فإذا كان عمر يسوغ التفضيل للمصلحة فهو الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه
وأما التفضيل في العطاء فلا ريب أن عمر كان يفضل فيه ويجعل الناس فيه على مراتب وروى عنه أنه قال لئن عشت إلى قابل لأجعلن الناس بابا واحدا أي نوعا واحدا
وكان أبو بكر يسوى في العطاء وكان علي يسوي أيضا وكان عثمان يفضل وهي مسألة اجتهاد فهل للإمام التفضيل فيه للمصلحة على قولين هما روايتان عن أحمد والتسوية في العطاء اختيار أبي حنيفة والشافعي والتفضيل قول مالك
وأما قول القائل إن الله أوجب التسوية فيه
فهو لم يذكر على ذلك دليلا ولو ذكر دليلا لتكلمنا عليه كما نتكلم في مسائل الاجتهاد والذين أمروا بالتسوية من العلماء احتجوا بأن الله قسم المواريث بين الجنس الواحد بالسواء ولم يفضل أحدا بصفة وأجاب المفضلون بأن تلك تستحق بسبب لا بعمل واحتجوا بأن النبي ﷺ سوى في المغانم بين الجنس الواحد فأعطى الراجل سهما واحدا وأعطى الفارس ثلاثة أسهم كما ثبت في الصحيحين وهو قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد وقيل أعطاه سهمين وهو قول أبي حنيفة وقد روى في ذلك أحاديث ضعيفة والثابت في الصحيحين أنه عام خبير أعطى الفارس ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وكانت الخيل مائتي فرس وكانوا أربعة عشر مائة فقسم خيبر على ثمانية عشر سهما كل مائة في سهم فأعطى أهل الخيل ستمائة سهم وكانوا مائتين وأعطى ألفا ومائتين لألف ومائتي رجل وكان أكثرهم ركبانا على الإبل فلم يسهم للإبل عام خيبر
والمجوزون للتفضيل قالوا بل الأصل التسوية وكان أحيانا يفضل فدل على جواز التفضيل وهذا القول أصح أن الأصل التسوية وأن التفضيل لمصلحة راجحة جائز
وعمر لم يفضل لهوى ولا حابي بل قسم المال على الفضائل الدينية فقدم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ثم من بعدهم من الصحابة ثم من بعدهم وكان ينقص نفسه وأقاربه عن نظرائهم فنقص ابنه وابنته عمن كانا أفضل منه وإنما يطعن في تفضيل من فضل لهوى أما من كان قصده وجه الله تعالى وطاعة رسوله وتعظيم من عظمه الله ورسوله وتقديم من قدمه الله ورسوله فهذا يمدح ولا يذم
ولهذا كان يعطى عليا والحسن والحسين ما لا يعطى لنظرائهم وكذلك سائر أقارب النبي ﷺ ولو سوى لم يحصل لهم إلا بعض ذلك
وأما الخمس فقد اختلف اجتهاد العلماء فيه فقالت طائفة سقط بموت النبي ﷺ ولا يستحق أحد من بني هاشم شيئا بالخمس إلا أن يكون فيهم يتيم أو مسكين فيعطى لكونه يتيما أو مسكينا وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره
وقالت طائفة بل هو لذي قربى ولي الأمر بعده فكل ولي أمر يعطى أقاربه وهذا قول طائفة منهم الحسن وأبو ثور فيما أظن وقد نقل هذا القول عن عثمان
وقالت طائفة بل الخمس يقسم خمسة أقسام التسوية وهذا قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه
وقالت طائفة بل الخمس إلى اجتهاد الإمام يقسمه بنفسه في طاعة الله ورسوله كما يقسم الفيء وهذا قول أكثر السلف وهو قول عمر بن عبدالعزيز ومذهب أهل المدينة مالك وغيره وهو الرواية الأخرى عن أحمد وهو أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة كما قد بسطناه في موضعه
فمصرف الفيء والخمس واحد فكان ديوان العطاء الذي لعمر يقسم فيه الخمس والعطاء جميعا
وأما ما يقوله من أن خمس مكاسب المسلمين يوخذ منهم ويصرف إلى من يرونه هو نائب الإمام المعصوم أو إلى غيره فهذا قول لم يقله قط أحد من الصحابة لا علي ولا غيره ولا أحد من التابعين لهم بإحسان ولا أحد من القرابة لا بني هاشم ولا غيرهم
وكل من نقل هذا عن علي أو علماء أهل بيته كالحسن والحسين وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد فقد كذب عليهم فإن هذا خلاف المتواتر من سيرة علي رضي الله عنه فإنه قد تولى الخلافة أربع سنين وبعض أخرى ولم يأخذ من المسلمين من أموالهم شيئا بل لم يكن في ولايته قط خمس مقسوم أما المسلمون فما خمس لا هو ولا غيره أموالهم وأما الكفار فإذا غنمت منهم الأموال خمست بالكتاب والسنة لكن في عهده لم يتفرغ المسلمون لقتال الكفار بسبب ما وقع من الفتنة والاختلاف
وكذلك من المعلوم بالضرورة أن النبي ﷺ لم يخمس أموال المسلمين ولا طالب أحدا قط من المسلمين بخمس ماله بل إنما كان يأخذ منهم الصدقات ليس لآل محمد منها شيء وكان يأمرهم بالجهاد بأموالهم وأنفسهم وكان هو ﷺ يقسم ما أفاء الله على المسلمين يقسم الغنائم بين أهلها ويقسم الخمس والفيء
وهذه هي الأموال المشتركة السلطانية التي كان النبي ﷺ وخلفاؤه يتولون قسمتها وقد صنف العلماء لها كتبا مفردة وجمعوا بينها في مواضع يذكرون قسم الغنائم والفيء والصدقة
والذي تنازع فيه أهل العلم لهم فيه مأخذ فتنازعوا في الخمس لأن الله تعالى قال في القرآن واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير سورة الأنفال 4وقال في الفيء ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم سورة الحشر وقد قال قبل ذلك وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء سورة الحشر وأصل الفيء الرجوع والله خلق الخلق لعبادته وأعطاهم الأموال يستعينون بها على عبادته فالكفار لما كفروا بالله وعبدوا غيره لم يبقوا مستحقين للأموال فأباح الله لعباده قتلهم وأخذ أموالهم فصارت فيئا أعاده الله على عباده المؤمنين لأنهم هم المستحقون له وكل مال أخذ من الكفار قد يسمى فيئا حتى الغنيمة
كما قال النبي ﷺ في غنائم حنين ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم
لكن لما قال تعالى وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب سورة الحشر 6 وقال ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى سورة الحشر 7 صار اسم الفيء عند الإطلاق لما أخذ من الكفار بغير قتال
وجمهور العلماء على أن الفيء لا يخمس كقول مالك وأبي حنيفة وأحمد وهذا قول السلف قاطبة وقال الشافعي والخرقي ومن وافقه من أصحاب أحمد يخمس والصواب قول الجمهور فإن السنن الثابتة عن النبي ﷺ وخلفائه تقتضي أنهم لم يخمسوا فيئا قط بل أموال بني النضيركانت أول الفيء ولم يخمسها النبي ﷺ بل خمس غنيمة بدر وخمس خيبر وغنائم حنين
وكذلك الخلفاء بعده لم يكونوا يخمسون الجزية والخراج
ومنشأ الخلاف أنه لما كان لفظ آية الخمس وآية الفيء واحدا اختلف فهم الناس للقرآن فرأت طائفة أن آية الخمس تقتضي أن يقسم الخمس بين الخمسة بالسوية وهذا قول الشافعي وأحمد وداود الظاهري لأنهم ظنوا أن هذا ظاهر القرآن ثم إن آية الفيء لفظها كلفظ آية الخمس فرأى بعضهم أن الفيء كله يصرف أيضا مصرف الخمس إلى هؤلاء الخمسة وهذا قول داود بن علي وأتباعه وما علمت أحدا من المسلمين قال هذا القول قبله
وهو قول يقتضي فساد الإسلام إذا دفع الفيء كله إلى هذه الأصناف وهؤلاء يتكلمون أحيانا بما يظنونه ظاهر اللفظ ولا يتدبرون عواقب قولهم ورأى بعضهم أن قوله في آية الفيء فلله وللرسول ولذي القربى سورة الحشر 7 المراد بذلك خمس الفيء فرأوا أن الفيء يخمس وهذا قول الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد
وقال الجمهور هذا ضعيف جدا لأنه قال فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل سورة الحشر 7 لم يقل خمسه لهؤلاء ثم قال للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم سورة الحشر 8 والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم سورة الحشر 9 والذين جاءوا من بعدهم سورة الحشر 10 وهؤلاء هم المستحقون للفيء كله فكيف يقول المراد خمسه
وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما قرأ هذه الآية قال هذه عمت المسلمين كلهم
وأما أبو حنيفة ومن وافقه فوافقوا هؤلاء على أن الخمس يستحقه هؤلاء لكن قالوا إن سهم الرسول كان يستحقه في حياته وذوو قرباه كانوا يستحقونه لنصرهم له وهذا قد سقط بموته فسقط سهمهم كما سقط سهمه
والشافعي وأحمد قالا بل يقسم سهمه بعد موته في مصرف الفيء إما في الكراع والسلاح وإما في المصالح مطلقا واختلف هؤلاء هل كان الفيء ملكا للنبي ﷺ في حياته على قولين أحدهما نعم كما قاله الشافعي وبعض أصحاب أحمد لأنه أضيف إليه والثاني لم يكن ملكا له لأنه لم يكن يتصرف فيه تصرف المالك
وقالت طائفة ذوو القربى هم ذوو قربى القاسم المتولى وهو الرسول في حياته ومن يتولى الأمر بعده
واحتجوا بما روى عنه ﷺ أنه قال ما أطعم الله نبيا طعمه إلا كانت لمن يتولى الأمر بعده
والقول الخامس قول مالك وأهل المدينة وأكثر السلف أن مصرف الخمس والفيء واحد وأن الجميع لله والرسول بمعنى أنه يصرف فيما أمر الله به والرسول هو المبلغ عن الله فما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا سورة الحشر 7
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال إني والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فدل على أنه يعطى المال لمن أمره الله به لا لمن يريد هو ودل على أنه أضافه إليه لكونه رسول الله لا لكونه مالكا له
وهذا بخلاف نصيبه من المغنم وما وصى له به فإنه كان ملكه ولهذا سمى الفيء مال الله بمعنى أنه المال الذي يجب صرفه فيما أمر الله به ورسوله أي في طاعة الله أي لا يصرفه أحد فيما يريد وإن كان مباحا بخلاف الأموال المملوكة
وهذا بخلاف قوله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم سورة النور 33 فإنه لم يضفه إلى الرسول بل جعله مما آتاهم الله قالوا وقوله تعالى ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل سورة الحشر 7 تخصيص هؤلاء بالذكر للاعتناء بهم لا لاختصاصهم بالمال ولهذا قال كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم سورة الحشر 7 أي لا تتداولونه وتحرمون الفقراء ولو كان مختصا بالفقراء لم يكن للأغنياء فضلا عن أن يكون دولة
وقد قال تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا سورة الحشر 7 فدل على أن الرسول هو القاسم للفيء والمغانم ولو كانت مقسومة محدودة كالفرائض لم يكن للرسول أمر فيها ولا نهي
وأيضا فالأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ وخلفائه تدل على هذا القول فإن النبي ﷺ لم يخمس قط خمسا خمسة أجزاء ولا خلفاؤه ولا كانوا يعطون اليتامى مثل ما يعطون المساكين بل يعطون أهل الحاجة من هؤلاء وهؤلاء وقد يكون المساكين أكثر من اليتامى الأغنياء وقد كان بالمدينة يتامى أغنياء فلم يكونوا يسوون بينهم وبين الفقراء بل ولا عرف أنهم أعطوهم بخلاف ذوي الحاجة والأحاديث في هذا كثيرة ليس هذا موضع ذكرها
فصل
قال الرافضي وقال بالرأي والحدس والظن
والجواب أن القول بالرأي لم يختص به عمر رضي الله عنه بل علي كان من أقولهم بالرأي وكذلك أبو بكر وعثمان وزيد وابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون بالرأي وكان رأي علي في دماء أهل القبلة ونحوه من الأمور العظائم
كما في سنن أبي داود وغيره عن الحسن عن قيس بن عباد قال قلت لعلي أخبرنا عن مسيرك هذا أعهد عهده إليك رسول الله ﷺ أم رأى رأيته قال ما عهد النبي ﷺ إلى شيئا ولكنه رأى رأيته وهذا أمر ثابت ولهذا لم يرو على رضي الله عنه في قتال الجمل وصفين شيئا كما رواه في قتال الخوارج بل روى الأحاديث الصحيحة هو وغيره من الصحابة في قتال الخوارج المارقين وأما قتال الجمل وصفين فلم يرو أحد منهم فيه نصا إلا القاعدون فإنهم رووا الأحاديث في ترك القتال في الفتنة
وأما الحديث الذي يروى أنه أمر بقتل الناكثين والقاسطين والمارقين فهو حديث موضوع على النبي ﷺ
ومعلوم أن الرأي إن لم يكن مذموما فلا لوم على من قال به وإن كان مذموما فلا رأى أعظم ذما من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم بل نقص الخير عما كان وزاد الشر على ما كان
فإذا كان مثل هذا الرأي لا يعاب به فرأى عمر وغيره في مسائل الفرائض والطلاق أولى أن لا يعاب مع أن عليا شركهم في هذا الرأي وامتاز برأيه في الدماء
وقد كان ابنه الحسن وأكثر السابقين الأولين لا يرون القتال مصلحة وكان هذا الرأي أصلح من رأي القتال بالدلائل الكثيرة
ومن المعلوم أن قول علي في الجد وغيره من المسائل كان بالرأي وقد قال اجتمع رأيي ورأى عمر على المنع من بيع أمهات الأولاد والآن فقد رأيت أن يبعن فقال له قاضيه عبيده السلماني رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة
وفي صحيح البخاري عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي قال اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي قال وكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي كذب وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي المسائل التي تركت من قول علي وابن مسعود فبلغت شيئا كثيرا وكثير منها قد جاءت السنة بخلافه كالمتوفى عنها الحامل فإن مذهب علي رضي الله عنه أنها تعتد أبعد الأجلين وبذلك أفتى أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي ﷺ فلما جاءته سبيعة الأسلمية وذكرت ذلك له قال كذب أبو السنابل بل حللت فانكحي من شئت وكان زوجها قد توفي عنها بمكة في حجة الوداع
فإن كان القول بالرأي ذنبا فذنب غير عمر كعلي وغيره أعظم فإن ذنب من استحل دماء المسلمين برأي هو ذنب أعظم من ذنب من حكم في قضية جزئية برأيه وإن كان منه ما هو صواب ومنه ما هو خطأ فعمر رضي الله عنه أسعد بالصواب من غيره فإن الصواب في رأيه أكثر منه في رأي غيره والخطأ في رأي غيره أكثر منه في رأيه وإن كان الرأي كله صوابا فالصواب الذي مصلحته أعظم هو خير وأعظم من الصواب الذي مصلحته دون ذلك وآراء عمر رضي الله عنه كانت مصالحها أعظم للمسلمين
فعلى كل تقدير عمر فوق القائلين بالرأي من الصحابة فيما يحمد وهو أخف منهم فيما يذم ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر
ومعلوم أن رأي المحدث الملهم أفضل من رأي من ليس كذلك وليس فوقه إلا النص الذي هو حال الصديق المتلقى من الرسول ونحن نسلم أن الصديق أفضل من عمر لكن عمر أفضل من سائرهم
وفي المسند وغيره أن الله تعالى ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وقال عبد الله بن عمر ما سمعت عمر يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول
فالنصوص والإجماع والاعتبار يدل على أن رأي عمر أولى بالصواب من رأي عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ولهذا كانت آثار رأيه محمودة فيها صلاح الدين والدنيا فهو الذي فتح بلاد فارس والروم وأعز الله به الإسلام وأذل به الكفر والنفاق وهو الذي وضع الديوان وفرض العطاء وألزم أهل الذمة بالصغار والغيار وقمع الفجار وقوم العمال وكان الإسلام في زمنه أعز ما كان
وما يتمارى في كمال سيرة عمر وعلمه وعدله وفضله من له أدنى مسكة من عقل وإنصاف ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام وهذا حال المعلم الأول للرافضة أول من ابتدع الرفض وحال أئمه الباطنية وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى وهو الغالب على عامة الشيعة إذا كانوا مسلمين في الباطن
وإذا قال الرافضي علي كان معصوما لا يقول برأيه بل كل ما قاله فهو مثل نص الرسول وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته من جهة الرسول
قيل له نظيرك في البدعة الخوارج كلهم يكفرون عليا مع أنهم أعلم واصدق وأدين من الرافضة لا يسترتب في هذا كل من عرف حال هؤلاء وهؤلاء
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم
وقد قاتلوه في حياته وقتله واحد منهم ولهم جيوش وعلماء ومدائن وأهل السنة ولله الحمد متفقون على أنهم مبتدعة ضالون وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة وأن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه كان من أفضل أعماله قتاله الخوارج
وقد اتفقت الصحابة على قتالهم ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة لا يقاتلون مع أئمة الجور ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه ونقل عنه خلاف ذلك وهو قول الجمهور وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقالوا يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا إذا كان الغزو الذي يفعله جائزا فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالا مشروعا قوتل معه وإن قاتل قتالا وإن قاتل قتالا غير جائز لم يقاتل معه فيعاون على البر والتقوى ولا يعاون على الإثم والعدوان كما أن الرجل يسافر مع من يحج ويعتمر وإن كان في القافلة من هو ظالم
فالظالم لا يجوز أن يعاون على الظلم لأن الله تعالى يقول وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان سورة المائدة وقال موسى رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين سورة القصص 1وقال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار سورة هود 113
وقال تعالى ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها سورة النساء 8والشفيع المعين فكل من أعان شخصا على أمر فقد شفعه فيه فلا يجوز أن يعان أحد لا ولي أمر ولا غيره على ما حرمه الله ورسوله وأما إذا كان للرجل ذنوب وقد فعل برا فهذا إذا أعين على البر لم يكن هذا محرما كما لو أراد مذنب أن يؤدى زكاته أو يحج أو يقضى ديونه أو يرد بعض ما عنده من المظالم أو يوصى على بناته فهذا إذا أعين عليه فهو إعانة على بر وتقوى ليس إعانة على إثم وعدوان فكيف الأمور العامة
والجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور فإن لم يغز معهم لزم أن أهل الخير الأبرار لا يجاهدون فتفتر عزمات أهل الدين عن الجهاد فإما أن يتعطل وإما أن ينفرد به الفجار فيلزم من ذلك استيلاء الكفار أو ظهور الفجار لأن الدين لمن قاتل عليه
وهذا الرأي من أفسد الآراء وهو رأي أهل البدع من الرافضة والمعتزلة وغيرهم حتى قيل لبعض شيوخ الرافضة إذا جاء الكفار إلى بلادنا فقتلوا النفوس وسبوا الحريم وأخذوا الأموال هل نقاتلهم فقال لا المذهب أنا لا نغزو إلا مع المعصوم فقال ذلك المستفتى مع عاميته والله إن هذا لمذهب نجس فإن هذا المذهب يفضي إلى فساد الدين والدنيا
وصاحب هذا القول تورع فيما يظنه ظلما فوقع في أضعاف ما تورع عنه بهذا الورع الفاسد وأين ظلم بعض ولاة الأمور من استيلاء الكفار بل من استيلاء من هو أظلم منه فالأقل ظلما ينبغي أن يعاون على الأكثر ظلما فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين
ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج أعظم من شر الظالم وأما اذا لم يكونوا يظلمون المسلمين والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم فهذا عدوان منه فلا يعاون على العدوان
فصل
قال الرافضي وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه فإنه لم يفوض الأمر فيه إلى اختيار الناس ولا نص على إمام بعده بل تأسف على سالم مولى أبي حذيفة وقال لو كان حيا لم يختلجني فيه شك وأمير المؤمنين علي حاضر
وجمع فيمن يختار بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول ثم طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تقلده حيا ثم تقلده ميتا بأن جعل الإمامة في ستة ثم ناقص فجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور ثم قال إن اجتمع أمير المؤمنين وعثمان فالقول ما قالاه وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن بن عوف لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد وأن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه وهو عثمان وابن عمه ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام مع أنهم عندهم من العشرة المبشرة بالجنة وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم وأمر بقتل من خالف الثلاثة الذين بينهم عبد الرحمن وكل ذلك مخالف للدين
وقال لعلي وإن وليتها وليسوا فاعلين لتركبنهم على المحجة البيضاء وفيه إشارة إلى أنهم لا يولونه إياها قال لعثمان إن وليتها لتركبن آل أبي معيط على رقاب الناس وإن فعلت لتقتلن وفيه إشارة إلى الأمر بقتله
والجواب أن هذا الكلام كله لا يخرج عن قسمين إما كذب في النقل وإما قدح في الحق فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب أو غير معلوم الصدق وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر رضي الله عنه بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله بها عمله
ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون ما وقعت وإلى أمور ما كانت ويعلم أنها ما كانت فيقولون كانت ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح فيقولون هي فساد وإلى الأمور التي هي فساد فيقولون هي خير وصلاح فليس لهم لا عقل ولا نقل بل لهم نصيب من قوله وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير سورة الملك 1وأما قول الرافضي وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه
فالجواب أن الخلاف نوعان خلاف تضاد وخلاف تنوع فالأول مثل أن يوجب هذا شيئا ويحرمه الآخر والنوع الثاني مثل القراءات التي يجوز كل منها وإن كان هذا يختار قراءة وهذا يختار قراءة كما ثبت في الصحاح بل استفاض عن النبي ﷺ أنه قال إن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف
وثبت أن عمر وهشام بن حكيم بن حزام اختلفا في سورة الفرقان فقرأها هذا على وجه وهذا على وجه آخر فقال لكليهما هكذا أنزلت
ومن هذا الباب أنواع التشهدات كتشهد ابن مسعود الذي أخرجاه في الصحيحين وتشهد أبي موسى الذي رواه مسلم وألفاظهما متقاربة وتشهد ابن عباس الذي رواه مسلم وتشهد عمر الذي علمه الناس على منبر النبي ﷺ وتشهد ابن عمر وعائشة وجابر اللواتي رواها أهل السنن عنهم عن النبي ﷺ
فكل ما ثبت عن النبي ﷺ من ذلك فهو سائغ وجائز وإن اختار كل من الناس بعض التشهدات إما لكونه هو الذي علمه ولاعتياده إياه وإما لاعتقاده رجحانه من بعض الوجوه
وكذلك الترجيع في الآذان وترك الترجيع فإن الأول قد ثبت في الصحيح في أذان أبي محذورة وروى في أوله التكبير مرتين كما رواه مسلم وروى أربعا كما رواه أبو داود وترك الترجيح هو الذي رواه أهل السنن في أذان بلال
وكذلك وتر الإقامة هو الذي ثبت في أذان بلال وشفع الإقامة ثبت في الصحيح في أذان أبي محذورة فأحمد وغيره من فقهاء الحديث أخذوا بأذان بلال وإقامته والشافعي أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة
وكل هذه الأمور جائزة بسنة رسول الله ﷺ وإن كان من الفقهاء من يكره بعض ذلك لاعتقاده أنه لم يثبت كونه سن في الأذان فذلك لا يقدح في علم من علم أنه سنة
وكذلك أنواع صلاة الخوف فإنه ثبت عن النبي ﷺ فيها أنواع متعددة كصلاة ذات الرقاع وصلاة عسفان وصلاة نجد فإنه صلى بهم بعسفان جماعة صلاة واحدة لكن جعلهم صفين فالصف الواحد ركعوا معه جميعا وسجد معه الصف الأول وتخلف الصف الآخر عن المتابعة ليحرسوا ثم أتموا لأنفسهم وفي الركعة الثانية بالعكس فكان في ذلك من خلاف الصلاة المعتادة تخلف أحد الصفين عن السجود معه لأجل الحرس وهذه مشروعة إذا كان العدو وجاه القبلة
وصار هذا اصلا للفقهاء في تخلف المأموم لعذر فيما دون الركعة كالزحمة والنوم والخوف وغير ذلك أنه لا يبطل الصلاة وأنه يفعل ما تخلف عنه
وأكثر الصلوات كان يجعلهم طائفتين وهذا يتعين إذا كان العدو في غير جهة الكعبة فتارة يصلي بطائفة ركعة ثم يفارقونه ويتمون لأنفسهم ثم يصلى بالطائفة الثانية الركعة الثانية ويتمون لأنفسهم قبل سلامه فيسلم بهم فيكون الأولون أحرموا معه والآخرون سلموا معه كما صلى بهم في ذات الرقاع وهذه أشهر الأنواع وأكثر الفقهاء يختارونها لكن منهم من يختار أن تسلم الثانية بعده كالمسبوق كما يروى عن مالك والأكثرون يختارون ما ثبت به النقل عن النبي ﷺ ولأن المسبوق قد صلى غيره مع الإمام الصلاة كلها فيسلم بهم بخلاف هذا فإن الطائفة الأولى لم تتم معه الصلاة فلا يسلم إلا بهم ليكون تسليمه بالمأمومين فإن في السنن عنه ﷺ أنه قال مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم فهذا مروى عن علي وغيره
ومنها صلاة نجد صلى بطائفة ركعة ثم ذهبت إلى وجاه العدو وجاءت الطائفة الثانية فصلى بهم الثانية ثم ذهبوا إلى وجاه العدو ورجع الأولون فأتموا بركعة ثم رجع هؤلاء فأتموا بركعة
وهذه يختارها أبو حنيفة لأنها على وفق القياس عنده إذ ليس فيها إلا العمل الكثير واستدبار القبلة لعذر وهو يجوز ذلك لمن سبقه الحدث ومنها صلوات أخرى
والصحيح الذي لا يجوز أن يقال بغيره أن كل ما ثبت عن النبي ﷺ من ذلك فهو جائز وإن كان المختار يختار بعض ذلك فهذا من اختلاف التنوع
ومن ذلك أنواع الاستفتاحات في الصلاة كاستفتاح أبي هريرة الذي رواه عن النبي ﷺ وهو في الصحيحين واستفتاح علي بن أبي طالب الذي رواه مسلم واستفتاح عمر الذي كان يجهر به في محراب النبي ﷺ يعلمه الناس متفق عليه وهو في السنن مرفوع إلى النبي ﷺ وغير ذلك من الاستفتاحات
ومن ذلك صفات الاستعاذة وأنواع الأدعية في آخر الصلاة وأنواع الأذكار التي تقال في الركوع والسجود مع التسبيح المأمور به
ومن ذلك صلاة التطوع يخير فيها بين القيام والقعود ويخير بين الجهر بالليل والمخافتة إلىأمثال ذلك
ومن ذلك تخيير الحاج بين التعجيل في يومين من أيام منى وبين التأخر إلى اليوم الثالث
وهذا الاختلاف قسمان أحدهما يكون الإنسان مخيرا فيه بين النوعين بدون اجتهاد في أصلحهما والثاني يكون تخييره بحسب ما يراه من المصلحة
وتخيير المتصرف لغيره هو من هذا الباب كولي اليتيم وناظر الوقف والوكيل والمضارب والشريك وأمثال ذلك ممن تصرف لغيره فإنه إذا كان مخيرا بين هذا النقد وهذا أو بين النقد والنسيئة أو بين ابتياع هذا الصنف وهذا الصنف أو البيع في هذا السوق وهذا السوق فهو تخيير مصلحة واجتهاد فليس له أن يعدل عما يراه أصلح لمن أئتمنه إذا لم يكن عليه في ذلك مشقة تسوغ له تركه
ومن هذا الباب تصرف ولي الأمر للمسلمين كالأسير الذي يخير فيه بين القتل والاسترقاق وكذلك بين المن والفداء عند أكثر العلماء
ولهذا استشار النبي ﷺ أصحابه فيهم يوم بدر فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه بأخذ الفداء وشبهة النبي ﷺ بإبراهيم وعيسى وأشار عليه عمر رضي الله عنه بالقتل وشبهه النبي ﷺ بنوح وموسى ولم يعب واحدا منهما بما أشار عليه به بل مدحه وشبهه بالأنبياء ولو كان مأمورا بأحد الأمرين حتما لما استشارهم فيما يفعل
وكذلك اجتهاد ولى الأمر فيمن يولى فعليه أن يختار أصلح من يراه ثم إن الاجتهاد يختلف ويكون جميعه صوابا كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان رأيه أن يولى خالد بن الوليد في حروبه وكان عمر يشير عليه بأن يعزله فلا يعزله ويقول إنه سيف سله الله على المشركين ثم إن عمر لما تولى عزله وولى أبا عبيدة بن الجراح وما فعله كل منهما كان أصلح في وقته فإن أبا بكر كان فيه لين وعمر كان فيه شدة وكانا على عهد النبي ﷺ يستشيرهما النبي ﷺ
وروى عنه أنه قال إذا اتفقتما على شيء لم أخالفكما وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال في بعض مغازيه إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا
وفي رواية في الصحيح كيف ترون القوم صنعوا حين فقدوا نبيهم وأرهقتهم صلاتهم قلنا الله ورسوله أعلم قال أليس فيهم أبو بكر وعمر إن يطيعوهما فقد رشدوا ورشدت أمتهم وإن يعصوهما فقد غووا وغوت أمتهم قالها ثلاثا
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس عن عمر قال لما كان يوم بدر نظر رسول الله ﷺ إلى المشركين وهم ألف وأصحابه وهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله ﷺ القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين سورة الأنفال 9 فأمده الله بالملائكة قال أبو زميل فحدثني ابن عباس قال بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصارى فحدث بذلك رسول الله ﷺ فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين فقال أبو زميل قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله ﷺ لأبي بكر وعمر ما ترون في هؤلاء الأساري فقال أبو بكر يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على المشركين فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله ﷺ ما ترى يا ابن الخطاب قلت لا والله يا رسول ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله ﷺ وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله ﷺ أبكى للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية سورة الأنفال 67 قال فأحل الله لهم الغنيمة
ورواه عبد الله بن مسعود وقال فيه فقال رسول الله ﷺ إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم سورة إبراهيم 36 أو كمثل عيسى قال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم سورة المائدة 118 وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا سورة نوح 26 وقال يا عمر كمثل موسى قال وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم سورة يونس 813
وقد روى هذ المعنى من حديث أم سلمة وابن عباس وغيرهما
وقد روى أحمد في المسند من حديث أبي معاوية ورواه ابن بطة ورويناه في جزء ابن عرفة عن أبي معاوية وهي لفظه قال لما كان يوم بدر قال رسول الله ﷺ ما تقولون في هؤلاء الأساري فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله يتوب عليهم وقال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قربهم واضرب أعناقهم فذكر الحديث قال فدخل رسول الله ﷺ ولم يرد عليهم شيئا قال فخرج رسول الله ﷺ فقال إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم سورة إبراهيم 36 وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم سورة المائدة 118 وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا سورة نوح 26 وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم سورة يونس 8وروى ابن بطة بالإسناد الثابت من حديث الزنجي بن خالد عن إسماعيل بن أمية قال قال رسول الله ﷺ لأبي بكر وعمر لولا أنكما تختلفان على ما خالفتكما
وكان السلف متفقين على تقديمهما حتى شيعة علي رضي الله عنه
وروى ابن بطة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق حدثنا محمد بن حميد حدثنا جرير عن سفيان عن عبد الله بن زياد عن حدير قال قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة قال لنا شمر بن عطية قوموا إليه فجلسنا إليه فتحدثوا فقال أبو إسحاق خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون ولا والله ما أدرى ما يقولون
وقال حدثنا النيسابوري حدثنا أبو أسامة الحلبي حدثنا أبي حدثنا ضمرة عن سعيد بن حسن قال سمعت ليث بن أبي سليم يقول أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا
وقال أحمد بن حنبل حدثنا ابن عيينة عن خالد بن سلمة عن الشعبي عن مسروق قال حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة ومسروق من أجل تابعي الكوفة وكذلك قال طاووس حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة وقد روى ذلك عن ابن مسعود
وكيف لا تقدم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وقد روى هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقا
وقد رواه البخاري عنه في صحيحه من حديث الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعلي حتى كان يقول
ولو كنت بوابا على باب جنة ... لقلت لهمدان أدخلي بسلام
وقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو همداني عن منذر وهو همداني عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يا أبت من خير الناس بعد رسول الله ﷺ فقال يا بني أو ما تعرف فقلت لا قال أبو بكر فقلت ثم من قال عمر وهذا يقوله لابنه بينه وبينه ليس هو مما يجوز أن يقوله تقية ويرويه عن أبيه خاصة وقال على المنبر
وعنه أنه كان يقول لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري
وفي السنن عنه ﷺ أنه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر
ولهذا كان أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد أن قولهما إذا اتفقا حجة لا يجوز العدول عنها وهذا أظهر القولين كما أن الأظهر أن اتفاق الخلفاء الأربعة أيضا حجة لا يجوز خلافها لأمر النبي ﷺ باتباع سنتهم
وكان نبينا ﷺ مبعوثا بأعدل الأمور وأكملها فهو الضحوك القتال وهو نبي الرحمة ونبي الملحمة بل أمته موصوفون بذلك في مثل قوله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم سورة الفتح 29 وقوله تعالى أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين سورة المائدة 54 فكان النبي ﷺ يجمع بين شدة هذا ولين هذا فيأمر بما هو العدل وهما يطيعانه فتكون أفعالهما على كمال الاستقامة فلما قبض الله نبيه وصار كل منهما خليفة على المسلمين خلافة نبوة كان من كمال أبي بكر رضي الله عنه أن يولى الشديد ويستعين به ليعتدل أمره ويخلط الشدة باللين فإن مجرد اللين يفسد ومجرد الشدة تفسد ويكون قد قام مقام النبي ﷺ فكان يستعين باستشارة عمر وباستنابة خالد ونحو ذلك
وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله ﷺ ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره حتى روى أن عمر قال له يا خليفة رسول الله ﷺ تألف الناس فقال علام أتألفهم أعلى حديث مفترى أم على شعر مفتعل
وقال أنس خطبنا أبو بكر عقيب وفاة النبي ﷺ وإنا لكالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود
وأما عمر رضي الله عنه فكان شديدا في نفسه فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح وسعد ابن أبي وقاص وأبي عبيد الثقفي والنعمان بن مقرن وسعيد بن عامر وأمثال هؤلاء من أهل الصلاح والزهد الذين هم أعظم زهدا وعبادة من مثل خالد بن الوليد وأمثاله
ومن هذا الباب أمر الشورى فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين فيه أمر الله ورسوله فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع وقضايا كلية وقواعد عامة يمتنع أن ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة فلا بد من الاجتهاد في المعينات هل تدخل في كلماته الجامعة أم لا
وهذا الاجتهاد يسمى تحقيق المناط وهو مما اتفق عليه الناس كلهم نفاة القياس ومثبتته فإن الله إذا أمر أن يستشهد ذوا عدل فكون الشخص المعين من ذوي العدل لا يعلم بالنص بل باجتهاد خاص وكذلك إذا أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها وأن يولى الأمور من يصلح لها فكون هذا الشخص المعين صالحا لذلك أو راجحا على غيره لا يمكن أن تدل عليه النصوص بل لا يعلم إلا باجتهاد خاص
والرافضي إن زعم أن الإمام يكون منصوصا عليه وهو معصوم فليس هو أعظم من الرسول ونوابه وعماله ليسوا معصومين ولا يمكن أن ينص الشارع على كل معينة ولا يمكن النبي ولا الإمام أن يعلم الباطن في كل معينة بل قد كان النبي ﷺ يولى الوليد بن عقبة ثم ينزل الله فيه إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة سورة الحجرات وقد كان يظن أن الحق في قضيته مع بني أبيرق ثم ينزل الله
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما سورة النساء 105 الآيات
وأما علي رضي الله عنه فظهور الأمر له في الجزئيات بخلاف ما ظنه كثير جدا فعلم أنه لا بد من الاجتهاد في ا لجزئيات من المعصومين وغير المعصومين
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار
فحكمه في القضية المعينة إنما هو باجتهاده ولهذا نهى المحكوم له أن يأخذ ما حكم له به إذا كان الباطن بخلاف ما ظهر للحاكم
وعمر رضي الله عنه إمام وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين فاجتهد في ذلك ورأى أن هؤلاء الستة أحق من غيرهم وهو كما رأى فإنه لم يقل أحد أن غيرهم أحق منهم وجعل التعيين إليهم خوفا أن يعين واحدا منهم ويكون غيره أصلح لهم فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين وقال الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحدا منهم
وهذا أحسن اجتهاد إمام عالم عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه
وأيضا فقد قال تعالى وأمرهم شورى بينهم سورة الشورى 38 وقال وشاورهم في الأمر سورة آل عمران 159 فكان ما فعله من الشورى مصلحة وكان ما فعله أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضا فإن أبا بكر تبين له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر مالم يحتج معه إلى الشورى وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو عليا أو طلحة أو الزبير أو سعدا أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له
ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أفرس الناس ثلاثة بنت صاحب مدين حيث قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين سورة القصص 26 وامرأة العزيز حيث قالت عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا سورة القصص 9 وأبو بكر حيث استخلف عمر وقالت عائشة رضي الله عنها في خطبتها أبي وما أبيه والله لا تعطوه الأيدي ذاك طود منيف وفرع مديد هيهات كذبت الظنون أنجح إذ أكديتم وسبق إذا ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد فتى قريش ناشئا وكهفها كهلا يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعبها حتى حليته قلوبها ثم استشرى في الله فما برحت شكيمته في ذات الله تعالى تشتد حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون وكان رحمه الله غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجى النشيج فتتقصف عليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون سورة البقرة 15 فأكبرت ذلك رجالات قريش فحنت له قسيها وفوقت له سهامها وانتبلوه غرضا فما فلوا له صفاة ولا قصفوا له قناة ومر على سيسائه حتى إذا ضرب الدين بجرانه وألقى بركه ورست أوتاده ودخل الناس فيه أفواجا ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا اختار الله نبيه ﷺ ما عنده فلما قبض الله نبيه نصب الشيطان رواقة ومد طنبه ونصب حبائله فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين الذي يرجون وأني والصديق بين أظهرهم فقام حاسرا مشمرا فجمع حاشيته ورفع قطريه فرد نشر الإسلام على غره ولم شعثه بطبه وأقام أوده بثقافة فدق النفاق بوطأته وانتاش الدين فمنعه فلما أراح الحق على أهله وقرر الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها أتته منيته فسد ثلمه بنظيره في الرحمة وشقيقه في السيرة والمعدلة ذاك ابن الخطاب لله ثم حملت به ودرت عليه لقد أوحدت به ففنخ الكفرة وديخها وشرد الشرك شذر مذر وبعج الأرض وبخعها فقاءت أكلها ولفظت خبيئها ترأمه ويصدف عنها وتصدى له ويأباها ثم ورع فيها وودعها كما صحبها فأروني ما تريبون وأي يوم تنقمون أيوم إقامته إذ عدل فيكم أم يوم ظعنه وقد نظر لكم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وروى هذه الخطبة جعفر ابن عون عن أبيه عن عائشة وهؤلاء رواة الصحيحين وقد رواها أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه وبعضهم رواها عن هشام ولم يذكر فيه عروة
وأما عمر رضي الله عنه فرأى الأمر في الستة متقاربا فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض فلذلك المفضول مزيه أخرى ليست للآخر ورأى أنه إذا عين واحدا فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوبا إليه فترك التعيين خوفا من الله تعالى وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين بين تعيينهم إذ لا أحق منهم وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير
والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة وإذا كان من الأمور أمور لا يمكن دفعها فتلك لا تدخل في التكليف وكان كما رآه فعلم أنه أن ولى واحدا من الستة فلا بد أن يحصل نوع من التأخر عن سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأن يحصل بسبب ذلك مشاجرة كما جبل الله على ذلك طباع بني آدم وإن كانوا من أولياء الله المتقين وذكر في كل واحد من الستة الأمر الذي منعه من تعيينه وتقديمه على غيره
ثم إن الصحابة اجتمعوا على عثمان رضي الله عنه لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة وأقلهما مفسدة
وعمر رضي الله عنه خاف أن يتقلد أمرا يكون فيه ما ذكر ورأى أنهم إذا بايعوا واحدا منهم باختيارهم حصلت المصلحة بحسب الإمكان وكان الفرق بين حال المحيا وحال الممات أي في الحياة يتولى أمر المسلمين فيجب عليه أن يولى عليهم أصلح من يمكنه وأما بعد الموت فلا يجب عليه أن يستخلف معينا إذا كانوا يجتمعون على أمثلهم كما أن النبي ﷺ لما علم أنهم يجتمعون على أبي بكر استغنى بذلك عن كتابه الكتاب الذي كان قد عزم على أن يكتبه لأبي بكر
وأيضا فلا دليل على أنه يجب على الخليفة أن يستخلف بعده فلم يترك عمر واجبا ولهذا روجع في استخلاف المعين وقيل له أرأيت لو أنك استرعيت فقال إن الله تعالى لم يكن يضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه ﷺ فإن عجل بى أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله ﷺ وهو عنهم راض
ومما ينبغي أن يعلم أن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الناس على غاية ما يمكن من الصلاح لا لرفع الفساد بالكلية فإن هذا ممتنع في الطبيعة الإنسانية إذ لا بد فيها من فساد
ولهذا قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك الآية سورة البقرة 30 ولهذا لم تكن أمة من الأمم إلا وفيها شر وفساد وأمثل الأمم قبلنا بنو إسرائيل وكان فيهم من الفساد والشر ما قد علم بعضه
وأمتنا خير أمم وأكرمها على الله وخيرها القرون الثلاثة وأفضلهم الصحابة وفي أمتنا شر كثير لكنه أقل من شر بني إسرائيل وشر بني إسرائيل أقل من شر الكفار الذين لم يتبعوا نبيا كفرعون وقومه وكل خير في بني إسرائيل ففي أمتنا خير منه وكذلك أول هذه الأمة وآخرها فكل خير من المتأخرين ففي المتقدمين ما هو خير منه وكل شر في المتقدمين ففي المتأخرين ما هو شر منه وقد قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن 1ولا ريب أن الستة الذين توفى رسول الله ﷺ وهو عنهم راض الذي عينهم عمر لا يوجد أفضل منهم وإن كان في كل منهم ما كرهه فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم ولهذا لم يتول بعد عثمان خير منه ولا أحسن سيرة ولا تولى بعد علي خير منه ولا تولى ملك من ملوك المسلمين أحسن سيرة من معاوية رضي الله عنه كما ذكر الناس سيرته وفضائله
وإذا كان الواحد من هؤلاء له ذنوب فغيرهم أعظم ذنوبا وأقل حسنات فهذا من الأمور التي ينبغي أن تعرف فإن الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير ولا يقع على الصحيح والعاقل يزن الأمور جميعا هذا وهذا
وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يعيبون على من يذمونه ما يعاب أعظم منه على من يمدحونه فإذا سلك معهم ميزان العدل تبين أن الذي ذموه أولى بالتفضيل ممن مدحوه
وأما ما يروى من ذكره لسالم مولى أبي حذيفة فقد علم أن عمر وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الإمامة في قريش كما استفاضت بذلك السنن عن النبي ﷺ ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان وفي لفظ ما بقي منهم اثنان
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ الناس تبع لقريش في هذا الشأن مؤمنهم تبع لمؤمنهم وكافرهم تبع لكافرهم رواه مسلم
وفي حديث جابر قال الناس تبع لقريش في الخير والشر
وخرج البخاري عن معاوية قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين
وهذا مما احتجوا به على الأنصار يوم السقيفة فكيف يظن بعمر أنه كان يولى رجلا من غير قريش بل من الممكن أنه كان يوليه ولاية جزئية أو يستشيره فيمن يولى ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى أبي حذيفة فإن سالما كان من خيار الصحابة وهو الذي كان يؤمهم على عهد رسول الله ﷺ لما قدم المهاجرون
وأما قول الرافضي وجمع بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول
فيقال له أولا هؤلاء كانوا متقاربين في الفضيلة ولم يكن تقدم بعضهم على بعض ظاهرا كتقدم أبي بكر وعمر على الباقين ولهذا كان في الشورى تارة يؤخذ برأي عثمان وتارة يؤخذ برأي علي وتارة برأي عبد الرحمن وكل منهم له فضائل لم يشركه فيها الآخر
ثم يقال له ثانيا وإذا كان فيهم فاضل ومفضول فلم قلت إن عليا هو الفاضل وعثمان وغيره هم المفضولون وهذا القول خلاف ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار كما قال غير واحد من الأئمة منهم أيوب السختياني وغيره من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار
وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال كنا نفاضل على عهد رسول الله ﷺ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وفي لفظ ثم ندع أصحاب النبي ﷺ لا نفاضل بينهم
فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي ﷺ من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي ﷺ فلا ينكره
وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتا بالنص وإلا فيكون ثابتا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي ﷺ من غير نكير وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم
قال الإمام أحمد لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان وسئل عن خلافة النبوة فقال كل بيعة كانت بالمدينة وهو كما قال فإنهم كانوا في آخر ولاية عمر أعز ما كانوا وأظهر ما كانوا قبل ذلك
وكلهم بايع عثمان بلا رغبة بذلها لهم ولا رهبة فإنه لم يعط أحدا على ولايته لا مالا ولا لاية وعبد الرحمن الذي بايعه لم يوله ولم يعطه مالا وكان عبد الرحمن من أبعد الناس عن الأغراض مع أن عبد الرحمن شاور جميع الناس ولم يكن لبني أمية شوكة ولا كان في الشورى منهم أحد غير عثمان
مع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كما وصفهم الله عز وجل يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم سورة المائدة 5وقد بايعوا النبي ﷺ أن يقولوا الحق حيثما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم ولم ينكر أحد منهم ولاية عثمان بل كان في الذين بايعوه عمار بن ياسر وصهيب وأبو ذر وخباب والمقداد بن الأسود وابن مسعود وقال ابن مسعود ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل
وفيهم العباس بن عبد المطلب وفيهم من النقباء مثل عبادة بن الصامت وأمثاله وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري وأمثاله
وكل من هؤلاء وغيرهم لو تكلم بالحق لم يكن هناك عذر يسقطه عنه فقد كان يتكلم من يتكلم منهم على عهد رسول الله ﷺ في ولاية من يولى وهو مستحق للولاية ولا يحصل لهم ضرر وتكلم طلحة وغيره في ولاية عمر لما استخلفه أبو بكر وتكلم أسيد بن حضير في ولاية أسامة بن زيد على عهد النبي ﷺ وقد كانوا يكلمون عمر فيمن يوليه ويعزله
وعثمان بعد ولايته وقوة شوكته وكثرة أنصاره وظهور بني أمية كانوا يكلمونه فيمن يوليه ويعطيه منهم ومن غيرهم ثم في آخر الأمر لما اشتكوا من بعضهم عزله ولما اشتكوا من بعض من يأخذ بعض المال منعه فأجابهم إلى ما طلبوه من عزل ومنع من المال وهم أطراف من الناس وهو في عزة ولايته فكيف لا يسمع كلام الصحابة أئمتهم وكبرائهم مع عزهم وقوتهم لو تكلموا في ولاية عثمان وقد تكلموا مع الصديق في ولاية عمر وقالوا ماذا تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا فقال أبالله تخوفوني أقول وليت عليهم خير أهلك فلم يحابوا الصديق في عهده لعمر مع شدته
ومن شأن الناس أن يراعوا من يرشح للولاية فيحابونه خوفا منه أن ينتقم منهم إذا ولى ورجاء له وهذا موجود فهؤلاء لم يحابوا عمر ولا أبا بكر مع ولايتهما فكيف يحابون عثمان وهو بعد لم يتول ولا شوكة له
فلولا علم القوم بأن عثمان أحقهم بالولاية لما ولوه وهذا أمر كلما تدبره الخبير ازداد به خبرة وعلما ولا يشك فيه إلا من لم يتدبره من أهل العلم بالاستدلال أو من هو جاهل بالواقع أو بطريق النظر والاستدلال
والجهل بالأدلة أو بالنظر فيها يورث الجهل وأما من كان عالما بما وقع وبالأدلة وعالما بطريقة النظر والاستدلال فإنه يقطع قطعا لا يتمارى فيه أن عثمان كان أحقهم بالخلافة وأفضل من بقي بعده فاتفاقهم على بيعة عثمان بغير نكير دليل على أنهم لم يكن عندهم أصلح منها وإن كان في ذلك كراهية في الباطن من بعضهم لاجتهاد أو هوى فهذا لا يقدح فيها كما لا يقدح في غيرها من الولايات كولاية أسامةبن زيد وولاية أبي بكر وعمر
وأيضا فإن ولاية عثمان كان فيها من المصالح والخيرات مالا يعلمها إلا الله وما حصل فيها من الأمور التي كرهوها كتأمير بعض بني أمية وإعطائهم بعض المال ونحو ذلك فقد حصل من ولاية من بعده ما هو أعظم من ذلك من الفساد ولم يحصل فيها من الصلاح ما حصل في إمارة عثمان
وأين إيثار بعض الناس بولاية أو مال من كون الأمة يسفك بعضها دماء بعض وتشتغل بذلك عن مصلحة دينها ودنياها حتى يطمع الكفار في بلاد المسلمين وأين اجتماع المسلمين وفتح بلاد الأعداء من الفرقة والفتنة بين المسلمين وعجزهم عن الأعداء حتى يأخذوا بعض بلادهم أو بعض أموالهم قهرا أو صلحا
وأما قول الرافضي إنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تقلده حيا ثم تقلده بأن جعل الإمامة في ستة
فالجواب أن عمر لم يطعن فيهم طعن من يجعل غيرهم أحق بالإمامة منهم بل لم يكن عنده أحق بالإمامة منهم كما نص على ذلك بين عذره المانع له من تعيين واحد منهم وكره أن يتقلد ولاية معين ولم يكره أن يتقلد تعيين الستة لأنه قد علم أنه لا أحد أحق بالأمر منهم فالذي علمه وعلم أن الله يثيبه عليه ولا تبعة عليه فيه إن تقلده هو اختيار الستة والذي خاف أن يكون عليه فيه تبعة وهو تعيين واحد منهم تركه
وهذا من كمال عقله ودينه رضي الله عنه وليس كراهته لتقلده ميتا كما تقلده حيا لطعنه في تقلده حيا فإنه إنما تقلد الأمر حيا باختياره وبأن تقلده كان خيرا له وللأمة وإن كان خائفا من تبعة الحساب
فقد قال تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون سورة المؤمنون 60 قالت عائشة يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب قال لا يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه
فخوفه من التقصير في الطاعة من كمال الطاعة والفرق بين تقلده حيا وميتا أنه في حياته كان رقيبا على نوابه متعقبا لأفعالهم يأمرهم بالحج كل عام ليحكم بينهم وبين الرعية فكان ما يفعلونه مما يكرهه يمكنه منعهم منه وتلافيه بخلاف ما بعد الموت فإنه لا يمكنه لا منعهم مما يكرهه ولا تلافي ذلك فلهذا كره تقلد الأمر ميتا
وأما تعيين الستة فهو عنده واضح بين لعلمه أنهم أحق الناس بهذا الأمر
وأما قوله ثم ناقص فجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور
فالجواب أولا أنه ينبغي لمن احتج بالمنقول أن يثبته أولا وإذا قال القائل هذا غير معلوم الصحة لم يكن عليه حجة والنقل الثابت في صحيح البخاري وغيره ليس فيه شيء من هذا بل هو يدل على نقيض هذا وأن الستة هم الذين جعلوا الأمر في ثلاثة ثم الثلاثة جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف واحد منهم ليس لعمر في ذلك أمر
وفي الحديث الثابت عن عمرو بن ميمون أن عمر بن الخطاب لما طعن قال إن الناس يقولون استخلف وإن الأمر إلى هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله ﷺ وهو عنهم راض علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك ويشهدهم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء فإن أصابت الخلافة سعدا ولا فليستعن به من ولي فإني لم اعزله عن عجز ولا خيانة ثم قال أوصى الخليفة من بعدي بتقوى الله تعالى وأوصيه بالمهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وأوصيه بأهل الامصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وغيظ العدو وجباة الأموال لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضا منهم وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ منهم من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم وأوصيه بذمه الله ورسوله أن يوفى لهم بعدهم ويقاتل من وراءهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم
فقد وصى الخليفة من بعده بجميع أجناس الرعية السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وأوصاه بسكان الأمصار من المسلمين
وأوصاه بأهل البوادي وبأهل الذمة قال عمرو بن ميمون فلما قيب انطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر وقال يستأذن عمر بن الخطاب قالت أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن بن عوف اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم قال الزبير قد جعلت أمري إلى علي وقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد قد جعلت أمرى إلى عبد الرحمن بن عوف وقال عبد الرحمن أيكم يبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضل من في نفسه فأسكت الشيخان فقال عبد الرحمن أتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكما قالا نعم فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله ﷺ والقدم في الإسلام ما قد علمت والله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عليك لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال ارفع يدك يا عثمان فبايعه وبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه
وفي الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة قال أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا وقال لهم عبد الرحمن لست بالذي أنافسكم في هذا الأمر ولكن إن شئتم اخترت لكم منكم فجعلوا ذلك لعبد الرحمن بن عوف فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم مال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحدا من الناس يتبع أولئك الرهط الذين ولاهم عمر ولا يطأ عقبه قال ومال الناس إلى عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها قال المسور طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال أراك نائما والله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم انطلق فادع لي الزبير وسعدا فدعوتهما فشاورهما ثم دعاني فقال ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى آبهار الليل ثم قام على من عنده وهو على طمع وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئا ثم قال ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح فلما صلى الناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر أرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا فقال أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون
وأما قوله ثم قال إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذين صار فيهم عبد الرحمن لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر وأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه وعثمان وابن عمه
فيقال له من الذي قال إن عمر قال ذلك وإن كان قد قال ذلك فلا يجوز أن يظن به أنه كان غرضه ولاية عثمان محاباة له ومنع علي معاداة له فإنه لو كان قصده هذا لولى عثمان ابتداء ولم ينتطح فيها عنزان كيف والذين عاشوا بعده قدموا عثمان بدون تعيين عمر له فلو كان عمر عينه لكانوا أعظم متابعة له وطاعة سواء كانوا كما يقوله المؤمنون أهل دين وخير وعدل أو كانوا كما يقوله المنافقون الطاعنون فيهم إن مقصودهم الظلم والشر لا سيما عمر كان في حال الحياة لا يخاف أحدا والرافضة تسميه فرعون هذه الأمة فإذا كان في حياته لم يخف من تقديم أبي بكر والأمر في أوله والنفوس لم تتوطن على طاعة أحد معين بعد النبي ﷺ ولا صار لعمر أمر فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته والناس كلهم مطيعوه وقد تمرنوا على طاعته
فعلم أنه لو كان له غرض في تقديم عثمان لقدمه ولم يحتج إلى هذه الدورة البعيدة
ثم أي غرض يكون لعمر رضي الله عنه في عثمان دون علي وليس بينه وبين عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين علي لا من جهة القبيلة ولا من غير جهة القبيلة، وعمر قد أخرج من الأمر ابنه ولم يدخل في الأمر ابن عمه سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لأعيانهم بالجنة في حديث واحد وهم من قبيلة بني عدي ولا كان يولى من بني عدي أحدا بل ولى رجلا منهم ثم عزله
وكان باتفاق الناس لا تأخذه في الله لومة لائم فأي داع يدعوه إلى محاباة زيد دون عمر وبلا غرض يحصله من الدنيا
فمن أقصى عشيرته وأمر بأن الدين الذي عليه لا يوفى إلا من مال أقاربه ثم من مال بني عدي ثم من مال قريش ولا يؤخذ من بيت المال شيء ولا من سائر الناس فأي حاجة له إلى عثمان أو علي أو غيرهما حتى يقدمه وهو لا يحتاج إليه لا في أهله الذين يخلفهم ولا في دينه الذي عليه
والإنسان إنما يحابي من يتولى بعده لحاجته إليه في نحو ذلك فمن لا يكون له حاجة لا إلى هذا ولا إلى هذا فأي داع يدعوه إلى ذلك لا سيما عند الموت وهو وقت يسلم فيه الكافر ويتوب فيه الفاجر فلو علم أن لعلي حقا دون غيره أو أنه أحق بالأمر من غيره لكان الواجب أن يقدمه حينئذ إما توبة إلى الله وإما تخفيفا للذنب فإنه إذا لم يكن له مانع دنيوي لم يبق إلا الدين فلو كان الدين يقتضي ذلك لفعله وإلا فليس في العادة أن الرجل يفعل ما يعلم أنه يعاقب عليه ولا ينتفع به لا في دين ولا دنيا بل لا يفعل ما لا غرض له فيه أصلا ويترك ما يحتاج إليه في دينه عند الموت مع صحة العقل وحضوره وطول الوقت
ولو قدر والعياذ بالله أنه كان عدوا مبغضا للنبي ﷺ غاية البغضة فلا ريب أنه نال بسبب النبي ﷺ ما ناله من السعادة ولم يكن عمر ممن يخفى عليه أن رسول الله ﷺ صادق مصدق فإنه كان من أذكى الناس ودلائل النبوة من أظهر الأمور فهو يعلم أنه أن استمر على معاداته يعذب في الآخرة وليس له وقت الموت غرض في ولاية عثمان ونحوه فكيف يصرف الأمر عن مستحقه لغير غرض
وإن قيل إنه كان يخاف أن يقال إنه رجع وتاب كما خاف أبو طالب من الإسلام وقت الموت
فيقال قد كان يمكنه ولاية على بلا إظهار توبة فإنه لو ولى عليا أو غيره لسمع الناس وأطاعوا ولم ينتطح في ذلك عنزان والإنسان قد يكون عليه مظالم فيؤديها على وجه لا يعرف أنه كان ظالما فيوصي وقت الموت لفلان بكذا ولفلان بكذا ويجعلها وصية ويكون إما معتقدا وإما خائفا أن يكون حقا واجبا عليه
وليس لعمر من يخاف عليه بعد موته فإن أقاربه صرف الأمر عنهم وهو يعلم أن عليا أعدل وأتقى من أن يظلمهم ولو قدر أن عليا كان ينتقم من الذين لم يبايعوه أولا فبنو عدى كانوا أبعد الناس عن ذلك فإنه لم يكن لهم شوكة ولا كانوا كثيرين وهم كلهم محبون لعلي معظمون له ليس فيهم من يبغض عليا أو يبغضه علي ولا قتل على منهم أحدا لا في جاهليه ولا إسلام وكذلك بنو تيم كلهم يحبون عليا وعلي يحبهم ولم يقتل علي منهم أحدا في جاهلية ولا إسلام
ويقال ثانيا عمر ما زال إذا روجع رجع وما زال يعترف غير مرة أنه يتبين له الحق فيرجع إليه فإن هذا توبة ويقول رجل أخطأ وامرأة أصابت ويجدد التوبة لما يعلم أنه يتاب منه فهذا كان يفعله في حال الحياة وهو ذو سلطان على الأرض فكيف لا يفعله وقت الموت وقد كان يمكنه أن يحتال لعلي بحيلة يتولى بها ولا يظهر ما به يذم كما أنه احتال لعثمان ولو علم أن الحق كان لعلي دون غيره لكان له طرق كثيرة في تعيينه تخفى على أكثر الناس
وكذلك قول القائل إنه علم أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر كذب على عمر رضي الله عنه ولم يكن بين عثمان وعلي نزاع في حياة عمر أصلا بل كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما كلاهما من بني عبد مناف وما زال بنو عبد مناف يدا واحدة حتى أن أبا سفيان بن حرب أتى عليا عقب وفاة النبي ﷺ وطلب منه أن يتولى الأمر لكون على كان ابن عم أبي سفيان وأبو سفيان كان فيه بقايا من جاهلي العرب يكره أن يتولى علي الناس رجل من غير قبيلته وأحب أن تكون الولاية في بني عبد مناف
وكذلك خالد بن سعيد كان غائبا فلما قدم تكلم مع عثمان وعلي وقال أرضيتم أن يخرج الأمر عن بني عبد مناف
وكل من يعرف الأمور العادية ويعرف ما تقدم من سيرة القوم يعلم أن بني هاشم وبني أمية كانوا في غاية الاتفاق في أيام النبي ﷺ وأبي بكر وعمر حتى أن أبا سفيان لما خرج من مكة عام الفتح يكشف الخبر ورآه العباس أخذه وأركبه خلفه وأتى به النبي ﷺ وطلب من النبي أن يشرفه بشيء لما قال له إن أبا سفيان رجل يحب الشرف وكل هذا من محبة العباس لأبي سفيان وبني أمية لأنهم كلهم بنو عبد مناف
وحتى أنه كان بين علي وبين رجل آخر من المسلمين منازعة في حد فخرج عثمان في موكب فيهم معاوية ليقفوا على الحد فابتدر معاوية وسأل عن معلم من معالم الحد هل كان هذا على عهد عمر فقالوا نعم فقال لو كان هذا ظلما لغيره عمر فانتصر معاوية لعلي في تلك الحكومة ولم يكن علي حاضرا بل كان قد وكل ابن جعفر وكان علي يقول إن للخصومات قحما وإن الشيطان يحضرها وكان قد وكل عبد الله بن جعفر عنه في المحاكمة
وبهذا احتج الشافعي وغير واحد من الفقهاء على جواز التوكيل في الخصومة بدون اختيار الخصم كما هو مذهب الشافعي وأصحاب أحمد وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة
فلما رجعوا ذكروا ذلك لعلي فقال أتدري لم فعل ذلك معاوية فعل لأجل المنافية أي لأجل أنا جميعا من بني عبد مناف
وكانت قد وقعت حكومة شاورنى فيها بعض قضاة القضاة وأحضر لي كتابا فيه هذه الحكومة ولم يعرفوا هذه اللفظة لفظة المنافية فبينتها لهم وفسرت لهم معناها
والمقصود أن بني عبد مناف كانوا متفقين في أول الأمر على عهد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وإنما وقعت الفرقة بينهم وبعد ذلك لما تفرقوا في الإمارة كما أن بني هاشم كانوا متفقين على عهد الخلفاء الأربعة وعهد بني أمية وإنما حصلت الفرقة لما ولي بنو العباس وصار بينهم وبين بعض بني أبي طالب فرقة واختلاف
وهكذا عادة الناس يكون القوم متفقين إذا لم يكن بينهم ما يتنازعون عليه من جاه أو مال أو غير ذلك وإن كان لهم خصم كانوا جميعا إلبا واحدا عليه فإذا صار الأمر إليهم تنازعوا واختلفوا
فكان بنو هاشم من آل علي والعباس وغيرهم في الخلافة الأموية متفقين لا نزاع بينهم ولما خرج من يدعو إليهم صار يدعو إلى الرضا من آل محمد ولا يعينه وكانت العلوية تطمع أن تكون فيهم وكان جعفر ابن محمد وغيره قد علموا أن هذا الأمر لا يكون إلا في بني العباس فلما أزالوا الدولة الأموية وصارت الدولة هاشمية وبنى السفاح مدينة سماها الهاشمية ثم تولى المنصور وقع نزاع بين الهاشميين فخرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن على المنصور وسير المنصور إليهما من يقاتلهما وكانت فتنة عظيمة قتل فيها خلق كثير ثم إن العباسيين وقع بينهم نزاع كما وقع بين الأمين والمأمون أمور أخر فهذه الأمور ونحوها من الأمور التي جرت بها العادة
ثم إن عثمان وعليا جميعا اتفقا على تفويض الأمر إلى عبد الرحمن بن عوف من غير أن يكره أحدهما الآخر
وقوله إن عمر علم أن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه وابن عمه
فهذا كذب بين على وعمر وعلى أنسابهم فإن عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلا بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلا منهم إلى بني أميه فإن بني زهرة أخوال النبي ﷺ ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي ﷺ هذا خالي فليرني امرؤ خاله
ولم يكن أيضا بين عثمان وعبد الرحمن مؤاخاة ولا مخالطة فإن النبي ﷺ لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري ولا بين أنصاري وأنصاري وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها يعرفه أهل العلم بذلك ولم يؤاخ قط بين عثمان وعبد الرحمن
======
منهاج السنة النبوية/38
وأما قوله ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام
فيقال أولا من قال إن هذا الصحيح وأين النقل الثابت بهذا وإنما المعروف أنه أمر الأنصار أن أن لايفارقوهم حتى يبايعوا واحدا منهم
ثم يقال ثانيا هذا من الكذب على عمر ولم ينقل هذا أحد من أهل العلم بإسناد يعرف ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة وكيف يأمر بقتلهم وإذا قتلوا كان الأمر بعد قتلهم أشد فسادا ثم لو أمر بقتلهم لقال ولوا بعد قتلهم فلانا وفلانا فكيف يأمر بقتل المستحقين للأمر ولا يولى بعدهم أحدا
وأيضا فمن الذي يتمكن من قتل هؤلاء والأمة كلها مطيعة لهم والعساكر والجنود معهم ولو أرادت الأنصار كلهم قتل واحد منهم لعجزوا عن ذلك وقد أعاذ الله الأنصار من ذلك فكيف يأمر طائفة قليلة من الأنصار بقتل هؤلاء الستة جميعا ولو قال هذا عمر فكيف كان يسكت هؤلاء الستة ويمكنون الأنصار منهم ويجتمعون في موضع ليس فيه من ينصرهم
ولو فرضنا أن الستة لم يتول واحد منهم لم يجب قتل أحد منهم بذلك بل تولى غيرهم وهذا عبد الله بن عمر كان دائما تعرض عليه الولايات فلا يتولى وما قتله أحد وقد عين للخلافة يوم الحكمين فتغيب عنه وما آذاه أحد قط وما سمع قط أن أحدا امتنع من الولاية فقتل على ذلك، فهذا من اختلاق مفتر لا يدري ما يكتب لا شرعا ولا عادة
ثم نقول جوابا مركبا لا يخلو إما أن يكون عمر أمر بهذا أو لم يكن أمر به فإن كان الأول بطل إنكاره وإن كان الثاني فليس كون الرجل من أهل الجنة أو كونه وليا لله مما يمنع قتله إذا اقتضى الشرع ذلك فإنه قد ثبت في الصحاح أن النبي ﷺ رجم الغامدية وقال لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله فهذه يشهد لها الرسول بذلك ثم لما كان الحد قد ثبت عليها أمر برجمها
ولو وجب على الرجل قصاص وكان من أولياء الله وتاب من قتل العمد توبة نصوحا لوجب أن يمكن أولياء المقتول منه فإن شاءوا قتلوه ويكون قتله كفارة له
والتعزير بالقتل إذا لم تحصل المصلحة بدونه مسألة اجتهادية كقتل الجاسوس المسلم للعلماء فيه قولان معروفان وهما قولان في مذهب أحمد أحدهما يجوز قتله وهو مذهب مالك واختيار ابن عقيل والثاني لا يجوز قتله وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي واختيار القاضي أبي يعلى وغيره
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه وقال في شارب الخمر إن شربها في الرابعة فاقتلوه وقد تنازع العلماء في هذا الحكم هل هو منسوخ أم لا
فلو قدر أن عمر أمر بقتل واحد من المهاجرين الأولين لكان ذلك منه على سبيل الاجتهاد السائغ له ولم يكن ذلك مانعا من كون ذلك الرجل في الجنة ولم يقدح لا في عدل هذا ولا في دخول هذا الجنة فكيف إذا لم يقع شيء من ذلك
ثم من العجب أن الرافضة يزعمون أن الذين أمر عمر بقتلهم بتقدير صحة هذا النقل يستحقون القتل إلا عليا فإن كان عمر أمر بقتلهم فلماذا ينكرون عليه ذلك ثم يقولون إنه كان يحابيهم في الولاية ويأمر بقتلهم فهذا جمع بين الضدين
وإن قلتم كان مقصوده قتل علي
قيل لو بايعوا إلا عليا لم يكن ذلك يضر الولاية فإنما يقتل من يخاف وقد تخلف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر ولم يضربوه ولم يحبسوه فضلا عن القتل
وكذلك من يقول إن عليا وبني هاشم تخلفوا عن بيعة أبي بكر ستة أشهر يقول إنهم لم يضربوا أحدا منهم ولا أكرهوه على البيعة فإذا لم يكره أحد على مبايعة أبي بكر التي هي عنده متعينة فكيف يأمر بقتل الناس على مبايعة عثمان وهي عنده غير متعينة
وأبو بكر وعمر مدة خلافتهما ما زالا مكرمين غاية الإكرام لعلي وسائر بني هاشم يقدمونهم على سائر الناس ويقول أبو بكر أيها الناس ارقبوا محمدا في أهل بيته وأبو بكر يذهب وحده إلى بيت علي وعنده بنو هاشم فيذكر لهم فضلهم ويذكرون له فضله ويعترفون له باستحقاقه الخلافة ويعتذرون من التأخر ويبايعونه وهو عندهم وحده
والآثار المتواترة بما كان بين القوم من المحبة والائتلاف توجب كذب من نقل ما يخالف ذلك
ولو أراد أبو بكر وعمر في ولايتهما إيذاء علي بطريق من الطرق لكانا أقدر على ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي ﷺ
فهؤلاء المفترون يزعمون أنهم ظلموه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه ومنعهما من ظلمه وكانا أعجز عن ظلمه لو أرادا ذلك فهلا ظلماه بعد قوتهما ومطاوعة الناس لهما إن كانا مريدين لظلمه
ومن العادة المعروفة أن من تولى ولاية وهناك من هو مرشح لها يخاف أن ينازعه أنه لا يقر حتى يدفعه عن ذلك إما بحبس وإما بقتل سرا أو علانية كما جرت عادة الملوك فإذا كانا يعلمان أنهما ظالمان له وهو مظلوم يعرف أنه مظلوم وهو مريد للولاية فلا بد أن يخافا منه
فكان ينبغي لو كان هذا حقا أن يسعيا في قتله أو حبسه ولو بالحيلة وهذا أو أراداه لكان أسهل عليهما من منعه ابتداء مع وجود النص ولو أرادا تأميره على بعض الجيوش وأوصيا بعض أهل الجيوش أن يقتله ويسمه كان هذا ممكنا
ففي الجملة دفع المتولى لمن يعرف أنه ينازعه ويقول إنه أحق بالأمر منه أمر لا بد منه وذلك بأنواع من إهانة وإيذاء وحبس وقتل وإبعاد
وعلي رضي الله عنه ما زالا مكرمين له غاية الإكرام بكل طريق مقدمين له بل ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء مقدمين له في المرتبة والحرمة والمحبة والموالاة والثناء والتعظيم كما يفعلان بنظرائه ويفضلانه بما فضله الله عز وجل به على من ليس مثله ولم يعرف عنهم كلمة سوء في علي قط بل ولا في أحد من بني هاشم
ومن المعلوم أن المعاداة التي في القلب توجب إرادة الأذى لمن يعادي فإذا كان الإنسان قادرا اجتمعت القدرة مع الإرادة الجازمة وذلك يوجب وجود المقدور فلو كانا مريدين بعلي سوءا لكان ذلك مما يوجب ظهوره لقدرتهما فكيف ولم يظهر منهما إلا المحبة والموالاة
وكذلك علي رضي الله عنه قد تواتر عنه من محبتهما وموالاتهما وتعظيمهما وتقديمهما على سائر الأمة ما يعلم به حاله في ذلك ولم يعرف عنه قط كلمة سوء في حقهما ولا أنه كان أحق بالأمر منهما
وهذا معروف عند من عرف الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصة والعامة والمنقولة بأخبار الثقات
وأما من رجع إلى ما ينقله من هو من أجهل الناس بالمنقولات وأبعد الناس عن معرفة أمور الإسلام ومن هو معروف بافتراء الكذب الكثير الذي لا يروج إلا على البهائم ويروج كذبه على قوم لا يعرفون الإسلام إما قوم سكان البوادي أو رءوس الجبال أو بلد أهله من أقل الناس علما وأكثرهم كذابا فهذا هو الذي يضل
وهكذا الرافضة لا يتصور قط أن مذهبهم يروج على أهل مدينة كبيرة من مدائن المسلمين فيها أهل علم ودين وإنما يروج على جهال سكنوا البوادي والجبال أو على محلة في مدينة أو بليدة أو طائفة يظهرون للناس خلاف ما يبطنون لظهور كذبهم حتى أن القاهرة لما كانت مع العبيديين وكانوا يظهرون التشيع لم يتمكنوا من ذلك حتى منعوا من فيها من أهل العلم والدين من إظهار علمهم ومع هذا فكانوا خائفين من سائر مدائن المسلمين يقدم عليهم الغريب من البلد البعيد فيكتمون عنه قولهم ويداهنونه ويتقونه كما يخاف الملك المطاع وهذا لأنهم أهل فرية وكذب
وقد قال تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين سورة الأعراف 152 قال ابو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة
وكذلك قوله أمر بقتل من خالف الأربعة وأمر بقتل من خالف الثلاثة منهم عبد الرحمن، فيقال هذا من الكذب المفترى ولو قدر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة كما قال النبي ﷺ من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان
والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث
وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة فلم يأمر عمر بقتل مثل هذا ولا يجوز قتل مثل هذا
وكذلك ما ذكره من الإشارة إلى قتل عثمان ومن الإشارة إلى ترك ولاية علي كذب بين على عمر فإن قوله لئن فعلت ليقتلنك الناس إخبار عما يفعله الناس ليس فيه أمر لهم بذلك
وكذلك قوله لا يولونه إياها، إخبار عما سيقع ليس فيه نهي لهم عن الولاية مع أن هذا اللفظ بهذا السياق ليس بثابت عن عمر بل هو كذب عليه والله تعالى أعلم
فصل
قال الرافضي وأما عثمان فإنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة وقسم الولايات بين أقاربه وعوتب على ذلك مرارا فلم يرجع واستعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها
وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتبه أن يستمر على ولايته سرا خلاف ما كتب إليه جهرا وأمر بقتل محمد بن أبي بكر وولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث وولى عبد الله بن عامر البصرة ففعل من المناكير ما فعل وولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره ودفع إليه خاتمه فحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار ودفع إلى مروان ألف ألف دينار وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره ولما حكم ضربه حتى مات وضرب عمارا حتى صار به فتق وقد قال فيه النبي ﷺ عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة وكان عمار يطعن عليه وطرد رسول الله ﷺ الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدا في زمن النبي ﷺ وأبي بكر وعمر فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله تعالى قال لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم الآية سورة المجادلة 22 ونفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا مع أن النبي ﷺ قال في حقه ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر وقال إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم فقيل من هم يا رسول الله قال سيدهم علي وسلمان والمقداد وأبو ذر وضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين وقال لا يبطل حد الله وأنا حاضر وزاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة وصار سنة إلى الآن وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى
والجواب أن يقال نواب علي خانوه وعصوه أكثر مما خان عمال عثمان له وعصوه وقد صنف الناس كتبا فيمن ولاه علي فأخذ المال وخانه وفيمن تركه وذهب إلى معاوية وقد ولى علي رضي الله عنه زياد بن أبي سفيان أبا عبيدالله بن زياد قاتل الحسين وولي الأشتر النخعي وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء
ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان خيرا من هؤلاء كلهم
ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يدعون أن عليا كان أبلغ فيه من عثمان فيقولون إن عثمان ولى أقاربه من بني أمية ومعلوم أن عليا ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه كعبد الله وعبيد الله ابنى العباس فولى عبيد الله بن عباس على اليمن وولى على مكة والطائف قثم ابن العباس وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف وقيل ثمامة بن العباس وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره
ثم إن الإمامية تدعي أن عليا نص على أولاده في الخلافة أو على ولده وولده على ولده الآخر وهلم جرا
ومن المعلوم أنه إن كان توليه الأقربين منكرا فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم ولهذا كان الوكيل والوالي الذي لا يشترى لنفسه لا يشترى لابنه أيضا في أحد قولي العلماء والذي دفع إليه المال ليعطيه لمن يشاء لا يأخذه لنفسه ولا يعطيه لولده في أحد قوليهم
وكذلك تنازعوا في الخلافة هل للخليفة أن يوصي بها لولده على قولين والشهادة لابنه مردودة عند أكثر العلماء ولا ترد الشهادة لبني عمه وهكذا غير ذلك من الأحكام
وذلك أن النبي ﷺ قال أنت ومالك لأبيك وقال ليس لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهبه لولده
فإن قالوا إن عليا رضي الله عنه فعل ذلك بالنص
قيل أولا نحن نعتقد أن عليا خليفة راشد وكذلك عثمان لكل قبل أن ينعلم حجة كل منهما فيما فعل فلا ريب أن تطرق الظنون والتهم إلى ما فعله على أعظم من تطرق التهم والظنون إلى ما فعله عثمان
وإذا قال القائل لعلي حجة فيما فعله
قيل له وحجة عثمان فيما فعله أعظم وإذا ادعى لعلي العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين كان ما يدعى لعثمان من الاجتهاد الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول
فإن الرافضي يجيء إلى أشخاص ظهر بصريح المعقول وصحيح المنقول أن بعضهم أكمل سيرة من بعض فيجعل الفاضل مذموما مستحقا للقدح ويجعل المفضول معصوما مستحقا للمدح كما فعلت النصارى يجيئون إلى الأنبياء صلوات الله عليهم وقد فضل الله بعضهم على بعض فيجعلون المفضول إلها والفاضل منقوصا دون الحواريين الذين صحبوا المسيح فيكون ذلك قلبا للحقائق وأعجب من ذلك أنهم يجعلون الحواريين الذين ليسوا أنبياء معصومين عن الخطأ ويقدحون في بعض الأنبياء كسليمان وغيره
ومعلوم أن إبراهيم ومحمدا أفضل من نفس المسيح صلوات الله وسلامه عليهم بالدلائل الكثيرة بل وكذلك موسى فكيف يجعل الذين صحبوا المسيح أفضل من إبراهيم ومحمد
وهذا من الجهل والغلو الذي نهاهم الله عنه قال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه سورة النساء 17وكذلك الرافضة موصفون بالغلو عند الأمة فإن فيهم من أدعى الإلهية في علي وهؤلاء شر من النصارى وفيهم من أدعى النبوة فيه ومن أثبت نبيا بعد محمد فهو شبيه بأتباع مسيلمة الكذاب وأمثاله من المتنبئين إلا أن عليا رضي الله عنه بريء من هذه الدعوة بخلاف من أدعى النبوة لنفسه كمسيلمة وأمثاله
وهؤلاء الإمامية يدعون ثبوت إمامته بالنص وأنه كان معصوما هو وكثير من ذريته وأن القوم ظلموه وغصبوه
ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة فإن المعصوم يجب اتباعه في كل ما يقول لا يجوز أن يخالف في شيء وهذه خاصة الأنبياء ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل اليهم فقال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون سورة البقرة 136 فأمرنا أن نقول آمنا بما أوتي النبيون
وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير سورة البقرة 38وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبين سورة البقرة 17فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به وهذا مما اتفق عليه المسلمون أنه يجب الإيمان بكل نبي ومن كفر بنبي واحد فهو كافر ومن سبه وجب قتله باتفاق العلماء
وليس كذلك من سوى الأنبياء سواء سموا أولياء أو أئمة أو حكماء أو علماء أو غير ذلك فمن جعل بعد الرسول معصوما يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها
ويقال لهذا ما الفرق بين هذا وبين أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا مأمورين باتباع شريعة التوراة
وكثير من الغلاة في المشايخ يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك ويقولون الشيخ محفوظ ويأمرون باتباع الشيخ في كل ما يفعل لا يخالف في شيء أصلا وهذا من جنس غلو الرافضة والنصارى والإسماعيلية تدعى في أئمتها أنهم كانوا معصومين
وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدى يقولون إنه معصوم ويقولون في خطبة الجمعة الإمام المعصوم والمهدي المعلوم ويقال إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصوما
ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها فإن الله تعالى يقول أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية سورة النساء 59 فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول فمن أثبت شخصا معصوما غير الرسول أوجب رد ما تنازعوا فيه إليه لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول وهذا خلاف القرآن
وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقا بلا قيد ومخالفة يستحق الوعيد والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا سورة النساء 69 وقال ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا سورة الجن 23 فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر
ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم فالرسول ﷺ هو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار وبين الأبرار والفجار وبين الحق والباطل وبين الغي والرشاد والهدى والضلال وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقى وسعيد فمن اتبعه فهو السعيد ومن خالفه فهو الشقى وليست هذه المرتبة لغيره
ولهذا اتفق أهل العلم أهل الكتاب والسنة على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل أمر فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وهو الذي يسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين سورة الأعراف وهو الذي يمتحن به الناس في قبورهم فيقال لأحدهم من ربك وما دينك ومن نبيك ويقال ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فيقول هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه ولو ذكر بدل الرسول من ذكره من الصحابة والأئمة والتابعين والعلماء لم ينفعه ذلك ولا يمتحن في قبره بشخص غير الرسول
والمقصود هنا أن ما يعتذر به عن علي فيما أنكر عليه يعتذر بأقوى منه عن عثمان فإن عليا قاتل على الولاية وقتل بسبب ذلك خلق كثير عظيم ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار ولا فتح لبلادهم ولا كان المسلمون في زيادة خير وقد ولى من أقاربه من ولاه فولاية الأقارب مشتركة ونواب عثمان كانوا أطوع من نواب على وأبعد عن الشر
وأما الأموال التي تأول فيها عثمان فكما تأول على في الدماء وأمر الدماء أخطر وأعظم
ويقال ثانيا هذا النص الذي تدعونه أنتم فيه مختلفون اختلافا يوجب العلم الضروري بأنه ليس عندكم ما يعتمد عليه فيه بل كل قوم منكم يفترون ما شاءوا
وأيضا فجماهير المسلمين يقولون إنا نعلم علما يقينا بل ضروريا كذب هذا النص بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها
ويقال فجماهير المسلمين يقولون إنا نعلم علما يقينا بل ضروريا كذب هذا النص بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها
ويقال ثالثا إذا كان كذلك ظهرت حجة عثمان فإن عثمان يقول إن بني أمية كان رسول الله ﷺ يستعملهم في حياته واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله ﷺ أكثر من بني عبد شمس لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤدد فاستعمل النبي ﷺ في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية واستعمل أيضا خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج وعلى صنعاء اليمن فلم يزل عليها حتى مات رسول الله ﷺ واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى توفي النبي ﷺ واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط حتى أنزل الله فيه إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة الآية سورة الحجرات فيقول عثمان أنا لم استعمل إلا من استعمله النبي ﷺ منهم ومن جنسهم ومن قبيلتهم وكذلك أبو بكر وعمر بعده فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية
وهذا النقل عن النبي ﷺ في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه بل متواتر عند أهل العلم ومنه متواتر عند علماء الحديث ومنه ما يعرفه العلماء منهم ولا ينكره أحد منهم
فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي ﷺ أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل
وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي ﷺ منهم إلا على ابن أبي طالب رضي الله عنه على اليمن وولى أيضا على اليمن معاذ ابن جبل وأبا موسى الأشعري وولى جعفر بن أبي طالب على قتال مؤتة وولى قبل جعفر زيد بن حارثة مولاه وقيل عبد الله بن رواحة فهذا رسول الله ﷺ يقدم في الولاية زيد بن حارثة مولاه وهو من كلب على جعفر بن أبي طالب وقد روى أن العباس سأله ولاية فلم يوله إياها
وليس في بني هاشم بعد علي أفضل من حمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث بن المطلب الذي قتل يوم بدر فحمزة لم يتول شيئا فإنه قتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه
وما ينقله بعض الترك بل وشيوخهم من سيرة حمزة ويتداولونها بينهم ويذكرون له حروبا وحصارات وغير ذلك فكله كذب من جنس ما يذكره الذاكرون من الغزوات المكذوبة على علي بن أبي طالب بل وعلى النبي ﷺ من جنس ما يذكره أبو الحسن البكري صاحب تنقلات الأنوار فيما وضعه من السيرة فإنه من جنس ما يفتريه الكذابون من سيرة داهمة والبطالين والعيارين ونحو ذلك
فإن مغازي رسول الله ﷺ معروفة مضبوطة عند أهل العلم وكانت بضعا وعشرين غزوه لكن لم يكن القتال منها إلا في تسع مغاز بدر وأحد والخندق وبني المصطلق والغابة وفتح خيبر وفتح مكة وحنين والطائف وهي آخر غزوات القتال لكن لما حاصر الطائف وكان بعدها غزوة تبوك وهي آخر المغازي وأكثرها عددا وأشقها على الناس وفيها أنزل الله سورة براءة لكن لم يكن فيها قتال
وما يذكره جهال الحجاج من حصار تبوك كذب لا أصل له فلم يكن بتبوك حصن ولا مقاتلة وقد أقام بها رسول الله ﷺ عشرين ليلة ثم رجع إلى المدينة النبوية
وإذا كان جعفر أفضل بني هاشم بعد على في حياته ثم مع هذا أمر النبي ﷺ زيد بن حارثة وهو من كلب عليه علم أن التقديم بفضيلة الإيمان والتقوى وبحسب أمور أخر بحسب المصلحة لا بالنسب ولهذا قدم النبي ﷺ أبا بكر وعمر على أقاربه لأن رسول الله يأمر بأمر الله ليس من الملوك الذين يقدمون بأهوائهم لأقاربهم ومواليهم وأصدقائهم وكذلك كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حتى قال عمر من أمر رجلا لقرابة أو صداقة بينهما وهو يجد في المسلمين خيرا منهم فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين
فصل
والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحدا معصوم بعد النبي ﷺ بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها وقد تكفر عنهم بحسناتهم الكثيرة وقد يبتلون أيضا بمصائب يكفر الله عنهم بها وقد يكفر عنهم بغير ذلك
فكل ما ينقل عن عثمان غايته أن يكون ذنبا أو خطأ وعثمان رضي الله عنه قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعاته
وقد ثبت أن النبي ﷺ شهد له بل بشره بالجنة على بلوى تصيبه
ومنها أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه وأنه ابتلى ببلاء عظيم فكفر الله به خطاياه وصبر حتى قتل شهيدا مظلوما وهذا من أعظم ما يكفر الله به الخطايا
وكذلك علي رضي الله عنه ما تنكره الخوارج وغيرهم عليه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ وكان قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعته وشهادة النبي ﷺ له بالجنة ومنها أنه تاب من أمور كثيرة أنكرت عليه وندم عليها ومنها أنه قتل مظلوما شهيدا
فهذه القاعدة تغنينا أن نجعل كل ما فعل واحد منهم هو الواجب أو المستحب من غير حاجة بنا إلى ذلك والناس المنحرفون في هذا الباب صنفان القادحون الذين يقدحون في الشخص بما يغفره الله له والمادحون الذين يجعلون الأمور المغفورة من باب السعي المشكور فهذا يغلو في الشخص الواحد حتى يجعل سيئاته حسنات وذلك يجفو فيه حتى يجعل السيئة الواحدة منه محبطة للحسنات
وقد أجمع المسلمون كلهم حتى الخوارج على أن الذنوب تمحى بالتوبة وأن منها ما يمحى بالحسنات وما يمكن أحد أن يقول إن عثمان أو عليا أو غيرهما لم يتوبوا من ذنوبهم فهذه حجة على الخوارج الذين يكفرون عثمان وعليا وعلى الشيعة الذين يقدحون في عثمان وغيره وعلى الناصبة الذين يخصون عليا بالقدح
ولا ريب أن عثمان رضي الله عنه تقابلت فيه طائفتان شيعته من بني أمية وغيرهم ومبغضوه من الخوارج والزيدية والإمامية وغيرهم لكن شيعته أقل غلوا فيه من شيعة علي فما بلغنا أن أحدا منهم اعتقد فيه بخصوصه إلاهية ولا نبوة ولا بلغنا أن أحدا اعتقد ذلك في أبي بكر وعمر
لكن قد يكون بعض من يغلو في جنس المشايخ ويعتقد فيهم الحلول أو الأتحاد أو العصمة يقول ذلك في هؤلاء لكن لا يخصهم بذلك
ولكن شيعة عثمان الذين كان فيهم انحراف عن علي كان كثير منهم يعتقد أن الله إذا استخلف خليفة يقبل منه الحسنات ويتجاوز له عن السيئات وأنه يجب طاعته في كل ما يأمر به وهو مذهب كثير من شيوخ الشيعة العثمانية وعلمائها
ولهذا لما حج سليمان بن عبد الملك وتكلم مع أبي حازم في ذلك قال له أبو حازم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب سورة ص 26 وموعظة أبي حازم لسليمان معروفة
ولما توفى عمر بن عبد العزيز أظهر من السنة والعدل ما كان قد خفى ثم مات فطلب يزيد بن عبد الملك أن يسير سيرته فجاء إليه عشرون شيخا من شيوخ الشيعة العثمانية فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات حتى أمسك عن مثل طريقة عمر بن عبد العزيز
ولهذا كانت فيهم طاعة مطلقة لمتولي أمرهم فإنهم كانوا يرون أن الله أوجب عليهم طاعة ولي أمرهم مطلقا وأن الله لا يؤاخذه على سيئاته ولم يبلغنا أن أحدا منهم كان يعتقد فيهم أنهم معصومون بل يقولون إنهم لا يؤاخذون على ذنب كأنهم يرون أن سيئات الولاة مكفرة بحسناتهم كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر
فهؤلاء إذا كانوا لا يرون خلفاء بني أمية معاوية فمن بعده مؤاخذين بذنب فكيف يقولون في عثمان مع سابقته وفضله وحسن سيرته وعدله وأنه من الخلفاء الراشدين
وأما الخوارج فأولئك يكفرون عثمان وعليا جميعا ولم يكن لهم اختصاص بذم عثمان وأما شيعة علي فكثير منهم أو أكثرهم يذم عثمان حتي الزيدية اللذين يترحمون على أبي بكر وعمر فيهم من يسب عثمان ويذمه وخيارهم الذي يسكت عنه فلا يترحم عليه ولا يلعنه
وقد كان من شيعة عثمان من يسب عليا ويجهر بذلك على المنابر وغيرها لأجل القتال الذي كان بينهم وبينه وكان أهل السنة من جميع الطوائف تنكر ذلك عليهم وكان فيهم من يؤخر الصلاة عن وقتها فكان المتمسك بالسنة يظهر محبة علي وموالاته ويحافظ على الصلاة في مواقيتها حتى رئي عمرو بن مرة الجملي وهو من خيار أهل الكوفة شيخ الثوري وغيره بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال فغر لي بحب علي بن أبي طالب ومحافظتي على الصلاة في مواقيتها
وغلت شيعة علي في الجانب الآخر حتى صاروا يصلون العصر مع الظهر دائما قبل وقتها الخاص ويصلون العشاء مع المغرب دائما قبل وقتها الخاص فيجمعون بين الصلاتين دائما في وقت الأولى وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله ﷺ فإن الجمع إنما كان يفعله لسبب لا سيما الجمع في وقت الأولى فإن الذي تواتر عند الأئمة أنه فعله بعرفة وأما ما فعله بغيرها ففيه نزاع ولا خلاف أنه لم يكن يفعله دائما لا في الحضر ولا في السفر بل في حجة الوداع لم يجمع إلا بعرفة ومزدلفة ولكن روى عنه الجمع في غزوة تبوك وروى أيضا أنه جمع بالمدينة لكن نادرا لسبب والغالب عليه ترك الجمع فكيف يجمع بين الصلاتين دائما
وأولئك إذا كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر فهو خير من تقديم العصر إلى وقت الظهر فإن جمع التأخير خير من جمع التقديم فإن الصلاة يفعلها النائم والناسي قضاء بعد الوقت وأما الظهر قبل الزوال فلا تصلى بحال
وهكذا تجد في غالب الأمور بدع هؤلاء أشنع من بدع أولئك ولم يكن أحد منهم يتعرض لأبي بكر وعمر إلا بالمحبة والثناء والتعظيم ولا بلغنا أن أحدا منهم كفر عليا كما كفرته الخوارج الذين خرجوا عليه من أصحابه وإنما غاية من يعتدى منهم على علي رضي الله عنه أن يقول كان ظالما ويقولون لم يكن من الخلفاء ويروون عنه أشياء من المعاونة على قتل عثمان والإشارة بقتله في الباطن والرضا بقتله
وكل ذلك كذب علي علي رضي الله عنه وقد حلف رضي الله عنه وهو الصادق بلا يمين أنه لم يقتل عثمان ولا مالا على قتله بل ولا رضي بقتله وكان يلعن قتله عثمان
وأهل السنة يعلمون ذلك منه بدون قوله فهو أتقى لله من أن يعين على قتل عثمان أو يرضى بذلك
فما قالته شيعه على في عثمان أعظم مما قالته شيعة عثمان في علي فإن كثيرا منهم يكفر عثمان وشيعة عثمان لم تكفر عليا ومن لم يكفره يسبه ويبغضه أعظم مما كانت شيعة عثمان تبغض عليا
وأهل السنة يتولون عثمان وعليا جميعا ويتبرؤون من التشيع والتفرق في الدين الذي يوجب موالاة أحدهما ومعاداة الآخر وقد استقر أمر أهل السنة على أن هؤلاء مشهود لهم بالجنة ولطلحة الزبير وغيرهما ممن شهد له الرسول بالجنة كما قد بسط في موضعه وكان طائفة من السلف يقولون لا نشهد بالجنة إلا الرسول ﷺ خاصة وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي وطائفة أخرى من أهل الحديث كعلي بن المديني وغيره يقولون هم في الجنة ولا يقولون نشهد لهم بالجنة
والصواب أنا نشهد لهم بالجنة كما استقر على ذلك مذهب أهل السنة وقد ناظر أحمد بن حنبل لعلي بن المديني في هذه المسألة
وهذا معلوم عندنا بخبر الصادق وهذه المسألة لبسطها موضع آخر والكلام هنا فيما يذكر عنهم من أمور يراد بها الطعن عليهم
فطائفة تغلو فيهم فتريد أن تجعلهم معصومين أو كالمعصومين وطائفة تريد أن تسبهم وتذمهم بأمور إن كانت صدقا فهم مغفور لهم أو هم غير مؤاخذين بها فإنه ما ثم إلا ذنب أو خطأ في الاجتهاد والخطأ قد رفع الله المؤاخذة به عن هذه الأمة والذنب لمغفرته عدة أسباب كانت موجودة فيهم وهما أصلان عام وخاص أما العام فإن الشخص الواحد يجتمع فيه أسباب الثواب والعقاب عند عامة المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين
والنزاع في ذلك مع الخوارج والمعتزلة الذين يقولون ما ثم إلا مثاب في الآخرة أو معاقب ومن دخل النار لم يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها ويقولون إن الكبيرة تحبط جميع الحسنات ولا يبقى مع صاحبها من الإيمان شيء
وقد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي ﷺ إخراج قوم من النار بعد ما امتحشوا وثبت أيضا شفاعة النبي ﷺ لأهل الكبائر من أمته والآثار بذلك متواترة عند أهل العلم بالحديث أعظم من تواتر الآثار بنصاب السرقة ورجم الزاني المحصن ونصب الزكاة ووجوب الشفعة وميراث الجدة وأمثال ذلك
لكن هذا الأصل لا يحتاج اليه في مثل عثمان وأمثاله ممن شهد له بالجنة وأن الله رضي عنه وأنه لا يعاقبه في الآخرة بل نشهد أن العشرة في الجنة وأن أهل بيعة الرضوان في الجنة وأن أهل بدر في الجنة كما ثبت الخبر بذلك عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن إلهوى إن هو إلا وحي يوحى وقد دخل في الفتنة خلق من هؤلاء المشهود لهم بالجنة والذي قتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وقد قيل إنه من أهل بيعة الرضوان ذكر ذلك ابن حزم
فنحن نشهد لعمار بالجنة ولقاتله إن كان من أهل بيعة الرضوان بالجنة وأما عثمان وعلي وطلحة والزبير فهم أجل قدرا من غيرهم ولو كان منهم ما كان فنحن لا نشهد أن الواحد من هؤلاء لا يذنب بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب فإن الله لا يعذبه في الآخرة ولا يدخله النار بل يدخله الجنة بلا ريب وعقوبة الآخر تزول عنه إما بتوبة منه وأما بحسناته الكثيرة وإما بمصائبه المكفرة وأما بغير ذلك كما قد بسطناه في موضعه
فإن الذنوب مطلقا من جميع المؤمنين هي سبب العذاب لكن العقوبة بها في الآخرة في جهنم تندفع بنحو عشرة أسباب السبب الأول التوبة فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والتوبة مقبولة من جميع الذنوب الكفر والفسوق والعصيان قال الله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف سورة الأنفال 38 وقال تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين سورة التوبة وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا اله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم سورة المائدة 73 7وقال إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق سورة البروج 10 قال الحسن البصري انظروا إلى هذا الكرم والجود فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار ثم هو يدعوهم إلى التوبة
والتوبة عامة لكل عبد مؤمن كما قال تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما سورة الأحزاب 72 73
وقد أخبر الله في كتابه عن توبة أنبيائه ودعائهم بالتوبة كقوله فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم سورة البقرة 3 وقول إبراهيم وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمه مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم سورة البقرة 127 128
وقال موسى أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك سورة الأعراف 155
وقوله رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم سورة القصص 16
وقوله تبت إليك وأنا أول المؤمنين سورة الأعراف 143
وكذلك ما ذكره في قصة داود وسليمان وغيرهما
وأما المأثور عن النبي ﷺ من ذلك فكثير مشهور وأصحابه كانوا أفضل قرون الأمة فهم أعرف القرون بالله وأشدهم له خشية وكانوا أقوم الناس بالتوبة في حياته وبعد مماته
فمن ذكر ما عيب عليهم ولم يذكر توبتهم التي بها رفع الله درجتهم كان ظالما لهم كما جرى من بعضهم يوم الحديبية وقد تابوا منه مع أنه كان قصدهم الخير وكذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة تاب منها بل زانيهم كان يتوب توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له كما تاب ماعز بن مالك وأتى إلى النبي ﷺ حتى طهره بإقامة الحد عليه وكذلك الغامدية بعده وكذلك كانوا زمن عمر وغيره إذا شرب أحدهم الخمر أتى إلى أميره فقال طهرني وأقم على الحد فهذا فعل من يأتي الكبيرة منهم حين يعلمها حراما فكيف إذا أتى احدهم الصغيرة أو ذنبا تأول فيه ثم تبين له خطؤه
وعثمان بن عفان رضي الله عنه تاب توبة ظاهرة من الأمور التي صاروا ينكرونها ويظهر له أنها منكر وهذا مأثور مشهور عنه رضي الله عنه وأرضاه
وكذلك عائشة رضي الله عنها ندمت على مسيرها إلى البصرة وكانت إذا ذكرته تبكي حتى تبل خمارها
وكذلك طلحة ندم على ما ظن من تفريطه في نصر عثمان وعلي غير ذلك والزبير ندم على مسيره يوم الجمل
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ندم على أمور فعلها من القتال وغيره وكان يقول
لقد عجزت عجزة لا أعتذر ... سوف أكيس بعدها وأستمر ... وأجمع الرأي الشتيت المنتشر
وكان يقول ليالي صفين لله در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد ابن مالك إن كان برا إن أجره لعظيم وإن كان إثما إن خطره ليسير وكان يقول يا حسن يا حسن ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة
ولما رجع من صفين تغير كلامه وكان يقول لا تكرهوا إمارة معاوية فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تتطاير عن كواهلها وقد روي هذا عن علي رضي الله عنه من وجهين أو ثلاثة وتواترت الاثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر ورؤيته اختلاف الناس وتفرقهم وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل
وبالجملة ليس علينا أن نعرف كل واحد تاب ولكن نحن نعلم أن التوبة مشروعة لكل عبد للأنبياء ولمن دونهم وأن الله سبحانه يرفع عبده بالتوبة وإذا ابتلاه بما يتوب منه فالمقصود كمال النهاية لا نقص البداية فإنه تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين وهو يبدل بالتوبة السيئات حسنات
والذنب مع التوبة يوجب لصاحبه من العبودية والخشوع والتواضع والدعاء وغير ذلك مالم يكن يحصل قبل ذلك ولهذا قال طائفة من السلف إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة ويفعل الحسنة فيدخل بها النار يفعل الذنب فلا يزال نصب عينيه إذا ذكره تاب إلى الله ودعاه وخشع له فيدخل به الجنة ويفعل الحسنة فيعجب بها فيدخل النار
وفي الأثر لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أعظم من الذنب وهو العجب وفي أثر آخر لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه
وفي أثر آخر يقول الله تعالى أهل ذكرى أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا اقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب والتائب حبيب الله سواء كان شابا أو شيخا
السبب الثاني الاستغفار فإن الاستغفار هو طلب المغفرة وهو من جنس الدعاء والسؤال وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور به لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو وقد يدعو ولا يتوب وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال الله تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي وفي رواية لمسلم فليفعل ما شاء
والتوبة تمحو جميع السيئات وليس شىء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وأما التوبة فإنه قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم سورة الزمر 53 وهذه لمن تاب ولهذا قال لا تقنطوا من رحمة الله بل توبوا إليه وقال بعدها وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون سورة الزمر 54 وأما الاستغفار بدون التوبة فهذا لا يستلزم المغفرة ولكن هو سبب من الأسباب
السبب الثالث الأعمال الصالحة فإن الله تعالى يقول إن الحسنات يذهبن السيئات سورة هود 114 وقال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل يوصيه يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن
وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر أخرجاه في الصحيحين
وفي الصحيح عن النبي ﷺ من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وقال من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه
وقال أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى من دونه شىء قالوا لا قال كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا كما يمحو الماء الدرن وهذا كله في الصحيح
وقال الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار رواه الترمذي وصححه
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم سورة الصف 10 12
وفي الصحيح يغفر للشهيد كل شىء إلا الدين وما روى أن شهيد البحر يغفر له الدين فإسناده ضعيف والدين حق لآدمى فلابد من استيفائه
وفي الصحيح صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة ومثل هذه النصوص كثير وشرح هذه الأحاديث يحتاج إلى بسط كثير
فإن الإنسان قد يقول إذا كفر عنى بالصلوات الخمس فأي شىء تكفر عني الجمعة أو رمضان وكذلك صوم يوم عرفة وعاشوراء وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجد ما تكفره من السيئات
فيقال أولا العمل الذي يمحو الله به الخطايا ويكفر به السيئات هو العمل المقبول
والله تعالى إنما يتقبل من المتقين
والناس لهم في هذه الآية وهي قوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة 27 ثلاثة أقوال طرفان ووسط فالخوارج والمعتزلة يقولون لا يتقبل الله إلا ممن اتقى الكبائر وعندهم صاحب الكبيرة لا يقبل منه حسنة بحال والمرجئة يقولون من اتقى الشرك والسلف والأئمة يقولون لا يتقبل إلا ممن اتقاه في ذلك العمل ففعله كما أمر به خالصا لوجه الله تعالى
قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة هود 7 قال أخلصه وأصوبه قيل يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
فصاحب الكبائر إذا اتقى الله في عمل من الأعمال تقبل الله منه ومن هو أفضل منه إذا لم يتق الله في عمل لم يتقبله منه وإن تقبل منه عملا آخر
وإذا كان الله يتقبل ممن يعمل العمل على الوجه المأمور به ففي السنن عن عمار عن النبي ﷺ أنه قال إن العبد لينصرف عن صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها حتى قال إلا عشرها
وقال ابن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها
وفي الحديث رب صائم حظه من صيامه العطش ورب قائم حظه من قيامه السهر وكذلك الحج والجهاد وغيرهما وفي حديث معاذ موقوفا ومرفوعا وهو في السنن الغزو غزوان فغزو يبتغى به وجه الله ويطاع فيه الأمير وتنفق فيه كرائم الأموال ويياسر فيه الشريك ويجتنب فيه الفساد ويتقى فيه الغلول فذلك الذيلا يعدله شىء وغزو لا يبتغى به وجه الله ولا يطاع فيه الأمير ولا تنفق فيه كرائم الأموال ولا يياسر فيه الشريك ولا يجتنب فيه الفساد ولا يتقى فيه الغلول فذاك حسب صاحبه أن يرجع كفافا
وقيل لبعض السلف الحاج كثير فقال الداج كثير والحاج قليل ومثل هذا كثير
فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال وأكثر الناس يقصرون في الحسنات حتى في نفس صلاتهم فالسعيد منهم من يكتب له نصفها وهم يفعلون السيئات كثيرا فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء وبما يقبل من الجمعة شيء وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر وكذلك سائر الأعمال وليس كل حسنة تمحو كل سيئة بل المحو يكون للصغائر تارة ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة
والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ أنه قال يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقال هل تنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقول لا ظلم عليك فتخرج له بطاقة قدر الكف فيها شهادة أن لا إله إلا الله فيقول أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات فتوضع هذه البطاقة في كفيه والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات
فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص وإلا فأهل الكبائر الذين دخلواالنار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجم قول صاحب البطاقة
وكذلك في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه فيها العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له
وفي لفظ في الصحيحين إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها فسقته به فغفر لها وفي لفظ في الصحيحين أنها كانت بغيا من بغايا بني إسرائيل
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال بينما رجل يمشي في طريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال دخلت أمرأة النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت
فهذه سقط الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها وإلا فليس كل ما بغى سقت كلبا يغفر لها وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق فعله إذ ذاك بإيمان خالص وإخلاص قائم بقلبه فغفر له بذلك فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق يغفر له
قال الله تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم سورة الحج 37 فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا والله لا يناله الدم المهراق ولا اللحم المأكول والتصدق به لكن يناله تقوى القلوب
وفي الأثر أن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب
فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب وما في القلوب يتفاضل لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق ولم يضرب بعضه ببعض
وقد قال تعالى والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون سورة المؤمنون 6وفي الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله أهو الرجل يزنى ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب قال لا يا ابنة الصديق بل هو الرجل يصوم ويصلى ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل منه
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه
وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقله أهله وكثرة الصوارف عنه وضعف الدواعي إليه لا يمكن أحدا أن يحصل له مثله ممن بعدهم وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمور وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة
وهذا مما يعرف به أنا أبا بكر رضي الله عنه لن يكون أحد مثله فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد قال أبو بكر بن عياش ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشىء وقر في قلبه
وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول مؤمنين به مجاهدين معه إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه رفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنه للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنه لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون
وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال ليأتين على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صحب رسول الله ﷺ فيقال نعم فيفتح لهم وفي لفظ هل فيكم من رأى رسول الله ﷺ فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صحب من صحب ! أصحاب رسول الله ﷺ فيقولون نعم فيفتح لهم هذا لفظ بعض الطرق والثلاث الطبقات متفق عليها في جميع الطرق وأما الطبقة الرابعة فهي مذكورة في بعضها
وقد ثبت ثناء النبي ﷺ على القرون الثلاثة في عدة أحاديث صحيحة من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين يقول فيها خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ويشك بعض الرواة هل ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة
والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة بل لحقائقها التي في القلوب والناس يتفاضلون ذلك تفاضلا عظيما وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين لكن هل يفضل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز
ذكر القاضي عياض وغيره في ذلك قولين وأن الأكثرين يفضلون كل واحد من الصحابة وهذا مأثور عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما
ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب وقد قال النبي ﷺ لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه
قالوا فنحن قد نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك والنبي ﷺ يخبر أن جبل ذهب من الذين أسلموا بعد الحديبية لا يساوي نصف مد من السابقين ومعلوم فضل النفع المتعدي بعمر بن عبد العزيز أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم فلو قدر أن الذي أعطاهم ملكه وقد تصدق به عليهم لم يعدل ذلك مما أنفقه السابقون إلا شيئا يسيرا وأين مثل جبل أحد ذهبا حتى ينفقه الإنسان وهو لا يصير مثل نصف مد
ولهذا يقول من يقول من السلف غبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله ﷺ أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز
وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه إذ المقصود هنا أن الله سبحانه مما يمحو به السيئات الحسنات وأن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى وحينئذ فيعرف أن من هو دون الصحابة قد تكون له حسنات تمحو مثل ما يذم من أحدهم فكيف الصحابة
السبب الرابع الدعاء للمؤمنين فإن صلاة المسلمين على الميت ودعاءهم له من أسباب المغفرة وكذلك دعاؤهم واستغفارهم في غير صلاة الجنازة والصحابة ما زال المسلمون يدعون لهم
السبب الخامس دعاء النبي ﷺ واستغفاره في حياته وبعد مماته كشفاعته يوم القيامة فإنهم أخص الناس بدعائه وشفاعته في محياه ومماته
السبب السادس ما يفعل بعد الموت من عمل صالح يهدي له مثل من يتصدق عنه ويحج عنه ويصوم عنه فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ذلك يصل إلى الميت وينفعه وهذا غير دعاء ولده فإن ذلك من عمله
قال النبي ﷺ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم فولده من كسبه ودعاؤه محسوب من عمله بخلاف دعاء غير الولد فإنه ليس محسوبا من عمله والله ينفعه به
السبب السابع المصائب الدنيوية التي يكفر الله بها الخطايا كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقومها تارة وتميلها أخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة
وهذا المعنى متواتر عن النبي ﷺ في أحاديث كثيرة والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبتلون بالمصائب الخاصة وابتلوا بمصائب مشتركة كالمصائب التي حصلت في الفتن ولو لم يكن إلا أن كثيرا منهم قتلوا والأحياء أصيبوا بأهليهم وأقاربهم وهذا أصيب في ماله وهذا أصيب بجراحته وهذا أصيب بذهاب ولايته وعزه إلى غير ذلك فهذه كلها مما يكفر الله بها ذنوب المؤمنين من غير الصحابة فكيف الصحابة وهذا مما لا بد منه
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لايسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها
وفي الصحيح عن النبي ﷺ إنه لما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم سورة الأنعام 6قال النبي ﷺ أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال النبي ﷺ أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هذا أهون وأيسر
فهذا أمر لا بد منه للأمة عموما والصحابة رضي الله عنهم كانوا أقل فتنا من سائر من بعدهم فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف
ولهذا لم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان بدعة الخوارج المكفرين لعلي وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو الإهيته
ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدر به ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة والمشبهة الممثلة ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك
وكذلك فتن السيف فإن الناس كانوا في ولاية معاوية رضي الله عنه متفقين يغزون العدو فلما مات معاوية قتل الحسين وحوصر ابن الزبير بمكة ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة
ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط
ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله وجرت فتنة
ثم جاء مصعب بن الزبير فقتل المختار وجرت فتنة
ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة
ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه ابن الأشعث مع خلق عظيم من العراق وكانت فتنة كبيرة فهذا كله بعد موت معاوية
ثم جرت فتنة ابن المهلب بخراسان وقتل زيد بن علي بالكوفة وقتل خلق كثير آخرون
ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان وجرت حروب وفتن يطول وصفها ثم هلم جرا
فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده وأما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل
وقد روى أبو بكر الأثرم ورواه ابن بطة من طريقه حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة حدثنا محمد بن مروان عن يونس عن قتادة قال لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي
وكذلك رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي
ورواه الأثرم حدثنا محمد بن حواش حدثنا أبو هريرة المكتب قال كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش فكيف لو أدركتم معاوية قالوا في حلمة قال لا والله بل في عدله
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال لما قدم معاوية فرض للناس على أعطيه آبائهم حتى انتهى إلى فأعطاني ثلثمائة درهم
وقال عبد الله أخبرنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة ثنا الثقفي عن أبي إسحاق يعني السبيعي أنه ذكر معاوية
فقال لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم كان المهدي
وروى الأثرم حدثنا محمد بن العلاء عن أبي بكر بن عياش عن ابي إسحاق قال ما رأيت بعده مثله يعني معاوية
وقال البغوي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا ضمام بن إسماعيل عن ابي قيس قال كان معاوية قد جعل في كل قبيل رجلا وكان رجل منا يكنى أبا يحيى يصبح كل يوم فيدور على المجالس هل ولد فيكم الليلة ولد هل حدث الليلة حدث هل نزل اليوم بكم نازل قال فيقولون نعم نزل رجل من أهل اليمن بعياله يسمونه وعياله فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان فأوقع أسماءهم في الديوان
وروى محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا أبن أبي مريم عن عطية بن قيس قال سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم فإن كان يأتينا فضل عاما قابلا قسمناه عليكم وإلا فلا عتبة علي فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم
وفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة وفي الصحيح أن رجلا قال لابن عباس هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه أوتر بركعة قال أصاب إنه فقيه
وروى البغوي في معجمه بإسناده ورواه ابن بطة من وجه آخر كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر عن قيس بن الحارث عن الصنابحي عن أبي الدرداء قال ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله ﷺ من إمامكم هذا يعني معاوية
فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشاهد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة
هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين بل قد قيل إنه من مسلمة الفتح وقيل أسلم قبل ذلك وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء الصحابة وهذه سيرته مع عموم ولايته فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب ومن قبرص إلى اليمن
ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي فضلا عن أبي بكر وعمر فكيف يشبه غير الصحابة بهم وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة معاوية رضي الله عنه
والمقصود أن الفتن التي بين الأمة والذنوب التي لها بعد الصحابة أكثر وأعظم ومع هذا فمكفرات الذنوب موجودة لهم وأما الصحابة فجمهورهم وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة
قال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا أبي حدثنا إسماعيل يعني ابن علية حدثنا أيوب يعني السختياني عن محمد بن سيرين قال هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ عشرة آلاف فما حضرها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقة ومراسيله من أصح المراسيل
وقال عبد الله حدثنا أبي حدثنا اسماعيل حدثنا منصور بن عبد الرحمن قال قال الشعبي لم يشهد الجمل من أصحاب رسول الله ﷺ غير علي وعمار وطلحة والزبير فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب
وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا أمية بن خالد قال قيل لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا فقال كذب والله لقد ذاكرت الحكم بذلك وذاكرناه في بيته فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت
قلت هذا النفي يدل على قلة من حضرها وقد قيل إنه حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب وكلام ابن سيرين مقارب فما يكاد يذكر مائة واحد
وقد روى ابن بطة عن بكير بن الأشج قال إما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم
السبب الثامن ما يبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة الملكين
السبب التاسع ما يحصل له في الآخرة من كرب أهوال يوم القيامة
السبب العاشر ما ثبت في الصحيحين أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا اذن لهم في دخول الجنة
فهذه الأسباب لا تفوت كلها من المؤمنين إلا القليل فكيف بالصحابة رضوان الله عليهم الذين هم خير قرون الأمة وهذا في الذنوب المحققة فكيف بما يكذب عليهم فكيف بما يجعل من سيئاتهم وهو من حسناتهم
وهذا كما ثبت في الصحيح أن رجلا أراد أن يطعن في عثمان عند ابن عمر فقال إنه قد فر يوم أحد ولم يشهد بدرا ولم يشهد بيعة الرضوان فقال ابن عمر أما يوم أحد فقد عفا الله عنه وفي لفظ فر يوم أحد فعفا الله عنه وأذنب عندكم ذنبا فلم تعفوا عنه وأما يوم بدر فإن النبي ﷺ استخلفه على ابنته وضرب له بسهمه وأما بيعة الرضوان فإنما كانت بسبب عثمان فإن النبي ﷺ بعثة إلى مكة وبايع عنه بيده ويد النبي ﷺ خير من يعد عثمان
فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلونه عيبا ما كان منه عيبا فقد عفا الله عنه والباقي ليس بعيب بل هو من الحسنات وهكذا عامة ما يعاب به على سائر الصحابة هو إما حسنة وإما معفو عنه
وحينئذ فقول الرافضي إن عثمان ولى من لا يصلح للولاية إما أن يكون هذا باطلا ولم يول إلا من يصلح وإما أن يكون ولى من لا يصلح في نفس الأمر لكنه كان مجتهدا في ذلك فظن أنه كان يصلح وأخطأ ظنه وهذا لا يقدح فيه
وهذا الوليد بن عقبة الذي أنكر عليه ولايته قد اشتهر في التفسير والحديث والسير أن النبي ﷺ ولاه على صدقات ناس من العرب فلما قرب منهم خرجوا إليه فظن أنهم يحاربونه فأرسل إلى النبي ﷺ يذكر محاربتهم له فأراد النبي ﷺ أن يرسل إليهم جيشا فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين سورة الحجرات فإذا كان حال هذا خفي على النبي ﷺ فكيف لا يخفى على عثمان
وإذا قيل إن عثمان ولاه بعد ذلك
فيقال باب التوبة مفتوح وقد كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد عن الإسلام ثم جاء تائبا وقبل النبي ﷺ إسلامه وثبوته بعد أن كان أهدر دمه
وعلي رضي الله عنه تبين له من عماله مالم يكن يظنه فيهم فهذا لا يقدح في عثمان ولا غيره وغاية ما يقال إن عثمان ولي من يعلم أن غيره أصلح منه وهذا من موارد الاجتهاد
أو يقال إن محبته لأقاربه ميلته إليهم حتى صار يظنهم أحق من غيرهم أو أن ما فعله كان ذنبا وقد تقدم أن دنبه لا يعاقب عليه في الآخرة
وقوله حتى ظهر من بعضهم الفسق ومن بعضهم الخيانة
فيقال ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتا حين الولاية ولا على أن المولى علم ذلك وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد وكان يعزل من يراه مستحقا للعزل ويقيم الحد على من رآه لإقامة الحد عليه
وأما قوله وقسم المال بين أقاربه
فهذا غايته أن يكون ذنبا لا يعاقب عليه في الآخرة فكيف إذا كان من موارد الاجتهاد فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي ﷺ في حياته هل يستحقه ولي الأمر بعده على قولين وكذلك تنازعوا في ولى اليتيم هل له أن يأخذ من مال اليتيم إذا كان غنيا أجرته مع غناه والترك أفضل أو الترك واجب على قولين ومن جوز الأخذ من مال اليتم مع الغني جوزه للعامل على بيت مال المسلمين وجوزه للقاضي وغيره من الولاة ومن قال لا يجوز ذلك من مال اليتيم فمنهم من يجوزه من مال بيت المال كما يجوز للعامل على الزكاة الأخذ مع الغني فإن العامل على الزكاة يجوز له أخذ جعالته مع غناه
وولي اليتيم قد قال تعالى فيه ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف سورة النساء وأيضا فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور وأن النبي ﷺ كان يعطي أقاربه بحكم الولاية وسقط حق ذوي قرباه بموته كما يقول ذلك كثير من العلماء كأبي حنيفة وغيره ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط قيل إنه يصرف في الكراع والسلاح والمصالح كما كان يفعل أبو بكر وعمر وقيل هو لمن ولى الأمر بعده وقيل إن هذا مما تأوله عثمان ونقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا وأنه يأخذ بعمله وأن ذلك جائز وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل فكان له الأخذ بهذا وهذا وكان يعطي أقرباءه مما يختص به فكان يعطيهم لكونهم ذوى قربى الإمام على قول من يقول ذلك
وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال وعلي ولي أقاربه أيضا
وأما قوله استعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران فيقال لا جرم طلبه وأقام عليه الحد بمشهد من علي بن أبي طالب وقال لعلي قم فاضربه فأمر علي الحسن بضربه فامتنع وقال لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه أربعين ثم قال إمسك ضرب رسول الله ﷺ أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم وغيره
فإذا أقام الحد برأي علي وأمره فقد فعل الواجب
وكذلك قوله إنه استعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها
فيقال مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذاك فإن القوم كانوا يقومون على كل وال قد قاموا على سعد بن أبي وقاص وهو الذي فتح البلاد وكسر جنود كسرى وهو أحد أهل الشورى ولم يتول عليهم نائب مثله وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وغيرهم ودعا عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال اللهم إنهم قد لبسوا علي فلبس عليهم
وإذا قدر أنه أذنب ذنبا فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضيا بذنبه ونواب علي قد أذنبوا ذنوبا كثيرة بل كان غير واحد من نواب النبي ﷺ يذنبون ذنوبا كثيرة وإنما يكون الإمام مذنبا إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد أو استيفاء حق أو اعتداء ونحو ذلك
وإذا قدر أن هناك ذنبا فقد علم الكلام فيه
وأما قوله وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتبه أن يستمر على ولايته سرا خلاف ما كتب إليه جهرا
والجواب أن هذا كذب على عثمان وقد حلف عثمان أنه لم يكتب شيئا من ذلك وهو الصادق البار بلا يمين وغاية ما قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا أن يسلم إليهم مروان ليقتلوه فامتنع فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل الواجب وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز وإن كان قتله واجبا فذاك من موارد الاجتهاد فإنه لم يثبت لمروان ذنب يوجب قتله شرعا فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل وبتقدير أن يكون ترك الواجب فقد قدمنا الجواب العام
وأما قوله أمر بقتل محمد بن أبي بكر
فهذا من الكذب المعلوم على عثمان وكل ذي علم بحال عثمان وإنصاف له يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله ولا عرف منه قط أنه قتل أحدا من هذا الضرب وقد سعوا في قتله ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم دفعا عن نفسه فكيف يبتدىء بقتل معصوم الدم
وإن ثبت أن عثمان أمر بقتل محمد بن أبي بكر لم يطعن على عثمان بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب علي سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بالقتل وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد وغايتهم أن يكونوا ظلموا في بعض الأمور وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه بل ولا يقيم الحد
وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هو أشهر بالعلم والدين منه بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا واختلف في صحبته
ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس ولم يدرك من حياة النبي ﷺ إلا اشهرا قليلة من ذي القعدة إلى أول شهر ربيع الأول فإنه ولد بالشجرة لخمس بقين من ذي القعدة عام حجة الوداع ومروان من أقران ابن الزبير فهو قد أدرك حياة النبي ﷺ ويمكن أنه رآه عام فتح مكة أو عام حجة الوداع والذين قالوا لم ير النبي ﷺ قالوا إن أباه كان بالطائف فمات النبي ﷺ وأبوه بالطائف وهو مع أبيه ومن الناس من يقول إن النبي ﷺ نفى إباه إلى الطائف وكثير من أهل العلم ينكر ذلك ويقول إنه ذهب باختياره وإن نفيه ليس له إسناد
وهذا إنما يكون بعد فتح مكة فقد كان أبوه بمكة مع سائر الطلقاء وكان هو قد قارب سن التمييز
وأيضا فقد يكون أبوه حج مع الناس فرآه في حجة الوداع ولعله قدم إلى المدينة فلا يمكن الجزم بنفي رؤيته للنبي ﷺ
وأما أقرانه كالمسور بن مخرمة وعبد الله بن الزبير فهؤلاء كانوا بالمدينة وقد ثبت أنهم سمعوا من النبي ﷺ
======
39
منهاج السنة النبوية/39
وأما قوله ولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدثه
فالجواب أن معاوية إنما ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاه عمر مكان أخيه واستمر في ولاية عثمان وزاده عثمان في الولاية وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة وكانت رعيته يحبونه
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونه ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم
وإنما ظهر الأحداث من معاوية في الفتنة لما قتل عثمان ولما قتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس لم يختص بها معاوية بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثير منهم وأبعد عن الشر من كثير منهم ومعاويةكان خيرا من الأشتر النخعي ومن محمد بن أبي بكر ومن عبيد الله بن عمر بن الخطاب ومن أبى الأعور السلمى ومن هاشم بن هاشم بن هاشم المرقال ومن الأشعث بن قيس الكندي ومن بسر بن أبي أرطاة وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما
وأما قوله وولى عبد الله بن عامر البصرة ففعل من المناكير ما فعل
فالجواب أن عبد الله بن عامر له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس مالا ينكر وإذا فعل منكرا فذنبه عليه فمن قال إن عثمان رضي بالمنكر الذي فعله
وأما قوله وولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره ودفع إليه خاتمه وحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث
فالجواب أن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده بل اجتمعت أمور متعددة من جملتها أمور تنكر من مروان وعثمان رضي الله عنه كان قد كبر وكانوا يفعلون أشياء لا يعلمونه بها فلم يكن آمرا لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه بل كان يأمر بإبعادهم وعزلهم فتارة يفعل ذلك وتارة لا يفعل ذلك وقد تقدم الجواب العام
ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان وشكوا أمورا أزالها كلها عثمان حتى أنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه وأنه لا يعطي أحدا من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم ولم يبق لهم طلب ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها مصصتموه كما يمص الثوب ثم عمدتم إليه فقتلتموه
وقد قيل إنه زُور عليه كتاب بقتلهم وأنهم أخذوه في الطريق فأنكر عثمان الكتاب وهو الصادق وأنهم اتهموا به مروان وطلبوا تسليمه إليهم فلم يسلمه
وهذا بتقدير أن يكون صحيحا لا يبيح شيئا مما فعلوه بعثمان وغايته أن يكون مروان قد أذنب في إرادته قتلهم ولكن لم يتم غرضه ومن سعى في قتل إنسان ولم يقتله لم يجب قتله فما كان يجب قتل مروان بمثل هذا نعم ينبغي الاحتراز ممن يفعل مثل هذا وتأخيره وتأديبه ونحو ذلك أما الدم فأمر عظيم
وأما قوله وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار ودفع إلى مروان ألف ألف دينار
فالجواب أولا أن يقال أين النقل الثابت بهذا نعم كان يعطي أقاربه عطاء كثيرا ويعطي غير أقاربه أيضا وكان محسنا إلى جميع المسلمين وأما هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت
ثم يقال ثانيا هذا من الكذب البين فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحدا ما يقارب هذا المبلغ ومن المعلوم أن معاوية كان يعطي من يتألفه أكثر من عثمان ومع هذا فغاية ما أعطى الحسن بن علي مائة ألف أو ثلاثمائة ألف درهم وذكروا أنه لم يعط أحدا قدر هذا قط
نعم كان عثمان يعطي بعض أقاربه ما يعطيهم من العطاء الذي أنُكر عليه وقد تقدم تأويله في ذلك والجواب العام يأتي على ذلك فإنه كان له تأويلان في إعطائهم كلاهما مذهب طائفة من الفقهاء أحدهما أنه ما أطعم الله لنبي طعمة إلا كانت طعمة لمن يتولى الأمر بعده وهذا مذهب طائفة من الفقهاء ورووا في ذلك حديثا معروفا مرفوعا وليس هذا موضع بسط الكلام في جزئيات المسائل
وقالوا إن ذوي القربي في حياة النبي ﷺ ذوو قرباه وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده وقالوا إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما أقارب كما كان لعثمان فإن بني عبد شمس من أكبر قبائل قريش ولم يكن من يوازيهم إلا بنو مخزوم والإنسان مأمور بصلة رحمه من ماله فإذا اعتقدوا أن ولي الأمر يصله من مال بيت المال مما جعله الله لذوي القربى استحقوا بمثل هذا أن يوصلوا من بيت المال ما يستحقونه لكونهم أولى قربى الإمام وذلك أن نصر ولى الأمر والذب عنه متعين وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه مالا يفعله غيرهم
وبالجملة فلا بد لكل ذوي أمر من أقوام يأتمنهم على نفسه ويدفعون عنه من يريد ضرره فإن لم يكن الناس مع إمامهم كما كانوا مع أبي بكر وعمر احتاج الأمر إلى بطانة يطمئن إليهم وهم لا بد لهم من كفاية فهذا أحد التأويلين
والتأويل الثاني أنه كان يعمل في المال وقد قال الله تعالى والعاملين عليها سورة التوبة 60 والعامل على الصدقة الغنى له أن يأخذ بعمالته باتفاق المسلمين
والعامل في مال اليتيم قد قال الله تعالى فيه ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف سورة النساء 6 وهل الأمر للغنى بالاستعفاف أمر إيجاب أو أمر استحباب على قولين
وولى بيت المال وناظر الوقف هل هو كعامل الصدقة أو كولي اليتيم على قولين وإذا جعل ولي الأمر كعامل الصدقة استحق مع الغنى وإذا جعل كولي اليتيم ففيه القولان فهذه ثلاثة أقوال وعثمان على قولين كان له الأخذ مع الغنى وهذا مذهب الفقهاء ليست كأغراض الملوك التي لم يوافق عليها أحد من أهل العلم
ومعلوم أن هذه التأويلات إن كانت مطابقة فلا كلام وإن كانت مرجوحة فالتأويلات في الدماء التي جرت من على ليست بأوجه منها والاحتجاج لهذه الأقوال أقوى من الاحتجاج لقول من رأى القتال
وأما قوله وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره
فالجواب أن هذا من الكذب البين على ابن مسعود فإن علماء أهل النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما ولى عثمان وذهب ابن مسعود إلى الكوفة قال ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل
وكان عثمان في السنين الأول من ولايته لا ينقمون منه شيئا ولما كانت السنين الآخرة نقموا منه أشياء بعضها هم معذورون فيه وكثير منها كان عثمان هو المعذور فيه
من جملة ذلك أمر ابن مسعود فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف لما فوض كتابته إلى زيد دونه وأمر الصحابة أن يغسلوا مصاحفهم وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان وكان زيد بن ثابت قد انتدبه قبل ذلك أبو بكر وعمر لجمع المصحف في الصحف فندب عثمان من ندبه أبو بكر وعمر وكان زيد بن ثابت قد حفظ العرضة الأخيرة فكان اختيار تلك أحب إلى الصحابة فإن جبريل عارض النبي ﷺ بالقرآن في العام الذي قبض فيه مرتين
وأيضا فكان ابن مسعود أنكر على الوليد بن عقبة لما شرب الخمر وقد قدم ابن مسعود إلى المدينة وعرض عليه عثمان النكاح
وهؤلاء المبتدعة غرضهم التكفير أو التفسيق للخلفاء الثلاثة بأشياء لا يفسق بها واحد من الولاة فكيف يفسق بها أولئك ومعلوم أن مجرد قول الخصم في خصمه لا يوجب القدح في واحد منها وكذلك كلام أحد المتشاجرين في الآخر
ثم يقال بتقدير أن يكون ابن مسعود طعن على عثمان رضي الله عنهما فليس جعل ذلك قدحا في عثمان بأولى من جعله قدحا في ابن مسعود وإذا كان كل واحد منهما مجتهدا فيما قاله أثابه الله على حسناته وغفر له خطأه وإن كان صدر من أحدهما ذنب فقد علمنا أن كلا منهما ولى لله وأنه من أهل الجنة وأنه لا يدخل النار فذنب كل واحد منهما لا يعذبه الله عليه في الآخرة
وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه هو أفضل من ابن مسعود وعمار وأبي ذر ومن غيرهم من وجوه كثيرة كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة
فليس جعل كلام المفضول قادحا في الفاضل بأولى من العكس بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل وإلا تكلم بما يعلم من فضلهما ودينهما وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله
ولهذا أوصوا بالإمساك عما شجر بينهم لأنا لا نسأل عن ذلك كما قال عمر بن عبد العزيز تلك دماء طهر الله منها يدي فلا أحب أن أخضب بها لساني وقال آخر تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون سورة البقرة 13لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلا بد من الذب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل
وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان وقول الحسن فيه ونقل عنه أنه قال لقد كفر عثمان كفره صلعاء وأن الحسن بن علي أنكر ذلك عليه وكذلك على وقال له يا عمار أتكفر برب آمن به عثمان
وقد تبين أن الرجل المؤمن الذي هو ولى لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي لله ويكون مخطئا في هذا الاعتقاد ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما وولايته كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي ﷺ إنك منافق تجادل عن المنافقين وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي ﷺ إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
فعمر أفضل من عمار وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل الجنة وإن قال أحدهما للآخر ما قال مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمار قال ذلك
وأما قوله إنه لما حكم ضرب ابن مسعود حتى مات فهذا كذب باتفاق أهل العلم فإنه لما ولى أقر ابن مسعود على ما كان عليه من الكوفة إلى أن جرى من ابن مسعود ما جرى وما مات ابن مسعود من ضرب عثمان أصلا
وفي الجملة فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمارا فهذا لا يقدح في أحد منهم فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين وقد قدمنا أن ولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية فكيف بالتعزير
وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه فقال ما هذا يا أمير المؤمنين قال هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع
فإن كان عثمان أدب هؤلاء فإما أن يكون عثمان مصيبا في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك أو يكون ذلك الذي عزروا عليه تابوا منه أو كفر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك
وإما أن يقال كانوا مظلومين مطلقا فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة فإنه أفضل منهم وأحق بالمغفرة والرحمة
وقد يكون الإمام مجتهدا في العقوبة مثابا عليها وأولئك مجتهدون فيما فعلوه لا يأثمون به بل يثابون عليه لاجتهادهم مثل شهادة أبي بكرة على المغيرة فإن أبا بكرة رجل صالح من خيار المسلمين وقد كان محتسبا في شهادته معتقدا أنه يثاب على ذلك وعمر أيضا محتسب في إقامة الحد مثاب على ذلك فلا يمتنع أن يكون ما جرى من عثمان في تأديب ابن مسعود وعمار من هذا الباب
وإذا كان المقتتلون قد يكون كل منهم مجتهدا مغفورا له خطؤه فالمختصمون أولى بذلك
وإما أن يقال كان مجتهدا وكانوا مجتهدين فمثل هذا يقع كثيرا يفعل الرجل شيئا باجتهاده ويرى ولي الأمر أن مصلحة المسلمين لا تتم إلا بعقوبته كما أنها لا تتم إلا بعقوبة المتعدى وإن تاب بعد رفعه إلى الإمام
فالزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام وثبوت الحد عليهم لم يسقط الحد عنهم بالتوبة بل يعاقبون مع كونهم بالتوبة مستحقين للجنة ويكون الحد مما يثابون عليه ويؤجرون عليه ويكفر الله به ما يحتاج إلى التكفير
ولو أن رجلا قتل من اعتقده مستحقا لقتله قصاصا أو أخذ مالا يعتقد أنه له في الباطن ثم ادعى أهل المقتول وأهل المال بحقهم عند ولي الأمر حكم لهم به وعاقب من امتنع من تسليم المحكوم به إليهم وإن كانوا متأولا فيما فعله بل بريئا في الباطن
وأكثر الفقهاء يحدون من شرب النبيذ المتنازع فيه وإن كان متأولا وكذلك يأمرون بقتال الباغي المتأول لدفع بغيه وإن كانوا مع ذلك لا يفسقونه لتأويله
وقد ثبت في الصحيح أن عمار بن ياسر لما أرسله علي إلى الكوفة هو والحسن ليعينوا على عائشة قال عمار بن ياسر إنا لنعلم أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم بها لينظر إياه تطيعون أم إياها
فقد شهد لها عمار بأنها من أهل الجنة زوجة رسول الله ﷺ في الآخرة ومع هذا دعا الناس إلى دفعها بما يمكن من قتال وغيره
فإذا كان عمار يشهد لها بالجنة ويقاتلها فكيف لا يشهد له عثمان بالجنة ويضربه
وغاية ما يقال إن ما وقع كان هذا وهذا وهذا مذنبين فيه وقد قدمنا القاعدة الكلية أن القوم مشهود لهم بالجنة وإن كان لهم ذنوب
وأما قوله وقال فيه النبي ﷺ عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، فيقال الذي في الصحيح تقتل عمار الفئة الباغية وطائفة العلماء ضعفوا هذا الحديث منهم الحسين الكرابيسى وغيره ونقل ذلك عن أحمد أيضا
وأما قوله لا أنالهم الله شفاعتي فكذب مزيد في الحديث لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد معروف
وكذلك قوله عمار جلدة بين عيني لا يعرف له إسناد
ولو قيل مثل ذلك فقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال إنما فاطمة بضعة منى يريبنى ما يربيها وفي الصحيح عنه أنه قال لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وثبت عنه في الصحيح أنه كا يحب أسامة ثم يقول اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه ومع هذا لما قتل ذلك الرجل أنكر عليه إنكار شديدا وقال يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ
وثبت عنه في الصحيح أنه قال يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا الحديث
وثبت عنه في عبد الله حمار أنه كان يضربه على شرب الخمر مرة بعد مرة وأخبر عنه أنه يحب الله ورسوله
وقال في خالد سيف من سيوف الله ولما فعل في بني جذيمة ما فعل قال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد
وثبت عنه أنه قال لعلي أنت مني وأنا منك ولما خطب بنت أبي جهل قال إن بني المغيرة استأذنوني في أن يزوجوا ابنتهم عليا وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد
وفي حديث آخر أنه رأى أبا بكر يضرب عبده وهو محرم فقال انظروا ما يفعل المحرم ومثل هذا كثير
فكون الرجل محبوبا لله ورسوله لا يمنع أن يؤدب بأمر الله ورسوله فإن النبي ﷺ وقال ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه أخرجاه في الصحيحين
ولما نزل قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به سورة النساء 123
قال أبو بكر يا رسول الله قد جاءت قاصمة الظهر فقال ألست تحزن ألست تنصب ألست تصيبك اللأواء فهو مما تجزون به رواه أحمد وغيره
وفي الحديث الحدود كفارات لأهلها
وفي الصحيحين عن عبادة قال قال رسول الله ﷺ بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له
فإذا كانت المصائب السماوية التي تجري بغير فعل بشر مما يكفر الله بها الخطايا فما يجري من أذى الخلق والمظالم بطريق الأولى كما يصيب المجاهدين من أذى الكفار وكما يصيب الأنبياء من أذى من يكذبهم وكما يصيب المظلوم من أذى الظالم إذا كان هذا مما يقع معصية لله ورسوله فما يفعله ولى الأمر من إقامة حد وتعزير يكون تكفير الخطايا به أولى
وكانوا في زمن عمر إذا شرب أحدهم الخمر جاء بنفسه إلى الأمير وقال طهرني
وقد جاء ماعز بن مالك والغامدية إلى النبي ﷺ وطلبا منه التطهير
وإذا كان كذلك فكون الرجل وليا لله لا يمنع أن يحتاج إلى ما يكفر الله به سيئاته من تأديب ولي الأمر الذي أمره الله عليه وغير ذلك وإذا قيل هم مجتهدون معذورون فيما أدبهم عليه عثمان فعثمان أولى أن يقال فيه كان مجتهدا معذورا فيما أدبهم عليه فإنه إمام مأمور بتقويم رعيته وكان عثمان أبعد عن الهوى وأولى بالعلم والعدل فيما أدبهم عليه رضي الله عنهم أجمعين
ولو قدح رجل في علي بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية وأصحابه وقاتل طلحة والزبير، لقيل له علي بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه فلا يجوز أن يجعل الذين قاتلوه هم العادلين وهو ظالم لهم
كذلك عثمان فيمن أقام عليه حدا أو تعزيرا هو أولى بالعلم والعدل منهم وإذا وجب الذب عن علي لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك فالذب عن عثمان لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك أولى
وقوله وطرد رسول الله ﷺ الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي ﷺ وأبي بكر وعمر فلما ولى عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الآية سورة المجادلة 2والجواب أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفى رجل ومروان ابنه كان صغيرا إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي ﷺ ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي ﷺ فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا هو ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ولا لها إسناد يعرف به أمرها
ومن الناس من يروي أنه حاكى النبي ﷺ في مشيته ومنهم من يقول غير ذلك ويقولون إنه نفاه إلى الطائف، والطلقاء ليس فيهم من هاجر بل قال النبي ﷺ لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية
ولما قدم صفوان بن أمية مهاجرا أمره النبي ﷺ بالرجوع إلى مكة ولما أتاه العباس برجل ليبايعه على الهجرة وأقسم عليه أخذ بيده وقال إني أبررت قسم عمي ولا هجرة بعد الفتح
وكان العباس قد خرج من مكة إلى المدينة قبل وصول النبي ﷺ إليها عام الفتح فلقيه في الطريق فلم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة
وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم وقالوا هو ذهب باختياره
والطرد هو النفي والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين وكانوا يعزرون بالنفي وإذا كان النبي ﷺ قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان فإن هذا لا يعرف في شىء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفيا دائما بل غاية النفي المقدر سنة وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث فإن كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب منه فإذا تاب سقطت العقوبة عنه وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادى لم يقدر فيه قدر ولم يوقت فيه وقت
وإذا كان كذلك فالنفي كان في آخر الهجرة فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر فلما كان عثمان طالت مدته وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي ﷺ وكان كاتبا للوحي وارتد عن الإسلام وكان النبي ﷺ قد أهدر دمه فيمن أهدر ثم جاء به عثمان فقبل النبي ﷺ شفاعته فيه وبايعه فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم
وقد رووا أن عثمان سأل النبي ﷺ أن يرده فأذن له في ذلك ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعيد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد الثابت وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها إنما ذكرها مرسلة وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه وقل أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان فلم يكن هنا نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان
والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي ﷺ له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعة له عنه لما أرسله إلى مكة وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله ﷺ مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا يعرف حقيقته بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ الذين يبتغون الفتنة
ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة الذين ذمهم الله ورسوله
وبالجملة فنحن نعلم قطعا أن النبي ﷺ لم يكن يأمر بنفي أحد دائما ثم يرده عثمان معصية لله ورسوله ولا ينكر ذلك عليه المسلمون وكان عثمان رضي الله عنه أتقى لله من أن يقدم على مثل هذا بل هذا مما يدخله الاجتهاد فلعل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يرداه لأنه لم يطلب ذلك منهما وطلبه من عثمان فأجابه إلى ذلك أو لعله لم يتبين لهما توبته وتبين ذلك لعثمان وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنبا وقد تقدم الكلام على ذلك
وأما استكتابه مروان فمروان لم يكن له في ذلك ذنب لأنه كان صغيرا لم يجر عليه القلم ومات النبي ﷺ ومروان لم يبلغ الحلم باتفاق أهل العلم بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها وكان مسلما باطنا وظاهرا يقرأ القرآن ويتفقه في الدين ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشىء يعاب به فلا ذنب لعثمان في استكتابه
وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان ولم يكن مروان ممن يحاد الله ورسوله
وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء والطلقاء حسن إسلام أكثرهم وبعضهم فيه نظر ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن
والمنافقون تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام ولم يكن أحد من الطلقاء بعد الفتح يظهر المحادة لله ورسوله بل يرث ويورث ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين وتجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على غيره
وقد عرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لسعد بن معاذ والله لا تقتله ولا تقدر على قتله وهذا وإن كان ذنبا من سعد لم يخرجه ذلك عن الإيمان بل سعد من أهل الجنة ومن السابقين الأولين من الأنصار فكيف بعثمان إذا آوى رجلا لا يعرف أنه منافق
ولو كان منافقا لم يكن الإحسان إليه موجبا للطعن في عثمان فإن الله تعالى يقول لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين سورة الممتحنة وقد ثبت في الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر قالت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها قال نعم صلي أمك
وقد أوصت صفية بنت حيى بن أخطب لقرابة لها من اليهود فإذا كان الرجل المؤمن قد يصل أقاربه الكفار ولا يخرجه ذلك عن الإيمان فكيف إذا وصل أقاربه المسلمين وغاية ما فيهم أن يتهموا بالنفاق
وأم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب كان أبوها من رءوس اليهود المحادين لله ورسوله وكانت هي امرأة صالحة من أمهات المؤمنين المشهود لها بالجنة ولما ماتت أوصت لبعض أقاربها من اليهود وكان ذلك مما تحمد عليه لا مما تذم عليه
وهذا مما احتج به الفقهاء على جواز صلة المسلم لأهل الذمة بالصدقة عليهم والوصية لهم فكيف بأمير المؤمنين إذا أحسن إلى عمه المظهر للإسلام
وهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بأخبار النبي ﷺ عام الفتح وقد أخبر النبي ﷺ أنه من أهل الجنة لشهوده بدرا والحديبية وقال لمن قال إنه منافق ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
وأين حاطب من عثمان فلو قدر والعياذ بالله أن عثمان فعل مع أقاربه ما هو من هذا الجنس لكان إحساننا القول فيه والشهادة له بالجنة أولى بذلك من حاطب بن أبي بلتعة
وأما قوله إنه نفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا مع أن النبي ﷺ قال في حقه ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبي ذر وقال إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم فقيل له من هم يا رسول الله قال علي سيدهم وسلمان والمقداد وأبو ذر
فالجواب أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس فإن أبا ذر رضي الله عنه كان رجلا صالحا زاهدا وكان من مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوي به في النار واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة احتج بقوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله سورة التوبة 34
وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي ﷺ وهو أنه قال يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين وأنه قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا
ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب ووافق عثمان فضربه أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب
وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك كما يذكر عن عبد الواحد ابن زيد ونحوه ومن الناس من يجعل الشبلي من أرباب هذا القول وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول
فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة فنفى الوجوب فيما دون المائتين ولم يشترط كون صاحبها محتاجا إليها أم لا
وقال جمهور الصحابة الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه وقد قسم الله تعالى المواريث في القرآن ولا يكون الميراث إلا لمن خلف مالا وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي ﷺ من الأنصار بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال
وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله
وقول النبي ﷺ ليس فيه إيجاب إنما قال ما أحب أن يمضي على ثالثة وعندي منه شىء فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه وكذا قوله المكثرون هم المقلون دليل على أن من كثر ماله قلت حسناته يوم القيامة إذا لم يكثر الإخراج منه وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويما تاما فلا يعتدي لا الأغنياء والفقراء فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار والنوع وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين
فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض
وأما كون أبي ذر من أصدق الناس فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره بل كان أبو ذر مؤمنا ضعيفا كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال له يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لاتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير
وأهل الشورى مؤمنون أقوياء وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء
فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة كعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف أفضل من أبي ذر وأمثاله
والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف بل موضوع وليس له إسناد يقوم به
وأما قوله إنه ضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين وقال لا تبطل حدود الله وأنا حاضر
فالجواب أما قوله إن الهرمزان كان مولى علي، فمن الكذب الواضح فإن الهرمزان كان من الفرس الذين استنابهم كسرى على قتال المسلمين فأسره المسلمون وقدموا به على عمر فأظهر الإسلام فمن عليه عمر وأعتقه فإن كان عليه ولاء فهو للمسلمين وإن كان الولاء لمن باشر العتق فهو لعمر وإن لم يكن عليه ولاء بل هو كالأسير إذا من عليه فلا ولاء عليه فإن العلماء تنازعوا في الأسير إذا أسلم هل يصير رقيقا بإسلامه أم يبقى حرا يجوز المن عليه والمفاداة كما كان قبل الإسلام مع اتفاقهم على أنه عصم بالإسلام دمه
وفي المسألة قولان مشهوران هما قولان في مذهب أحمد وغيره
وليس لعلي سعى لا في استرقاقه ولا في إعتاقه ولما قتل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة الكافر المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة وذكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤى عند الهرمزان حين قتل عمر فكان ممن أتهم بالمعاونة على قتل عمر
وقد قال عبد الله بن عباس لما قتل عمر وقال له عمر قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة فقال إن شئت أن نقتلهم فقال كذبت أما بعد إذ تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم
فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا فكيف لا يعتقد عبد الله جواز قتل الهرمزان فلما استشار عثمان الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة أن لا تقتله فإن أباه قتل بالامس ويقتل هو اليوم فيكون في هذا فساد في الإسلام وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل
وقد تنازع الفقهاء في المشتركين في القتل إذا باشر بعضهم دون بعض فقيل لا يجب القود إلا على المباشر خاصة وهو قول أبي حنيفة وقيل إذا كان السبب قويا وجب على المباشر والمتسبب كالمكره والمكره وكالشهود بالزنا والقصاص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا وهذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد ثم إذا أمسك واحد وقتله الآخر فمالك يوجب القود على الممسك والقاتل وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت كما روى عن ابن عباس وقيل لا قود إلا على القاتل كقول أبي حنيفة والشافعي
وقد تنازعوا أيضا في الآمر الذي لم يكره إذا أمر من يعتقد أن القتل محرم هل يجب القود على الآمر على قولين
وأما الردء فيما يحتاج فيه إلى المعاونة كقطع الطريق فجمهورهم على أن الحد يجب على الردء والمباشرة جميعا وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وكان عمر بن الخطاب يأمر بقتل الربيئة وهو الناطور لقطاع الطريق وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر جاز قتله في أحد القولين قصاصا وعمر هو القائل في المقتول بصنعاء لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به
وأيضا فقد تنازع الناس في قتل الأئمة هل يقتل قاتلهم حدا أو قصاصا على قولين في مذهب أحمد وغيره أحدهما أنهم يقتلون حدا كما يقتل القاتل في المحاربة حدا لأن قتل الأئمة فيه فساد عام أعظم من فساد قطاع الطريق فكان قاتلهم محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا وعلى هذا خرجوا فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما لما قتل ابن ملجم قاتل علي وكذلك قتل قتلة عثمان
وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولا يعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل كما أن أسامة بن زيد لما قتل ذلك الرجل بعدما قال لا إله إلا الله واعتقد أن هذا القول لا يعصمه عزره النبي ﷺ بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولا لكن الذي قتله أسامة كان مباحا قبل القتل فشك في العاصم
وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولا يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص فإن مسائل القصاص فيها مسائل كثيرة اجتهادية
وأيضا فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون دمه وإنما وليه ولي الأمر ومثل هذا إذا قتله قاتل كان للإمام قتل قاتله لأنه وليه وكان له العفو عنه إلى الديه لئلا تضيع حقوق المسلمين فإذا قدر أن عثمان عفا عنه ورأى قدر الدية أن يعطيها لآل عمر لما كان على عمر من الدين فإنه كان عليه ثمانون ألفا وأمر أهله أن يقضوا دينه من أموال عصبته عاقلته بني عدي وقريش فإن عاقلة الرجل هم الذين يحملون كله والدية لو طالب بها عبيد الله أو عصبة عبيد الله إذا كان قتله خطأ أو عفا عنه إلى الدية فهم الذين يؤدون دين عمر فإذا أعان بها في دين عمر كان هذا من محاسن عثمان التي يمدح بها لا يذم
وقد كانت أموال بيت المال في زمن عثمان كثيرة وكان يعطى الناس عطاء كثيرا أضعاف هذا فكيف لا يعطى هذا لآل عمر وبكل حال فكانت مسألة اجتهادية وإذا كانت مسألة اجتهادية وقد رأى طائفة كثيرة من الصحابة أن لا يقتل ورأى آخرون أن يقتل لم ينكر على عثمان ما فعله باجتهاده ولا على علي ما قاله باجتهاده
وقد ذكرنا تنازع العلماء في قتل الأئمة هل هو من باب الفساد الذي يجب قتل صاحبه حتما كالقاتلين لأخذ المال أم قتلهم كقتل الآحاد الذين يقتل أحدهم الآخر لغرض خاص فيه فيكون على قاتل أحدهم القود وذكرنا في ذلك قولين وهما قولان في مذهب أحمد وغيره وذكرهما القاضي أبو يعلى وغيره
فمن قال إن قتلهم حد قال إن جنايتهم توجب من الفتنة والفساد أكثر مما يوجبه جناية بعض قطاع الطريق لأخذ المال فيكون قاتل الأئمة من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا
ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان
فأمر بقتل الواحد المريد لتفريق الجماعة ومن قتل إمام المسلمين فقد فرق جماعتهم
ومن قال هذا قال إن قاتل عمر يجب قتله حتما وكذلك قتله عثمان يجب قتلهم حتما وكذلك قاتل علي يجب قتله حتما
وبهذا يجاب عن ابنه الحسن بن علي وغيره من يعترض عليهم فنقول كيف قتلوا قاتل علي وكان في ورثته صغار وكبار والصغار لم يبلغوا
فيجاب عن الحسن بجوابين أحدهما أن قتله كان واجبا حتما لأن قتل علي وأمثاله من أعظم المحاربة لله ورسوله والفساد في الأرض
ومنهم من يجيب بجواز انفراد الكبار بالقود كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين
وإذا كان قتل عمر وعثمان وعلي ونحوهم من باب المحاربة فالمحاربة يشترك فيها الردء والمباشر عند الجمهور فعلى هذا من أعان على قتل عمر ولو بكلام وجب قتله وكان الهرمزان ممن ذكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب
وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجبا ولكن كان قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه
وأما قوله إن عليا كان يريد قتل عبيد الله بن عمر فهذا لو صح كان قدحا في علي
والرافضة لا عقول لهم يمدحون بما هو إلى الذم أقرب فإنها مسألة اجتهاد وقد حكم حاكم بعصمة الدم فكيف يحل لعلي نقضه وعلي ليس ولي المقتول ولا طلب ولي المقتول القود وإذا كان حقه لبيت المال فللإمام أن يعفو عنه وهذا مما يذكر في عفو عثمان وهو أن الهرمزان لم يكن له عصبة إلا السلطان وإذا قتل من لا ولى له كان الإمام أن يقتل قاتله وله أن لا يقتل قاتله ولكن يأخذ الدية والدية حق للمسلمين فيصرفها في مصارف الأموال وإذا ترك لآل عمر دية مسلم كان هذا بعض ما يستحقونه على المسلمين
وبكل حال فلم يكن بعد عفو عثمان وحكمه بحقن دمه يباح قتله أصلا وما أعلم في هذا نزاعا بين المسلمين فكيف يجوز أن ينسب إلى علي مثل ذلك
ثم يقال يا ليت شعري متى عزم علي على قتل عبيد الله ومتى تمكن علي من قتل عبيد الله أو متى تفرغ له حتى ينظر في أمره
وعبيد الله كان معه ألوف مؤلفة من المسلمين مع معاوية وفيهم خير من عبيد الله بكثير وعلي لم يمكنه عزل معاوية وهو عزل مجرد أفكان يمكنه قتل عبيد الله
ومن حين مات عثمان تفرق الناس وعبد الله بن عمر الرجل الصالح لحق بمكة ولم يبايع أحدا ولم يزل معتزل الفتنة حتى اجتمع الناس على معاوية مع محبته لعلي ورؤيته له أنه هو المستحق للخلافة وتعظيمه له وموالاته له وذمه لمن يطعن عليه ولكن كان لا يرى الدخول في القتال بين المسلمين ولم يمتنع عن موافقة على إلا في القتال
وعبيد الله بن عمر لحق معاوية بعد مقتل عثمان كما لحقه غيره ممن كانوا يميلون إلى عثمان وينفرون عن علي ومع هذا فلم يعرف لعبيدالله من القيام في الفتنة ما عرف لمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي وأمثالهما فإنه بعد القتال وقع الجميع في الفتنة وأما قبل مقتل عثمان فكان أولئك ممن أثار الفتنة بين المسلمين
ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان يجعل لا حرمة له وهو إمام المسلمين المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبين
ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء وأصبر الناس على من نال من عرضه وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروى أنه قال لمماليكه من كف يده فهو حر وقيل له تذهب إلى مكة فقال لا أكون ممن الحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال لا أفارق دار هجرتي فقيل له فقاتلهم فقال لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف
فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين ومعلوم أن الدماء الكثيرة التي سفكت باجتهاد علي ومن قاتله لم يسفك قبلها مثلها من دماء المسلمين فإذا كان ما فعله علي مما لا يوجب القدح في علي بل كان دفع الظالمين لعلي من الخوارج وغيرهم من النواصب القادحين في علي واجبا فلأن يجب دفع الظالمين القادحين في عثمان بطريق الأولى والأحرى إذ كان بعد عثمان عن استحلال دماء المسلمين أعظم من بعد علي عن ذلك بكثير كثير وكان من قدح في عثمان بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل الحدود كان قد طرق من القدح في علي ماهو أعظم من هذا وسوغ لمن أبغض عليا وعاداه وقاتله أن يقول إن عليا عطل الحدود الواجبة على قتلة عثمان وتعطيل تلك الحدود إن كانت واجبة أعظم فسادا من تعطيل حد وجب بقتل الهرمزان
وإذا كان من الواجب الدفع عن علي بأنه كان معذورا باجتهاد أو عجز فلأن يدفع عن عثمان بأنه كان معذورا بطريق الأولى
وأما قوله أراد عثمان تعطيل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين
فهذا كذب عليهما بل عثمان هو الذي أمر عليا بإقامة الحد عليه كما ثبت ذلك في الصحيح وعلي خفف عنه وجلده أربعين ولو جلده ثمانين لم ينكر عليه عثمان
وقول الرافضي إن عليا قال لا يبطل حد الله وأنا حاضر
فهو كذب وإن كان صدقا فهو من أعظم المدح لعثمان فإن عثمان قبل قول علي ولم يمنعه من إقامة الحد مع قدرة عثمان على منعه لو أراد فإن عثمان كان إذا أراد شيئا فعله ولم يقدر علي على منعه وإلا فلو كان علي قادرا على منعه مما فعله من الأمور التي أنكرت عليه ولم يمنعه مما هو عنده منكر مع قدرته كان هذا قدحا في علي فإذا كان عثمان أطاع عليا فيما أمره به من إقامة الحد دل ذلك على دين عثمان وعدله
وعثمان ولى الوليد بن عقبة هذا على الكوفة وعندهم أن هذا لم يكن يجوز فإن كان حراما وعلي قادر على منعه وجب على علي منعه فإذا لم يمنعه دل على جوازه عند علي أو على عجز علي وإذا عجز عن منعه عن الإمارة فكيف لا يعجز عن ضربه الحد فعلم أن عليا كان عاجزا عن حد الوليد لولا أن عثمان أراد ذلك فإذا أراده عثمان دل على دينه
وقائل هذا يدعي أن الحدود ما زالت تبطل وعلي حاضر حتى في ولايته يدعون أنه كان يدع الحدود خوفا وتقية فإن كان قال هذا ولم يقله إلا لعلمه بأن عثمان وحاشيته يوافقونه على إقامة الحدود وإلا فلو كان يتقي منهم لما قال هذا ولا يقال إنه كان أقدر منهم على ذلك فإن قائل هذا يدعي أنه كان عاجزا لا يمكنه إظهار الحق بينهم
ودليل هذا أنه لم يمكنه عندهم إقامة الحد على عبيد الله بن عمر وعلى نواب عثمان وغيرهم
والرافضة تتكلم بالكلام المتناقض الذي ينقض بعضه بعضا
وأما قوله إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة فصار سنة إلى الآن
فالجواب أن عليا رضي الله عنه كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة هذا الأذان كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقاتلتهم التي عجز عنها فكان علي إزالة هذه البدعة من الكوفة ونحوها من أعماله أقدر منه على إزالة أولئك ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه
فإن قيل كان الناس لا يوافقونه على إزالتها
قيل فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وإلا فهؤلاء الذين هم أكابر الصحابة لو أنكروا لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر هذا ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان
وقول القائل هي بدعة إن أراد بذلك أنه لم يكن يفعل قبل ذلك فكذلك قتال أهل القبلة بدعة فإنه لم يعرف أن إماما قاتل أهل القبلة قبل علي وأين قتال أهل القبلة من الأذان
فإن قيل بل البدعة ما فعل بغير دليل شرعي
قيل لهم فمن أين لكم أن عثمان فعل هذا بغير دليل شرعي
وإن عليا قاتل أهل القبلة بدليل شرعي
وأيضا فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحدث في خلافته العيد الثاني بالجامع فإن السنة المعروفة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان أنه لا يصلي في المصر إلا جمعة واحدة ولا يصلى يوم النحر والفطر إلا عيد واحد والجمعة كانوا يصلونها في المسجد والعيد يصلونه بالصحراء وكان النبي ﷺ يخطب يوم الجمعة وعرفة قبل الصلاة وفي العيد بعد الصلاة واختلف عنه في الاستسقاء
فلما كان على عهد علي قيل له إن بالبلد ضعفاء لا يستطيعون الخروج إلى المصلى فاستخلف عليهم رجلا صلى بالناس بالمسجد قيل إنه صلى ركعتين بتكبير وقيل بل صلى أربعا بلا تكبير
وأيضا فإن ابن عباس عرف في خلافة علي بالبصرة ولم يرو عن علي أنه أنكر ذلك
وما فعله عثمان من النداء الأول اتفق عليه الناس بعده أهل المذاهب الأربعة وغيرهم كما اتفقوا على ما سنه أيضا عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد
وأما ما سنة علي من إقامة عيدين فتنازع العلماء فيه وفي الجمعة على ثلاثة أقوال قيل إنه لا يشرع في المصر إلا جمعة واحدة وعيد واحد كقول مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة لأنه السنة وقيل بل يشرع تعدد صلاة العيد في المصر دون الجمعة كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين لكل قائل هذا بناه على أن صلاة العيد لا يشترط لها الإقامة والعدد كما يشترط للجمعة وقالوا إنها تصلى في الحضر والسفر وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين وقيل بل يجوز عند الحاجة أن تصلي جمعتان في المصر كما صلى على عيدين للحاجة وهذا مذهب أحمد بن حنبل في المشهور عنه وأكثر أصحاب أبي حنيفة وأكثر المتأخرين من أصحاب الشافعي وهؤلاء يحتجون بفعل علي بن أبي طالب لأنه من الخلفاء الراشدين
وكذلك أحمد بن حنبل جوز التعريف بالأمصار واحتج بأن ابن عباس فعله بالبصرة وكان ذلك في خلافة علي وكان ابن عباس نائبه بالبصرة فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون عليا فيما سنه كما يتبعون عمر وعثمان فيما سناه وآخرون من العلماء كمالك وغيره لا يتبعون عليا فيما سنه وكلهم متفقون على اتباع عمر وعثمان فيما سناه فإن جاز القدح في عمر وعثمان فيما سناه وهذا حاله فلأن يقدح في علي فيما سنه وهذا حاله بطريق الأولى
وإن قيل بأن ما فعله على سائغ لا يقدح فيه لأنه باجتهاده أو لأنه سنة يتبع فيه فلأن يكون ما فعله عمر وعثمان كذلك بطريق الأولى ومن هذا الباب ما يذكر مما فعله عمر مثل تضعيف الصدقة التي هي جزية في المعنى على نصارى بني تغلب وأمثال ذلك
ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئا فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين ولم ينكروه عليه واتبعه المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة وهم قد زادوا في الأذان شعارا لم يكن يعرف على عهد النبي ﷺ ولا نقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في الأذان وهو قولهم وحي على خير العمل
وغاية ما ينقل إن صح النقل أن بعض الصحابة كابن عمر رضي الله عنهما كان يقول ذلك أحيانا على سبيل التوكيد كما كان بعضهم يقول بين النداءين حي على الصلاة حي على الفلاح وهذا يسمى نداء الأمراء وبعضهم يسميه التثويب ورخص فيه بعضهم وكرهه أكثر العلماء ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة ذلك
ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان الذي كان يؤذنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله ﷺ بالمدينة وأبو محذورة بمكة وسعد القرظ في قباء لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه كما نقلوا ما هو أيسر منه فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان من ذكر هذه الزيادة علم أنها بدعة باطلة
وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذنون بأمر النبي ﷺ ومنه تعلموا الأذان وكانوا يؤذنون في أفضل المساجد مسجة مكة ومسجد المدينة ومسجد قباء وأذانهم متواتر عند العامة والخاصة
ومعلوم أن نقل المسلمين للأذان أعظم من نقلهم إعراب آية كقوله وأرجلكم ونحو ذلك ولا شيء أشهر في شعائر الإسلام من الأذان فنقله أعظم من نقل سائر شعائر الإسلام
وإن قيل فقد اختلف في صفته
قيل بل كل ما ثبت به النقل فهو صحيح سنة ولا ريب أن تعليم النبي ﷺ أبا محذورة الأذان وفيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان ولا ريب أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولم يكن في أذانه ترجيع فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب ونقل تثنيتها صحيح بلا ريب وأهل العلم بالحديث يصححون هذا وهذا
وهذا مثل أنواع التشهدات المنقولات ولكن اشتهر بالحجاز آخرا إفراد الإقامة التي علمها النبي ﷺ بلالا وأما الترجيع فهو يقال سرا وبعض الناس يقول إن النبي ﷺ علمه لأبي محذورة ليثبت الإيمان في قلبه لا أنه من الأذان فقد اتفقوا على أنه لقنه أبا محذورة فلم يبق بين الناس خلاف في نقل الأذان المعروف
وأما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى
فالجواب أما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل
فإن أراد أنهم خالفوه خلافا يبيح قتله أو أنهم كلهم أمروا بقتله ورضوا بقتله وأعانوا على قتله فهذا مما يعلم كل أحد أنه من أظهر الكذب فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة
قال ابن الزبير لعنت قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب يعني هربوا ليلا وأكثر المسلمين كانوا غائبين وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه
وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله أو في كل ما أنكر عليه فهذا أيضا كذب فما من شىء أنكر عليه إلا وقد وافقه عليه كثير من المسلمين بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة والذين وافقوا عثمان على ما أنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليا على ما أنكر عليه إما في كل الأمور وإما في غالبها وبعض المسلمين أنكر عليه بعض الأمور وكثير من ذلك يكون الصواب فيه مع عثمان وبعضه يكون فيه مجتهدا ومنه ما يكون المخالف له مجتهدا إما مصيبا وإما مخطئا
وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون وإن قدر أن فيهم من قد يغفر الله له فهذا لا يمنع كون عثمان قتل مظلوما
والذي قال له غبت عن بدر وبيعة الرضوان وهربت يوم أحد قليل جدا من المسلمين ولم يعين منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك وقد اجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال وقالوا يوم بدر غاب بأمر النبي ﷺ ليخلفه عن ابنة النبي ﷺ فضرب له النبي ﷺ بسهمه وأجره
ويوم الحديبية بايع النبي ﷺ عن عثمان بيده ويد رسول الله ﷺ خير له من يده لنفسه وكانت البيعة بسببه فإنه لما أرسله النبي ﷺ رسولا إلى أهل مكة بلغه انهم قتلوه فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت فكان عثمان شريكا في البيعة مختصا بإرسال النبي ﷺ له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله ﷺ وأصحابه فامتنع من ذلك وقال حتى يطوف به رسول الله ﷺ وكان رسول الله ﷺ أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة فهم يحمونه
وأما التولي يوم أحد فقد قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ماكسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم سورة آل عمران 155
فقد عفا الله عن جميع المتولين يوم أحد فدخل في العفو من هو دون عثمان فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته
فصل
قال الرافضي وقد ذكر الشهرستاني وهو من أشد المتعصبين على الإمامية أن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي ﷺ فأول تنازع وقع في مرضه ما رواه البخاري بإسناده إلى أبن عباس قال لما اشتد بالنبي ﷺ مرضه الذي توفي فيه فقال ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده
فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله وكثر اللغط فقال النبي ﷺ قوموا عني لا ينبغي عند التنازع
الجواب أن يقال ما ينقله الشهرستاني وأمثاله من المصنفين في الممل والنحل عامته مما ينقله بعضهم عن بعض وكثير من ذلك لم يحرر فيه أقوال المنقول عنهم ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله بل هو ينقل من كتب من صنف المقالات قبله مثل أبي عيسى الوراق وهو من المصنفين للرافضة المتهمين في كثر مما ينقلونه ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة وينقل أيضا من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة
ولهذا تجد نقل الأشعري أصح من نقل هؤلاء لأنه أعلم بالمقالات وأشد احترازا من كذب الكذابين فيها مع أنه يوجد في نقله ونقل عامة من ينقل المقالات بغير ألفاظ أصحابها ولا إسناد عنهم من الغلط ما يظهر به الفرق بين قولهم وبين ما نقل عنهم حتى في نقل الفقهاء بعضهم مذاهب بعض فإنه يوجد فيها غلط كثير وإن لم يكن الناقل ممن يقصد الكذاب بل يقع الغلط على من ليس له غرض في الكذب عنه بل هو معظم له أو متبع له
ورسول الله ﷺ كل المؤمنين متفقون على موالاته وتعظيمه ووجوب الباعة ومع هذا فغير علماء الحديث يكثر في نقلهم الغلط عليه ويزيدون في كلامه وينقصون نقصا يفسد المعنى الذي قصده بل يغلطون في معرفة أموره المشهورة المتواترة عند العامة وغيرهم ونحن وإن كنا قد بينا كذب كثير مما ينقله هذا الرافضي فمعلوم أن كثيرا ممن ينقل ذلك لم يتعمد الكذب لا هذا ولا نحوه لكن وقع إما تعمدا للكذب من بعضهم وإما غلطا وسوء حفظ ثم قبله الباقون لعدم علمهم ولهواهم فإن الهوى يعمى ويصم وصاحب الهوى يقبل ما وافق هواه بلا حجة توجب صدقة ويرد ما خالف هواه بلا حجة توجب رده
وليس في الطوائف أكثر تكذيبا بالصدق وتصديقا بالكذب من الرافضة فإن رؤوس مذهبهم وأئمته والذين ابتدعوه وأسسوه كانوا منافقين زنادقة كما ذكر ذلك عن غير واحد من أهل العلم
وهذا ظاهر لمن تأمله بخلاف قول الخوارج فإنه كان عن جهل بتأول القرآن وغلو في تعظيم الذنوب وكذلك قول الوعيدية والقدرية كان عن تعظيم الذنوب وكذلك قول المرجئة كان أصل مقصودهم نفى التكفير عمن صدق الرسل ولهذا رؤوس المذاهب التي ابتدعوها لم يقل أحد أنهم زنادقة منافقون بخلاف الرافضة فإن رؤوسهم كانوا كذلك مع أن كثيرا منهم ليسوا منافقين ولا كفارا بل بعضهم له إيمان وعمل صالح ومنهم من هو مخطىء يغفر له خطاياه ومنهم من هو صاحب ذنب يرجى له مغفرة الله لكن الجهل بمعنى القرآن والحديث شامل لهم كلهم فليس فيهم إمام من أئمة المسلمين في العلم والدين
وأصل المذهب إنما ابتدعه زنادقة منافقون مرادهم إفساد دين الإسلام وقد رأيت كثيرا من كتب أهل المقالات التي ينقلون فيها مذاهب الناس ورأيت أقوال أولئك فرأيت فيها اختلافا كثيرا
وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم
ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه ونفس ما بعث الله به رسوله وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل الذي حكوا فيه أقوال الناس لا ينقلونه لا تعمدا منهم لتركه بل لأنهم لم يعرفوه بل ولا سمعوه لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين
وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها وفيه من الأقوال وتحريرها ما لا يوجد في غيرها وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب ما فهمه وظنه قولهم وذكر أنه يقول بكل ما نقله عنهم وجاء بعده من أتباعه كابن فورك من لم يعجبه ما نقله عنهم فنقص من ذلك وزاد مع هذا فلكون خبرته بالكلام أكثر من خبرته بالحديث ومقالات السلف وأئمة السنة قد ذكر في غير موضع عنهم أقوالا في النفي والإثبات لا تنقل عن أحد منهم أصلا مثل ذلك الإطلاق لا لفظا ولا معنى بل المنقول الثابت عنهم يكون فيه تفصيل في نفي ذلك اللفظ والمعنى المراد وإثباته وهم منكرون الإطلاق الذي أطلقه من نقل عنهم ومنكرون لبعض المعنى الذي أراده بالنفي والإثبات
والشهرستاني قد نقل في غير موضع أقوالا ضعيفة يعرفها من يعرف مقالات الناس مع أن كتابه أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات وأجود نقلا لكن هذا الباب وقع فيه ما وقع ولهذا لما كان خبيرا بقول الأشعرية وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين وأما الصحابة والتابعون وائمة السنة والحديث فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة وإنما سمعوا جملا تشتمل على حق وباطل
ولهذا إذا اعتبرت مقالاتهم الموجودة في مصنفاتهم الثابتة بالنقل عنهم وجد من ذلك ما يخالف تلك النقول عنهم وهذا من جنس نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات والمقاطيع وغيرهما مما فيه صحيح وضعيف
وإذا كان كذلك فنقول ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يدفع بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم فإن اليقين لا يزول بالشك ونحن قد تيقنا ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا وما يصدق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم بطلانها
وأما قوله إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية
فليس كذلك بل يميل كثير إلى أشياء من أمورهم بل يذكر أحيانا أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه بعض الناس بأنه من الإسماعيلية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه شواهد من كلامه وسيرته وقد يقال هو مع الشيعة بوجه ومع أصحاب الأشعرى بوجه
وقد وقع في هذا كثير من أهل الكلام والوعاظ وكانوا يدعون بالأدعية المأثورة في صحيفة علي بن الحسين وإن كان أكثرها كذبا على علي ابن الحسين
وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم فإن هذا الكتاب كتاب الملل والنحل صنفه لرئيس من رؤسائهم وكانت له ولاية ديوانية وكان للشهرستاني مقصود في استعطافه له وكذلك صنف له كتاب المصارعة بينه وبين ابن سينا لميله إلى التشيع والفلسفة وأحسن أحواله أن يكون من الشيعة إن لم يكن من الإسماعيلية أعني المصنف له ولهذا تحامل فيه للشيعة تحاملا بينا، وإذا كان في غير ذلك من كتبه يبطل مذهب الإمامية فهذا يدل على المداهنة لهم في هذا الكتاب لأجل من صنفه له
وأيضا فهذه الشبهة التي حكاها الشهرستاني في أول كتاب الملل والنحل عن إبليس في مناظرته للملائكة لا تعلم إلا بالنقل وهو لم يذكر لها إسنادا بل لا إسناد لها أصلا فإن هذه لم تنقل عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الصحابة ولا عن أئمة المسلمين المشهورين ولا هي أيضا مما هو معلوم عند أهل الكتاب
وهذه لا تعلم إلا بالنقل عن الأنبياء وإنما توجد في شيء من كتب المقالات وبعض كتب النصارى
والشهرستاني أكثر ما ينقله من المقالات من كتب المعتزلة وهم يكذبون بالقدر فيشبه والله أعلم أن يكون بعض المكذبين بالقدر وضع هذه الحكاية ليجعلها حجة على المثبتين للقدر كما يضعون شعرا على لسان يهودي وغير ذلك فإنا رأينا كثيرا من القدرية يضعون على لسان الكفار ما فيه حجة على الله ومقصودهم بذلك التكذيب بالقدر وأن من صدق به فقد جعل للخلق حجة على الخالق كما وجدنا كثيرا من الشيعة يضع حججا لهم على لسان بعض اليهود ليقال لأهل السنة أجيبوا هذا اليهودي ويخاطب بذلك من لا يحسن أن يبين فساد تلك الحجة من جهال العامة
وأما قول القائل إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي ﷺ فهذا من أظهر الكذب الباطل فإنه إن كان قصده أن هذا أول ذنب أذنب فهذا باطل ظاهر البطلان
وإن كان قصده أن هذا أول اختلاف وقع بعد تلك الشبهة فهو باطل من وجوه
أحدها أن شبهة إبليس لم توقع خلافا بين الملائكة ولا سمعها الآدميون منه حتى يوقع بينهم خلافا
والثاني أن الخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح واختلاف الناس قبل المسلمين أعظم بكثير من اختلاف المسلمين
وقد قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سورة البقرة 213
قال ابن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك
وقال تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا سورة يونس 1وقال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم سورة هود 118 11وقالت المائكة لما قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك سورة البقرة 3وقد أخبر الله تعالى أن ابني آدم قتل أحدهما أخاه وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها فإنه أول من سن القتل
وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد سورة البقرة 253
وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات سورة آل عمران 10فهذه نصوص القرآن تخبر بالاختلاف والتفرق الذي كان في الأمم قبلنا وقال ﷺ افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة
وقد أخبر الله من تكذيب قوم عاد وثمود وفرعون لأنبيائهم ما فيه عبرة
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال ذروني ماتركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
وقال تعالى عن أهل الكتاب قبلنا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله سورة المائدة 6وقال تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة سورة المائدة 1وأمثال ذلك مما يعلم بالاضطرار في الأمم قبلنا من الاختلاف
والنزاع والخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في أهل الملل فكل من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب كان الخلاف بينهم أقل
فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثالهم أمرلا يحصيه إلا الله وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعا كالرافضة فينا وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم ثم بعد ذلك اختلاف أهل الحديث وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم لأن ميراثهم من النبوة أعظم من ميراث غيرهم فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به فقال واعتصموا بحبل الله جميعا سورة آل عمران 103
فكيف يقال مع الاختلاف الذي في الأمم قبلنا إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي ﷺ وكم قد وقع من الفساد والاختلاف قبل هذا
والتحديد يشبهة إبليس والاختلاف الواقع في المرض باطل فأما شبهة إبليس فلا يعرف لها أثر إسناد كما تقدم والكذب ظاهر عليها
وأما ما وقع في مرض النبي ﷺ فقد كان يقع قبل ذلك ما هو أعظم منه وقد وقع قتال بين أهل قباء حتى خرج النبي ﷺ ليصلح بينهم
وقد تنازع المسلمون يوم بدر في الأنفال فقال الآخذون هي لنا وقال الذاهبون خلف العدو هي لنا وقال الحافظون لرسول الله ﷺ هي لنا حتى أنزل الله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم سورة الأنفال وقد كان بين الأنصار خلاف في قصة الإفك حتى هم الحيان بالاقتتال فسكنهم النبي ﷺ في شخص هل يجوز قتله أم لا يجوز
وقد وقع نزاع بين الأنصار مرة بسبب يهودي كان يذكرهم حروبهم في الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج حتى أختصموا وهموا بالقتال حتى أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هوي إلى صراط مستقيم آل عمران 100 10وقد ثبت في الصحيح أنهم كانوا في سفر فاقتتل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار فقال النبي ﷺ أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم دعوها فإنها منتنة
وقد كان الصحابة يتنازعون في مراد النبي ﷺ في حياته كما ثبت في الصحيحين عن عمر أن النبي ﷺ قال لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في الطريق فقال بعضهم نصلي ولا نترك الصلاة وقال بعضهم لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا بعد غروب الشمس فما عنف النبي ﷺ أحدا منهم
وفي البخاري عن ابن الزبير أنه لما قدم على النبي ﷺ وفد تميم قال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد وقال عمر أمر الأقرع بن حابس فقال ما أردت إلا خلافي فقال ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية سورة الحجرات 2 فكان عمر بعد ذلك لا يحدثه إلا كأخي السرار
وقد كان النبي ﷺ يأمر بشيء أو يأذن فيه فيراجع فيه فينسخ الله ذلك الأمر الأول كما أنه لما أمرهم بكسر الأواني التي فيها لحوم الحمر قالوا ألا نريقها قال أريقوها، ولما كانوا في سفر استأذنوه في نحر ظهورهم فأذن لهم حتى جاه عمر فقال يا رسول الله إن أذنت في ذلك نفد ظهرهم ولكن اجمع ما معهم وادع الله تبارك وتعالى فيه ففعل رسول الله ﷺ ذلك
ومن ذلك حديث أبي هريرة لما أعطاه النبي ﷺ بغلته وقال اذهب فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فبشره بالجنة فلقيه عمر فقال فضربه في صدره وقال ارجع فرجع إلى رسول الله ﷺ وقال له عمر فلا تفعل فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون قال رسول الله ﷺ فخلهم وأمثال ذلك كثير
الوجه الثالث أن الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فلما كان يوم الخميس هم أن يكتب كتابا فقال عمر ماله أهجر فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمي أو هو مما يقول على عادته فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى فكان هذا مما خفى على عمر كما خفى عليه موت النبي ﷺ بل أنكره ثم قال بعضهم هاتوا كتابا وقال بعضهم لا تأتوا بكتاب فرأى النبي ﷺ أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة لأنهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك فلا يرفع النزاع فتركه
ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت إذ لو كان كذلك لما ترك ﷺ ما أمره الله به لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر ورأى أن الخلاف لا بد أن يقع وقد سأل ربه لأمته ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه إياها وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه إياها وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعه إياها
وهذا ثبت في الصحيح وقال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب الكتاب فإنها رزية أي مصيبة في حق الذين شكوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وطعنوا فيها
وابن عباس قال ذلك لما ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم وإلا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبما أفتى أبو بكر وعمر وهذا ثابت من حديث ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس
ومن عرف حال ابن عباس علم أنه كان يفضل أبا بكر وعمر على علي رضي الله عنه
ثم إن النبي ﷺ ترك كتابة الكتاب باختياره فلم يكن في ذلك نزاع ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه ومثل هذا النزاع قد كان يقع في صحته ما هو أعظم منه والذي وقع بين أهل قباء وغيرهم كان أعظم من هذا بكثير حتى أنزل فيه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما سورة الحجرات 9 لكن روى أنه كان بينهم قتال بالجريد والنعال
ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في شىء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة على نصا جليا قاطعا للعذر فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا
وأما قوله الخلاف الثاني الواقع في مرضه أنه قال جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه فقال قوم يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز وقال قوم قد اشتد مرضه ولا يسع قلوبنا المفارقة
فالجواب أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل فإن النبي ﷺ لم يقل لعن الله من تخلف عنه ولا نقل هذا بإسناد ثبت بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلا ولا امتنع أحد من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج بل كان أسامة هو الذي توقف في الخروج لما خاف أن يموت النبي ﷺ فقال كيف أذهب وأنت هكذا أسأل عنك الركبان فأذن له النبي ﷺ في المقام ولو عزم على أسامة في الذهاب لأطاعة ولو ذهب أسامة لم يتخلف عنه أحد ممن كان معه وقد ذهبوا جميعهم معه بعد موت النبي ﷺ ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه
وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم لكن روى أن عمر كان فيهم وكان عمر خارجا مع أسامة لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه فأذن له مع أن النبي ﷺ لما مات كان أحرص الناس على تجهيز أسامة هو وأبو بكر وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأن لا يجهزه خوفا عليهم من العدو فقال أبو بكر رضي الله عنه والله لا أحل راية عقدها النبي ﷺ وكان إنفاذه من أعظم المصالح التي فعلها أبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته ولم يكن في شىء من ذلك نزاع مستقر أصلا
والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقله من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول الكبار لأنه لم يكن يعرف هذا هو وأمثاله من أهل الكلام وإنما ينقلون ما يحدثونه في كتب المقالات وتلك فيها أكاذيب كثيرة من جنس مافي التواريخ
ولكن أهل الفرية يزعمون أن الجيش كان فيه أبو بكر وعمر وأن مقصود الرسول كان إخراجهما لئلا ينازعا عليا وهذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة وأعظم الناس تعمدا للكذب وإلا فالرسول ﷺ طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس والناس كلهم حاضرون ولو ولى رسول الله ﷺ على الناس من ولاه لأطاعوه وكان المهاجرون والأنصار يحاربون من نازع أمر الله ورسوله وهم الذين نصروا دينه أولا وآخرا
ولو أراد النبي ﷺ أن يستخلف عليا في الصلاة هل كا يمكن أحدا أن يرده ولو أراد تأميره على الحج على أبي بكر ومن معه هل كان ينازعه أحد ولو قال لأصحابه هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي هل كان يقدر أحد أن يمنعه ذلك
ومعه جماهير المسلمين من المهاجرين والأنصار كلهم مطيعون لرسول الله ﷺ ليس فيهم من يبغض عليا ولا من قتل علي أحدا من أقاربه
وقد دخل النبي ﷺ مكة عام الفتح في عشرة آلاف سليم ألف مزينة ألف وجهينة ألف وغفار ألف ونحو ذلك والنبي ﷺ يقول أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها ويقول قريش والأنصار وأسلم وغفار وجهينة موالى دون الناس ليس لهم مولى دون الله ورسوله
وهؤلاء لم يقتل على أحدا منهم ولا أحدا من الأنصار وقد كان عمر رضي الله عنه أشد عداوة منذ أسلم للمشركين من على فكانوا يبغضونه أعظم من بغضهم لسائر الصحابة وكان الناس ينفرون عن عمر لغلظته وشدته أعظم من نفورهم عن علي حتى كره بعضهم توليه أبي بكر له وراجعوه لبغض النفوس للحق لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم فلم يكن قط سبب يدعو المسلمين إلى تأخير من قدمه النبي ﷺ ونص عليه وتقدم من يريد تأخيره وحرمانه
ولو أراد إخراجهما في جيش أسامة خوفا منهما لقال للناس لا تبايعوهما فياليت شعري ممن كان يخاف الرسول فقد نصره الله وأعزه وحوله المهاجرون والأنصار الذين لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لفعلوا
وقد أنزل الله سورة براءة وكشف فيها حال المنافقين وعرفهم المسلمين وكانوا مدحوضين مذمومين عند الرسول وأمته
========
40
منهاج السنة النبوية/40
وأبو بكر وعمر كانا أقرب الناس عنده وأكرم الناس عليه وأحبهم إليه وأخصهم به وأكثر الناس له صحبة ليلا ونهارا وأعظمهم موافقة له ومحبة له وأحرص الناس على امتثال أمره وإعلاء دينه فكيف يجوز عاقل أن يكون هؤلاء عند الرسول من جنس المنافقين الذين كان أصحابه قد عرفوا إعراضه عنهم وإهانته لهم ولم يكن يقرب أحدا منهم بعد سورة براءة
بل قال الله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سورة الأحزاب 60 61 فانتهوا عن إظهار النفاق وانقمعوا
هذا وأبو بكر عنده أعز الناس وأكرمهم وأحبهم إليه
وأما قوله الخلاف الثالث في موته
فالجواب لا ريب أن عمر خفي عليه موته أولا ثم أقر به من الغد واعترف بأنه كان مخطئا في إنكار موته فارتفع الخلاف وليس لفظ الحديث كما ذكره الشهرستاني ولكن في الصحيحين عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمر فأبي أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه الآية سورة آل عمران 144 قال والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله قد أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها فأخبرني ابن المسيب أن عمر قال والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن رسول الله ﷺ قد مات
وأما قوله الخلاف الرابع في الإمامة وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينيه مثل ما سل على الإمامة في كل زمان
فالجواب أن هذا من أعظم الغلط فإنه ولله الحمد لم يسل سيف على خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة فضلا عن السيف ولا كان بينهم سيف مسلول علىشىء من الدين والأنصار تكلم بعضهم بكلام أنكره عليهم أفاضلهم كأسيد بن حضير وعباد بن بشر وغيرهما ممن هو أفضل من سعد بن عبادة نفسا وبيتا
فإن النبي ﷺ قد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه قال خير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني عبد الأشهل ثم دار بني الحارث بن الخزرج ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير
فأهل الدور الثلاثة المفضلة دار بني النجار وبني عبد الأشهل وبني الحارث بن الخزرج لم يعرف منهم من نازع في الإمامة بل رجال بني النجار كأبي أيوب الأنصارى وأبي طلحة وأبي بن كعب وغيرهم كلهم لم يختاروا إلا أبا بكر
وأسيد بن حضير هو الذي كان مقدم الأنصار يوم فتح مكة عن يسار النبي ﷺ وأبو بكر عن يمينه وهو كان من بني عبد الأشهل وهو كان يأمر ببيعة أبي بكر رضي الله عنه وكذلك غيره من رجال الأنصار
وإنما نازع سعد بن عبادة والحباب بن المنذر وطائفة قليلة ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق ولم يعرف أنه تخلف منهم إلا سعد بن عبادة وسعد وإن كان رجلا صالحا فليس هو معصوما بل له ذنوب يغفرها الله وقد عرف المسلمون بعضها وهو من أهل الجنة السابقين الأولين من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم
فما ذكره الشهرستاني من أن الأنصار اتفقوا على تقديمهم سعد بن عبادة هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك وهو وأمثاله وإن لم يتعمدوا الكذب لكن ينقلون من كتب من ينقل عمن يتعمد الكذب
وكذلك قول القائل إن عليا كان مشغولا بما أمره النبي ﷺ من دفنه وتجهيزه وملازمة قبره فكذب ظاهر وهو مناقض لما يدعونه فإن النبي ﷺ لم يدفن إلا بالليل لم يدفن بالنهار وقيل إنه إنما دفن من الليلة المقبلة ولم يأمر أحدا بملازمة قبره ولا لازم على قبره بل قبر في بيت عائشة وعلي أجنبي منها
ثم كيف يأمر بملازمة قبره وقد أمر بزعمهم أن يكون إماما بعده ولم يشتغل بتجهيزه علي وحده بل علي والعباس وبنو العباس ومولاه شقران وبعض الأنصار وأبو بكر وعمر وغيرهما على باب البيت حاضرين غسله وتجهيزه لم يكونوا حينئذا في بني ساعدة لكن السنة أن يتولى الميت أهله فتولى أهله غسله وأخروا دفنه ليصلي المسلمون عليه فإنهم صلوا عليه أفرادا واحدا بعد واحد رجالهم ونساؤهم خلق كثير فلم يتسع يوم الاثنين لذلك مع تغسيله وتكفينه بل صلوا عليه يوم الثلاثاء ودفن يوم الأربعاء
وأيضا فالقتال الذي كان في زمن علي لم يكن على الإمامة فإن أهل الجمل وصفين والنهروان لم يقاتلوا على نصب إمام غير علي ولا كان معاوية يقول أنا الإمام دون علي ولا قال ذلك طلحة والزبير، فلم يكن أحد ممن قاتل عليا قبل الحكمين نصب إماما يقاتل على طاعته فلم يكن شىء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعنا في خلافة الثلاثة ولا ادعاء للنص على غيرهم ولا طعنا في جواز خلافة علي
فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة كنزاع الرافضة والخوارج المعتزلة وغيرهم ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلا ولا قال أحد منهم إن الإمام المنصوص عليه هو علي ولا قال إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة ولا قال أحد منهم إن عثمان وعليا وكل من والاهما كافر
فدعوى المدعي أن أول سيف سل بين أهل القبلة كان مسلولا على قواعد الإمامة التي تنازع فيها الناس دعوى كاذبة ظاهرة الكذب يعرف كذبها بأدنى تأمل مع العلم بما وقع، وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العذل والبغي وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام لا على قاعدة دينية
ولو أن عثمان نازعه منازعون في الإمامة وقاتلهم لكان قتالهم من جنس قتال علي وإن كان ليس بينه وبين أولئك نزاع في القواعد الدينية
ولكن أول سيف سل على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج وقتالهم من أعظم القتال وهم الذين ابتدعوا أقوالا خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها وهم الذين تواترت النصوص بذكرهم كقوله ﷺ تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق
وعلي رضي الله عنه لم يقاتل أحدا على إمامة من قاتله ولا قاتله أحد على إمامته نفسه ولا ادعى أحد قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه لا عائشة ولا طلحة ولا الزبير ولا معاوية وأصحابه ولا الخوارج بل كل الأمة كانوا معترفين بفضل علي وسابقته بعد قتل عثمان وأنه لم يبق في الصحابة من يماثله في زمن خلافته كما كان عثمان كذلك لم ينازع قط أحد من المسلمين في إمامته وخلافته ولا تخاصم اثنان في أن غيره أحق بالإمامة منه فضلا عن القتال على ذلك وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما
وبالجملة فكل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علما ضروريا أنه لم يكن بين المسلمين مخاصمة بين طائفتين في إمامة الثلاثة فضلا عن قتال
وكذلك علي لم يتخاصم طائفتان في أن غيره أحق بالإمامة منه وإن كان بعض الناس كارها لولاية أحد من الأربعة فهذا لا بد منه فإن من الناس من كان كارها لنبوة محمد ﷺ فكيف لا يكون فيهم من يكره إمامة بعض الخلفاء
لكن لم يكن بين الطوائف نزاع ظاهر في ذلك بالقول فضلا عن السيف كما بين أهل العلم نزاع في مقالات معروفة بينهم في المسائل العملية والعقائد العلمية وقد تجتمع طائفتان فيتنازعون ويتناظرون في بعض المسائل
والخلفاء الأربعة لم يكن على عهدهم طائفتان يظهر بينهم النزاع لا في تقديم أبي بكر على من بعده وصحة إمامته ولا في تقديم عمر وصحة إمامته ولا في تقديم عثمان وصحة إمامته ولا في أن عليا مقدم بعد هؤلاء
وليس في الصحابة بعدهم من هو أفضل منه ولا تنازع طائفة من المسلمين بعد خلافة عثمان في أنه ليس في جيش علي أفضل منه لم تفضل طائفة معروفة عليه طلحة والزبير فضلا أن يفضل عليه معاوية،
فإن قاتلوه مع ذلك لشبهة عرضت لهم فلم يكن القتال له لا على أن غيره أفضل منه ولا أنه الإمام دونه ولم يتسم قط طلحة والزبير باسم الإمارة ولا بايعهما أحد على ذلك
وعلي بايعه كثير من المسلمين وأكثرهم بالمدينة على أنه أمير المؤمنين ولم يبايع طلحة والزبير أحد على ذلك ولا طلب أحد منهما ذلك ولا دعا إلى نفسه فإنهما رضي الله عنهما كانا أفضل وأجل قدرا من أن يفعلا مثل ذلك
وكذلك معاوية لم يبايعه أحد لما مات عثمان على الإمامة ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة ولا تسمى بأمير المؤمنين ولا سماه أحد بذلك ولا ادعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين
وعلي يسمى نفسه أمير المؤمنين في مدة خلافته والمسلمون معه يسمونه أمير المؤمنين لكن الذين قاتلوه مع معاوية ما كانوا يقرون له بذلك ولا دخلوا في طاعته مع اعترافهم بأنه ليس في القوم أفضل منه ولكن ادعوا موانع تمنعهم عن طاعته
ومع ذلك فلم يحاربوه ولا دعوه وأصحابه إلى أن يبايع معاوية ولا قالوا أنت وإن كنت أفضل من معاوية لكن معاوية أحق بالإمامة منك فعليك أن تتبعه وإلا قاتلناك
كما يقول كثير من خيار الشيعة الزيدية إن عليا كان أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ولكن كانت المصلحة الدينية تقتضي خلافة هؤلاء لأنه كان في نفوس كثير من المسلمين نفور عن على بسبب من قتله من أقاربهم فما كانت الكلمة تتفق على طاعته فجاز توليه المفضول لأجل ذلك
فهذا القول يقوله كثير من خيار الشيعة وهم الذين ظنوا أن عليا كان أفضل وعلموا أن خلافة أبي بكر وعمر حق لا يمكن الطعن فيها فجمعوا بين هذا وهذا بهذا الوجه
وهؤلاء عذرهم آثار سمعوها وأمور ظنوها تقتضي فضل على عليهم كما يقع مثل ذلك في عامة المسائل المتنازع فيها بين الأمة يكون الصواب مع أحد القولين ولكن الآخرون معهم منقولات ظنوها صدقا ولم يكن لهم خبرة بأنها كذب ومعهم من الآيات والأحاديث الصحيحة تأويلات ظنوها مرادة ومن النص ولم تكن كذلك ومعهم نوع من القياس والرأي ظنوه حقا وهو باطل
فهذا مجموع ما يورث الشبه في ذلك إذا خلت النفوس عن الهوى وقل أن يخلو أكثر الناس عن الهوي إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى سورة النجم 23
والمقصود أن جواز تولية المفضول لأسباب مانعه من توليه الفاضل هو قول ذهب إليه طوائف من السنة والشيعة ومع هذا فلم يكن الذين مع معاوية يقولون إنه الإمام والخليفة وإن على علي وأصحابه مبايعته وطاعته وإن كان علي أفضل لأن توليته أصلح
فهذا لم يكونوا يقولونه ولا يقاتلون عليه وهذا مما هو معلوم لعموم أهل العلم ولا بدأوا عليا وأصحابه بقتال أصلا
ولأن الخوارج بدأوه بذلك فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب لما اجتاز بهم فسألوه أن يحدثهم عن أبيه خباب بن الأرت فحدثهم حديثا في ترك الفتن وكان قصده رحمه الله رجوعهم عن الفتنة فقتلوه وبقي دمه مثل الشراك في الدماء فأرسل إليهم علي يقول سلموا إلينا قاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله ثم أغاروا على سرح الناس وهي الماشية التي أرسلوها تسرح مع الرعاء فلما رأى علي أنهم استحلوا دماء المسلمين وأموالهم ذكر النصوص التي سمعها من النبي ﷺ في صفتهم وفي الأمر بقتالهم ورأى تلك الصفة منطبقة عليهم فقاتلهم ونصره الله عليهم وفرح بذلك وسجد لله شكرا لما جاءه خبر المخدج أنه معهم فإنه هو كان العلامة التي أخبر بها النبي ﷺ واتفق الصحابة على قتالهم فقتاله للخوارج كان بنص من الرسول وبإجماع الصحابة
وأما قتال الجمل وصفين فقد ذكر علي رضي الله عنه أنه لم يكن معه نص من النبي ﷺ وإنما كان رأيا وأكثر الصحابة لم يوافقوه على هذا القتال بل أكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان مع أنهم معظمون لعلي يحبونه ويوالونه ويقدمونه على من سواه ولا يرون أن أحدا أحق بالإمامة منه في زمنه لكن لم يوافقوه في رأيه في القتال وكان معهم نصوص سمعوها من النبي ﷺ تدلهم على أن ترك القتال والدخول في الفتنة خير من القتال وفيها ما يقتضى النهي عن ذلك والآثار بذلك كثيرة معروفة
وأما معاوية فلم يقاتل معه من السابقين الأولين المشهورين أحد بل كان مع علي بعض السابقين ولم يكن مع معاوية أحد وأكثرهم اعتزلوا الفتنة
وقيل كان مع معاوية بعض السابقين الأولين وإن قاتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وكان ممن بايع تحت الشجرة وهم السابقون الأولون ذكر ذلك ابن حزم وغيره
والمقصود أن عليا لم يقاتله أحد على إمامة غيره ولا دعاه إلى أن يكون تحت ولاية غيره ثم إنه لما رفعت المصاحف ودعوا إلى التحكيم واتفقوا على ذلك وأجمعوا في العام القابل واتفق الحكمان على عزل علي ومعاوية وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين وقال أحد الحكمين هذا عزل صاحبه وأنا لم أعزل صاحبي ومال أبو موسى إلى تولية عبد الله بن عمر فغضب عبد الله لذلك ولم يكن اتفاقهما على عزل معاوية عن كونه أمير المؤمنين فإنه لم يكن قبل هذا أمير المؤمنين بل عزله عن ولايته على الشام فإنه كان يقول أنا ولاني الخليفتان عمر وعثمان فأنا باق على ولايتي حتى يجتمع الناس على الإمام
فاتفق الحكمان على أن يعزل علي عن إمرة المؤمنين ومعاوية عن إمرة الشام وكان مقصود أحدهما إبقاء صاحبه ولم يظهر ما في نفسه فلما أظهر ما في نفسه تفرق الناس عن غير اتفاق ولم يقع بعد هذا قتال
فلو قدر أن معاوية في هذا الحال صار يدعى أصحابه أنه أمير المؤمنين دون علي فلم يمكنهم أن يقولوا إن عليا بعد ذلك قوتل على إمامة معاوية
فتبين أن عليا لم يقاتله أحد على أن يكون غيره إماما وهو مطيع له فإن الذين كانوا يستحقون الإمامة أبو بكر وعمر وعثمان وكان هو أتقى لله من أن يخرج عليهم بقول أو فعل بل عثمان كان علي هو أول من بايعه قبل جمهور الناس
وأما معاوية فكان المسلمون أعلم وأعدل من أن يقولوا لعلي بايع معاوية بل يقولوا له بايع طلحة والزبير وهما من أهل الشورى
فعبد الرحمن بن عوف مات في خلافة عثمان وبقي بعد موت عثمان أربعة
فأما سعد فاعتزل الفتنة ولم يدخل في قتال أحد من المسلمين وعاش بعدهم كلهم وهو آخر العشرة موتا واعتزل بالعقيق ولما مات حمل على الأعناق فدفن بالبقيع
وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص كان سعد ابن أبي وقاص في إبله فجاء ابنه عمر فلما رآه سعد قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون في الملك بينهم فضرب سعد في صدره وقال اسكت سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي
وابنه عمر هذا كان يحب الرياسة ولو حصلت على الوجه المذموم ولهذا لما ولى ولاية وقيل له لا نوليك حتى تتولى قتال الحسين وأصحابه كان هو أمير تلك السرية
وأما سعد رضي الله عنه فكان مجاب الدعوة وكان مسددا في زمنه، وهو الذي فتح العراق وكسر جنود كسرى وكان يعلم أنه لا بد من وقوع فتن بين المسلمين
وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها
والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام أصلا ولم يختلفوا في شىء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا مسائل الأسماء والأحكام ولا مسائل الإمامة لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال فضلا عن الاقتتال بالسيف بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله مثبتين للأمر والنهى والوعد والوعيد مثبتين لحكمة الله في خلقه وأمره مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله مع إثباتهم للقدر
ثم لم يكن في زمنهم من يحتج للمعاصي بالقدر ويجعل القدر حجة لمن عصى أو كفر ولا من يكذب بعلم الله ومشيئته الشاملة وقدرته العامة وخلقه لكل شىء وينكر فضل الله وإحسانه ومنه على أهل الإيمان والطاعة وأنه هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة وخصهم بهذه النعمة دون أهل الكفر والمعصية ولا من ينكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين وأنه لا حول ولا قوة إلا به في كل دق وجل ولا من يقول إن الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن يدخل إبليس وفرعون الجنة ويدخل الأنبياء النار وأمثال ذلك
فلم يكن فيهم من يقول بقول القدرية النافية ولا القدرية الجبرية الجهمية ولا كان فيهم من يقول بتخليد أحد من أهل القبلة في النار ولا من يكذب بشفاعة النبي ﷺ في أهل الكبائر ولا من يقول إيمان الفساق كإيمان الأنبياء
بل قد ثبت عنهم بالنقول الصحيحة القول بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار بشفاعة النبي ﷺ وأن إيمان الناس يتفاضل وأن الإيمان يزيد وينقص
ومن نقل عن ابن عباس أنه كان يقول بتخليد قاتل النفس فقد كذب عليه كما ذكر ذلك ابن حزم وغيره وأما المنقول عن ابن عباس ففي توبة القاتل لا القول بتخليده وتوبته فيها روايتان عن أحمد كما قد بسط في موضعه فأين هذا من هذا
ولا كان في الصحابة من يقول إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا أئمة ولا كانت خلافتهم صحيحة ولا من يقول إن خلافتهم ثابتة بالنص ولامن يقول إن بعد مقتل عثمان كان غير علي أفضل منه ولا أحق منه بالإمامة
فهذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخصومات فضلا عن السيف ولا قاتل أحد منهم على قاعدة في الإمامة فقبل خلافة علي لم يكن بينهم قتال في الإمامة ولا في ولايته لم يقاتله أحد على أنه يكون تابعا لذاك
والذين قاتلوا عليا لم يقاتلوا لاختصاص علي دون الأئمة قبله بوصف بل الذين قاتلوا معه كانوا يقرون بإمامة من قبله وشائعا بينهم أن أبا بكر أفضل منه وقد تواتر عنه نفسه أنه كان يقول ذلك على المنبر ولم يظهر عن الشيعة الأول تقديم علي على أبي بكر وعمر فضلا عن الطعن في إمامتهما
وبكل حال فمن المعلوم للخاصة والعامة أهل السنة وأهل البدعة أن القتال في زمن علي لم يكن لمعاوية ومن معه إلا لكونهم لم يبايعوا عليا لم يكن لكونهم بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان
وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه لم يكن لعلي غرض في قتالهم ولا لهم غرض في قتاله بل كانوا قبل قدوم على يطلبون قتله عثمان وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم فلم يتمكنوا منهم فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم عرفهم أن هذا أيضا رأيه لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر فلما علم بعض القتلة ذلك حمل على أحد العسكرين فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين ثم وقع قتال على الملك
فلم يكن ما وقع قدحا في خلافة الثلاثة مثل الفتنة التي وقعت بين ابن الزبير وبين يزيد ثم بين مروان وابنه وهؤلاء كلهم كانوا متفقين على موالاة عثمان وقتال من قاتله فضلا عن أبي بكر وعمر
وكذلك الفتنة التي وقعت بين يزيد وأهل المدينة فتنة الحرة فإنما كانت من بعض أهل المدينة أصحاب السلطان من بني أمية وأصحاب يزيد لم تكن لأجل أبي بكر وعمر أصلا بل كان كل من بالمدينة والشام من الطائفتين متفقين على ولاية أبي بكر وعمر
والحسين رضي الله عنه لما خرج إلى الكوفة إنما كان يطلب الولاية مكان يزيد لم يكن يقاتل على خلافة أبي بكر وعمر وكذلك الذين قتلوه ولم يكن هو حين قتل طالبا للولاية ولا كان معه جيش يقاتل به وإنما كان قد رجع منصرفا وطلب أن يرد إلى يزيد ابن عمه أو أن يرد إلى منزله بالمدينة أو يسير إلى الثغر فمنعه أولئك الظلمة من الثلاثة حتى يستأسر لهم فلم يقتل رضي الله عنه وهو يقاتل على ولاية بل قتل وهو يطلب الدفع عن نفسه لئلا يؤسر ويظلم
والحسن أخوه قد كانت معه الجيوش العظيمة ومع هذا فقد نزل عن الأمر وسلم إلى معاوية وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه أثنى عليه بذلك وقال إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين
ثم لما قتل الحسين قام من يطلب بدمه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي وقتلوا عبيد الله بن زياد ثم لما قدم مصعب بن الزبير قتل المختار فإنه كذب وادعى أنه يوحى إليه
وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال سيكون من ثقيف كذاب ومبير وكان الكذاب هو الذي سمي المختار ولم يكن بالمختار والمبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي والفتنة التي وقعت في زمنه فتنة ابن الاشعث خرج عليه ومعه القراء كانت بظلمة وعسفه
فلم يكن شىء من هذه لأجل خلافة أبي بكر وعمر بل كل هؤلاء كانوا متفقين على خلافة أبي بكر وعمر وإنما كانت على ولاية سلطان الوقت فإذا جاء قوم ينازعونه قام معه ناس وقام عليه أناس
وهكذا كانت الفتن التي وقعت بعد هذا في زمن بني أمية فان زيد ابن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام وطلب الأمر لنفسه كان ممن يتولى أبا بكر وعمر فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة
ولما خرج أبو مسلم وشيعة بني هشام على بني أمية إنما قاتلوا من كان متوليا في ذلك الوقت وهو مروان بن محمد وأنصاره
وما زال بنو العباس مثبتين لخلافة الأربعة مقدمين لأبي بكر وعمر وعثمان على المنابر فلم يقاتل أحد من شيعتهم ولا من شيعة بني أمية قدحا في خلافة الثلاثة
والذين خرجوا عليهم مثل محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة إنما خرجا ومن معهما على المنصور لا على من يتولى أبا بكر وعمر بل الذين كانوا معهما بالمدينة والبصرة كلهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر
فهذه وأمثالها الفتن الكبار التي كانت في السلف وكذلك لما صار عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ودامت ولايته مدة طويلة لم يكن النزاع بينه وبين العباسيين على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان
فهذه الولايات الكبار التي كانت في الإسلام القائمون فيها والخارجون على الولاة لم يكن قتالهم فيها على قاعدة الإمامة التي يختلف فيها أهل السنة والرافضة وإنما ظهر من دعا إلى الرفض وتسمى بأمير المؤمنين وأظهر القتال على ذلك وحصل لهم ملك وأعوان مدة بني عبيد الله القداح الذين أقاموا بالمغرب مدة وبمصر نحو مائتي سنة
وهؤلاء باتفاق أهل العلم والدين كانوا ملاحدة ونسبهم باطل فلم يكن لهم بالرسول اتصال نسب في الباطن ولا دين وإنما أظهروا النسب الكاذب وأظهروا التشيع ليتوسلوا بذلك إلى متابعة الشيعة إذ كانت أقل الطوائف عقلا ودينا وأكثرها جهلا وإلا فأمر هؤلاء العبيدية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر أظهر من أن يخفي على مسلم ولهذا جميع المسلمين الذين هم مؤمنون في طوائف الشيعة يتبرأون منهم فالزيدية والإمامية تكفرهم وتتبرأ منهم وإنما ينتسب إليهم الإسماعيلية الملاحدة الذين فيهم من الكفر ما ليس لليهود والنصارى كابن الصباح الذي أخرج لهم السكين
وشر منهم قرامطة البحرين أصحاب أبي سعيد الجنابى فإن أولئك لم يكونوا يتظاهرون بدين الإسلام بالكلية بل قتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود
فهذه وأمثالها الملاحم والفتن التي كانت في الإسلام ليس فيها ما وقع القتال فيه حقيقة على قاعدة الإمامة التي تدعيها الرافضة وإن ذكر بعض الخارجين ببعض البلاد من يدعو إلى نفسه ومعه من يقاتل فهؤلاء من جنس سكان الجبال وأهل البوادي ولأمصار الصغار من الرافضة وهم طائفة قليلة مقموعون مع جمهور المسلمين ليس لهم سيف مسلول على الجمهور حتى يقول القائل أعظم خلاف وقع بين الأمة خلاف الإمامة أو ما سل في الإسلام سيف مثل ما سل علي الإمامة في كل زمان
وإن كان صاحب هذا القول يعني به أنه إنما يقتتل الناس على الإمامة التي هي ولاية شخص في ذلك الزمان فقوم يقاتلون معه وقوم يخرجون عليه
فهذا ليس من مذهب السنة والشيعة في شىء فإن من المعلوم أن الناس الذين دينهم واحد ونبيهم واحد إذا اقتتلوا فلا بد أن يكون لهؤلاءمن يقدمونه فيجعلونه متوليا ولهؤلاء من يقدمونه فيجعلونه متوليا فيقاتل كل قوم على إمارة من جعلوه هم إمامهم
لكن هؤلاء لا يقاتلون على القاعدة الدينية من كون الإمامة ثبتت بالنص لعلي ولا أن خلافة الثلاثة باطلة بل عامة هؤلاء معترفون بإمامة الثلاثة
ثم قد تبين أن الصحابة لم يقتتلوا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والنزاع بينهم فتبين أن خلافتهم كانت بلا سيف مسلول أصلا وإنما كان السيف مسلول في خلافة علي فإن كان هذا قدحا فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الأمة
وهذه حجة للخوارج وحجتهم أقوى من حجة الشيعة كما أن سيوفهم أقوى من سيوف الشيعة ودينهم أصح وهم صادقون لا يكذبون ومع هذا فقد ثبت بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفاق أصحابه أنهم مبتدعون مخطئون ضلال فكيف بالرافضة الذين هم أبعد منهم عن العقل والعلم والدين والصدق والشجاعة والورع وعامة خصال الخير
ولم يعرف في الطوائف أعظم من سيف الخوارج ومع هذا فلم يقاتل القوم على خلافة أبي بكر وعمر بل هم متفقون على إمامتهما وموالاتهما
وقوله الخلاف الخامس في فدك والتوارث رووا عن النبي ﷺ نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة
فيقال هذا أيضا اختلاف في مسألة شرعية وقد زال الخلاف فيها والخلاف في هذه دون الخلاف في ميراث الإخوة مع الجد وميراث الجدة مع ابنها وحجب الأم الأخوين وجعل الجد مع الأم كالأب وأمثال ذلك من مسائل الفرائض التي تنازعوا فيها
فالخلاف في هذا أعظم لوجوه أحدها أنهم تنازعوا في ذلك ثم لم يجتمعوا على قول واحد كما اجتمعوا على أن النبي ﷺ لا يورث
الثاني أنهم لم يرو لهم من النصوص الصريحة في هذه المسائل ماروى لهم في ميراث النبي ﷺ
الثالث الخلاف هنا في قصة واحدة لا يتعدد والنزاع في هذه المسائل من جنس متعدد وعامة النزاع في تلك هي نزاع في قليل من المال هل يختص به ناس معينون
وأولئك القوم قد أعطاهم أبو بكر وعمر من مال الله بقدر ما خلفه النبي ﷺ أضعافا مضاعفة ولو قدر أنها كانت ميراثا مع أن هذا باطل فإنما أخذ منهم قرية ليست كبيرة لم يأخذ منهم مدينة ولا قرية عظيمة
وقد تنازع العلماء في مسائل الفرائض وغيرها ويكون النزاع في مواريث الهاشميين وغيرهم من أضعاف أموال فدك ولا ينسب المتنازعون فيها إلى ظلم إذا كانوا قائلين باجتهادهم
فلو قدر أن الخلفاء اجتهدوا فأعطوا الميراث من لا يستحقه كان أضعاف هذا يقع من العلماء المجتهدين الذين هم دون الأئمة ولا يقدح ذلك في دينهم وإن قدر أنهم مخطئون في الباطن لأنهم تكلموا باجتهادهم فكيف بالخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم أجمعين وإنما يعظم القول في مثل هذه الأمور أهل الجهل والهوى الذين لهم غرض في فتح باب الشر على الصحابة بالكذب والبهتان
وقد تولى على بعد ذلك وصار فدك وغيرها تحت حكمه ولم يعطها لأولاد فاطمة ولا أخذ من زوجات النبي ﷺ ولا ولد العباس شيئا من ميراثه
فلو كان ذلك ظلما وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتالمعاوية وجيوشه أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطى هؤلاء قليلا من المال وأمره أهون بكثير
وأما قوله الخلاف السادس في قتال مانعى الزكاة قاتلهم أبو بكر واجتهد عمر في ايام خلافته فرد السبايا والأموال إليهم وأطلق المحبوسين
فهذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين فإن مانعى الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم بعد أن راجعه عمر في ذلك
كما في الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال النبي ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها وحسابهم على الله فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق
وفي الصحيحين تصديق فهم أبي بكر عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها
فعمر وافق أبا بكر على قتال أهل الردة مانعي الزكاة وكذلك سائر الصحابة وأقر أولئك بالزكاة بعد امتناعهم منها ولم تسب لهم ذرية ولا حبس منهم أحد ولا كان بالمدينة حبس لا على عهد رسول الله ﷺ ولا على عهد أبي بكر فكيف يمون وهم في حبسه
وأول حبس اتخذ في الإسلام بمكة اشترى عمر من صفوان بن أمية داره وجعلها حبسا بمكة ولكن من الناس من يقول سبى أبو بكر نساءهم وذراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما فإنه قد يكون عمر كان موافقا على جواز سبيهم لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي ﷺ على هوازن سبيهم بعد أن قسمه بين المسلمين فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم مسلمين فطلبوا رد ذلك إليهم
وأهل الردة كان قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لأنه جائز
وقوله الخلاف السابع في تنصيص أبي بكر على عمر في الخلافة فمن الناس من قال وليت علينا فظا غليظا، والجواب أن يقال إن جعل مثل هذا خلافا فقد كان مثل هذا على عهد النبي ﷺ قد طعن بعض الصحابة في إمارة زيد ابن حارثة وبعضهم في إمارة أسامة ابنه وقد كان غير واحد يطعن فيمن يوليه أبو بكر وعمر ثم إن القائل لها كان طلحة وقد رجع عن ذلك وهو من أشد الناس تعظيما لعمر كما أن الذين طعنوا في إمارة زيد وأسامة رجعوا عن طعنهم طاعة لله ورسوله
وقوله الخلاف الثامن في إمرة الشورى واتفقوا بعد الاختلاف على إمارة عثمان
والجواب أن هذا من الكذب الذي اتفق أهل النقل على أنه كذب فإنه لم يختلف أحد في خلافة عثمان ولكن بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان وأنه شاور حتى العذاري في خدورهن وإن كان في نفس أحد كراهة لم ينقل أو قال أحد شيئا ولم ينقل إلينا
فمثل هذا قد يجري في مثل هذه الأمور والأمر الذي يتشاور فيه الناس لا بد فيه من كلام لكن لا يمكن الجزم بذلك بمجرد الحزر
فلما علمنا نقلا صحيحا أنه ما كان اختلاف في ولاية عثمان ولا أن طائفة من الصحابة قالت ولوا عليا أو غيره كما قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير ولو وجد شيء من ذلك لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله كما نقل نزاع بعض الأنصار في خلافة أبي بكر فالمدعي لذلك مفتر
ولهذا قال الإمام أحمد لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان
وعثمان ولاه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام وهو مؤتلفون متفقون متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعا وقد أظهرهم الله وأظهر بهم ما بعث به نبيه من الهدى ودين الحق ونصرهم على الكفار وفتح بهم بلاد الشام والعراق وبعض خراسان
فلم يعدلوا بعثمان غيره كما أخبر بذلك عبد الرحمن بن عوف ولهذا بايعه عبد الرحمن كما ثبت هذا في الأحاديث الصحيحة
وأما ما ذكره بعض الناس من أنه اشترط على عثمان سيرة الشيخين فلم يجب إما لعجزه عن مثل سيرتهما وإما لأن التقليد غير واجب أو غير جائز وأنه اشترط على علي سيرة الشيخين فأجابه لإمكان متابعتهما أو جواز تقليدهما فهذا النقل باطل ليس له إسناد ثابت فإنه مخالف للنقل الثابت في الصحيح الذي فيه أن عبد الرحمن بقي ثلاثة أيام لم يغتمض في لياليها بكثير نوم في كل ذلك يشاور المسلمين ولم يرهم يعدلون بعثمان غيره بل رأوه أحق وأشبه بالأمر من غيره وأن عبد الرحمن لم يشترط على علي إلا العدل فقال لكل منهما الله عليك إن وليتك لتعدلن وإن وليت عليك لتسمعن ولتطيعن فيقول نعم، فشرط على المتولي العدل وعلى المتولي عليه السمع والطاعة وهذا حكم الله ورسوله كما دل عليه الكتاب والسنة
وأما قوله ووقعت اختلافات كثيرة منها ردة الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله ﷺ وكان يسمى طريد رسول الله ﷺ بعد أن كان يشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا
فيقال مثل هذا إن جعله اختلافا جعل كلما حكم خليفة بحكم ونازعه فيه قوم اختلافا وقد كان ذكرك لما اختلفوا فيه من المواريث والطلاق وغير ذلك أصح وأنفع فإن الخلاف في ذلك ثابت منقول عند أهل العلم ينتفع الناس بذكره والمناظرة فيه وهو خلاف في أمر كلي يصلح أن تقع فيه المناظرة
وأما هذه الأمور فغايتها جزئية ولا تجعل مسائل خلاف يتناظر فيها الناس
هذا مع أن فيما ذكره كذبا كثيرا منه ما ذكره من أمر الحكم وأنه طرده رسول الله ﷺ وكان يسمى طريد رسول الله ﷺ وأنه استشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك وأن عمر نفاه من مقامة باليمن أربعين فرسخا فمن الذي نقل ذلك وأين إسناده ومتى ذهب هذا إلى اليمن وما الموجب لنفيه إلى اليمن وقد أقره النبي ﷺ على ما يدعونه بالطائف وهي أقرب إلى مكة والمدينة من اليمن فإذا كان الرسول أقره قريبا منه فما الموجب لنفيه بعد ثبوته إلى اليمن
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن نفى الحكم باطل فإن النبي ﷺ لم ينفه إلى الطائف بل هو ذهب بنفسه وذكر بعض الناس أنه نفاه ولم يذكروا إسنادا صحيحا بكيفية القصة وسببها
وعلى هذا التقدير فليس فيمن يجب نفيه في الشريعة من يستحق النفي الدائم بل ما من ذنب يستحق صاحبه النفي إلا ويمكن أن يستحق بعد ذلك الإعادة إلى وطنه فإن النفي إما مؤقت كنفي الزاني البكر عند جمهور العلماء سنة فهذا يعاد بعد السنة وإما نفي مطلق كنفي المخنث فهذا ينفي إلى أن يتوب وكذلك نفى عمر في تعزير الخمر
وحينئذ فلا يمكن أن يقال إن ذنب الحكم الذي نفى من أجله لم يتب منه في مدة بضع عشرة سنة وإذا تاب من ذنبه مع طول هذه المدة جاز أن يعاد
وقد أمر النبي ﷺ بهجر الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة ثم تاب الله عليهم وكلمهم المسلمون
وعمر رضي الله عنه نفى صبيغ بن عسل التميمي لما أظهر اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وضربه وأمر المسلمين بهجرة سنة بعد أن أظهر التوبة فلما تاب أمر المسلمين بكلامه
وبهذا أخذ أحمد وغيره في أن الداعي إلى البدعة إذا تاب يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغا وكذلك الفاسق إذا تاب واعتبر مع التوبة صلاح العمل كما يقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين
ثم لو قدر أنه كان يستحق النفي الدائم فغاية ذلك أن يكون اجتهادا اجتهده عثمان في رده لصاحبه أجر مغفور له أو ذنبا له أسباب كثيرة توجب غفرانه
وقوله ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وتسليمه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار
فيقال أما قصة أبي ذر فقد تقدم ذكرها وأما تزويجه مروان ابنته فأي شيء في هذا مما يجعل اختلافا
وأما إعطاؤه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فمن الذي نقل ذلك وقد تقدم قوله إنه أعطاه ألف ألف دينار والمعروف أن خمس إفريقية لم يبلغ ذلك
ونحن لا ننكر أن عثمان رضي الله عنه كان يحب بني أمية وكان يواليهم ويعطيهم أموالا كثيرة وما فعله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين ليس لهم غرض كما أننا لا ننكر أن عليا ولى أقاربه وقاتل وقتل خلقا كثيرا من المسلمين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون ويصلون لكن من هؤلاء من قاتله بالنص والإجماع ومنهم من كان قتاله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين لا غرض لهم
وأمر الدماء أخطر من أمر الأموال والشر الذي حصل في الدماء بين الأمة أضعاف الشر الذي حصل بإعطاء الأموال
فإذا كنا نتولى عليا ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة من فضائله مع أن الذي جرى في خلافته أقرب إلى الملام مما جرى في خلافة عثمان وجرى في خلافة عثمان من الخير مالم يجر مثله في خلافته فلأن نتولى عثمان ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة بطريق الأولى
وقد ذكرنا أن ما فعله عثمان في المال فله ثلاثة مآخذ أحدها أنه عامل عليه والعامل يستحق مع الغنى
الثاني أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام
الثالث أنهم كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى توليه أقاربهما وإعطائهما وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به
وقد قدمنا أنا لا ندعي عصمة في أحد بعد رسول الله ﷺ من الذنب فضلا عن الخطأ في الاجتهاد وقد قال سبحانه وتعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 3وقال تعالى أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون سورة الأحقاف 1وقوله ومنها ايواؤه عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي ﷺ دمه وتوليته مصر
فالجواب إن كان المراد أنه لم يزل مهدر الدم حتى ولاه عثمان كما يفهم من الكلام فهذا لا يقوله إلا مفرط في الجهل بأحوال الرسول ﷺ وسيرته فإن الناس كلهم متفقون على أنه في عام فتح مكة بعد أن كان النبي ﷺ أهدر دم جماعة منهم عبد الله بن سعد أتى عثمان به النبي ﷺ وبايعه النبي ﷺ بعد مراجعة عثمان له في ذلك وحقن دمه وصار من المسلمين المعصومين له ما لهم وعليه ما عليهم وقد كان هو من أعظم الناس معاداة للنبي عليه الصلاة والسلام وأسلم وحسن إسلامه وإنما كان ﷺ أهدر دمه كما أهدر دماء قوم بغلظ كفرهم إما بردة مغلظة كمقيس ابن صبابة
وعبد الله هذا كان كاتبا للوحي فارتد وافترى على النبي ﷺ فأهدر دمه ثم لما قدم به عثمان عفا عنه ﷺ فقال يا رسول بايع عبد الله فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا ثم بايعه فقال أما فيكم رجل رشيد ينظر إلي وقد أعرضت عن هذا فيضرب عنقه فقال رجل من الأنصار يا رسول الله هلا أومضت إلي فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين
ثم لما بايعه حسن إسلامه ولم يعلم منه بعد ذلك إلا الخير وكان محمودا عند رعيته في مغازيه وقد كانت عداوة غيره من الطلقاء أشد من عداوته مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأبي سفيان بن حرب وغيرهم وذهب ذلك كله
كما قال تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم سورة الممتحنة 7 فجعل بين أولئك وبين النبي ﷺ مودة تجب تلك العداوة والله قدير على تقليب القلوب وهو غفور رحيم غفر الله ما كان من السيئات بما بدلوه من الحسنات وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون
وأما قوله كان عامل جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام وعامل الكوفة سعيد بن العاص وبعده عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة عامل البصرة
فيقال أما معاوية فولاه عمر بن الخطاب لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان مكانه ثم ولاه عثمان رضي الله عنه الشام كله وكانت سيرته في أهل الشام من أحسن السير وكانت رعيته من أعظم الناس محبة له
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم
وكان معاوية تحبه رعيته وتدعو له وهو يحبها ويدعو لها
وأما توليته لسعيد بن العاص فأهل الكوفة كانوا دائما يشكون من ولاتهم ولى عليهم سعد بن أبي وقاص وأبو موسى الأشعري وعمار ابن ياسر والمغيرة بن شعبة وهم يشكون منهم وسيرهم في هذا مشهورة ولا شك أنهم كانوا يشكون في زمن عثمان أكثر وقد علم أن عثمان وعليا رضي الله عنه كل منهما ولى أقاربه وحصل له بسبب ذلك من كلام الناس وغير ذلك ما حصل
وأما قوله الخلاف التاسع في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له فأولا خروج طلحة والزبير إلى مكة ثم حمل عائشة إلى البصرة ثم نصب القتال معه ويعرف ذلك بحرب الجمل والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري وكذا الخلاف بينه وبين الشراة المارقين بالنهروان وبالجملة كان على مع الحق والحق معه وظهر في زمانه الخوارج عليه مثل الأشعث بن قيس ومسعر بن فدكى التميمي وزيد بن حصين الطائي وغيرهم وظهر في زمنه الغلاة كعبد الله بن سبأ ومن الفرقتين ابتدأت الضلالة والبدع وصدق فيه قول النبي ﷺ يهلك فيه اثنان محب غال ومبغض قال فانظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم
والجواب أن يقال هذا الكلام مما يبين تحامل الشهرستاني في هذا الكتاب مع الشيعة كما تقدم وإلا فقد ذكر أبا بكر وعمر وعثمان ولم يذكر من أحوالهم أن الحق معهم دون من خالفهم ولما ذكر عليا قال وبالجملة كان الحق مع علي وعلي مع الحق والناقل الذي لا غرض له إما أن يحكى الأمور بالأمانة وإما أن يعطى كل ذي حق حقه فأما دعوى المدعي أن الحق كان مع علي وعلي مع الحق وتخصيصه بهذا دون أبي بكر وعمر وعثمان فهذا لا يقوله أحد من المسلمين غير الشيعة
ومما يبين فساد هذا الكلام قوله إن الاختلاف وقع في زمن علي بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له ومن المعلوم أن كثيرا من المسلمين لم يكونوا بايعوه حتى كثير من أهل المدينة ومكة الذين رأوه لم يكونوا بايعوه من دع الذين كانوا بعيدين كأهل الشام ومصر والمغرب العراق وخراسان
وكيف يقال مثل هذا في بيعة علي ولا يقال في بيعة عثمان التي اجتمع عليها المسلمون كلهم ولم يتنازع فيها اثنان
وكذلك ما ذكره من التعريض بالطعن على طلحة والزبير وعائشة من غير أن يذكر لهم عذرا ولا رجوعا وأهل العلم يعلمون أن طلحة والزبير لم يكونا قاصدين قتال علي ابتداء وكذلك أهل الشام لم يكن قصدهم قتاله وكذلك علي لم يكن قصده قتال هؤلاء ولا هؤلاء
ولكن حرب الجمل جرى بغير اختياره ولا اختيارهم فإنهم كانوا قد اتفقوا على المصالحة وإقامة الحدود على قتله عثمان فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة آخرا كما أقاموها أولا فحملوا على طلحة والزبير وأصحابهما فحملوا دفعا عنهم وأشعروا عليا أنهما حملا عليه فحمل على دفعا عن نفسه وكان كل منهما قصده دفع الصيال لا ابتداء القتال
هكذا ذكر غير واحد من أهل العلم بالسير فإن كان الأمر قد جرى على وجه لا ملام فيه فلا كلام وإن كان قد وقع خطأ أو ذنب من أحدهما أو كليهما فقد عرف أن هذا لا يمنع ما دل عليه الكتاب والسنة من أنهم من خيار أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباهة الصالحين وأنهم من أهل الجنة
وقول هذا الرافضي انظر بعين الانصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم
فالجواب أن يقال أما الفتنة فإنما ظهرت في الإسلام من الشيعة فإنهم أساس كل فتنة وشر وهم قطب رحى الفتن فإن أول فتنة كانت في الإسلام قتل عثمان
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي ﷺ أنه قال ثلاث من نجا فقد نجا منهن موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال
ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقا على الهدى والرشد وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله ﷺ الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك إذ يقول تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله سورة آل عمران 11كما لم يكن في الأمم أعظم اجتماعا على الهدى وأبعد عن التفرق والاختلاف من هذه الأمة لأنهم أكمل اعتصاما بحبل الله الذي هو كتابه المنزل وما جاء به من نبيه المرسل وكل من كان أقرب إلى الإعتصام بحبل الله وهو اتباع الكتاب والسنة كان أولى بالهدى والاجتماع والرشد والصلاح وأبعد عن الضلال والافتراق والفتنة
واعتبر ذلك بالأمم فأهل الكتاب أكثر اتفاقا وعلما وخيرا من الخارجين عن الكتب والمسلمون أكثر أتفاقا وهدى ورحمة وخيرا من اليهود والنصارى فإن أهل الكتابين قبلنا تفرقوا وبدلوا ما جاءت به الرسل وأظهروا الباطل وعادوا الحق وأهله
وإنه وإن كان يوجد في أمتنا نظير ما يوجد في الأمم قبلنا كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن الناس
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك
لكن أمتنا لا تزال فيها طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ولهذا لا يسلط الله عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم كما ثبت هذا وهذا في الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة وأخبر أنه سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم شديدا فمنعه ذلك
ومن قبلنا كان الحق يغلب فيهم حتى لا تقوم به طائفة ظاهرة منصورة ولهذا كان العدو يسلط عليهم فيجتاحهم كما سلط على بني إسرائيل وخرب بيت المقدس مرتين فلم يبق لهم ملك
ونحن ولله الحمد لم يزل لأمتنا سيف منصور يقاتلون على الحق فيكونون على الهدى ودين الحق الذي بعث الله به الرسول فلهذا لم نزل ولا نزال وأبعد الناس عن هذه الطائفة المهدية المنصورة هم الرافضة لأنهم أجهل وأظلم طوائف أهل الأهواء المنتسبين إلى القبلة
وخيار هذه الأمة هم الصحابة فلم يكن في الأمة أعظم اجتماعا على الهدى ودين الحق ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم وكل ما يذكر عنهم مما فيه نقص فهذا إذا قيس إلى ما يوجد في غيرهم من الأمة كان قليلا من كثير وإذا قيس ما يوجد في الأمة إلى ما يوجد في سائر الأمم كان قليلا من كثير وإنما يغلط من يغلط أنه ينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ولا ينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض وهذا من الجهل والظلم بل يوزن هؤلاء بنظرائهم فيظهر الفضل والرجحان
وأما ما يقترحه كل أحد في نفسه مما لم يخلق فهذا لا اعتبار به فهذا يقترح معصوما في الأئمة وهذا يقترح ما هو كالمعصوم وإن لم يسمه معصوما فيقترح في العالم والشيخ والأمير والملك ونحو ذلك مع كثرة علمه ودينه ومحاسنه وكثرة ما فعل الله على يديه من الخير يقترح مع ذلك أن لا يكون قد خفى عليه شيء ولا يخطىء في مسألة وأن يخرج عن حد البشرية فلا يغضب بل كثير من هؤلاء يقترح فيهم مالا يقترح في الأنبياء
وقد أمر الله تعالى نوحا ومحمدا أن يقولا لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك سورة هود 31 فيريد الجهال من المتبوع أن يكون عالما بكل ما يسئل عنه قادرا على كل ما يطلب منه غنيا عن الحاجات البشرية كالملائكة
وهذا الاقتراح من ولاة الأمر كاقتراح الخوارج في عموم الأمة أن لا يكون لأحدهم ذنب ومن كان له ذنب كان عندهم كافرا مخلدا في النار
وكل هذا باطل خلاف ما خلقه الله وخلاف ما شرعه الله
فاقتراح هؤلاء فيمن يوليه كاقتراح أولئك عليه فيمن يرسله وكاقتراح هؤلاء فيمن يرحمه ويغفر له
والبدع مشتقة من الكفر فما من قول مبتدع إلا وفيه شعبة من شعب الكفر
وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة وأدخل في الفتنة
فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله ﷺ فإنهم خاصته وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله ومقصودهم نصر الله ورسوله
وإذا كان الصحابة ثم أهل الحديث والسنة المحضة أولى بالهدى ودين الحق وأبعد الطوائف عن الضلال والغي فالرافضة بالعكس
وقد تبين أن هذا الكلام الذي ذكره هذا الرجل فيه من الباطل ما لا يخفى على عاقل ولا يحتج به إلا من هو جاهل وأن هذا الرجل كان له بالشيعة إلمام واتصال وأنه دخل في هواهم بما ذكره في هذا الكتاب مع أنه ليس من علماء النقل والآثار وإنما هو من جنس نقلة التواريخ التي لا يعتمد عليها أولو الأبصار
ومن كان علمه بالصحابة وأحوالهم من مثل هذا الكتاب فقد خرج عن جملة أولى الألباب ومن الذي يدع كتب النقل التي اتفق أهل العلم بالمنقولات على صحتها ويدع ما تواتر به النقل في كتب الحديث على بعضها كالصحاح والسنن والمساند والمعجمات والأسماء والفضائل وكتب أخبار الصحابة وغير ذلك وكتب السير والمغازي وأن كانت دون ذلك وكتب التفسير والفقه وغير ذلك من الكتب التي من نظر فيها علم بالتواتر اليقيني ضد ما في النقل الباطل وعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأن أصل كل فتنة وبليه هم الشيعة ومن انضوى إليهم وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كانت من جهتهم وعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون اختلقوا أكاذيب وابتدعوا آراء فاسدة ليفسدوا بها دين الإسلام ويستزلوا بها من ليس من أولى الأحلام فسعوا في قتل عثمان وهو أول الفتن ثم انزووا إلا على لا حبا فيه ولا في أهل البيت لكن ليقيموا سوق الفتنة بين المسلمين
ثم هؤلاء الذين سعوا معه منهم من كفره بعد ذلك وقاتله كما فعلت الخوارج وسيفهم أول سيف سل على الجماعة ومنهم من أظهر الطعن على الخلفاء الثلاثة كما فعلت الرافضة وبهم تسترت الزنادقة كالغالية من النصيرية وغيرهم ومن القرامطة الباطنية والإسماعيلية وغيرهم فهم منشأ كل فتنة والصحابة رضي الله عنهم منشأ كل علم وصلاح وهدى ورحمة في الإسلام
ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين كبني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب ويقولون إنهم كانوا مظلومين كما ذكر صاحب هذا الكتاب وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي ومنهم من يقول اللهم أرض عن أبي لؤلؤة واحشرني معه ومنهم من يقول في بعض
ما يفعله من محاربتهم واثارات أبي لؤلؤة كما يفعلونه في الصورة التي يقدرون فيها صورة عمر من الجبس أو غيره
وأبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام كان مجوسيا من عباد النيران وكان مملوكا للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء وعليه خراج للمغيرة كل يوم أربعة دراهم وكان قد رأى ما عمله المسلمون بأهل الذمة وإذا رأى سبيهم يقدم إلى المدينة يبقى في نفسه من ذلك
وقد روى أنه طلب من عمر أن يكلم مولاه في خراجه فتوقف عمر وكان من نيته أن يكلمه فقتل عمر بغضا في الإسلام وأهله وحبا للمجوس وانتقاما للكفار لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم وقتل رؤساءهم وقسم أموالهم
كما أخبر النبي ﷺ عن ذلك في الحديث الصحيح حيث يقول إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وعمر هو الذي أنفق كنوزهما وهذا الحديث الصحيح مما يدل على صحة خلافته وأنه كان ينفق هذين الكنزين في سبيل الله الذي هو طاعته وطاعة رسوله وما يقرب إلى الله لم ينفق الأموال في أهواء النفوس المباحة فضلا عن المحرمة فهل ينتصر لأبي لؤلؤة مع هذا إلا من هو أعظم الناس كفرا بالله ورسوله وبغضا في الإسلام ومفرط في الجهل لا يعرف حال أبي لؤلؤة
ودع ما يسمع وينقل عمن خلا فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة وتجدهم من أعظم الناس فتنا وشرا وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة
ونحن نعرف بالعيان والتواتر العام وما كان في زماننا من حين خرج جنكزخان ملك الترك الكفار وما جرى في الإسلام من الشر، فلا يشك عاقل أن استيلاء الكفار المشركين الذين لا يقرون بالشهادتين ولا بغيرها من المباني الخمس ولا يصومون شهر رمضان ولا يحجون البيت العتيق ولا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ورسله واليوم الآخر وأعلم من فيهم وأدين مشرك يعبد الكواكب والأوثان وغايته أن يكون ساحرا أو كاهنا له رئي من الجن وفيهم من الشرك والفواحش ما هم به شر من الكهان الذين يكونون في العرب
فلا يشك عاقل أن استيلاء مثل هؤلاء على بلاد الإسلام وعلى أقارب رسول الله ﷺ من بني هاشم كذرية العباس وغيرهم بالقتل وسفك الدماء وسبي النساء وإستحلال فروجهن وسبي الصبيان واستعبادهم وإخراجهم عن دين الله إلى الكفر وقتل أهل العلم والدين من أهل القرآن والصلاة وتعظيم بيوت الأصنام التي يسمونها البذخانات والبيع والكنائس على المساجد ورفع المشركين وأهل الكتاب من النصارى وغيرهم على المسلمين بحيث يكون المشركون وأهل الكتاب أعظم عزا وأنفذ كلمة وأكثر حرمة من المسلمين إلى أمثال ذلك مما لا يشك عاقل أن هذا أضر على المسلمين من قتال بعضهم بعضا وأن رسول الله ﷺ إذا رأى ما جرى على أمته من هذا كان كراهته له وغضبه منه أعظم من كراهته لاثنين مسلمين تقاتلا على الملك ولم يسب أحدهما حريم الآخر ولا نفع كافرا ولا أبطل شيئا من شرائع الإسلام المتواترة وشعائره الظاهرة
ثم مع هذا الرافضة يعاونون أولئك الكفار وينصرونهم على المسلمين كما قد شاهده الناس لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ومن أهل دمشق وما حولها وغيرهم كانوا من أعظم الناس أنصارا وأعوانا على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين
وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكون إلى العراق وقتل الخليفة وسفك فيها من الدماء مالا يحصيه إلا الله فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها
وهكذا ذكر أنهم كانوا مع جنكزخان وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى ينصرونهم بحسب الإمكان ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى أنهم لما انكسر عسكر المسلمين سنة غازان سنة تسع وتسعين وخمسمائة وخلت الشام من جيش المسلمين عاثوا في البلاد وسعوا في أنواع من الفساد من القتل وأخذ الأموال وحمل راية الصليب وتفضيل النصارى على المسلمين وحمل السبي والأمول والسلاح من المسلمين إلى النصارى أهل الحرب بقبرس وغيرها
فهذا وأمثاله قد عاينه الناس وتواتر عند من لم يعاينه ولو ذكرت أنا ما سمعته ورأيته من آثار ذلك لطال الكتاب وعند غيري من أخبار ذلك وتفاصيله مالا أعلمه
فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقه ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سب علي وعثمان لكان العاقل ينظر في خير الخيرين وشر الشرين
ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون لكن لا يعاونون الكفار على دينهم ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك
والرافضة إذا تمكنوا لا يتقون وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا الذي صنف له هذا الكتاب كيف ظهر فيهم من الشر الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون
وأما الخلفاء والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله
وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة رضي الله عنهم عليه فضل إلى يوم القيامة وكل خير فيه الشيعة وغيرهم فهو ببركة الصحابة وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين فهم كانوا أقوم بكل خير في الدين والدنيا من سائر الصحابة فكيف يكون هؤلاء منبع الشر ويكون أولئك الرافضة منبع الخير
ومعلوم أن الرافضي يوالي أولئك الرافضة ويعادي الصحابة فهل هذا إلا من شر من أعمى الله بصيرته فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
وإذا قال القائل الجمهور الذين يتولون الثلاثة فيهم من الشر والفتن ما لم ينقل مثله عن علي فلا يقابل بين الرافضة والصحابة والجمهور
فنقول الجواب من وجهين الأول أنا لم نذكر هذا للمقابلة بل ردا على من زعم أن الفتنة لم تخرج إلا عن الخلفاء الراشدين ونحن قد علمنا بالمعاينة والتواتر أن الفتن والشرور العظيمة التي لا تشابهها فتن إنما تخرج عن طائفته التي يتولاها ويزعم أنهم هم المؤمنون أهل الجنة وعلمنا أن الخير العظيم الذي لا يوازيه خير إنما ظهر عن الصحابة والخلفاء الراشدين لنبين عظيم افتراء هذا المفترى وان مثله في ذلك مثل من قال من أتباع إخوانه الكذابين الذين يعظمون غير الأنبياء على الأنبياء كأئمة العبيديين وغيرهم من الملادحة وأتباع مسيلمة الكذاب وأبى لؤلؤة قاتل عمر ونحوهما ممن يعظمه هذا المفترى إذا قال انظر هل ظهرت الفتن إلا من موسى وعيسى ومحمد
فيقال له بل الفتن إنما ظهرت عن أصحابك وإخوانك الذين يفترون على الله الكذب ويعظمون الكذابين المفترين كتعظيم العبيديين الملاحدة وتعظيم مسيلمة الكذاب وتعظيم الطوسي الملحد وأمثاله
وقد رأيناك وأمثالك تعظمون هؤلاء الملاحدة علماءهم وولاتهم على أتباع الأنبياء فلكم أوفر نصيب من قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا سورة النساء 51 5فإن مسيلمة الكذاب من أكابر الأئمة الذين كفروا وكذلك أمثاله من الملاحدة العبيديين وأمثالهم الذين كانوا يدعون الإلهية والنبوة أو يدعى أن الفيلسوف أعظم من الأنبياء ونحو ذلك من مقالات الذين كفروا فإن المبتدعة من الجهمية والرافضة وغيرهم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فيحق عليهم ما وعد الله به حيث قال أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا سورة النساء 5ومن هؤلاء من يعظم الشرك والسحر والأحوال الشيطانية مما هو من الإيمان بالجبت والطاغوت فإن الجبت هو السحر والطاغوت الشيطان والأوثان
الوجه الثاني أنا لو فرضنا المقابلة بين الجمهور والرافضة فما بين خير الطائفتين وشرهما نسبة فإنا لا ننكر أن في الجمهور شرا كثيرا لكن إذا جاءت المقابلة فلا بد من المعادلة كما أنا إذا قابلنا بين المسلمين والنصارى واليهود لم نستكثر ما في المسلمين من الشر لكن يجب العدل فإن الله أمر بالقسط والعدل وهو مما اتفقت العقول والشرائع على وجوبه وحسنه
فتقول ما من شر يوجد في الجمهور إلا وفي الرافضة من جنسه ما هو أعظم منه كما أنه مامن شر يكون في المسلمين إلا وفي اليهود والنصارى من جنسه ما هو أعظم منه وما من خير يكون في الشيعة إلا وفي الجمهور من جنسه ما هو أعظم منه كما أنه مامن خير يكون في بعض أهل الكتاب إلا وفي المسلمين من جنسه ما هو خير منه
وأمهات الفضائل العلم والدين والشجاعة والكرم فاعتبر هذا في هؤلاء وهؤلاء فالجمهور فيهم من العلم بالقرآن ومعانيه وعلومه ما لا يوجد منه شيء عند الشيعة بعضهم تعلمه من أهل السنة وهم مع هذا مقصرون فمن صنف منهم تفسير القرآن فمن تفاسير أهل السنة يأخذ كما فعل الطوسي والموسوي فما في تفسيره من علم يستفاد هو مأخوذ من تفاسير أهل السنة وأهل السنة في هذا الموضع من يقر بخلافة الثلاثة فالمعتزلة داخلون في أهل السنة وهم إنما يستعينون في التفسير والمنقولات بكلام المعتزلة وكذلك بحوثهم العقلية فما كان فيها صوابا فإنما أخذوه عن أهل السنة والذين يمتازون به هو كلامهم في ثلب الصحابة والجمهور ودعوى النص ونحو ذلك مما هم به أخلق وهو بهم أشبه
وأما الحديث فهم من أبعد الناس عن معرفته لا إسناده ولا متنه ولا يعرفون الرسول واحواله ولهذا إذا نقلوا شيئا من الحديث كانوا من أجهل الناس به وأي كتاب وجدوا فيه ما يوافق هواهم نقلوه من غير معرفة بالحديث كما نجد هذا المصنف وأمثاله ينقلون ما يجدونه موافقا لأهوائهم
ولو أنهم ينقلون ما لهم وعليهم من الكتب التي ينقلون منها مثل تفسير الثعلبي وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل وفضائل الصحابة لأبي نعيم وما في كتاب أحمد من زيادات القطيعي وزيادات ابن أحمد لانتصف الناس منهم لكنه لا يصدقون إلا بما يوافق قلوبهم
وأما الفقه فهم من أبعد الناس عن الفقه وأصل دينهم في الشريعة هي مسائل ينقلونها عن بعض علماء أهل البيت كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر محمد وابنه جعفر بن محمد
وهؤلاء رضي الله عنهم من أئمة الدين وسادات المسلمين لكن لا ينظرون في الإسناد إليهم هل ثبت النقل إليهم أم لا فإنه لا معرفة لهم بصناعة الحديث والإسناد ثم إن الواحد من هؤلاء إذا قال قولا لا يطلب دليله من الكتاب والسنة ولا ما يعارضه ولا يردون ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول كما أمر الله به ورسوله
بل قد أصلوا لهم ثلاثة أصول أحدها أن هؤلاء معصومون
والثاني أن كل ما يقولونه منقول عن النبي ﷺ
والثالث أن إجماع العترة حجة وهؤلاء هم العترة
فصاروا لذلك لا ينظرون في دليل ولا تعليل بل خرجوا عن الفقه في الدين كخروج الشعرة من العجين
وإذا صنف واحد منهم كتابا في الخلاف وأصول الفقه كالموسوي وغيره فإن كانت المسألة فيها نزاع بين العلماء أخذوا حجة من يوافقهم واحتجوا بما احتج به أولئك وأجابوا عما يعارضهم بما يجيب به أولئك فيظن الجاهل منهم أن هذا قد صنف كتابا عظيما في الخلاف أو الفقه أو الأصول ولا يدري الجاهل أن عامته استعارة من كلام علماء أهل السنة الذين يكفرهم ويعاديهم وما انفردوا به فلا يساوى مداده فإن المداد ينفع ولا يضر وهذا يضر ولا ينفع وإن كانت المسألة مما انفردوا به اعتمدوا على ذلك الأصول الثلاثة التي فيها من الجهل والضلال ما لا يخفى
وكذلك كلامهم في الأصول والزهد والرقائق والعبادات والدعوات وغير ذلك
وكذلك إذا نظرت ما فيهم من العبادة والأخلاق المحمودة تجده جزءا مما عليه الجمهور
فصل
قال الرافضي الفصل الثالث في الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رسول ﷺ الأدلة في ذلك كثيرة لا تحصى لكن نذكر المهم منها وننظم أربعة مناهج المنهج الأول في الأدلة العقلية وهي خمسة
الأول أن الإمام يجب أن يكون معصوما ومتى كان ذلك كان الإمام هو عليا عليه السلام
أما المقدمة الأولى فلأن الإنسان مدني بالطبع لا يمكن أن يعيش منفردا لافتقاره في بقائه إلى ما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن ولا يمكن أن يفعلها بنفسه بل يفتقر إلى مساعدة غيره بحيث يفرغ كل واحد منهم إلى ما يحتاج إليه صاحبه حتى يتم قيام النوع ولما كان الاجتماع في مظنه التغالب والتغابن بأن كل واحد من الأشخاص قد يحتاج إلى ما في يد غيره فتدعوه قوته الشهوانية إلى أخذه وقهره عليه وظلمه فيه فيؤدى ذلك إلى وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن فلا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدى ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية وإلا لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى نصب الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فإن كان معصوما كان هو الإمام وإلا لزم التسلسل
وأما المقدمة الثانية فظاهرة لأن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا معصومين اتفاقا وعلي معصوم فيكون هو الإمام
والجواب عن ذلك أن نقول كلتا المقدمتين باطلة أما الأولى فقوله لا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدي ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية
فيقال له نحن نقول بموجب هذا الدليل إن كان صحيحا فإن الرسول هو المعصوم وطاعته واجبة في كل زمان على كل أحد وعلم الأمة بأمره ونهيه أتم من علم آحاد الرعية بأمر الإمام الغائب كالمنتظر ونحوه بأمره ونهيه فهذا رسول الله ﷺ إمام معصوم والأمة تعرف أمره ونهيه ومعصومهم ينتهي إلى الغائب المنتظر الذي لو كان معصوما لم يعرف أحد لا أمره ولا نهية بل ولا كانت رعية على تعرف أمره ونهيه كما تعرف الأمة نبيها ونهيه بل عند أمه محمد ﷺ من علم أمره ونهيه ما أغناهم عن كل إمام سواه بحيث أنهم لا يحتاجون قط إلى المتولى عليهم في شيء من معرفة دينهم ولا يحتاجون في العمل إلى ما يحتاجون فيه إلى التعاون وهم يعلمون أمره ونهيه أعظم من معرفة آحاد رعية المعصوم ولو قدر وجوده بأمره فإنه لم يتول على الناس ظاهر من أدعيت له العصمة إلا علي
ونحن نعلم قطعا أنه كان في رعيته باليمن وخراسان وغيرهما من لا يدري بماذا أمر ولا عماذا نهى بل نوابه كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو
وأما الورثة الذين ورثوا علم محمد ﷺ فهم يعرفون أمره ونهيه ويصدقون في الإخبار عنه أعظم من علم نواب علي بأمره ونهيه ومن صدقهم في الإخبار عنه وهم إنما يريدون أنه لا بد من إمام معصوم حي
فنقول هذا الكلام باطل من وجوه
أحدها أن هذا الإمام الموصوف لم يوجد بهذه الصفة أما في زماننا فلا يعرف إمام معروف يدعى فيه هذا ولا يدعي لنفسه بل مفقود غائب عند متبعيه ومعدوم لا حقيقة له عند العقلاء ومثل هذا لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة أصلا بل من ولى على الناس ولو كان فيه بعض الجهل وبعض الظلم كان أنفع لهم ممن لا ينفعهم بوجه من الوجوه
وهؤلاء المنتسبون إلى الإمام المعصوم لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره بل هم ينتسبون إلى المعصوم وإنما يستعينون بكفور أو ظلوم فإذا كان المصدقون لهذا المعصوم المنتظر لم ينتفع به أحد منهم لا في دينه ولا في دنياه لم يحصل لأحد به شيء من مقاصد الإمامة
وإذا كان المقصود لا يحصل منه شيء لم يكن بنا حاجة إلى إثبات الوسيلة لأن الوسائل لا تراد إلا لمقاصدها فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد وكان هذا بمنزلة من يقول الناس يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم وينبغي أن يكون الطعام صفته كذا والشراب صفته كذا وهذا عند الطائفة الفلانبة وتلك الطائفة قد علم أنها من أفقر الناس وأنهم معروفون بالإفلاس
وأي فائدة في طلب ما يعلم عدمه واتباع مالا ينتفع به أصلا والإمام يحتاج إليه في شيئين إما في العلم لتبليغه وتعليمه وإما في العمل به ليعين الناس على ذلك بقوته وسلطانه
وهذا المنتظر لا ينفع لا بهذا ولا بهذا بل ما عندهم من العلم فهو من كلام من قبله ومن العمل إن كان مما يوافقهم عليه المسلمون استعانوا بهم وإلا استعانوا بالكفار والملاحدة ونحوهم فهم أعجز الناس في العمل وأجهل الناس في العلم مع دعواهم ائتمامهم بالمعصوم الذي مقصوده العلم والقدرة ولم يحصل لهم لا علم ولا قدرة فعلم انتفاء هذا مما يدعونه
وأيضا فالأئمة الاثنا عشر لم يحصل لأحد من الأمة بأحد منهم جميع مقاصد الإمامة
أما من دون على فإنما كان يحصل للناس من علمه ودينه مثل ما يحصل من نظرائه وكان علي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنه جعفر ابن محمد يعلمون الناس ما علمهم الله كما علمه وعلماء زمانهم وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة وهذا معروف عند أهل العلم ولو قدر أنهم كانوا أعلم وأدين فلم يحصل من أهل العلم والدين ما يحصل من ذوي الولاية من القوة والسلطان وإلزام الناس بالحق ومنعهم باليد عن الباطل
وأما من بعد الثلاثة كالعسكريين فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة ولا كان لهم يد تستعين به الأمة بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين لهم حرمة ومكانة وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين
وأما ما يختص به أهل العلم فهذا لم يعرف عنهم ولهذا لم يأخذ عنهم أهل العلم كما أخذوا عن أولئك الثلاثة ولو وجدوا ما يستفاد لأخذوا ولكن طالب العلم يعرف مقصوده
وإذا كان للإنسان نسب شريف كان ذلك مما يعينه على قبول الناس منه ألا ترى أن ابن عباس لما كان كثير العلم عرفت الأمه له ذلك واستفادت منه وشاع ذكره بذلك في الخاصة والعامة
وكذلك الشافعي لما كان عنده من العلم والفقه ما يستفاد منه عرف المسلمون له ذلك واستفادوا ذلك منه وظهر ذكره بالعلم والفقه
ولكن إذا لم يجد الإنسان مقصوده في محل لم يطلبه منه ألا ترى أنه لو قيل عن أحد إنه طبيب أو نحوي وعظم حتى جاء إليه الأطباء أو النحاة فوجدوه لا يعرف من الطب والنحو ما يطلبون أعرضوا عنه ولم ينفعه مجرد دعوى الجهال وتعظيمهم
وهؤلاء الإمامية أخذوا عن المعتزلة أن الله يجب عليه الإقدار والتمكين واللطف بما يكون المكلف عنده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد مع تمكنه في الحالين
ثم قالوا والإمامة واجبة وهي أوجب عندهم من النبوة لأن بها لطفا في التكاليف قالوا إنا نعلم يقينا بالعادات واستمرار الأوقات أن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإذا لم يكن لهم رئيس وقع الهرج والمرج بينهم وكانوا عن الصلاح أبعد ومن الفساد أقرب
وهذه الحال مشعرة بقضية العقل معلومة لا ينكرها إلا من جهل العادات ولم يعلم استمرار القاعدة المستمرة في العقل قالوا وإذا كان هذا لطفا في التكليف لزم وجوبه ثم ذكروا صفاته من العصمة وغيرها
ثم أورد طائفة منهم على أنفسهم سؤالا فقالوا إذا قلتم إن الإمام لطف وهو غائب عنكم فأين اللطف الحاصل مع غيبته وإذا لم يكن لطفه حاصلا مع الغيبة وجاز التكليف بطل أن يكون الإمام لطفا في الدين وحينئذ يفسد القول بإمامة المعصوم
وقالوا في الجواب عن هذا السؤال إنا نقول إن لطف الإمام حاصل في حالة الغيبة للعارفين به في حال الظهور وإنما فات اللطف لمن لم يقل بإمامته كما أن لطف المعرفة لم يحصل لمن لم يعرف الله تعالى وحصل لمن كان عارفا به قالوا وهذا يسقط هذا السؤال ويوجب القول بإمامة المعصومين
فقيل لهم لو كان اللطف حاصلا في حال الغيبة كحال الظهور لوجب أن يستغنوا عن ظهوره ويتبعوه إلى أن يموتوا وهذا خلاف ما يذهبون إليه
فأجابوا بأنا نقول إن اللطف في غيبته عند العارف به من باب التنفير والتبعيد عن القبائح مثل حال الظهور لكن نوجب ظهوره لشيء غير ذلك وهو رفع أيدي المتغلبين عن المؤمنين وأخذ الأموال ووضعها في مواضعها من أيدي الجبابرة ورفع ممالك الظلم التي لا يمكننا رفعها إلا بطريقة وجهاد الكفار الذي لا يمكن إلا مع ظهوره
فيقال لهم هذا كلام ظاهر البطلان وذلك أن الإمام الذي جعلتموه لطفا هو ما شهدت به العقول والعادات وهو ما ذكرتموه قلتم إن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد واشترطتم فيه العصمة قلتم لأن مقصود الأنزجار لا يحصل إلا بها ومن المعلوم أن الموجودين الذين كانوا قبل المنتظر لم يكن أحد منهم بهذه الصفة لم يكن أحد منهم منبسط اليد ولا متصرفا
وعلي رضي الله عنه تولى الخلافة ولم يكن تصرفه وانبساطه تصرف من قبله وانبساطهم وأما الباقون فلم تكن أيديهم منبسطة ولا متصرفون بل كان يحصل بأحدهم ما يحصل بنظرائه
وأما الغائب فلم يحصل به شيء فإن المعترف بوجوده إذا عرف أنه غاب من أكثر من أربعمائة سنة وستين سنة وأنه خائف لا يمكنه الظهور فضلا عن إقامة الحدود ولا يمكنه أن يأمر أحدا ولا ينهاه لم يزل الهرج والفساد بهذا
ولهذا يوجد طوائف الرافضة أكثر الطوائف هرجا وفسادا واختلافا بالألسن والأيدي ويوجد من الإقتتال والاختلاف وظلم بعضهم لبعض ما لا يوجد فيمن لهم متول كافر فضلا عن متول مسلم فأي لطف حصل لمتبعيه به
واعتبر المدائن والقرى التي يقر أهلها بإمامة المنتظر مع القرى التي لا يقرون به تجد حال هؤلاء أعظم انتظاما وصلاحا في المعاش والمعاد حتى أن الخبير بأحوال العالم يجد بلاد الكفار لوجود رؤسائهم يقيمون مصلحة دنياهم أكثر انتظاما من كثير من الأرض التي ينسبون فيها إلى متابعة المنتظر لا يقيم لهم سببا من مصلحة دينهم ودنياهم
ولو قدر أن اعترافهم بوجوده يخافون معه أن يظهر فيعاقبهم على الذنوب كان من المعلوم أن خوف الناس من ولاة أمورهم المشهورين أن يعاقبوهم أعظم من خوف هؤلاء من عقوبة المنتظر لهم
============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل المقحمات هي الذنوب العظام كما قال النووي أم أنها ذنوب أرتكبت بقصد طاعة الله لكن التسرع والاندفاع دافع للخطأ من غير قصد

تعقيب علي المقحمات يتبين من تعريف المقحمات بين النووي ومعاجم اللغة العتيدة أن النووي أخطأ جدا في التعريف { المقحمات مفتوح للكتابة...