معاني كلمات القران الكريم




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بؤامج نداء الايمان

النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق/مدونة ديوان الطلاق//المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني / / /*الـذاكـر / /القرآن الكريم مع الترجمة / /القرآن الكريم مع التفسير / /القرآن الكريم مع التلاوة / / /الموسوعة الحديثية المصغرة/الموسوعة الفقهية الكبرى //برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم //برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية / /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة / /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين / /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر / /برنامج مكتبة السنة / /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية / /برنامج موسوعة شرح الحديث الشريف فتح البارى لشرح صحيح البخارى وشرح مسلم لعبد الباقى وشرح مالك للإمام اللكنوى / /خلفيات إسلامية رائعة / /مجموع فتاوى ابن تيمية / /مكتبة الإمام ابن الجوزي / /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني / /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي / /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي / /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي / /مكتبة الإمام ابن كثير / /مكتبة الإمام الذهبي / /مكتبة الإمام السيوطي / /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني / /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي / /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي / /مكتبة الشيخ حمود التويجري / /مكتبة الشيخ ربيع المدخلي / /مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ / /مكتبة الشيخ صالح الفوزان / /مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي / /مكتبة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم / /مكتبة الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان / /مكتبة الشيخ عبد المحسن العباد / /مكتبة الشيخ عطية محمد سالم / /مكتبة الشيخ محمد أمان الجامي /مكتبة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي / /مكتبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / /مكتبة الشيخ مقبل الوادعي / /موسوعة أصول الفقه / /موسوعة التاريخ الإسلامي / /موسوعة الحديث النبوي الشريف / /موسوعة السيرة النبوية / /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية / موسوعة توحيد رب العبيد / موسوعة رواة الحديث / موسوعة شروح الحديث / /موسوعة علوم الحديث / /موسوعة علوم القرآن / /موسوعة علوم اللغة / /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

الجمعة، 4 مارس 2022

ج2- تابع إقامة الدليل على إبطال التحليل/6-{من ص 6 الي آخر صفحة 12- }

إقامة الدليل على إبطال التحليل/6-

 

السادس:
 
= تسميته الأخبار التي أخبر بها الرسول عن ربه أخبارا متشابهة كما يسمون آيات الصفات متشابهة وهذا كما يسمي المعتزلة الأخبار المثبتة للقدر متشابهة، وهذه حال أهل البدع والأهواء الذين يسمون ما وافق آراءهم من الكتاب والسنة محكما وما خالف آراءهم متشابها، وهؤلاء كما قال الله تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } وكما قال تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } وكما قال تعالى: { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون }، السابع: قياسه لما سماه المتشابه في الأخبار على المتشابه في آي الكتاب ليلحقه به في الإعراض عن ذكره وعدم الاشتغال به، وحاشا لله أن يكون في كتاب الله ما أمر المسلمين بالإعراض عنه وعدم التشاغل به، أو أن يكون سلف الأمة وأئمتها أعرضوا عن شيء من كتاب الله لا سيما الآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته، فما منها آية إلا وقد روى الصحابة فيما يوافق معناها ويفسروه عن النبي ﷺ وتكلموا في ذلك بما لا يحتاج معه إلى مزيد، كقوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه }، فإن المتأخرين، وإن كان فيهم من حرف فقال: قبضته قدرته، وبيمينه بقوته أو بقسمه أو غير ذلك، فقد استفاضت الأحاديث الصحيحة التي رواها خيار الصحابة وعلماؤهم، وخيار التابعين وعلماؤهم بما يوافق ظاهر الآية ويفصل المعنى كحديث أبي هريرة المتفق عليه، وحديث عبد الله بن عمر المتفق عليه، وحديث ابن مسعود في قصة الخبر المتفق عليه، وحديث ابن عباس الذي رواه الترمذي وصححه وغير ذلك، وكذلك أنه خلق آدم بيديه، وغير ذلك من الآيات، الثامن: قوله والدليل عليه أن أئمة السنة وأخيار الأمة بعد صحب النبي ﷺ لم يودع أحد منهم كتابه الأخبار المتشابهات فلم يورد مالك رضي الله عنه في الموطإ منها شيئا كما أورده الآجري وأمثاله، وكذلك الشافعي وأبو حنيفة وسفيان والليث والثوري، ولم يعتنوا بنقل المشكلات فإن هذا الكلام لا يقوله إلا من كان من أبعد الناس عن معرفة هؤلاء الأئمة، وما نقلوه وصنفوه، وقوله: رجم بالغيب من مكان بعيد فإن نقل هؤلاء الأئمة وأمثالهم لهذه الأحاديث مما يعرفه من له أدنى نصيب من معرفة هؤلاء الأئمة، وهذه الأحاديث عن هؤلاء وأمثالهم أخذت، وهم الذين أدوها إلى الأمة، والكذب في هذا الكلام أظهر من أن يحتاج إلى بيان، لكن قائله لم يتعمد الكذب ولكنه قليل المعرفة بحال هؤلاء وظن أن نقل هذه الأحاديث لا يفعله إلا الجاهل الذين يسميهم المشبهة أو الزنادقة وهؤلاء برآء عنده من ذلك، فتركب من قلة علمه بالحق ومن هذا الظن الناشئ عن الاعتقاد الفاسد هذا الكلام الذي فيه من الفرية والجهل والضلال ما لا يخفى على أدنى الرجال، التاسع: قوله لم يورد مالك في الموطإ منها شيئا، وقد ذكر أحاديث النزول وأحاديث الضحك فيما أنكره ومن المعلوم أن حديث النزول من أشهر الأحاديث في موطإ مالك رواه عن أجل شيوخه ابن شهاب عمن هو من أجل شيوخه أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي عبد الله الأعز عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: { ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول: من يدعوني فأستجب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له }
 
= وقد رواه أهل الصحاح كالبخاري ومسلم من طريق مالك وغيره، وأحاديث النزول متواترة عن النبي ﷺ رواها أكثر من عشرين نفسا من الصحابة بمحضر بعضهم من بعض والمستمع لها منهم يصدق المحدث بها ويقره، ولم ينكرها منهم أحد، ورواه أئمة التابعين وعامة الذين سماهم من الأئمة، رووا ذلك وأودعوه كتبهم وأنكروا على من أنكره، قال شارح الموطإ الشرح الذي لم يشرح أحد مثله، الإمام أبو عمر بن عبد البر هذا حديث ثابت، فمن جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته، قال: وهو حديث منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي ﷺ، وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله في كل مكان وليس على العرش، وبسط الكلام في ذلك، وكذلك أحاديث الضحك متواترة عن النبي وقد رواها الأئمة، وروى مالك في الموطإ منها حديثه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: { يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل في سبيل الله فيستشهد }
 
= وقد أخرجه أهل الصحاح من حديث مالك وغير مالك، ورواه أيضا سفيان الثوري الإمام عن أبي الزناد وحدث به، وقد روى صاحب الصحيحين منها قطعة مثل هذا الحديث ومثل حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الطويل المشهور وفيه: { فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله منه فإذا ضحك الله منه قال له ادخل الجنة } ورواه أعلم التابعين بإجماع المسلمين سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وغير سعيد أيضا، ورواه عنه الزهري وعنه أصحابه، وفي هذا الحديث: { فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقولون نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون } وهذا الحديث في الصحيحين من طريق أخرى عن أبي سعيد من رواية الليث بن سعد إمام المسلمين وغيره الذي زعم أنه لم يكن يروي هذه الأحاديث، وفيه ألفاظ عظيمة أبلغ من الحديث الأول كقوله: { فيرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة }، وقوله فيه: { فيكشف عن ساقه } وقوله: { فيقول الجبار بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار يخرج أقواما قد امتحشوا }، وقد روى مالك أيضا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: { لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي } وقد أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري من طريقه وطريق غيره، وروى البخاري في صحيحه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: { إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك } رواه سعيد عن مالك، وقد روى مالك في موطئه عن زيد بن أسلم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن { عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } الآية، فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله ﷺ يسأل عنها فقال رسول الله ﷺ: إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل ؟ فقال رسول الله ﷺ: إن الله تبارك وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار }، وهذا الحديث إنما رواه أهل السنن والمسانيد كأبي داود والترمذي والنسائي وقال حديث حسن صحيح، وقد قيل إن إسناده منقطع وإن راويه مجهول، ومع هذا فقد رواه مالك في الموطإ مع أنه أبلغ من غيره لقوله: { ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، .، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية }، ومن العجب أن الآجري يروي في كتاب الشريعة له من طريق مالك والطبيعي والليث وغيرهم، فلو تأمل أبو المعالي وذويه الكتاب الذي أنكروه لوجدوا فيه ما يخصمهم، ولكن أبو المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه كان قليل المعرفة بالآثار النبوية ولعله لم يطالع علاتها بحال حتى يعلم ما فيه، فإنه لم يكن له بالصحيحين البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي وأمثال هذه السنن علم أصلا فكيف بالموطإ ونحوه وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني وأبو الحسن مع إتمام إمامته في الحديث فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه ويجمع طرقها، فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله، فأما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما فكان يستغني عنها في ذلك فلهذا كان مجرد الاكتفاء بكتابه في هذا الباب يورث جهلا عظيما بأصول الإسلام، واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي، الذي هو نخبة عمره نهاية المطلب في دراية المذهب " ليس فيه حديث واحد معزو إلى صحيح البخاري إلا حديث واحد في البسملة وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره، ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي، فإذا لم يسوغ أصحابه أن يعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه كيف يكون حالهم في غير هذا ؟ وإذا اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يتخذ إماما في مسألة واحدة من مسائل الفروع فكيف يتخذ إماما في أصول الدين مع العلم بأنه إنما نيل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه، لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة، وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين غايته فيه أنه يوجد منه نقل جمعه أو بحث تفطن له فلا يجعل إماما فيه كالأئمة الذين لهم وجوه، فكيف بالكلام الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بعد الشرك بالله ذنب أعظم منه ؟، وقد بينا أن ما جعله أصل دينه في الإرشاد والشامل وغيرهما هو بعينه من الكلام الذي نصت عليه الأئمة، ولهذا روى عنه ابن طاهر أنه قال وقت الموت: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يدركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا أموت على عقيدة أمي أو عقائد عجائز نيسابور، قال أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي: حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الطبري الفقيه قال: دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرضه الذي مات فيه بنيسابور، فأقعد، فقال لنا: اشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح عليهم السلام، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور، وعامة المتأخرين من أهل الكلام سلكوا خلفه من تلامذته وتلامذة تلامذته وتلامذة تلامذة تلامذته، ومن بعدهم، ولقلة علمه بالكتاب والسنة وكلام سلف الأمة يظن أن أكثر الحوادث ليست في الكتاب والسنة والإجماع ما يدل عليها وإنما يعلم حكمها بالقياس، كما يذكر ذلك في كتبه، ومن كان له علم بالنصوص ودلالتها على الأحكام علم أن قول أبي محمد بن حزم وأمثاله: إن النصوص تستوعب جميع الحوادث، أقرب إلى الصواب من هذا القول، وإن كان في طريقة هؤلاء من الإعراض عن بعض الأدلة الشرعية ما قد يسمى قياسا جليا، وقد يجعل من دلالة مثل فحوى الخطاب والقياس في معنى الأصل، وغير ذلك، ومثل الجمود على الاستصحاب الضعيف، ومثل الإعراض عن متابعة أئمة من الصحابة ومن بعدهم ما هو معيب عليهم، وكذلك القدح في أعراض الأئمة، لكن الغرض أن قول هؤلاء في استيعاب النصوص للحوادث، وأن الله ورسوله قد بين للناس دينهم هو أقرب إلى العلم والإيمان الذي هو الحق ممن يقول إن الله لم يبين للناس حكم أكثر ما يحدث لهم من الأعمال، بل وكلهم فيها إلى الظنون المتقابلة والآراء المتعارضة، ولا ريب أن سبب هذا كله ضعف العلم بالآثار النبوية والآثار السلفية، وإلا فلو كان لأبي المعالي وأمثاله بذلك علم راسخ، وكانوا قد عضوا عليه بضرس قاطع لكانوا ملحقين بأئمة المسلمين لما كان فيهم من الاستعداد لأسباب الاجتهاد، ولكن اتبع أهل الكلام المحدث والرأي الضعيف للظن وما تهوى الأنفس، الذي ينقض صاحبه إلى حيث جعله الله مستحقا لذلك، وإن كان له من الاجتهاد في تلك الطريقة ما ليس لغيره، فليس الفضل بكثرة الاجتهاد ولكن بالهدى والسداد ; كما جاء في الأثر: { ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا } وقد { قال النبي ﷺ في الخوارج: يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية }، ويوجد لأهل البدع من أهل القبلة لكثير من الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم من الاجتهاد ما لا يوجد لأهل السنة في العلم والعمل، وكذلك لكثير من أهل الكتاب والمشركين، لكن إنما يراد الحسن من ذلك كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال: أخلصه وأصوبه، فقيل له: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وأما الشافعي رضي الله عنه فقد روى الأحاديث التي تتعلق بغرض كتابه مثل حديث النزول، وحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي فيه { قول رسول الله ﷺ للجارية: أين الله ؟ قالت: في السماء، قال: من أنا ؟ قالت: أنت رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة } وقد رواه مسلم في صحيحه، بل روى في كتابه الكبير الذي اختصر منه مسنده من الحديث ما هو من أبلغ أحاديث الصفات ورواه بإسناد فيه ضعف فقال: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني موسى بن عبيدة حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبيد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك يقول: { أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى النبي ﷺ فقال النبي ﷺ: ما هذه ؟ قال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النبي ﷺ: يا جبريل وما يوم المزيد ؟ قال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب مسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله عز وجل ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد للنبيين وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون ويجلس من ورائهم على تلك الكثب فيقول الله عز وجل لهم أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فاسألوني أعطكم فيقولون ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من خير، وهو اليوم الذي استوى ربكم على العرش فيه، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة }، وأما ما رواه الثوري والليث بن سعد وابن جريج والأوزاعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة ونحوهم من هذه الأحاديث فلا يحصيه إلا الله، بل هؤلاء مدار هذه الأحاديث من جهتهم أخذت، وحماد بن سلمة الذي قال إن مالكا احتذى موطأه على كتابه هو قد جمع أحاديث الصفات لما أظهرت الجهمية إنكارها حتى إن حديث خلق آدم على صورته أو صورة الرحمن قد رواه هؤلاء الأئمة رواه الليث بن سعد عن ابن عجلان، ورواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد، ومن طريقه رواه مسلم في صحيحه ورواه الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن النبي ﷺ مرسلا، ولفظه: { خلق آدم على صورة الرحمن } مع أن الأعمش رواه مسندا، فإذا كان الأئمة يروون مثل هذا الحديث وأمثاله مرسلا فكيف يقال إنهم كانوا يمتنعون عن روايتها، والحديث هو في الصحيحين من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة، وفي صحيح مسلم من حديث قتادة عن أبي أيوب عن أبي هريرة، وقد روي عن ابن القاسم قال: سألت مالكا عن من يحدث الحديث { إن الله خلق آدم على صورته }، والحديث { إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة } { وأنه يدخل في النار يده حتى يخرج من أراد }، فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث به أحد، قلت: هذان الحديثان كان الليث بن سعد يحدث بهما، فالأول حديث الصورة حدث به عن ابن عجلان، والثاني هو في حديث أبي سعيد الخدري الطويل، وهذا الحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث، والأول قد أخرجاه في الصحيحين من حديث غيره، وابن القاسم إنما سأل مالكا لأجل تحديث الليث بذلك، فيقال: إما أن يكون ما قاله مالك مخالفا لما فعله الليث ونحوه أو ليس بمخالف بل يكره أن يتحدث بذلك أن يفتنه ذلك ولا يحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقد كان مالك يترك رواية أحاديث كثيرة لكونه لا يأخذ بها ولم يتركها غيره فله في ذلك مذهب، فغاية ما يعتذر لمالك أن يقال إنه كره التحدث بذلك مطلقا فهذا مردود على من قاله فقد حدث بهذه الأحاديث من هم أجل من مالك عند نفسه وعند المسلمين كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن عباس وعطاء بن أبي رباح، وقد حدث بها نظراؤه كسفيان الثوري والليث بن سعد وابن عيينة، والثوري أعلم من مالك بالحديث وأحفظه له، وهو أقل غلطا فيه من مالك، وإن كان مالك ينقي من يحدث عنه، وأما الليث فقد قال فيه الشافعي: كان أفقه من مالك إلا أن أصحابه ضيعوه، ففي الجملة: هذا كلام في حديث مخصوص، أما أن يقال إن الأئمة أعرضوا عن هذه الأحاديث مطلقا فهذا بهتان عظيم، العاشر: إن هؤلاء الذين سماهم وسائر أئمة الإسلام كانوا كلهم مثبتين لموجب الآيات والأحاديث الواردة في الصفات مطبقين على ذم الكلام الذي بنى عليه أبو المعالي أصول دينه، وزعم أنه أول ما أوجبه الله على العبد بعد البلوغ وهو ما استدل به على حدوث الأجسام بقيام الأعراض بها حتى إن شيخه أبا الحسن الأشعري ذكر اتفاق الأنبياء وأتباعهم وسلف هذه الأمة على تحريم هذه الطريقة التي ذكر أبو المعالي أنها أصل الإيمان وبها وبنحوها عارض هذه الأحاديث، وقد كتبنا كلام الأشعري وغيره في ذلك في كتاب تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية "، لما استدل الرازي بالحركة على حدوث ما قامت به في إثبات حجته الدالة على نفي التحيز عندهم، ولكن علمه بحالهم كعلمه بمذهبه في آيات الصفات وأحاديث الصفات، حيث اعتقد أن مذهبهم إمرار حروفها مع نفي دلالتها على ما دلت عليه من الصفات، فهذا الضلال في معرفة رأيهم، كذلك الضلال في معرفة روايتهم وقولهم في شيئين: في الكلام الذي كان ينتحله، وفي النصوص الواردة عن الرسول فقد حرفوا مذهب الأئمة في هذه الأصول الثلاثة كما حرفوا نصوص الكتاب والسنة، الحادي عشر: إن الذي أوجب لهم جمع هذه الأحاديث وتبويبها ما أحدثت الجهمية من التكذيب بموجبها وتعطيل صفات الرب المستلزمة لتعطيل ذاته وتكذيب رسوله والسابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، وما صنفوه في ذلك من الكتب وبوبوه أبوابا

مبتدعة يردون بها ما أنزله الله على رسوله ويخالفون بها صرائح المعقول وصحائح المنقول، وقد أوجب الله تعالى تبليغ ما بعث به رسله وأمر ببيان العلم، وذلك يكون بالمخاطبة تارة وبالمكاتبة أخرى، لماذا كان المبتدعون قد وضعوا الإلحاد في كتب فإن لم يكتب العلم الذي بعث الله به رسوله في كتب لم يظهر إلحاد ذلك ولم يحصل تمام البيان والتبليغ ولم يعلم كثير من الناس ما بعث الله به رسوله من العلم والإيمان المخالف لأقوال الملحدين المحرفين وكان جمع ما ذكره النبي ﷺ وأخبر به عن ربه أهم من جمع غيره، الثاني عشر: إن أبا المعالي وأمثاله يضعون كتب الكلام الذي تلقوا أصوله عن المعتزلة والمتفلسفة ويبوبون أبوابا ما أنزل الله بها من سلطان ويتكلمون فيها بما يخالف الشرع والعقل فكيف ينكرون على من يصنف ويؤلف ما قاله رسول الله ﷺ وأصحابه والتابعون لهم بإحسان ؟ والأصول التي يقررها هي أصول جهم بن صفوان في الصفات والقدر والإرجاء، وقد ظهر ذلك في أتباعه كالمدعي المغربي في مرشدته وغيره، فإن هؤلاء في القدر يقولون بقول جهم أي يميلون إلى الجبر، وفي الإرجاء بقول جهم أيضا لأن الإيمان هو المعرفة، وأما في الصفات فهم يخالفون جهما والمعتزلة، فهم يثبتون الصفات في الجملة، لكن جهم والمعتزلة حقيقة قولهم نفي الذات والصفات وإن لم يقصدوا ذلك ولم يعتقدوه، وهؤلاء حقيقة قولهم إثبات صفات بلا ذات وإن لم يعتقدوا ذلك ويقصدوه، ولهذا هم متناقضون لكن هم خير من المعتزلة ولهذا إذا حقق قولهم لأهل الفطر السليمة يقول أحدهم فيكون الله شبحا وشبحه خيال الجسم مثل ما يكون من ظله على الأرض، وذلك هو عرض فيعلمون أن من وصف الرب بهذه الأسلوب مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه، ونحوه، فلا يكون الله على قوله شيئا قائما بنفسه موجودا بل يكون كالخيال الذي يشبحه الذهن من غير أن يكون ذلك الخيال قائما بنفسه، ولا ريب أن هذا حقيقة قول هؤلاء الذين يزعمون أنهم ينزهون الرب بنفي الجسم وما يتبع ذلك، ثم إنهم مع هذا النفي إذا نفوا الجسم وملازيمه، وقالوا لا داخل العالم ولا خارجه فيعلم أهل العقول أنهم لم يثبتوا شيئا قائما بنفسه موجودا، بل يقال هذا الذي أثبتموه شبح أي خيال كالخيال الذي هو ظل الأشخاص، وكالخيال الذي في المرآة والماء، ثم من المعلوم أن هذا الخيال والمثال والشبح يستلزم حقيقة موجودة قائمة بالنفس فإن خيال الشخص يستلزم وجوده، وكذلك قول هؤلاء، فإنهم يقرون بوجود مدبر خالق للعالم موصوف بأنه عليم قدير، ويصفونه من السلب بما يوجب أن يكون خيالا فيكون قولهم مستلزما لوجوده ولعدمه معا فإذا تكلموا بالسلب لم يبق إلا الخيال، ويصفون ذلك الخيال بالثبوت فيكون الخيال يستلزم ثبوت الموجود القائم بنفسه، الثالث عشر: إن معرفة أبي المعالي وذويه بحال هؤلاء الأئمة الذين اتفقت الأمة على إمامتهم لا يكون أعظم عن معرفتهم بالصحابة والتابعين، بنصوص رسول الله ﷺ، وقد رأيت أبا المعالي في ضمن كلامه يذكر ما ظاهره الاعتذار عن الصحابة وباطنه جهل بحالهم مستلزم إذا اطرد الزندقة والنفاق، فإنه أخذ يعتذر عن كون الصحابة لم يمهدوا أصول الدين ولم يقرروا قواعده فقال لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد والقتال عن ذلك، هذا مما في كلامه، وهذا إنما قالوه لأن هذه الأصول والقواعد التي يزعمون أنها أصول الدين قد علموا أن الصحابة لم يقولوها وهم يظنون أنها أصول صحيحة وأن الدين لا يتم إلا بها، وللصحابة رضي الله عنهم أيضا من العظمة في القلوب ما لم يمكنهم دفعه حتى يصيروا بمنزلة الرافضة القادحين في الصحابة، ولكن أخذوا من الرفض شعبة كما أخذوا من التجهم شعبة، وذلك دون ما أخذته المعتزلة من الرفض والتجهم حين غلب على الرافضة التجهم وانتقلت عن التجسيم إلى التعطيل والتجهم إذ كان هؤلاء نسجوا على منوال المعتزلة لكن كانوا أصلح منهم وأقرب إلى السنة وأهل الإثبات في أصول الكلام، ولهذا كان المغاربة الذين اتبعوا ابن التومرت المتبع لأبي المعالي أمثل وأقرب إلى الإسلام من المغاربة الذين اتبعوا القرامطة وغلوا في الرفض والتجهم حتى انسلخوا من الإسلام فظنوا أن هذه الأصول التي وضعوها هي أصول الدين الذي لا يتم الدين إلا بها، وجعلوا الصحابة حين تركوا أصول الدين كانوا مشغولين عنه بالجهاد، وهم في ذلك بمنزلة كثير من جندهم ومقاتلتهم الذين قد وضعوا قواعد وسياسة للملك والقتال فيها الحق والباطل ولم نجد تلك السيرة تشبه سيرة الصحابة ولم يمكنهم القدح فيهم فأخذوا يقولون كانوا مشتغلين بالعلم والعبادة عن هذه السيرة وأبهة الملك الذي وضعناه، وكل هذا قول من هو جاهل بسيرة الصحابة، وعلمهم، ودينهم، وقتالهم، وإن كان لا يعرف حقيقة أحوالهم فلينظر إلى آثارهم، فإن الأثر يدل على المؤثر، هل انتشر عن أحد من المنتسبين إلى القبلة أو عن أحد من الأمم المتقدمين والمتأخرين من العلم والدين ما انتشر وظهر عنهم ؟ أم هل فتحت أمة البلاد وقهرت العباد، كما فعلته الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن كانت علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقا باطنا وظاهرا، وكانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله وفعلهم لأمر الله، فمن حاد عن سبيلهم لم ير ما فعلوه فيزين له سوء عمله حتى يراه حسنا ويظن أنه حصل له من العلوم النافقة والأعمال الصالحة ما قصروا عنه، وهذه حال أهل البدع، ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته التي رواها عبدوس مالك العطار: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ وقد ثبت عن النبي ﷺ من غير وجه أنه قال: { خير القرون القرن الذي بعث فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } والأدلة الدالة على تفضيل القرن الأول، ثم الثاني أكثر من أن تذكر، ومعلوم أن أم الفضائل العلم والدين والجهاد، فمن ادعى أنه حقق من العلم بأصول

الدين أو من الجهاد ما لم يحققوه، كان من أجهل الناس وأضلهم، وهو بمنزلة من يدعي من أهل الزهد والعبادة والنسك أنهم حققوا من العبادات والمعارف والمقامات والأحوال ما لم يحققه الصحابة، وقد يبلغ الغلو بهذه الطوائف إلى أن يفضلوا نفوسهم وطرقهم على الأنبياء وطرقهم ونجدهم عند التحقيق من أجهل الناس وأضلهم وأفسقهم وأعجزهم، الوجه الرابع عشر: أن يقال له هؤلاء الذين سميتهم أهل الحق وجعلتهم قاموا من تحقيق أصول الدين بما لم يقم به الصحابة هم متناقضون في الشرعيات والعقليات، أما الشرعيات فإنهم تارة يتأولون نصوص الكتاب والسنة، وتارة يبطلون التأويل فإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة الذين يتأولون نصوص الصفات مطلقا ردوا عليهم وأثبتوا لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات، وإذا ناظروا من يثبت صفات أخرى دل عليها الكتاب والسنة كالمحبة والرضاء والغضب والمقت والفرح والضحك ونحو ذلك تأولوها وليس لهم فرق مضبوط بين ما يتأول وما لا يتأول، بل منهم ما يحيل على العقل، ومنه ما يحيل على الكشف ; فأكثر متكلميهم يقولون ما علم ثبوته بالعقل لا يتأول وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول، ومنهم من يقول: ما علم ثبوته بالكشف والنور الإلهي لا يتأول وما لم يعلم ثبوته بذلك يتأول وكلا الطريقين ضلال وخطأ من وجوه: أحدها: أن يقال عدم الدليل ليس دليل العدم فإن عدم العلم بالشيء يعقل أو كشف يقتضي أن يكون معدوما فمن أين لكم ما دلت عليه النصوص أو الظواهر ولم تعلموا انتفاءه أنه منتف في نفس الأمر ؟ الوجه الثاني: إن هذا في الحقيقة عزل للرسول واستغناء عنه وجعله بمنزلة شيخ من شيوخ المتكلمين أو الصوفية، فإن المتكلم مع المتكلم والمتصوف مع المتصوف يوافقه فيما علمه بنظره أو كشفه دون ما لم يعلمه بنظره أو كشفه، بل ما ذكروه فيه تنقيص للرسول عن درجة المتكلم والمتصوف فإن المتكلم والمتصوف إذا قال نظيره شيئا ولم يعلم ثبوته ولا انتفاءه لا نثبته ولا ننفيه، وهؤلاء ينفون معاني النصوص ويتأولونها وإن لم يعلموا انتفاء مقتضاها، ومعلوم أن من جعل الرسول بمنزلة واحد من هؤلاء كان في قوله من الإلحاد والزندقة ما الله به عليم، فكيف بمن جعله في الحقيقة دون هؤلاء ؟ وإن كانوا هم لا يعلمون أن هذا لازم قولهم فنحن ذكرنا أنه لازم لهم لنبين فساد الأصول التي لهم، وإلا فنحن نعلم أن من كان منهم ومن غيرهم مؤمنا بالله ورسوله لا ينزل الرسول هذه المنزلة، الوجه الثالث: أن يقال ما نفيتموه من الصفات وتأولتموه من يقال في ثبوته من العقل والكشف نظير ما قلتموه فيما أثبتموه وزيادة وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع وبينت أن الأدلة الدالة سمعا وعقلا على ثبوت رحمته ومحبته ورضاه وغضبه ليست بأضعف من الأدلة على إرادته، بل لعلها أقوى منها فمن تأول نصوص المحبة والرضا والرحمة وأقر نصوص الإرادة كان متناقضا، الوجه الرابع: إن ما ذكرتموه هو نظير قول المتفلسفة والمعتزلة فإنهم يقولون تأولنا ما تأولناه لدلالة أدلة العقول على نفي مقتضاه وكل ما يجيبونهم به يجيبكم أهل الإثبات من أهل الحديث والسنة به، الوجه الخامس: إن أهل الإثبات لهم من العقل الصريح والكشف الصحيح ما يوافق ما جاء به النصوص، فهم مع موافقة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة يعارضون بعقلهم عقل النفاة وبكشفهم كشف النفاة لكن عقلهم وكشفهم هو الصحيح، ولهذا تجدهم ثابتين فيه وهم في مزيد علم وهدى كما قال تعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وأولئك تجدهم في مزيد حيرة وضلال، وآخر أمرهم ينتهي إلى الحيرة ويعظمون الحيرة، فإن آخر معقولهم الذي جعلوه ميزانا يزنون به الكتاب والسنة يوجب الحيرة حتى يجعلوا الرب موجودا معدوما، ثابتا منفيا، فيصفونه بصفة الإثبات وبصفة العدم، والتحقيق عندهم جانب النفي، بأنهم يصفونه بصفات المعدوم والموات، وآخر كشفهم وذوقهم وشهودهم الحيرة، وهؤلاء لا بد لهم من إثبات فيجعلونه حالا في المخلوقات، أو يجعلون وجوده وجود المخلوقات، فآخر نظر الجهمية وعقلهم أنهم لا يعبدون شيئا، وآخر كشفهم وعقلهم أنهم يعبدون كل شيء، وأضل البشر من جعل مثل هذا الكشف ميزانا يزن به الكتاب والسنة أما أهل العقل الصريح والكشف الصحيح فهم أئمة العلم والدين من مشايخ الفقه والعبادة الذين لهم من الأمة لسان صدق وكل من له في الأمة لسان صدق عام من أئمة العلم والدين المنسوبين إلى الفقه والتصوف فإنهم على الإثبات لا على النفي، وكلامهم في ذلك كثير قد ذكرناه في غير هذا الموضع، وأما تناقضهم في العقليات فلا يحصى مثل قولهم: إن الباري لا تقوم به الأعراض ولكن تقوم به الصفات، والصفات والأعراض في المخلوق سواء عندهم فالحياة والعلم والقدرة والإرادة والحركة والسكون في المخلوق وهو عندهم عرض، ثم قالوا في الحياة ونحوها: هي في حق الخالق صفات وليست بأعراض إذ العرض هو ما لا يبقى زمانين والصفة القديمة باقية، ومعلوم أن قوله العرض ما لا يبقى زمانين هو فرق بدعوى وتحكم، فإن الصفات في المخلوق لا تبقى أيضا زمانين عندهم فتسمية الشيء صفة أو عرضا لا يوجب الفرق، لكنهم ادعوا أن صفة المخلوق لا تبقى زمانين وصفة الخالق تبقى فيمكنهم أن يقولوا العرض القائم بالمخلوق لا يبقى والقائم بالخالق باق، هذا إن صح فقولهم إن الصفات التي هي الأعراض لا تبقى فأكثر العقلاء يخالفونهم في ذلك، وذلك قولهم: إن الله يرى كما ترى الشمس والقمر من غير مواجهة ولا معاينة وأن كل موجود يرى حتى الطعم واللون، وأن المعنى الواحد القائم بذات المتكلم يكون أمرا بكل ما أمر به ونهيا عن كل ما نهى عنه وخبرا بكل ما أخبر به وذلك المعنى إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو التوراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل، وأن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له،

وأن هذا المعنى يسمع بالأذن على قول بعضهم إن السمع عنده متعلق بكل موجود، وعلى قول بعضهم إنه لا يسمع بالأذن لكن بلطيفة جعلت في قلبه فجعلوا السمع من جنس الإلهام، ولم يفرقوا بين الإيحاء إلى غير موسى وبين تكليم موسى، ومثل قولهم: إن القديم لا يجوز عليه الحركة والسكون ونحو ذلك لأن هذه لا تقوم إلا بتحيز، وقالوا: إن القدرة والحياة ونحوهما يقوم بقديم غير متحيز، وجمهور العقلاء يقولون إن هذا فرق بين المتماثلين، وكذلك زعمهم أن قيام الأعراض التي هي الصفات بالمحل الذي تقوم به يدل على حدوثها، ثم قالوا: إن الصفات قائمة بالرب ولا تدل على حدوثه وكذلك في احتجاجهم على المعتزلة في مسألة القرآن فإن عمدتهم فيها أنه لو كان، مخلوقا لم يخل إما أن يخلقه في نفسه أو في غيره أو لا في نفسه ولا في غيره، وهذا باطل لأنه يستلزم قيام الصفة بنفسها والأول باطل لأنه ليس بمحل الحوادث، والثاني باطل لأنه لو خلقه في محل لعاد حكمه على ذلك المحل فكان يكون هو المتكلم به، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ولم يعد على غيره كالعلم والقدرة والحياة، وهذا من أحسن ما يذكرونه من الكلام لكنهم نقضوه حيث منعوا أن تقوم به الأفعال مع اتصافه بها فيوصف بأنه خالق وعادل ولم يقم به خلق ولا عدل، ثم كان من قولهم الذي أنكره الناس، إخراج الحروف عن مسمى الكلام، وجعل دلالة لفظ الكلام عليها مجاز، فأحب أبو المعالي ومن اتبعه كالرازي أن يخلصوا من هذه الشناعة، فقالوا: اسم الكلام يقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس، وعلى الحروف الدالة عليه وهذا الذي قالوه أفسدوا به أصل دليلهم على المعتزلة، فإنه إذا صح أن ما قام بغير الله يكون كلاما له حقيقة بطلت حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الكلام إذا قام بمحل عاد حكمه عليه، وجاز حينئذ أن يقال إن الكلام مخلوق، خلقه في غيره وهو كلامه حقيقة ولزمهم من الشناعة ما لزم المعتزلة حيث ألزمهم السلف والأئمة أن تكون الشجرة هي القائلة لموسى: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } مع أن أدلتهم في مسألة امتناع حلول الحوادث لما تبين للرازي ونحوه ضعفها لم يمكنه أن يعتمد في مسألة الكلام على هذا الأصل، بل احتج بحجة سمعية هي من أضعف الحجج، حيث أثبت الكلام النفساني بالطريقة المشهورة، ثم قال: وإذا ثبت ذلك ثبت أنه واحد، وأنه قديم، لأن كل من قال ذلك قال هذا، ولم يفرق أحد، هكذا قرره في نهاية العقول، ومعلوم أن الدليل لا يصلح لإثبات مسألة فرعية عند محققي الفقهاء، وقد بينا تناقضهم في هذه المسألة بقريب من مائة وجه عقلي في هذا الكتاب، وكان بعض الفقهاء وقد قال للفقيه أبي محمد بن عبد السلام في مسألة القرآن: كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار ؟ فقال له أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري، وأيضا فهم في مسألة القدر يسوون بين الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك، ويتأولون قوله تعالى: { ولا يرضى لعباده الكفر } أي بمعنى لا يريده لهم، وعندهم أنه رضيه وأحبه لمن وقع منه، وكل ما وقع في الوجود من كفر وفسوق وعصيان فالله يرضاه ويحبه، وكل ما لم يقع من طاعة وبر وإيمان فإن الله لا يحبه ولا يرضاه، ثم إنهم إذا تكلموا مع سائر العلماء في أصول الفقه بينوا أن المستحب هو ما يحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر استحباب، سواء قدره أو لم يقدره وهذا باب يطول وصفه، الوجه الخامس عشر: أن يقال إن هذه القواعد التي جعلتموها أصول دينكم وظننتم أنكم بها صرتم مؤمنين بالله ورسوله وباليوم الآخر، وزعمتم أنكم تقدمتم بها على سلف الأمة وأئمتها، وبها دفعتم أهل الإلحاد من المتفلسفة والمعتزلة ونحوه هي عند التحقيق تهدم أصول دينكم وتسلط عليكم عدوكم، وتوجب تكذيب نبيكم، والطعن في خير قرون هذه الأمة، وهذا أيضا فيما فعلتموه في الشرعيات والعقليات، أما الشرعيات فإنكم لما تأولتم ما تأولتم من نصوص الصفات الإلهية، تأولت المعتزلة ما قررتموه أنتم، واحتجوا بمثل حجتكم، ثم زادت الفلاسفة وتأولوا ما جاءت به النصوص الإلهية في الإيمان باليوم الآخر، وقالت المتفلسفة مثل ما قلتم لإخوانكم المؤمنين، ولم يكن لكم حجة على المتفلسفة، فإنكم إذا احتججتم بالنصوص تأولوها، ولهذا كان غايتكم في مناظرة هؤلاء أن تقولوا: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر بمعاد الأبدان، وأخبر بالفرائض الظاهرة كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، ونحو ذلك لجميع البرية، والأمور الضرورية لا يمكن القدح فيها، فإن قال لكم المتفلسفة: هذا غير معلوم بالضرورة كان جوابكم أن تقولوا: هذا جهل منكم، أو تقولوا: إن العلوم الضرورية لا يمكن دفعها عن النفس، ونحن نجد العلم بهذا أمرا ضروريا في أنفسنا، وهذا كلام صحيح منكم، لكن في هذا نقول لكم المثبتة أهل العلم بالقرآن وتفسيره المنقول عن السلف والأئمة، وبالأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين، نحن نعلم بالاضطرار أنها أثبت الصفات، وأن الله فوق العالم، والعلم بهذا ضروري عندهم كما ذكرتم أنتم في معاد الأبدان والشرائع الظاهرة، بل لعل العلم بهذا أعظم من العلم ببعض ما تنازعكم فيه المعتزلة والفلاسفة من أمور المعاد كالصراط والميزان والحوض والشفاعة، ومسألة منكر ونكير، وأيضا فالعلم بعلو الله على عرشه ونحو ذلك يعلم بضرورية عقلية وأدلة عقلية يقينية لا يعلم بمثلها معاد الأبدان، فالعلوم الضرورية والأدلة السمعية والعقلية على ما نفيتموه من علو الله على خلقه ومباينته لهم ونحو ذلك أكمل وأقوى من العلوم الضرورية والأدلة السمعية العقلية على كثير مما خالفكم فيه المعتزلة، بل والفلاسفة ولهذا يوجد عن كثير من السلف موافقة المعتزلة في بعض ما خالفتموهم فيه كما يوجد عن بعض السلف إنكار سماع الذي في القبر للأصوات، وعن بعض السلف إنكار المعراج

بالبدن، وأمثال ذلك، ولا يوجد عن واحد منهم موافقتكم على أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق العالم، بل ولا على ما نفيتموه من الجسم وملازمه، وكذلك المعتزلة وإن كانوا ضالين في مسألة إنكار الرؤية فمعهم فيها من الظواهر التي تأولوها والمقاييس التي اعتمدوا عليها أعظم مما معكم في إنكار مباينة الله لمخلوقاته وعلوه على عرشه، ومن العجب أنكم تقولون إن محمدا رأى ربه ليلة المعراج، وهذه مسألة نزاع بين الصحابة، أو تقولون رآه بعينه ولم يقل ذلك أحد منهم، ثم تقولون إن محمدا لم يعرج به إلى الله فإن الله ليس هو فوق السموات، فتنكرون ما اتفق عليه السلف وتقولون بما تنازعوا فيه، ولم يقله أحد منهم، فالمعتزلة في جعلهم المعراج مناما أقرب إلى السلف وأهل السنة منكم حيث قلتم رآه بعينه ليلة المعراج، وقلتم مع هذا إنه ليس فوق السموات رب يعرج إليه، فهذا النفي أنتم والمعتزلة فيه شركاء وهم امتازوا بقولهم المعراج مناما، وهو قول مأثور عن طائفة من السلف، وأنتم امتزتم بقولكم رآه بعينه، وهذا لم يثبت عن أحد من السلف، وإنما نقل عنهم بأسانيد ضعيفة، ثم إنكم أظهرتم للمسلمين مخالفة المعتزلة في مسألة الرؤية والقرآن، ووافقتم أهل السنة على إظهار القول بأن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق ; والقول بأن الله لا يرى في الآخرة وأن القرآن مخلوق من البدع القديمة التي أظهرها الجهمية المعتزلة وغيرهم في عصر الأئمة حتى امتحنوا الإمام أحمد وغيره بذلك، ووافقتم المعتزلة على نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترئون على إظهاره في زمن السلف والأئمة وهو قولهم إن الله لا داخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله، فإن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من كثير من اليهود والنصارى لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة، ولا يدعو عموم الناس إليها وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم فموافقتكم للمعتزلة على ما أسروه من التعطيل والإلحاد الذي هو أعظم مخالفة للشرع والعقل مما خالفتموه فيه في مسألة الرؤية والقرآن، فإن كل عاقل يعلم أن دلالة القرآن على علو الله على عرشه أعظم من دلالته على أن الله يرى، وليس في القرآن آية توهم المستمع أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، وفيه ما يوهم بعض الناس نفي الرؤية ولكن يعارضون آيات العلو الكثيرة الصريحة بما يتوهم أنه يدل على أنه بذاته في كل مكان، وأنتم لا تقولون لا بهذا ولا بهذا، فلم يكن معكم على هذا النفي آية تشعر بمذهبكم، فضلا من أن تدل عليه نصا أو ظاهرا، ولا حديث عن رسول الله ﷺ، ولا قول صاحب ولا تابع ولا إمام، وإنما غايتكم أن تتمسكوا بأثر مكذوب كما تذكرونه عن علي أنه قال: الذي أين الأين لا يقال له أين، وهذا من الكذب على علي باتفاق أهل العلم، لا إسناد له، وكذلك حديث الملائكة الأربعة مع أن ذلك لا حجة فيه لكم، وكذلك القول بأن القرآن مخلوق فيه من الشبهة ما ليس في نفس علو الله على عباده، ولهذا كان في فطر جميع الأمم الإقرار بعلو الله على خلقه .

وهنا انقسم الناس ثلاثة أقسام في إضافة الحسنات والسيئات التي هي الطاعات والمعاصي إلى ربهم وإلى نفوسهم، فشرهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القدر، واعتذر بأن القدر سبق بذلك، وأنه لا خروج له عن القدر، فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك إلى نفسه ونسي نعمة الله عليه في تيسيره لليسرى، وهذا ليس مذهب طائفة من بني آدم، ولكنه حال شرار الجاهلين الظالمين الذين لا حفظوا حدود الأمر والنهي، ولا شهدوا حقيقة القضاء والقدر، كما قال فيهم الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به . -مسألة: في قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل هي هذه القبور التي تزورها الناس اليوم ؟ مثل: قبر نوح، وقبر الخليل، وإسحاق ويعقوب ويوسف، ويونس وإلياس واليسع، وشعيب وموسى وزكريا، وهو بمسجد دمشق ؟ وأين قبر علي بن أبي طالب ؟ فهل يصح من تلك القبور شيء أم لا ؟، الجواب: الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا محمد ﷺ وقبر الخليل فيه نزاع ; لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره، وأما يونس وإلياس وشعيب وزكريا فهو يعرف، وقبر علي بن أبي طالب بقصر الإمارة الذي بالكوفة، وقبر معاوية هو القبر الذي تقول العامة إنه قبر هود، والله أعلم .


فصل: ولهذا ذكر هذين الأصلين بعد هذا، فذكر أن برهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه ولا ينقص، وأن إعطاءه إياهم غاية ما يسألونه نسبته إلى ما عنده أدنى نسبة، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم ممن يزداد ملكه بطاعة الرعية، وينقص ملكه بالمعصية، وإذا أعطى الناس ما يسألونه أنفد ما عنده ولم يغنهم، وهم في ذلك يبلغون مضرته ومنفعته، وهو يفعل ما يفعله من إحسان وعفو وأمر ونهي، لرجاء المنفعة وخوف المضرة، فقال: { يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا }، إذ ملكه وهو قدرته على التصرف، فلا تزداد بطاعتهم ولا تنقص بمعصيتهم كما تزداد قدرة الملوك بكثرة المطيعين لهم، وتنقص بقلة المطيعين لهم، فإن ملكه متعلق بنفسه، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، والملك قد يراد به القدرة على التصرف والتدبير، ويراد به نفس التدبير والتصرف، ويراد به المملوك نفسه الذي هو محل التدبير، ويراد به ذلك كله، وبكل حال فليس بر الأبرار وفجور الفجار، موجبا لزيادة شيء من ذلك ولا نقصه، بل هو بمشيئته وقدرته يخلق ما يشاء، فلو شاء أن يخلق مع فجور الفجار ما شاء لم يمنعه من ذلك مانع، كما يمنع الملوك فجور رعاياهم التي تعارض أوامرهم عما يختارونه من ذلك، ولو شاء أن لا يخلق مع بر الأبرار شيئا مما خلقه لم يكن برهم محوجا له إلى ذلك ولا معينا له، كما يحتاج الملوك ويستعينون بكثرة الرعايا المطيعين . -مسألة: في اتباع الرسول ﷺ بصحيح المعقول ؟، قال الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ تسليما كثيرا، أما بعد، اعلم أنه يجب على كل بالغ عاقل من الإنس والجن أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، أرسله إلى جميع الخلق، إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، وفرسهم وهندهم، وبربرهم ورومهم، وسائر أصناف العجم أسودهم وأبيضهم، والمراد بالعجم من ليس بعربي على اختلاف ألسنتهم، فمحمد ﷺ أرسل إلى كل أحد من الإنس والجن، كتابيهم وغير كتابيهم، في كل ما يتعلق بدينه، من الأمور الباطنة والظاهرة، في عقائده وحقائقه وطرائقه وشرائعه، فلا عقيدة إلا عقيدته، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا طريقة إلا طريقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا يصل أحد من الخلق إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته وولايته، إلا بمتابعته باطنا وظاهرا ; في الأقوال والأعمال الباطنة، والظاهرة في أقوال القلب وعقائده


، وأحوال القلب وحقائقه، وأقوال اللسان وأعمال الجوارح، وليس لله ولي إلا من اتبعه باطنا وظاهرا، فصدقه فيما أخبر به من الغيوب، والتزم طاعته فيما فرض على الخلق من أداء الواجبات وترك المحرمات، فمن لم يكن له مصدقا فيما أخبر، ملتزما لطاعته فيما أوجب وأمر في الأمور الباطنة التي في القلوب، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان، لم يكن مؤمنا، فضلا عن أن يكون وليا لله، ولو حصل له من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور، من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها، إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله، المقربة إلى سخطه وعذابه، لكن من ليس بمكلف من الأطفال والمجانين، قد رفع القلم عنهم، فلا يعاقبون، وليس من الإيمان بالله وتقواه باطنا وظاهرا ما يكونون به من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعا لآبائهم، كما قال تعالى: { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين }، وهم مع عدم العقل، لا يكونون ممن في قلوبهم حقائق الإيمان، ومعارف أهل ولاية الله، وأحوال خواص الله ; لأن هذه الأمور كلها مشروطة بالعقل، فالجنون مضاد العقل والتصديق، والمعرفة واليقين، والهدى والثناء، وإنما يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، فالمجنون وإن كان الله لا يعاقبه، ويرحمه في الآخرة، فإنه لا يكون من أولياء الله المقربين والمقتصدين، الذين يرفع الله درجاتهم، ومن اعتقد أن أحدا من هؤلاء الذين لا يؤدون الواجبات ولا يتركون المحرمات، سواء كان عاقلا أو مجنونا أو مولها أو متولها، فمن اعتقد أن أحدا من هؤلاء من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، وجنده الغالبين السابقين المقربين والمقتصدين، الذين يرفع الله درجاتهم بالعلم والإيمان، مع كونه لا يؤدي الواجبات، ولا يترك المحرمات، كان المعتقد لولاية مثل هذا كافرا مرتدا عن دين الإسلام ; غير شاهد لمحمد ﷺ، بأنه رسول الله ﷺ بل هو مكذب لمحمد ﷺ فيما شهد به ; لأن محمدا أخبر عن الله أن أولياء الله هم المتقون المؤمنون، قال تعالى: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون }، وقال تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }، والتقوى أن يعمل الرجل بطاعة الله على نور من الله، يرجو رحمة الله، وأن يترك معصية الله على نور من الله، يخاف عذاب الله، ولا يتقرب ولي الله إلا بأداء فرائضه ثم بأداء نوافله، قال تعالى: { ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه }، كما جاء في الحديث الصحيح الإلهي الذي رواه البخاري .

ومن ظن من أصحاب أحمد وغيرهم أن تحريم نكاح من أبويه مجوسيان أو أحدهما مجوسي قول واحد في مذهبه، فهو مخطئ خطأ لا ريب فيه، لأنه لم يعرف أصل النزاع في هذه المسألة، ولهذا كان من هؤلاء من يتناقض فيجوز أن يقر بالجزية من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل، ويقول مع هذا بتحريم نكاح نصراني العرب مطلقا، ومن كان أحد أبويه غير كتابي كما فعل ذلك طائفة من أصحاب أحمد، وهذا تناقض، والقاضي أبو يعلى وإن كان قد قال هذا القول هو وطائفة من أتباعه فقد رجع عن هذا القول في الجامع الكبير، وهو آخر كتبه، فذكر فيمن انتقل إلى دين أهل الكتاب من عبدة الأوثان، كالروم، وقبائل من العرب، وهم تنوخ، وبهراء، ومن بني تغلب هل تجوز مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا بأس بنكاح نصارى بني تغلب، وأن الرواية الأخرى مخرجة على الروايتين عنه في ذبائحهم، واختار أن المنتقل إلى دينهم حكمه حكمهم سواء كان انتقاله بعد مجيء شريعتنا أو قبلها، وسواء انتقل إلى دين المبدلين أو دين لم يبدل، ويجوز مناكحته وأكل ذبيحته، وإذا كان هذا فيمن أبواه مشركان من العرب والروم، فمن كان أحد

أبويه مشركا فهو أولى بذلك، هذا هو المنصوص عن أحمد، فإنه قد نص على أنه من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن دخل في دينهم في هذا الزمان، فإنه يقر بالجزية، قال أصحابه: وإذا أقررناه بالجزية، حلت ذبائحهم ونساؤهم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما، وأصل النزاع في هذه المسألة ما ذكرته من نزاع علي وغيره من الصحابة في بني تغلب، والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه والجمهور أحلوها وهي الرواية الأخرى عن أحمد، ثم الذين كرهوا ذبائح بني تغلب تنازعوا في مأخذ علي، فظن بعضهم أن عليا إنما حرم ذبائحهم ونساءهم لكونه لم يعلم أن آباءهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل، وبنوا على هذا أن الاعتبار في أهل الكتاب بالنسب لا بنفس الرجل، وأن من شككنا في أجداده، هل كانوا من أهل الكتاب أم لا، أخذنا بالاحتياط فحقنا دمه بالجزية احتياطا، وحرمنا ذبيحته ونساءه احتياطا، وهذا مأخذ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، وقال آخرون: بل علي لم يكره ذبائح بني تغلب إلا لكونهم ما تدينوا بدين أهل الكتاب في واجباته ومحظوراته، بل أخذوا منه حل المحرمات فقط، ولهذا قال: إنهم لم يتمسكوا من دين أهل الكتاب إلا بشرب الخمر، وهذا المأخذ من قول علي هو المنصوص عن أحمد وغيره وهو الصواب، وبالجملة فالقول بأن أهل الكتاب المذكورين في القرآن هم من كان دخل جده في ذلك قبل النسخ والتبديل قول ضعيف، والقول بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراد ذلك قول ضعيف، بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه، وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك، وهذا مذهب جمهور العلماء، كأبي حنيفة ومالك، وهو المنصوص الصريح عن أحمد، وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف، وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا أعلم بين الصحابة في ذلك نزاعا، وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم، واحتج بذلك في هذه المسألة على من لا يقر الرجل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن هو في زماننا إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب، فإنه تؤكل ذبيحته، وتنكح نساؤه، وهذا يبين خطأ من يناقض منهم، وأصحاب هذا القول الذي هو قول الجمهور، يقولون: من دخل هو، أو أبواه، أو جده في دينهم بعد النسخ والتبديل أقر بالجزية، سواء دخل في زماننا هذا، أو قبله، وأصحاب القول الآخر يقولون: متى علمنا أنه لم يدخل إلا بعد النسخ والتبديل لم تقبل منه الجزية، كما يقوله بعض أصحاب أحمد مع أصحاب الشافعي، والصواب قول الجمهور، والدليل عليه وجوه: أحدها: أنه قد ثبت أنه كان من أولاد الأنصار جماعة تهودوا قبل مبعث النبي ﷺ بقليل، كما قال ابن عباس: أن المرأة كانت مقلاتا، والمقلات التي لا يعيش لها ولد، كثيرة القلت، والقلت: الموت والهلاك، كما يقال: امرأة مذكار مئناث إذا كانت كثيرة الولادة للذكور والإناث والسما الكثيرة الموت، قال ابن عباس: فكانت المرأة تنذر إن عاش لها ولدان تجعل أحدهما يهوديا لكون اليهود كانوا أهل علم وكتاب، والعرب كانوا أهل شرك وأوثان، فلما بعث الله محمدا كان جماعة من أولاد الأنصار تهودوا، فطلب آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام فأنزل الله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } الآية، فقد ثبت أن هؤلاء كان آباؤهم موجودين تهودوا، ومعلوم أن هذا دخول بأنفسهم في اليهودية قبل الإسلام وبعد مبعث المسيح صلوات الله عليه، وهذا بعد النسخ والتبديل، ومع هذا نهى الله عز وجل عن إكراه هؤلاء الذين تهودوا بعد النسخ والتبديل على الإسلام، وأقرهم بالجزية، وهذا صريح في جواز عقد الذمة لمن دخل بنفسه في دين أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل، فعلم أن هذا القول هو الصواب دون الآخر، ومتى ثبت أنه يعقد له الذمة ثبت أن العبرة بنفسه لا بنسبه، وأنه تباح ذبيحته وطعامه باتفاق المسلمين، فإن المانع لذلك لم يمنعه إلا بناء على أن هذا الصنف ليسوا من أهل الكتاب، فلا يدخلون، فإذا ثبت بنص السنة أنهم من أهل الكتاب دخلوا في الخطاب بلا نزاع، والوجه الثاني: أن جماعة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وحولها كانوا عربا ودخلوا في دين اليهود، ومع هذا فلم يفصل النبي ﷺ في أكل طعامهم، وحل نسائهم، وإقرارهم بالذمة بين من دخل أبواه بعد مبعث عيسى عليه السلام، ومن دخل قبل ذلك، ولا بين المشكوك في نفسه، بل حكم في الجميع حكما واحدا عاما، فعلم أن التفريق بين طائفة وطائفة، وجعل طائفة لا تقر بالجزية، وطائفة تقر ولا تؤكل ذبائحهم، وطائفة يقرون وتؤكل ذبائحهم، تفريق ليس له أصل في سنة رسول الله ﷺ الثابتة عنه، وقد علم بالنقل الصحيح المستفيض، أن أهل المدينة كان فيهم يهود كثير من العرب وغيرهم من بني كنانة وحمير وغيرهما من العرب، ولهذا قال النبي ﷺ لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: { إنك تأتي قوما أهل كتاب }، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وعدله معافر، ولم يفرق بين من دخل أبوه قبل النسخ أو بعده وكذلك وفد نجران وغيرهم من النصارى الذين كان فيهم عرب كثيرون أقرهم بالجزية، وكذلك سائر اليهود والنصارى من قبائل العرب لم يفرق رسول الله ﷺ ولا أحد من خلفائه، وأصحابه بين بعضهم وبعض، بل قبلوا منهم الجزية، وأباحوا ذبائحهم، ونساءهم، وكذلك نصارى الروم وغيرهم لم يفرقوا بين صنف وصنف، ومن تدبر السيرة النبوية علم كل هذا بالضرورة، وعلم أن التفريق قول محدث لا أصل له في الشريعة، الوجه الثالث: أن كون الرجل مسلما أو يهوديا أو نصرانيا ونحو ذلك من أسماء الدين هو حكم يتعلق بنفسه لا باعتقاده وإرادته وقوله وعمله، لا يلحقه هذا الاسم بمجرد اتصاف آبائه بذلك، لكن الصغير حكمه في أحكام الدنيا

حكم أبويه، لكونه لا يستقل بنفسه، فإذا بلغ وتكلم بالإسلام أو بالكفر كان حكمه معتبرا بنفسه باتفاق المسلمين، فلو كان أبواه يهودا أو نصارى، فأسلم كان من المسلمين باتفاق المسلمين، ولو كانوا مسلمين فكفر كان كافرا باتفاق المسلمين، فإن كفر بردة لم يقر عليه لكونه مرتدا لأجل آبائه، وكل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان، وكفر ونفاق، وردة وتهود، وتنصر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك، وكون الرجل من المشركين أو أهل الكتاب هو من هذا الباب، فمن كان بنفسه مشركا فحكمه حكم أهل الشرك وإن كان أبواه غير مشركين، ومن كان أبواه مشركين وهو مسلم فحكمه حكم المسلمين لا حكم المشركين، فكذلك إذا كان يهوديا، أو نصرانيا وآباؤه مشركين فحكمه حكم اليهود والنصارى، أما إذا تعلق عليه حكم المشركين مع كونه من اليهود والنصارى لأجل كون آبائه قبل النسخ والتبديل كانوا مشركين فهذا خلاف الأصول، الوجه الرابع: أن يقال قوله تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين }، وقوله: { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا }، وأمثال ذلك إنما هو خطاب لهؤلاء الموجودين وإخبار عنهم، المراد بالكتاب هو الكتاب الذي بأيديهم، الذي جرى عليه من النسخ والتبديل ما جرى، ليس المراد به من كان متمسكا به قبل النسخ والتبديل، فإن أولئك لم يكونوا كفارا، ولا هم ممن خوطبوا بشرائع القرآن، ولا قيل لهم في القرآن يا أهل الكتاب، فإنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن، وإذا كان كذلك فكل من تدين بهذا الكتاب الموجود عند أهل الكتاب فهو من أهل الكتاب، وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدل منسوخ، وهم مخلدون في نار جهنم كما يخلد سائر أنواع الكفار، والله تعالى مع ذلك سوغ إقرارهم بالجزية، وأحل طعامهم ونساءهم، الوجه الخامس: أن يقال هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب بالقرآن هم كفار، وإن كان أجدادهم كانوا مؤمنين وليس عذابهم في الآخرة بأخف من عذاب من كان أبوه من غير أهل الكتاب، بل وجود النسب الفاضل هو إلى تغليظ كفرهم أقرب منه إلى تخفيف كفرهم، فمن كان أبوه مسلما وارتد كان كفره أغلظ من كفر من أسلم هو ثم ارتد، ولهذا تنازع الناس فيمن ولد على الفطرة إذا ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، هل تقبل توبته ؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد، وإذا كان كذلك فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ثم إنه لما بعث الله عيسى ومحمدا صلى الله عليهما كفر بهما وبما جاءا به من عند الله واتبع الكتاب المبدل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر، ولم يكن كفره أخف من كفر من دخل بنفسه في هذا الدين المبدل، ولا له بمجرد نسبة حرمة عند الله ولا عند رسوله، ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفا لهم، فإن آباءه كانوا إذ ذاك مسلمين، فإن دين الله هو الإسلام في كل وقت، فكل من آمن بكتب الله ورسله في كل زمان فهو مسلم، ومن كفر بشيء من كتب الله فليس مسلما في أي زمان كان، وإذا لم يكن لأولاد بني إسرائيل إذا كفروا مزية على أمثالهم من الكفار الذين ماثلوهم في اتباع الدين المبدل المنسوخ، علم بذلك بطلان الفرق بين الطائفتين، وإكرام هؤلاء بإقرارهم بالجزية، وحل ذبائحهم، ونسائهم دون هؤلاء، وأنه فرق مخالف لأصول الإسلام، وإنه لو كان الفرق بالعكس كان أولى، ولهذا يوبخ الله بني إسرائيل على تكذيبهم بمحمد ﷺ ما لا يوبخه غيرهم من أهل الكتاب ; لأنه تعالى أنعم على أجدادهم نعما عظيمة في الدين والدنيا، فكفروا نعمته، وكذبوا رسله، وبدلوا كتابه، وغيروا دينه، فضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وباءوا بغضب من الله، وضربت عليهم المسكنة ; ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، فهم مع شرف آبائهم وحق دين أجدادهم من أسوأ الكفار عند الله، وهو أشد غضبا عليهم من غيرهم ; لأن في كفرهم من الاستكبار والحسد والمعاندة والقسوة وكتمان العلم، وتحريف الكتاب، وتبديل النص، وغير ذلك ما ليس في كفر هؤلاء، فكيف يجعل لهؤلاء الأرجاس الأنجاس الذين هم من أبغض الخلق إلى الله مزية على سائر إخوانهم الكفار، مع أن كفرهم إما مماثل لكفر إخوانهم الكفار، وإما أغلظ منه إذ لا يمكن لأحد أن يقول إن كفر الداخلين أغلظ من كفر هؤلاء مع تماثلهما في الدين بهذا الكتاب الموجود، الوجه السادس: أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب ; هو حكم من أحكام الجاهلية، الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل، فإن الله تعالى قال: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }، وقال النبي ﷺ: { لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب }، ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدا بنسبه، ولا يذم أحدا بنسبه، وإنما يمدح الإيمان والتقوى ويذم بالكفر والفسوق والعصيان، وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيح، أنه قال: { أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن، الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة والاستسقاء بالنجوم }، فجعل الفخر بالأحساب من أمور الجاهلية، فإذا كان المسلم لا فخر له على المسلم بكون أجداده لهم حسب شريف، فكيف يكون لكافر من أهل الكتاب فخر على كافر من أهل الكتاب بكون أجداده كانوا مؤمنين ؟ وإذا لم تكن مع التماثل في الدين فضيلة لأحد الفريقين على الآخرين في الدين لأجل النسب، علم أنه لا فضل لمن كان من اليهود والنصارى آباؤه مؤمنين متمسكين بالكتاب الأول قبل النسخ والتبديل، على من كان أبوه داخلا فيه بعد النسخ والتبديل، وإذا تماثل دينهما تماثل حكمهما في الدين، والشريعة إنما علقت بالنسب أحكاما، مثل كون الخلافة من قريش، وكون ذوي القربى لهم

الخمس، وتحريم الصدقة على آل محمد ﷺ ونحو ذلك ; لأن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غيرهم، كما قال النبي ﷺ: { الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا }، والمظنة تعلق الحكم بما إذا خفيت الحقيقة أو انتشرت، فأما إذا ظهر دين الرجل الذي به تتعلق الأحكام وعرف نوع دينه وقدره لم يتعلق بنسبه الأحكام الدينية، ولهذا لم يكن لأبي لهب مزية على غيره، لما عرف كفره كان أحق بالذم من غيره، ولهذا جعل لمن يأتي بفاحشة من أزواج النبي ﷺ ضعفين من العذاب، كما جعل لمن يقنت منهن لله ورسوله أجرين من الثواب، فذوي الأنساب الفاضلة إذا أساءوا كانت إساءتهم أغلظ من إساءة غيرهم، وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم، وكفر من كفر من بني إسرائيل إن لم يكن أشد من كفر غيرهم وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم فلا أقل من المساواة بينهم، ولهذا لم يقل أحد من العلماء إن من كفر وفسق من قريش والعرب تخفف عنه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة بل إما أن تكون عقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم في أشهر القولين، أو تكون عقوبتهم أغلظ في القول الآخر ; لأن من أكرمه بنعمته ورفع قدره إذا قابل حقوقه بالمعاصي وقابل نعمه بالكفر، كان أحق بالعقوبة ممن لم ينعم عليه كما أنعم عليه، الوجه السابع: أن يقال أصحاب رسول الله ﷺ لما فتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وغيرهم، وكانوا يأكلون ذبائحهم، لا يميزون بين طائفة وطائفة، ولم يعرف عن أحد من الصحابة الفرق بينهم بالأنساب، وإنما تنازعوا في بني تغلب خاصة لأمر يختص بهم، كما أن عمر ضعف عليهم الزكاة، وجعل جزيتهم مخالفة لجزية غيرهم، ولم يلحق بهم سائر العرب، وإنما ألحق بهم من كان بمنزلتهم، الوجه الثامن: أن يقال هذا القول مستلزم أن لا يحل لنا طعام جمهور من أهل الكتاب ; لأنا لا نعرف نسب كثير منهم ولا نعلم قبل أيام الإسلام أن أجداده كانوا يهودا أو نصارى قبل النسخ والتبديل، ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، فإذا كان هذا القول مستلزما رفع ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم أنه باطل، الوجه التاسع: أن يقال ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم، فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين، وهذه الوجوه كلها لبيان رجحان القول بالتحليل، وأنه مقتضى الدليل، فأما أن مثل هذه المسألة أو نحوها من مسائل الاجتهاد، يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل، فهذا خلاف إجماع المسلمين، فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين، وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب القول الآخر إلا بحجة شرعية، وكذلك تنازعوا في متروك التسمية، وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها غير الله، وفي شحم الثرب، والكليتين، وذبحهم لذوات الظفر كالإبل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله عليهم، وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا ونحو ذلك من المسائل، وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين، فمن صار إلى قول مقلدا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت، ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل، ولا يتعصب لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة، بل من كان مقلدا لزم حل التقليد، فلم يرجح ولم يزيف ولم يصوب ولم يخطئ، ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه، فقبل ما تبين أنه حق، ورد ما تبين أنه باطل، ووقف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين، والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان، كما فاوت بينهم في قوى الأبدان، وهذه المسألة ونحوها فيها من أغوار الفقه وحقائقه ما لا يعرفه إلا من عرف أقاويل العلماء ومآخذهم فأما من لم يعرف إلا قول عالم واحد وحجته دون قول العالم الآخر وحجته، فإنه من العوام المقلدين لا من العلماء الذين يرجحون ويزيفون، والله تعالى يهدينا وإخواننا لما يحبه ويرضاه، وبالله التوفيق، والله أعلم .

فصل: ومن أحب الأعمال إلى الله وأعظم الفرائض عنده الصلوات الخمس في مواقيتها، وهي أول ما يحاسب عليها العبد من عمله يوم القيامة، وهي التي فرضها الله تعالى بنفسه ليلة المعراج، لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة، وهي عمود الإسلام، الذي لا يقوم إلا به، وهي أهم أمر الدين، كما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله: { إن أهم أمركم عندي الصلاة ومن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة }، وقد ثبت في الصحيح، عن النبي ﷺ أنه قال: { بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة }، وقال: { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر }، فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ إلا الحائض والنفساء فهو كافر مرتد باتفاق أئمة المسلمين، وإن اعتقد أنها عمل صالح، وأن الله يحبها ويثيب عليها، وصلى مع ذلك وقام الليل وصام النهار، وهو مع ذلك لا يعتقد وجوبها على كل بالغ، فهو أيضا كافر مرتد، حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ عاقل، ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين، أو أن لله خواصا لا تجب عليهم الصلاة، بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس، أو لاستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى، أو أن المقصود حضور القلب مع الرب، أو أن الصلاة فيها تفرقة، فإذا كان العبد في جمعيته مع الله فلا يحتاج إلى الصلاة، بل المقصود من الصلاة هي المعرفة، فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلاة، فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة، كالطيران في الهواء، والمشي على الماء أو ملء الأوعية ماء من الهواء، أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من الكنوز، وقتل من يبغضه بالأحوال الشيطانية، فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلاة ونحو ذلك، أو أن لله رجالا خواصا لا يحتاجون إلى متابعة محمد ﷺ بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن موسى، أو أن كل من كاشف وطار في الهواء، أو مشى على الماء فهو ولي سواء صلى، أو لم يصل، أو اعتقد أن الصلاة تقبل من غير طهارة، أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل والطهارات والخانات والقمامين وغير ذلك من البقاع، وهم لا يتوضئون ولا يصلون الصلوات المفروضات، فمن اعتقد أن هؤلاء أولياء، فهو كافر مرتد عن الإسلام باتفاق أئمة الإسلام، ولو كان في نفسه زاهدا عابدا، فالرهبان أزهد وأعبد، وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول، وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون أتباعه، ولكنهم لم يؤمنوا بجميع ما جاء به، بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض فصاروا بذلك كافرين، كما قال تعالى: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما }، ومن كان مسلوب العقل أو مجنونا فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه، فليس عليه عقاب، ولا يصح إيمانه ولا صلاته ولا صيامه، ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل، فمن لا عقل له لا يصح شيء من عبادته، لا فرائضه ولا نوافله، ومن لا فريضة له ولا نافلة ليس من أولياء الله، ولهذا قال تعالى: { إن في ذلك لآيات لأولي النهى }، أي العقول، وقال تعالى: { هل في ذلك قسم لذي حجر }، أي لذي عقل، وقال تعالى: { واتقون يا أولي الألباب }، وقال: { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون }، وقال تعالى { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }، فإنما مدح الله، وأثنى على من كان له عقل، فأما من لا يعقل فإن الله لم يحمده، ولم يثن عليه، ولم يذكره بخير قط، بل قال تعالى عن أهل النار { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }، وقال تعالى: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون }، وقال: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }، فمن لا عقل له لا يصح إيمانه ولا فرضه ولا نفله، ومن كان يهوديا أو نصرانيا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح إسلامه، لا باطنا ولا ظاهرا، ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار، ومن كان مؤمنا ثم جن بعد ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في حال عقله، ومن ولد مجنونا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ولا كفر، وحكم المجنون حكم الطفل إذا كان أبوه مسلما كان مسلما تبعا لأبويه باتفاق المسلمين، وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وكذلك من جن بعد إسلامه يثبت لهم حكم الإسلام تبعا لآبائهم، وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له بالإسلام ظاهرا تبعا لأبويه أو لأهل الدار، كما يحكم بذلك للأطفال لا لأجل إيمان قام به فأطفال المسلمين ومجانينهم يوم القيامة تبع لآبائهم، وهذا الإسلام لا يوجب مزية على غيره، ولا أن يصير به من أولياء الله المتقين الذين يتقون إليه بالفرائض والنوافل، وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا }، فنهى الله عز وجل عن قربان الصلاة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا ما يقولون وهذه الآية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم بالآية التي أنزلها الله في سورة المائدة، وقد روي أنه كان سبب نزولها أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم، فخلط فغلط في القراءة فأنزل الله هذه الآية، فإذا كان قد حرم الله الصلاة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون، علم أن ذلك يوجب أن لا يصلي أحد حتى يعلم ما يقول، فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلاة، وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم، ولهذا اتفق العلماء على أنه لا تصح صلاة من زال عقله بأي سبب زال، فكيف بالمجنون وقد قال بعض المفسرين، وهو يروي عن الضحاك: لا تقربوها وأنتم سكارى من النوم، وهذا إذا قيل إن الآية دلت عليه بطريق الاعتبار، أو شمول معنى اللفظ العام، وإلا فلا ريب أن سبب الآية كان السكر من الخمر، واللفظ صريح في ذلك، والمعنى الآخر صحيح أيضا، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { إذا قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه }، وفي لفظ: { إذا قام يصلي فنعس فليرقد }، فقد نهى النبي ﷺ عن الصلاة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس، وقد احتج العلماء بهذا على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلاة، أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة، والنبي ﷺ إنما علل ذلك بقوله: { فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه } "، فعلم أنه قصد النهي عن الصلاة لمن لا يدري ما يقول، وإن كان ذلك بسبب النعاس وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال: { لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبثين ولا بحضرة طعام }، لما في ذلك من شغل القلب، وقال أبو الدرداء: من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته فيقضيها، ثم يقبل على صلاته وقلبه فارغ، فإذا كانت الصلاة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح، حتى يعلم ما يقول، كانت صلاة المجنون ومن يدخل في مسمى المجنون وإن سمي مولها أو متولها أو وليا أن لا تجوز صلاته، ومعلوم أن الصلاة أفضل العبادات، كما في الصحيحين، عن ابن مسعود، أنه قال: { قلت للنبي ﷺ: أي العمل أحب إلى الله ؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي ؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي ؟ قال: الجهاد، قال: حدثني بهن رسول الله ﷺ ولو استزدته لزادني }، وثبت أيضا في الصحيحين عنه أنه: { جعل أفضل الأعمال إيمان بالله، وجهاد في سبيله ثم الحج المبرور }، ولا منافاة بينهما، فإن الصلاة داخلة في مسمى الإيمان بالله، كما دخلت في قوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }، قال البراء بن عازب وغيره من السلف: أي صلاتكم إلى بيت المقدس، ولهذا كانت الصلاة كالإيمان لا تدخلها النيابة بحال، فلا يصلي أحد عن أحد الفرض لا لعذر ولا لغير عذر، كما لا يؤمن أحد عنه ولا تسقط بحال، كما لا يسقط الإيمان بل عليه الصلاة ما دام عقله حاضرا وهو متمكن من فعل بعض أفعالها . فإذا عجز عن جميع الأفعال ولم يقدر على الأقوال، فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الأفعال بقلبه، فيه قولان للعلماء، وإن كان الأظهر أن هذا غير مشروع فإذا كان كذلك، تبين أن من زال عقله، فقد حرم ما يتقرب به إلى الله من فرض ونفل، والولاية هي الإيمان، والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل، فقد حرم ما به يتقرب أولياء الله إليه، لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه، فلا يعاقب، كما لا يعاقب الأطفال والبهائم، إذ لا تكليف عليهم في هذه الحال، ثم إن كان مؤمنا قبل حدوث الجنون به، وله أعمال صالحة، وكان يتقرب إلى الله بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله، كان له من ثواب ذلك الإيمان والعمل الصالح ما تقدم، وكان له من ولاية الله تعالى بحسب ما كان عليه من الإيمان والتقوى، كما لا يسقط ذلك بالموت بخلاف ما لو ارتد عن الإسلام، فإن الردة تحبط الأعمال، وليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة، كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فلا يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته، كما لا يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله فالأعمال المسكرة والنوم لأنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح، ولكن في الحديث الصحيح عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: { إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم }، وفي الصحيح عن النبي ﷺ { أنه قال في غزوة تبوك: إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة ؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر }، فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه، لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل بخلاف من زال عقله، فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلا، بخلاف أولئك فإن لهم قصدا صحيحا يكتب لهم به الثواب، وأما من كان قبل جنونه كافرا أو فاسقا أو مذنبا، لم يكن حدوث الجنون به مزيلا لما ثبت من كفره وفسقه، ولهذا كان من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورا معهم، وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه محشورا مع المؤمنين من المتقين، وزوال العقل بجنون أو غيره، سواء سمي صاحبه مولها أو متولها لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى، ولا يكون زوال عقله سببا لمزيد خيره ولا صلاحه ولا ذنبه، ولكن الجنون يوجب زوال العمل، فيبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده ولا ينقصه، لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر، وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم كشرب الخمر، وأكل الحشيشة، أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى يغيب عقله، أو الذي يتعبد بعبادات بدعية حتى يقترن به بعض الشياطين، فيغيروا عقله أو يأكل بنجا يزيل عقله، فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول، وكثير من هؤلاء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه، فيرقص رقصا عظيما حتى يغيب عقله، أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني، وكثير من هؤلاء يقصد التوله حتى يصير مولها، فهؤلاء كلهم من حزب الشيطان، وهذا معروف من غير واحد منهم، واختلف العلماء هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم، والأصل مسألة السكران والمنصوص عن الشافعي وأحمد وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله، وقال كثير من العلماء ليس مكلفا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإحدى الروايتين عن أحمد أن طلاق السكران لا يقع، وهذا أظهر القولين، ولم يقل أحد من العلماء إن هؤلاء الذين زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء الله الموحدين المقربين وحزبه المفلحين، ومن ذكره العلماء من عقلاء المجانين الذين ذكروهم بخير فهو من القسم الأول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم، ومن علامة هؤلاء أنهم إذا حصل لهم من جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، لا بالكفر والبهتان، بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقة بالكفر والشرك ويهذي في زوال عقله بالكفر، فهذا إنما يكون كافرا لا مسلما، ومن كان يهذي بكلام لا يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية وغير ذلك مما يحصل لبعض من يحضر السماع، ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلام لا يعقل، أو بغير العربية، فهؤلاء إنما يتكلم على ألسنتهم الشيطان، كما يتكلم على لسان المصروع، ومن قال إن هؤلاء أعطاهم الله عقولا وأحوالا، فأبقى أحوالهم، وأذهب عقولهم، وأسقط ما فرض عليهم بما سلب، قيل: قولك وهب الله لهم أحوالا كلام مجمل، فإن الأحوال تنقسم إلى: حال رحماني، وحال شيطان، وما يكون لهؤلاء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب، فتارة يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان، وتارة يكون من الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى والإيمان، فإن كان هؤلاء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية، وكانوا من المؤمنين المتقين، فلا ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول، وإن كان ما أعطوه من الأحوال الشيطانية كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون، فهؤلاء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق، كما لم يخرج الأولون عما كانوا عليه من الإيمان والتقوى، كما أن نوم كل واحد من الطائفتين وموته وإغماءه لا يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال العقل غايته أن يسقط التكليف، ورفع القلم لا يوجب حمدا ولا مدحا ولا ثوابا، ولا يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء الله، ولا كرامة من كرامات الصالحين، بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت، ولا مدح في ذلك ولا ذم، بل النائم أحسن حالا من هؤلاء، ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام ينامون، وليس فيهم مجنون ولا موله، والنبي ﷺ يجوز عليه النوم والإغماء، ولا يجوز عليه الجنون، وكان نبينا محمد ﷺ تنام عيناه ولا ينام قلبه، وقد أغمي عليه في مرضه، وأما الجنون فقد نزه الله أنبياءه عنه، فإنه من أعظم نقائص الإنسان، إذ كمال الإنسان بالعقل، ولهذا حرم الله إزالة العقل بكل طريق، وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل، كشرب الخمر، فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل ; لأنها ذريعة إلى شرب الكثير، الذي يزيل العقل، فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببا أو شرطا أو مقربا إلى ولاية الله، كما يظنه كثير من أهل الضلال حتى قال قائلهم في هؤلاء: هم معشر حلوا النظام وخرفوا السياج فلا فرض لديهم ولا نفل مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل فهذا كلام ضال بل كافر ويظن أن للمجنون سرا يسجد العقل على بابه، وذاك لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين، كما يكون للسحرة والكهان فيظن هذا الضال، أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا لله، ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين، اليهود والنصارى فإن كثيرا من الكفار والمشركين، فضلا عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب شياطينهم أضعاف ما لهؤلاء ; لأنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب، لكن لا بد في جميع مكاشفة هؤلاء من الكذب والبهتان، ولا بد في أعمالهم من فجور وطغيان، كما يكون لإخوانهم من السحرة والكهان، قال الله تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم }، فكل من تنزلت عليه الشياطين، لا بد أن يكون فيه كذب وفجور من أي قسم كان، والنبي ﷺ قد أخبر أن أولياء الله هم الذين يتقربون إليه بالفرائض وحزبه المفلحون وجنده الغالبون وعباده الصالحون، فمن اعتقد فيمن لا يفعل الفرائض ولا النوافل أنه من أولياء الله المتقين، إما لعدم عقله أو جهله، أو لغير ذلك، فمن اعتقد في مثل هؤلاء أنه من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين وعباده الصالحين فهو كافر، مرتد عن دين رب العالمين، وإذا قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، كان من الكاذبين الذين قيل فيهم: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون، ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون }، وقد ثبت في الصحيح، عن النبي ﷺ أنه قال: { من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر طبع الله على قلبه }، فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع - وإن صلى الظهر - فكيف بمن لا يصلي ظهرا ولا جمعة ولا فريضة ولا نافلة، ولا يتطهر للصلاة الطهارة الكبرى ولا الصغرى، فهذا لو كان قبل مؤمنا، وكان قد طبع على قلبه كان كافرا مرتدا بما تركه، ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض، وإن اعتقد أنه مؤمن، كان كافرا مرتدا، فكيف يعتقد أنه من أولياء الله المتقين، وقد قال تعالى في صفة المنافقين: { استحوذ عليهم الشيطان }، أي استولى يقال: حاذ الإبل حوذا إذا استقاها، فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلاف ما أمر الله به ورسوله، قال تعالى: { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا }، أي تزعجهم إزعاجا، فهؤلاء استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله: { أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون }، وفي السنن عن أبي الدرداء، عن النبي ﷺ أنه قال: { ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا يقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان }، فأي ثلاثة كانوا من هؤلاء لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب الشيطان، استحوذ عليهم إلا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم، فإن كانوا عبادا زهادا ولهم جوع وسهر وصمت وخلوة، كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات، كأهل جبل لبنان، وأهل جبل الفتح، الذي بأسوان، وجبل ليسون، ومغارة الدم بجبل قاسيون وغير ذلك، من الجبال والبقاع التي قصدها كثير من العباد الجهال الضلال، ويفعلون فيها خلوات ورياضيات من غير أن يؤذن وتقام فيهم الصلاة الخمس، بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها الله ورسوله، بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم، من غير اعتبار لأحوالهم بالكتاب والسنة، ولا قصد المتابعة لرسول الله، الذي قال الله فيه: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } الآية، فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان، لا من أولياء الرحمن، فمن شهد بولاية الله فهو شاهد زور كاذب، وعن طريق الصواب ناكب، ثم إن كان قد عرف أن هؤلاء مخالفون للرسول، وشهد مع ذلك أنهم من أولياء الله، فهو مرتد عن دين الإسلام، إما مكذب للرسول، وإما شاك فيما جاء به مرتاب، وإما غير منقاد له، بل مخالف له جحودا وعنادا وإتباعا لهواه، وكل من هؤلاء كافر، وأما إن كان جاهلا بما جاء به الرسول، وهو معتقد مع ذلك أنه رسول الله إلى كل أحد في الأمور الباطنة والظاهرة، وأنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته ﷺ لكن ظن أن هذه العبادات البدعية، والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول، ولم يعلم أنها من الشيطان لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته، لا لقصد مخالفته، ولا يرجو الهدى في غير متابعته، فهذا يبين له الصواب، ويعرف ما به من السنة والكتاب، فإن تاب وأناب وإلا لحق بالقسم الذي قبله، وكان كافرا مرتدا ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب الله، كما لم ينج من ذلك الرهبان، وعباد الصلبان، وعباد النيران، وعباد الأوثان، مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية، ومكاشفات شيطانية، قال تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا }، قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف: نزلت في أصحاب الصوامع والديارات، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أنهم كانوا الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات، وقال تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم }، فالأفاك هو الكذاب، والأثيم الفاجر، كما قال: { لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة }، ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبا، وإن كان لا يتعمد الكذب كما ثبت في الصحيحين، { عن النبي ﷺ لما قالت له سبيعة الأسلمية وقد توفي عنها زوجها، سعد بن خولة، في حجة الوداع، فكانت حاملا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين ؟ فقال النبي ﷺ: كذب أبو السنابل بل حللت فانكحي }، وكذلك لما قال سلمة بن الأكوع: إنهم يقولون إن عامرا قتل نفسه، وحبط عمله، فقال: " كذب من قالها، إنه لجاهد مجاهد "، وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب، فإنه كان رجلا صالحا، وقد روي أنه كان أسيد بن الحضير، لكنه لما تكلم بلا علم، كذبه النبي ﷺ، وقد قال أبو بكر، وابن مسعود وغيرهما من الصحابة، فيما يفتون فيه باجتهادهم: " إن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه "، فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان، فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين ؟ فهذا خطؤه أيضا من الشيطان، مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب، والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له، كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان، وهو مغفور بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك، فهذا كذب آثم في ذلك، وإن كانت له حسنات في غير ذلك، فإن الشيطان ينزل على كل إنسان، ويوحي بحسب موافقته له، ويطرد بحسب إخلاصه لله وطاعته له، قال تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }، وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله، من أداء الواجبات والمستحبات، وأما من عبده بغير ذلك، فإنه من عباد الشيطان، لا من عباد الرحمن، قال تعالى: { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون }، والذين يعبدون الشيطان، وأكثرهم لا يعرفون أنهم يعبدون الشيطان، بل قد يظنون أنهم يعبدون الملائكة أو الصالحين، كالذين يستغيثون بهم ويسجدون لهم فهم في الحقيقة إنما عبدوا الشيطان، وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد الله الصالحين، قال تعالى: { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون }، ولهذا نهى النبي ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى يكون سجود عباد الشمس له وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس، وسجودهم للشيطان، وكذلك أصحاب دعوات الكواكب الذين يدعون كوكبا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه، ويدعونه، ويضعون له من الطعام واللباس والبخور والتسبيحات ما يناسبه، كما ذكره صاحب السر المكتوم المشرقي، وصاحب الشعلة النورانية البوني المغربي وغيرهما، فإن هؤلاء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض الأمور، وتقضي لهم بعض الحوائج، ويسمون ذلك روحانية الكواكب، ومنهم من يظن أنها ملائكة، وإنما هي شياطين تنزل عليهم قال تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين }، وذكر الرحمن هو الذي أنزله، وهو الكتاب والسنة اللذان قال الله فيهما: { واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به }، وقال تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة }، وهو الذكر الذي قال الله فيه: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، فمن أعرض عن هذا الذكر، وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطين، فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه، وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى، كان فيه من الإيمان وولاية الله بحسب ما والى فيه الرحمن، وكان فيه من عداوة الله والنفاق، بحسب ما والى فيه الشيطان، كما قال حذيفة بن اليمان: " القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، والأغلف قلب يلف عليه غلاف كما قال تعالى عن اليهود: { وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم }، وقد تقدم قوله ﷺ: { من ترك ثلاث جمع طبع الله على قلبه }، وقلب منكوس فذلك قلب المنافق، وقلب فيه مادتان مادة تمده للإيمان، ومادة تمده للنفاق،

فأيهما غلب كان الحكم له "، وقد روي هذا في مسند الإمام أحمد مرفوعا، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي ﷺ قال: { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر }، فقد بين النبي ﷺ أن القلب يكون فيه شعبة نفاق وشعبة إيمان، فإذا كان فيه شعبة نفاق، كان فيه شعبة من ولايته، وشعبة من عداوته، ولهذا يكون بعض هؤلاء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه بالله، وتقواه تكون من كرامات الأولياء، وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين، ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول في كل صلاة: { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }، والمغضوب عليهم هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، والضالون الذين يعبدون الله بغير علم، فمن اتبع هواه وذوقه ووجده، مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة فهو من المغضوب عليهم وإن كان فذلك من الضالين، نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين .

- مسألة: سئل: الشيخ تقي الدين رحمة الله عليه، ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل سئل: إيش مذهبك ؟ فقال: محمدي، أتبع كتاب الله، وسنة رسوله محمد ﷺ فقيل: له ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبا، ومن لا مذهب له فهو شيطان، فقال: إيش كان مذهب أبي بكر الصديق والخلفاء بعده رضي الله عنهم ؟ فقيل له: لا ينبغي لك إلا أن تتبع مذهبا من هذه المذاهب فأيهم المصيب ؟ أفتونا مأجورين، فأجاب: الحمد لله إنما يجب على الناس طاعة الله ورسوله، وهؤلاء أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }، إنما تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله، لا استقلالا، ثم قال: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }، وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول ﷺ في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، واتباع الشخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له، ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق، بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله فيفعل المأمور، ويترك المحظور، والله أعلم

ولهذا كانت أصول الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث: قول النبي ﷺ: { إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى }، وقوله: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد }، وقوله: { الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب }، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

- مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن النية في الدخول في العبادات من الصلاة وغيرها، هل تفتقر إلى نطق اللسان ؟ مثل قول القائل: نويت أصلي، ونويت أصوم ؟ أجاب: الحمد لله، نية الطهارة من وضوء، أو غسل أو تيمم، والصلاة والصيام، والزكاة والكفارات، وغير ذلك من العبادات ; لا تفتقر إلى نطق اللسان باتفاق أئمة الإسلام، بل النية محلها القلب باتفاقهم، فلو لفظ بلسانه غلطا خلاف ما في قلبه فالاعتبار بما ينوي لا بما لفظ، ولم يذكر أحد في ذلك خلافا، إلا أن بعض متأخري أصحاب الشافعي خرج وجها في ذلك، وغلطه فيه أئمة أصحابه، ولكن تنازع العلماء هل يستحب اللفظ بالنية ؟ على قولين: فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد: يستحب التلفظ بها لكونه أوكد، وقالت طائفة من أصحاب مالك، وأحمد، وغيرهما: لا يستحب التلفظ بها ; لأن ذلك بدعة لم ينقل عن رسول الله ﷺ ولا أصحابه ولا أمر النبي ﷺ أحدا من أمته أن يلفظ بالنية ولا علم ذلك أحدا من المسلمين، ولو كان هذا مشروعا لم يهمله النبي ﷺ وأصحابه، مع أن الأمة مبتلاة به كل يوم وليلة، وهذا القول أصح، بل التلفظ بالنية نقص في العقل والدين: أما في الدين فلأنه بدعة، وأما في العقل فلأن هذا بمنزلة من يريد أكل الطعام فقال: أنوي بوضع يدي في هذا الإناء أني آخذ منه لقمة، فأضعها في فمي فأمضغها، ثم أبلعها لأشبع فهذا حمق وجهل، وذلك أن النية تتبع العلم، فمتى علم العبد ما يفعل كان قد نواه ضرورة، فلا يتصور مع وجود العلم به أن لا تحصل نية، وقد اتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع، بل من اعتاده فإنه ينبغي له أن يؤدب تأديبا يمنعه عن التعبد بالبدع، وإيذاء الناس برفع صوته، والله أعلم . الخامس: أن النية لا يدخلها فساد بخلاف الأعمال الظاهرة، فإن النية أصلها حب الله ورسوله وإرادة وجهه، وهذا هو بنفسه محبوب لله ورسوله، مرضي لله ورسوله، والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة، وما لم تسلم منها لم تكن مقبولة، ولهذا كانت أعمال القلب المجردة أفضل من أعمال البدن المجردة، كما قال بعض السلف: قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه وضعفه في قلبه "، وتفصيل هذا يطول، والله أعلم .

وأما المسخن بالنجاسة فليس ينجس باتفاق الأئمة إذا لم يحصل له ما ينجسه، وأما كراهته ففيها نزاع، لا كراهة فيه في مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنهما، وكرهه مالك، وأحمد في الرواية الأخرى عنهما، وهذه الكراهة لها مأخذان، أحدهما: احتمال وصول أجزاء النجاسة إلى الماء فيبقى مشكوكا في طهارته شكا مستندا إلى أمارة ظاهرة، فعلى هذا المأخذ متى كان بين الوقود والماء حاجز حصين كمياه الحمامات لم يكره ; لأنه قد تيقن أن الماء لم تصل إليه النجاسة، وهذه طريقة طائفة من أصحاب أحمد: كالشريف أبي جعفر، وابن عقيل، وغيرهما، والثاني: أن سبب الكراهة كونه سخن بإيقاد النجاسة، واستعمال النجاسة مكروه عندهم ; والحاصل بالمكروه مكروه، وهذه طريقة القاضي وغيره، فعلى هذا إنما الكراهة إذا كان التسخين حصل بالنجاسة، فأما إذا كان غالب الوقود طاهرا، أو شك فيه لم تكن هذه المسألة وأما دخان النجاسة: فهذا مبني على أصل، وهو: أن العين النجسة الخبيثة إذا استحالت حتى صارت طيبة كغيرها من الأعيان الطيبة، مثل: أن يصير ما يقع في الملاحة من دم وميتة وخنزير، ملحا طيبا كغيرها من الملح، أو يصير الوقود رمادا، وخرسفا، وقصرملا، ونحو ذلك، ففيه للعلماء قولان، أحدهما: لا يطهر كقول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب مالك، وهو المشهور عن أصحاب أحمد، وإحدى الروايتين عنه، والرواية الأخرى: أنه طاهر، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك في أحد القولين، وإحدى الروايتين عن أحمد، ومذهب أهل الظاهر وغيرهم: أنها تطهر، وهذا هو الصواب المقطوع به، فإن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم لا لفظا، ولا معنى، فليست محرمة ولا في معنى المحرم، فلا وجه لتحريمها، بل تتناولها نصوص الحل، فإنها من الطيبات، وهي أيضا في معنى ما اتفق على حله، فالنص والقياس يقتضي تحليلها، وأيضا فقد اتفقوا كلهم على الخمر إذا صارت خلا بفعل الله تعالى، صارت حلالا طيبا، واستحالة هذه الأعيان أعظم من استحالة الخمر، والذين فرقوا بينهما قالوا: الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة، بخلاف الدم والميتة، ولحم الخنزير، وهذا الفرق ضعيف، فإن جميع النجاسات نجست أيضا بالاستحالة، فإن الدم مستحيل عن أعيان طاهرة، وكذلك العذرة والبول، والحيوان النجس، مستحيل عن مادة طاهرة مخلوقة، وأيضا فإن الله تعالى حرم الخبائث لما قام بها من وصف الخبث، كما أنه أباح الطيبات لما قام بها من وصف الطيب، وهذه الأعيان المتنازع فيها ليس فيها شيء من وصف الخبث، وإنما فيها وصف الطيب، فإذا عرف هذا: فعلى أصح القولين: فالدخان، والبخار المستحيل عن النجاسة: طاهر ; لأنه أجزاء هوائية ونارية ومائية، وليس فيه شيء من وصف الخبث وعلى القول الآخر فلا بد أن يعفى من ذلك عما يشق الاحتراز منه، كما يعفى عما يشق الاحتراز منه على أصح القولين، ومن حكم بنجاسة ذلك ولم يعف عما يشق الاحتراز منه، فقوله أضعف الأقوال، هذا إذا كان الوقود نجسا، فأما الطاهر: كالخشب والقصب، والشوك فلا يؤثر باتفاق العلماء، وكذلك أرواث ما يؤكل لحمه من الإبل والبقر والغنم والخيل فإنها طاهرة في أصح قولي العلماء والله أعلم .

وأما روث ما لا يؤكل لحمه: كالبغال، والحمير، فهذه نجسة عند جمهور العلماء، وقد ذهب طائفة إلى طهارتها، وأنه لا ينجس من الأرواث، والأبوال إلا بول الآدمي وعذرته، لكن على القول المشهور قول الجمهور إذا شك في الروثة: هل هي من روث ما يؤكل لحمه أو من روث ما لا يؤكل لحمه، ففيها قولان للعلماء، هما وجهان في مذهب أحمد أحدهما: يحكم بنجاستها ; لأن الأصل في الأرواث النجاسة، والثاني: وهو الأصح يحكم بطهارتها ; لأن الأصل في الأعيان الطهارة، ودعوى أن الأصل في الأرواث النجاسة ممنوع، فلم يدل على ذلك لا نص، ولا إجماع، ومن ادعى أصلا بلا نص، ولا إجماع فقد أبطل، وإذا لم يكن معه إلا القياس فروث ما يؤكل لحمه طاهر، فكيف يدعي أن الأصل نجاسة الأرواث ؟ إذا عرف ذلك، فإن تيقن أن الوقود نجس، فالدخان من مسائل الاستحالة كما تقدم، وأما إذا تيقن طهارته فلا نزاع فيه، وإن شك هل فيه نجس فالأصل الطهارة، وإن تيقن أن فيه روثا، وشك في نجاسته فالصحيح الحكم بطهارته، وإن علم اشتماله على طاهر ونجس، وقلنا بنجاسة المستحيل عنه كان له حكمه فيما يصيب بدن المغتسل: يجوز أن يكون من الطاهر، ويجوز أن يكون من النجس، فلا ينجس بالشك، كما لو أصابه بعض رماد مثل هذا الوقود، فإنا لا نحكم بنجاسة البدن بذلك، وإن تيقنا أن في الوقود نجسا، لإمكان أن يكون هذا الرماد غير نجس، والبدن طاهر بيقين فلا نحكم بنجاسته بالشك، وهذا إذا لم يختلط الرماد النجس بالطاهر، أو البخار النجس بالطاهر، فأما إذا اختلطا بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر، فما أصاب الإنسان يكون منهما جميعا، ولكن الوقود في مقره لا يكون مختلطا، بل رماد كل نجاسة يبقى في حيزها، فإن قيل: لو اشتبه الحلال بالحرام: كاشتباه أخته بأجنبية، أو الميتة بالمذكى، اجتنبهما جميعا، ولو اشتبه الماء الطاهر بالنجس: فقيل: يتحرى للطهارة إذا لم يكن النجس نجس الأصل بأن يكون بولا كما قاله الشافعي: وقيل: لا يتحرى بل يجتنبهما كما لو كان أحدهما بولا، وهو المشهور من مذهب أحمد، وطائفة من أصحاب مالك، وقيل: يتحرى إذا كانت الآنية أكبر، وهذا مذهب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب أحمد، وفي تقدير الكبير نزاع معروف عندهم، فهنا أيضا اشتبهت الأعيان النجسة بالطاهرة، فاشتبه الحلال بالحرام، قيل: هذا صحيح، ولكن مسألتنا ليست من هذا الباب، فإنه إذا اشتبه الحلال بالحرام اجتنبهما ; لأنه إذا استعملهما لزم استعمال الحرام قطعا، وذلك لا يجوز، فهو بمنزلة اختلاط الحلال بالحرام على وجه لا يمكن تمييزه: كالنجاسة إذا ظهرت في الماء، وإن استعمل أحدهما من غير دليل شرعي كان ترجيحا بلا مرجح، وهما مستويان في الحكم، فليس استعمال هذا بأولى من هذا، فيجتنبان جميعا . - مسألة: إذا ولغ الكلب في اللبن، ومخض اللبن وظهر فيه زبدة، فهل يحل تطهير الزبدة، أفتونا مأجورين، الجواب: اللبن وغيره من المائعات هل يتنجس بملاقاة النجاسة، أو حكمه حكم الماء ؟ هذا فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن أحمد، وكذلك مالك له في النجاسة الواقعة في الطعام الكثير هل تنجسه ؟ فيه قولان، وأما ولوغ الكلب في الطعام فلا ينجسه عند مالك، فهذا على أحد قولي العلماء: لم ينجس، وعلى القول الآخر: ينجس، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عن أصحابه، لكن عند هؤلاء هل يطهر الدهن بالغسل ؟ فيه قولان في مذهب الشافعي وأحمد، وهما قولان في مذهب مالك أيضا، فمن قال إن الأدهان تطهر بالغسل، قال بطهارته بالغسل، وإلا فلا، والله أعلم .

وأما اشتباه الماء الطاهر بالنجس، فإنما نشأ فيه النزاع ; لأن الطهارة بالطهور واجبة، وبالنجس حرام، فقد اشتبه واجب بحرام، والذين منعوا التحري قالوا: استعمال النجس حرام، وأما استعمال الطهور فإنما يجب مع العلم والقدرة، وذلك منتف هنا، ولهذا تنازعوا: هل يحتاج إلى أن يعدم الطهور بخلط أو إراقة ؟ على قولين مشهورين: أصحهما أنه لا يجب ; لأن الجهل كالعجز، والشافعي رحمه الله إنما جوز التحري إذا كان الأصل فيهما الطهارة ; لأنه حينئذ يكون قد استعمل ما أصله طاهر وقد شك في تنجسه فيبقى الأمر فيه على استصحاب الحال، والذين نازعوه قالوا: ما صار نجسا بالتغير فهو بمنزلة نجس الأصل قد زال الاستصحاب بيقين النجاسة كما لو حرمت إحدى امرأتيه برضاع، أو طلاق، أو غيرهما، فإنه بمنزلة من تكون محرمة الأصل عنده، ومسألة اشتباه الحلال بالحرام ذات فروع متعددة، وأما إذا اشتبه الطاهر بالنجس، وقلنا يتحرى أو لا يتحرى، فإنه إذا وقع على بدن الإنسان، أو ثوبه، أو طعامه شيء من أحدهما: لا ينجسه ; لأن الأصل الطهارة، وما ورد عليه مشكوك في نجاسته، ونحن منعنا من استعمال أحدهما ; لأنه لا ترجيح بلا مرجح، فأما تنجس ما أصابه ذلك فلا يثبت بالشك، نعم لو أصابا ثوبين حكم بنجاسة أحدهما، ولو أصابا بدنين فهل يحكم بنجاسة أحدهما، هذا مبني على ما إذا تيقن الرجلان أن أحدهما أحدث أو أن أحدهما طلق امرأته، وفيه قولان: أحدهما: أنه لا يجب على واحد منهما طهارة ولا طلاق، كما هو مذهب الشافعي وغيره، وأحد القولين في مذهب أحمد ; لأن الشك في رجلين لا في واحد، فكل واحد منهما له أن يستصحب حكم الأصل في نفسه، والثاني: أن ذلك بمنزلة الشخص الواحد، وهو القول الآخر في مذهب أحمد، وهو أقوى ; لأن حكم الإيجاب أو التحريم يثبت قطعا في حق أحدهما، فلا وجه لرفعه عنهما جميعا، وسر ما ذكرناه إذا اشتبه الطاهر بالنجس، فاجتنابهما جميعا واجب ; لأنه يتضمن لفعل المحرم، واجتناب أحدهما ; لأن تحليله دون الآخر تحكم، ولهذا لما رخص من رخص في بعض الصور عضده بالتحري، أو به واستصحابه الحلال، فأما ما كان حلالا بيقين، ولم يخالطه ما حكم بأنه نجس، فكيف ينجس ؟ ولهذا لو تيقن أن في المسجد أو غيره بقعة نجسة، ولم يعلم عينها، وصلى في مكان منه، ولم يعلم أنه المتنجس صحت صلاته ; لأنه كان طاهرا بيقين، ولم يعلم أنه نجس، وكذلك لو أصابه شيء من طين الشوارع لم يحكم بنجاسته، وإن علم أن بعض طين الشوارع نجس، ولا يفرق في هذا بين العدد المنحصر وغير المنحصر، وبين القلتين والكثير، كما قيل مثل ذلك في اشتباه الأخت بالأجنبية ; لأنه هناك اشتبه الحلال بالحرام، وهنا شك في طريان التحريم على الحلال .

وأما الماء الذي يجري على أرض الحمام مما يفيض وينزل من أبدان المغتسلين غسل النظافة وغسل الجنابة وغير ذلك فإنه طاهر، وإن كان فيه من الغسل كالسدر والخطمي والأشنان ما فيه إلا إذا علم في بعضه بول أو قيء أو غير ذلك من النجاسات، فذلك الماء الذي خالطته هذه النجاسات له حكمه، وأما ما قبله وما بعده فلا يكون له حكمه بلا نزاع، لا سيما وهذه المياه جارية بلا ريب، بل ماء الحمام الذي هو فيه إذا كان الحوض فائضا فإنه جار في أصح قولي العلماء وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء وهو بمنزلة ما يكون في الأنهار من حفرة ونحوها، فإن هذا الماء وإن كان الجريان على وجهه فإنه يستخلف شيئا فشيئا ويذهب ويأتي ما بعده لكن يبطئ ذهابه بخلاف الذي يجري جميعه، وقد تنازع العلماء في الماء الجاري على قولين، أحدهما: لا ينجس إلا بالتغير، وهذا مذهب أبي حنيفة مع تشديده في الماء الدائم، وهو أيضا مذهب مالك، والقول القديم للشافعي، وهو أنص الروايتين عن أحمد واختيار محققي أصحابه، والقول الآخر للشافعي، وهي الرواية الأخرى عن أحمد أنه كالدائم، فتعتبر الجرية، والصواب الأول، فإن النبي ﷺ فرق بين الدائم والجاري في نهيه عن الاغتسال فيه والبول فيه، وذلك يدل على الفرق بينهما ; ولأن الجاري إذا لم تغيره النجاسة فلا وجه لنجاسته، وقوله { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث }، إنما دل على ما دونهما بالمفهوم، والمفهوم لا عموم له فلا يدل ذلك على أن ما دون القلتين يحمل الخبث، بل إذا فرق فيه بين دائم وجار ; أو إذا كان في بعض الأحيان يحمل الخبث كان الحدث معمولا به، فإذا كان طاهرا بيقين، وليس في نجاسته نص ولا قياس، وجب البقاء على طهارته مع بقاء صفاته، وإذا كان حوض الحمام الفائض إذا كان قليلا ووقع فيه بول، أو دم أو عذرة، ولم تغيره، لم ينجسه على الصحيح، فكيف بالماء الذي جميعه يجري على أرض الحمام، فإنه إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره، لم ينجس، وهذا يتضح بمسألة أخرى، وهو أن الأرض، وإن كانت ترابا، أو غير تراب، إذا وقعت عليها نجاسة من بول، أو عذرة، أو غيرهما ; فإنه إذا صب الماء على الأرض حتى زالت عين النجاسة فالماء والأرض طاهران، وإن لم ينفصل الماء في مذهب جماهير العلماء، فكيف بالبلاط ؟ ولهذا قالوا: إن السطح إذا كانت عليه نجاسة، وأصابه ماء المطر، حتى أزال عينها، كان ما ينزل من الميازيب طاهرا، فكيف بأرض الحمام ؟ فإذا كان بها بول، أو قيء فصب عليه ماء حتى ذهبت عينه كان الماء والأرض طاهرين وإن لم يجر الماء ; فكيف إذا جرى وزال عن مكانه، والله أعلم، وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وذكرنا بضعة عشر دليلا شرعيا على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه، فإذا كانت طاهرة فكيف بالمستحيل منها أيضا، وطهارة هذه الأرواث بينة في السنة فلا يجعل الخلاف فيها شبهة يستحب لأجله اتقاء ما خالطته، إذ قد ثبت بالسنة الصحيحة أن النبي ﷺ وأصحابه كانوا يلابسونها .

- مسألة: في أناس في مفازة، ومعهم قليل ماء فولغ الكلب فيه، وهم في مفازة معطشة، الجواب: يجوز لهم حبسه لأجل شربه إذا عطشوا ولم يجدوا ماء طيبا، فإن الخبائث جميعا تباح للمضطر، فله أن يأكل عند الضرورة الميتة والدم، ولحم الخنزير، وله أن يشرب عند الضرورة كل ما يرويه: كالمياه النجسة، والأبوال التي ترويه وإن ما منعه أكثر الفقهاء شرب الخمر، قالوا: لأنها تزيده عطشا، وأما التوضؤ بماء الولوغ فلا يجوز عند جماهير العلماء، بل يعدل عنه إلى التيمم، ويجب على المضطر أن يأكل ويشرب ما يقيم به نفسه، فمن اضطر إلى الميتة، أو الماء النجس، فلم يشرب ولم يأكل حتى مات دخل النار، ولو وجد غيره مضطرا إلى ما معه من الماء الطيب، أو النجس، فعليه أن يسقيه إياه ويعدل إلى التيمم، سواء كان عليه جنابة أو حدث صغير، ومن اغتسل وتوضأ وهناك مضطر من أهل الملة، أو الذمة، أو دوابهم المعصومة، فلم يسقه كان آثما عاصيا، والله أعلم .

فصل وإذا عرف أصل هذه المسألة، فالحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة، فإذا زالت بفعل الله طهرت، بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تأكلوا خل خمر، إلا خمرا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري خلا من خمر أهل الكتاب ما لم يعلم أنهم تعمدوا فسادها ; وذلك لأن اقتناء الخمر محرم، فمن قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما، والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة، وأما إذا اقتناها لشربها، واستعمالها خمرا فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده، فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة، وأما سائر النجاسات: فيجوز التعمد لإفسادها، لأن إفسادها ليس بمحرم، كما لا يحد شاربها ; لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر، ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ جلود الميتة، وجوزوا أيضا إحالة النجاسة بالنار وغيرها .

- مسألة: في الزيت إذا وقعت فيه النجاسة مثل الفأرة ونحوها وماتت فيه، هل ينجس أم لا ؟ وإذا قيل ينجس فهل يجوز أن يكاثر بغيره حتى يبلغ قلتين أم لا ؟، وإذا قيل تجوز المكاثرة، هل يجوز إلقاء الطاهر على النجس، أو بالعكس، أو لا فرق ؟ وإذا لم تجز المكاثرة، وقيل بنجاسته، هل لهم طريق في الانتفاع به مثل الاستصباح به، أو غسله إذا قيل يطهر بالغسل أم لا ؟ وإذا كانت المياه النجسة اليسيرة تطهر بالمكاثرة، هل تطهر سائر المائعات بالمكاثرة أم لا ؟، الجواب: الحمد لله، أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة فهل تنجس ؟ وإن كانت كثيرة فوق القلتين، أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقا إلا بالتغير، أو لا ينجس الكثير إلا بالتغير كما إذا بلغت قلتين ؟ فيه عن أحمد ثلاث روايات: إحداهن: أنها تنجس ولو مع الكثرة، وهو قول الشافعي، وغيره، والثانية: أنها كالماء سواء، كانت مائية، أو غير مائية، وهو قول طائفة من السلف والخلف: كابن مسعود، وابن عباس، والزهري، وأبي ثور، وغيرهم، وهو قول أبي ثور، نقله المروزي عن أبي ثور، وحكي ذلك لأحمد فقال: إن أبا ثور شبهه بالماء، ذكر ذلك الخلال في جامعه عن المروزي، وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة أن حكم المائعات عندهم حكم الماء، ومذهبهم في المائعات معروف: فإذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر لم تنجس كالماء عندهم، وأما أبو ثور فإنه يقول بالعكس: بالقلتين كالشافعي، والقول أنها كالماء يذكر قولا في مذهب مالك، وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين وروي عن أبي نافع، من المالكية، في الجباب التي بالشام للزيت تموت فيه الفأرة أن ذلك لا يضر الزيت، قال: وليس الزيت كالماء، وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره تقع فيه الميتة ولم تغير أوصافه وكان كثيرا ; لم ينجس بخلاف موتها فيه، ففرق بين موتها فيه، ووقوعها فيه، ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر: أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة، إلا السمن إذا وقعت فيه فأرة، كما يقولون إن الماء لا ينجس، إلا إذا بال فيه بائل، والثالثة: يفرق بين المائع المائي: كخل الخمر، وغير المائي: كخل العنب، فيلحق الأول بالماء دون الثاني، وفي الجملة: للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال، أحدها: أنها كالماء، والثاني: أنها أولى بعدم التنجس من الماء ; لأنها طعام وإدام فإتلافها فيه فساد ; ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء ; أو مباينة لها من الماء، والثالث: أن الماء أولى بعدم التنجس منها ; لأنه طهور، وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، وذكرنا حجة من قال بالتنجيس، وأنهم احتجوا بقول النبي ﷺ: { إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم، وإن كان مائعا، فلا تقربوه }، رواه أبو داود، وغيره، وبينا ضعف هذا الحديث، وطعن البخاري، والترمذي، وأبي حاتم الرازي، والدارقطني، وغيرهم فيه، وأنهم بينوا أنه غلط فيه معمر على الزهري . - مسألة: فيمن وقع على ثيابه ماء من طاقة ما يدري ما هو، فهل يجب غسله أم لا ؟ الجواب: لا يجب غسله، بل ولا يستحب على الصحيح، وكذلك لا يستحب السؤال عنه على الصحيح، فقد مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع رفيق له، فقطر على رفيقه ماء من ميزاب فقال صاحبه: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أم نجس ؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره فإن هذا ليس عليه، والله أعلم .

والماء لنجاسته سببان، أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه، فالمتفق عليه: التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير، فزال التغير، كان طاهرا: كالثوب المضمخ بالدم، إذا غسل عاد طاهرا، والثاني: القلة: فإذا كان الماء قليلا، ووقعت فيه نجاسة، ففي نجاسته قولان للعلماء: فمذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه: أنه ينجس ما دون القلتين، وأحمد في الرواية المشهورة عنه يستثني البول، والعذرة المائعة، فيجعل ما أمكن نزحه نجسا بوقوع ذلك فيه، ومذهب أبي حنيفة: ينجس ما وصلت إليه الحركة، ومذهب أهل المدينة، وأحمد في الرواية الثالثة: أنه لا ينجس ولو لم يبلغ قلتين، واختار هذا القول بعض أصحاب الشافعي، وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب أحمد، كما نصر الأولى طائفة كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا: إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يحدوا ذلك بقلتين، وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول، فهؤلاء لا ينجسون شيئا إلا بالتغير، ومن يسوي بين الماء والمائعات: كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد، قال: في المائعات كذلك، كما قاله الزهري وغيره، فهؤلاء لا ينجسون شيئا من المائعات إلا بالتغير، كما ذكره البخاري في صحيحه، لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء، وكذلك في المائعات إذا سويت به فنقول: إذا وقع في المائع القليل نجاسة، فصب عليه مائع كثير، فيكون الجميع طاهرا إذا لم يكن متغيرا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين، فصار الجميع كثيرا فوق القلتين، ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد: أحدهما: وهو مذهب الشافعي في الماء أن الجميع طاهر، والوجه الثاني: أنه لا يكون طاهرا حتى يكون المضاف كثيرا، والمكاثرة المعتبرة: أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير، كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر أيضا، وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيرا، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة، وكان الجميع كثيرا فوق القلتين كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل، وفي ذلك الوجهان المتقدمان، وهذا القول الذي ذكرناه من المائعات كالماء، أولى بعدم التنجيس من الماء هو الأظهر في الأدلة الشرعية، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجيس الأشربة والأطعمة، ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل، ولم يأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الأطعمة والأشربة، واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك، وذلك ; لأن الماء لا يمن له في العادة بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم، فإن في نجاستها من المشقة والحرج والضيق ما لا يخفى على الناس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير رفعا للحرج فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة، والحرج في هذا أشق، ولعل أكثر المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو عن نجاسة، فإن قيل: الماء يدفع النجاسة عن غيره، فعن نفسه أولى وأحرى ; بخلاف المائعات، قيل: الجواب عن ذلك من وجوه، أحدها: إن الماء إنما دفعها عن غيره ; لأنه يزيلها عن ذلك المحل، وتنتقل معه، فلا يبقى على المحل نجاسة وأما إذا وقعت فيه، فإنما كان طاهرا لاستحالتها فيه لا لكونه أزالها عن نفسه، ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة: إن المائعات كالماء في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس، وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زالت معه أن يزيلها إذا كانت فيه، ونظير الماء الذي فيه النجاسة: الغسالة المنفصلة عن المحل، وتلك نجسة قبل طهارة المحل، وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه: هل هي طاهرة، أو مطهرة، أو نجسة ؟ وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال: الماء ينجس بوقوعها فيه، وإن كان يزيلها عن غيره لما ذكرنا، فإذا كانت النصوص، وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة، كما دل عليه قول النبي ﷺ: { الماء طهور لا ينجسه شيء } وقوله: { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث }، فإنه إذا كان طهورا يطهر به غيره، علم أنه لا ينجس بالملاقاة، إذ لو نجس بها لكان إذا صب عليه النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت، وإن استحالت زالت، فدل ذلك على أن استحالة النجاسة مع ملاقاتها فيه لا تنجسه، إن لم تكن قد زالت كما زالت عن المحل، فإن من قال: يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره فقد خالف المشاهدة، وهذا المعنى يوجد في سائر المائعات من الأشربة وغيرها، الوجه الثاني: أن يقال: غاية هذا أن يقتضي أنه يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد، ومالك، كما هو مذهب أبي حنيفة، وغيره، وأحمد جعله لازما فمن قال: إن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة، وقال: يلزم على هذا أن تزال به النجاسة، وهذا ; لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره كما ذكروه في الماء، فيلزم جواز إزالته بكل مائع طاهر مزيل للعين، قلاع للأثر على هذا القول، وهذا هو القياس، فنقول به على هذا التقدير، وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال إنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير، إما مطلقا وإما مع الكثرة، فكذلك الصواب في المائعات، وفي الجملة: التسوية بين الماء، والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات، وفي مسألة ملاقاتها للمائعات الماء وغير الماء، ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها، والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية، تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال، فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة، وكون حكم النجاسة تبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع، أو غير مائع بعيد عن الأصول وموجب القياس، ومن كان فقيها خبيرا بمأخذ الأحكام الشرعية، وأزال عنه الهوى، تبين له ذلك، ولكن إذا كان في استعمالها فساد، فإنه ينهى عن ذلك، كما ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها، ونحو ذلك، لما في ذلك من الحاجة إليها، لا لأجل الخبث، كما ثبت في الصحيح: { عن النبي ﷺ: لما كان في بعض أسفاره مع أصحابه، فنفدت أزوادهم، فاستأذنوه في نحر الظهر، فأذن لهم، ثم أتى عمر، فسأله أن يجمع الأزواد، فيدعو الله بالبركة فيها ويبقي الظهر، ففعل ذلك }، فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب، لا ; لأن الإبل محرمة، فهكذا ينهى فيما يحتاج إليه من الأطعمة، والأشربة عن إزالة النجاسة بها، كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن، وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها، فالقول في المائعات كالقول في الجامدات، الوجه الثالث: أن يقال إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء، وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات، فإذا كان الماء لا ينجس بما وقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته فالمائعات أولى وأحرى، الوجه الرابع: أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم، ولا لون، ولا ريح، لا نسلم أن يقال بنجاسته أصلا، كما في الخمر المسلبة أو أبلغ، وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة، فإن الجمهور على أن المستحيلات من النجاسة طاهرة، كما هو المعروف عن الحنفية، والظاهرية، وهو أحد القولين في مذهب مالك، وأحمد، ووجه في مذهب الشافعي، الوجه الخامس: أن دفع العين للنجاسة عن نفسها كدفع الماء، لا يختص بالماء، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره، فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض، وذهبت بالشمس، أو الريح، أو الاستحالة هل تطهر الأرض على قولين، أحدهما: تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي، وأحمد، وهو الصحيح في الدليل، فإنه ثبت { عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ﷺ، ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك }، وفي السنن أنه قال: { إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما في التراب فإن التراب لهما طهور }، وكان الصحابة: كعلي بن أبي طالب، وغيره، يخوضون في الوحل، ثم يدخلون يصلون بالناس، ولا يغسلون أقدامهم، وأوكد من هذا { قوله ﷺ في ذيول النساء إذا أصابت أرضا طاهرة بعد أرض خبيثة: تلك بتلك } وقوله: { يطهره ما بعده }، وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد، وغيره، وقد نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وهي من أجل المسائل، وهذا ; لأن الذيول يتكرر ملاقاتها للنجاسة، فصارت كأسفل الخف ومحل الاستنجاء، فإذا كان الشارع جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها لأجل الحاجة، كما في الاستنجاء بالأحجار، وجعل الجامد طهورا ; علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء، وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال من النجاسة ; فالمائعات أولى وأحرى ; لأن إحالتها أشد وأسرع، ولبسط هذه المسائل وما يتعلق بها مواضع غير هذا، وأما من قال: إن الدهن يتنجس بما يقع فيه، في جواز الاستصباح به قولان في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، أظهرهما: جواز الاستصباح به، كما نقل ذلك عن طائفة من الصحابة، وفي طهارته بالغسل وجهان في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد: أحدهما: يطهر بالغسل كما اختاره ابن شريح، وأبو الخطاب، وابن شعبان، وغيرهم، وهو المشهور من مذهب الشافعي، وغيره، والثاني: لا يطهر بالغسل، وعليه أكثرهم، وهذا النزاع يجري في الدهن المتغير بالنجاسة، فإنه نجس بلا ريب، ففي جواز الاستصباح به هذا النزاع ; وكذلك في غسله هذا النزاع، وأما بيعه: فالمشهور أنه لا يجوز بيعه، لا من مسلم ولا كافر، وعن أحمد أنه يجوز بيعه من كافر، إذا علم بنجاسته، كما روي عن أبي موسى الأشعري، وقد خرج قول له بجواز بيعه منهم من خرجه على جواز الاستصباح به، كما فعل أبو الخطاب، وغيره، وهو ضعيف ; لأن أحمد وغيره من الأئمة فرقوا بينهما، ومنهم من خرج جواز بيعه على جواز تطهيره ; لأنه إذا جاز تطهيره صار كالثوب النجس، والإناء النجس، وذلك يجوز بيعه وفاقا، وكذلك أصحاب الشافعي لهم في جواز بيعه إذا قالوا بجواز تطهيره وجهان، ومنهم من قال يجوز بيعه مطلقا، والله أعلم .

- مسألة: في المرأة هل تختن أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، نعم تختن، وختانها: أن تقطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك، { قال رسول الله للخافضة - وهي الخاتنة: أشمي ولا تنهكي فإنه أبهى للوجه وأحظى لها عند الزوج } يعني: لا تبالغي في القطع، وذلك أن المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة، والمقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها، فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة، ولهذا يقال في المشاتمة: يا ابن القلفاء، فإن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، ولهذا من الفواحش في نساء التتر، ونساء الإفرنج، ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصل المبالغة في الختان ضعفت الشهوة، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود باعتدال والله أعلم .

- مسألة: في الختان متى يكون ؟ الجواب: أما الختان فمتى شاء اختتن، لكن إذا راهق البلوغ فينبغي أن يختن كما كانت العرب تفعل، لئلا يبلغ إلا وهو مختون، وأما الختان في السابع ففيه قولان هما روايتان عن أحمد: قيل لا يكره ; لأن إبراهيم ختن إسحاق في السابع، وقيل يكره ; لأنه عمل اليهود فيكره التشبه بهم، وهذا مذهب مالك، والله أعلم . - مسألة: مسلم بالغ، عاقل، يصوم ويصل وهو غير مختون، وليس مطهرا، هل يجوز ذلك، ومن ترك الختان كيف حكمه ؟ الجواب: إذا لم يخف عليه ضرر الختان فعليه أن يختتن، فإن ذلك مشروع مؤكد للمسلمين باتفاق الأئمة، وهو واجب عند الشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وقد اختتن إبراهيم الخليل عليه السلام بعد ثمانين من عمره، ويرجع في الضرر إلى الأطباء الثقات، وإذا كان يضره في الصيف أخره إلى زمان الخريف، والله أعلم .

- مسألة: كم مقدار أن يقعد الرجل حتى يحلق عانته الجواب: عن أنس رضي الله عنه: { أن رسول الله ﷺ: وقت لهم في حلق العانة، ونتف الإبط، ونحو ذلك أن لا يترك أكثر من أربعين يوما } وهو في الصحيح، والله أعلم .

- مسألة: في رجل إذا قبل زوجته أو ضمها فأمذى، هل يفسد ذلك صومه أم لا ؟ وإذا أمذى فهل يلزمه وضوء أم لا ؟ وإذا صبر الرجل على زوجته الشهر والشهرين لا يطؤها فهل عليه إثم أم لا ؟ وهل يطالب الزوج بذلك ؟ الجواب: أما الوضوء فينتقض بذلك وليس عليه إلا الوضوء، لكن يغسل ذكره وأنثييه، ويفسد الصوم بذلك عند أكثر العلماء، ويجب على الرجل أن يطأ زوجته بالمعروف، وهو من أوكد حقها عليه أعظم من إطعامها، والوطء الواجب قيل: إنه واجب في كل أربعة أشهر مرة، وقيل: بقدر حاجتها وقدرته، كما يطعمها بقدر حاجتها وقدرته، وهذا أصح القولين، والله أعلم .

- مسألة: في رجل يهيج عليه بدنه فيستمني بيده، وبعض الأوقات يلصق وركيه على ذكره، وهو يعلم أن إزالة هذا بالصوم لكن يشق عليه الجواب: أما ما نزل من الماء بغير اختياره فلا إثم عليه فيه، لكن عليه الغسل إذا نزل الماء الدافق، وأما إنزاله باختياره بأن يستمني بيده فهذا حرام عند أكثر العلماء ; وهو إحدى الروايتين عن أحمد بل أظهرهما، وفي رواية أنه مكروه لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف الزنا إن لم يستمن، أو يخاف المرض، فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، وقد رخص في هذه الحال طوائف من السلف والخلف، ونهى عنه آخرون، والله أعلم .

- مسألة: في امرأة بها مرض في عينيها، وثقل في جسمها من الشحم، وليس لها قدرة على الحمام لأجل الضرورة، وزوجها لم يدعها تطهر، وهي تطلب الصلاة، فهل يجوز لها أن تغسل جسمها الصحيح وتتيمم عن رأسها ؟ الجواب: نعم إذا لم تقدر على الاغتسال في الماء البارد ولا الحار، فعليها أن تصلي في الوقت بالتيمم عند جماهير العلماء، لكن مذهب الشافعي، وأحمد أنها تغسل ما يمكن وتتيمم للباقي، ومذهب أبي حنيفة، ومالك، إن غسلت الأكثر لم تتيمم، إن لم يمكن إلا غسل الأقل تيممت، ولا غسل عليها .

وقول القائل: إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة كقوله: إن النظر إلى وجوه النساء، أو النظر إلى وجوه محارم الرجل، كبنت الرجل، وأمه وأخته عبادة، ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة كان بمنزلة من جعل الفواحش عبادة، قال تعالى: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }، ومعلوم أنه قد يكون في صور النساء الأجنبيات وذوي المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما في صورة المرد، فهل يقول مسلم إن للإنسان أن ينظر بهذا الوجه إلى صور نساء العالم، وصور محارمه، ويقول إن ذلك عبادة ؟ بل من جعل مثل هذا النظر عبادة فإنه كافر، مرتد، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفواحش عبادة، أو جعل تناول يسير الخمر عبادة أو جعل السكر بالحشيشة عبادة، فمن جعل المعاونة على الفاحشة بقيادة أو غيرها عبادة، أو جعل شيئا من المحرمات التي يعلم تحريمها من دين الإسلام عبادة، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو مضاه للمشركين الذين { إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }، وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية، وقد ذكر عنهم ما ذكر، فكيف بمن يجعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة، والله سبحانه قد أمر في كتابه بغض البصر، وهو نوعان: غض البصر عن العورة، وغضها عن محل الشهوة، فالأول: كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبي ﷺ: { لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة }، ويجب على الإنسان أن يستر عورته، كما قال النبي ﷺ لمعاوية بن حيدة: { احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك }، قلت: فإذا كان أحدنا مع قومه ؟ قال: { إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها }، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا ؟ قال: { فالله أحق أن يستحيي منه الناس } ويجوز أن يكشف بقدر الحاجة كما يكشف عند التخلي، وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده بجنب ما يستره، فله أن يغتسل عريانا كما اغتسل موسى عريانا، وأيوب، وكما في اغتساله ﷺ يوم الفتح، واغتساله في حديث ميمونة، وأما النوع الثاني من النظر: كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية، فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم، ولحم الخنزير، وعلى صاحبها الحد، تلك المحرمات إذا تناولها غير مستحل لها كان التعزير ; لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهي الخمر، وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهي كما يشتهي النظر إلى النساء ونحوهن، وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك، كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم لشهوة، والخالق سبحانه يسبح عند رؤية مخلوقاته كلها، وليس خلق الأمرد بأعجب في قدرته من خلق ذي اللحية، ولا خلق النساء بأعجب في قدر من خلق الرجال، بل تخصيص الإنسان التسبيح بحال نظره إلى الأمرد دون غيره ; كتخصيصه التسبيح بنظره إلى المرأة دون الرجل، وما ذاك إلا أنه دل على عظمة الخالق عنده، ولكن ; لأن الجمال يغير قلبه وعقله، وقد يذهله ما رآه فيكون تسبيحه بما يحصل في نفسه من الهوى، كما أن النسوة لما رأين يوسف { أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم }، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: { إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم }، وإذا كان الله لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به، وقد قال تعالى: { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا }، وقال في المنافقين: { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون }، فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم، لما فيهم من البهاء، والرواء، والزينة الظاهرة، وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة قد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن ينظر إليه لشهوة، وذلك أن الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى، وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته، وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور، فهذا حسن، وقد ينظر من جهة استحسان خلقه، كما ينظر إلى الجبل والبهائم، وكما ينظر إلى الأشجار، فهذا أيضا إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة، والمال، فهو مذموم لقوله تعالى: { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه }، وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق، وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حراما بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بنظر الشهوة، أو كان نظرا بشهوة الوطء، وفرق بين ما يجده الإنسان عند نظره الأشجار والأزهار، وما يجده عند نظره النسوان والمرد، فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعي، فصار النظر إلى المرد ثلاثة أقسام، أحدها: ما يقرن به الشهوة فهو حرام بالاتفاق، والثاني: ما يجزم أنه لا شهوة معه، كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن، وابنته الحسنة، وأمه، فهذا لا يقرن به شهوة، إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترنت به الشهوة حرم، وعلى هذا من لا يميل قلبه إلى المرد كما كان الصحابة، وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة، فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق بين هذا الوجه وبين نظره إلى ابنه، وابن جاره، وصبي أجنبي، ولا يخطر بقلبه شيء من الشهوة ; لأنه لم يعتد ذلك وهو سليم القلب من مثل ذلك، وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات وهن متكشفات الرءوس، وتخدم الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجال أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات، كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد، وكذلك المرد الحسان لا يصلح أن يخرجوا في الأمكنة، والأزمنة، التي يخاف فيها الفتنة بهم، إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج، ولا من الجلوس في الحمام بين الأجانب، ولا من رقصة بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، والنظر إليه كذلك، وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالث من النظر ; وهو: النظر إليه لغير شهوة، لكن مع خوف ثورانها، فيه وجهان في مذهب أحمد، أصحهما وهو المحكي عن نص الشافعي: إنه لا يجوز، والثاني يجوز ; لأن الأصل عدم ثورانها، فلا يحرم بالشك بل قد يكره، والأول هو الراجح، كما أن الراجح في مذهب الشافعي، وأحمد: أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية، لكن ; لأنه يخاف ثورانها، ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية ; لأنها مظنة الفتنة، والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة، ولهذا كان النظر الذي يفضي إلى الفتنة محرما إلا إذا كان لمصلحة راجحة، مثل نظر الخاطب، والطبيب، وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة، لكن مع عدم الشهوة، وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز، ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه، أو أدامه، وقال: إني لا أنظر لشهوة كذب في ذلك، فإنه إذا لم يكن معه داع يحتاج معه إلى النظر لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك، وأما نظرة الفجأة فهي عفو إذا صرف بصره، كما ثبت في الصحيح: { عن جرير قال: سألت رسول الله ﷺ عن نظرة الفجأة، فقال: اصرف بصرك }، وفي السنن: أنه قال لعلي عليه السلام: " { يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية }، وفي الحديث الذي في المسند، وغيره: { النظرة سهم مسموم من سهام إبليس }، وفيه: { من نظر إلى محاسن امرأة، ثم غض بصره عنها، أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة } أو كما قال، ولهذا يقال: إن غض البصر عن الصورة التي نهي عن النظر إليها كالمرأة، والأمرد الحسن يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر: إحداها: حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه الله، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تجتذب بسببها إلى الصور، حتى تبقى تجذب أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع، ولهذا قال بعض التابعين: ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه، وقال بعضهم: اتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن لهم فتنة كفتنة العذارى، وما زال أئمة العلم والدين: كشيوخ الهدى، وشيوخ الطريق، يوصون بترك صحبة الأحداث حتى يروى عن فتح الموصلي أنه قال: صحبت ثلاثين من الأبدال، كلهم يوصيني عند فراقه بترك صحبة الأحداث، وقال بعضهم: ما سقط عبد من عين الله إلا بصحبة هؤلاء الأنتان، ثم النظر يؤكد المحبة، فيكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب إليه، ثم غراما للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقا إلى أن يصير تتيما، والمتيم المعبد، وتيم الله عبد الله، فيبقى القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون أخا، بل ولا خادما، وهذا إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله، كما قال تعالى في حق يوسف: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }، فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه لله تحقيقا لقوله: { ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين }، قال تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين }، والغي هو اتباع الهوى، وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى، ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة: كابن سينا، وذويه، أو من الفرس كما يذكر عن بعضهم، أو من جهال المتصوفة، فإنهم أهل ضلال وغي، فهم مع مشاركة اليهود في الغي، والنصارى في الضلال، زادوا على الأمتين في ذلك، فإن هذا وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق: كتطليق نفسه، وتهذيب أخلاقه، وللمعشوق من الشفاء في مصالحه وتعليمه، وتأديبه، وغير ذلك، فمضرة ذلك أضعاف منفعته، وأين إثم ذلك من منفعته، وإنما هذا كما يقال: إن في الزنا منفعة لكل منهما، بما يحصل له من التلذذ والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك، وكما يقال إن في شرب الخمر منافع بدنية ونفسية، وقد قال في الخمر والميسر: { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }، وهذا قبل التحريم دع ما قاله عند التحريم وبعده، وباب التعلق بالصور هو من جنس الفواحش، وباطنه من باطن الفواحش، وهو من باطن الإثم، قال تعالى: { وذروا ظاهر الإثم وباطنه }، وقال تعالى: { إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن }، وقد قال: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }، وليس بين أئمة الدين نزاع في أن هذا ليس بمستحب، كما أنه ليس بواجب، فمن جعله ممدوحا، وأثنى عليه، فقد خرج من إجماع المسلمين، بل اليهود والنصارى، بل وعما عليه عقل بني آدم من جميع الأمم، وهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين }، وقد قال تعالى: { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى }، وقال تعالى: { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } . - مسألة: في رجل يخرج من ذكره قيح لا ينقطع، فهل تصح صلاته مع خروج ذلك ؟ أفتونا مأجورين الجواب: لا يجوز أن يبطل الصلاة، بل يصلي بحسب إمكانه، فإن لم تنقطع النجاسة قدر ما يتوضأ ويصلي، صلى بحسب حاله بعد أن يتوضأ وإن خرجت النجاسة في الصلاة، لكن يتخذ حفاظا يمنع من انتشار النجاسة، والله أعلم .

وهذا كما أنه لما أمر بالاستجمار بالأحجار، لم يختص الحجر إلا لأنه كان الموجود غالبا، لا لأن الاستجمار بغيره لا يجوز، بل الصواب قول الجمهور في جواز الاستجمار بغيره، كما هو أظهر الروايتين عن أحمد ; لنهيه عن الاستجمار بالروث والرمة، وقال: { إنهما طعام إخوانكم من الجن }، فلما نهى عن هذين تعليلا بهذه العلة، علم أن الحكم ليس مختصا بالحجر، وإلا لم يحتج إلى ذلك، وكذلك أمره بصدقة الفطر بصاع من تمر أو شعير، هو عند أكثر العلماء لكونه كان قوتا للناس، فأهل كل بلد يخرجون من قوتهم، وإن لم يكن من الأصناف الخمسة، كالذين يقتاتون الرز، أو الذرة يخرجون من ذلك عند أكثر العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وليس نهيه عن الاستجمار بالروث والرمة إذنا في الاستجمار بكل شيء، بل الاستجمار بطعام الآدميين، وعلف دوابهم، أولى بالنهي عنه من طعام الجن، وعلف دوابهم، ولكن لما كان من عادة الناس أنهم لا يتوقون الاستجمار بما نهى عنه من ذلك، بخلاف طعام الإنس وعلف دوابهم، فإنه لا يوجد من يفعله في العادة الغالبة، وكذلك هذه الأصناف الخمسة نهى عنها، وقد سئل ما يلبس المحرم من الثياب، وظاهر لفظه أنه أذن فيما سواها ; لأنه سئل عما يلبس لا عما لا يلبس، فلو لم يفد كلامه الإذن فيما سواها لم يكن قد أجاب السائل، لكن كان الملبوس المعتاد عندهم مما يحرم على المحرم هذه الخمسة، والقوم لهم عقل وفقه، فيعلم أحدهم أنه إذا نهى عن القميص وهو طاق واحد، فلأن ينهى عن المبطنة، وعن الجبة المحشوة، وعن الفروة التي هي كالقميص، وما شاكل ذلك بطريق الأولى والأحرى ; لأن هذه الأمور فيها ما في القميص وزيادة، فلا يجوز أن يأذن فيها مع نهيه عن القميص، وكذلك التبان أبلغ من السراويل، والعمامة تلبس في العادة فوق غيرها، إما قلنسوة، أو كلثمة، أو نحو ذلك، فإذا نهى عن العمامة التي لا تباشر الرأس فنهيه عن القلنسوة، والكلثمة، ونحوها مما يباشر الرأس أولى، فإن ذلك أقرب إلى تخمير الرأس، والمحرم أشعث أغبر، ولهذا قال في الحديث الصحيح - حديث المباهاة - { إنه يدنو عشية عرفة، فيباهي الملائكة بأهل الموقف فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا، ما أراد هؤلاء }، وشعث الرأس واغبراره لا يكون مع تخميره، فإن المخمر لا يصيبه الغبار، ولا يشعث بالشمس، والريح وغيرهما ; ولهذا كان من لبد رأسه يحصل له نوع متعة بذلك يؤمر بالحلق فلا يقصر، وهذا بخلاف القعود في ظل، أو سقف أو خيمة، أو شجر أو ثوب يظل به، فإن هذا جائز بالكتاب والسنة، والإجماع ; لأن ذلك لا يمنع الشعث ولا الاغبرار، وليس فيه تخمير الرأس، وإنما تنازع الناس فيمن يستظل بالمحمل ; لأنه ملازم للراكب كما تلازمه العمامة، لكنه منفصل عنه، فمن نهى عنه اعتبر ملازمته له، ومن رخص فيه اعتبر انفصاله عنه، فأما المنفصل الذي لا يلازم، فهذا يباح بالإجماع، والمتصل الملازم منهي عنه باتفاق الأئمة، ومن لم يلحظ المعاني من خطاب الله ورسوله، ولا يفهم تنبيه الخطاب وفحواه من أهل الظاهر كالذين يقولون إن قوله: { فلا تقل لهما أف }، لا يفيد النهي عن الضرب، وهو إحدى الروايتين عن داود، واختاره ابن حزم، وهذا في غاية الضعف، بل وكذلك قياس الأولى، وإن لم يدل عليه الخطاب، لكن عرف أنه أولى بالحكم من المنطوق بهذا، فإنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحد من السلف، فما زال السلف يحتجون بمثل هذا، وهذا كما أنه إذا قال في الحديث الصحيح: { والذي نفسي بيده لا يؤمن كررها ثلاثا، قالوا: من يا رسول الله ؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه } فإذا كان هذا بمجرد الخوف من بوائقه، فكيف فعل البوائق مع عدم أمن جاره منه، كما في الصحيح: عنه أنه قيل له: { أي الذنب أعظم ؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قيل: ثم ماذا ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قيل: ثم أي ؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك }، ومعلوم أن الجار لا يعرف هذا في العادة، فهذا أولى بسلب الإيمان ممن لا تؤمن بوائقه، ولم يفعل مثل هذا، وكذلك إذا قال: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }، فإذا كان هؤلاء لا يؤمنون، فالذين يحكمونه ويرون حكمه، وإن لم يجدوا حرجا مما قضى ; لاعتقادهم أن غيره أصح منه، أو أنه ليس بحكم سديد، [ أشد وأعظم ]، وكذلك إذا قال: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله }، فإذا كان بموادة المحاد لا يكون مؤمنا، فأن لا يكون مؤمنا إذا حاد بطريق الأولى والأحرى، وكذلك إذا نهي الرجل أن يستنجي بالعظم والروثة ; لأنهما طعام الجن وعلف دوابهم، فإنهم يعلمون أن نهيه عن الاستنجاء بطعام الإنس وعلف دوابهم أولى، وإن لم يدل ذلك اللفظ عليه، وكذلك إذا نهي عن قتل الأولاد مع الإملاق، فنهيه عن ذلك مع الغنى واليسار أولى وأحرى، فالتخصص بالذكر قد يكون للحاجة إلى معرفته، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم، فتخصيص القميص دون الجباب، والعمائم دون القلانس، والسراويل دون التباين، هو من هذا الباب، لا لأن كل ما لا يتناوله اللفظ فقد أذن فيه، وكذلك أمره بصب دلو من ماء على بول الأعرابي، مع ما فيه من اختلاط الماء بالبول وسريان ذلك، لكن قصد به تعجيل التطهير، لا لأن النجاسة لا تزول بغير ذلك بل الشمس والريح، والاستحالة تزيل النجاسة، أعظم من هذا ; ولهذا { كانت الكلاب تقبل، وتدبر، وتبول في مسجد رسول الله ﷺ، ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك )
=========
7


وكذلك اتفق الفقهاء على أن من توضأ وضوءا كاملا، ثم لبس الخفين، جاز له المسح بلا نزاع، ولو غسل إحدى رجليه وأدخلها الخف، ثم فعل بالأخرى مثل ذلك ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: يجوز المسح وهو مذهب أبي حنيفة، والثانية: لا يجوز، وهو مذهب مالك، والشافعي، قال هؤلاء: لأن الواجب ابتداء اللبس على الطهارة، فلو لبسهما وتوضأ وغسل رجليه فيهما لم يجز له المسح، حتى يخلع ما لبس قبل تمام طهرهما، فيلبسه بعده، وكذلك في تلك الصورة ; قالوا: يخلع الرجل الأولى، ثم يدخلها في الخف، واحتجوا بقوله ﷺ: { إني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان }، قالوا: وهذا أدخلهما وليستا طاهرتين، والقول الأول هو الصواب بلا شك، وإذا جاز المسح لمن توضأ خارجا، ثم لبسهما، فلأن يجوز لمن توضأ فيهما بطريق الأولى، فإن هذا فعل الطهارة فيهما واستدامها فيهما، وذلك فعل الطهارة خارجا عنهما، وإدخال هذا قدميه الخف مع الحدث وجوده كعدمه لا ينفعه ولا يضره، وإنما الاعتبار بالطهارة الموجودة بعد ذلك، فإن هذا ليس بفعل محرم كمس المصحف مع الحدث، وقول النبي ﷺ: { إني أدخلتهما الخف، وهما طاهرتان } حق، فإنه بين أن هذا علة لجواز المسح، فكل من أدخلهما طاهرتين فله المسح، وهو لم يقل: إن من لم يفعل ذلك لم يمسح، لكن دلالة اللفظ عليه بطريق المفهوم والتعليل، فينبغي أن ينظر حكمة التخصيص هل بعض المسكوت أولى بالحكم ؟ ومعلوم أن ذكر إدخالهما طاهرتين ; لأن هذا هو المعتاد، وليس غسلهما في الخفين معتادا، وإلا فإذا غسلهما في الخف فهو أبلغ، وإلا فأي فائدة في نزع الخف ثم لبسه من غير إحداث شيء فيه منفعة ؟ وهل هذا إلا عبث محض ينزه الشارع عن الأمر به ؟ ولو قال الرجل لغيره: أدخل مالي وأهلي إلى بيتي، وكان في بيته بعض أهله وماله، هل يؤمر بأن يخرجه ثم يدخله ؟، ويوسف لما قال لأهله { ادخلوا مصر إن شاء الله }، وقال موسى: { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة }، وقال الله تعالى: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين }، فإذا قدر أنه كان بمصر بعضهم، أو كان بالأرض المقدسة بعض، أو كان بعض الصحابة قد دخل الحرم قبل ذلك، هل كان هؤلاء يؤمرون بالخروج ثم الدخول ؟ فإذا قيل: هذا لم يقع، قيل: وكذلك غسل الرجل قدميه في الخف ليس واقعا في العادة ; فلهذا لم يحتج إلى ذكره، ليس لأنه إذا فعل يحتاج إلى إخراج وإدخال، فهذا وأمثاله من باب الأولى، وقد تنازع العلماء فيما إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار، أو استجمر بمنهي عنه: كالروث والرمة، وباليمين، هل يجزئه ذلك ؟ والصحيح: أنه إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار، فعليه تكميل المأمور به، وأما إذا استجمر بالعظم، واليمين، فإنه يجزئه، فإنه قد حصل المقصود بذلك وإن كان عاصيا، والإعادة لا فائدة فيها، ولكن قد يؤمر بتنظيف العظم مما لوثه به، كما لو كان عنده خمر، فأمر بإتلافها فأراقها في المسجد، فقد حصل المقصود من إتلافها، لكن هو آثم بتلويث المسجد، فيؤمر بتطهيره، بخلاف الاستجمار بتمام الثلاث، فإن فيه فعل تمام المأمور، وتحصيل المقصود . - مسألة: عن الإنسان إذا كان على غير طهر، وحمل المصحف بأكمامه ليقرأ به، ويرفعه من مكان إلى مكان هل يكره ذلك ؟ وإذا مات الصبي وهو غير مختون هل يختن بعد موته ؟، وأما إذا حمل الإنسان المصحف بكمه، فلا بأس، ولكنه لا يمسه بيديه، ولا يختن أحد بعد الموت .

وقد تكلم الخطابي على حديث نافع، عن ابن عمر قال: { كان رسول الله ﷺ يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد، وسجدنا معه }، قال: فيه بيان أن السنة أن يكبر للسجود، وعلى هذا مذاهب أكثر أهل العلم، وكذلك يكبر إذا رفع رأسه من السجود، قال: وكان الشافعي، وأحمد يقولان: يرفع يديه إذا أراد أن يسجد، وعن ابن سيرين، وعطاء: إذا رفع رأسه من السجود يسلم، وبه قال إسحاق بن راهويه، قال: واحتج لهم في ذلك بقول النبي ﷺ: " { تحريمها التكبير وتحليلها التسليم } "، وكان أحمد لا يعرف، وفي لفظ " لا يرى "، التسليم في هذا، قلت: وهذه الحجة إنما تستقيم لهم أن ذلك داخل في مسمى الصلاة، لكن قد يحتجون بهذا على من يسلم أنها صلاة فيتناقض قوله، وحديث ابن عمر رواه البخاري في صحيحه، وليس فيه التكبير، قال: { كان النبي ﷺ يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته }، وفي لفظه: { حتى ما يجد أحدنا مكانا لجبهته } "، فابن عمر قد أخبر أنهم كانوا يسجدون مع النبي ﷺ ولم يذكر تسليما، وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء، ومن المعلوم أنه لو كان النبي ﷺ بين لأصحابه أن السجود لا يكون إلا على وضوء، لكان هذا ما يعلمه عامتهم ; لأنهم كلهم كانوا يسجدون معه، وكان هذا شائعا في الصحابة، فإذا لم يعرف عن أحد منهم أنه أوجب الطهارة لسجود التلاوة، وكان ابن عمر من أعلمهم، وأفقههم، وأتبعهم للسنة، وقد بقي إلى آخر الأمر ويسجد للتلاوة على غير طهارة، كان هو مما يبين أنه لم يكن معروفا بينهم أن الطهارة واجبة لها، ولو كان هذا مما أوجبه النبي ﷺ لكان ذلك شائعا بينهم كشياع وجوب الطهارة للصلاة، وصلاة الجنازة، وابن عمر لم يعرف أن غيره من الصحابة أوجب الطهارة فيها، ولكن سجودها على الطهارة أفضل باتفاق المسلمين، وقد يقال: إنه يكره سجودها على غير طهارة مع القدرة على الطهارة، فإن النبي ﷺ لما سلم عليه مسلم لم يرد عليه حتى تيمم، وقال: " { كرهت أن أذكر الله إلا على طهر } "، فالسجود أوكد من رد السلام، لكن كون الإنسان إذا قرأ وهو محدث يحرم عليه السجود، ولا يحل له أن يسجد لله إلا بطهارة قول لا دليل عليه وما ذكر أيضا على أن الطواف ليس من الصلاة، ويدل على ذلك أن النبي ﷺ قال: " { لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب } "، والطواف والسجود لا يقرأ فيهما بأم الكتاب، وقد قال ﷺ: " { إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة } "، والكلام يجوز في الطواف، والطواف أيضا ليس فيه تسليم، لكن يفتتح بالتكبير، كما يسجد للتلاوة بالتكبير ومجرد الافتتاح بالتكبير لا يوجب أن يكون المفتتح صلاة، فقد ثبت في الصحيح: { أن النبي ﷺ طاف على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه بشيء بيده وكبر }، وكذلك ثبت عنه: { أنه كبر على الصفا والمروة، وعند رمي الجمار } ; ولأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه، وأما الحائض: فقد قيل: إنما منعت من الطواف لأجل المسجد، كما تمنع من الاعتكاف لأجل المسجد، والمسجد الحرام أفضل المساجد، وقد قال تعالى لإبراهيم: { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود }، فأمر بتطهيره، فتمنع منه الحائض من الطواف وغير الطواف، وهذا من سر قول من يجعل الطهارة واجبة فيه، ويقول: إذا طافت وهي حائض عصمت بدخول المسجد مع الحيض، ولا يجعل طهارتها للطواف كطهارتها للصلاة، بل يجعله من جنس منعها أن تعتكف في المسجد وهي حائض، ولهذا لم تمنع الحائض من سائر المناسك، كما قال النبي ﷺ: " { الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت } "، { وقال لعائشة: افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت } "، ولما { قيل له عن صفية إنها حائض، قال: أحابستنا هي، قيل له: إنها قد أفاضت، قال: فلا إذا } متفق عليه، وقد اعترض ابن بطال على احتجاج البخاري بجواز السجود على غير وضوء بحديث ابن عباس: { أن النبي ﷺ قرأ النجم فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس }، وهذا السجود متواتر عند أهل العلم، وفي الصحيح أيضا: من حديث ابن مسعود قال: { قرأ النبي ﷺ بمكة النجم، فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصى، أو تراب، فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، قال: فرأيته بعد قتل كافرا }، قال ابن بطال: هذا لا حجة فيه: لأن سجود المشركين لم يكن على وجه العبادة لله، والتعظيم له، { وإنما كان لما ألقى الشيطان على لسان النبي ﷺ من ذكر آلهتهم في قوله: { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }، فقال: تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن قد ترتجى، فسجدوا لما سمعوا من تعظيم آلهتهم، فلما علم النبي ﷺ وما ألقى الشيطان على لسانه من ذلك أشفق وحزن له، فأنزل تعالى تأنيسا له، وتسليمه عما عرض له: { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } إلى قوله { والله عليم حكيم } }، أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، فلا يستنبط من سجود المشركين جواز السجود على غير وضوء، لأن المشرك نجس لا يصح له وضوء ولا سجود، إلا بعد عقد الإسلام، فيقال: هذا ضعيف، فإن القوم إنما سجدوا لما قرأ النبي ﷺ { أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا }، فسجد النبي ﷺ ومن معه امتثالا لهذا الأمر، وهو السجود لله، والمشركون تابعوه في السجود لله، وما ذكر من التمني - إذا كان صحيحا - فإنه هو كان سبب موافقتهم له في السجود لله، ولهذا لما جرى هذا بلغ المسلمين بالحبشة ذلك، فرجع منهم طائفة إلى مكة، والمشركون ما كانوا ينكرون عبادة الله وتعظيمه، ولكن كانوا يعبدون معه آلهة أخرى، كما أخبر الله عنهم بذلك، فكان هذا السجود من عبادتهم له، وقد قال: سجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، وأما قوله: لا سجود إلا بعد عقد الإسلام، فسجود الكافر بمنزلة دعائه لله، وذكره له، وبمنزلة صدقته، وبمنزلة حجتهم لله وهم مشركون، فالكفار قد يعبدون الله، وما فعلوه من خير أثيبوا عليه في الدنيا، فإن ماتوا على الكفر حبطت أعمالهم في الآخرة، وإن ماتوا على الإيمان فهل يثابون على ما فعلوه في الكفر، فيه قولان مشهوران، والصحيح: أنهم يثابون على ذلك ; { لقول النبي ﷺ لحكيم بن حزام: أسلمت على ما أسلفت من خير } "، وغير ذلك من النصوص، ومعلوم أن اليهود والنصارى لهم صلاة وسجود، وإن كان ذلك لا ينفعهم في الآخرة إذا ماتوا على الكفر، وأيضا فقد أخبر الله في غير موضع من القرآن عن سجود سحرة فرعون، كما قال تعالى: { وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون }، وذلك سجود مع إيمانهم، وهو مما قبله الله منهم، وأدخلهم به الجنة، ولم يكونوا على طهارة، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه، ولو قرئ القرآن على كفار، فسجدوا لله سجود إيمان بالله ورسوله محمد ﷺ أو رأوا آية من آيات الإيمان، فسجدوا لله مؤمنين بالله ورسوله، لنفعهم ذلك، ومما يبين هذا أن السجود يشرع منفردا عن الصلاة: كسجود التلاوة، وسجود الشكر، وكالسجود عند الآيات، فإن ابن عباس لما بلغه موت بعض أمهات المؤمنين سجد، وقال: { إن رسول الله ﷺ أمرنا إذا رأينا آية أن نسجد }، وقد تنازع الفقهاء في السجود المطلق لغير سبب، هل هو عبادة أم لا ؟ ومن سوغه يقول: هو خضوع لله، والسجود هو الخضوع، قال تعالى: { وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة }، قال أهل اللغة: السجود في اللغة هو الخضوع، وقال غير واحد من المفسرين: أمروا أن يدخلوا ركعا منحنين، فإن الدخول مع وضع الجبهة على الأرض لا يمكن، وقد قال تعالى: { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس }، وقال تعالى: { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها }، ومعلوم أن سجود كل شيء بحسبه ليس سجود هذه المخلوقات وضع جباهها على الأرض، وقد { قال النبي ﷺ في حديث أبي ذر، لما غربت الشمس: إنها تذهب فتسجد تحت العرش } "، رواه البخاري ومسلم، فعلم أن السجود اسم جنس، وهو كمال الخضوع لله، وأعز ما في الإنسان وجهه، فوضعه على الأرض لله غاية خضوعه ببدنه، وهو غاية ما يقدر عليه من ذلك، ولهذا قال النبي ﷺ: " { أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد } " وقال تعالى: { واسجد واقترب }، فصار من جنس أذكار الصلاة التي تشرع خارج الصلاة: كالتسبيح، والتحميد والتكبير والتهليل، وقراءة القرآن، وكل ذلك يستحب له الطهارة، ويجوز للمحدث فعل ذلك، بخلاف ما لا يفعل إلا في الصلاة: كالركوع، فإن هذا لا يكون إلا جزءا من الصلاة، وأفضل أفعال الصلاة السجود، وأفضل أقوالها القراءة، وكلاهما مشروع في غير الصلاة، فيسرت العبادة لله، لكن الصلاة أفضل الأعمال، فاشترط لها أفضل الأحوال، واشترط للفرض ما لم يشترط للنفل من القيام والاستقبال مع القدرة، وجاز التطوع على الراحلة في السفر كما مضت به سنة النبي ﷺ فإنه قد ثبت في الصحاح: أنه كان يتطوع على راحلته في السفر قبل أي وجه توجهت به، وهذا مما اتفق العلماء على جوازه، وهو صلاة بلا قيام ولا استقبال للقبلة، فإنه لا يمكن المتطوع على الراحلة أن يصلي إلا كذلك فلو نهى عن التطوع أفضى إلى تفويت عبادة الله التي لا يقدر عليها إلا كذلك، بخلاف الفرض، فإنه شيء مقدر يمكنه أن ينزل له، ولا يقطعه ذلك عن سفره، ومن لم يمكنه النزول، لقتال أو مرض، أو وحل، صلى على الدابة أيضا، ورخص في التطوع جالسا، لكن يستقبل القبلة، فإن الاستقبال يمكنه مع الجلوس، فلم يسقط عنه بخلاف تكليفه القيام، فإنه قد يشق عليه ترك التطوع، وكان ذلك تيسيرا للصلاة بحسب الإمكان، فأوجب الله في الفرض ما لا يجب في النفل، وكذلك السجود دون صلاة النفل، فإنه يجوز فعله قاعدا، وإن كان القيام أفضل، وصلاة الجنازة أكمل من النفل من وجه، فاشترط لها القيام بحسب الإمكان ; لأن ذلك لا يتعذر، وصلاة النافلة فيها ركوع وسجود، فهي أكمل من هذا الوجه، والمقصود الأكبر من صلاة الجنازة هو الدعاء للميت، ولهذا كان عامة ما فيها من الذكر دعاء، واختلف السلف والعلماء هل فيها قراءة ؟ على قولين مشهورين: لم يوقت النبي ﷺ فيها دعاء بعينه، فعلم أنه لا يتوقت فيها وجوب شيء من الأذكار، وإن كانت قراءة الفاتحة فيها سنة، كما ثبت ذلك عن ابن عباس، فالناس في قراءة الفاتحة فيها على أقوال: قيل: تكره، وقيل: تجب، والأشبه أنها مستحبة، لا تكره، ولا تجب، فإنه ليس فيها قرآن غير الفاتحة، فلو كانت الفاتحة واجبة فيها كما تجب في الصلاة التامة لشرع فيها قراءة زائدة على الفاتحة ; ولأن الفاتحة نصفها ثناء على الله، ونصفها دعاء للمصلي نفسه، لا دعاء للميت، والواجب فيها الدعاء للميت، وما كان تتمة كذلك، والمشهور عن الصحابة أنه إذا سلم فيها سلم تسليمة واحدة لنقصها عن الصلاة التامة، وقوله: " { من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج } "، يقال الصلاة المطلقة هي التي فيها ركوع وسجود، بدليل ما لو نذر أن يصلي صلاة، وهذه صلاة تدخل في قوله: " { مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم }، لكنها تقيد، يقال صلاة الجنازة، ويقال صلوا على الميت، كما قال تعالى: { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } }، والصلاة على الميت قد بينها الشارع أنها دعاء مخصوص بخلاف قوله: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم }، تلك قد بين أنها الدعاء المطلق الذي ليس له تحريم وتحليل، ولا يشترط له استقبال القبلة، ولا يمنع فيه من الكلام، والسجود المجرد لا يسمى صلاة، لا مطلقا ولا مقيدا، ولهذا لا يقال: صلاة التلاوة، ولا صلاة الشكر، فلهذا لم تدخل في قوله: " { لا يقبل الله صلاة بغير طهور } "، وقوله: " { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } "، فإن السجود مقصوده الخضوع والذل له، وقيل لسهل بن عبد الله التستري: أيسجد القلب ؟، قال: نعم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا، ومسمى الصلاة لا بد فيه من الدعاء، فلا يكون مصليا إلا بدعاء بحسب إمكانه، والصلاة التي يقصد بها التقرب إلى الله لا بد فيها من قرآن، وقد قال النبي ﷺ: " { إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا } "، فالسجود لا يكون فيه قرآن، وصلاة التقرب لا بد فيها من قرآن، بخلاف الصلاة التي مقصودها الدعاء للميت، فإنها بقرآن أكمل، ولكن مقصودها يحصل بغير قرآن، وأما مس المصحف: فالصحيح: أنه يجب له الوضوء، كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصحابة: سعد، وسلمان، وابن عمر، وفي كتاب عمرو بن حزم، عن النبي ﷺ: " { لا يمس القرآن إلا طاهر } "، وذلك أن النبي ﷺ { نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو }، مخافة أن تناله أيديهم، وقد أقر المشركين على السجود لله ولم ينكره عليهم، فإن السجود لله خضوع، { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها }، وأما كلامه فله حرمة عظيمة ; ولهذا ينهى أن يقرأ القرآن في حال الركوع والسجود، فإذا نهي أن يقرأ في السجود لم يجز أن يجعل المصحف مثل السجود، وحرمة المصحف أعظم من حرمة المسجد، والمسجد يجوز أن يدخله المحدث، ويدخله الكافر للحاجة، وقد كان الكفار يدخلونه، واختلف في نسخ ذلك، بخلاف المصحف، فلا يلزم إذا جاز الطواف مع الحدث، أن يجوز للمحدث مس المصحف ; لأن حرمة المصحف أعظم، وعلى هذا فما روي عن عثمان، وسعيد: من أن الحائض تومئ بالسجود، هو لأن حدث الحائض أغلظ، والركوع هو سجود خفيف، كما قال تعالى: { وادخلوا الباب سجدا }، قالوا: ركعا فرخص لها في دون كمال السجود، وأما احتجاج ابن حزم على أن ما دون ركعتين ليس بصلاة، بقوله: { صلاة الليل والنهار مثنى مثنى }، فهذا يرويه الأزدي، عن علي بن عبد الله البارقي، عن ابن عمر، وهو خلاف ما رواه الثقات المعروفون عن ابن عمر، فإنهم رووا ما في الصحيحين: أنه سئل عن صلاة الليل ؟ فقال: " { صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الفجر فأوتر بواحدة } "، ولهذا ضعف الإمام أحمد وغيره من العلماء حديث البارقي، ولا يقال هذه زيادة من الثقة، فتكون مقبولة ; لوجوه: أحدهما: أن هذا متكلم فيه، الثاني: أن ذلك إذا لم يخالف الجمهور، وإلا فإذا انفرد عن الجمهور ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره، الثالث: أن هذا إذا لم يخالف المزيد عليه، وهذا الحديث قد ذكر ابن عمر { أن رجلا سأل النبي ﷺ عن صلاة الليل فقال: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة } "، ومعلوم أنه لو قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة لم يجز ذلك، وإنما يجوز إذا ذكر صلاة الليل منفردة، كما ثبت في الصحيحين، والسائل إنما سأله عن صلاة الليل، والنبي ﷺ وإن كان قد يجيب عن أعم مما سئل عنه، كما في حديث البحر { لما قيل له: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر ؟ فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته } "، لكن يكون الجواب منتظما كما في هذا الحديث، وهناك إذا ذكر النهار لم يكن الجواب منتظما ; لأنه ذكر فيه قوله " { فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة } " وهذا ثابت في الحديث لا ريب فيه، فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا قد ذكره النبي ﷺ في مجلس آخر كلاما مبتدأ لآخر: إما لهذا السائل وإما لغيره، قيل: كل من روى عن ابن عمر إنما رواه هكذا، فذكروا في أوله السؤال، وفي آخره الوتر، وليس فيه إلا صلاة الليل، وهذا خالفهم فلم يذكر ما في أوله ولا ما في آخره، وزاد في وسطه، وليس هو من المعروفين بالحفظ والإتقان، ولهذا لم يخرج حديثه أهل الصحيح: البخاري ومسلم، وهذه الأمور وما أشبهها متى تأملها اللبيب علم أنه غلط في الحديث، وإن لم يعلم ذلك أوجب ريبة قوية تمنع الاحتجاج به على إثبات مثل هذا الأصل العظيم، ومما يبين ذلك أن الوتر ركعة، وهو صلاة، وكذلك صلاة الجنازة وغيرها، فعلم أن النبي ﷺ لم يقصد بذلك بيان مسمى الصلاة وتحديدها، فإن الحد يطرد وينعكس ؟ فإن قيل: قصد بيان ما يجوز من الصلاة، قيل: ما ذكرتم جائز، وسجود التلاوة والشكر أيضا جائز، فلا يمكن الاستدلال به لا على الاسم، ولا على الحكم، وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام، وأما سجود السهو: فقد جوزه ابن حزم أيضا على غير طهارة، وإلى غير القبلة، كسجود التلاوة بناء على أصله الضعيف، ولهذا لا يعرف عن أحد من السلف، وليس هو مثل سجود التلاوة والشكر ; لأن هذا سجدتان يقومان مقام ركعة من الصلاة، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح، حديث الشك: " { إذا شك أحدكم فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما تيقن، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن صلى خمسا شفعتا له صلاته، وإلا كانتا ترغيما للشيطان } "، وفي لفظ: " { وإن كانت صلاته تماما، كانتا ترغيما } "، فجعلهما كالركعة السادسة التي تشفع الخامسة المزيدة سهوا، ودل ذلك على أنه يؤجر عليها ; لأنه اعتقد أنها من تمام المكتوبة، وفعلها تقربا إلى الله، وإن كان مخطئا في هذا الاعتقاد، وفي هذا ما يدل على أن من فعل ما يعتقده قربة بحسب اجتهاده، إن كان مخطئا في ذلك أنه يثاب على ذلك: وإن كان له علم أنه ليس بقربة يحرم عليه فعله، وأيضا فإن سجدتي السهو يفعلان إما قبل السلام وإما قريبا من السلام، فهما متصلان بالصلاة داخلان فيها، فهما منها، وأيضا فإنهما جبران للصلاة، فكانتا كالجزء من الصلاة، وأيضا فإن لهما تحليلا وتحريما، فإنه يسلم منهما ويتشهد، فصارتا أوكد من صلاة الجنازة، وفي الجملة: سجدتا السهو من جنس سجدتي الصلاة، لا من جنس سجود التلاوة والشكر، ولهذا يفعلان إلى الكعبة، وهذا عمل المسلمين من عهد نبيهم، ولم ينقل عن أحد أنه فعلها إلى غير القبلة، ولا بغير وضوء، كما يفعل ذلك في سجود التلاوة، وإذا كان السهو في الفريضة كان عليه أن يسجدهما بالأرض كالفريضة، ليس له أن يفعلهما على الراحلة، وأيضا فإنهما واجبتان، كما دل عليه نصوص كثيرة، وهو قول أكثر الفقهاء، بخلاف سجود الشكر، فإنه لا يجب بالإجماع، وفي استحبابه نزاع، وسجود التلاوة في وجوبه نزاع، وإن كان مشروعا بالإجماع، فسجود التلاوة سببه القراءة فيتبعها، ولما كان المحدث له أن يقرأ فله أن يسجد بطريق الأولى، فإن القراءة أعظم من مجرد سجود التلاوة، والمشركون قد سجدوا، وما كانوا يقرءون القرآن وقد نهى النبي ﷺ أن يقرأ القرآن في حال الركوع والسجود، فعلم أن القرآن أفضل من هذه الحال، وقوله: " { أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد } " أي: من الأفعال، فلم تدخل الأقوال في ذلك، ويفرق بين الأقرب والأفضل، فقد يكون بعض الأعمال أفضل من السجود، وإن كان في السجود أقرب: كالجهاد، فإنه سنام العمل، إلا أن يراد السجود العام وهو الخضوع، فهذا يحصل له في حال القراءة وغيرها، وقد يحصل للرجل في حال القراءة من الخشوع والخضوع ما لا يحصل له في حال السجود، وهذا كقوله: " { أقرب ما يكون الرب تعالى من عبده في جوف الليل } "، وقوله: " { ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل } "، وقوله: " { إنه يدنو عشية عرفة } "، ومعلوم أن من الأعمال ما هو أفضل من الوقوف بعرفة، ومن قيام الليل كالصلوات الخمس، والجهاد في سبيل الله تعالى، وقد قال تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }، فهو قريب ممن دعاه، وقد يكون غير الداعي أفضل من الداعي، كما قال: " { من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) " والله أعلم . - مسألة: عن الكلب إذا ولغ في اللبن أو غيره، ما الذي يجب في ذلك ؟ وأما الكلب فقد تنازع العلماء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه طاهر حتى ريقه، وهذا هو مذهب مالك، والثاني: نجس حتى شعره، وهذا هو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، والثالث: شعره طاهر، وريقه نجس، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهذا أصح الأقوال، فإذا أصاب الثوب، أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك، وإذا ولغ في الماء أريق الماء، وإن ولغ في اللبن ونحوه، من العلماء من يقول: يؤكل ذلك الطعام، كقول مالك، وغيره، ومنهم من يقول: يراق، كمذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، فأما إن كان اللبن كثيرا، فالصحيح: أنه لا ينجس كما تقدم .

الدليل الرابع: وهو في الحقيقة سابع: ما ثبت واستفاض، من أن رسول الله ﷺ طاف على راحلته، وأدخلها المسجد الحرام الذي فضله الله على جميع بقاع الأرض وبركها حتى طاف بها أسبوعا، وكذلك إذنه لأم سلمة أن تطوف راكبة، ومعلوم أنه ليس مع الدواب من العقل ما تمتنع من تلويث المسجد، المأمور بتطهيره للطائفين والعاكفين، والركع السجود، فلو كانت أبوالها نجسة لكان فيه تعريض المسجد الحرام للتنجيس، مع أن الضرورة ما دعت إلى ذلك، وإنما الحاجة دعت إليه، ولهذا استنكر بعض من يرى تنجيسها إدخال الدواب المسجد الحرام، وحسبك بقول بطلانا رده في وجه السنة التي لا ريب فيها، الدليل الخامس: وهو الثامن: ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: " { فأما ما أكل لحمه فلا بأس ببوله } "، وهذا ترجمة المسألة، إلا أن الحديث قد اختلف فيه قبولا وردا، فقال أبو بكر عبد العزيز: ثبت عن النبي ﷺ وقال غيره: هو موقوف على جابر، فإن كان الأول فلا ريب فيه، وإن كان الثاني فهو قول صاحب، وقد جاء مثله عن غيره من الصحابة أبي موسى الأشعري وغيره، فينبني على أن قول الصحابة أولى من قول من بعدهم، وأحق أن يتبع، وإن علم أنه انتشر في سائرهم، ولم ينكروه فصار إجماعا سكوتيا، الدليل السادس: وهو التاسع: الحديث المتفق عليه، عن عبد الله بن مسعود: { أن رسول الله ﷺ كان ساجدا عند الكعبة، فأرسلت قريش عقبة بن أبي معيط إلى قوم قد نحروا جزورا لهم، فجاء بفرثها وسلاها فوضعهما على ظهر رسول الله ﷺ وهو ساجد، ولم ينصرف حتى قضى صلاته } "، فهذا أيضا بين في أن ذلك الفرث والسلى لم يقطع الصلاة، ولا يمكن حمله فيما أرى إلا على أحد وجوه ثلاثة، إما أن يقال هو منسوخ، وأعني بالنسخ أن هذا الحكم مرتفع، وإن لم يكن قد ثبت بخطاب ; لأنه كان بمكة، وهذا ضعيف جدا ; لأن النسخ لا يصار إليه إلا بيقين، وإما بالظن فلا يثبت النسخ، وأيضا فإنا ما علمنا أن اجتناب النجاسة كان غير واجب، ثم صار واجبا، لا سيما من يحتج على النجاسة بقوله تعالى: { وثيابك فطهر }، وسورة المدثر في أول المنزل، فيكون فرض التطهير من النجاسات على قول هؤلاء من أول الفرائض، فهذا هذا، وإما أن يقال: هذا دليل على جواز حمل النجاسة في الصلاة، وعامة من يخالف في هذه

المسألة لا يقول بهذا القول، فيلزمهم ترك الحديث، ثم هذا قول ضعيف ; لخلافه الأحاديث الصحاح في دم الحيض، وغيره من الأحاديث، ثم إنهم لا أعلمهم يختلفون أنه مكروه، وأن إعادة الصلاة منه أولى فهذا هذا، لم يبق إلا أن يقال: الفرث، والسلى ليس بنجس وإنما هو طاهر ; لأنه فرث ما يؤكل لحمه، وهذا هو الواجب إن شاء الله تعالى، لكثرة القائلين به وظهور الدلائل عليه، وبطول الوجهين الأولين يوجب تعين هذا، فإن قيل: ففيه السلى، وقد يكون فيه دم، قلنا: يجوز أن يكون دما يسيرا، بل الظاهر أنه يسير، والدم اليسير معفو عن حمله في الصلاة، فإن قيل: فالسلى لحم من ذبيحة المشركين، وذلك نجس، وذلك باتفاق، قلنا: لا نسلم أنه قد كان حرم حينئذ ذبائح المشركين، بل من البين، أو المقطوع به، أنها لم تكن حرمت حينئذ، فإن الصحابة الذين أسلموا لم ينقل أنهم كانوا ينجسون ذبائح قومهم، وكذلك النبي ﷺ لم ينقل عنه أنه كان يجتنب إلا ما ذبح للأصنام، أما ما ذبحه قومه في دورهم لم يكن يتجنبه، ولو كان تحريم ذبائح المشركين قد وقع في صدر الإسلام، لكان في ذلك من المشقة على النفر القليل، الذين أسلموا ما لا قبل لهم به، فإن عامة أهل البلد مشركون، وهم لا يمكنهم أن يأكلوا ويشربوا، إلا من طعامهم وخبزهم، وفي أوانيهم لقلته وضعفهم وفقرهم، ثم الأصل عدم التحريم حينئذ، فمن ادعاه احتاج إلى دليل، الدليل السابع: وهو العاشر: ما صح عن النبي ﷺ: أنه نهى عن الاستجمار بالعظم والبعر وقال: { إنه زاد إخوانكم من الجن } "، وفي لفظ: قال: " { فسألوني الطعام لهم ولدوابهم، فقلت: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم، قال النبي ﷺ: فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن }، فوجه الدلالة أن النبي ﷺ نهى أن يستنجى بالعظم والبعر، الذي هو زاد إخواننا من الجن، وعلف دوابهم، ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك لئلا ننجسه عليهم، ولهذا استنبط الفقهاء من هذا أنه لا يجوز الاستنجاء بزاد الإنس، ثم إنه قد استفاض النهي في ذلك والتغليظ حتى قال: { من تقلد وترا، أو استنجى بعظم أو رجيع، فإن محمدا منه بريء } "، ومعلوم أنه لو كان البعر في نفسه نجسا لم يكن الاستنجاء به ينجسه، ولم يكن فرق بين البعر المستنجى به، والبعر الذي لا يستنجى به، وهذا جمع بين ما فرقت السنة بينه، ثم إن البعر لو كان نجسا لم يصلح أن يكون علفا لقوم مؤمنين، فإنها تصير بذلك جلالة، ولو جاز أن تصير جلالة لجاز أن تعلف رجيع الإنس، ورجيع الدواب، فلا فرق حينئذ ; ولأنه لما جعل الزائد لهم ما فضل عن الإنس، ولدوابهم ما فضل عن دواب الإنس من البعر، شرط في طعامهم كل عظم ذكر اسم الله عليه، فلا بد أن يشرط في علف دوابهم نحو ذلك، وهو الطهارة، وهذا يبين لك أن قوله في حديث ابن مسعود، لما أتاه بحجرين وروثة، فقال: " { إنها ركس } "، إنما كان لكونها روثة آدمي ونحوه، على أنها قضية عين، فيحتمل أن تكون روثة ما يؤكل لحمه، وروثة ما لا يؤكل لحمه، فلا يعم الصنفين، ولا يجوز القطع بأنها مما يؤكل لحمه، مع أن لفظ: " الركس " لا يدل على النجاسة ; لأن الركس: هو المركوس أي المردود، وهو معنى الرجيع، ومعلوم أن الاستنجاء بالرجيع لا يجوز بحال: إما لنجاسته، وإما لكونه علف دواب إخواننا من الجن، الوجه الثامن: وهو الحادي عشر: أن هذه الأعيان لو كانت نجسة لبينه النبي ﷺ ولم يبينه فليست نجسة، وذلك لأن هذه الأعيان تكثر ملابسة الناس لها، ومباشرتهم لكثير منها، خصوصا الأمة التي بعث فيها رسول الله ﷺ ; فإن الإبل والغنم غالب أموالهم، ولا يزالون يباشرونها، ويباشرون أماكنها في مقامهم وسفرهم، مع كثرة الاحتفاء فيهم، حتى أن عمر رضي الله عنه كان يأمر بذلك: تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وانتعلوا، ومحالب الألبان كثيرا ما يقع فيها من أبوالها، وليس ابتلاؤهم بها بأقل من ولوغ الكلب في أوانيهم، فلو كانت نجسة يجب غسل الثياب، والأبدان، والأواني منها، وعدم مخالطته، ويمنع من الصلاة مع ذلك، ويجب تطهير الأرض مما فيه ذلك إذا صلى فيها، والصلاة فيها تكثر في أسفارهم، وفي مراح أغنامهم، ويحرم شرب اللبن الذي يقع فيه بعرها، وتغسل اليد إذا أصابها البول، أو رطوبة البعر، إلى غير ذلك من أحكام النجاسة، لوجب أن يبين النبي ﷺ ذلك بيانا تحصل به معرفة الحكم، ولو بين ذلك لنقل جميعه أو بعضه، فإن الشريعة وعادة القوم توجب مثل ذلك، فلما لم ينقل ذلك علم أنه لم يبين لهم نجاستها دليل على طهارتها من جهة تقريره لهم على مباشرتها، وعدم النهي عنه، والتقرير دليل الإباحة، ومن وجه أن مثل هذا يجب بيانه بالخطاب، ولا تحال الأمة فيه على الرأي ; لأنه من الأصول لا من الفروع، ومن جهة أن ما سكت الله عنه، فهو مما عفا عنه، لا سيما إذا وصل بهذا الوجه، الوجه التاسع: وهو الثاني عشر: وهو أن الصحابة، والتابعين، وعامة السلف قد ابتلي الناس في أزمانهم بأضعاف ما ابتلوا في زمن النبي ﷺ ولا يشك عاقل في كثرة وقوع الحوادث المتعلقة بهذه المسألة، ثم المنقول عنهم أحد شيئين: إما القول بالطهارة، أو عدم الحكم بالنجاسة، مثل: ما ذكرنا عن أبي موسى، وأنس، وعبد الله بن مغفل: أنه كان يصلي وعلى رجليه أثر السرقين، وهذا قد عاين أكابر الصحابة بالعراق، وعن عبيد بن عمير قال: إن لي غنما تبعر في مسجدي، وهذا قد عاين أكابر الصحابة بالحجاز، وعن إبراهيم النخعي: فيمن يصلي وقد أصابه السرقين، قال: لا بأس، وعن أبي جعفر الباقر، ونافع مولى ابن عمر: أصابت عمامته بول بعير فقالا جميعا: لا بأس، وسألهما جعفر الصادق، وهو أشبه الدليل على أن ما روي عن ابن عمر في ذلك من الغسل إما ضعيف أو على سبيل الاستحباب والتنظيف، فإن نافعا لا يكاد يخفى عليه طريقة ابن عمر في ذلك ولا يكاد يخالفه والمأثور عن السلف في ذلك كثير، وقد نقل عن بعضهم ألفاظ إن ثبتت فليست صريحة بنجاسة محل النزاع، مثل ما روى عنه الحسن أنه قال: البول كله يغسل، وقد روي عنه أنه قال: لا بأس بأبوال الغنم، فعلم أنه أراد بول الإنسان، الذكر والأنثى، والكبير والصغير، وكذلك ما روي عن أبي الشعثاء أنه قال: الأبوال كلها أنجاس، فلعله أراد ذلك إن ثبت عنه، وقد ذكرنا عن ابن المنذر وغيره: أنه لم يعرف عن أحد من السلف القول بنجاستها، ومن المعلوم الذي لا شك فيه: أن هذا إجماع على عدم النجاسة، بل مقتضاه أن التنجيس من الأقوال المحدثة فيكون مردودا بالأدلة الدالة على إبطال الحوادث، لا سيما مقالة محدثة مخالفة لما عليه الصدر الأول، ومن المعلوم أن الأعيان الموجودة في زمانهم ومكانهم، إذا أمسكوا عن تحريمها وتنجيسها، مع الحاجة إلى بيان ذلك كان تحريمها وتنجيسها ممن بعدهم بمنزلة أن يمسكوا عن بيان أفعال يحتاج إلى بيان وجوبها لو كان ثابتا، فيجيء من بعدهم فيوجبها، ومتى قام المقتضي للتحريم أو الوجوب، ولم يذكروا وجوبا ولا تحريما، كان إجماعا عنهم على عدم اعتقاد الوجوب والتحريم، وهو المطلوب، وهذه الطريقة معتمدة في كثير من الأحكام، وهي أصل عظيم ينبغي للفقيه أن يتأملها، ولا يغفل عن غورها، لكن لا يسلم إلا بعدم ظهور الخلاف في الصدر الأول، فإن كان فيه خلاف محقق بطلت هذه الطريقة، والحق أحق أن يتبع، الوجه العاشر: وهو الثالث عشر في الحقيقة: أنا نعلم يقينا أن الحبوب من الشعير، والبيضاء، والذرة، ونحوها كانت تزرع في مزارع المدينة على عهد النبي ﷺ وأهل بيته، ويعلم أن الدواب إذا داست فلا بد أن تروث وتبول، ولو كان ذلك ينجس الحبوب لحرمت مطلقا، أو لوجب تنجيسها، وقد أسلمت الحجاز، واليمن ونجد، وسائر جزائر العرب على عهد رسول الله ﷺ وبعث إليهم سعاته وعماله يأخذون عشور حبوبهم من الحنطة وغيرها، وكانت سمراء الشام تجلب إلى المدينة، فيأكل منها رسول الله ﷺ والمؤمنون على عهده، وعامل ﷺ أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر وزرع، وكان يعطي المرأة من نسائه ثمانين وسق شعير من غلة خيبر، وكل هذه تداس بالدواب التي تروث وتبول عليها، فلو كانت تنجس بذلك لكان الواجب على أقل الأحوال تطهير الحب وغسله، ومعلوم أنه ﷺ لم يفعل ذلك، ولا فعل على عهده، فعلم أنه ﷺ لم يحكم بنجاستها، ولا يقال: هو لم يتيقن أن ذلك الحب الذي أكله مما أصابه البول، والأصل الطهارة، لأنا نقول فصاحب الحب قد تيقن نجاسة بعض حبه، واشتبه عليه الطاهر بالنجس، فلا يحل له استعمال الجميع، بل الواجب تطهير الجميع، كما إذا علم نجاسة بعض البدن، أو الثوب، أو الأرض، وخفي عليه مكان النجاسة غسل ما يتيقن به غسلها، وهو لم يأمر بذلك، ثم اشتباه الطاهر بالنجس نوع من اشتباه الطعام الحلال بالحرام، فكيف يباح أحدهما من غير تحر، ؟ فإن القائل إما أن يقول: يحرم الجميع، وإما أن يقول بالتحري، فأما الأكل من أحدهما بلا تحر فلا أعرف أحدا جوزه، وإنما يستمسك بالأصل مع تيقن النجاسة، ولا محيص عن هذا الدليل إلا إلى أحد أمرين، إما أن يقال بطهارة هذه الأبوال والأرواث، أو أن يقال: عفي عنها في هذا الموضع للحاجة، كما يعفى عن ريق الكلب في بدن الصيد على أحد الوجهين، وكما يطهر محل الاستنجاء بالحجر في أحد الوجهين إلى غير ذلك من مواضع الحاجات، فيقال: الأصل فيما استحل جريانه على وفاق الأصل، فمن ادعى أن استحلال هذا مخالف للدليل لأجل الحاجة فقد ادعى ما يخالف الأصل، فلا يقبل منه إلا بحجة قوية، وليس معه من الحجة ما يوجب أن يجعل هذا مخالفا للأصل، ولا شك أنه لو قام دليل يوجب الحظر لأمكن أن يستثنى هذا الموضع، فأما ما ذكر من العموم الضعيف، والقياس الضعيف، فدلالة هذا الموضع على الطهارة المطلقة أقوى من دلالة تلك على النجاسة المطلقة على ما تبين عند التأمل، على أن ثبوت طهارتها والعفو عنها في هذا الموضع أحد موارد الخلاف، فيبقى إلحاق الباقي به بعدم القائل بالفرق، ومن جنس هذا: الوجه الحادي عشر: وهو الرابع عشر هو إجماع الصحابة والتابعين، ومن بعدهم في كل عصر ومصر، على دياس الحبوب من الحنطة وغيرها بالبقر ونحوها، مع القطع ببولها وروثها على الحنطة، ولم ينكر ذلك منكر، ولم يغسل الحنطة لأجل هذا أحد، ولا احترز عن شيء مما في البيادر لوصول البول إليه، والعلم بهذا كله علم اضطراري ما أعلم عليه سؤالا، ولا أعلم لمن يخالف هذا شبهة، وهذا العمل إلى زماننا متصل في جميع البلاد، لكن لم نحتج بإجماع الأعصار التي ظهر فيها هذا الخلاف، لئلا يقول المخالف: أنا أخالف في هذا، وإنما احتججنا بالإجماع قبل ظهور الخلاف، وهذا الإجماع من جنس بالإجماع على كونهم كانوا يأكلون الحنطة ويلبسون الثياب ويسكنون البناء، فإنا نتيقن أن الأرض كانت تزرع، ونتيقن أنهم كانوا يأكلون ذلك الحب ويقرون على أكله، ونتيقن أن الحب لا يداس إلا بالدواب، ونتيقن أن لا بد أن تبول على البيدر الذي يبقى أياما، ويطول دياسها له، وهذه كلها مقدمات يقينية، الوجه الثاني عشر: وهو الخامس عشر: أن الله تعالى قال: { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود }، فأمر بتطهير بيته الذي هو المسجد الحرام، وصح عنه ﷺ { أنه أمر بتنظيف المساجد، وقال: جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا } " وقال: " { الطواف بالبيت صلاة } "، ومعلوم قطعا أن الحمام لم يزل ملازما للمسجد الحرام، لأمنه وعبادة بيت الله، وأنه لا يزال ذرقه ينزل في المسجد وفي المطاف والمصلى، فلو كان نجسا لتنجس المسجد بذلك، ولوجب تطهير المسجد منه، إما بإبعاد الحمام، أو بتطهير المسجد، أو بتسقيف المسجد، ولم تصح الصلاة في أفضل المساجد وأمها وسيدها لنجاسة أرضه، وهذا كله مما يعلم فساده يقينا، ولا بد من أحد قولين: إما طهارته مطلقا، أو العفو عنه، كما في الدليل قبله، وقد بينا رجحان القول بالطهارة المطلقة، الدليل الثالث عشر: وهو في الحقيقة السادس عشر: مسلك التشبيه والتوجيه، فنقول والله الهادي: اعلم أن الفرق بين الحيوان المأكول، وغير المأكول، إنما فرق بينهما لافتراق حقيقتهما، وقد سمى الله هذا طيبا، وهذا خبيثا، وأسباب التحريم: إما لقوة السبعية التي تكون في نفس البهيمة، فأكلها يورث نبات أبداننا منها، فتصير أخلاق الناس أخلاق السباع، أو لما الله أعلم به، وإما خبث مطعمها كما يأكل الجيف من الطير ; أو لأنها في نفسها مستخبثة كالحشرات فقد رأينا طيب المطعم يؤثر في الحل، وخبثه يؤثر في الحرمة، كما جاءت به السنة في لحوم الجلالة، ولبنها، وبيضها، فإنه حرم الطيب لاغتذائه بالخبيث، وكذلك النبات المسقى بالماء النجس، والمسمد بالسرقين عند من يقول به، وقد رأينا عدم الطعام يؤثر في طهارة البول، أو خفة نجاسته، مثل الصبي الذي لم يأكل الطعام، فهذا كله يبين أشياء: منها أن الأبوال قد يخفف شأنها بحسب المطعم كالصبي، وقد ثبت أن المباحات لا تكون مطاعمها إلا طيبة، فغير مستنكر أن تكون أبوالها طاهرة لذلك، ومنها أن المطعم إذا خبث وفسد حرم ما نبت منه من لحم ولبن، وبيض: كالجلالة والزرع المسمد، وكالطير الذي يأكل الجيف، فإذا كان فساده يؤثر في تنجيس ما توجبه الطهارة والحل، فغير مستنكر أن يكون طيبه وحله يؤثر في تطهير ما يكون في محل آخر نجسا محرما، فإن الأرواث، والأبوال مستحيلة مخلوقة في باطن البهيمة كغيرها من اللبن وغيره، يبين هذا ما يوجد في هذه الأرواث من مخالفتها غيرها من الأرواث في الخلق، والريح واللون، وغير ذلك من الصفات فيكون فرق ما بينه فرق ما بين اللبنين، والمنبتين، وبهذا يظهر خلافها للإنسان، يؤكد ذلك ما قد بيناه: من أن المسلمين من الزمن المتقدم، وإلى اليوم، في كل عصر ومصر، ما زالوا يدوسون الزروع المأكولة بالبقر، ويصيب الحب من أرواث البقر وأبوالها، وما سمعنا أحدا من المسلمين غسل حبا، ولو كان ذلك منجسا أو مستقذرا لأوشك أن ينهوا عنها، وأن تنفر عنه نفوسهم نفورها عن بول الإنسان، ولو قيل: هذا إجماع عملي لكان حقا، وكذلك ما زال يسقط في المحالب من أبعار الأنعام، ولا يكاد أحد يحترز من ذلك، ولذلك عفا عن ذلك بعض من يقول بالتنجيس، على أن ضبط قانون كلي في الطاهر والنجس مطرد منعكس، لم يتيسر، وليس ذلك بالواجب علينا بعد علمنا بالأنواع الطاهرة، والأنواع النجسة، فهذه إشارة لطيفة إلى مسالك الرأي في هذه المسألة، وتمامه ما حضرني كتابة في هذا المجلس، والله يقول الحق، والله يهدي السبيل .

- مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: هل صح عن النبي ﷺ أنه مسح على عنقه في الوضوء، أو أحد من أصحابه ؟ وهل يجوز المسح على الجورب كالخف أم لا ؟ وهل يكون الخرق الذي فيه الذي بين الطعن مانعا من المسح فقد يصف بشرة شيء من محل الفرض وإذا كان في الخف خرق بقدر النصف أو أكثر هل يعفى عن ذلك أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، لم يصح عن النبي ﷺ أنه مسح على عنقه في الوضوء، بل ولا روي عنه ذلك في حديث صحيح، بل الأحاديث الصحيحة التي فيها صفة وضوء رسول الله ﷺ لم يكن [ فيها أنه كان ] يمسح عنقه، ولهذا لم يستحب ذلك جمهور العلماء: كمالك، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبهم، ومن استحبه فاعتمد فيه على أثر يروى، عن أبي هريرة أو حديث يضعف نقله: { أنه مسح رأسه حتى بلغ القذال } ومثل ذلك لا يصلح عمدة ولا يعارض ما دل عليه الأحاديث، ومن ترك مسح العنق فوضوءه صحيح باتفاق العلماء، وأما مسح الجورب: نعم يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما، سواء كانت مجلدة، أو لم تكن، في أصح قولي العلماء، ففي السنن: { أن النبي ﷺ مسح على جوربيه ونعليه } وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك، فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف وهذا من جلود، ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة، فلا فرق بين أن يكون جلودا أو قطنا، أو كتانا، أو صوفا كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه، ومحظوره ومباحه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف فهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قويا، يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى، وأيضا فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا، كالحاجة إلى المسح على هذا سواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة، يكون التفريق بينهما تفريقا بين المتماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح، الذي جاء به الكتاب والسنة، وما أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله، ومن فرق يكون هذا ينفذ الماء منه، وهذا لا ينفذ منه، فقد ذكر فرقا طرديا عديم التأثير، ولو قال قائل: يصل الماء إلى الصوف أكثر من الجلد، فيكون المسح عليه أولى للصوف الطهور به أكثر كان هذا الوصف أولى بالاعتبار من ذلك الوصف، وأقرب إلى الأوصاف المؤثرة، وذلك أقرب إلى الأوصاف الطردية، وكلاهما باطل .

وخروق الطعن لا تمنع جواز المسح، ولو لم تستر الجوارب إلا بالشد جاز المسح عليها على الصحيح، وكذلك الزربول الطويل الذي لا يثبت بنفسه، ولا يستر إلا بالشد، والله أعلم .

-مسألة: في ناس في مفازة ومعهم ماء قليل، فولغ الكلب فيه فما الحكم فيه ؟ الجواب: الحمد لله، يجوز لهم حبسه لأجل الشرب إذا عطشوا، ولم يجدوا ماء طيبا، فإن الخبائث جميعها تباح للمضطر، فله أن يأكل عند الضرورة الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وله أن يشرب عند الضرورة ما يرويه، كالمياه النجسة، والمائعات التي ترويه، وإنما منع أكثر الفقهاء شرب الخمر، قالوا: لأنها تزيده عطشا، وأما التوضؤ بماء الولوغ فلا يجوز عند جماهير العلماء، بل يعدل عنه إلى التيمم، ويجب على المضطر أن يأكل، ويشرب ما يقيم به بنيته، فمن اضطر إلى الميتة أو الماء النجس، فلم يأكل، ولم يشرب حتى مات دخل النار، ولو وجد غيره مضطرا إلى ما معه من الماء الطيب والنجس أو حدث صغير، ومن اغتسل وتوضأ، وهناك مضطر من أهل الملة أو الذمة، ودوابهم المعصومة، فلم يسقه كان آثما عاصيا، والله أعلم .
-أجوبة للشيخ تقي الدين، وكذلك في المائعات ; وذلك لأن الله أباح الطيبات وحرم الخبائث، والخبيث متميز عن الطيب بصفاته، فإذا كان صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث، وجب دخوله في الحلال دون الحرام، وأيضا: فقد ثبت من حديث أبي سعيد: أن النبي ﷺ قيل له: أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن ؟ فقال: " { الماء طهور لا ينجسه شيء } "، قال الإمام أحمد: حديث صحيح، وفي المسند أيضا: عن ابن عباس: أن النبي ﷺ قال: " { الماء طهور لا ينجسه شيء } "، وهذا اللفظ عام في القليل والكثير، وهو عام في جميع النجاسات وأما إذا تغير بالنجاسة فإنما حرم استعماله ; لأن جرم النجاسة باق، ففي استعماله استعمال لها، بخلاف ما إذا استحالت، فإن الماء طهور، وليس هناك نجاسة قائمة، ومما يبين ذلك أنه لو وقع خمر في ماء، واستحالت، ثم شربها شارب، لم يكن شاربا للخمر، ولم يجب عليه حد الخمر، إذا لم يبق شيء من طعمها، ولونها، وريحها، ولو صب لبن امرأة في ماء، واستحال حتى لم يبق له أثر، وشرب طفل ذلك الماء، لم يصر ابنها من الرضاعة .

وأيضا فإن هذا باق على أوصاف خلقته، فيدخل في عموم قوله { فلم تجدوا ماء } فإن الكلام إنما هو فيما لم يتغير بالنجاسة لا طعمه، ولا ريحه، ولا لونه، فإن قيل: فإن النبي ﷺ قد نهى عن البول في الماء الدائم، وعن الاغتسال منه، قيل: نهيه عن البول في الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول، إذ ليس في اللفظ ما يدل على ذلك، بل قد يكون نهيه ; لأن البول ذريعة إلى تنجيسه، فإنه إذا بال هذا تغير بالبول، فكان نهيا مبتدأ سدا للذريعة، وأيضا فيقال نهيه عن البول ذريعة إلى تنجيسه، فإنه إذا بال هذا تغير بالبول، فكان نهيا مبتدأ سدا للذريعة، أيضا فيقال: نهيه عن البول في الماء الدائم يعم القليل والكثير، فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله فيما فوق القلتين، إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص، وإن حرمته فقد نقضت دليلك، وكذلك يقال لمن فرق بين ما يمكن نزحه، وما لا يمكن نزحه: أتسوغ للحاج أن يبولوا في المصانع التي بطريق مكة، إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص، وإلا نقضت قولك، ويقال للمقدر بعشرة أذرع، إذا كان للقرية غدير مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق: أتسوغ لأهل القرية البول فيه، إن سوغته فقد خالفت ظاهر النص، وإلا نقضت قولك، وأما من فرق بين البول، وبين صب البول، فقوله ظاهر الفساد، فإن صب البول أبلغ من أن ينهى عنه من مجرد البول، إذ الإنسان قد يحتاج إلى البول في الماء، وأما صب الأبوال في المياه فلا حاجة إليه، فإن قيل: ففي حديث القلتين: إنه سئل عن الماء يكون بأرض فلاة، وما ينويه من الدواب والسباع، فقال: " { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث } " وفي لفظ: " { لم ينجسه شيء } " وأما مفهومه إذا قلنا بدلالة مفهوم العدد، فإنما يدل على أن الحكم في المسكوت مخالف للحكم في المنطوق بوجه من الوجوه ليظهر فائدة التخصيص بالمقدار، ولا يشترط أن يكون الحكم في كل صورة من صور المسكوت مناقضة للحكم في كل صورة من صور المنطوق، وهذا معنى قولهم: المفهوم لا عموم له، فلا يلزم أن كل ما لم يبلغ القلتين ينجس، بل إذا قيل بالمخالفة في بعض الصور حصل المقصود، وأيضا: فإن النبي ﷺ لم يذكر هذا التقدير ابتداء، وإنما ذكره في جواب من سأله عن مياه الفلاة التي تردها السباع والدواب، والتخصص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم لم يبق حجة باتفاق، كقوله تعالى: { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق }، فإنه خص هذه الصورة بالنهي ; لأنها هي الواقعة لا لأن التحريم يختص بها وكذلك قوله: { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة }، فذكر الزمن في هذه الصورة للحاجة، مع أنه قد ثبت { أن النبي ﷺ مات ودرعه مرهونة }، فهذا رهن في الحضر، فكذلك قوله: " { إذا بلغ الماء قلتين } " في جواب سائل معين بيان لما احتاج السائل إلى بيانه، فلما كان حال الماء المسئول عنه كثيرا قد بلغ قلتين، ومن شأن الكثير أنه لا يحمل الخبث، فلا يبقى الخبث فيه محمولا، بل يستحيل الخبث فيه لكثرته، بين لهم أن ما سألتم عنه لا خبث فيه، فلا ينجس، ودل كلامه ﷺ، على أن مناط التنجيس هو كون الخبث محمولا، فحيث كان الخبث محمولا موجودا في الماء كان نجسا، وحيث كان الخبث مستهلكا غير محمول في الماء كان باقيا على طهارته، فصار حديث القلتين موافقا لقوله: " { الماء طهور لا ينجسه شيء } "، والتقدير فيه لبيان صورة السؤال، لا أنه أراد أن كل ما لم يبلغ قلتين فإنه يحمل الخبث، فإن هذا مخالف للحس، إذ ما دون القلتين قد لا يحمل الخبث ولا ينجسه شيء، كقوله: " { الماء طهور لا ينجسه شيء } " وهو إنما أراد إذا لم يتغير في الموضعين، وأما إذا كان قليلا فقد يحمل الخبث لضعفه، وعلى هذا يخرج أمره بتطهير الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبعا إحداهن بالتراب، وبإراقته، فإن قوله ﷺ: " { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، وليغسله سبعا أولاهن بالتراب } " كقوله: " { إذا قام أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده } "، فإذا كان النهي عن غمس اليد في الإناء هو الإناء المعتاد للغمس، وهو الواحد من آنية المياه، فكذلك تلك الآنية المعتادة للولوغ، وهي آنية الماء، وذلك أن الكلب يلغ بلسانه شيئا بعد شيء، فلا بد أن يبقى في الماء من ريقه ولعابه ما يبقى وهو لزج، فلا يحيله الماء القليل، بل يبقى، فيكون ذلك الخبث محمولا، والماء يسيرا، فيراق ذلك الماء لأجل كون الخبث محمولا فيه، ويغسل الإناء الذي لاقاه ذلك الخبث، وهذا بخلاف الخبث المستهلك المستحيل: كاستحالة الخمر، فإن الخمر إذا انقلبت في الدن بإذن الله كانت طاهرة باتفاق العلماء، وكذلك جوانب الدن فهناك

يغسل الإناء، وهنا لا يغسل ; لأن الاستحالة حصلت في أحد الموضعين دون الآخر، وأيضا فإن النبي ﷺ أراد الفصل بين الماءين، والذي ينجس بمجرد الملاقاة وما لا ينجس إلا بالتغير، لقال: إذا لم يبلغ قلتين نجس، وما بلغهما لم ينجس، إلا بالتغير انجر ذلك من الكلام الذي يدل على ذلك، فأما مجرد قوله: " { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث } " مع أن الكثير ينجس بالاتفاق، فلا يدل على هذا المقصود، بل يدل على أنه في العادة لا يحمل الخبث فلا ينجسه، فهو إخبار عن انتفاء سبب التنجس، وبيان لكون التنجس في نفس الأمر هو حمل الخبث، والله أعلم، وأما نهيه ﷺ أن يغمس القائم من نوم الليل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا، فهو لا يقتضي تنجس الماء بالاتفاق، بل قد يكون لأنه يؤثر في الماء أثرا، أو أنه قد يفضي إلى التأثير، وليس ذلك بأعظم من النهي عن البول في الماء الدائم، وقد تقدم أنه لا يدل على التنجس، وأيضا فإن في الصحيحين: عن أبي هريرة قال: " { إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق بمنخريه من الماء، فإن الشيطان يبيت على خيشومه } "، فأمر بالغسل معللا بمبيت الشيطان على خيشومه، فعلم أن ذلك سبب للغسل غير النجاسة والحدث المعروف، وقوله: " { فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده } " يمكن أن يراد به ذلك، فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار، وأما نهيه ﷺ عن الاغتسال فيه بعد البول، فهذا إن صح عن النبي ﷺ فهو كنهيه عن البول في المستحم، ثم إذا اغتسل حصل له وسواس، وربما بقي شيء من أجزاء البول، فعاد عليه رشاشها، وكذلك إذا بال في ماء، ثم اغتسل فيه، فقد يغتسل قبل الاستحالة مع بقاء أجزاء البول، فنهي عنه لذلك، ونهيه عن الاغتسال في الماء الدائم إن صح يتعلق بمسألة الماء المستعمل، وهذا قد يكون لما فيه من تقدير الماء على غيره، لا لأجل نجاسته ولا لمصيره مستعملا، فإنه قد ثبت في الصحيح: عنه ﷺ أنه قال: { الماء لا يجنب } " والله أعلم .

- مسألة: في لمس النساء هل ينقض الوضوء، أم لا ؟، الجواب: الحمد لله ; أما نقض الوضوء بلمس النساء فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال، طرفان ووسط: أضعفها: أنه ينقض باللمس، وإن لم يكن لشهوة إذا كان الملموس مظنة للشهوة، وهو قول الشافعي تمسكا بقوله تعالى: { أو لامستم النساء } وفي القراءة الأخرى { أو لامستم }، القول الثاني: أن اللمس لا ينقض بحال، وإن كان لشهوة كقول أبي حنيفة وغيره، وكلا القولين يذكر رواية عن أحمد، لكن ظاهر مذهبه كمذهب مالك، والفقهاء السبعة: أن اللمس إن كان لشهوة نقض، وإلا فلا، وليس في المسألة قول متوجه إلا هذا القول أو الذي قبله، فأما تعليق النقض بمجرد اللمس، فهذا خلاف الأصول، وخلاف إجماع الصحابة، وخلاف الآثار، وليس مع قائله نص ولا قياس، فإن كان اللمس في قوله تعالى { أو لامستم النساء } إذا أريد به اللمس باليد، والقبلة، ونحو ذلك، كما قاله ابن عمر وغيره، فقد علم أنه حيث، ذكر مثل ذلك في الكتاب والسنة، فإنما يراد به ما كان لشهوة، مثل قوله في آية الاعتكاف: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }، ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه، بخلاف المباشرة لشهوة، وكذلك المحرم الذي هو أشد، لو باشر المرأة لغير شهوة لم يحرم عليه، ولم يجب عليه به دم، وكذلك قوله: { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن }، وقوله: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن }، فإنه لو مسها مسيسا خاليا من غير شهوة لم يجب به عدة، ولا يستقر به مهر، ولا تنتشر به حرمة المصاهرة، باتفاق العلماء، بخلاف ما لو مس المرأة لشهوة، ولم يخل بها، ولم يطأها، ففي استقرار المهر بذلك نزاع معروف بين العلماء في مذهب أحمد وغيره، فمن زعم أن قوله: { أو لامستم النساء } يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة، فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن، بل وعن لغة الناس في عرفهم، فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة، كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجال والمرأة، علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم، وأيضا فإنه لا يقول إن الحكم معلق بلمس النساء مطلقا، بل بصنف من النساء، وهو ما كان مظنة الشهوة، فأما مس من لا يكون مظنة، كذوات المحارم، والصغيرة فلا ينقض بها، فقد ترك ما ادعاه من الظاهر واشترط شرطا لا أصل له بنص ولا قياس، فإن الأصول المنصوصة تفرق بين اللمس لشهوة، واللمس لغير شهوة، لا تفرق بين أن يكون الملموس مظنة الشهوة، أو لا يكون، وهذا هو المس المؤثر في العبادات كلها، كالإحرام، والاعتكاف، والصيام، وغير ذلك، وإذا كان هذا القول لا يدل عليه ظاهر اللفظ، ولا القياس، لم يكن له أصل في الشرع، وأما من علق النقض بالشهوة فالظاهر المعروف في مثل ذلك دليل له، وقياس أصول الشريعة دليل، ومن لم يجعل اللمس ناقضا بحال فإنه يجعل اللمس إنما أريد به الجماع، كما في قوله تعالى: { { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن }، ونظائره كثيرة، وفي السنن: { أن النبي ﷺ قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ }، لكن تكلم فيه، وأيضا فمن المعلوم أن مس الناس نساءهم مما تعم به البلوى، ولا يزال الرجل يمس امرأته، فلو كان هذا مما ينقض الوضوء لكان النبي ﷺ بينه لأمته، ولكان مشهورا بين الصحابة، ولم ينقل أحد أن أحدا من الصحابة كان يتوضأ بمجرد ملاقاة يده لامرأته أو غيرها، ولا نقل أحد في ذلك حديثا عن النبي ﷺ فعلم أن ذلك قول باطل والله أعلم .

- مسألة: وسئل الشيخ تقي الدين رحمه الله: عن رجل باشر امرأته وهو في عافية، فهل له أن يصبر بالطهر إلى أن يتضحى النهار، أم يتيمم ويصل، أفتونا مأجورين ؟ أجاب: الحمد لله، لا يجوز له تأخير الصلاة حتى يخرج الوقت، بل عليه إن قدر على الاغتسال بماء بارد أو حار، أن يغتسل ويصلي في الوقت، وإلا تيمم، فإن التيمم بخشية البرد جائز باتفاق الأئمة، وإذا صلى بالتيمم فلا إعادة عليه، لكن إذا تمكن من الاغتسال اغتسل، والله أعلم .

- مسألة: في أواني النحاس المطعمة بالفضة كالطاسات وغيرها، هل حكمها حكم آنية الذهب والفضة، أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، أما المضبب بالفضة من الآنية، وما يجري مجراها من الآلات، سواء سمي الواحد من ذلك إناء أو لم يسم، وما يجري مجرى المضبب كالمباخر، والمجامر، والطشوت، والشمعدانات، وأمثال ذلك، فإن كانت الضبة يسيرة لحاجة مثل: تشعيب القدح، وشعيرة السكين، ونحو ذلك، مما لا يباشر بالاستعمال، فلا بأس بذلك، ومراد الفقهاء بالحاجة هنا أن يحتاج إلى تلك الصورة، كما يحتاج إلى التشعيب، والشعيرة، سواء كان من فضة، أو نحاس، أو حديد، أو غير ذلك، وليس مرادهم أن يحتاج إلى كونها من فضة، بل هذا يسمونه في مثل هذا ضرورة، والضرورة تبيح الذهب والفضة مفردا وتبعا، حتى لو احتاج إلى شد أسنانه بالذهب، أو اتخذ أنفا من ذهب، ونحو ذلك جاز، كما جاءت به السنة، مع أنه ذهب ومع أنه مفرد، وكذلك لو لم يجد ما يشربه إلا في إناء ذهب، أو فضة، جاز له شربه، ولو لم يجد ثوبا يقيه البرد، أو يقيه السلاح، أو يستر به عورته، إلا ثوبا من حرير منسوج بذهب أو فضة، جاز له لبسه، فإن الضرورة تبيح أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير بنص القرآن، والسنة، وإجماع الأمة، مع أن تحريم المطاعم أشد من تحريم الملابس ; لأن تأثير الخبائث بالممازجة والمخالطة للبدن، أعظم من تأثيرها بالملابسة والمباشرة للظاهر، ولهذا كانت النجاسات التي تحرم ملابستها يحرم أكلها، ويحرم من أكل السموم ونحوها من المضرات، ما ليس بنجس، ولا يحرم مباشرتها، ثم ما حرم لخبث جنسه أشد مما حرم لما فيه من السرف، والفخر، والخيلاء، فإن هذا يحرم القدر الذي يقتضي ذلك منه، ويباح للحاجة، كما أبيح للنساء لبس الذهب والحرير لحاجتهن إلى التزين، وحرم ذلك على الرجال، وأبيح للرجال من ذلك اليسير، كالعلم، ونحو ذلك، مما ثبت في السنة، ولهذا كان الصحيح من القولين في مذهب أحمد وغيره، جواز التداوي بهذا الضرب دون الأول، كما رخص النبي ﷺ للزبير، وطلحة في لبس الحرير من حكة كانت بهما، ونهى عن التداوي بالخمر، وقال: " { إنها داء وليست بدواء } "، ونهى عن الدواء الخبيث، ونهى عن قتل الضفدع لأجل التداوي بها، وقال: " { إن نقنقتها تسبيح } "، وقال: " { إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها{ " ولهذا استدل بإذنه للعرنيين في التداوي بأبوال الإبل وألبانها على أن ذلك ليس من الخبائث المحرمة النجسة، لنهيه عن التداوي بمثل ذلك، ولكونه لم يأمر بغسل ما يصيب الأبدان، والثياب، والآنية من ذلك، وإذا كان القائلون بطهارة أبوال الإبل تنازعوا في جواز شربها لغير الضرورة، وفيه عن أحمد روايتان منصوصتان، فذاك لما فيها من القذارة الملحق لها بالمخاط، والبصاق، والمعنى، ونحو ذلك من المستقذرات التي ليست بنجسة، التي يشرع النظافة منها، كما يشرع نتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، وإحفاء الشارب، ولهذا أيضا كان هذا الضرب محرما في باب الآنية والمنقولات على الرجال والنساء، فآنية الذهب والفضة حرام على الصنفين، بخلاف التحلي بالذهب، ولباس الحرير فإنه مباح للنساء، وباب الخبائث بالعكس فإنه يرخص في استعمال ذلك، فيما ينفصل عن بدن الإنسان ما لا يباح إذا كان متصلا به، كما يباح إطفاء الحريق بالخمر، وإطعام الميتة للبزاة والصقور، وإلباس الدابة للثوب النجس، وكذلك الاستصباح بالدهن النجس في أشهر قولي العلماء، وهو أشهر الروايتين عن أحمد، وهذا لأن استعمال الخبائث فيها يجري مجرى الإتلاف ليس فيه ضرر، وكذلك في الأمور المنفصلة، بخلاف استعمال الحرير والذهب، فإن هذا غاية السرف، والفخر والخيلاء، وبهذا يظهر غلط من رخص من الفقهاء، من أصحاب أحمد وغيرهم، في إلباس دابته الثوب الحرير، قياسا على إلباس الثوب النجس، فإن هذا بمنزلة من يجوز افتراش الحرير ووطأه قياسا على المصورات، أو من يبيح تحلية دابته بالذهب والفضة، قياسا على من يبيح إلباسها الثوب النجس، فقد ثبت بالنص تحريم افتراش الحرير، كما ثبت تحريم لباسه، وبهذا يظهر أن قول من حرم افتراشه على النساء، كما هو قول المراوزة من أصحاب الشافعي، أقرب إلى القياس من قول من أباحه للرجال، كما قاله أبو حنيفة، وإن كان الجمهور على أن الافتراش كاللباس، يحرم على الرجال دون النساء ; لأن الافتراش للباس، كما قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، إذ لا يلزم من إباحة التزين على البدن إباحة المنفصل، كما في آنية الذهب والفضة، فإنهم اتفقوا على أن استعمال ذلك حرام على الزوجين الذكر والأنثى، وإذا تبين الفرق بين ما يسميه الفقهاء في هذا الباب حاجة وما يسمونه ضرورة فيسير الفضة التابع يباح عندهم للحاجة، كما في حديث أنس: { أن قدح رسول الله ﷺ لما انكسر شعب بالفضة }، سواء كان الشاعب له رسول الله ﷺ أو كان هو أنسا، وأما إن كان اليسير للزينة، ففيه أقوال في مذهب أحمد، وغيره: التحريم، والإباحة، والكراهة، قيل: والرابع أنه يباح من ذلك ما لا يباشر بالاستعمال، وهذا هو المنصوص عنه، فينهى عن العنبة في موضع الشرب دون غيره، ولهذا كره حلقة الذهب في الإناء اتباعا لعبد الله بن عمر في ذلك، فإنه كره ذلك وهو أولى ما اتبع في ذلك، وأما ما يروى عنه مرفوعا من شرب في إناء ذهب، أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإسناده ضعيف، ولهذا كان المباح من الضبة إنما يباح لنا استعماله عند الحاجة، فأما بدون ذلك، قيل: يكره، وقيل: يحرم، ولذلك كره أحمد الحلقة في الإناء اتباعا لعبد الله بن عمر، والكراهة منه هل تحمل على التنزيه، أو التحريم ؟ على قولين لأصحابه، وهذا المنع هو مقتضى النص والقياس، فإن تحريم الشيء مطلقا يقتضي تحريم كل جزء منه، كما أن تحريم الخنزير، والميتة، والدم اقتضى ذلك، وكذلك تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة يقتضي المنع من أبعاض ذلك، وكذلك النهي عن لبس الحرير اقتضى النهي عن أبعاض ذلك، لولا ما ورد من استثناء موضع إصبعين، أو ثلاث، أو أربع في الحديث الصحيح، ولهذا وقع الفرق في كلام الله ورسوله ﷺ، وكلام سائر الناس، بين باب النهي والتحريم، وباب الأمر والإيجاب، فإذا نهى عن شيء نهى عن بعضه، وإذا أمر بشيء كان أمرا بجميعه، ولهذا كان النكاح حيث أمر به كان أمرا بمجموعه، والعقد والوطء، وكذلك إذا أبيح كما في قوله: { فانكحوا ما طاب لكم من النساء }، { حتى تنكح زوجا غيره }، { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم }، " { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج } "، وحيث حرم النكاح كان تحريما لأبعاضه، حتى يحرم العقد مفردا والوطء مفردا، كما في قوله: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف }، وكما في قوله: { حرمت عليكم أمهاتكم } الآية إلى آخرها، وكما في قوله: " { لا ينكح المحرم ولا ينكح } "، ونحو ذلك، ولهذا فرق مالك، وأحمد في المشهور عنه، بين من حلف ليفعلن شيئا ففعل بعضه، أنه لا يبر، ومن حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه أنه يحنث، وإذا كان تحريم الذهب، والحرير على الرجال، وآنية الذهب، والفضة على الزوجين، يقتضي شمول التحريم لأبعاض ذلك، بقي اتخاذ اليسير لحاجة أو مطلقا، فالاتخاذ اليسير، ولهذا تنازع العلماء في جواز اتخاذ الآنية بدون استعمالها، فرخص فيه أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في قول، وإن كان المشهور عنهما تحريمه، إذ الأصل أن ما حرم استعماله، حرم اتخاذه كآلات الملاهي، وأما إن كانت الفضة التابعة كثيرة ففيها أيضا قولان في مذهب الشافعي، وأحمد، وفي تحديد الفرق بين الكثير واليسير، والترخيص في لبس خاتم الفضة، أو تحلية السلاح من الفضة، وهذا فيه إباحة يسير الفضة مفردا، لكن في اللباس والتحلي، وذلك يباح فيه ما لا يباح في باب الآنية، كما تقدم التنبيه على ذلك، ولهذا غلط بعض الفقهاء من أصحاب أحمد، حيث حكى قولا بإباحة يسير الذهب تبعا في الآنية عن أبي بكر عبد العزيز، وأبو بكر، إنما قال ذلك في باب اللباس والتحلي كعلم الذهب ونحوه، وفي يسير الذهب في باب اللباس عن أحمد أقوال: أحدها: الرخصة مطلقا، لحديث معاوية: " { نهى عن الذهب إلا مقطعا } " ولعل هذا القول أقوى من غيره، وهو قول أبي بكر، والثاني: الرخصة في السلاح فقط .

والثالث: في السيف خاصة، وفيه وجه بتحريمه مطلقا، لحديث أسماء: " { لا يباح من الذهب ولا خريصة } "، والخريصة عين الجرادة، لكن هذا قد يحمل على الذهب المفرد دون التابع، ولا ريب أن هذا محرم عند الأئمة الأربعة ; لأنه قد ثبت عن النبي ﷺ { أنه نهى عن خاتم الذهب }، وإن كان قد لبسه من الصحابة من لم يبلغه النهي، ولهذا فرق أحمد وغيره بين يسير الحرير مفردا كالتكة، فنهى عنه، وبين يسيره تبعا كالعلم، إذ الاستثناء وقع في هذا النوع فقط، فكما يفرق في الرخصة بين اليسير والكثير، فيفرق بين التابع والمفرد، ويحمل قول معاوية " إلا مقطعا " على التابع لغيره، وإذا كانت الفضة قد رخص منها في باب اللباس والتحلي في اليسير، وإن كان مفردا، فالذين رخصوا في اليسير، أو الكثير التابع في الآنية ألحقوها بالحرير، الذي أبيح يسيره تبعا للرجال في الفضة التي أبيح يسيرها مفردا أو لا، ولهذا أبيح في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، حلية المتطفة من الفضة، وما يشبه ذلك من لباس الحرب: كالخوذة والجوشن، والران، وحمائل السيف، وأما تحلية السيف بالفضة، فليس فيه هذا الخلاف، والذين منعوا قالوا: الرخصة وقعت في باب اللباس دون باب الآنية، وباب اللباس أوسع كما تقدم، وقد يقال: إن هذا أقوى، إذ لا أثر، هذه الرخصة والقياس كما ترى، وأما المضبب بالذهب، فهذا دخل في النهي، سواء كان قليلا أو كثيرا، والخلاف المذكور في الفضة منتف ههنا، لكن في يسير الذهب في الآنية وجه للرخصة فيه، وأما التوضؤ والاغتسال من آنية الذهب والفضة فهذا فيه نزاع معروف في مذهب أحمد، لكنه مركب على إحدى الروايتين، بل أشهرهما عنه في الصلاة في الدار المغصوبة، واللباس المحرم كالحرير، والمغصوب، والحج بالمال الحرام، وذبح الشاة بالسكين المحرمة، ونحو ذلك، مما فيه أداء واجب، واستحلال محظور، فأما على الرواية الأخرى التي يصحح فيها الصلاة والحج ويبيح الذبح، فإنه يصحح الطهارة من آنية الذهب والفضة، وأما على المنع فلأصحابه قولان: أحدهما: الصحة، كما هو قول الخرقي وغيره، والثاني: البطلان، كما هو قول أبي بكر طردا لقياس الباب، والذين نصروا قول الخرقي أكثر أصحاب أحمد فرقوا بفرقين: أحدهما: أن المحرم هنا منفصل عن العبادة، فإن الإناء منفصل عن المتطهر، بخلاف لابس المحرم، وآكله، والجالس عليه، فإنه مباشر له، قالوا: فأشبه ما لو ذهب إلى الجمعة بدابة مغصوبة، وضعف آخرون هذا الفرق بأنه: لا فرق بين أن يغمس يده في الإناء المحرم، وبين أن يغترف منه، وبأن { النبي ﷺ جعل الشارب من آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم }، وهو حين انصباب الماء في بطنه يكون قد انفصل عن الإناء، والفرق الثاني: وهو أفقه، قالوا: التحريم إذا كان في ركن العبادة وشرطها أثر فيها، كما كان في الصلاة في اللباس أو البقعة، وأما إذا كان في أجنبي عنها لم يؤثر، والإناء في الطهارة أجنبي عنها، فلهذا لم يؤثر فيها، والله أعلم .

-مسألة: سئل شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله تعالى روحه، ونور ضريحه: عن رجل عنده ستون قنطار زيت بالدمشقي، وقعت فيه فأرة في بئر واحدة، فهل ينجس بذلك أم لا ؟ وهل يجوز بيعه أو استعماله، أم لا ؟ أفتونا مأجورين ؟ الجواب: الحمد لله، لا ينجس بذلك، بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد، وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين، فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلا بالتغير، لكن تلقى النجاسة وما حولها، وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة من العلماء: كالزهري، والبخاري صاحب الصحيح، وقد ذكر ذلك رواية عن مالك، وهو أيضا مذهب أبي حنيفة فإنه سوى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة، وفي إزالة النجاسة، وهو رواية عن أحمد في الإزالة، لكن أبو حنيفة رأى مجرد الوصول منجسا، وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك، فلم يروا الوصول منجسا مع الكثرة، وتنازعوا في القليل من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبيث إذا وقع في الطيب أفسده، ومنهم من قال: إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره، فأما إذا استهلك فيه واستحال، فلا وجه لإفساده، كما لو انقلبت الخمرة خلا بغير قصد آدمي، فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة، لكن مذهبه في الماء معروف، وعلى هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع، ولا دليل على نجاسته في كتاب الله ولا سنة رسوله، وعمدة الذين نجسوه احتجاجهم بحديث رواه أبو داود وغيره: عن النبي ﷺ: أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: { إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعا فلا تقربوه } "، وهذا الحديث إنما يدل لو دل على نجاسة السمن الذي وقع فيه الفأرة، فكيف والحديث ضعيف، بل باطل غلط فيه معمر على الزهري غلطا معروفا عند النقاد الجهابذة، كما ذكره الترمذي عن البخاري، ومن اعتقد من الفقهاء أنه على شرط الصحيح فلم يعلم للعلة الباطنة فيه، التي توجب العلم ببطلانه، فإن علم العلل من خواص علم أئمة الحديث، ولهذا بين البخاري في صحيحه ما يوجب فساد هذه الرواية، وأن الحديث الصحيح هو على طهارته أدل منه على النجاسة فقال: ( باب: إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب ) فقال: حدثنا عبدان قال: حدثنا عبد الله يعني ابن المبارك - عن يونس، عن الزهري، أنه سئل عن الدابة التي تموت في الزيت، أو السمن وهو جامد، أو غير جامد، الفأرة أو غيرها قال: بلغنا { أن رسول الله ﷺ أمر بفأرة ماتت في سمن بما قرب منها فطرح ثم أكل }، وفي حديث عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة قال: { سئل النبي ﷺ عن فأرة وقعت في سمن فقال: ألقوها وما حولها، وكلوه }، فذكر البخاري عن ابن شهاب الزهري أعلم الأمة بالسنة في زمانه، أنه أفتى في الزيت والسمن الجامد، وغير الجامد، إذا ماتت فيه الفأرة أنها تطرح وما قرب منها، واستدل بالحديث الذي رواه عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن النبي ﷺ سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: " { ألقوها وما حولها، وكلوه } "، ولم يقل النبي ﷺ إن كان مائعا فلا تقربوه، بل هذا باطل، فذكر البخاري رضي الله عنه هذا ليبين أن من ذكر عن الزهري أنه روى في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه، فإنه أجاب العموم في الجامد والذائب مستدلا بهذا الحديث بعينه، لا سيما والسمن بالحجاز يكون ذائبا أكثر مما يكون جامدا، بل قيل أن لا يكون بالحجاز جامدا بحال، فإطلاق النبي ﷺ

الجواب من غير تفصيل يوجب العموم، إذ السؤال كالمعاد في الجواب، فكأنه قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال، هذا إذا كان السمن بالحجاز يكون جامدا، ويكون ذائبا فأما إن كان وجود الجاف نادرا، أو معدوما كان الحديث نصا في أن السمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة فإنها تلقى وما حولها ويؤكل، وبذلك أجاب الزهري، فإن مذهبه أن الماء لا ينجس قليله ولا كثيره، إلا بالتغير، وقد ذكر البخاري في أوائل الصحيح التسوية بين الماء والمائعات، وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة، ودلائلها، وكلام العلماء فيها في غير هذا الموضع، كيف وفي تنجيس مثل ذلك وتحريمه من فساد الأطعمة العظيمة، وإتلاف الأموال العظيمة القدر ما لا تأتي بمثله الشريعة الجامعة للمحاسن كلها، والله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث تنزيها لنا عن المضار، وأباح لنا الطيبات كلها، لم يحرم علينا شيئا من الطيبات، كما حرم على أهل الكتاب بظلمهم طيبات أحلت لهم، ومن استقرأ الشريعة في مواردها، ومصادرها، واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور، والله سبحانه أعلم، والحمد لله وحده وصلاته على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .

-مسألة: في جلود الحمر، وجلد ما لا يؤكل لحمه والميتة، هل تطهر بالدباغ أم لا ؟ أفتونا مأجورين ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، أما طهارة جلود الميتة بالدباغ ففيها قولان مشهوران للعلماء، في الجملة: أحدهما: أنها تطهر بالدباغ، وهو قول أكثر العلماء: كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين، الثاني: لا تطهر، وهو المشهور في مذهب مالك، ولهذا يجوز استعمال المدبوغ في الماء دون المائعات ; لأن الماء لا ينجس بذلك، وهو أشهر الروايتين عن أحمد أيضا، اختارها أكثر أصحابه، لكن الرواية الأولى هي آخر الروايتين عنه، كما نقله الترمذي، عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه: أنه كان يذهب إلى حديث ابن عكيم، ثم ترك ذلك بآخرة، وحجة هذا القول شيئان: أحدهما: أنهم قالوا: هي من الميتة، ولم يصح في الدباغ شيء، ولهذا لم يرو البخاري ذكر الدباغ في حديث ميمونة من قول النبي ﷺ وطعن هؤلاء

فيما رواه مسلم وغيره إذ كانوا أئمة لهم في الحديث اجتهاد، وقالوا: روى عيينة الدباغ عن الزهري، والزهري كان يجوز استعمال جلود الميتة بلا دباغ، وذلك يبين أنه ليس في روايته ذكر الدباغ، وتكلموا في ابن وعلة، والثاني: أنهم قالوا: أحاديث الدباغ منسوخة بحديث ابن عكيم، وهو قوله ﷺ فيما كتب إلى جهينة: { كنت رخصت في جلود الميتة، فإذا أتاكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب }، فكلا هاتين الحجتين مأثورة عن الإمام أحمد نفسه في جوابه ومناظرته في الرواية الأولى المشهورة، وقد احتج القائلون بالدباغ بما في الصحيحين عن عبد الله بن عباس أن النبي ﷺ { مر بشاة ميتة فقال: هلا استمتعتم بإهابها، قالوا: يا رسول الله، إنها ميتة، قال: إنما حرم من الميتة أكلها }، وفي رواية لمسلم " { ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به }، وعن { سودة بنت زمعة زوج النبي ﷺ قالت: ماتت لنا شاة، فدبغنا مسكها، فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا }، وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: { إذا دبغ الإهاب فقد طهر }، قلت: وفي رواية له عن عبد الرحمن بن وعلة: { إنا نكون بالمغرب، ومعنا البربر والمجوس نؤتى بالكبش قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحهم، ويأتونا بالسقاء يجعلون فيه الودك، فقال ابن عباس قد سألنا رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: دباغه طهوره }، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ { أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت }، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وفي رواية عن عائشة قالت: { سئل رسول الله ﷺ عن جلود الميتة، فقال: دباغها طهورها } رواه الإمام أحمد، والنسائي، وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ { مر ببيت بفنائه قربة معلقة فاستقى، فقيل إنها ميتة، فقال: ذكاة الأديم دباغه } رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وأما حديث ابن عكيم فقد طعن بعض الناس فيه بكون حامله مجهولا ونحو ذلك مما لا يسوغ رد الحديث به، قال عبد الله بن عكيم: { أتانا كتاب رسول الله ﷺ قبل أن يموت بشهر أو شهرين أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب }، رواه الإمام أحمد، وقال: ما أصلح إسناده، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال: حديث حسن، وأجاب بعضهم عنه بأن الإهاب اسم للجلد قبل الدباغ، كما نقل ذلك النضر ابن شميل وغيره من أهل اللغة، وأما بعد الدبغ فإنما هو أديم، فيكون النهي عن استعمالها قبل الدبغ، فقال المانعون: هذا ضعيف، فإن في بعض طرقه: كتب رسول الله ﷺ ونحن في أرض جهينة، { إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب }، رواه الطبراني في المعجم الأوسط " من رواية فضالة بن مفضل بن فضالة المصري، وقد ضعفه أبو حاتم الرازي، لكن هو شديد في التزكية، وإذا كان النهي بعد الرخصة فالرخصة إنما كانت في المدبوغ، وتحقيق الجواب: أن يقال: حديث ابن عكيم ليس فيه نهي عن استعمال المدبوغ، وأما الرخصة المتقدمة فقد قيل: إنها كانت للمدبوغ وغيره، ولهذا ذهب طائفة، منهم: الزهري، وغيره إلى جواز استعمال جلود الميتة قبل الدباغ، تمسكا بقوله المطلق في حديث ميمونة، قوله: { إنما حرم من الميتة أكلها }، فإن هذا اللفظ يدل على التحريم ثم لم يتناول الجلد، وقد رواه الإمام أحمد في المسند " عن ابن عباس، قال: { ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، ماتت فلانة - تعني الشاة - فقال: فلولا أخذتم مسكها فقالت: آخذ مسك شاة قد ماتت ؟ فقال لها رسول الله ﷺ: إنما قال { لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وإنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته، فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها }، فهذا الحديث يدل على أن التحريم لم يتناول الجلد، وإنما ذكر الدباغ لإبقاء الجلد وحفظه، لا لكونه شرطا في الحل، وإذا كان كذلك فتكون الرخصة لجهينة في هذا، والنسخ عن هذا، فإن الله تعالى ذكر تحريم الميتة في سورتين مكيتين: الأنعام والنحل، ثم في سورتين مدنيتين: البقرة والمائدة، والمائدة من آخر القرآن نزولا كما روي { المائدة آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها } وقد ذكر الله فيها من التحريم ما لم يذكره في غيرها، وحرم النبي ﷺ أشياء مثل أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وإذا كان التحريم زاد بعد ذلك على ما في السورة المكية التي استندت الرخصة المطلقة، فيمكن أن يكون تحريم الانتفاع بالعصب والإهاب قبل الدباغ ثبت بالنصوص المتأخرة، وأما بعد الدباغ فلم يحرم ذلك قط، بل بين أن دباغه طهوره وذكاته، وهذا يبين أنه لا يباح بدون الدباغ، وعلى هذا القول فللناس فيما يطهره الدباغ أقوال: قيل: إنه يطهر كل شيء حتى الحمير، كما هو قول أبي يوسف، وداود، وقيل: يطهر كل شيء سوى الحمير، كما هو قول أبي حنيفة، وقيل: يطهر كل شيء إلا الكلب، والحمير، كما هو قول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب أحمد على القول بتطهير الدباغ، والقول الآخر في مذهبه، وهو قول طوائف من فقهاء الحديث، إنه إنما يطهر ما يباح بالذكاة، فلا يطهر جلود السباع، ومأخذ التردد أن الدباغ: هل هو كالحياة فيطهر ما كان طاهرا في الحياة، أو هو كالذكاة، فيطهر ما طهر بالذكاة، والثاني أرجح، ودليل ذلك نهي النبي ﷺ عن جلود السباع، كما روي عن أسامة بن عمير الدهلي أن النبي ﷺ { نهى عن جلود السباع }، ورواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، زاد الترمذي: " أن تفرش "، وعن خالد بن معدان قال: { وفد المقدام بن معدي كرب على معاوية فقال: أنشدك بالله، هل تعلم أن رسول الله ﷺ نهى عن جلود السباع، والركوب عليها ؟ قال: نعم }، رواه أبو داود والنسائي، وهذا لفظه، وعن أبي ريحانة: { نهى رسول الله ﷺ عن ركوب النمور }، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وروى أبو داود، والنسائي عن معاوية عن النبي ﷺ قال: { لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر } رواه أبو داود، وفي هذا القول جمع بين الأحاديث كلها، والله أعلم .

- مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن رجل تدركه الصلاة وهو في مدرسة، فيجد في المدارس بركا فيها ماء له مدة كثيرة ومثل ماء الحمام الذي في الحوض، فهل يجوز من ذلك الوضوء والطهارة أم لا ؟، وعن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث، أم لا ؟ وعن رجل غصب له مال، أو مطل في دين ثم مات فهل تكون المطالبة له في الآخرة أم للورثة ؟ أفتونا مأجورين، أجاب: الحمد لله، قد ثبت في الصحيحين: عن النبي ﷺ من غير وجه: كحديث عائشة، وأم سلمة، وميمونة وابن عمر رضي الله عنهم: أن النبي ﷺ { كان يغتسل هو وزوجته من إناء واحد، حتى يقول لها: أبقي لي وتقول هي: أبق لي }، وفي صحيح البخاري: عن عبد الله بن عمر قال: { كان الرجال والنساء يغتسلون على عهد رسول الله من إناء واحد، ولم يكن بالمدينة على عهد رسول الله ﷺ ماء جار ولا حمام }، فإذا كانوا يتوضئون جميعا، ويغتسلون جميعا من إناء واحد بقدر الفرق، وهو بضعة عشر رطلا بالمصري أو أقل، وليس لهم ينبوع، ولا أنبوب، فتوضؤهم واغتسالهم جميعا من حوض الحمام أولى وأحرى، فيجوز ذلك وإن كان الحوض ناقصا والأنبوب مسددا، فكيف إذا كان الأنبوب مفتوحا وسواء فاض أو لم يفض، وكذلك برك المدارس، ومن منع غيره حتى ينفرد وحده بالاغتسال فهو مبتدع، مخالف للسنة، وأما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا: يخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به، والباقي لا يحرم عليه، لكن القدر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال، وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام، وجهل قدر كل منهما: جعل ذلك نصفين، وأما من غصب له مال أو مطل به فالمطالبة في الآخرة له كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { من كانت لأخيه عنده مظلمة في دم، أو مال، أو عرض فليستحلل من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم، فإن كانت له حسناته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فألقيت عليه }، فبين النبي ﷺ أن الظلامة إذا كانت في المال طالب المظلوم بها ظالمه، ولم يجعل المطالبة لورثته، وذلك أن الورثة يخلفونه في الدنيا، فما أمكن استيفاؤه في الدنيا كان للورثة، وما لم يمكن استيفاؤه في الدنيا فالطلب به في الآخرة للمظلوم نفسه، والله أعلم .

مسألة: في رجل يفسق ويشرب الخمر ويصل الصلوات الخمس، وقد قال ﷺ: { كل صلاة لم تنه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد صاحبها من الله إلا بعدا }، أجاب: هذا الحديث ليس بثابت عن النبي ﷺ، لكن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله في كتابه، وبكل حال فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدا، بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي، وأقرب إلى الله منه، وإن كان فاسقا، لكن قال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، وقد قال النبي ﷺ: { إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها إلا ربعها، حتى قال: إلا عشرها }، فإن الصلاة إذا أتى بها كما أمر نهته عن الفحشاء والمنكر، وإذا لم تنهه دل على تضييعه لحقوقها، وإن كان مطيعا، وقد قال تعالى: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة } الآية، وإضاعتها التفريط في واجباتها، وإن كان يصليها، والله أعلم .

مسألة: فيمن قال: إن الصبيان مأمورون بالصلاة قبل البلوغ، وقال آخر: لا نسلم، فقال له: ورد عن النبي ﷺ أنه قال: { مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر } فقال: هذا ما هو أمر من الله، ولم يفهم منه تنقيص، فهل يجب في ذلك شيء ؟ أفتونا مأجورين ؟ الجواب: إن كان المتكلم أراد أن الله أمرهم بالصلاة، بمعنى أنه أوجبها عليهم فالصواب مع الثاني، وأما إن أراد أنهم مأمورون: أي أن الرجال يأمرونهم بها لأمر الله إياهم بالأمر، أو أنها مستحبة في حق الصبيان، فالصواب مع المتكلم، وقول القائل: ما هو أمر من الله، إذا أراد به أنه ليس أمرا من الله للصبيان، بل هو أمر لمن يأمر الصبيان، فقد أصاب، وإن أراد أن هذا ليس أمرا من الله لأحد، فهذا خطأ يجب عليه أن يرجع عنه، ويستغفر الله، والله أعلم . وكذلك إذا كان البرد شديدا، ويضره الماء البارد، ولا يمكنه الذهاب إلى الحمام، أو تسخين الماء حتى يخرج الوقت، فإنه يصلي في الوقت بالتيمم، والمرأة والرجل في ذلك سواء، فإذا كانا جنبين ولم يمكنهما الاغتسال حتى يخرج الوقت، فإنهما يصليان في الوقت بالتيمم .

والمرأة الحائض إذا انقطع دمها في الوقت، ولم يمكنها الاغتسال إلا بعد خروج الوقت تيممت وصلت في الوقت .

كتاب الصلاة: - مسألة: هل كانت الصلاة على من قبلنا من الأمم مثل ما هي علينا من الوجوب والأوقات والأفعال والهيئات، أم لا ؟ أجاب رضي الله عنه: كانت لهم صلاة في هذه الأوقات، لكن ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات والهيئات، وغيرهما، والله أعلم .

ومن مصنفاته تغمده الله تعالى برحمته: فصل: - مسألة: في طواف الحائض والجنب والمحدث، قال رحمه الله: ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: " { الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت } "، وقال لعائشة رضي الله عنها: " { اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت } "، { ولما قيل له عن صفية إنها حاضت، فقال: أحابستنا هي فقيل له: إنها قد أفاضت ؟ قال: فلا إذا }، وصح عنه ﷺ: { أنه بعث أبا بكر عام تسع، لما أمره على الموسم ينادي: أن لا يطوف بالبيت عريان }، ولم ينقل أحد عنه أنه أمر الطائفين بالوضوء ولا باجتناب النجاسة، كما أمر المصلين بالوضوء، فنهيه الحائض عن الطواف بالبيت إما أن يكون لأجل المسجد، لكونها منهية عن اللبث فيه، وفي الطواف لبث، أو عن الدخول إليه مطلقا لمرور أو لبث ; وإما أن يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض، كما يحرم على الحائض الصلاة، والصيام بالنص والإجماع، ومس المصحف عند عامة العلماء، وكذلك قراءة القرآن في أحد قولي العلماء، والذين حرموا عليها القراءة كأحمد في المشهور، وكذلك الشافعي مع أبي حنيفة تنازعوا في إباحة قراءة القرآن لها وللنفساء، قبل الغسل وبعد انقطاع الدم على ثلاثة أقوال: أحدهما: إباحتها للحائض والنفساء، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وقال: هو ظاهر كلام أحمد، والثاني: منع الحائض والنفساء، والثالث: إباحتها للنفساء دون الحائض، اختاره الخلال من أصحاب أحمد، وإما أن يكون لكل منهما، وإما أن يكون لمجموعهما، بحيث لو انفرد أحدهما لم يحرم، فإن كان تحريمه للأول لم يحرم عليها عند الضرورة، فإن لبثها في المسجد لضرورة المسجد، وقد ثبت عن النبي ﷺ في صحيح مسلم وغيره، { عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال لي رسول الله ﷺ: ناوليني الخمرة من المسجد فقلت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك } "، وعن ميمونة زوج النبي، قالت: { كان رسول الله ﷺ يضع رأسه في حجر إحدانا، يتلو القرآن وهي حائض، وتقوم إحدانا لخمرته إلى المسجد فتبسطها وهي حائض }، رواه النسائي، وقد روى أبو داود: من حديث عائشة عنه ﷺ أنه قال: " { لا أحل المسجد لجنب ولا حائض } "، رواه ابن ماجه من حديث أم سلمة، وقد تكلم في هذين الحديثين ولهذا ذهب أكثر العلماء كالشافعي، وأحمد، وغيرهما إلى الفرق بين المرور واللبث جمعا بين الأحاديث، ومنهم من منعها من اللبث والمرور: كأبي حنيفة، ومالك، ومنهم من لم يحرم المسجد عليها، وقد يستدلون على ذلك بقوله تعالى: { ولا جنبا إلا عابري سبيل }، وأباح أحمد وغيره اللبث لمن يتوضأ، لما رواه هو، وغيره عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله ﷺ يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضئوا وضوء الصلاة، وذلك والله أعلم أن المسجد بيت الملائكة والملائكة لا تدخل بيتا فيه جنب، كما جاء ذلك في السنن عن النبي ﷺ ولهذا نهى النبي ﷺ الجنب أن ينام حتى يتوضأ، وروى يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي عن عائشة: أنها كانت تقول: " إذا أصاب أحدكم المرأة ثم أراد أن ينام، فلا ينام حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، فإنه لا يدري لعل نفسه تصاب في نومه "، وفي حديث آخر: " فإنه إذا مات لم تشهد له الملائكة جنازته "، وقد أمر الجنب بالوضوء عند الأكل، والشرب، والمعاودة، وهذا دليل أنه إذا توضأ ذهبت الجنابة عن أعضاء الوضوء، فلا تبقى جنابته تامة، وإن كان قد بقي عليه بعض الحدث، كما أن الحدث الأصغر عليه حدث دون الجنابة، وإن كان حدثه فوق الحدث الأصغر فهو دون الجنب، فلا يمنع الملائكة عن شهوده، فلهذا ينام ويلبث في المسجد، وأما الحائض فحدثها دائم، لا يمكنها طهارة تمنعها عن الدوام، فهي معذورة في مكثها، ونومها، وأكلها، وغير ذلك، فلا تمنع مما يمنع منه الجنب مع حاجتها إليه، ولهذا كان أظهر قولي العلماء أنها لا تمنع من قراءة القرآن، إذا احتاجت إليه كما هو مذهب مالك، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد، فإنها محتاجة إليها، ولا يمكنها الطهارة، كما يمكن الجنب، وإن كان حدثها أغلظ من حدث الجنب من جهة أنها لا تصوم ما لم ينقطع الدم، والجنب يصوم، ومن جهة أنها ممنوعة من الصلاة طهرت أو لم تطهر، ويمنع الرجل من وطئها أيضا، فهذا يقتضي أن المقتضي للحظر في حقها أقوى، لكن إذا احتاجت إلى الفعل استباحت المحظور مع قيام سبب الحظر لأجل الضرورة، كما يباح سائر المحرمات مع الضرورة من الدم، والميتة، ولحم الخنزير، وإن كان ما هو دونها في التحريم لا يباح من غير حاجة، كلبس الحرير، والشرب في آنية الذهب والفضة، ونحو ذلك، وكذلك الصلاة إلى غير القبلة، مع كشف العورة، ومع النجاسة في البدن، والثوب، هي محرمة أغلظ من غيرها وتباح، بل تجب مع الحاجة، وغيرها وإن كان دونها في التحريم: كقراءة القرآن مع الحاجة لا يباح، وإذا قدر جنب استمرت به الجنابة، وهو يقدر على غسل، أو تيمم فهذا كالحائض في الرخصة، وإن كان هذا نادرا، وكما أمر النبي ﷺ الحيض أن يخرجن في العيد، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين، ويكبرن بتكبير الناس، وكذلك الحائض والنفساء، أمرهما النبي ﷺ بالإحرام والتلبية، وما فيهما من ذكر الله، وشهودهما عرفة مع الذكر والدعاء، ورمي الجمار، مع ذكر الله وغير ذلك، ولا يكره لها ذلك، بل يجب عليها، والجنب يكره له ذلك حتى يغتسل ; لأنه نادر على الطهارة بخلاف الحائض، فهذا أصل عظيم في هذه المسائل ونوعها، لا ينبغي أن ينظر إلى غلظ المفسدة المقتضية للحظر، أو لا ينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن، بل الموجبة للاستحباب أو الإيجاب، وكل ما يحرم معه الصلاة يجب معه عند الحاجة إذا لم يمكن الصلاة إلا كذلك، فإن الصلاة مع تلك الأمور أخف من

ترك الصلاة، فلو صلى بتيمم مع قدرته على استعمال الماء، لكانت الصلاة محرمة، ومع عجزه عن استعمال الماء كانت الصلاة بالتيمم واجبة بالوقت، وكذلك الصلاة عريانا، وإلى غير القبلة، ومع حصول النجاسة وبدون القراءة، وصلاة الفرض قاعدا أو بدون إكمال الركوع والسجود، وأمثال ذلك مما يحرم مع القدرة ويجب مع العجز، وكذلك أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير يحرم أكلها عند الغنى عنها، ويجب أكلها بالضرورة عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، قال مسروق: من اضطر فلم يأكل حتى مات دخل النار، وذلك لأنه أعان على نفسه بترك ما يقدر عليه من الأكل المباح له في هذه الحال، فصار بمنزلة من قتل نفسه، بخلاف المجاهد بالنفس، ومن تكلم بحق عند سلطان جائر، فإن ذلك قتل مجاهدا ففي قتله مصلحة لدين الله تعالى، وتعليل منع طواف الحائض بأنه لأجل حرمة المسجد، رأيته يعلل به بعض الحنفية، فإن مذهب أبي حنيفة أن الطهارة واجبة له، لا فرض فيه، ولا شرط له، ولكن هذا التعليل يناسب القول بأن طواف المحدث غير محرم، وهذا مذهب منصور بن المعتمر، وحماد بن أبي سليمان، رواه أحمد عنهما، قال عبد الله في مناسكه: حدثني أبي، حدثنا سهل بن يوسف، أنبأنا شعبة، عن حماد، ومنصور قال: سألتهما عن الراجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ ؟ فلم يريا به بأسا، قال عبد الله: سألت أبي عن ذلك فقال: أحب إلي أن يطوف بالبيت وهو غير متوضئ ; لأن الطواف صلاة، وأحمد عنه روايتان منصوصتان في الطهارة هل هي شرط في الطواف أم لا ؟ وكذلك وجوب الطهارة في الطواف كلامه فيها يقتضي روايتين، وكذلك قال بعض الحنفية إن الطهارة ليست واجبة في الطواف، بل سنة مع قوله إن في تركها دما، فمن قال: إن المحدث يجوز له أن يطوف، بخلاف الحائض والجنب، فإنه يمكنه تعليل المنع بحرمة المسجد، لا بخصوص الطواف ; لأن الطواف يباح فيه الكلام والأكل والشرب، فلا يكون كالصلاة ; ولأن الصلاة مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، والطواف ليس كذلك، ويقول: إنما منع العراة من ذلك لأجل نظر الناس، ولحرمة المسجد أيضا، ومن قال هذا، قال المطاف أشرف المساجد، لا يكاد يخلو من طائف، وقد قال الله تعالى: { خذوا زينتكم عند كل مسجد }، فأمر بأخذها عند دخول المسجد، وهذا بخلاف الصلاة، فإن المصلي عليه أن يستتر لنفس الصلاة، والصلاة تفعل في جميع البقاع، فلو صلى وحده في بيت مظلم لكان عليه أن يفعل ما أمر به من الستر للصلاة، بخلاف الطواف فإنه يشترط فيه المسجد الحرام، والاعتكاف يشترط فيه جنس المساجد، وعلى قول هؤلاء فلا يحرم طواف الجنب، والحائض، إذا اضطر إلى ذلك، كما لا يحرم عندهم الطواف على المحدث بحال ; لأنه لا يحرم عليهما دخول المسجد حينئذ، وهما إذا كانا مضطرين إلى ذلك أولى بالجواز من المحدث، الذي يجوزون له الطواف مع الحدث من غير حاجة، إلا أن المحدث منع من الصلاة ومس المصحف، مع قدرته على الطهارة، وذلك جائز للجنب مع التيمم، وإذا عجز عن التيمم صلى بلا غسل ولا تيمم في أحد قولي العلماء، وهو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، كما نقل أن الصحابة صلوا مع الجنابة قبل أن تنزل آية التيمم، والحائض نهيت عن الصوم فإنها ليست محتاجة إلى الصوم في الحيض، فإنه يمكنها أن تصوم شهرا آخر غير رمضان، فإذا كان المسافر والمريض مع إمكان صومهما جعل لهما أن يصوما شهرا آخر، فالحائض الممنوعة من ذلك أولى أن تصوم شهرا آخر، وإذا أمرت بقضاء الصوم، فلم تؤمر إلا بشهر واحد، فلم يجب عليها إلا ما يجب على غيرها، ولهذا لو استحاضت فإنها تصوم مع الاستحاضة، فإن ذلك لا يمكن الاحتراز عنه، إذ قد تستحيض وقت القضاء، وأما الصلاة فإنها تتكرر في كل يوم وليلة خمس مرات، والحيض مما يمنع الصلاة فلو قيل إنها تصلي مع الحيض لأجل الحاجة، لم يكن الحيض مانعا من الصلاة بحال، وكأن يكون الصوم والطواف بالبيت أعظم حرمة من الصلاة، وليس الأمر كذلك، بل كان من حرمة الصلاة أنها لا تصلي وقت الحيض، إذا كان لها في الصلاة أوقات الطهر غنية عن الصلاة وقت الحيض، وإذا كانت إنما منعت من الطواف لأجل المسجد، فمعلوم أن إباحة ذلك للعذر أولى من إباحة مس المصحف للعذر، ولو كان لها مصحف، ولم يمكنها حفظه إلا بمسه، مثل أن يريد أن يأخذه لص، أو كافر، أو ينهبه أحد، أو ينهبه منها، ولم يمكنها منعه إلا بمسه، لكان ذلك جائزا لها، مع أن المحدث لا يمس المصحف، ويجوز له الدخول في المسجد، فعلم أن حرمة المصحف أعظم من حرمة المسجد، وإذا أبيح لها مس المصحف للحاجة، فالمسجد الذي حرمته دون حرمة المصحف أولى بالإباحة .

مسألة: في الجبن الإفرنجي، والجوخ، هل هما مكروهان، أو قال أحد من الأئمة ممن يعتمد قوله إنهما نجسان، وأن الجبن يدهن بدهن الخنزير، وكذلك الجوخ ؟ الجواب: الحمد لله، أما الجبن المجلوب من بلاد الإفرنج، فالذين كرهوه ذكروا لذلك سببين: أحدهما: أنه يوضع بينه شحم الخنزير إذا حمل في السفن، والثاني: أنهم لا يذكون ما نصنع منه الإنفحة، بل يضربون رأس البقر ولا يذكونه، فأما الوجه الأول: فغايته أن ينجس ظاهر الجبن، فمتى كشط الجبن أو غسل طهر، فإن ذلك ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ { سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم }، فإذا كان ملاقاة الفأرة للسمن لا توجب نجاسة جميعه، فكيف تكون ملاقات الشحم النجس للجبن توجب نجاسة باطنه، ومع هذا فإنما يجب إزالة ظاهره إذا تيقن إصابة النجاسة له، وأما مع الشك فلا يجب ذلك، وأما الوجه الثاني: فقد علم أنه ليس كل ما يعقرونه من الأنعام يتركون ذكاته، بل قد قيل: إنهم إنما يفعلون هذا بالبقر، وقيل: إنهم يفعلون ذلك حتى يسقط، ثم يذكونه، ومثل هذا لا يوجب تحريم ذبائحهم، بل إذا اختلط

الحرام بالحلال في عدد لا ينحصر، كاختلاط أخته بأهل بلد، واختلاط الميتة والمغصوب بأهل بلدة، لم يوجب ذلك تحريم ما في البلد، كما إذا اختلطت الأخت بالأجنبية والمذكى بالميت، فهذا القدر المذكور لا يوجب تحريم ذبائحهم المجهولة الحال، وبتقدير أن يكون الجبن مصنوعا من إنفحة ميتة، فهذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء: أحدهما: أن ذلك مباح طاهر كما هو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، والثاني: أنه حرام نجس كقول مالك، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى والخلاف مشهور في لبن الميتة وإنفحتها، هل هو طاهر أم نجس والمطهرون احتجوا بأن الصحابة أكلوا جبن المجوس مع كون ذبائحهم ميتة، ومن خالفهم نازعهم كما هو مذكور في موضع آخر، وأما الجوخ فقد حكى بعض الناس أنهم يدهنونه بشحم الخنزير، وقال بعضهم: إنه ليس يفعل هذا به كله، فإذا وقع الشك في عموم نجاسة الجوخ لم يحكم بنجاسة لعينه، لإمكان أن تكون النجاسة لم تصبها، إذ العين طاهرة، ومتى شك في نجاستها فالأصل الطهارة، ولو تيقنا نجاسة بعض أشخاص نوع دون بعض لم نحكم بنجاسة جميع أشخاصه، ولا بنجاسة ما شككنا في تنجسه، ولكن إذا تيقن النجاسة أو قصد قاصد إزالة الشك، فغسل الجوخة يطهرها، فإن ذلك صوف أصابه دهن نجس، وإصابة البول والدم لثوب القطن والكتان أشد، وهو به ألصق، وقد قال النبي ﷺ لمن أصاب دم الحيض ثوبها: { حتيه ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء } وفي رواية: { ولا يضرك أثره }، والله أعلم .

ومن ظن أن الصلاة بعد خروج الوقت بالماء خير من الصلاة في الوقت بالتيمم فهو ضال جاهل، وإذا استيقظ آخر وقت الفجر فإذا اغتسل طلعت الشمس، فجمهور العلماء هنا يقولون: يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وأحد القولين في مذهب مالك، وقال في القول الآخر: بل يتيمم أيضا هنا ويصلي قبل طلوع الشمس كما تقدم في تلك المسائل، لأن الصلاة في الوقت بالتيمم خير من الصلاة بعده بالغسل، والصحيح قول الجمهور ; لأن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، كما قال النبي ﷺ: { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها }، فالوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، وما قبل ذلك لم يكن وقتا في حقه، وإذا كان كذلك فإذا استيقظ قبل طلوع الشمس فلم يمكنه الاغتسال والصلاة إلا بعد طلوعها فقد صلى الصلاة في وقتها ولم يفوتها ; بخلاف من استيقظ في أول الوقت فإن الوقت في حقه قبل طلوع الشمس، فليس له أن يفوت الصلاة، وكذلك من نسي صلاة وذكرها فإنه حينئذ يغتسل ويصلي في أي وقت كان، وهذا هو الوقت في حقه، فإذا لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، كما استيقظ أصحاب النبي ﷺ لما ناموا عن الصلاة عام خيبر، فإنه يصلي بالطهارة الكاملة، وإن أخرها إلى حين الزوال، فإذا قدر أنه كان جنبا فإنه يدخل الحمام ويغتسل وإن أخرها إلى قريب الزوال، ولا يصلي هنا بالتيمم، ويستحب له أن ينتقل عن المكان الذي نام فيه، كما انتقل النبي ﷺ وأصحابه عن المكان الذي ناموا فيه، وقال: { هذا مكان حضرنا فيه الشيطان }، وقد نص على ذلك أحمد وغيره، وإن صلى فيه جازت صلاته، فإن قيل: هذا يسمى قضاء أو أداء ؟ قيل: الفرق بين اللفظين هو فرق اصطلاحي ; لا أصل له في كلام الله ورسوله ; فإن الله تعالى سمى فعل العبادة في وقتها قضاء، كما قال في الجمعة: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } وقال تعالى: { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله } مع أن هذين يفعلان في الوقت، " والقضاء " في لغة العرب: هو إكمال الشيء وإتمامه، كما قال تعالى: { فقضاهن سبع سماوات } أي: أكملهن وأتمهن، فمن فعل العبادة كاملة فقد قضاها، وإن فعلها في وقتها، وقد اتفق العلماء فيما أعلم على أنه لو اعتقد بقاء وقت الصلاة فنواها أداء، ثم تبين أنه صلى بعد خروج الوقت صحت صلاته، ولو اعتقد خروجه فنواها قضاء ثم تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته .

- مسألة: في أقوام يؤخرون صلاة الفجر إلى بعد طلوع الشمس فتكون لهم أشغال كالزرع والحرث والجنابة وغير ذلك، فهل لهم أن يؤخروا الصلاة إلى غير وقتها ثم يقضوها ؟ الجواب: لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل ولا يؤخر صلاة الليل إلى النهار، لشغل من الأشغال لا لحصد ولا لحرث ولا لصناعة ولا لغير ذلك، ولا لجنابة ولا نجاسة، بل المسلمون كلهم متفقون على أن عليه أن يصلي الظهر والعصر في النهار، ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس، ولا يترك ذلك لصناعة من الصناعات، ومن أخرها لصناعة حتى تغيب الشمس وجبت عقوبته، بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب، فإن تاب والتزم أن يصلي في الوقت ألزم بذلك، وإن قال: لا أصلي إلا بعد غروب الشمس فإنه يقتل، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله }، وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: { من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله } وفي وصية أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب أنه قال: " إن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وحقا بالنهار لا يقبله بالليل "، والنبي ﷺ أخر صلاة العصر يوم الخندق لاشتغاله بجهاد الكفار، وصلاها بعد المغرب فأنزل الله تعالى: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى }، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ: { أن الصلاة الوسطى صلاة العصر }، فلهذا قال جمهور العلماء: إن ذلك التأخير منسوخ بهذه الآية، فلا يجوزون تأخير الصلاة حال القتال، بل أوجبوا عليه الصلاة في الوقت حال القتال، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، وعن أحمد رواية أخرى أنه يخير حال القتال بين الصلاة وبين التأخير، ومذهب أبي حنيفة يشتغل بالقتال ويصلي بعد الوقت .

وأما تأخير الصلاة لغير الجهاد كصناعة أو زراعة أو صيد أو عمل من الأعمال ونحو ذلك فلا يجوزه أحد من العلماء بل قد قال تعالى: { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } قال طائفة من السلف: هم الذين يؤخرونها عن وقتها وقال بعضهم: هم الذي لا يؤدونها على الوجه المأمور به وإن صلاها في الوقت، فتأخيرها عن الوقت حرام باتفاق العلماء فإن العلماء متفقون على أن تأخير صلاة الليل إلى النهار، وتأخير صلاة النهار إلى الليل، بمنزلة تأخير صيام شهر رمضان إلى شوال، فمن قال: أصلي الظهر والعصر بالليل، فهو باتفاق العلماء بمنزلة من قال: أفطر شهر رمضان وأصوم شوالا، وإنما يعذر بالتأخير النائم والناسي، كما قال النبي ﷺ: { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها، لا كفارة لها إلا ذلك } . ولكن يجوز للعذر الجمع بين صلاتي النهار، وبين صلاتي الليل عند أكثر العلماء، فيجوز الجمع للمسافر إذا جد به السير عند مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا يجوز في الرواية الأخرى عنه، وهو قول أبي حنيفة وفعل الصلاة في وقتها أولى من الجمع إذا لم يكن عليه حرج بخلاف القصر، فإن صلاته ركعتين أفضل من صلاة أربع عند جماهير العلماء، فلو صلى المسافر أربعا فهل تجزئه صلاته ؟ على قولين، { والنبي ﷺ كان في جميع أسفاره يصلي ركعتين، ولم يصل في السفر أربعا قط } ولا أبو بكر ولا عمر، وأما الجمع فإنما كان يجمع بعض الأوقات إذا جد به السير، وكان له عذر شرعي، كما جمع بعرفة ومزدلفة وكان يجمع في غزوة تبوك أحيانا، كان إذا ارتحل قبل الزوال أخر الظهر إلى العصر، ثم صلاهما جميعا وهذا ثابت في الصحيح، وأما إذا ارتحل بعد الزوال فقد روي أنه كان صلى الظهر والعصر جميعا كما جمع بينهما بعرفة، وهذا معروف في السنن وهذا إذا كان لا ينزل إلى وقت المغرب، كما كان بعرفة لا يفيض حتى تغرب الشمس، وأما إذا كان ينزل وقت العصر فإنه يصليها في وقتها فليس القصر كالجمع، بل القصر سنة راتبة، وأما الجمع فإنه رخصة عارضة .

مسألة: فيمن يقرأ القرآن وما عنده أحد يسأله عن اللحن إلخ ؟ وإذا وقف على شيء يطلع في المصحف هل يلحقه إثم أم لا ؟ الجواب: إن احتاج إلى قراءة القرآن قرأه بحسب الإمكان، ورجع إلى المصحف فيما يشكل عليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا يترك ما يحتاج إليه وينتهي به من القراءة، لأجل ما يعرض من الغلط أحيانا، إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة، والله أعلم .

وقد اتفقوا جميعهم أن الخمر إذا استحالت بفعل الله سبحانه فصارت خلا طهرت، وثبت ذلك عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، فسائر الأعيان إذا انقلبت يقيسونها على الخمر المنقلبة، ومن فرق بينهما يعتذر بأن الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة ; لأن العصير كان طاهرا فلما استحال خمرا نجس، فإذا استحال خلا طهر، وهذا قول ضعيف ; فإن جميع النجاسات إنما نجست أيضا بالاستحالة ; فإن الطعام والشراب يتناوله الحيوان طاهرا في حال الحياة ثم يموت فينجس، وكذلك الخنزير والكلب والسباع أيضا عند من يقول بنجاستها إنما خلقت من الماء والتراب الطاهرين، وأيضا فإن هذا الخل والملح ونحوهما أعيان طيبة طاهرة، داخلة في قوله تعالى: { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فللمحرم المنجس لها أن يقول: إنه حرمها لكونها داخلة في المنصوص، أو لكونها في معنى الداخلة فيه، فكلا الأمرين منتف ; فإن النص لا يتناولها، ومعنى النص الذي هو الخبث منتف فيها، ولكن كان أصلها نجسا، وهذا لا يضر، فإن الله يخرج الطيب من الخبيث، ويخرج الخبيث من الطيب، ولا ريب أن هذا القول أقوى في الحجة نصا وقياسا، وعلى ما تقدم ذكره ينبني طهارة المقابر، فإن القائلين بنجاسة المقبرة العتيقة، يقولون: إنه خالط التراب صديد الموتى ونحوه، واستحال عن ذلك، فينجسونه، وأما على قول الاستحالة وغيره من الأقوال فلا يكون التراب نجسا، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من أن { مسجد رسول الله ﷺ كان حائطا لبني النجار، وكان فيه قبور المشركين، وخرب، ونخل، فأمر النبي ﷺ بالقبور فنبشت، وبالنخل فقطعت، وبالخرب فسويت، وجعل قبلة للمسجد } فهذا كان مقبرة للمشركين، ثم إن النبي ﷺ لما أمر بنبشهم لم يأمر بنقل التراب، الذي لاقاهم، وغيره من تراب المقبرة، ولا أمر بالاحتراز من العذرة ; وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، لكن الغرض التنبيه على أن ما عليه أكثر أهل الوسواس من توقي الأرض وتنجيسها باطل بالنص، وإن كان بعضه فيه نزاع، وبعضه باطل بالإجماع، أو غيره من الأدلة الشرعية، الوجه الثاني: أن هؤلاء يفترش أحدهم السجادة على مصليات المسلمين من الحصر والبسط، ونحو ذلك، مما يفرش في المساجد، فيزدادون بدعة على بدعتهم، وهذا الأمر لم يفعله أحد من السلف، ولم ينقل عن النبي ﷺ ما يكون شبهة لهم، فضلا عن أن يكون دليلا ; بل يعللون أن هذه الحصر يطؤها عامة الناس، ولعل أحدهم أن يكون قد رأى أو سمع أنه بعض الأوقات بال صبي، أو غيره على بعض حصر المسجد، أو رأى عليه شيئا من ذرق الحمام، أو غيره، فيصير ذلك حجة في الوسواس، وقد علم بالتواتر أن المسجد الحرام ما زال يطأ عليه المسلمون على عهد رسول الله ﷺ وعهد خلفائه، وهناك من الحمام ما ليس بغيره، ويمر بالمطاف من الخلق ما لا يمر بمسجد من المساجد، فتكون هذه الشبهة التي ذكرتموها أقوى، ثم إنه لم يكن النبي ﷺ وخلفاؤه وأصحابه يصلي هناك على حائل، ولا يستحب ذلك، فلو كان هذا مستحبا كما زعمه هؤلاء لم يكن النبي ﷺ وخلفاؤه وأصحابه متفقين على ترك المستحب، الأفضل، ويكون هؤلاء أطوع لله وأحسن عملا من النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه، فإن هذا خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع، وأيضا فقد كانوا يطئون مسجد رسول الله ﷺ بنعالهم وخفافهم، ويصلون فيه مع قيام هذا

الاحتمال، ولم يستحب لهم هذا الاحتراز الذي ابتدعه هؤلاء، فعلم خطؤهم في ذلك، وقد يفرقون بينهما بأن يقولوا: الأرض تطهر بالشمس والريح والاستحالة، دون الحصير، فيقال: هذا إذا كان حقا فإنما هو من النجاسة المخففة، وذلك يظهر بالوجه الثالث، وهو: أن النجاسة لا يستحب البحث عما لم يظهر منها، ولا الاحتراز عما ليس عليه دليل ظاهر، لاحتمال وجوده، فإن كان قد قال طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: إنه يستحب الاحتراز عن الشكوك فيه مطلقا، فهو قول ضعيف، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أنه مر هو وصاحب له بمكان، فسقط على صاحبه ماء من ميزاب، فنادى صاحبه: يا صاحب الميزاب، أماؤك طاهر أم نجس ؟ فقال له عمر: يا صاحب الميزاب، لا تخبره، فإن هذا ليس عليه " فنهى عمر عن إخباره ; لأنه تكلف من السؤال ما لم يؤمر به، وهذا قد ينبني على أصل، وهو: أن النجاسة إنما يثبت حكمها مع العلم، فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة لم تجب عليه الإعادة في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره، وأحمد في أقوى الروايتين، وسواء كان علمها ثم نسيها ; أو جهلها ابتداء، لما تقدم من أن النبي ﷺ صلى في نعليه ثم خلعهما في أثناء الصلاة، لما أخبره جبريل أن بهما أذى، ومضى في صلاته، ولم يستأنفها، مع كون ذلك موجودا في أول الصلاة، لكن لم يعلم به، فتكلفه للخلع في أثنائها، مع أنه لولا الحاجة لكان عبثا أو مكروها يدل على أنه مأمور به من اجتناب النجاسة مع العلم ; ومظنة تدل على العفو عنها في حال عدم العلم بها، وقد روى أبو داود أيضا عن { أم جحدر العامرية أنها سألت عائشة عن دم الحيض يصيب الثوب، فقالت: كنت مع رسول الله ﷺ وعلينا شعارنا ; وقد ألقينا فوقه كساء، فلما أصبح رسول الله أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى الغداة ثم جلس، فقال رجل: يا رسول الله، هذه لمعة من دم، فقبض رسول الله ﷺ ما يليها، فبعث بها إلي مصرورة في يد غلام، فقال: اغسلي هذا، وأجفيها، وأرسلي بها إلي، فدعوت بقصعتي فغسلتها، ثم أجففتها فأعدتها إليه، فجاء رسول الله ﷺ نصف النهار وهي عليه }، وفي هذا الحديث لم يأمر المأمومين بالإعادة، ولا ذكر لهم أنه يعيد، وأن عليه الإعادة، ولا ذكرت ذلك عائشة، وظاهر هذا أنه لم يعد، ولأن النجاسة من باب المنهي عنه في الصلاة، وباب المنهي عنه معفو فيه عن المخطئ والناسي، كما قال في دعاء الرسول والمؤمنين: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: أن الله استجاب هذا الدعاء، ولأن الأدلة الشرعية دلت على أن الكلام ونحوه من مبطلات الصلاة يعفى فيها عن الناسي والجاهل، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وقد دل على ذلك حديث ذي اليدين ونحوه، وحديث معاوية بن الحكم السلمي لما شمت العاطس في الصلاة، وحديث ابن مسعود المتفق عليه في التشهد لما كانوا يقولون أولا: السلام على الله قبل عباده، فنهاهم عن ذلك، وقال: إن الله هو السلام، وأمرهم بالتشهد المشهور، ولم يأمرهم بالإعادة، وكذلك حديث الأعرابي الذي قال في دعائه: اللهم ارحمني وارحم محمدا، ولا ترحم معنا أحدا، وأمثال ذلك، فهذا ونحوه مما يبين أن الأمور المنهي عنها في الصلاة وغيرها يعفى فيها عن الناسي والمخطئ، ونحوهما، من هذا الباب، وإذا كان كذلك: فإذا لم يكن عالما بالنجاسة صحت صلاته باطنا وظاهرا، فلا حاجة به حينئذ عن السؤال عن أشياء إن أبديت ساءته، قد عفا الله عنها، وهؤلاء قد يبلغ الحال بأحدهم إلى أن يكره الصلاة إلا على سجادة ; بل قد جعل الصلاة على غيرها محرما، فيمتنع منه امتناعه من المحرم، وهذا فيه مشابهة لأهل الكتاب الذين كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم ; فإن الذي لا يصلي إلا على ما يصنع للصلاة من المفارش شبيه بالذي لا يصلي إلا فيما يصنع للصلاة من الأماكن، وأيضا فقد يجعلون ذلك من شعائر أهل الدين، فيعدون ترك ذلك من قلة الدين، ومن قلة الاعتناء بأمر الصلاة، فيجعلون ما ابتدعوه من الهدي الذي ما أنزل به من سلطان أكمل من هدي محمد ﷺ وأصحابه، وربما تظاهر أحدهم بوضع السجادة على منكبه، وإظهار المسابح في يده، وجعله من شعار الدين والصلاة، وقد علم بالنقل المتواتر أن النبي ﷺ وأصحابه لم يكن هذا شعارهم، وكانوا يسبحون ويعقدون على أصابعهم، كما جاء في الحديث: { اعقدن بالأصابع فإنهن مسئولات، مستنطقات } وربما عقد أحدهم التسبيح بحصى أو نوى، والتسبيح بالمسابح من الناس من كرهه، ومنهم من رخص فيه، لكن لم يقل أحد: إن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع ، وغيرها، وإذا كان هذا مستحبا يظهر فقصد إظهار ذلك والتميز به على الناس مذموم، فإنه إن لم يكن رياء فهو تشبه بأهل الرياء، إذ كثير ممن يصنع هذا يظهر منه الرياء ولو كان رياء بأمر مشروع لكانت إحدى المصيبتين ; لكنه رياء ليس مشروعا، وقد قال تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا }، قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه ؟ وأصوبه ؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وهذا الذي قاله الفضيل متفق عليه بين المسلمين، فإنه لا بد له في العمل أن يكون مشروعا مأمورا به، وهو العمل الصالح، ولا بد أن يقصد به وجه الله، كما قال تعالى: { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: " اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا "، ومنه قوله تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }، وقال تعالى) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا }، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: { يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري فإني منه بريء، وهو كله للذي أشرك به }، وفي السنن عن العرباض بن سارية قال: { وعظنا رسول الله ﷺ موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا ؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة }، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: { من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد } وفي لفظ { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد }، وفي صحيح مسلم عن { جابر أن رسول الله ﷺ كان يقول في خطبته: إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (

سئل: عن رجل قال: إذا دعا العبد لا يقول: يا الله يا رحمن ؟ فأجاب: الحمد لله، لا خلاف بين المسلمين أن العبد إذا دعا ربه يقول: يا الله، يا رحمن، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، كما قال تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى }، وكان النبي ﷺ { يقول في دعائه يا الله يا رحمن فقال المشركون: محمد ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين، فقال الله تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } }، أي المدعو إله واحد، وإن تعددت أسماؤه، كما قال تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه }، ومن أنكر أن يقال: يا الله يا رحمن، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، والله أعلم .

مسألة: في رجل: إذا سلم عن يمينه يقول: السلام عليكم ورحمة الله، أسألك الفوز بالجنة، وعن شماله: السلام عليكم، أسألك النجاة من النار، فهل هذا مكروه أم لا ؟ فإن كان مكروها، فما الدليل على كراهته ؟ الجواب: الحمد لله، نعم، يكره هذا ; لأن هذا بدعة، فإن هذا لم يفعله رسول الله ﷺ، ولا استحبه أحد من العلماء وهو إحداث دعاء في الصلاة في غير محله، يفصل بأحدهما بين التسليمتين، ويصل التسليمة بالآخر، وليس لأحد فصل الصفة المشروعة بمثل هذا، كما لو قال: سمع الله لمن حمده أسألك الفوز بالجنة، ربنا ولك الحمد أسألك النجاة من النار، وأمثال ذلك، والله أعلم .

مسألة: فيمن يقول: أنا أعتقد أن من أحدث شيئا من الأذكار غير ما شرعه رسول الله ﷺ وصح عنه أنه قد أساء وأخطأ، إذ لو ارتضى أن يكون رسول الله نبيه وإمامه ودليله لاكتفى بما صح عنه من الأذكار، فعدوله إلى رأيه واختراعه جهل، وتزيين من الشيطان، وخلاف للسنة إذ الرسول ﷺ لم يترك خيرا إلا دلنا عليه وشرعه لنا، ولم يدخر الله عنه خيرا ; بدليل إعطائه خير الدنيا والآخرة ; إذ هو أكرم الخلق على الله فهل الأمر كذلك أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف، والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان، وما سواها من الأذكار قد يكون محرما، وقد يكون مكروها، وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدي إليه أكثر الناس، وهي جملة يطول تفصيلها، وليس لأحد أن يسن للناس نوعا من الأذكار والأدعية غير المسنون ويجعلها عبادة راتبة يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس ; بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به ; بخلاف ما يدعو به المرء أحيانا من غير أن يجعله للناس سنة، فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معنى محرما لم يجز الجزم بتحريمه ; لكن قد يكون فيه ذلك، والإنسان لا يشعر به، وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت، فهذا وأمثاله قريب، وأما اتخاذ ورد غير شرعي، واستنان ذكر غير شرعي: فهذا مما ينهى عنه، ومع هذا ففي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة، ونهاية المقاصد العلية، ولا يعدل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مفرط أو متعد .

-مسألة: في الدعاء عقيب الصلاة هل هو سنة أم لا ؟ ومن أنكر على إمام لم يدع عقيب صلاة العصر هل هو مصيب أم مخطئ ؟ الجواب: الحمد لله، لم يكن النبي ﷺ يدعو هو والمأمومون عقيب الصلوات الخمس، كما يفعله بعض الناس عقيب الفجر والعصر ; ولا نقل ذلك عن أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة، ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، وكذلك أحمد وغيره من الأئمة لم يستحبوا ذلك، ولكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر، قالوا: لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما، فتعوض بالدعاء عن الصلاة، واستحب طائفة أخرى من أصحاب الشافعي وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه، ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء، فإن هذا ليس مأمورا به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب، في هذا الموطن، والمنكر على التارك أحق بالإنكار منه ; بل الفاعل أحق بالإنكار، فإن المداومة على ما لم يكن النبي ﷺ يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعا ; بل مكروه، كما لو داوم على الدعاء قبل الدخول في الصلوات، أو داوم على القنوت في الركعة الأولى، أو في الصلوات الخمس، أو داوم على الجهر بالاستفتاح في كل صلاة، ونحو ذلك، فإنه مكروه، وإن كان القنوت في الصلوات الخمس قد فعله النبي ﷺ أحيانا، وقد كان عمر يجهر بالاستفتاح أحيانا، وجهر رجل خلف النبي ﷺ بنحو ذلك، فأقره عليه، فليس كل ما يشرع فعله أحيانا تشرع المداومة عليه، ولو دعا الإمام والمأموم أحيانا عقيب الصلاة لأمر عارض لم يعد هذا مخالفا للسنة، كالذي يداوم على ذلك، والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي ﷺ كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام، ويأمر بذلك، كما قد بسطنا الكلام على ذلك، وذكرنا ما في ذلك من الأحاديث، وما يظن أن فيه حجة للمنازع في غير هذا الموضع ; وذلك لأن المصلي يناجي ربه، فإذا سلم انصرف عن مناجاته، ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذي يناسب، دون سؤاله بعد انصرافه، كما أن من كان يخاطب ملكا أو غيره فإن سؤاله وهو مقبل على مخاطبته، أولى من سؤاله له بعد انصرافه .

-مسألة: في قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة في جماعة، هل هي مستحبة أم لا ؟ وما كان فعل النبي ﷺ في الصلاة ؟ وقوله: " دبر كل صلاة " ؟ الجواب: الحمد لله، قد روي في قراءة آية الكرسي عقيب الصلاة حديث، لكنه ضعيف، ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها، فلا يمكن أن يثبت به حكم شرعي، ولم يكن النبي ﷺ وأصحابه وخلفاؤه يجهرون بعد الصلاة بقراءة آية الكرسي، ولا غيرها من القرآن، فجهر الإمام والمأموم بذلك، والمداومة عليها بدعة مكروهة بلا ريب، فإن ذلك إحداث شعار، بمنزلة أن يحدث آخر جهر الإمام والمأمومين بقراءة الفاتحة دائما، أو خواتيم البقرة، أو أول الحديد، أو آخر الحشر، أو بمنزلة اجتماع الإمام والمأموم دائما على صلاة ركعتين عقيب الفريضة، ونحو ذلك مما لا ريب أنه من البدع، وأما إذا قرأ الإمام آية الكرسي في نفسه، أو قرأها أحد المأمومين فهذا لا بأس به إذ قراءتها عمل صالح، وليس في ذلك تغيير لشعائر الإسلام، كما لو كان له ورد من القرآن والدعاء والذكر عقيب الصلاة، وأما الذي ثبت في فضائل الأعمال في الصحيح عن النبي ﷺ من الذكر عقيب الصلاة، ففي الصحيح عن المغيرة بن شعبة { أنه كان يقول دبر كل صلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد }، وفي الصحيح أيضا عن ابن الزبير { أنه كان يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون } وثبت في الصحيح أنه قال: { من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين، وذلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر }، وقد روي في الصحيحين أنه يقول: كل واحد خمسة وعشرين، ويزيد فيها التهليل، وروي أنه يقول كل واحد عشر، ويروى أحد عشر مرة، وروي أنه يكبر أربعا وثلاثين، وعن ابن عباس { أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله ﷺ قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته، وفي لفظ: ما كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله إلا بالتكبير }، فهذه هي الأذكار التي جاءت بها السنة في أدبار الصلاة .

-مسألة: فيما إذا أحدث المصلي قبل السلام ؟ الجواب: إذا أحدث المصلي قبل السلام بطلت، مكتوبة كانت أو غير مكتوبة .
-مسألة: في رجل ضحك في الصلاة، فهل تبطل صلاته أم لا ؟، الجواب: أما التبسم فلا يبطل الصلاة، وأما إذا قهقه في الصلاة فإنها تبطل، ولا ينتقض وضوءه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد ; لكن يستحب له أن يتوضأ في أقوى الوجهين، لكونه أذنب ذنبا، وللخروج من الخلاف، فإن مذهب أبي حنيفة ينتقض وضوءه، والله أعلم .

مسألة: في هذا الذي يفعله الناس بعد كل صلاة من الدعاء: هل هو مكروه ؟ وهل ورد عن أحد من السلف فعل ذلك ؟ ويتركون أيضا الذكر الذي صح أن النبي ﷺ كان يقوله، ويشتغلون بالدعاء ؟ فهل [ الأفضل ] الاشتغال بالذكر الوارد عن النبي ﷺ أو هذا الدعاء ؟ وهل صح أن النبي ﷺ كان يرفع يديه ويمسح وجهه أم لا ؟، الجواب: الحمد لله رب العالمين، الذي نقل عن النبي ﷺ من ذلك بعد الصلاة المكتوبة إنما هو الذكر المعروف، كالأذكار التي في الصحاح، وكتب السنن والمساند، وغيرها، مثل ما في الصحيح: { أنه كان قبل أن ينصرف من الصلاة يستغفر ثلاثا، ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام }، وفي الصحيح { أنه كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد }، وفي الصحيح { أنه كان يهلل هؤلاء الكلمات في دبر المكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون }، وفي الصحيح { أن رفع الصوت بالتكبير عقيب انصراف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله ﷺ وأنهم كانوا يعرفون انقضاء صلاة رسول الله ﷺ بذلك }، وفي الصحيح أنه قال: { من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير: غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر }، وفي الصحيح أيضا أنه يقول: { سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثا وثلاثين }، وفي السنن أنواع أخر، والمأثور ستة أنواع: أحدها: أنه يقول: هذه الكلمات عشرا عشرا: فالمجموع ثلاثون، والثاني: أن يقول: كل واحدة إحدى عشرة، فالمجموع ثلاث وثلاثون، والثالث: أن يقول: كل واحدة ثلاثا وثلاثين، فالمجموع تسع وتسعون، والرابع: أن يختم ذلك بالتوحيد التام، فالمجموع مائة، والسادس: أن يقول كل واحد من الكلمات الأربع خمسا وعشرين، فالمجموع مائة، وأما قراءة آية الكرسي فقد رويت بإسناد لا يمكن أن يثبت به سنة، وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبي ﷺ ولكن نقل عنه { أنه أمر معاذا أن يقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك } ونحو ذلك، ولفظ دبر الصلاة قد يراد به آخر جزء من الصلاة، كما يراد بدبر الشيء مؤخره، وقد يراد به ما بعد انقضائها، كما في قوله تعالى: { وأدبار السجود } وقد يراد به مجموع الأمرين، وبعض الأحاديث يفسر بعضا لمن تتبع ذلك وتدبره، وبالجملة فهنا شيئان: أحدهما: دعاء المصلي المنفرد، كدعاء المصلي صلاة الاستخارة، وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلي وحده، إماما كان أو مأموما، والثاني: دعاء الإمام والمأمومين جميعا، فهذا الثاني لا ريب أن النبي ﷺ لم يفعله في أعقاب المكتوبات، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه، إذ لو فعل ذلك لنقله عنه أصحابه، ثم التابعون، ثم العلماء، كما نقلوا ما هو دون ذلك ; ولهذا كان العلماء المتأخرون في هذا الدعاء على أقوال: منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبي حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم، ولم يكن معهم في ذلك سنة يحتجون بها، وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما، ومنهم: من استحبه أدبار الصلوات كلها، وقال: لا يجهر به، إلا إذا قصد التعليم، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعي، وغيرهم وليس معهم في ذلك سنة، إلا مجرد كون الدعاء مشروعا، وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة، وهذا الذي ذكروه قد اعتبره الشارع في صلب الصلاة، فالدعاء في آخرها قبل الخروج مشروع مسنون بالسنة المتواترة، وباتفاق المسلمين، بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء في آخرها واجب، وأوجبوا الدعاء الذي أمر به النبي ﷺ آخر الصلاة بقوله: { إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال } رواه مسلم، وغيره، وكان طاوس يأمر من لم يدع به أن يعيد الصلاة، وهو قول بعض أصحاب أحمد، وكذلك في حديث ابن مسعود: { ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه } وفي حديث عائشة وغيرها أنه كان يدعو في هذا الموطن، والأحاديث بذلك كثيرة، والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة، فإن المصلي يناجي ربه، فما دام في الصلاة لم ينصرف فإنه يناجي ربه، فالدعاء حينئذ مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله لم يكن موطن مناجاة له، ودعاء، وإنما هو موطن ذكر له، وثناء عليه، فالمناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه في الصلاة، أما حال الانصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى، وكما أن من العلماء من استحب عقب الصلاة من الدعاء ما لم ترد به السنة: فمنهم طائفة تقابل هذه لا يستحبون القعود المشروع بعد الصلاة، ولا يستعملون الذكر المأثور، بل قد يكرهون ذلك، وينهون عنه، فهؤلاء مفرطون بالنهي عن المشروع، وأولئك مجاوزون الأمر بغير المشروع، والدين إنما هو الأمر بالمشروع دون غير المشروع، وأما رفع النبي ﷺ يديه في الدعاء: فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث، أو حديثان، لا يقوم بهما حجة، والله أعلم .

-مسألة: فيما إذا قرأ القرآن، ويعد في الصلاة بسبحة، هل تبطل صلاته أم لا ؟، الجواب: إن كان المراد بهذا السؤال أن يعد الآيات، أو يعد تكرار السورة الواحدة، مثل قوله: { قل هو الله أحد } بالسبحة فهذا لا بأس به، وإن أريد بالسؤال شيء آخر، فليبينه، والله أعلم .

- مسألة: في النحنحة، والسعال، والنفخ، والأنين، وما أشبه ذلك في الصلاة: فهل تبطل بذلك أم لا ؟ وأي شيء الذي تبطل الصلاة به من هذا أو غيره ؟ وفي أي مذهب ؟ وأيش الدليل على ذلك ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، الأصل في هذا الباب أن النبي ﷺ قال: { إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين }، وقال: { إن الله يحدث من أمره ما يشاء، ومما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة } قال زيد بن أرقم: فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، وهذا مما اتفق عليه المسلمون، قال ابن المنذر وأجمع أهل العلم: على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها أن صلاته فاسدة، والعامد من يعلم أنه في صلاة، وأن الكلام محرم، قلت: وقد تنازع العلماء في الناسي والجاهل والمكره والمتكلم لمصلحة الصلاة، وفي ذلك كله نزاع في مذهب أحمد وغيره من العلماء، إذا عرف ذلك فاللفظ على ثلاث درجات، أحدها: أن يدل على معنى بالوضع إما بنفسه، وإما مع لفظ غيره، كفي، وعن، فهذا الكلام مثل: يد، ودم، وفم، وخذ، الثاني: أن يدل على معنى بالطبع كالتأوه، والأنين، والبكاء ونحو ذلك .

الثالث: أن لا يدل على معنى لا بالطبع ولا بالوضع، كالنحنحة فهذا القسم كان أحمد يفعله في صلاته، وذكر أصحابه عنه روايتين في بطلان الصلاة بالنحنحة، فإن قلنا: تبطل، ففعل ذلك لضرورة فوجهان، فصارت الأقوال فيها ثلاثة: أحدها: أنها لا تبطل بحال، وهو قول أبي يوسف، وإحدى الروايتين عن مالك ; بل ظاهر مذهبه، والثاني: تبطل بكل حال، وهو قول الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد ومالك، والثالث: إن فعله لعذر لم تبطل وإلا بطلت، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وغيرهما، وقالوا: إن فعله لتحسين الصوت وإصلاحه، لم تبطل، قالوا: لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرا، فرخص فيه للحاجة، ومن أبطلها قال: إنه يتضمن حرفين، وليس من جنس أذكار الصلاة، فأشبه القهقهة، والقول الأول أصح، وذلك أن النبي ﷺ إنما حرم التكلم في الصلاة، وقال: { إنه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين } وأمثال ذلك من الألفاظ، التي تتناول الكلام، والنحنحة لا تدخل في مسمى الكلام أصلا، فإنها لا تدل بنفسها، ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى، ولا يسمى فاعلها متكلما وإنما يفهم مراده بقرينة، فصارت كالإشارة. وأما القهقهة ونحوها ففيها جوابان: أحدهما: أن تدل على معنى بالطبع، والثاني: أنا لا نسلم أن تلك أبطلت لأجل كونها كلاما، يدل على ذلك أن القهقهة تبطل بالإجماع، ذكره ابن المنذر، وهذه الأنواع فيها نزاع، بل قد يقال: إن القهقهة فيها أصوات عالية تنافي حال الصلاة، وتنافي الخشوع الواجب في الصلاة، فهي كالصوت العالي الممتد، الذي لا حرف معه، وأيضا فإن فيها من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما يناقض مقصودها، فأبطلت لذلك لا لكونه متكلما، وبطلانها بمثل ذلك لا يحتاج إلى كونه كلاما، وليس مجرد الصوت كلاما، وقد روي عن { علي رضي الله عنه قال: كان لي من رسول الله ﷺ مدخلان بالليل والنهار، وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي يتنحنح لي } رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والنسائي بمعناه، وأما النوع الثاني: وهو ما يدل على المعنى طبعا لا وضعا فمنه النفخ وفيه عن مالك وأحمد روايتان أيضا: إحداهما: لا تبطل، وهو قول إبراهيم النخعي، وابن سيرين، وغيرهما من السلف، وقول أبي يوسف وإسحاق، والثانية: إنها تبطل، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد، والثوري والشافعي، وعلى هذا فالمبطل فيه ما أبان حرفين، وقد قيل عن أحمد: إن حكمه حكم الكلام، وإن لم يبن حرفين، واحتجوا لهذا القول بما روي عن أم سلمة عن النبي ﷺ أنه قال: { من نفخ في الصلاة فقد تكلم } " رواه الخلال ; لكن مثل هذا الحديث لا يصح مرفوعا، فلا يعتمد عليه، لكن حكى أحمد هذا اللفظ عن ابن عباس، وفي لفظ عنه: النفخ في الصلاة كلام، رواه سعيد في سننه، قالوا: ولأنه تضمن حرفين، وليس هذا من جنس أذكار الصلاة، فأشبه القهقهة، والحجة مع القول، كما في النحنحة، والنزاع كالنزاع، فإن هذا لا يسمى كلاما في اللغة التي خاطبنا بها النبي ﷺ فلا يتناوله عموم النهي عن الكلام في الصلاة، ولو حلف لا يتكلم لم يحنث بهذه الأمور، ولو حلف ليتكلمن لم يبرأ بمثل هذه الأمور، والكلام لا بد فيه من لفظ دال على المعنى، دلالة وضعية، تعرف بالعقل، فأما مجرد الأصوات الدالة على أحوال المصوتين، فهو دلالة طبعية حسية، فهو وإن شارك الكلام المطلق في الدلالة فليس كل ما دل منهيا عنه في الصلاة، كالإشارة فإنها تدل وتقوم مقام العبارة، بل تدل بقصد المشير، وهي تسمى كلاما، ومع هذا لا تبطل، فإن النبي ﷺ كان إذا سلموا عليه رد عليهم بالإشارة، فعلم أنه لم ينه عن كل ما يدل ويفهم، وكذلك إذا قصد التنبيه بالقرآن والتسبيح جاز كما دلت عليه النصوص، ومع هذا فلما كان مشروعا في الصلاة لم يبطل، فإذا كان قد قصد إفهام المستمع ومع هذا لم تبطل، فكيف بما دل بالطبع، وهو لم يقصد به إفهام أحد، ولكن المستمع يعلم منه، كما يعلم ذلك من حركته، ومن سكوته، فإذا رآه يرتعش أو يضطرب أو يدمع أو يبتسم علم، وإنما امتاز هذا بأنه من نوع الصوت، وهذا لو لم يرد به سنة، فكيف، وفي المسند، عن المغيرة بن شعبة { أن النبي ﷺ كان في صلاة الكسوف، فجعل ينفخ، فلما انصرف قال: إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي }، وفي المسند، وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو { أن النبي ﷺ في صلاة كسوف الشمس نفخ في آخر سجوده، فقال: أف أف أف، رب، ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم } ؟، وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا بأنه محمول على أنه فعله قبل تحريم الكلام، أو فعله خوفا من الله، أو من النار، قالوا: فإن ذلك لا يبطل عندنا، نص عليه أحمد، كالتأوه والأنين عنده، والجوابان ضعيفان: أما الأول: فإن صلاة الكسوف كانت في آخر حياة النبي ﷺ يوم مات ابنه إبراهيم، وإبراهيم كان من مارية القبطية، ومارية أهداها له المقوقس، بعد أن أرسل إليه المغيرة، وذلك بعد صلح الحديبية فإنه بعد الحديبية أرسل رسله إلى الملوك، ومعلوم أن الكلام حرم قبل هذا باتفاق المسلمين، لا سيما وقد أنكر جمهور العلماء على من زعم أن قصة ذي اليدين كانت قبل تحريم الكلام ; لأن أبا هريرة شهدها، فكيف يجوز أن يقال بمثل هذا في صلاة الكسوف، بل قد قيل: الشمس كسفت بعد حجة الوداع، قبل موته بقليل، وأما كونه من الخشية: ففيه أنه نفخ حرها عن وجهه، وهذا نفخ لدفع ما يؤذي من خارج، كما ينفخ الإنسان في المصباح ليطفئه، أو ينفخ في التراب، ونفخ الخشية من نوع البكاء والأنين، وليس هذا ذاك، وأما السعال والعطاس والتثاؤب والبكاء الذي يمكن دفعه والتأوه والأنين، فهذه الأشياء هي كالنفخ، فإنها تدل على المعنى طبعا، وهي أولى بأن لا تبطل ; فإن النفخ أشبه بالكلام من هذه، إذ النفخ يشبه التأفيف كما قال: { فلا تقل لهما أف } لكن الذين ذكروا هذه الأمور من أصحاب أحمد كأبي الخطاب ومتبعيه، ذكروا أنها تبطل، إذا أبان حرفين، ولم يذكروا خلافا، ثم منهم من ذكر نصه في النحنحة، ومنهم من ذكر الرواية الأخرى عنه في النفخ، فصار ذلك موهما أن النزاع في ذلك فقط، وليس كذلك، بل لا يجوز أن يقال: إن هذه تبطل، والنفخ لا يبطل، وأبو يوسف يقول في التأوه والأنين: لا يبطل مطلقا على أصله، وهو أصح الأقوال في هذه المسألة، ومالك مع الاختلاف عنه في النحنحة والنفخ قال: الأنين لا يقطع صلاة المريض، وأكرهه للصحيح، ولا ريب أن الأنين من غير حاجة مكروه، ولكنه لم يره مبطلا، وأما الشافعي: فجرى على أصله الذي وافقه عليه كثير من متأخري أصحاب أحمد، وهو أن ما أبان حرفين من هذه الأصوات كان كلاما مبطلا، وهو أشد الأقوال في هذه المسألة، وأبعدها عن الحجة، فإن الإبطال إن أثبتوه بدخولها في مسمى الكلام في لفظ رسول الله ﷺ فمن المعلوم الضروري أن هذه لا تدخل في مسمى الكلام وإن كان بالقياس لم يصح ذلك، فإن في الكلام يقصد المتكلم معاني يعبر عنها بلفظ، وذلك يشغل المصلي، كما قال النبي ﷺ { إن في الصلاة لشغلا } وأما هذه الأصوات فهي طبيعية كالتنفس، ومعلوم أنه لو زاد في التنفس على قدر الحاجة لم تبطل صلاته، وإنما تفارق التنفس بأن فيها صوتا، وإبطال الصلاة بمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل، ولا نظير، وأيضا فقد جاءت أحاديث بالنحنحة والنفخ كما تقدم، وأيضا فالصلاة صحيحة بيقين، فلا يجوز إبطالها بالشك، ونحن لا نعلم أن العلة في تحريم الكلام، هو ما يدعى من القدر المشترك، بل هذا إثبات حكم بالشك الذي لا دليل معه، وهذا النزاع إذا فعل ذلك لغير خشية الله، فإن فعل ذلك لخشية الله فمذهب أحمد وأبي حنيفة أن صلاته لا تبطل، ومذهب الشافعي أنها تبطل ; لأنه كلام، والأول أصح، فإن هذا إذا كان من خشية الله كان من جنس ذكر الله ودعائه، فإنه كلام يقتضي الرهبة من الله والرغبة إليه، وهذا خوف الله في الصلاة، وقد مدح الله إبراهيم بأنه أواه، وقد فسر بالذي يتأوه من خشية الله، ولو صرح بمعنى ذلك بأن استجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته بخلاف الأنين والتأوه في المرض والمصيبة، فإنه لو صرح بمعناه كان كلاما مبطلا، وفي الصحيحين أن { عائشة قالت للنبي ﷺ: إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء، قال: مروه فليصل، إنكن لأنتن صواحب يوسف } وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ: { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله }، والنشيج: رفع الصوت بالبكاء، كما فسره أبو عبيد، وهذا محفوظ عن عمر، ذكره مالك وأحمد، وغيرهما، وهذا النزاع فيما إذا لم يكن مغلوبا، فأما ما يغلب عليه المصلي من عطاس وبكاء وتثاؤب، فالصحيح عند الجمهور أنه لا يبطل، وهو منصوص أحمد وغيره، وقد قال بعض أصحابه: إنه يبطل، وإن كان معذورا: كالناسي، وكلام الناسي فيه روايتان عن أحمد: أحدهما: وهو مذهب أبي حنيفة أنه يبطل، والثاني: وهو مذهب مالك والشافعي أنه لا يبطل، وهذا أظهر، وهذا أولى من الناسي، لأن هذه أمور معتادة لا يمكنه دفعها، وقد ثبت أن النبي ﷺ قال: { التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع }، وأيضا فقد ثبت حديث { الذي عطس في الصلاة وشمته معاوية بن الحكم السلمي، فنهى النبي ﷺ معاوية عن الكلام في الصلاة } ; ولم يقل للعاطس شيئا، والقول بأن العطاس يبطل تكليف من الأقوال المحدثة التي لا أصل لها عن السلف رضي الله عنهم، وقد تبين أن هذه الأصوات الحلقية التي لا تدل بالوضع فيها نزاع في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأن الأظهر فيها جميعا أنها لا تبطل فإن الأصوات من جنس الحركات، وكما أن العمل اليسير، لا يبطل فالصوت اليسير لا يبطل، بخلاف صوت القهقهة فإنه بمنزلة العمل اليسير وذلك ينافي الصلاة، بل القهقهة تنافي مقصود الصلاة أكثر ; ولهذا لا تجوز فيها بحال، بخلاف العمل الكثير، فإنه يرخص فيه للضرورة، والله أعلم .

======
 8


- مسألة: في امرأة لها ورد بالليل تصليه، فتعجز عن القيام في بعض الأوقات، فقيل لها: إن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فهل هو صحيح ؟، الجواب: نعم صحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم }، لكن إذا كان عادته أنه يصلي قائما، وإنما قعد لعجزه، فإن الله يعطيه أجر القائم، لقوله ﷺ: { إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم }، فلو عجز عن الصلاة كلها لمرض كان الله يكتب له أجرها كله ; لأجل نيته وفعله بما قدر عليه، فكيف إذا عجز عن أفعالها ؟

- مسألة: في الصلاة بعد أذان المغرب، وقبل الصلاة ؟ الجواب: كان { بلال كما أمره النبي ﷺ يفصل بين أذانه وإقامته، حتى يتسع لركعتين، فكان من الصحابة من يصلي بين الأذانين ركعتين، والنبي ﷺ يراهم ويقرهم }، وقال { بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة لمن شاء }، مخافة أن تتخذ سنة، فإذا كان المؤذن يفرق بين الأذانين مقدار ذلك، فهذه صلاة حسنة، وأما إن كان يصل الأذان بالإقامة، فالاشتغال بإجابة المؤذن هو السنة، فإن النبي قال: { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول }، ولا ينبغي لأحد أن يدع إجابة المؤذن، ويصلي هاتين الركعتين، فإن السنة لمن سمع المؤذن أن يقول: مثل ما يقول، ثم يصلي على النبي ﷺ ويقول: " اللهم رب هذه الدعوة التامة " إلى آخره - يدعو بعد ذلك .

- مسألة: فيمن يجد الصلاة قد أقيمت فأيهما أفضل صلاة الفريضة ؟ أو يأتي بالسنة ويلحق الإمام ولو في التشهد ؟ وهل ركعتا الفجر سنة للصبح أم لا ؟ الجواب: قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: { إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة } وفي رواية { فلا صلاة إلا التي أقيمت } فإذا أقيمت الصلاة فلا يشتغل بتحية المسجد ولا بسنة الفجر، وقد اتفق العلماء على أنه لا يشتغل عنها بتحية المسجد، ولكن تنازعوا في سنة الفجر: والصواب أنه إذا سمع الإقامة فلا يصلي السنة لا في بيته ولا في غير بيته، بل يقضيها إن شاء بعد الفرض، والسنة أن يصلي بعد طلوع الفجر ركعتين سنة، والفريضة ركعتان، وليس بين طلوع الفجر والفريضة سنة إلا ركعتان، والفريضة تسمى صلاة الفجر، وصلاة الغداة وكذلك السنة تسمى سنة الفجر وسنة الصبح، وركعتي الفجر، ونحو ذلك، والله أعلم .

- مسألة: في صلاة الجماعة هل هي فرض عين أم فرض كفاية، أم سنة فإن كانت فرض عين وصلى وحده من غير عذر، فهل تصح صلاته أم لا ؟ وما أقوال العلماء في ذلك ؟ وما حجة كل منهم ؟ وما الراجح من أقوالهم ؟، الجواب: الحمد لله رب العالمين اتفق العلماء على أنها من أوكد العبادات، وأجل الطاعات، وأعظم شعائر الإسلام، وعلى ما ثبت من فضلها عن النبي ﷺ حيث قال: { تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة } هكذا في حديث أبي هريرة وأبي سعيد بخمس وعشرين، ومن حديث ابن عمر بسبع وعشرين، والثلاثة في الصحيح، وقد جمع بينهما: بأن الحديث الخمس والعشرين، ذكر فيه الفضل الذي بين صلاة المنفرد والصلاة في الجماعة، والفضل خمس وعشرون، وحديث السبعة والعشرين ذكر فيه صلاته منفردا وصلاته في الجماعة والفضل بينهما، فصار المجموع سبعا وعشرين، ومن ظن من المتنسكة أن صلاته وحده أفضل، إما في خلوته، وإما في غير خلوته، فهو مخطئ ضال، وأضل منه من لم ير الجماعة إلا خلف الإمام المعصوم، فعطل المساجد عن الجمع والجماعات التي أمر الله بها ورسوله، وعمر المساجد بالبدع والضلالات التي نهى الله عنها ورسوله، وصار مشابها لمن نهى عن عبادة الرحمن، وأمر بعبادة الأوثان، فإن الله سبحانه شرع الصلاة وغيرها في المساجد، كما قال الله تعالى: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } وقال تعالى: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }، وقال تعالى: { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد }، وقال تعالى: { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } إلى قوله: { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } وقال تعالى: { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله }، الآية وقال تعالى: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا }، وقال تعالى: { ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا }، وأما مشاهد القبور ونحوها: فقد اتفق أئمة المسلمين على أنه ليس من دين الإسلام أن تخص بصلاة أو دعاء، أو غير ذلك، ومن ظن أن الصلاة والدعاء والذكر فيها أفضل منه في المساجد، فقد كفر، بل قد تواترت السنن في النهي عن اتخاذها لذلك، كما ثبت في الصحيحين أنه قال: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما فعلوا: قالت عائشة: " ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا " وفي الصحيحين أيضا أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الحسن والتصاوير، فقال: { أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } وثبت عنه في صحيح مسلم من حديث جندب أنه قال: قبل أن يموت بخمس: { أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك }، وفي المسند عنه أنه قال: { إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد }، وفي موطإ مالك عنه أنه قال: { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، واشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وفي السنن عنه أنه قال: { لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني }، والمقصود هنا: أن أئمة المسلمين متفقون على أن إقامة الصلوات الخمس في المساجد هي من أعظم العبادات، وأجل القربات، ومن فضل تركها عليها إيثارا للخلوة والانفراد على الصلوات الخمس في الجماعات، أو جعل الدعاء والصلاة في المشاهد أفضل من ذلك في المساجد، فقد انخلع من ربقة الدين، واتبع غير سبيل المؤمنين، { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا }، ولكن تنازع العلماء بعد ذلك في كونها واجبة على الأعيان، أو على الكفاية، أو سنة مؤكدة، على ثلاثة أقوال: فقيل: هي سنة مؤكدة فقط، وهذا هو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة، وأكثر أصحاب مالك، وكثير من أصحاب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد، وقيل: هي واجبة على الكفاية، وهذا هو المرجح في مذهب الشافعي، وقول بعض أصحاب مالك، وقول في مذهب أحمد، وقيل: هي واجبة على الأعيان: وهذا هو المنصوص عن أحمد وغيره، من أئمة السلف، وفقهاء الحديث، وغيرهم، وهؤلاء تنازعوا فيما إذا صلى منفردا لغير عذر، هل تصح صلاته ؟ على قولين: أحدهما: لا تصح، وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد، وذكره القاضي أبو يعلى، في شرح المذهب عنهم، وبعض متأخريهم كابن عقيل، وهو قول طائفة من السلف، واختاره ابن حزم وغيره .

والثاني: تصح مع إثمه بالترك، وهذا هو المأثور عن أحمد، وقول أكثر أصحابه، والذين نفوا الوجوب احتجوا بتفضيل النبي ﷺ: صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده، قالوا: ولو كانت واجبة لم تصح صلاة المنفرد، ولم يكن هناك تفضيل، وحملوا ما جاء من هم النبي ﷺ بالتحريق على من ترك الجمعة، أو على المنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة مع النفاق، وأن تحريقهم كان لأجل النفاق لا لأجل ترك الجماعة، مع الصلاة في البيوت، وأما الموجبون: فاحتجوا بالكتاب والسنة والآثار، أما الكتاب: فقوله تعالى: { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } الآية، وفيها دليلان: أحدهما: أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه في صلاة الخوف، وذلك دليل على وجوبها حال الخوف، وهو يدل بطريق الأولى على وجوبها حال الأمن، الثاني: أنه سن صلاة الخوف جماعة، وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر، كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق، وكذلك مفارقة الإمام قبل السلام عند الجمهور، وكذلك التخلف عن متابعة الإمام، كما يتأخر الصف المؤخر بعد ركوعه مع الإمام إذا كان العدو أمامهم، قالوا: هذه الأمور تبطل الصلاة لو فعلت بغير عذر، فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبة لكان قد التزم فعل محظور مبطل للصلاة، وتركت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فعل مستحب، مع أنه قد كان من الممكن أن يصلوا وحدانا صلاة تامة فعلم أنها واجبة، وأيضا فقوله تعالى: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين } إما أن يراد به المقارنة بالفعل، وهي الصلاة جماعة، وإما أن يراد به ما يراد بقوله: { وكونوا مع الصادقين } فإن أريد الثاني، لم يكن فرق بين قوله: صلوا مع المصلين، وصوموا مع الصائمين، { واركعوا مع الراكعين }، والسياق يدل على اختصاص الركوع بذلك، فإن قيل: فالصلاة كلها تفعل مع الجماعة، قيل: خص الركوع بالذكر لأنه تدرك به الصلاة، فمن أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، فأمر بما يدرك به الركعة، كما قال لمريم: { اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } فإنه لو قيل: اقنتي مع القانتين لدل على وجوب إدراك القيام، ولو قيل: اسجدي لم يدل على وجوب إدراك الركوع، بخلاف قوله: { واركعي مع الراكعين } فإنه يدل على الأمر بإدراك الركوع وما بعده دون ما قبله، وهو المطلوب.

وأما السنة: فالأحاديث المستفيضة في الباب: مثل حديث أبي هريرة المتفق عليه عنه ﷺ أنه قال: { لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق إلى قوم لا يشهدون الصلاة: فأحرق عليهم بيوتهم بالنار } فهم بتحريق من لم يشهد الصلاة، وفي لفظ قال: { أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام } الحديث، وفي المسند وغيره: { لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأمرت أن تقام الصلاة } الحديث، فبين ﷺ أنه هم بتحريق البيوت على من لم يشهد الصلاة، وبين أنه إنما منعه من ذلك من فيها من النساء والذرية، فإنهم لا يجب عليهم شهود الصلاة، وفي تحريق البيوت قتل من لا يجوز قتله، وكان ذلك بمنزلة إقامة الحد على الحبلى، وقد قال سبحانه وتعالى: { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما }، ومن حمل ذلك على ترك شهود الجمعة، فسياق الحديث يبين ضعف قوله حيث ذكر صلاة العشاء والفجر، ثم أتبع ذلك بهمه بتحريق من لم يشهد الصلاة، وأما من حمل العقوبة على النفاق، لا على ترك الصلاة، فقوله ضعيف لأوجه: أحدها: أن النبي ﷺ ما كان يقيل المنافقين إلا على الأمور الباطنة، وإنما يعاقبهم على ما يظهر منهم من ترك واجب أو فعل محرم، فلولا أن في ذلك ترك واجب لما حرقهم، الثاني: أنه رتب العقوبة على ترك شهود الصلاة، فيجب ربط الحكم بالسبب الذي ذكره، الثالث: أنه سيأتي - إن شاء الله - حديث ابن أم مكتوم حيث استأذنه أن يصلي في بيته، فلم يأذن له، وابن أم مكتوم رجل مؤمن من خيار المؤمنين، أثنى عليه القرآن، وكان النبي ﷺ يستخلفه على المدينة، وكان يؤذن للنبي ﷺ، الرابع: إن ذلك حجة على وجوبها أيضا: كما قد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال: " من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن ; فإن الله شرع لنبيه سنن الهدى، وإن هذه الصلوات الخمس في المساجد التي ينادى بهن من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، فقد أخبر عبد الله بن مسعود أنه لم يكن يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وهذا دليل على استقرار وجوبها عند المؤمنين، ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي ﷺ إذ لو كانت عندهم مستحبة كقيام الليل، والتطوعات التي مع الفرائض، وصلاة الضحى ونحو ذلك، كان منهم من يفعلها، ومنهم من لا يفعلها مع إيمانه، كما قال له الأعرابي: والله لا أزيد على ذلك، ولا أنقص منه، فقال: { أفلح إن صدق } ومعلوم أن كل أمر كان لا يختلف عنه إلا منافق كان واجبا على الأعيان، كخروجهم إلى غزوة تبوك، فإن النبي ﷺ أمر به المسلمين جميعا، لم يأذن لأحد في التخلف، إلا من ذكر أن له عذرا فأذن له لأجل عذره، ثم لما رجع كشف الله أسرار المنافقين، وهتك أستارهم، وبين أنهم تخلفوا لغير عذر، والذين تخلفوا لغير عذر مع الإيمان عوقبوا بالهجر، حتى هجران نسائهم لهم، حتى تاب الله عليهم، فإن قيل: فأنتم اليوم تحكمون بنفاق من تخلف عنها، وتجوزون تحريق البيوت عليه، إذا لم يكن فيها ذرية، قيل له: من الأفعال ما يكون واجبا، ولكن تأويل المتأول يسقط الحد عنه، وقد صار اليوم كثير ممن هو مؤمن لا يراها واجبة عليه، فيتركها متأولا، وفي زمن النبي ﷺ لم يكن لأحد تأويل، لأن النبي ﷺ قد باشرهم بالإيجاب، وأيضا كما ثبت في الصحيح والسنن: { أن أعمى استأذن النبي ﷺ أن يصلي في بيته، فأذن له، فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء ؟ قال نعم، قال: فأجب } فأمره بالإجابة إذا سمع النداء ; ولهذا أوجب أحمد الجماعة على من سمع النداء، وفي لفظ في السنن { أن ابن أم مكتوم قال يا رسول الله: إني رجل شاسع الدار وإن المدينة كثيرة الهوام، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فقال: هل تسمع النداء ؟ قال: نعم، قال: لا أجد لك رخصة }، وهذا نص في الإيجاب للجماعة، مع كون الرجل مؤمنا، وأما احتجاجهم بتفضيل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده فعنه جوابان مبنيان على صحة صلاة المنفرد لغير عذر، فمن صحح صلاته قال : الجماعة واجبة وليست شرطا في الصحة، كالوقت فإنه لو أخر العصر إلى وقت الاصفرار كان آثما، مع كون الصلاة صحيحة، بل وكذلك لو أخرها إلى أن يبقى مقدار ركعة كما ثبت في الصحيح { من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر } قال: والتفضيل لا يدل على أن المفضول جائز، فقد قال الله تعالى: { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم } فجعل السعي إلى الجمعة خيرا من البيع ; والسعي واجب والبيع حرام، وقال تعالى: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم }، ومن قال: لا تصح صلاة المنفرد إلا لعذر، احتج بأدلة الوجوب قال: وما ثبت وجوبه في الصلاة كان شرطا في الصحة، كسائر الواجبات، وأما الوقت فإنه لا يمكن تلافيه، فإذا مات لم يكن فعل الصلاة فيه، فنظير ذلك فوت الجمعة، وفوت الجماعة التي لا يمكن استدراكها، فإذا فوت الجمعة الواجبة كان آثما وعليه الظهر، إذ لا يمكن سوى ذلك، وكذلك من فوت الجماعة الواجبة التي يجب عليه شهودها، وليس هناك جماعة أخرى، فإنه يصلي منفردا وتصح صلاته هنا لعدم إمكان صلاته جماعة، كما تصح الظهر ممن تفوته الجمعة، وليس وجوب الجماعة بأعظم من وجوب الجمعة، وإنما الكلام فيمن صلى في بيته منفردا لغير عذر، ثم أقيمت الجماعة، فهذا عندهم عليه أن يشهد الجماعة، كمن صلى الظهر قبل الجمعة عليه أن يشهد الجمعة، واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة الذي في السنن عن النبي ﷺ: { من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له }، ويؤيد ذلك قوله: { لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد } فإن هذا معروف من كلام علي وعائشة، وأبي هريرة، وابن عمر، وقد رواه الدارقطني مرفوعا إلى النبي ﷺ وقوى ذلك لبعض الحفاظ، قالوا: ولا يعرف في كلام الله ورسوله حرف النفي دخل على فعل شرعي إلا لترك واجب فيه كقوله: { لا صلاة إلا بأم القرآن } { ولا إيمان لمن لا أمانة له }، ونحو ذلك، وأجاب هؤلاء عن حديث التفضيل، بأن قالوا: هو محمول على المعذور كالمريض ونحوه، فإن هذا بمنزلة قوله ﷺ: { صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد } وأن تفضيله صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده كتفضيله صلاة القائم على صلاة القاعد، ومعلوم أن القيام واجب في صلاة الفرض دون النفل، كما أن الجماعة واجبة في صلاة الفرض دون النفل، وتمام الكلام في ذلك: أن العلماء تنازعوا في هذا الحديث، وهو: هل المراد بهما المعذور، أو غيره ؟ على قولين: فقالت طائفة المراد بهما غير المعذور، قالوا: لأن المعذور أجره تام، بدليل ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال: { إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم } قالوا: فإذا كان المريض والمسافر يكتب لهما ما كانا يعملان في الصحة، والإقامة، فكيف تكون صلاة المعذور قاعدا أو منفردا دون صلاته في الجماعة قاعدا ؟، وحمل هؤلاء تفضيل صلاة القائم على النفل دون الفرض ; لأن القيام في الفرض واجب، ومن قال هذا القول لزمه أن يجوز تطوع الصحيح مضطجعا ; لأنه قد ثبت أنه قال: { ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم }، وقد طرد هذا الدليل طائفة من متأخري أصحاب الشافعي، وأحمد، وجوزوا أن يتطوع الرجل مضطجعا، لغير عذر ; لأجل هذا الحديث، ولتعذر حمله على المريض، كما تقدم، ولكن أكثر العلماء أنكروا ذلك، وعدوه بدعة، وحدثا في الإسلام، وقالوا: لا يعرف أن أحدا قط صلى في الإسلام، على جنبه وهو صحيح، ولو كان هذا مشروعا لفعله المسلمون على عهد نبيهم ﷺ أو بعده، ولفعله النبي ﷺ ولو مرة لتبيين الجواز، فقد كان يتطوع قاعدا، ويصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، فلو كان هذا سائغا لفعله، ولو مرة، أو لفعله أصحابه، وهؤلاء الذين أنكروا هذا مع ظهور حجتهم قد تناقض من لم يوجب الجماعة منهم، حيث حملوا قوله: { تفضل صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة } على أنه أراد غير المعذور، فيقال لهم: لم كان التفضيل هنا في حق غير المعذور، والتفضيل هناك في حق المعذور، وهل هذا إلا تناقض ؟، ، وأما من أوجب الجماعة وحمل التفضيل على المعذور، فطرد دليله، وحينئذ فلا يكون في الحديث حجة على صحة صلاة المنفرد لغير عذر، وأما ما احتج به منازعهم من قوله: { إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم } فجوابهم عنه أن هذا الحديث دليل على أنه يكتب له مثل الثواب الذي كان يكتب له في حال الصحة والإقامة ; لأجل نيته له، وعجزه عنه بالعذر، وهذه " قاعدة الشريعة " أن من كان عازما على الفعل عزما جازما وفعل ما يقدر عليه منه كان بمنزلة الفاعل، فهذا الذي كان له عمل في صحته وإقامته عزمه أن يفعله، وقد فعل في المرض والسفر ما أمكنه، فكان بمنزلة الفاعل، كما جاء في السنن: فيمن تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد يدرك الجماعة فوجدها قد فاتت أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة، وكما ثبت في الصحيح من قوله ﷺ: { إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بالمدينة، قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر }، وقد قال تعالى: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } الآية، فهذا ومثله يبين أن المعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح، إذا كانت نيته أن يفعل، وقد عمل ما يقدر عليه، وذلك لا يقتضي أن يكون نفس عمله مثل عمل الصحيح، فليس في الحديث أن صلاة المريض نفسها في الأجر مثل صلاة الصحيح، ولأن صلاة المنفرد والمعذور في نفسها مثل صلاة الرجل في الجماعة، وإنما فيه أن يكتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، كما يكتب له أجر صلاة الجماعة إذا فاتته مع قصده لها، وأيضا فليس كل معذور يكتب له مثل عمل الصحيح، وإنما يكتب له إذا كان يقصد عمل الصحيح، ولكن عجز عنه، فالحديث يدل على أنه من عادته الصلاة في جماعة والصلاة قائما، ثم ترك ذلك لمرضه، فإنه يكتب له ما كان يعمل، وهو صحيح مقيم، وكذلك من تطوع على الراحلة في السفر، وقد كان يتطوع في الحضر، قائما يكتب له ما كان يعمل في الإقامة، فأما من لم تكن عادته الصلاة في جماعة، ولا الصلاة قائما إذا مرض، فصلى وحده، أو صلى قاعدا، فهذا لا يكتب له مثل صلاة المقيم الصحيح، ومن حمل الحديث على غير المعذور يلزمه أن يجعل صلاة هذا قاعدا مثل صلاة القائم، وصلاته منفردا مثل الصلاة في جماعة، وهذا قول باطل لم يدل عليه نص ولا قياس، ولا قاله أحد، وأيضا فيقال: تفضيل النبي ﷺ لصلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولصلاة القائم على القاعد، والقاعد على المضطجع، إنما دل على فضل هذه الصلاة على هذه الصلاة، حيث يكون كل من الصلاتين صحيحة، أما كون هذه الصلاة المفضولة تصح حيث تصح تلك، أو لا تصح فالحديث لم يدل عليه بنفي ولا إثبات، ولا سيق الحديث لأجل بيان صحة الصلاة وفاسدها ; بل وجوب القيام والقعود، وسقوط ذلك، ووجوب الجماعة وسقوطها: يلتقى من أدلة أخر، وكذلك أيضا كون هذا المعذور يكتب له تمام عمله أو لا يكتب له لم يتعرض له هذا الحديث، بل يلتقى من أحاديث أخر، وقد بينت سائر النصوص أن تكميل الثواب هو لمن كان يعمل العمل الفاضل وهو صحيح مقيم، لا لكل أحد، وأثبتت نصوص أخر وجوب القيام في الفرض، كقوله ﷺ لعمران بن حصين: { صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب }، وبين جواز التطوع قاعدا لما رآهم وهم يصلون قعودا، فأقرهم على ذلك، وكان يصلي قاعدا مع كونه كان يتطوع على الراحلة في السفر، كذلك تثبت نصوص أخر وجوب الجماعة فيعطي كل حديث حقه، فليس بينها تعارض ولا تناف، وإنما يظن التعارض والتنافي من حملها ما لا تدل عليه، ولم يعطها حقها بسوء نظره وتأويله، والله أعلم .

- مسألة: في حديث يزيد بن الأسود قال: { شهدت حجة رسول الله ﷺ وصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى الصلاة وانحرف فإذا هو برجلين في أخريات القوم لم يصليا، فقال: علي بهما، فإذا بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا ؟ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة }، والثاني: عن { سليمان بن سالم قال: رأيت عبد الله بن عمر جالسا على البلاط، والناس يصلون، فقلت: يا عبد الله، مالك لا تصلي ؟ فقال: إني قد صليت، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا تعاد صلاة مرتين } فما الجمع بين هذا، وهذا ؟ الجواب: الحمد لله، أما حديث ابن عمر فهو في الإعادة مطلقا من غير سبب، ولا ريب أن هذا منهي عنه، وأنه يكره للرجل أن يقصد إعادة الصلاة من غير سبب يقتضي الإعادة، إذ لو كان مشروعا للصلاة الشرعية عدد معين، كان يمكن الإنسان أن يصلي الظهر مرات، والعصر مرات، ونحو ذلك، ومثل هذا لا ريب في كراهته، وأما حديث ابن الأسود: فهو إعادة مقيدة بسبب اقتضى الإعادة وهو قوله: { إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة } فسبب الإعادة هنا حضور الجماعة الراتبة، ويستحب لمن صلى ثم حضر جماعة راتبة أن يصلي معهم، لكن من العلماء من يستحب الإعادة مطلقا، كالشافعي، وأحمد ومنهم من يستحبها إذا كانت الثانية أكمل، كمالك، فإذا أعادها فالأولى هي الفريضة، عند أحمد وأبي حنيفة، والشافعي في أحد القولين، لقوله في هذا الحديث: { فإنها لكما نافلة } " وكذلك قال في الحديث الصحيح: { إنه سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة } وهذا أيضا يتضمن إعادتها لسبب، ويتضمن أن الثانية نافلة، وقيل الفريضة أكملهما، وقيل ذلك إلى الله، ومما جاء في الإعادة لسبب الحديث الذي في سنن أبي داود لما قال النبي ﷺ: { ألا رجل يتصدق على هذا يصلي معه }، فهنا هذا المتصدق قد أعاد الصلاة ليحصل لذلك المصلي فضيلة الجماعة، ثم الإعادة المأمور بها مشروعة عند الشافعي وأحمد ومالك وقت النهي، وعند أبي حنيفة لا تشرع وقت النهي، وأما المغرب: فهل تعاد على صفتها ؟ أم تشفع بركعة ؟ أم لا تعاد على ثلاثة أقوال مشهورة للفقهاء، ومما جاء فيه الإعادة لسبب ما ثبت أن النبي ﷺ في بعض صلوات الخوف صلى بهم الصلاة مرتين، صلى بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بطائفة أخرى ركعتين، ثم سلم، ومثل هذا حديث معاذ بن جبل لما كان يصلي خلف النبي ﷺ فهنا إعادة أيضا، وصلاة مرتين، والعلماء المتنازعون في مثل هذا: وهي مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل على ثلاثة أقوال: فقيل: لا يجوز كقول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات، وقيل: يجوز كقول الشافعي وأحمد في رواية ثانية، وقيل: يجوز للحاجة مثل حال الخوف، والحاجة إلى الائتمام بالمتطوع، ولا يجوز لغيرها كرواية ثالثة عن أحمد، ويشبه هذا إعادة صلاة الجنازة لمن صلى عليها أولا ; فإن هذا لا يشرع بغير سبب باتفاق العلماء، بل لو صلى عليها مرة ثانية ثم حضر من لم يصل فهل يصلي عليها ؟ على قولين للعلماء: قيل: يصلي عليها، وهو مذهب الشافعي وأحمد، ويصلي عندهما على القبر، لما ثبت عن النبي ﷺ وعن غير واحد من الصحابة، أنهم صلوا على جنازة بعد ما صلى عليها غيرهم، وعند أبي حنيفة ومالك ينهى عن ذلك، كما ينهيان عن إقامة الجماعة في المسجد مرة بعد مرة، قالوا: لأن الفرض يسقط بالصلاة الأولى، فتكون الثانية نافلة، والصلاة على الجنازة لا يتطوع بها، وهذا بخلاف من يصلي الفريضة فإنه يصليها باتفاق المسلمين، لأنها واجبة عليه، وأصحاب الشافعي وأحمد يجيبون بجوابين: أحدهما أن الثانية تقع فرضا عمن فعلها، وكذلك يقولون في سائر فروض الكفايات: أن من فعلها أسقط بها فرض نفسه، وإن كان غيره قد فعلها فهو مخير بين أن يكتفي بإسقاط ذلك، وبين أن يسقط الفرض بفعل نفسه، وقيل: بل هي نافلة، ويمنعون قول القائل: إن صلاة الجنازة لا يتطوع بها، بل قد يتطوع بها، إذا كان هناك سبب يقتضي ذلك، وينبني على هذين المأخذين أنه إذا حضر الجنازة من لم يصل أولا: فهل لمن صلى عليها أولا أن يصلي معه تبعا ؟ كما يفعل مثل هذا في المكتوبة، على وجهين، قيل: لا يجوز هنا ; لأن فعله هنا نفل بلا نزاع، وهي لا ينتفل بها، وقيل: بل له الإعادة ; فإن النبي ﷺ لما صلى على القبر، صلى خلفه من كان قد صلى أولا، وهذا أقرب، فإن هذه الإعادة بسبب اقتضاه، لا إعادة مقصودة وهذا سائغ في المكتوبة والجنازة، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . ولم نعلم نزاعا بين العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت لقراءة المأموم بالفاتحة ولا غيرها، وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة، فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر، بل نقول: لو كانت قراءة المأموم في حال الجهر والاستماع مستحبة، لاستحب للإمام أن يسكت لقراءة المأموم، ولا يستحب للإمام السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العلماء، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم، وحجتهم في ذلك أن النبي ﷺ لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون، ولا نقل هذا أحد عنه، بل ثبت عنه في الصحيح سكوته بعد التكبير للاستفتاح، وفي السنن: { أنه كان له سكتتان سكتة، في أول القراءة، وسكتة بعد الفراغ من القراءة }، وهي سكتة لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة، وقد روي أن هذه السكتة كانت بعد الفاتحة، ولم يقل أحد: إنه كان له ثلاث سكتات، ولا أربع سكتات، فمن نقل عن النبي ﷺ ثلاث سكتات أو أربع فقد قال قولا لم ينقله عن أحد من المسلمين، والسكتة التي عقب قوله: { ولا الضالين } من جنس السكتات التي عند رءوس الآي، ومثل هذا لا يسمى سكوتا ; ولهذا لم يقل أحد من العلماء: إنه يقرأ في مثل هذا، وكان بعض من أدركنا من أصحابنا يقرأ عقب السكوت عند رءوس الآي، فإذا قال الإمام: { الحمد لله رب العالمين } قال: { الحمد لله رب العالمين } وإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } وهذا لم يقله أحد من العلماء، وقد اختلف العلماء في سكوت الإمام على ثلاثة أقوال: فقيل: لا سكوت في الصلاة بحال، وهو قول مالك، وقيل: فيها سكتة واحدة للاستفتاح، كقول أبي حنيفة، وقيل فيها: سكتتان، وهو قول الشافعي، وأحمد وغيرهما لحديث سمرة بن جندب: { أن رسول الله ﷺ كان له سكتتان: سكتة حين يفتتح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من السورة الثانية، قبل أن يركع } فذكر ذلك لعمران بن حصين، فقال: كذب سمرة فكتب في ذلك إلى المدينة إلى أبي بن كعب، فقال: صدق سمرة، رواه أحمد واللفظ له وأبو داود وابن ماجه، والترمذي، وقال حديث حسن، وفي رواية أبي داود: { سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } } وأحمد رجح الرواية الأولى واستحب السكتة الثانية ; لأجل الفصل، ولم يستحب أحمد أن يسكت الإمام لقراءة المأموم، ولكن بعض أصحابه استحب ذلك، ومعلوم أن النبي ﷺ لو كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل هذا أحد علم أنه لم يكن، والسكتة الثانية في حديث سمرة قد نفاها عمران بن حصين، وذلك أنها سكتة يسيرة، قد لا ينضبط مثلها، وقد روي أنها بعد الفاتحة، ومعلوم أنه لم يسكت إلا سكتتين، فعلم أن إحداهما طويلة والأخرى بكل حال لم تكن طويلة متسعة لقراءة الفاتحة، وأيضا فلو كان الصحابة كلهم يقرءون الفاتحة خلفه إما في السكتة الأولى وإما في الثانية لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فكيف ولم ينقل هذا أحد عن أحد من الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية خلفه يقرءون الفاتحة، مع أن ذلك لو كان مشروعا لكان الصحابة أحق الناس بعلمه، وعمله، فعلم أنه بدعة، وأيضا فالمقصود بالجهر استماع المأمومين، ولهذا يؤمنون على قراءة الإمام في الجهر دون السر، فإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد أمر أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءته، وهو بمنزلة أن يحدث من لم يستمع لحديثه، ويخطب من لم يستمع لخطبته، وهذا سفه تنزه عنه الشريعة، ولهذا روي في الحديث: { مثل الذي يتكلم والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارا } فهكذا إذا كان يقرأ والإمام يقرأ عليه .

فصل وإذا كان المأموم مأمورا بالاستماع والإنصات لقراءة الإمام، لم يشتغل عن ذلك بغيرها، لا بقراءة، ولا ذكر، ولا دعاء، ففي حال جهر الإمام لا يستفتح، ولا يتعوذ، وفي هذه المسألة نزاع، وفيها ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد، قيل: إنه حال الجهر يستفتح ويتعوذ، ولا يقرأ ; لأنه بالاستماع يحصل له مقصود القراءة ; بخلاف الاستفتاح والاستعاذة، فإنه لا يسمعهما، وقيل: يستفتح ولا يتعوذ، لأن الاستفتاح تابع لتكبيرة الإحرام بخلاف التعوذ فإنه تابع للقراءة، فمن لم يقرأ لا يتعوذ، وقيل: لا يستفتح ولا يتعوذ حال الجهر، وهذا أصح، فإن ذلك يشغل عن الاستماع والإنصات المأمور به، وليس له أن يشتغل عما أمر به بشيء من الأشياء، ثم اختلف أصحاب أحمد: فمنهم من قال: هذا الخلاف إنما هو في حال سكوت الإمام، هل يشتغل بالاستفتاح، أو الاستعاذة، أو بأحدهما أو لا يشتغل إلا بالقراءة لكونها مختلفا في وجوبها، وأما في حال الجهر فلا يشتغل بغير الإنصات والمعروف عند أصحابه أن هذا النزاع هو في حال الجهر، لما تقدم من التعليل، وأما في حال المخافتة فالأفضل له أن يستفتح، واستفتاحه حال سكوت الإمام أفضل من قراءته في ظاهر مذهب أحمد، وأبي حنيفة وغيرهما ; لأن القراءة يعتاض عنها بالاستماع، بخلاف الاستفتاح، وأما قول القائل: إن قراءة المأموم مختلف في وجوبها، فيقال: وكذلك الاستفتاح هل يجب ؟ فيه قولان مشهوران في مذهب أحمد، ولم يختلف قوله: إنه لا يجب على المأموم القراءة في حال الجهر، واختار ابن بطة وجوب الاستفتاح، وقد ذكر ذلك روايتين عن أحمد، فعلم أن من قال من أصحابه كأبي الفرج بن الجوزي أن القراءة حال المخافتة أفضل في مذهبه من الاستفتاح، فقد غلط على مذهبه، ولكن هذا يناسب قول من استحب قراءة الفاتحة حال الجهر، وهذا ما علمت أحدا قاله من أصحابه، قبل جدي أبي البركات، وليس هو مذهب أحمد ولا عامة أصحابه، مع أن تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر، فإن ذلك وصف حادث بعد النبي ﷺ ولكن يسلكه من لم يكن عالما بالأدلة الشرعية في نفس الأمر، لطلب الاحتياط، وعلى هذا ففي حال المخافتة هل يستحب له مع الاستفتاح الاستعاذة إذا لم يقرأ ؟ على روايتين، والصواب: أن الاستعاذة لا تشرع إلا لمن قرأ، فإن اتسع الزمان للقراءة استعاذ وقرأ، وإلا أنصت، وأما الفصل الثاني: وهو القراءة إذا لم يسمع قراءة الإمام كحال مخافتة الإمام وسكوته، فإن الأمر بالقراءة والترغيب فيها يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره، فإن قراءة القرآن في الصلاة أفضل منها خارج الصلاة، وما ورد من الفضل لقارئ القرآن يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره ; لقوله ﷺ: { من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف } قال الترمذي: حديث صحيح، وقد ثبت في خصوص الصلاة قوله في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم عن { أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج - ثلاثا أي: غير تمام فقيل لأبي هريرة: إني أكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: { الحمد لله رب العالمين } قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: { الرحمن الرحيم } قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: { مالك يوم الدين } قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي - فإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل }، وروى مسلم في صحيحه عن { عمران بن حصين: أن رسول الله ﷺ صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه: ب { سبح اسم ربك الأعلى }، فلما انصرف قال: أيكم قرأ أو أيكم القارئ - قال رجل: أنا، قال: قد ظننت أن بعضكم خالجنيها } رواه مسلم، فهذا قد قرأ خلفه في صلاة الظهر ولم ينهه ولا غيره عن القراءة، لكن قال: { قد ظننت أن بعضكم خالجنيها } أي نازعنيها، كما قال في الحديث الآخر: { إني أقول ما لي أنازع القرآن }، وفي المسند عن { ابن مسعود قال: كانوا يقرءون خلف النبي ﷺ فقال: خلطتم علي القرآن } فهذا كراهة منه لمن نازعه وخالجه، وخلط عليه القرآن، وهذا لا يكون ممن قرأ في نفسه بحيث لا يسمعه غيره، وإنما يكون ممن أسمع غيره، وهذا مكروه لما فيه من المنازعة لغيره، لا لأجل كونه قارئا خلف الإمام، وأما مع مخافته الإمام فإن هذا لم يرد حديث بالنهي عنه، ولهذا قال: " أيكم القارئ ؟ "، أي القارئ الذي نازعني، لم يرد بذلك القارئ في نفسه، فإن هذا لا ينازع، ولا يعرف أنه خالج النبي ﷺ وكراهة القراءة خلف الإمام إنما هي إذا امتنع من الإنصات المأمور به، أو إذا نازع غيره، فإذا لم يكن هناك إنصات مأمور به، ولا منازعة فلا وجه للمنع من تلاوة القرآن في الصلاة، والقارئ هنا لم يعتض عن القراءة باستماع، فيفوته الاستماع والقراءة جميعا، مع الخلاف المشهور في وحوب القراءة في مثل هذه الحال، فخلاف وجوبها في حال الجهر، فإنه شاذ حتى نقل أحمد الإجماع على خلافه، وأبو هريرة وغيره من الصحابة فهموا من قوله: { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: { الحمد لله رب العالمين } } أن ذلك يعم الإمام والمأموم، وأيضا فجميع الأذكار التي يشرع للإمام أن يقولها سرا يشرع للمأموم أن يقولها سرا كالتسبيح في الركوع والسجود، وكالتشهد والدعاء، ومعلوم أن القراءة أفضل من الذكر والدعاء، فلأي معنى لا تشرع القراءة في السر وهو لا يسمع قراءة السر، ولا يؤمن على قراءة الإمام في السر، وأيضا فإن الله سبحانه لما قال: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون }، وقال: { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين }، وهذا أمر للنبي ﷺ ولأمته، فإنه ما خوطب به خوطبت به الأمة ما لم يرد نص بالتخصيص، كقوله: { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب }، وقوله: { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل }، وقوله: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل }، ونحو ذلك، وهذا أمر يتناول الإمام والمأموم والمنفرد بأن يذكر الله في نفسه بالغدو والآصال، وهو يتناول صلاة الفجر والظهر والعصر، فيكون المأموم مأمورا بذكر ربه في نفسه لكن إذا كان مستمعا كان مأمورا بالاستماع، وإن لم يكن مستمعا كان مأمورا بذكر ربه في نفسه، والقرآن أفضل من الذكر كما قال تعالى: { وهذا ذكر مبارك أنزلناه }، وقال تعالى: { وقد آتيناك من لدنا ذكرا }، وقال تعالى: { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيمة أعمى }، وقال: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }، وأيضا: فالسكوت بلا قراءة ولا ذكر ولا دعاء ليس عبادة، ولا مأمورا به، بل يفتح باب الوسوسة، فالاشتغال بذكر الله أفضل من السكوت، وقراءة القرآن من أفضل الخير، وإذا كان كذلك فالذكر بالقرآن أفضل من غيره، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { أفضل الكلام بعد القرآن أربع - وهن من القرآن - سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر } رواه مسلم في صحيحه، وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: { جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه، فقال: قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال: يا رسول الله، هذا لله فما لي، قال: قل: اللهم ارحمني، وارزقني، وعافني، واهدني فلما قام قال: هكذا بيديه - فقال رسول الله ﷺ: أما هذا فقد ملأ يديه من الخير } رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والذين أوجبوا القراءة في الجهر: احتجوا بالحديث الذي في السنن عن عبادة أن النبي ﷺ قال: { إذا كنتم ورائي فلا تقرءوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها } وهذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة، ضعفه أحمد وغيره من الأئمة وقد بسط الكلام على ضعفه في غير هذا الموضع، وبين أن الحديث الصحيح قول النبي ﷺ: { لا صلاة إلا بأم القرآن } فهذا هو الذي أخرجاه في الصحيحين ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين وأصله أن عبادة كان يؤم ببيت المقدس، فقال هذا فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة، وأيضا: فقد تكلم العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة، وبسطوا القول فيها، وفي غيرها، من المسائل، وتارة أفردوا القول فيها في مصنفات مفردة، وانتصر طائفة للإثبات في مصنفات مفردة: كالبخاري وغيره، وطائفة للنفي: كأبي مطيع البلخي، وكرام، وغيرهما، ومن تأمل مصنفات الطوائف تبين له القول الوسط، فإن عامة المصنفات المفردة تتضمن صور كل من القولين المتباينين، قول من ينهى عن القراءة خلف الإمام، حتى في صلاة السر، وقول من يأمر بالقراءة خلفه مع سماع جهر الإمام، والبخاري ممن بالغ في الانتصار للإثبات بالقراءة حتى مع جهر الإمام ; بل يوجب ذلك، كما يقوله الشافعي في الجديد، وابن حزم، ومع هذا فحججه ومصنفه إنما تتضمن تضعيف قول أبي حنيفة في هذه المسألة وتوابعها، مثل كونه .

- سئل: الصلاة خلف المرازقة، وعن بدعتهم، أجاب: يجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة، ولا فسقا، باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، فيقول: ماذا تعتقد ؟ بل يصلي خلف مستور الحال . - مسألة: في رجل خرج إلى صلاة الجمعة، وقد أقيمت الصلاة: فهل يجري إلى أن يأتي الصلاة، أو يأتي هونا ولو فاتته ؟ الجواب: الحمد لله، إذا خشي فوت الجمعة، فإنه يسرع حتى يدرك منها ركعة فأكثر، وأما إذا كان يدركها مع المشي وعليه السكينة فهذا أفضل، بل هو السنة، والله أعلم .

- مسألة: في الصلاة يوم الجمعة بالسجدة: هل تجب المداومة عليها أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، ليست قراءة { الم تنزيل } التي فيها السجدة ولا غيرها من ذوات السجود واجبة في فجر الجمعة باتفاق الأئمة، ومن اعتقد ذلك واجبا أو ذم من ترك ذلك فهو ضال مخطئ، يجب عليه أن يتوب من ذلك باتفاق الأئمة، وإنما تنازع العلماء في استحباب ذلك وكراهيته، فعند مالك يكره أن يقرأ بالسجدة في الجهر، والصحيح أنه لا يكره، كقول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه { سجد في العشاء ب { إذا السماء انشقت } } وثبت عنه في الصحيحين { أنه كان يقرأ في الفجر يوم الجمعة { الم تنزيل } و { هل أتى } }، وعند مالك يكره أن يقصد سورة بعينها، وأما الشافعي وأحمد فيستحبون ما جاءت به السنة، مثل الجمعة والمنافقين، في الجمعة، والذاريات واقتربت في العيد، والم تنزيل وهل أتى في فجر الجمعة، لكن هنا مسألتان نافعتان: إحداهما: أنه لا يستحب أن يقرأ بسورة فيها سجدة أخرى باتفاق الأئمة، فليس الاستحباب لأجل السجدة، بل للسورتين، والسجدة جاءت اتفاقا، فإن هاتين السورتين فيهما ذكر ما يكون في يوم الجمعة من الخلق والبعث، الثانية: أنه لا ينبغي المداومة عليها، بحيث يتوهم الجهال أنها واجبة، وأن تاركها مسيء، بل ينبغي تركها أحيانا لعدم وجوبها، والله أعلم . - سئل: عمن قرأ " سورة السجدة " يوم الجمعة: هل المطلوب السجدة فيجزئ بعض السورة، والسجدة في غيرها ؟ أم المطلوب السورة ؟ الجواب: الحمد لله، بل المقصود قراءة السورتين: { الم تنزيل } و: { هل أتى على الإنسان } لما فيهما من ذكر خلق آدم، وقيام الساعة، وما يتبع ذلك، فإنه كان يوم الجمعة، وليس المقصود السجدة، فلو قصد الرجل قراءة سورة سجدة أخرى كره ذلك، والنبي ﷺ يقرأ السورتين كلتاهما، فالسنة قراءتهما بكمالهما، ولا ينبغي المداومة على ذلك، لئلا يظن الجاهل أن ذلك واجب، بل يقرأ أحيانا غيرهما من القرآن، والشافعي، وأحمد اللذان يستحبان قراءتهما، وأما مالك وأبو حنيفة فعندهما يكره قصد قراءتهما .

- مسألة: فيمن أدرك ركعة من صلاة الجمعة، ثم قام ليقضي ما عليه، فهل يجهر بالقراءة أم لا ؟ الجواب: بل يخافت بالقراءة، ولا يجهر ; لأن المسبوق إذا قام يقضي فإنه منفرد فيما يقضيه، حكمه حكم المنفرد، وهو فيما يدركه في حكم المؤتم ; ولهذا يسجد المسبوق إذا سها فيما يقضيه، وإذا كان كذلك فالمسبوق إنما يجهر فيما يجهر فيه المنفرد، فمن كان من العلماء مذهبه أن يجهر المنفرد في العشاءين والفجر، فإنه يجهر إذا قضى الركعتين الأوليين، ومن كان مذهبه أن المنفرد لا يجهر فإنه لا يجهر المسبوق عنده، والجمعة لا يصليها أحد منفردا، فلا يتصور أن يجهر فيها المنفرد، والمسبوق كالمنفرد فلا يجهر، لكنه مدرك للجمعة ضمنا وتبعا، ولا يشترط في التابع ما يشترط في المتبوع، ولهذا لا يشترط لما يقضيه المسبوق العدد، ونحو ذلك، لكن مضت السنة أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة فهو مدرك للجمعة، كمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فإنه مدرك، وإن كانت بقية الصلاة فعلت خارج الوقت، والله أعلم .

- مسألة: في صلاة الجمعة في جامع القلعة: هل هي جائزة، مع أن في البلد خطبة أخرى، مع وجود سورها، وغلق أبوابها - أم لا ؟ الجواب: نعم، يجوز أن يصلي فيها جمعة لأنها مدينة أخرى، كمصر والقاهرة، ولو لم تكن كمدينة أخرى فإقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة يجوز عند أكثر العلماء ; ولهذا لما بنيت بغداد ولها جانبان أقاموا فيها جمعة في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وجوز ذلك أكثر العلماء، وشبهوا ذلك بأن النبي ﷺ في مدينته إلا في موضع يخرج بالمسلمين فيصلي العيد بالصحراء، وكذلك كان الأمر في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فلما تولى علي بن أبي طالب وصار بالكوفة، وكان الخلق بها كثيرا، قالوا: يا أمير المؤمنين، إن بالمدينة شيوخا وضعفاء يشق عليهم الخروج إلى الصحراء فاستخلف علي بن أبي طالب رجلا يصلي بالناس العيد في المسجد، وهو يصلي بالناس خارج الصحراء، ولم يكن هذا يفعل قبل ذلك، وعلي من الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي ﷺ: { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي }، فمن تمسك بسنة الخلفاء الراشدين فقد أطاع الله ورسوله، والحاجة في هذه البلاد وفي هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم، ولا يمكنهم جمعة واحدة إلا بمشقة عظيمة، وهنا وجه ثالث: وهو أن يجعل القلعة كأنها قرية خارج المدينة، والذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأحمد أن الجمعة تقام في القرى ; لأن في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: { أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بجواثى قرية من قرى البحرين وكان ذلك على عهد رسول الله ﷺ حين قدم عليه وفد عبد القيس }، وكذلك كتب عمر بن الخطاب إلى المسلمين يأمرهم بالجمعة حيث كانوا، وكان عبد الله بن عمر يمر بالمياه التي بين مكة والمدينة وهم يقيمون الجمعة فلا ينكر عليهم، وأما قول علي رضي الله عنه: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع، فلو لم يكن له مخالف لجاز أن يراد به أن كل قرية مصر جامع كما أن المصر الجامع يسمى قرية، وقد سمى الله مكة قرية، بل سماها أم القرى " بل وما هو أكبر من مكة، كما في قوله: { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } وسمى مصر القديمة قرية بقوله: { واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها }، ومثله في القرآن كثير، والله أعلم .

- مسألة: في رجلين اختلفا في الصلاة في جامع بني أمية، هل هي بتسعين صلاة كما زعموا أم لا ؟ ذكروا أن فيه ثلاثمائة نبي مدفونين، فهل ذلك صحيح أم لا ؟ وقد ذكروا أن النائم بالشام كالقائم بالليل بالعراق، وذكروا أن الصائم المتطوع بالعراق كالمفطر بالشام، وقد ذكروا أن الله خلق البركة أحد وسبعين جزءا منها جزء واحد بالعراق وسبعون بالشام، فهل هذا صحيح أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، لم يرد في جامع دمشق في حديث عن النبي ﷺ بتضعيف الصلاة فيه، ولكن هو من أكثر المساجد ذكرا لله تعالى، ولم يثبت أن عدد الأنبياء المذكورين، وأما القائم بالشام أو غيره فالأعمال بالنيات، فإن المقيم فيه بنية صالحة فإنه يثاب على ذلك، وكل مكان يكون فيه العبد أطوع لله فمقامه فيه أفضل، وقد جاء في فضل الشام وأهله أحاديث صحيحة، ودل القرآن على أن البركة في أربع مواضع، ولا ريب أن ظهور الإسلام وأعوانه فيه بالقلب واليد واللسان أقوى منه في غيره، وفيهن ظهور الإيمان وقمع الكفر والنفاق ما لا يوجد في غيره. وأما ما ذكر من حديث الفطر والصيام وأن البركة أحد وسبعون جزءا بالشام والعراق على ما ذكر فهذا لم نسمعه من أحد من أهل العلم، والله أعلم . فصل وأما السنة بعد الجمعة فقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ { أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين }، كما ثبت عنه في الصحيحين { أنه كان يصلي قبل الفجر ركعتين: وبعد الظهر ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين }، وأما الظهر ففي حديث ابن عمر: { أنه كان يصلي قبلها ركعتين } وفي الصحيحين عن عائشة: { أنه كان يصلي قبلها أربعا }، وفي الصحيح عن أم حبيبة أن النبي ﷺ قال: { من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة بنى الله له بيتا في الجنة }، وجاء مفسرا في السنن: { أربعا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر }، فهذه هي السنن الراتبة التي ثبتت في الصحيح عن النبي ﷺ بقوله وفعله، مدارها على هذه الأحاديث الثلاثة: حديث ابن عمر، وعائشة، وأم حبيبة، وكان النبي ﷺ يقوم بالليل: إما إحدى عشرة ركعة ، وإما ثلاث عشرة ركعة، فكان مجموع صلاته بالليل والنهار فرضه ونفله نحوا من أربعين ركعة، والناس في هذه السنن الرواتب ثلاثة أقوال: منهم من لا يوقت في ذلك شيئا، كقول مالك، فإنه لا يرى سنة إلا الوتر، وركعتي الفجر، وكان يقول إنما يوقت أهل العراق، ومنهم من يقدر في ذلك أشياء بأحاديث ضعيفة، بل باطلة، كما يوجد في مذاهب أهل العراق، وبعض من وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد، فإن هؤلاء يوجد في كتبهم من الصلوات المقدرة والأحاديث في ذلك ما يعلم أهل المعرفة بالسنة أنه مكذوب على النبي ﷺ كمن روى عنه ﷺ: { أنه صلى قبل العصر أربعا } " أو أنه قضى سنة العصر " أو " أنه صلى قبل الظهر ستا " أو " بعدها أربعا " أو " أنه كان يحافظ على الضحى "، وأمثال ذلك من الأحاديث المكذوبة على النبي ﷺ: وأشد من ذلك ما يذكره بعض المصنفين في الرقائق والفضائل " في الصلوات الأسبوعية، والحولية: كصلاة يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، والسبت، المذكورة في كتاب أبي طالب، وأبي حامد، وعبد القادر، وغيرهم، وكصلاة "

الألفية " التي في أول رجب، ونصف شعبان، والصلاة " الاثني عشرية " التي في أول ليلة جمعة من رجب، والصلاة التي في ليلة سبع وعشرين من رجب، وصلوات أخر تذكر في الأشهر الثلاثة، وصلاة ليلتي العيدين وصلاة يوم عاشوراء، وأمثال ذلك من الصلوات المروية عن النبي ﷺ مع اتفاق أهل المعرفة بحديثه أن ذلك كذب عليه، ولكن بلغ ذلك أقواما من أهل العلم والدين، فظنوه صحيحا، فعملوا به، وهم مأجورون على حسن قصدهم واجتهادهم، لا على مخالفة السنة، وأما من تبينت له السنة فظن أن غيرها خير منها فهو ضال مبتدع، بل كافر، والقول الوسط العدل هو ما وافق السنة الصحيحة الثابتة عنه ﷺ: وقد ثبت عنه أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين، وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: { من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل بعدها أربعا }، وقد روى السبت عن طائفة من الصحابة جمعا بين هذا وهذا، والسنة أن يفصل بين الفرض والنفل في الجمعة، وغيرها، كما ثبت عنه في الصحيح { أنه ﷺ نهى أن توصل صلاة بصلاة، حتى يفصل بينهما بقيام أو كلام } فلا يفعل ما يفعله كثير من الناس. يصل السلام بركعتي السنة، فإن هذا ركوب لنهي النبي ﷺ، وفي هذا من الحكمة التمييز بين الفرض وغير الفرض، كما يميز بين العبادة وغير العبادة، ولهذا استحب تعجيل الفطور، وتأخير السحور، والأكل يوم الفطر قبل الصلاة، ونهي عن استقبال رمضان بيوم أو يومين، فهذا كله للفصل بين المأمور به من الصيام، وغير المأمور به، والفصل بين العبادة وغيرها، وهكذا تتميز الجمعة التي أوجبها الله من غيرها، وأيضا فإن كثيرا من أهل البدع كالرافضة وغيرهم لا ينوون الجمعة بل ينوون الظهر، ويظهرون أنهم سلموا، وما سلموا، فيصلون ظهرا ويظن الظان أنهم يصلون السنة، فإذا حصل التمييز بين الفرض والنفل كان في هذا منع لهذه البدعة، وهذا له نظائر كثيرة، والله سبحانه أعلم . - مسألة: هل قراءة الكهف بعد عصر الجمعة، جاء فيه حديث أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، قراءة سورة الكهف يوم الجمعة فيها آثار، ذكرها أهل الحديث والفقه، لكن هي مطلقة يوم الجمعة، ما سمعت أنها مختصة بعد العصر، والله أعلم .

- مسألة: هل يتعين قراءة بعينها في صلاة العيدين ؟ وما يقول الإنسان بين كل تكبيرتين ؟ الجواب: الحمد لله مهما قرأ به جاز، كما تجوز القراءة في نحوها من الصلوات، لكن إذا قرأ بقاف، واقتربت، أو نحو ذلك مما جاء في الأثر، كان حسنا، وأما بين التكبيرات: فإنه يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي ﷺ ويدعو بما شاء، هكذا روى نحو هذا العلماء عن عبد الله بن مسعود، وإن قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد اللهم اغفر لي، وارحمني، كان حسنا، وكذلك إن قال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، ونحو ذلك، وليس في ذلك شيء مؤقت عن النبي ﷺ والصحابة والله أعلم .

- مسألة: فيمن يقرأ القرآن، هل يقرأ سورة الإخلاص مرة أو ثلاثا ؟ وما السنة في ذلك ؟ الجواب: إذا قرأ القرآن كله ينبغي أن يقرأها كما في المصحف مرة واحدة، هكذا قال العلماء، لئلا يزاد على ما في المصحف، وأما إذا قرأها وحدها، أو مع بعض القرآن فإنه إذا قرأها ثلاث مرات عدلت القرآن، والله أعلم .

- مسألة: هل التكبير يجب في عيد الفطر أكثر من عيد الأضحى ؟ بينوا لنا مأجورين الجواب: أما التكبير فإنه مشروع في عيد الأضحى بالاتفاق، وكذلك هو مشروع في عيد الفطر: عند مالك، والشافعي، وأحمد، وذكر ذلك الطحطاوي مذهبا لأبي حنيفة، وأصحابه، والمشهور عنهم خلافه، لكن التكبير فيه هو المأثور عن الصحابة رضوان الله عليهم، والتكبير فيه أوكد من جهة أن الله أمر به بقوله: { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون }، والتكبير فيه: أوله من رؤية الهلال، وآخره انقضاء العيد، وهو فراغ الإمام من الخطبة على الصحيح، وأما التكبير في النحر فهو أوكد من جهة أنه يشرع أدبار الصلوات وأنه متفق عليه، وأن عيد النحر يجتمع فيه المكان والزمان، وعيد النحر أفضل من عيد الفطر، ولهذا كانت العبادة فيه النحر مع الصلاة، والعبادة في ذاك الصدقة مع الصلاة، والنحر أفضل من الصدقة، لأنه يجتمع فيه العبادتان البدنية والمالية، فالذبح عبادة بدنية ومالية، والصدقة والهدية عبادة مالية ولأن الصدقة في الفطر تابعة للصوم، لأن النبي ﷺ فرضها طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين ولهذا سن أن تخرج قبل الصلاة، كما قال تعالى: { قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى }، وأما النسك فإنه مشروع في اليوم نفسه عبادة مستقلة، ولهذا يشرع بعد الصلاة، كما قال تعالى: { فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر }، فصلاة الناس في الأمصار بمنزلة رمي الحجاج جمرة العقبة، وذبحهم في الأمصار بمنزلة ذبح الحجاج هديهم، وفي الحديث الذي في السنن: { أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القسر } وفي الحديث الآخر الذي في السنن وقد صححه الترمذي { يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله } ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أن أهل الأمصار يكبرون من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، لهذا الحديث، ولحديث آخر رواه الدارقطني عن جابر عن النبي ﷺ، ولأنه إجماع من أكابر الصحابة والله أعلم .

- سئل: عن صفة التكبير في العيدين، ومتى وقته ؟ الجواب: الحمد لله، أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر من فجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق، عقب كل صلاة، ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة، وصفة التكبير المنقول عند أكثر الصحابة: قد روي مرفوعا إلى النبي ﷺ: { الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد }، وإن قال الله أكبر ثلاثا جاز، ومن الفقهاء من يكبر ثلاثا فقط، ومنهم من يكبر ثلاثا ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأما التكبير في الصلاة فيكبر المأموم تبعا للإمام، وأكثر الصحابة رضي الله عنهم والأئمة يكبرون سبعا في الأولى، وخمسا في الثانية، وإن شاء أن يقول بين التكبيرتين: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم اغفر لي، وارحمني، كان حسنا، كما جاء ذلك عن بعض السلف، والله أعلم .

- مسألة: فيمن يحفظ القرآن: أيهما أفضل له تلاوة القرآن مع أن النسيان أو التسبيح وما عداه من الاستغفار والأذكار في سائر الأوقات، مع علمه بما ورد في الباقيات الصالحات، والتهليل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وسيد الاستغفار، وسبحان الله، وبحمده سبحان الله العظيم ؟ الجواب: الحمد لله، جواب هذه المسألة ونحوها مبني على أصلين: فالأصل الأول: أن جنس تلاوة القرآن أفضل من جنس الأذكار، كما أن جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم، عن النبي ﷺ أنه قال: { أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر }، وفي الترمذي، عن أبي سعيد، عنه ﷺ أنه قال: { من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } وكما في الحديث الذي في السنن، في الذي سأل النبي ﷺ فقال: { إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في صلاتي، قال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر }، ولهذا كانت القراءة في الصلاة واجبة، فإن الأئمة لا تعدل عنها إلى الذكر إلا عند العجز، والبدل دون المبدل منه، وأيضا فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى دون الذكر والدعاء، وما لم يشرع إلا على الحال الأكمل فهو أفضل، كما أن الصلاة لما اشترط لها الطهارتان كانت أفضل من مجرد القراءة، كما قال النبي ﷺ: { استقيموا ولن تحصوا، اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة } ولهذا نص العلماء على أن أفضل تطوع البدن الصلاة، وأيضا: فما يكتب فيه القرآن لا يمسه إلا طاهر، وقد حكى إجماع العلماء على أن القراءة أفضل، لكن طائفة من الشيوخ رجحوا الذكر، ومنهم من زعم أنه أرجح في حق المنتهي المجتهد، كما ذكر ذلك أبو حامد في كتبه، ومنهم من قال: هو أرجح في حق المبتدئ السالك، وهذا أقرب إلى الصواب، وتحقيق ذلك يذكر في الأصل الثاني، وهو أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصيره أفضل من ذلك، وهو نوعان: أحدهما ما هو مشروع لجميع الناس، والثاني: ما يختلف باختلاف أحوال الناس، أما الأول: فمثل أن يقترن إما بزمان، أو بمكان، أو عمل يكون أفضل، مثل ما بعد الفجر والعصر ونحوهما من أوقات النهي عن الصلاة، فإن القراءة والذكر والدعاء أفضل في هذا الزمان، وكذلك الأمكنة التي نهي عن الصلاة فيها كالحمام، وأعطان الإبل، والمقبرة، فالذكر والدعاء فيها أفضل، وكذلك الجنب الذكر في حقه أفضل، فإذا كره الأفضل في حال حصول مفسدة كان المفضول هناك أفضل بل هو المشروع، وكذلك حال الركوع والسجود، فإنه قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: { نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم }، وقد اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك على قولين، هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، وذلك تشريفا للقرآن، وتعظيما له أن لا يقرأ في حال الخضوع والذل، كما كره أن يقرأ مع الجنازة، وكما كره أكثر العلماء قراءته في الحمام، وما بعد التشهد، هو حال الدعاء المشروع بفعل النبي ﷺ وأمره، والدعاء فيه هو أفضل بل هو المشروع دون القراءة والذكر، وكذلك بالطواف، وبعرفة، ومزدلفة، وعند رمي الجمار، والمشروع هناك هو الذكر والدعاء، وقد تنازع العلماء في القراءة في الطواف: هل تكره أم لا تكره ؟ على قولين

مشهورين، والنوع الثاني: أن يكون العبد عاجزا عن العمل الأفضل، إما عاجزا عن أصله، كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه، كالأعرابي الذي سأل النبي ﷺ أو عاجزا عن فعله على وجه الكمال مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال، ومن هنا قال من قال: إن الذكر أفضل من القرآن، فإن الواحد من هؤلاء قد يخبر عن حاله، وأكثر السالكين، بل العارفين منهم إنما يخبر أحدهم عما ذاقه ووجده، لا يذكر أمرا عاما للخلق، إذ المعرفة تقتضي أمورا معينة جزئية، والعلم يتناول أمرا عاما كليا، فالواحد من هؤلاء يجد في الذكر من اجتماع قلبه، وقوة إيمانه، واندفاع الوسواس عنه، ومزيد السكينة، والنور والهدى، ما لا يجده في قراءة القرآن، بل إذا قرأ القرآن لا يفهمه، أو لا يحضر قلبه وفهمه، ويلعب عليه الوسواس والفكر، كما أن من الناس من يجتمع قلبه في قراءة القرآن وفهمه وتدبره ما لا يجتمع في الصلاة، بل يكون في الصلاة بخلاف ذلك، وليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد، بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له، فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام وبالعكس، وإن كان جنس الصدقة أفضل، ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد، كالنساء، وكمن يعجز عن الجهاد، وإن كان جنس الجهاد أفضل، قال النبي ﷺ: { الحج جهاد كل ضعيف } ونظائر هذا متعددة، إذا عرف هذان الأصلان عرف بهما جواب هذه المسائل، إذا عرف هذا، فيقال الأذكار المشروعة في أوقات متعينة مثل: ما يقال عند جواب المؤذن هو أفضل من القراءة في تلك الحال، وكذلك ما سنه النبي ﷺ فيما يقال عند الصباح والمساء، وإتيان المضطجع هو مقدم على غيره، وأما إذا قام من الليل فالقراءة له أفضل إذا أطاقها، وإلا فليعمل ما يطيق، والصلاة أفضل منهما، ولهذا نقلهم عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة فقال: { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن } الآية، والله أعلم .

مسألة: في رجل يتلو القرآن مخافة النسيان، ورجاء الثواب، فهل يؤجر على قراءته للدراسة ومخافة النسيان أم لا ؟ وقد ذكر رجل ممن ينسب إلى العلم أن القارئ إذا قرأ للدراسة مخافة النسيان أنه لا يؤجر، فهل قوله صحيح أم لا ؟ الجواب: بل إذا قرأ القرآن لله تعالى فإنه يثاب على ذلك بكل حال، ولو قصد بقراءته أنه يقرؤه لئلا ينساه، فإن نسيان القرآن من الذنوب، فإذا قصد بالقراءة أداء الواجب عليه من دوام حفظه للقرآن، واجتناب ما نهي عنه من إهماله حتى ينساه، فقد قصد طاعة الله، فكيف لا يثاب، وفي الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: { استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها }، وقال ﷺ: { عرضت علي سيئات أمتي فرأيت من مساوئ أعمالها الرجل يؤتيه الله آية من القرآن فينام عنها حتى ينساها } "، وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: { ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه إلا غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفت بهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) والله أعلم .

- مسألة: فيما ذكر الأستاذ القشيري في باب الرضا، عن الشيخ أبي سليمان أنه قال: الرضا أن لا يسأل الله الجنة، ولا يستعيذ من النار، فهل هذا الكلام صحيح ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، الكلام على هذا القول من وجهين: أحدهما: من جهة ثبوته عن الشيخ، والثاني: من جهة صحته في نفسه وفساده، أما المقام الأول فينبغي أن يعلم أن الأستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان بإسناد، وإنما ذكره مرسلا عنه، وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين والمشايخ وغيرهم تارة يذكره بإسناد، وتارة يذكر مرسلا، وكثيرا ما يقول: وقيل كذا، ثم الذي يذكره بالإسناد تارة يكون إسناده صحيحا، وتارة يكون ضعيفا، بل موضوعا، وما يذكره مرسلا ومحذوف القائل أولى، وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء، فإن فيها من الأحاديث والآثار ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما هو موضوع، فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الآثار المنقولة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع، وهذا الأمر متفق عليه بين جميع المسلمين، لا يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا، وفيها هذا، بل نفس الكتب المصنفة في التفسير فيها هذا، وهذا، مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولات، وفي كتبهم هذا وهذا، فكيف غيرهم، والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه، أو التصوف، أو الحديث، ويروون هذا تارة لأنهم لم يعلموا أنه كذب، وهو الغالب على أهل الدين، فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب، وتارة يذكرونه، وإن علموا أنه كذب إذ قصدهم رواية ما روي في ذلك الباب، ورواية الأحاديث المكذوبة مع بيان كونها كذبا جائز، وأما روايتها مع الإمساك عن ذلك رواية عمل، فإنه حرام عند العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { من حدث عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين }، وقد فعل ذلك كثير من العلماء، متأولين أنهم لم يكذبوا، وإنما نقلوا ما رواه غيرهم، وهذا يسهل إذا رووه لتعريف أنه روي، لا لأجل العمل به ولا الاعتماد عليه، والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولات عن النبي ﷺ وغيره من السلف، فيه الصحيح والضعيف والموضوع، فالصحيح الذي قامت الدلالة على صدقه .

والموضوع الذي قامت الدلالة على كذبه، والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقه: إما لسوء حفظه، وإما لاتهامه، ولكن يمكن أن يكون صادقا فيه، فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ، وغالب أبواب الرسالة فيها الأقسام الثلاثة، ومن ذلك باب الرضا، فإنه ذكر عن النبي ﷺ أنه قال: { ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد ﷺ نبيا }، وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وإن كان الأستاذ لم يذكر أن مسلما رواه، لكنه رواه بإسناد صحيح وذكر في أول هذا الباب حديثا ضعيفا بل موضوعا، وهو حديث جابر الطويل، الذي رواه من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، فهو وإن كان أول حديث ذكره في الباب، فإن حديث الفضل بن عيسى من أوهى الأحاديث وأسقطها، ولا نزاع بين الأئمة أنه لا يعتمد عليها، ولا يحتج بها، فإن الضعف ظاهر عليها، وإن كان هو لا يعتمد الكذب، فإن كثيرا من الفقهاء لا يحتج بحديثهم لسوء الحفظ لا لاعتماد الكذب، وهذا الرقاشي اتفقوا على ضعفه، كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن، حتى قال أيوب السختياني: " لو ولد أخرس لكان خيرا له "، وقال سفيان بن عيينة: " لا شيء "، وقال الإمام أحمد والنسائي: " هو ضعيف "، وقال يحيى بن معين: " رجل سوء "، وقال أبو حاتم وأبو زرعة: " منكر الحديث "، وكذلك ما ذكره من الآثار فإنه قد ذكر آثارا حسنة، بأسانيد حسنة، مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه قال: { إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض }، فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي بإسناده، والشيخ أبو عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلام هؤلاء المشايخ وحكاياتهم، وصنف في الأسماء كتاب " طبقات الصوفية "، وكتاب زهاد السلف "، وغير ذلك، وصنف في الأبواب كتاب " مقامات الأولياء "، وغير ذلك، ومصنفاته تشتمل على الأقسام الثلاثة، وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال: سمعت النصر آبادي يقول: " من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه "، فإن هذا الكلام في غاية الحسن، فإنه من لزم ما يرضي الله من امتثال أوامره، واجتناب نواهيه لا سيما إذا قام بواجبها ومستحبها، فإن الله يرضى عنه، كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه الله، كما قال في الحديث الصحيح الذي في البخاري { من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبد بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته } الحديث . وطلب الجنة، والاستعاذة من النار، طريق أنبياء الله ورسله، وجميع أوليائه السابقين المقربين، وأصحاب اليمين، كما في السنن { أن النبي ﷺ سأل بعض أصحابه كيف تقول في دعائك، قال: أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال: حولهما ندندن }، فقد أخبر أنه هو ﷺ ومعاذ، وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي ﷺ إنما يدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله ﷺ ومعاذ، ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار، ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة، وأهل الجنة نوعان: سابقون مقربون، وأبرار أصحاب يمين، قال تعالى: { { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم، عينا يشرب بها المقربون }، قال ابن عباس: " تمزج لأصحاب اليمين مزجا، ويشربها المقربون صرفا "، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة }، فقد أخبر أن الوسيلة التي لا تصلح إلا لعبد واحد من عباد الله، ورجا أن يكون هو ذلك العبد، هي درجة في الجنة، فهل بقي بعد الوسيلة شيء أعلى منها يكون خارجا عن الجنة يصلح للمخلوقين، وثبت في الصحيح أيضا في حديث الملائكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال: { فيقولون للرب تبارك وتعالى وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك، قال: فيقول: وما يطلبون ؟ قالوا: يطلبون الجنة، قال: فيقول: وهل رأوها ؟، قال: فيقولون: لا، قال: فيقول: فكيف لو رأوها ؟، قال: فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد لها طلبا، قال: ومما يستعيذون، قالوا: يستعيذون من النار، قال: فيقول: وهل رأوها ؟، قال : فيقولون: لا، قال: فيقول: فكيف لو رأوها ؟، قالوا: لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة، قال: فيقول: أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون، وأعذتهم مما يستعيذون أو كما قال، قال: فيقولون: فيهم فلان الخطاء، جاء لحاجة فجلس معهم، قال: فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم }، فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة، ومهربهم من النار، والنبي ﷺ لما بايع الأنصار ليلة العقبة، وكان الذين اتبعوه من أفضل السابقين الأولين الذين هم أفضل من هؤلاء المشايخ كلهم، قالوا للنبي ﷺ: اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك، قال: { أشترط لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم، وأشترط لأصحابي أن تواسوهم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟، قال: لكم الجنة، قالوا: مد يدك، فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك، وقد قالوا له في أثناء البيعة: إن بيننا وبين القوم حبالا وعهودا وإنا ناقضوها }، فهؤلاء الذين هم من أعظم خلق الله محبة لله ورسوله، وبذلا لنفوسهم وأموالهم في رضا الله ورسوله على وجه لا يلحقهم فيه أحد من هؤلاء المتأخرين، وقد كان غاية ما طلبوه بذلك

الجنة، فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه، ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب، بل وفي الحقيقة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه، فإن الطلب والحب والإرادة فرع عن الشعور والإحساس والتصور، فما لا يتصوره الإنسان ولا يحسه ولا يشعر به يمتنع أن يطلبه ويحبه ويريده، فالجنة فيها هذا وهذا، كما قال تعالى: { لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد }، وقال: { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين }، ففيها ما يشتهون وفيها مزيد على ذلك، وهو ما لم يبلغه علمهم ليشتهوه، كما قال ﷺ: { ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر }، وهذا باب واسع، فإذا عرفت هذه المقدمة، فقول القائل: الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار، إن أراد بذلك أن لا تسأل الله ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية، فلا تسأله النظر إليه، ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء، وإنك لا تستعيذ به من احتجابه عنك، ولا من تعذيبك في النار، فهذا الكلام مع كونه مخالفا لجميع الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين، فهو متناقض في نفسه، فاسد في صريح العقول، وذلك أن الرضا الذي لا يسأل، إنما لا يسأله لرضاه عن الله، ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به ومحبته له، وإذا لم يبق معه رضا عن الله ولا محبة لله، فكأنه قال: يرضى أن لا يرضى، وهذا جمع بين النقيضين، ولا ريب أنه كلام من لم يتصور ما يقول ولا عقله، يوضح ذلك أن الراضي إنما يحمله على احتمال المكاره والآلام ما يجده من لذة الرضا وحلاوته، فإذا فقد تلك الحلاوة واللذة امتنع أن يحتمل ألما ومرارة، فكيف يتصور أن يكون راضيا، وليس معه من حلاوة الرضا ما يحمل به مرارة المكاره، وإنما هذا من جنس كلام السكران، والفاني الذي وجد في نفسه حلاوة الرضا، فظن أن هذا يبقى معه على أي حال كان، وهذا غلط عظيم منه كغلط سمنون كما تقدم، وإن أراد بذلك أن لا يسأل التمتع بالمخلوق، بل يسأل ما هو أعلى من ذلك، فقد غلط من وجهين: من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة، وهو أعلى نعيم الجنة، ومن جهة أنه أيضا أثبت أنه طالب مع كونه راضيا، فإذا كان الرضا لا ينافي هذا الطلب فلا ينافي طلبا آخر إذا كان محتاجا إلى مطلوبه، ومعلوم أن تمتعه بالنظر لا يتم إلا بسلامته من النار، وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر، وما لا يتم المطلوب إلا به فهو مطلوب، فيكون طلبه للنظر طلبا للوازمه التي منها النجاة من النار، فيكون رضاه لا ينافي طلب حصول المنفعة، ودفع المضرة عنه، ولا طلب حصول الجنة ودفع النار، ولا غيرهما مما هو من لوازم النظر، فتبين تناقض قوله، وأيضا فإذا لم يسأل الله الجنة ولم يستعذ به من النار، فإما أن يطلب من الله ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب منفعة ودفع مضرة، وإما أن لا يطلبه، فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك، فطلبه للجنة أولى، واستعاذته من النار أولى، وإن كان الرضا أن لا يطلب شيئا قط ولو كان مضطرا إليه، ولا يستعيذ من شيء قط، وإن كان مضرا، فلا يخلو: إما أن يكون ملتفتا بقلبه إلى الله في أن يفعل به ذلك، وإما أن يكون معرضا عن ذلك، فإن التفت بقلبه إلى الله فهو طالب مستعيذ بحاله، ولا فرق بين الطلب بالحال والقال، وهو بهما أكمل وأتم، فلا يعدل عنه، وإن كان معرضا عن جميع ذلك، فمن المعلوم أنه لا يحيا ويبقى، إلا بما يقيم حياته ويدفع مضاره بذلك، والذي به يحيا من المنافع ودفع المضار إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد، أو لا يحبه ولا يطلبه ولا يريده ، فإن أحبه وطلبه وأراده من غير الله كان مشركا مذموما، فضلا عن أن يكون محمودا، وإن قال: لا أحبه وأطلبه وأريده لا من الله ولا من خلقه، قيل: هذا ممتنع في الحي، فإن الحي ممتنع عليه أن لا يحب ما به يبقى، وهذا أمر معلوم بالحس، ومن كان بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا، فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة، إذ الرضا مستلزم لذلك، فكيف يسلب عنه ذلك كله، فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلام، وأما في سبيل الله وطريقه ودينه فمن وجوه: أحدها: أن يقال: الراضي لا بد أن يفعل ما يرضاه الله، وإلا فكيف يكون راضيا عن الله من لا يفعل ما يرضاه الله ؟ وكيف يسوغ رضا ما يكرهه الله ويسخطه ويذمه وينهى عنه ؟، وبيان هذا أن الرضا المحمود إما أن يكون الله يحبه ويرضاه، وإما أن لا يحبه ويرضاه، فإن لم يكن يحبه ويرضاه، لم يكن هذا الرضا مأمورا به لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب، فإن من الرضا ما هو كفر، كرضا الكفار بالشرك، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، ورضاهم بما يسخطه الله ويكرهه، قال تعالى: { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم }، فمن اتبع ما أسخط الله برضاه وعمله فقد أسخط الله، وقال النبي ﷺ: { إن الخطيئة إذا عملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها، ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وأنكرها }، وقال ﷺ: { سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع هلك }، وقال تعالى: { يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }، فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه الله ويرضاه، وهو لا يرضى عنهم، وقال تعالى: { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل }، فهذا رضى قد ذمه الله، وقال تعالى: { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها } فهذا أيضا رضا مذموم، وسوى هذا وهذا كثير، فمن رضي بكفره وكفر غيره، وفسقه وفسق غيره، ومعاصيه ومعاصي غيره، فليس هو متبعا لرضا الله، ولا هو مؤمن بالله، بل هو مسخط لربه، وربه غضبان عليه لاعن له، ذام له متوعد له بالعقاب، وطريق الله التي يأمر بها المشايخ المهتدون، إنما هي الأمر بطاعة الله، والنهي عن معصيته، فمن أمر، أو استحب، أو مدح الرضا الذي يكرهه الله ويذمه، وينهى عنه، ويعاقب أصحابه، فهو عدو لله، لا ولي لله، وهو يصد عن سبيل الله، وطريقه ليس بسالك لطريقه وسبيله . وذلك أن الرضا نوعان: أحدهما: الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تعد إلى المحظور كما قال: { والله ورسوله أحق أن يرضوه }، وقال تعالى: { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون }، وهذا الرضا واجب، ولهذا ذم من تركه بقوله: { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } }، والنوع الثاني: الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض والذل، فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء، وليس بواجب، وقد قيل: إنه واجب، والصحيح: أن الواجب هو الصبر، كما قال الحسن: " الرضا غريزة، ولكن الصبر معول المؤمن "، وقد روي في حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال: { إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا }، وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان، فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فإن الله لا يرضاه كما قال: { ولا يرضى لعباده الكفر }، وقال: { والله لا يحب الفساد }، وقال تعالى: { فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }، وقال تعالى: { فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما }، وقال: { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم }، وقال تعالى: { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم }، وقال تعالى: { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون }، وقال تعالى: { فلما آسفونا انتقمنا منهم }، فإذا كان الله سبحانه لا يرضى لهم ما عملوه، بل يسخطه ذلك وهو يسخط عليهم ويغضب عليهم، فكيف يشرع للمؤمن أن يرضى ذلك وأن لا يسخط ويغضب لما يسخط الله ويغضبه، وإنما ضل هنا فريقان من الناس: قوم من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في مناظرة القدرية، ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى إرادته، وقد علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلافا للقدرية، وقالوا: " هو أيضا محب لها، مريد لها "، ثم أخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقالوا: " لا يحب الفساد "، بمعنى لا يريد الفساد، أي لا يريده للمؤمنين " ولا يرضى لعباده الكفر "، أي لا يريد لعباده المؤمنين، وهذا غلط عظيم، فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال: لا يحب الإيمان، ولا يرضى لعباده الإيمان أي لا يريده للكافرين ولا يرضاه للكافرين، وقد اتفق أهل الإسلام على أن ما أمر الله به فإنه يكون مستحبا يحبه، ثم قد يكون مع ذلك واجبا، وقد يكون مستحبا ليس بواجب، سواء فعل أو لم يفعل، والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع، والفرق الثاني: من غالطي المتصوفة، شربوا من هذه العين، فشهدوا أن الله رب الكائنات جميعا، وعلموا أنه قدر على كل شيء وشاءه، وظنوا أنهم لا يكونوا راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى قال بعضهم: " المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب "، قالوا: " والكون كله مراد المحبوب "، وضل هؤلاء ضلالا عظيما، حيث لم يفرقوا بين الإرادة الدينية والكونية، والإذن الكوني والديني، والأمر الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني، كما بسطناه في غير هذا الموضع، وهؤلاء يئول الأمر بهم إلى أن لا يفرقوا بين المأمور والمحظور، وأولياء الله وأعدائه، والأنبياء والمتقين، ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ويجعلون المتقين كالفجار ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويعطلون الأمر والنهي، والوعد والوعيد والشرائع، وربما سموا هذه حقيقة، ولعمري أنه حقيقة كونية، لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الأصنام، كما قال: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله }، وقال تعالى: { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون }، الآيات، فالمشركون الذين يعبدون الأصنام كانوا مقرين بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان أقرب أن يكون كعباد الأصنام، والمؤمن إنما فارق الكفر بالإيمان بالله وبرسله، وبتصديقهم فيما أخبروا وطاعتهم فيما أمروا، واتباع ما يرضاه الله ويحبه، دون ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، ولكن يرضى بما أصابه من المصائب، لا بما فعله من المعائب، فهو من الذنوب يستغفر، وعلى المصائب يصبر، فهو كما قال تعالى: ( فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك }، فيجمع بين طاعة الأمر والصبر على المصائب، كما قال تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }، وقال تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور }، وقال يوسف: { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }، والمقصود هنا أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلام، حيث قال: " من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه "، وكذلك قول الشيخ أبي سليمان: " إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض "، وذلك أن العبد إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها، فإذا لم يحصل سخط، فإذا سلا عن شهوات نفسه رضي بما قسم الله له من الرزق، وكذلك ما ذكره، عن الفضيل بن عياض أنه قال، لبشر الحافي: " الرضا أفضل من الزهد في الدنيا لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته "، كلام حسن، لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل، وكذلك ما ذكره معلقا قال: " قال الشبلي بين يدي الجنيد: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: الجنيد: قولك ذا ضيق الصدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء، " فإن هذا من أحسن الكلام، وكان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة ومن أحسنهم تعليما وتأديبا وتقويما، وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة لا كلمة استرجاع، وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعا لا صبرا، فالجنيد أنكر على الشبلي في سبب قوله لها، إذ كانت حالا ينافي الرضا، ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه، وفيما ذكرناه آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلقا قال: " وقيل: قال موسى: إلهي دلني على عمل إذا عملته رضيت عني، فقال: إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى ساجدا متضرعا، فأوحى الله إليه: يا بن عمران رضائي في رضاك عني "، فهذه الحكاية الإسرائيلية فيها نظر، فإنه قد يقال: لا يصلح أن يحكى مثلها عن موسى بن عمران، ومعلوم أن هذه الإسرائيليات ليس لها إسناد، ولا يقوم بها حجة في شيء من الدين إلا إذا كانت منقولة لنا نقلا صحيحا، مثل ما ثبت عن نبينا أنه حدثنا به عن بني إسرائيل، ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه، فإن موسى من أعظم أولي العزم وأكابر المسلمين، فكيف يقال: إنه لا يطيق أن يعمل ما يرضى الله به عنه، والله تعالى راض عن السابقين الأولين من المهاجرين والذين اتبعوهم بإحسان، أفلا يرضى عن موسى بن عمران، كليم الرحمن، وقال تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه }، ومعلوم أن موسى بن عمران عليه السلام من أفضل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم إن الله تعالى خص موسى بمزية فوق الرضا حيث قال: { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني }، ثم إن قوله في الخطاب: ( يا ابن عمران ) مخالف لما ذكره الله من خطابه في القرآن حيث قال: { يا موسى }، وذلك الخطاب فيه نوع غض منه كما يظهر، ومثل ما ذكر أنه قيل: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر، فهذا الكلام كلام حسن، وإن لم يعلم إسناده، وإذا تبين أن فيما ذكره مسندا ومرسلا ومعلقا ما هو صحيح وغيره، فهذه الكلمة لم يذكرها عن أبي سليمان إلا مرسلة، وبمثل ذلك لا تثبت عن أبي سليمان باتفاق الناس، فإنه وإن قال بعض الناس: إن المرسل حجة، فهذا لم يعلم أن المرسل هو مثل الضعيف وغير الضعيف، فأما إذا عرف ذلك فلا يبقى حجة باتفاق العلماء، كمن علم أنه تارة يحفظ الإسناد، وتارة يغلط فيه، والكتب المسندة في أخبار هؤلاء المشايخ وكلامهم، مثل كتاب " حلية الأولياء " لأبي نعيم، " وطبقات الصوفية " لأبي عبد الرحمن، " وصفة الصفوة " لابن الجوزي، وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان، ألا ترى الذي رواه عنه مسندا حيث قال: " قال لأحمد بن أبي الحواري: يا أحمد، لقد أوتيت من الرضا نصيبا لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيا، فهذا الكلام مأثور عن أبي سليمان بالإسناد، ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه أبي عبد الرحمن، بخلاف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه، فلا أصل لها عن الشيخ أبي سليمان "، ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها، فإنه قبل أن يرويها قال: " وسئل أبو عثمان الحيري النيسابوري عن قول النبي ﷺ { أسألك الرضا بعد القضا } فقال: لأن الرضا بعد القضا هو الرضا "، فهذا الذي قاله الشيخ أبو عثمان كلام حسن سديد، ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال: " أرجو أن أكون قد عرفت طرقا من الرضا، لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيا "، فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا، وإنما هو عزم على الرضا، وإنما الرضا ما يكون بعد القضا، وإن كان هذا عزما، فالعزم قد يدوم، وقد ينفسخ، وما أكثر انفساخ العزائم، خصوصا عزائم الصوفية، ولهذا قيل لبعضهم: " بماذا عرفت ربك، قال: بفسخ العزائم في بعض الهمم "، وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشايخ: { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون }، وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص }، وفي الترمذي: أن { بعض الصحابة قالوا للنبي ﷺ: لو علمنا أي العمل أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقد قال تعالى: { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } } الآية، فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه، فلما ابتلوا به كرهوه، وفروا منه، وأين ألم الجهاد من ألم النار وعذاب الله الذي لا طاقة لأحد به، ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب، أنه كان يقول: وليس لي في سواك حظ فكيفما شئت فاختبرني فأخذ الأسر من ساعته، أي حصر بوله، فكان يدور على المكاتب، ويفرق الجوز على الصبيان، ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب، وحكى أبو نعيم الأصبهاني، عن أبي بكر الواسطي، أنه قال سمنون: يا رب قد رضيت بكل ما تقضيه علي، فاحتبس بوله أربعة عشر يوما، فكان يتلوى كما تتلوى الحية، يتلوى يمينا وشمالا، فلما أطلق بوله قال: رب قد تبت إليك، قال أبو نعيم: فهذا الرضا الذي ادعى سمنون، ظهر غلطه فيه بأدنى بلوى، مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل، وله في المحبة مقام مشهور، حتى روي عن إبراهيم بن فاتك أنه قال: رأيت سمنونا يتكلم على الناس في المسجد الحرام، فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده، ثم لم يزل يضرب بمنقاره الأرض حتى سقط منه دم، ومات الطائر، قال: رأيته يوما يتكلم في المحبة، فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بعضا، وقد ذكر القشيري في باب الرضا عن رويم المقري رفيق سمنون حكاية تناسب هذا حيث قال: قال رويم: إن الرضا لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل الله أن يحولها عن يساره،

فهذا يشبه قول سمنون: " فكيف ما شئت فامتحني "، وإذا لم يطق الصبر على عسر البول فيطيق أن تكون النار عن يمينه، والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلاء، وابتلي بعسر البول فغلبه الألم حتى قال: بحبي لك ألا فرجت عني، ففرج عنه، ورويم وإن كان من رفقاء الجنيد، فليس هو عندهم من هذه الطبقة، بل الصوفية يقولون إنه رجع إلى الدنيا، وترك التصوف، حتى روي عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال: من أراد أن يتكتم سرا فليفعل كما فعل رويم، كتم حب الدنيا أربعين سنة، فقيل: وكيف يتصور ذلك ؟ قال: ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد، وكان بينهما مودة أكيدة فجذبه إليه، وجعله وكيلا على بابه، فترك لبس التصوف، ولبس الخز والقصب والديبقى، وأكل الطيبات وبنى الدور، وإذا هو كان يكتم حب الدنيا ما لم يجدها، فلما وجدها ظهر ما كان يكتم من حبها، هذا مع أنه رحمه الله كان له من العبادات ما هو معروف، وكان على مذهب داود، وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال، لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها، لا تجعل طريقة ولا تتخذ سبيلا، ولكن قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة ونحو ذلك، وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق، وما يقدر عليه من التقوى والصبر، والرسل صلوات الله عليهم أعلم بطريق سبيل الله، وأهدى وأنصح، فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصا مخطئا محروما، وإن لم يكن عاصيا أو فاسقا أو كافرا، ويشبه هذا { الأعرابي الذي دخل عليه النبي ﷺ وهو مريض كالفرخ، فقال: هل كنت تدعو الله بشيء ؟ قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معذبني به في الآخرة فاجعله في الدنيا، فقال: سبحان الله لا تستطيعه ولا تطيقه، هلا قلت: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } }، فهذا أيضا حمله خوفه من عذاب النار، ومحبته لسلامة عاقبته، على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا، وكان مخطئا في ذلك غالطا، والخطأ والغلط مع حسن القصد وسلامته، وصلاح الرجل وفضله، ودينه وزهده، وورعه وكراماته، كثير جدا، فليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما من الخطأ والغلط، بل ولا من الذنوب، وأفضل أولياء الله بعد الرسل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال له لما عبر الرؤيا: { أصبت بعضا وأخطأت بعضا }، ويشبه والله أعلم، أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة: لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيا، أن يكون بعض الناس حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال: الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار، وتلك الكلمة التي قالها أبو سليمان، مع أنها لا تدل على رضاه بذلك، ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك، فنحن نعلم أن هذا العزم لا يستمر، بل ينفسخ، وأن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها، وأنها مستدركة، كما استدركت دعوى سمنون، ورويم، وغير ذلك، فإن بين هذه الكلمة وتلك فرقا عظيما، فإن تلك الكلمة مضمونها أن من سأل الجنة واستعاذ من النار لا يكون راضيا، وفرق بين من يقول: أنا إذ أفعل كذا كنت راضيا، وبين من يقول: لا يكون راضيا إلا من لا يطلب خيرا، ولا يهرب من شر، وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلام، فإن الشيخ أبا سليمان من أجلاء المشايخ وساداتهم، ومن أتبعهم للشريعة، حتى إنه قال: " إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة "، فمن لا يقبل نكت قلبه إلا بشاهدين يقول مثل هذا الكلام ؟ وقال الشيخ أبو سليمان أيضا: ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يفعله حتى يسمع فيه بأثر، فإذا سمع فيه بأثر كان نورا على نور، بل صاحبه أحمد بن أبي الحواري كان من أتبع المشايخ للسنة، فكيف أبو سليمان . - مسألة: في قول النبي ﷺ: { ولا ينفع ذا الجد منك الجد }، هل هو بالخفض أو بالضم ؟ أفتونا مأجورين، الجواب: الحمد لله، أما الأولى فبالخفض، وأما الثانية فبالضم، والمعنى: أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده، أي لا ينجيه ويخلصه منك جده، وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح، والجد هو الغنى وهو العظمة وهو المال، بين ﷺ أنه من كان له في الدنيا رياسة ومال، لم ينجه ذلك ولم يخلصه من الله، وإنما ينجيه من عذابه إيمانه وتقواه، فإنه ﷺ قال: { اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد }، فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين: أحدهما: توحيد الربوبية، وهو أن لا معطي لما منع الله، ولا مانع لما أعطاه، ولا يتوكل إلا عليه ولا يسأل إلا هو، والثاني: توحيد الإلهية، وهو بيان ما ينفع وما لا ينفع، وأنه ليس كل من أعطي مالا أو دنيا أو رياسة كان ذلك نافعا له عند الله، منجيا له من عذابه، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، قال تعالى: { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا }، يقول: ما كل من وسعت عليه أكرمته، ولا كل من قدرت عليه أكون قد أهنته، بل هذا ابتلاء ليشكر العبد على السراء، ويصبر على الضراء، فمن رزق الشكر والصبر كان كل قضاء يقضيه الله خيرا له، كما في الصحيح عن النبي ﷺ، أنه قال: { لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء فشكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له }، وتوحيد الألوهية أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا فيطيعه ويطيع رسله، ويفعل ما يحبه ويرضاه، وأما توحيد الربوبية فيدخل ما قدره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه وأرضاه، والعبد مأمور بأن يعبد الله ويفعل ما أمر به، وهو توحيد الألوهية، ويستغفر الله على ذلك وهو توحيد له، فيقول: { إياك نعبد وإياك نستعين }، والله أعلم .

وأما قول القائل: أسألك أو أقسم عليك بحق ملائكتك، أو بحق أنبيائك، أو بنبيك فلان، أو برسولك فلان، أو بالبيت الحرام، أو بزمزم والمقام، أو بالطور والبيت المعمور، ونحو ذلك، فهذا النوع من الدعاء لم ينقل عن النبي ﷺ ولا أصحابه ولا التابعين لهم بإحسان، بل قد نص غير واحد من العلماء: كأبي حنيفة وأصحابه كأبي يوسف وغيره من العلماء على أنه، لا يجوز مثل هذا الدعاء فإنه أقسم على الله بمخلوق ولا يصح القسم بغير الله، وإن سأله به على أنه سبب ووسيلة إلى قضاء حاجته، أما إذا سأل الله بالأعمال الصالحة وبدعاء نبيه والصالحين من عباده، فالأعمال الصالحة سبب للإثابة والدعاء سبب للإجابة، فسؤاله بذلك سؤال بما هو سبب لنيل المطلوب، وهذا معنى ما يروى في دعاء الخروج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، وكذلك أهل الغار الذين دعوا الله بأعمالهم الصالحة، فالتوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم وبطاعتهم كالصلاة والسلام عليهم ومحبتهم وموالاتهم أو بدعائهم وشفاعتهم، وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضي حصول مطلوب العبد، وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم، وفضله عليهم، وليس في ذلك ما يقتضي إجابة دعاء غيرهم إلا أن يكون بسبب منه إليهم كالإيمان بهم، والطاعة لهم أو بسبب منهم إليه كدعائهم له وشفاعتهم فيه، فهذان الشيئان يتوسل بهما، وأما الإقسام بالمخلوق فلا، وما يذكره بعض العامة من قوله: { إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم } " حديث كذب موضوع .

فصل: وأما الأشجار، والأحجار، والعيون، ونحوها مما ينذر لها بعض العامة أو يعلقون بها خرقا أو غير ذلك، أو يأخذون ورقها يتبركون به، أو يصلون عندها، أو نحو ذلك فهذا كله من البدع المنكرة وهو من عمل أهل الجاهلية ومن أسباب الشرك بالله تعالى، { وقد كان للمشركين شجرة يعلقون بها أسلحتهم يسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه } "، وقد بلغ عمر بن الخطاب أن قوما يقصدون الصلاة عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان التي بايع النبي ﷺ تحتها، فأمر بتلك الشجرة فقطعت، وقد اتفق علماء الدين على أن من نذر عبادة في بقعة من هذه البقاع لم يكن ذلك نذرا يجب الوفاء به، ولا مزية للعبادة فيها، فصل: وأصل هذا الباب أنه ليس في شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة الله فيها بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك، إلا مساجد المسلمين، ومشاعر الحج، وأما المشاهد التي على القبور سواء جعلت مساجد، أو لم تجعل أو المقامات التي تضاف إلى بعض الأنبياء، أو الصالحين، أو المغارات والكهوف، أو غير ذلك مثل الطور الذي كلم الله عليه موسى، ومثل غار حراء الذي كان النبي ﷺ يتحنث فيه قبل نزول الوحي عليه، والغار الذي ذكره الله في قوله { ثاني اثنين إذ هما في الغار }، والغار الذي بجبل قاسيون بدمشق " الذي يقال له " مغارة الذم " والمقامان اللذان بجانبيه الشرقي والغربي، يقال لأحدهما مقام إبراهيم " ويقال للآخر " مقام عيسى " وما أشبه هذه البقاع والمشاهد في شرق الأرض وغربها، فهذه لا يشرع السفر إليها لزيارتها، ولو نذر ناذر السفر إليها لم يجب عليه الوفاء بنذره باتفاق أئمة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ ومن حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وهو يروى عن غيرهما: أنه قال: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } "، وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ لما فتحوا هذه البلاد: بلاد الشام، والعراق، ومصر، وخراسان، والمغرب، وغيرها: لا يقصدون هذه البقاع ولا يزورونها ولا يقصدون الصلاة والدعاء فيها، بل كانوا مستمسكين بشريعة نبيهم يعمرون المساجد التي قال الله فيها: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه }، وقال { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله }، وقال تعالى: { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد }، وقال تعالى: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا }، وأمثال هذه النصوص وفي الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: { صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة وذلك أن الرجل إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة فإذا جلس ينتظر الصلاة كان في صلاة ما دام ينتظر الصلاة فإذا قضى الصلاة فإن الملائكة تصلي على أحدهم ما دام في مصلاه، تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه } "، وقد تنازع المتأخرون فيمن سافر لزيارة قبر نبي أو نحو ذلك من المشاهد والمحققون، منهم قالوا: إن هذا سفر معصية ولا يقصر الصلاة فيه كمن لا يقصر في سفر المعصية كما ذكر ذلك ابن عقيل وغيره، وكذلك ذكر أبو عبد الله بن بطة: أن هذا من البدع المحدثة في الإسلام بل نفس قصد هذه البقاع للصلاة فيها والدعاء، ليس له أصل في شريعة المسلمين، ولم ينقل عن السابقين الأولين رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم كانوا يتحرون هذه البقاع للدعاء والصلاة، بل لا يقصدون إلا مساجد الله، بل المساجد المبنية على غير الوجه الشرعي لا يقصدونها أيضا كمسجد الضرار الذي قال الله فيه: { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون، لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين }، بل المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين لا تجوز الصلاة فيها وبناؤها محرم، كما قد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، لما استفاض عن النبي ﷺ في الصحاح، والسنن، والمسانيد، أنه قال: { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } ". وقال في مرض موته: { لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } " يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا، وكانت حجرة النبي ﷺ خارجة عن مسجده، فلما كان في إمرة الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة النبوية أن يزيد في المسجد فاشترى حجر أزواج النبي ﷺ وكانت شرقي المسجد، وقبلته فزادها في المسجد فدخلت الحجرة إذ ذاك في المسجد وبنوها مسنمة عن سمت القبلة لئلا يصل أحد إليها، وكذلك قبر إبراهيم الخليل لما فتح المسلمون البلاد كان عليه السور السليماني، ولا يدخل إليه أحد ولا يصلي أحد عنده، بل كان يصلي المسلمون بقرية الخليل بمسجد هناك، وكان الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، إلى أن نقب ذلك السور، ثم جعل فيه باب، ويقال إن النصارى هم نقبوه وجعلوه كنيسة، ثم لما أخذ المسلمون منهم البلاد جعل ذلك مسجدا، ولهذا كان العلماء الصالحون من المسلمين لا يصلون في ذلك المكان، هذا إذا كان القبر صحيحا، فكيف وعامة القبور المنسوبة إلى الأنبياء كذب، مثل : القبر الذي يقال إنه قبر نوح، فإنه كذب لا ريب فيه، وإنما أظهره الجهال من مدة قريبة وكذلك قبر غيره، فصل: وأما عسقلان فإنها كانت ثغرا من ثغور المسلمين كان صالحو المسلمين يقيمون بها لأجل الرباط في سبيل الله، وهكذا سائر البقاع التي مثل هذا الجنس، مثل: جبل لبنان، والإسكندرية، ومثل عبادان، ونحوها بأرض العراق، ومثل قزوين، ونحوها من البلاد التي كانت ثغورا، فهذه كان الصالحون يقصدونها لأجل الرباط في سبيل الله، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن سلمان الفارسي، عن النبي ﷺ أنه قال: { رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا مات مجاهدا وأجري عليه عمله وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان } "، وفي سنن أبي داود وغيره: عن عثمان، عن النبي ﷺ أنه قال: { رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم سواه من المنازل } "، وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود، ولهذا قال العلماء: إن الرباط بالثغور أفضل من المجاورة بالحرمين الشريفين، لأن المرابطة من جنس الجهاد، والمجاورة من جنس الحج وجنس الجهاد أفضل باتفاق المسلمين من جنس الحج، كما قال تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم }، فهذا هو الأصل في تعظيم هذه الأمكنة ثم من هذه الأمكنة ما سكنه بعد ذلك الكفار وأهل البدع والفجور، ومنها ما خرب وصار ثغرا غير هذه الأمكنة والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها، فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفارا، ثم تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها كما كانت مكة شرفها الله في أول الأمر دار كفر وحرب، وقال الله فيها: { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك }، ثم لما فتحها النبي ﷺ صارت دار إسلام، وهي في نفسها أم القرى وأحب الأرض إلى الله، وكذلك الأرض المقدسة كان فيها الجبارون الذين ذكرهم الله تعالى، كما قال تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } الآيات، وقال تعالى لما أنجى موسى وقومه من الغرق: { سأريكم دار الفاسقين }، وكانت تلك الديار ديار الفاسقين لما كان يسكنها إذ ذاك الفاسقون، ثم لما سكنها الصالحون صارت دار الصالحين، وهذا أصل يجب أن يعرف، فإن البلد قد تحمد أو تذم في بعض الأوقات لحال أهله، ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم إذ المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان، قال الله تعالى: { يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام }، وقال النبي ﷺ: { لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس بنو آدم، وآدم من تراب } "، وكتب أبو الدرداء إلى سليمان الفارسي وكان النبي ﷺ قد آخى بينهما لما آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق نائبا لعمر بن الخطاب: أن هلم إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الرجل عمله، فصل: وقد تبين الجواب في سائر المسائل المذكورة بأن قصد الصلاة والدعاء عندما يقال إنه قدم نبي، أو أثر نبي، أو قبر نبي، أو قبر بعض الصحابة، أو بعض الشيوخ، أو بعض أهل البيت، أو الأبراج، أو الغير إنه من البدع المحدثة المنكرة في الإسلام لم يشرع ذلك رسول الله ﷺ ولا كان السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان يفعلونه، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين بل هو من أسباب الشرك وذرائع الإفك، والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الجواب، فصل: وأما قول القائل: إذا عثر: يا جاه محمد، يا للست نفيسة، أو يا سيدي الشيخ فلان، أو نحو ذلك مما فيه استعانته وسؤاله فهو من المحرمات وهو من جنس الشرك، فإن الميت سواء كان نبيا أو غير نبي لا يدعى، ولا يسأل، ولا يستغاث به لا عند قبره، ولا مع البعد من قبره، بل هذا من جنس دين النصارى الذين { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }، ومن جنس الذين قال فيهم { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }، وقد قال تعالى: { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون، ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، فصل: وكذلك النذر للقبور أو لأحد من أهل القبور كالنذر لإبراهيم الخليل أو للشيخ فلان، أو فلان، أو فلان، أو لبعض أهل البيت، أو غيرهم نذر معصية لا يجب الوفاء به باتفاق أئمة الدين بل ولا يجوز الوفاء به، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه }، وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: { لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج } "، فقد لعن رسول الله ﷺ من يبني على القبور المساجد ويسرج فيها السرج: كالقناديل، والشمع، وغير ذلك وإذا كان هذا ملعونا فالذي يضع فيها قناديل الذهب، والفضة، وشمعدان الذهب، والفضة، ويضعها عند القبور أولى باللعنة، فمن نذر زيتا أو شمعا، أو ذهبا، أو فضة، أو سترا، أو غير ذلك ليجعل عند قبر نبي من الأنبياء، أو بعض الصحابة، أو القرابة، أو المشايخ، فهو نذر معصية لا يجوز الوفاء به، وهل عليه كفارة يمين فيه قولان للعلماء، وإن تصدق بما نذره على من يستحق من أهل بيت النبي ﷺ وغيرهم من الفقراء الصالحين، كان خيرا له عند الله وأنفع له، فإن هذا عمل صالح يثيبه الله عليه، فإن الله يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين، والمتصدق يتصدق لوجه الله ولا يطلب أجره من المخلوقين، بل من الله تعالى، كما قال تعالى: { وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى }، وقال تعالى: { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة } الآية، وقال عن عباده الصالحين: { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا }، ولهذا لا ينبغي لأحد أن يسأل بغير الله، مثل الذي يقول كرامة لأبي بكر، ولعلي، أو للشيخ فلان، أو الشيخ فلان بل لا يعطي إلا من سأل لله، وليس لأحد أن يسأل لغير الله فإن إخلاص الذي لله واجب في جميع العبادات البدنية والمالية: كالصلاة، والصدقة، والصيام، والحج، فلا يصلح الركوع والسجود إلا لله ولا الصيام إلا لله، ولا الحج إلا إلى بيت الله، ولا الدعاء إلا لله، قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله }، وقال تعالى: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }، وقال تعالى: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين }، وهذا هو أصل الإسلام وهو أن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }، وقال تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا }، قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه، قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة والكتاب، هذا كله لأن الدين دين الله بلغه عنه رسوله فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، والله تعالى ذم المشركين، لأنهم شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، فحرموا أشياء لم يحرمها الله كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي وشرعوا دينا لم يأذن به الله كدعاء غيره وعبادته والرهبانية التي ابتدعها النصارى، والإسلام دين الرسل كلهم أولهم وآخرهم كلهم بعثوا بالإسلام كما قال نوح عليه السلام: { يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين }، وقال تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }، وقال تعالى: { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين }، وقال تعالى: { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون }، وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: { إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد } " فدين الرسل كلهم دين واحد وهو دين الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما أمر به وشرعه، كما قال: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }، وإنما يتنوع في هذا الدين الشرعة والمنهاج، كما قال: { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }، كما يتنوع شريعة الرسول الواحد، فقد كان الله أمر محمدا ﷺ في أول الإسلام أن يصلي إلى بيت المقدس، ثم أمره في السنة الثانية من الهجرة أن يصلي إلى الكعبة البيت الحرام، وهذا في وقته كان من دين الإسلام، وكذلك شريعة التوراة في وقتها كانت من دين الإسلام، وشريعة الإنجيل في وقته كانت من دين الإسلام، ومن آمن بالتوراة ثم كذب بالإنجيل خرج من دين الإسلام، وكان كافرا، وكذلك من آمن بالكتابين المتقدمين، وكذب بالقرآن كان كافرا خارجا من دين الإسلام يتضمن الإيمان بجميع الكتب وجميع الرسل، كما قال تعالى: { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } الآية . - وسئل رحمه الله تعالى، عن رجل أفطر نهار رمضان متعمدا، ثم جامع: فهل يلزمه القضاء والكفارة ؟ أم القضاء بلا كفارة ؟ فأجاب: عليه القضاء، وأما الكفارة فتجب في مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، ولا تجب عند الشافعي .

- وسئل رحمه الله تعالى، عن رجل وطئ امرأته وقت طلوع الفجر معتقدا بقاء الليل، ثم تبين أن الفجر قد طلع، فما يجب عليه ؟ فأجاب: الحمد لله، هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم: أحدها: أن عليه القضاء والكفارة، وهو المشهور من مذهب أحمد، والثاني: أن عليه القضاء، وهو قول ثان في مذهب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، والثالث: لا قضاء عليه، ولا كفارة، وهذا قول طوائف من السلف: كسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وإسحاق، وداود، وأصحابه والخلف، وهؤلاء يقولون: من أكل معتقدا طلوع الفجر، ثم تبين له أنه لم يطلع، فلا قضاء عليه، وهذا القول أصح الأقوال، وأشبهها بأصول الشريعة، ودلالة الكتاب والسنة، وهو قياس أصول أحمد وغيره، فإن الله رفع المؤاخذة عن الناسي، والمخطئ، وهذا مخطئ، وقد أباح الله الأكل والوطء حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، واستحب تأخير السحور، ومن فعل ما ندب إليه، وأبيح له، لم يفرط فهذا أولى بالعذر من الناسي، والله أعلم .

- وسئل رحمه الله تعالى، عما إذا قبل زوجته، أو ضمها، فأمذى، هل يفسد ذلك صومه ؟ أم لا ؟، فأجاب: يفسد الصوم بذلك، عند أكثر العلماء . ومما يبين ذلك أن مالكا - رحمه الله - كره أن يقول الرجل: زرت قبر النبي ﷺ، ومالك قد أدرك الناس من التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة، فدل ذلك على أنه لم تكن تعرف عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي ﷺ ولهذا كره من كره من الأئمة أن يقف مستقبل القبر يدعو: بل وكره مالك وغيره أن يقوم للدعاء لنفسه هناك، وذكر أن هذا لم يكن من عمل الصحابة والتابعين، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وقد ذكروا في أسباب كراهته، أن يقول: زرت قبر النبي، لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهي قصد الميت لسؤاله، ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا، وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة، فكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد، بخلاف الصلاة عليه والسلام فإن ذلك مما أمر الله به، أما لفظ الزيارة في عموم القبور فقد لا يفهم منهما مثل هذا المعنى ألا ترى إلى قوله: { فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة } مع زيارته لقبر أمه، فإن هذا يتناول زيارة قبور الكفار، فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله، والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع ; بخلاف ما إذا كان المزور معظما في الدين: كالأنبياء، والصالحين، فإنه كثيرا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية والشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة، فلا يمكن أحدا أن يروي بإسناد ثابت عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه شيئا في زيارة قبر النبي ﷺ بل الثابت عنه في الصحيحين يناقض المعنى الفاسد الذي ترويه الجهال بهذا اللفظ، كقوله ﷺ: { لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم }، وقوله ﷺ: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا، وقوله ﷺ: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك } وقوله ﷺ { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد }، وأشباه هذه الأحاديث التي في الصحاح، والسنن، والكتب المعتمدة، فكيف يعدل من له علم وإيمان عن موجب هذه النصوص الثابتة باتفاق أهل الحديث، إلى ما يناقض معناها من الأحاديث التي لم يثبت منها شيئا أحد من أهل العلم، والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد .

- سئل: عن زيارة النساء القبور: هل ورد في ذلك حديث عن النبي ﷺ أم لا ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، صح عن رسول الله ﷺ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: { لعن الله زوارات القبور } رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: { لعن رسول الله ﷺ زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج } رواه أهل السنن الأربعة: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن، وأخرجه أبو حاتم في صحيحه، وعلى هذا العمل في أظهر قولي أهل العلم أنه نهى زوارات القبور عن ذلك، فإن النبي ﷺ قال: { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة }، فإن قيل: فالنهي عن ذلك منسوخ، كما قال ذلك أهل القول الآخر، قيل: هذا ليس بجيد ; لأن قوله: { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها } هذا خطاب للرجال دون النساء، فإن اللفظ لفظ مذكر، وهو مختص بالذكور، أو متناول لغيرهم بطريق التبع، فإن كان مختصا بهم فلا ذكر للنساء، وإن كان متناولا لغيرهم كان هذا اللفظ عاما، وقوله: { لعن الله زوارات القبور } خاص بالنساء دون الرجال، ألا تراه يقول: { لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج } فالذي يتخذون عليها المساجد والسرج لعنهم الله، سواء كانوا ذكورا أو إناثا، وأما الذين يزورون فإنما لعن النساء الزوارات دون الرجال، وإذا كان هذا خاصا ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة كان متقدما على العام عند عامة أهل العلم، كذلك لو علم أنه كان بعدها، وهذا نظير قوله ﷺ: { من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان } فهذا عام والنساء لم يدخلن في ذلك، لأنه ثبت عنه في الصحيح أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز، عن عبد الله بن عمر قال: { سرنا مع رسول الله ﷺ يعني نشيع ميتا، فلما فرغنا انصرف رسول الله ﷺ وانصرفنا معه، فلما توسطنا الطريق إذا نحن بامرأة مقبلة، فلما دنت إذا هي فاطمة، فقال لها رسول الله ﷺ: ما أخرجك يا فاطمة من بيتك ؟، قالت: أتيت يا رسول الله، أهل هذا البيت فعزيناهم بميتهم، فقال رسول الله ﷺ: لعلك بلغت معهم الكدى، أما إنك لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك } رواه أهل السنن، ورواه أبو حاتم في صحيحه، وقد فسر " الكدى " بالقبور، والله أعلم . - سئل: هل الميت يسمع كلام زائره، ويرى شخصه ؟ وهل تعاد روحه إلى جسده في ذلك الوقت، أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره ؟ وهل تصل إليه القراءة والصدقة من ناحليه وغيرهم، سواء كان من المال الموروث عنه وغيره ؟ وهل تجمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه الذين ماتوا قبله، سواء كان مدفونا قريبا منهم أو بعيدا ؟ وهل تنقل روحه إلى جسده في ذلك الوقت، أو يكون بدنه إذا مات في بلد بعيد ؟ ودفن بها ينقل إلى الأرض التي ولد بها، وهل يتأذى ببكاء أهله عليه ؟ والمسئول من أهل العلم رضي الله عنهم الجواب عن هذه الفصول - فصلا، فصلا - جوابا واضحا، مستوعبا لما ورد فيه من الكتاب والسنة، وما نقل فيه عن الصحابة رضي الله عنهم، وشرح مذاهب الأئمة والعلماء: أصحاب المذاهب، واختلافهم، وما الراجح من أقوالهم، مأجورين إن شاء الله تعالى، الجواب: الحمد لله رب العالمين، نعم يسمع الميت في الجملة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه }، وثبت عن النبي ﷺ: { أنه ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم أتاهم فقال: يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا فسمع عمر رضي الله عنه ذلك فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون، وأنى يجيبون، وقد جيفوا ؟، فقال: والذي نفسي بيده، ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ثم أمر بهم فسحبوا في قليب بدر }، وكذلك في الصحيحين عن عبد الله بن عمر، { أن النبي ﷺ وقف على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ وقال: إنهم يسمعون الآن ما أقول }، وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور، ويقول: { قولوا السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم } فهذا خطاب لهم، وإنما يخاطب من يسمع، وروى ابن عبد البر عن النبي ﷺ أنه قال: { ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام }، وفي السنن عنه أنه قال: { أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، فقالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك ؟ وقد أرمت - يعني صرت رميما - فقال: إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء }، وفي السنن أنه قال: { إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام }، فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي ولا يجب أن يكون السمع له دائما، بل قد يسمع في حال دون حال كما قد يعرض للحي فإنه قد يسمع أحيانا خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرض له، وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله: { إنك لا تسمع الموتى } فإن المراد بذلك سمع القبور والامتثال، فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت، ولا تفقه المعنى، فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى فإنه لا يمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أمر به، ونهي عنه ، فلا ينتفع بالأمر والنهي، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي، وإن سمع الخطاب، وفهم المعنى، كما قال تعالى: { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } وأما رؤية الميت: فقد روي في ذلك آثار عن عائشة وغيرها . - سئل: عما يتعلق بالتعزية ؟ الجواب: التعزية مستحبة، ففي الترمذي عن النبي ﷺ أنه قال: { من عزى مصابا فله مثل أجره } أما قول القائل: ما نقص من عمره زاد في عمرك، فغير مستحب، بل المستحب أن يدعى له بما ينفع، مثل أن يقول: أعظم الله أجرك وأحسن عزاك، وغفر لميتك . مسألة: في امرأة تزوجت برجل، فلما دخل رأت بجسمه برصا فهل لها أن تفسخ عليه النكاح ؟، الجواب: إذا ظهرت بأحد الزوجين جنون أو جذام أو برص فللآخر فسخ النكاح، لكن إذا رضي بعد ظهور العيب فلا فسخ له، وإذا فسخت فليس لها أن تأخذ شيئا من جهازها، وإن فسخت قبل الدخول سقط مهرها، وإن فسخت بعده لم يسقط .

- مسألة: في رجل أسلم هل تبقى له ولاية على أولاده الكتابيين ؟، الجواب: لا ولاية له عليهم في النكاح، كما لا ولاية له عليهم في الميراث، فلا يزوج المسلم الكافر، سواء كانت بنته أو غيرها، ولا يرث كافر مسلما، ولا مسلم كافرا، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وأصحابهم من السلف والخلف، لكن المسلم إذا كان مالكا للأمة زوجها بحكم الملك، وكذلك إذا كان ولي أمر زوجها بحكم الولاية، وإما بالقرابة والعتاقة فلا يزوجها، إذ ليس في ذلك إلا خلاف شاذ عن بعض أصحاب مالك في النصراني يزوج ابنته، كما نقل عن بعض السلف أنه يرثها، وهما قولان شاذان، وقد اتفق المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم، ولا يتزوج الكافر المسلمة، والله سبحانه قد قطع الولاية في كتابه بين المؤمنين والكافرين، وأوجب البراءة بينهم من الطرفين، وأثبت الولاية بين المؤمنين، فقد قال تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }، وقال تعالى: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه }، وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } إلى قوله: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } إلى قوله: { فإن حزب الله هم الغالبون }، والله تعالى إنما أثبت الولاية بين أولي الأرحام بشرط الإيمان، كما قال تعالى: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين }، وقال تعالى: { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } إلى قوله: { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } إلى قوله: { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض )

باب الولاء مسألة: في رجل خلف ولدا ذكرا، وابنتين غير مرشدين، وأن البنت الواحدة تزوجت بزوج ووكلت زوجها في قبض ما تستحقه من إرث والدها والتصرف فيه، فهل للأخ المذكور الولاء عليها ؟ وهل يطلب الزوج بما قبضه، وما صرفه لمصلحة اليتيمة ؟، الجواب: للأخ الولاية من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعلت في ما لا يحل لها نهاها عن ذلك، ومنعها، وأما الحجر عليها إن كانت سفيهة فلوصيها إن كان لها وصي الحجر عليها، وإلا فالحاكم يحجر عليها، ولأخيها أن يرفع أمرها إلى الحاكم، والله أعلم . - مسألة: في رجل توفي وخلف مستولدة له، ثم بعد ذلك توفيت المستولدة وخلفت ولدا ذكرا وبنتين، فهل للبنات ولاء مع الذكر ؟ وهل يرثن معه شيئا ؟ الجواب: هذا فيه روايتان عن أحمد، أحدهما ; وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي: أن الولاء يختص بالذكور، والثانية: أن الولاء مشترك بين البنين والبنات، للذكر كمثل حظ الأنثيين، والله أعلم .

- مسألة: في رجل تزوج بامرأة ومعها بنت، وتوفيت الزوجة، وبقيت البنت عنده رباها، وقد تعرض بعض الجند لأخذها، فهل يجوز ذلك ؟، الجواب: ليس للجند عليها ولاية بمجرد ذلك، فإذا لم يكن لها من يستحق الحضانة بالنسب فمن كان أصلح لها حضنها، وزوج أمها محرم لها، وأما الجند فليس محرما لها، فإذا كان يحضنها حضانة تصلحها لم تنقل من عنده إلى أجنبي لا يحل له النظر إليها والخلوة بها .

- مسألة: في رجل تزوج امرأة بولاية أجنبي، ووليها في مسافة دون القصر، معتقدا أن الأجنبي حاكم، ودخل بها واستولدها، ثم طلقها ثلاثا، ثم أراد ردها قبل أن تنكح زوجا غيره، فهل له ذلك لبطلان النكاح الأول بغير إسقاط الحد ؟ ووجوب المهر، ويلحق النسب ويحصل به الإحصان ؟، الجواب: لا يجب في هذا النكاح حد إذا اعتقد صحته، بل يلحق به النسب ويجب فيه المهر، ولا يحصل الإحصان بالنكاح الفاسد، ويقع الطلاق في النكاح المختلف فيه، إذا اعتقد صحته، وإذا تبين أن المزوج ليس له ولاية بحال، ففارقها الزوج حين علم، فطلقها ثلاثا لم يقع طلاق، والحال هذه، وله أن يتزوجها من غير أن تنكح زوجا غيره . - مسألة: فيمن برطل ولي امرأة ليزوجها إياه فزوجها، ثم صالح صاحب المال عنه، فهل على المرأة من ذلك درك ؟ الجواب: آثم فيما فعل، وأما النكاح فصحيح، ولا شيء على المرأة من ذلك .

- مسألة: في رجل طلب منه رجل بنته لنفسه، قال: ما أزوجك بنتي حتى تزوج بنتك لأخي، فهل يصح هذا التزويج ؟ الجواب: ليس للولي ذلك، قيل: إذا طلب الكفء بنته، وجب عليه تزويجها، ولا يحل منعها لحظ نفسه، وعليه أن يزوجها ممن يكون أصلح لها، وينظر في مصلحتها لا في مصلحة نفسه، كما ينظر ولي اليتيم في ماله، وإذا تشارطا أنه لا يزوجه ابنته حتى يزوجه أخته، كان هذا نكاحا فاسدا، ولو سمي مع ذلك صداق آخر، هذا هو المأثور عن رسول الله ﷺ .

- مسألة: ما قولكم في العمل بالسريجية، وهي أن يقول الرجل لامرأته: إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا، وهذه المسألة تسمى مسألة ابن سريج ؟، الجواب: هذه المسألة السريجية لم يفت بها أحد من سلف الأمة ولا أئمتها لا من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المذاهب المتبوعين، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ولا أصحابهم الذين أدركوهم، كأبي يوسف، ومحمد، والمزني، والبويطي، وابن القاسم، وابن وهب، وإبراهيم الحربي، وأبي بكر الأثرم، وأبي داود، وغيرهم، لم يفت أحد منهم بهذه المسألة، وإنما أفتى بها طائفة من الفقهاء بعد هؤلاء، وأنكر ذلك عليهم جمهور الأمة، كأصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وكثير من أصحاب الشافعي، وكان الغزالي يقول بها، ثم رجع عنها، وبين فسادها، وقد علم من دين المسلمين أن نكاح المسلمين لا يكون كنكاح النصارى، والدور الذي توهموه فيها باطل، فإنهم ظنوا أنه إذا وقع المنجز وقع المعلق، وهو إنما يقع لو كان التعليق صحيحا، والتعليق باطل ; لأنه اشتمل على محال في الشريعة، وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، فإن ذلك محال في الشريعة، والتسريج يتضمن لهذا المحال في الشريعة، فيكون باطلا، وإذا كان قد حلف بالطلاق معتقدا أنه لا يحنث، ثم تبين له فيما بعد أنه لا يجوز فليمسك امرأته، ولا طلاق عليه فيما مضى، ويتوب في المستقبل، والحاصل أنه لو قال الرجل لامرأته إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا، فطلقها وقع المنجز على الراجح، ولا يقع معه المعلق ; لأنه لو وقع المعلق وهو الطلاق الثلاث لم يقع المنجز لأنه زائد على عدد الطلاق، وإذا لم يقع المنجز لم يقع المعلق، وقيل: لا يقع شيء ; لأن وقوع المنجز يقتضي وقوع المعلق، ووقوع المعلق يقتضي عدم وقوع المنجز، وهذا القول لا يجوز تقليده، وابن سريج بريء مما نسب إليه فيما قاله الشيخ عز الدين .

- مسألة: في رجل تزوج عتيقة بعض بنات الملوك الذين يشتروا الرقيق من مالهم ومال المسلمين، بغير إذن معتقها، فهل يكون العقد صحيحا أم لا ؟ الجواب: أما إذا أعتقتها من مالها عتقا شرعيا، فالولاية لها باتفاق العلماء، وهي التي ترثها، ثم أقرب عصباتها من بعدها، وأما تزويج هذه العتيقة بدون إذن المعتقة، فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، فإن من لا يشترط إذن الولي كأبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين يقول: بأن هذا النكاح يصح عنده، لكن من يشترط إذن الولي كالشافعي وأحمد لهم قولان في هذه المسألة، وهي روايتان عن أحمد، إحداهما: أنها لا تزوج إلا بإذن المعتقة، فإنها عصبتها، وعلى هذا فهل للمرأة نفسها أن تزوجها ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد، والثاني: أن تزويجها لا يفتقر إلى إذن المعتقة، لأنها لا تكون ولية لنفسها، فلا تكون ولية لغيرها، ولأنه لا يجوز تزويجها عندهم، فلا يفتقر إلى إذنها، فعلى هذا يزوج هذه المعتقة من يزوج معتقها بإذن العتيقة، مثل أخ المعتقة ونحوه إن كان من أهل ولاية النكاح، وإن لم يكن أهلا وزوجها الحاكم جاز، وإلا فلا، وإن كان أهلا عند أبي حنيفة فالولاء لهم، والحاكم يزوجها .

- مسألة: في رجل خطب امرأة، فاتفقوا على النكاح من غير عقد، وأعطى أباها لأجل ذلك شيئا، فماتت قبل العقد، هل له أن يرجع بما أعطى ؟، الجواب: إذا كانوا قد وفوا له بما اتفقوا عليه ولم يمنعوه من نكاحها حتى ماتت فلا شيء عليهم، وليس له أن يسترجع ما أعطاهم، كما أنه لو كان قد تزوجها استحقت جميع الصداق، وذلك لأنه إنما بذل لهم ذلك ليمكنوه من نكاحها، وقد فعلوا ذلك، وهذا غاية الممكن .

- مسألة: في هذا التحليل الذي يفعله الناس اليوم، إذا وقع على هذا الوجه الذي يفعلونه من الاستحقاق والإشهاد وغير ذلك من سائر الحيل المعروفة، هل هو صحيح أم لا ؟ وإذا قلد من قال به، هل يفرق بين اعتقاد واعتقاد ؟ وهل الأولى إمساك المرأة أم لا ؟ الجواب: التحليل الذي يتواطئون فيه مع الزوج لفظا أو عرفا، على أن يطلق المرأة أو ينوي الزوج ذلك محرم، لعن النبي ﷺ فاعله في أحاديث متعددة، وسماه التيس المستعار، وقال: { لعن الله المحلل والمحلل له } "، وكذلك مثل عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وغيرهم، لهم بذلك آثار مشهورة يصرحون فيها بأن من قصد التحليل بقلبه فهو محلل، وإن لم يشترطه في العقد، وسموه سفاحا، ولا تحل لمطلقها الأول بمثل هذا العقد، ولا يحل للزوج المحل إمساكها بهذا التحليل، بل يجب عليه فراقها، لكن إذا كان قد تبين باجتهاد أو تقليد جواز ذلك، فتحللت وتزوجها بعد ذلك، ثم تبين له تحريم ذلك، فالأقوى أنه لا يجب عليه فراقها، بل يمتنع من ذلك في المستقبل، وقد عفا الله في الماضي عما سلف .

- مسألة: في رجل خطب ابنة رجل من العدول، واتفق معه على المهر، منه عاجل ومنه آجل، وأوصل إلى والدها المعجل من مدة أربع سنين، وهو يواصلهم بالنفقة، ولم يكن بينهم مكاتبة، ثم بعد هذا جاء رجل فخطبها وزاد عليه في المهر، ومنع الزوج الأول ؟ الجواب: لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه إذا أجيب إلى النكاح وركنوا إليه باتفاق الأئمة، كما ثبت عن النبي أنه قال: { لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه } " وتجب عقوبة من فعل ذلك، وأعان عليه، عقوبة تمنعهم وأمثالهم على ذلك، وهل يكون نكاح الثاني صحيحا أو فاسدا ؟ فيه قولان للعلماء في مذهب مالك وأحمد وغيرهما . - مسألة: في امرأة لها أخوان أطفال دون البلوغ، ولها خال، فجاء رجل يتزوج بها، فادعى خالها أنه أخوها، ووكل في عقدها على الزوج، فهل يكون العقد باطلا أو صحيحا ؟، الجواب: الخال لا يكون شقيقا، فإن كان كاذبا فيما ادعاه من الأخوة، لم يصح نكاحه، بل يزوجها وليها، فإن لم يكن لها ولي من النسب زوجها الحاكم .

- مسألة: في بنت زالت بكارتها بمكروه، ولم يعقد عليها عقد قط، وطلبها من يتزوجها فذكر له ذلك فرضي، فهل يصح العقد بما ذكر إذا شهدت المعروفون أنها بنت لتسهيل الأمر في ذلك ؟ الجواب: إذا شهدوا أنها ما زوجت كانوا صادقين، ولم يكن في ذلك تلبيس على الزوج لعلمه بالحال، وينبغي استنطاقها بالأدب، فإن العلماء متنازعون هل إذنها إذا زالت بكارتها بالزنا الصمت أو النطق، والأول مذهب الشافعي وأحمد كصاحبي أبي حنيفة، وعند أبي حنيفة، ومالك إذنها الصمات، كالتي لم تزل عذرتها .

- مسألة: في رجل له زوجة تصوم النهار وتقوم الليل، وكلما دعاها الرجل إلى فراشه تأبى عليه، وتقدم صلاة الليل، وصيام النهار على طاعة الزوج، فهل يجوز ذلك أم لا ؟، الجواب: لا يحل لها ذلك باتفاق المسلمين، بل يجب عليها أن تطيعه إذا طلبها إلى الفراش وذلك فرض واجب عليها، وأما قيام الليل وصيام النهار فتطوع، فكيف تقدم مؤمنة النافلة على الفريضة ؟ حتى قال النبي ﷺ الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: { لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه } "، ورواه أبو داود وابن ماجه، وغيرهما، ولفظهم: { لا تصوم امرأة وزوجها شاهد إلا يوما من غير رمضان إلا بإذنه }، فإذا كان النبي ﷺ قد حرم على المرأة أن تصوم تطوعا إذا كان زوجها شاهدا إلا بإذنه فتمنع بالصوم بعض ما يجب له عليها، فكيف يكون حالها إذا طلبها فامتنعت ؟ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ: { إذا دعا الرجل المرأة إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح } " وفي لفظ: { إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح } "، وقد قال الله تعالى: { فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله }، فالمرأة الصالحة هي التي تكون قانتة، أي مداومة على طاعة زوجها، فمتى امتنعت عن إجابته إلى الفراش كانت عاصية ناشزة، وكان ذلك يبيح له ضربها، كما قال تعالى: { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا }، وليس على المرأة بعد حق الله ورسوله أوجب من حق الزوج، حتى قال النبي ﷺ: { لو كنت آمرا لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها } "، وعنه ﷺ: { أن النساء قلن له إن الرجال يجاهدون ويتصدقون ويفعلون ونحن لا نفعل ذلك، فقال: حسن فعل إحداكن بعد ذلك } " أي أن المرأة إذا أحسنت معاشرة بعلها كان ذلك موجبا لرضاء الله وإكرامه لها، من غير أن تعمل ما يختص بالرجال، والله أعلم .

- مسألة: في بنت يتيمة، ولها من العمر عشر سنين، ولم يكن لها أحد وهي مضطرة إلى من يكفلها، فهل يجوز لأحد أن يتزوجها بإذنها أم لا ؟ الجواب: هذه يجوز تزويجها بكفء لها عند أكثر السلف والفقهاء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في ظاهر مذهبه وغيرهما، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، كقوله تعالى: { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء } الآية، وقد أخرجا تفسير هذه الآية في الصحيحين، عن عائشة، وهو دليل في اليتيمة وزوجها من يعدل عليها في المهر، لكن تنازع هؤلاء، هل تزوج بإذنها، أم لا ؟ فذهب أبو حنيفة أنها تزوج بغير إذنها، ولها الخيار إذا بلغت، وهي رواية عن أحمد، وظاهر مذهب أحمد، أنها تزوج بغير إذنها إذا بلغت تسع سنين، ولا خيار لها إذا بلغت، لما في السنن، عن النبي ﷺ أنه قال: { اليتيمة تستأذن في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلا جواز عليها } "، وفي لفظ: { لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن، فإن سكتت فقد أذنت وإن أبت فلا جواز عليها } " .

- مسألة: في امرأة تزوجت وخرجت عن حكم والديها، فأيهما أفضل: برها لوالديها ؟ أم مطاوعة زوجها ؟، الجواب: الحمد لله رب العالمين، المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب، قال الله تعالى: { فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله }، وفي الحديث، عن النبي ﷺ أنه قال: { الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك } "، وفي صحيح ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: { إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت } "، وفي الترمذي، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ: { أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة }، أخرجه الترمذي: حديث حسن وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: { لو كنت آمرا لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها } " أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، وأخرجه أبو داود، ولفظه: { لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل

الله لهم عليهن من الحقوق } "، وفي المسند، عن أنس أن النبي ﷺ قال: { لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تجري بالقيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه } "، وفي المسند، وسنن ابن ماجه، عن عائشة، عن النبي ﷺ قال: { لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود ومن جبل أسود إلى جبل أحمر لكان لها أن تفعل } "، أي: لكان حقها أن تفعل، وكذلك في المسند، وسنن ابن ماجه، وصحيح ابن حبان، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: { لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي ﷺ فقال: ما هذا يا معاذ ؟ قال: أتيت من الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: لا تفعلوا ذلك، فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه } "، وعن طلق بن علي قال: قال رسول الله ﷺ: { أيما رجل دعا زوجته لحاجته فلتأته ولو كانت على التنور } "، رواه أبو حاتم في صحيحه، والترمذي، وقال: حديث حسن، وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: { إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، فبات غضبانا عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح } ` "، والأحاديث في ذلك كثيرة، عن النبي ﷺ، وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى: { وألفيا سيدها لدى الباب }، وقال عمر بن الخطاب: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته، وفي الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: { استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عندكم عوان }، فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة، وإذا أراد الرجل أن ينتقل بها إلى مكان آخر، مع قيامه بما يجب عليه، وحفظ حدود الله فيها، ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها، فإن الأبوين هما ظالمان، ليس لهما أن ينهياها عن طاعة مثل هذا الزوج، وليس لها أن تطيع أمها فيما تأمرها به من الاختلاع منه أو مضاجرته حتى يطلقها، مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصداق بما تطلبه ليطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحدا من أبويها في طلاقه إذا كان متقيا لله فيها، ففي السنن الأربعة، وصحيح ابن أبي حاتم، عن ثوبان، قال: قال رسول الله ﷺ: { أيما امرأة سألت زوجها الطلاق غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة } "، وفي حديث آخر: { المختلعات والمتبرعات هن المنافقات } "، وأما إذا أمرها أبواها أو أحدهما بما فيه طاعة لله، مثل المحافظة على الصلوات، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، ونهوها عن تبذير مالها، وإضاعته ونحو ذلك مما أمرها الله ورسوله أو نهاها الله ورسوله عنه، فعليها أن تطيعهما في ذلك، ولو كان الأمر من غير أبويها، فكيف إذا كان من أبويها ؟

- مسألة: في رجل متزوج بامرأتين، وإحداهما يحبها ويكسوها ويعطيها ويجتمع بها أكثر من صاحبتها ؟، الجواب: الحمد لله، يجب عليه العدل بين الزوجتين باتفاق المسلمين، وفي السنن الأربعة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: { من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل }، فعليه أن يعدل في القسم، فإذا بات عندها ليلة أو ليلتين أو ثلاثا بات عند الأخرى بقدر ذلك، ولا يفضل إحداهما في القسم، لكن إن كان يحبها أكثر ويطؤها أكثر فهذا لا حرج عليه فيه، وفيه أنزل الله تعالى: { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } أي: في الحب والجماع، وفي السنن الأربعة، عن عائشة قالت: { كان رسول الله ﷺ يقسم فيعدل، فيقول: هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك } "، يعني: القلب، وأما العدل في النفقة والكسوة فهو السنة أيضا اقتداء بالنبي ﷺ فإنه كان يعدل بين أزواجه في النفقة، كما كان يعدل في القسمة مع تنازع الناس في القسم، هل كان واجبا عليه أو مستحبا له ؟ وتنازعوا في العدل في النفقة هل هو واجب أو مستحب ؟ ووجوبه أقوى وأشبه بالكتاب والسنة، وهذا العدل مأمور به ما دامت زوجة، فإن أراد أن يطلق إحداهما فله ذلك، فإن اصطلح هو والتي يريد طلاقها على أن تقيم عنده بلا قسم وهي راضية ذلك جاز، كما قال تعالى: { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير }، وفي الصحيح عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية في المرأة تكون عند الرجل فتطول صحبتها فيريد طلاقها، فتقول: لا تطلقني وأمسكني وأنت في حل من يومي، فنزلت هذه الآية، وقد { كان النبي ﷺ أراد أن يطلق سودة، فوهبت يومها لعائشة فأمسكها بلا قسمة }، وكذلك رافع بن خديج جرى له نحو ذلك، ويقال إن الآية أنزلت فيه

 ==========
9


- مسألة: في رجل تزوج بنتا عمرها عشر سنين، واشترط عليه أهلها أن يسكن عندهم، ولا ينقلها عنهم، ولا يدخل عليها إلا بعد سنة، فأخذها إليه وأخلف ذلك ودخل عليها، وذكر الدايات أنه نقلها، ثم سكن بها في مكان يضربها فيه الضرب المبرح، ثم بعد ذلك سافر بها، ثم حضر بها ومنع أن يدخل أهلها عليها مع مداومته على ضربها، فهل يحل أن تدوم معه على هذه الحال ؟، الجواب: إذا كان الأمر على ما ذكر فلا يحل إقرارها معه على هذه الحال، بل إذا تعذر أن يعاشرها بالمعروف فرق بينهما، وليس له أن يطأها وطئا يضر بها، بل إذا لم يمتنع من العدوان عليها فرق بينهما، والله أعلم . وإذا نهاها الزوج عما أمر الله، أو أمرها بما نهى الله عنه، لم يكن لها أن تطيعه في ذلك، فإن النبي ﷺ قال: " إنه { لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق } " بل المالك لو أمر مملوكه بما فيه معصية لله لم يجز له أن يطيعه في معصيته، فكيف يجوز أن تطيع المرأة زوجها، أو أحد أبويها في معصية، فإن الخير كله في طاعة الله ورسوله، والشر كله في معصية الله ورسوله .

- مسألة: في حديث عن { النبي ﷺ أنه قال له رجل: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد كف لامس }، فهل هو ما ترد نفسها عن أحد ؟ أو ما ترد يدها في العطاء عن أحد ؟ وهل هو الصحيح أم لا ؟، الجواب: الحمد لله رب العالمين، هذا الحديث قد ضعفه أحمد وغيره، وقد تأوله بعض الناس على أنها لا ترد طالب مال، لكن ظاهر الحديث وسياقه يدل على خلاف ذلك، ومن الناس من اعتقد ثبوته، وأن النبي ﷺ أمره أن يمسكها مع كونها لا تمنع الرجال، وهذا مما أنكره غير واحد من الأئمة، فإن الله قال في كتابه العزيز: { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين }، وفي سنن أبي داود وغيره، { أن رجلا كان له في الجاهلية قريبة من البغايا يقال لها عناق، وأنه سأل النبي ﷺ عن تزوجها، فأنزل الله هذه الآية }، وقد قال سبحانه وتعالى: { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان }، فإنما أباح الله نكاح الإماء في حال كونهن غير مسافحات ولا متخذات أخدان، والمسافحة التي تسافح مع كل أحد، والمتخذات الخدن التي يكون لها صديق واحد، فإذا كان من هذه حالها لا تنكح، فكيف بمن لا ترد يد لامس ؟ بل تسافح مع من اتفق، ، وإذا كان من هذه حالها في الإماء، فكيف بالحرائر ؟ وقد قال تعالى: { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان }، فاشترط هذه الشروط في الرجال هنا كما اشترطه في النساء هناك، وهذا يوافق ما ذكره في سورة النور من قوله تعالى: { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } لأنه من تزوج زانية بزان مع غيره لم يكن ماؤه مصونا محفوظا، فكان ماؤه مختلطا بماء غيره، والفرج الذي يطؤه مشتركا، وهذا هو الزنا، والمرأة إذا كان زوجها يزني بغيرها لا يميز بين الحلال والحرام، كان وطؤه لها من جنس وطء الزاني للمرأة التي يزني بها، وإن لم يطأها غيره، وإن من صور الزنى اتخاذ الأخدان، والعلماء قد تنازعوا في جواز نكاح الزانية قبل توبتها على قولين مشهورين، لكن الكتاب والسنة والاعتبار يدل على أن ذلك لا يجوز، ومن تأول آية النور بالعقد، وجعل ذلك منسوخا فبطلان قوله ظاهر من وجوه، ثم المسلمون متفقون على ذم الدياثة، ومن تزوج بغيا كان ديوثا بالاتفاق، وفي الحديث: { لا يدخل الجنة بخيل، ولا كذاب ولا ديوث } "، قال تعالى: { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } أي الرجال الطيبون للنساء الطيبات، والرجال الخبيثون للنساء الخبيثات، وكذلك في النساء، فإذا كانت المرأة خبيثة كان قرينها خبيثا، وإذا كان قرينها خبيثا كانت خبيثة، وبهذا عظم القول فيمن قذف عائشة ونحوها من أمهات المؤمنين، ولولا ما على الزوج في ذلك من العيب ما حصل هذا التغليظ، ولهذا قال السلف ما بغت امرأة نبي قط، ولو كان تزوج البغي جائزا لوجب تنزيه الأنبياء عما يباح، كيف وفي نساء الأنبياء من هي كافرة، كما في أزواج المؤمنات من هو كافر، كما قال تعالى: { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين }، وأما البغايا فليس في الأنبياء ولا الصالحين من تزوج بغيا، لأن البغاء يفسد فراشه، ولهذا أبيح للمسلم أن يتزوج الكتابية اليهودية والنصرانية، إذا كان محصنا غير مسافح ولا متخذ خدن، فعلم أن تزوج الكافرة قد يجوز، وتزوج البغي لا يجوز، لأن ضرر دينها لا يتعدى إليه، وأما ضرر بغاها فيتعدى إليه، والله أعلم .

- مسألة: في رجل له زوجة، أسكنها بين ناس مناجيس، وهو يخرج بها إلى الفرج وإلى أماكن الفساد، ويعاشر مفسدين، فإذا قيل له: انتقل من هذا المسكن السوء، فيقول: أنا زوجها ولي الحكم في امرأتي ولي السكنى، فهل له ذلك ؟، الجواب: الحمد لله رب العالمين، ليس له أن يسكنها حيث شاء، ولا يخرجها إلى حيث شاء، بل يسكن بها في مسكن يصلح لمثلها، ولا يخرج بها عند أهل الفجور، بل ليس له أن يعاشر الفجار على فجورهم، ومتى فعل ذلك وجب أن يعاقب عقوبتين: عقوبة على فجوره بحسب ما فعل، وعقوبة على ترك صيانة زوجته، وإخراجها إلى أماكن الفجور، فيعاقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، والله أعلم . - مسألة: في معسر هل يقسط عليه الصداق ؟ الجواب: إذا كان معسرا قسط عليه الصداق على قدر حاله، ولم يجز حبسه، لكن أكثر العلماء يقبلون قوله في الإعسار مع يمينه، وهو مذهب الشافعي وأحمد، ومنهم من لا يقبل البينة إلا بعد الحبس كما يقوله من يقوله من أصحاب أبي حنيفة، فإذا كانت الحكومة عند من يحكم بمذهب الشافعي وأحمد لم يحبس .

- مسألة: في امرأة عزمت على الحج هي وزوجها، فمات زوجها في شعبان، فهل يجوز لها أن تحج ؟ الجواب: ليس لها أن تسافر في العدة عن الوفاة إلى الحج في مذهب الأئمة الأربعة . - مسألة: في امرأة متزوجة برجل، ولها أقارب كلما أرادت تزورهم أخذت الفراش وتقعد عندهم عشرة أيام وأكثر، وقد قربت ولادتها ومتى ولدت عندهم لم يمكن أن تجيء إلى بيتها إلا بعد أيام، ويبقى الزوج بردان فهل يجوز أن يخلوها تلد عندهم ؟، الجواب: لا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذنه، ولا يحل لأحد أن يأخذها إليه ويحبسها عن زوجها، سواء كان ذلك لكونها مرضعا أو لكونها قابلة أو غير ذلك من الصناعات، وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزة عاصية لله ورسوله مستحقة العقوبة .

- مسألة: في رجل توفي وقعدت زوجته في عدته أربعين يوما، فما قدرت تخالف مرسوم السلطان، ثم سافرت وحضرت إلى القاهرة ولم تتزين لا بطيب ولا غيره، فهل يجوز خطبتها أو لا ؟ الجواب: العدة تنقضي بعد أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن كان قد بقي من هذه شيء فلتتمه في بيتها ولا تخرج ليلا ولا نهارا إلا لأمر ضروري، وتجتنب الزينة والطيب في بنيها وبناتها، ولتأكل ما شاءت من حلال، وتشم الفاكهة، وتجتمع بمن يجوز لها الاجتماع به في غير العدة، لكن إن خطبها إنسان لا تجيبه صريحا والله أعلم . - مسألة: في مطلقة ادعت وحلفت أنها قضت عدتها، فتزوجها زوج ثان، ثم حضرت امرأة أخرى، وزعمت أنها حاضت حيضتين وصدقها الزوج على ذلك ؟ الجواب: إذا لم تحض إلا حيضتين فالنكاح الثاني باطل باتفاق الأئمة، وإذا كان الزوج مصدقا لها وجب أن يفرق بينهما فتكمل عدة الأول بحيضة، ثم تعتد من وطء الثاني عدة كاملة، ثم بعد ذلك إن شاء الثاني أن يتزوجها تزوجها .

- مسألة: في رجل تزوج مصافحة، وقعدت معه أياما فطلع لها زوج آخر، فحمل الزوج والزوجة، وزوجها الأول إلى القاضي فقال لها: تريدين الأول أو الثاني، فقالت: ما أريد إلا الزوج الثاني، فطلقها الأول، ورسم للزوجة أن توفي عدته، وتم معها الزوج، فهل يصح ذلك لها أم لا ؟ الجواب: إذا تزوجت بالثاني قبل أن توفي عدة الأول، وقد فارقها الأول إما لفساد نكاحه، وإما لتطلبه لها، وإما لتفريق الحاكم بينهما، فنكاحها فاسد وتستحق العقوبة هي وهو ومن زوجها، بل عليها أن تتم عدة الأول، ثم إن كان الثاني قد وطئها اعتدت له عدة أخرى، فإذا انقضت العدتان تزوجت حينئذ بمن شاءت بالأول أو بالثاني أو غيرهما .

- سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن امرأة لها زوج، ولها عليه صداق، فلما حضرتها الوفاة أحضرت شاهد عدل وجماعة نسوة، وأشهدت على نفسها أنها أبرأته من الصداق، فهل يصح هذا الإبراء أم لا ؟ وعن رجل وصف له شحم الخنزير لمرض به، هل يجوز له ذلك أم لا ؟ وعن رجل تزوج بيتيمة صغيرة وعقد عقدها شافعي المذهب ولم تدرك إلا بعد شهرين، فهل هذا العقد جائز أم لا ؟، أجاب: الحمد لله، إن كان الصداق ثابتا عليه إلى أن مرضت مرض الموت، لم يصح ذلك إلا بإجازة الورثة الباقين، وأما إن كانت أبرأته في الصحة جاز ذلك، وثبت بشاهد ويمين عند مالك والشافعي وأحمد، وثبت أيضا بشهادة امرأتين ويمين عند مالك، وقول في مذهب أحمد، وإن أقرت في مرضها أنها أبرأته في الصحة لم يقبل هذا الإقرار عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ويقبل عند الشافعي، وقد قال النبي ﷺ: { إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، وليس للمريض أن يخص الوارث بأكثر مما أعطاه الله)

سئل رحمه الله تعالى أيضا عمن يقول: إن المرأة إذا وقع بها الطلاق الثلاث تباح بدون نكاح ثان للذي طلقها ثلاثا: فهل قال هذا القول أحد من المسلمين، ومن قال هذا القول ماذا يجب عليه ؟ ومن استحلها بعد وقوع الثلاث بدون نكاح ثان ماذا يجب عليه ؟ وما صفة النكاح الثاني الذي يبيحها للأول ؟ أفتونا مأجورين مثابين يرحمكم الله، فأجاب: رضي الله عنه - الحمد لله رب العالمين، إذا وقع بالمرأة الطلاق الثلاث فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم يقل أحد من علماء المسلمين: إنها تباح بعد وقوع الطلاق الثلاث بدون زوج ثان، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد كذب، ومن قال ذلك أو استحل وطأها بعد وقوع الطلاق الثلاث بدون نكاح زوج ثان، فإن كان جاهلا يعذر بجهله - مثل أن يكون نشأ بمكان قوم لا يعرفون فيه شرائع الإسلام، أو يكون حديث عهد بالإسلام، أو نحو ذلك - فإنه يعرف دين الإسلام ; فإن أصر على القول بأنها تباح بعد وقوع الثلاث بدون نكاح ثان أو على استحلال هذا الفعل: فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كأمثاله من المرتدين الذين يجحدون وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وحل المباحات التي علم أنها من دين الإسلام، وثبت ذلك بنقل الأمة المتواتر عن نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام، وظهر ذلك بين الخاص والعام، كمن يجحد وجوب " مباني الإسلام " من الشهادتين، والصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام، أو جحد " تحريم الظلم، وأنواعه " كالربا والميسر، أو تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما يدخل في ذلك من تحريم " نكاح الأقارب " سوى بنات العمومة والخؤولة، وتحريم " المحرمات بالمصاهرة " وهن أمهات النساء وبناتهن وحلائل الآباء والأبناء ونحو ذلك من المحرمات، أو حل الخبز واللحم، والنكاح واللباس ; وغير ذلك مما علمت إباحته بالاضطرار من دين الإسلام: فهذه المسائل مما لم يتنازع فيها المسلمون، لا سنيهم ولا بدعيهم، ولكن تنازعوا في مسائل كثيرة من " مسائل الطلاق والنكاح " وغير ذلك من الأحكام ; كتنازع الصحابة والفقهاء بعدهم في " الحرام " هل هو طلاق، أو يمين، أو غير ذلك ؟ وكتنازعهم في " الكنايات الظاهرة " كالخلية، والبرية، والبتة: هل يقع بها واحدة رجعية، أو بائن، أو ثلاث ؟ أو يفرق بين حال وحال ؟ وكتنازعهم في " المولي ": هل يقع به الطلاق عند انقضاء المدة إذا لم يف فيها ؟ أم يوقف بعد انقضائها حتى يفيء أو يطلق ؟ وكتنازع العلماء في طلاق السكران، والمكره، وفي الطلاق بالخط، وطلاق الصبي المميز، وطلاق الأب على ابنه، وطلاق الحكم الذي هو من أهل الزوج بدون توكيله، كما تنازعوا في بذل أجر العوض بدون توكيلها، وغير ذلك من المسائل التي يعرفها العلماء، وتنازعوا أيضا في مسائل " تعليق الطلاق بالشرط " ومسائل " الحلف بالطلاق، والعتاق والظهار، والحرام، والنذر " كقوله: إن فعلت كذا فعلي الحج أو صوم شهر أو الصدقة بألف، وتنازعوا أيضا في كثير من مسائل " الأيمان " مطلقا في موجب اليمين، وهذا كتنازعهم في تعليق الطلاق بالنكاح: هل يقع أو لا يقع ؟ أو يفرق بين العموم والخصوص ؟ أو بين ما يكون فيه مقصود شرعي وبين أن يقع في نوع ملك أو غير ملك ؟ وتنازعوا في الطلاق المعلق بالشرط بعد النكاح ؟ على ثلاثة أقوال، فقيل: يقع مطلقا، وقيل: لا يقع وقيل: يفرق بين الشرط الذي يقصد وقوع الطلاق عند كونه، وبين الشرط الذي يقصد عدمه، وعدم الطلاق عنده، " فالأول " كقوله: إن أعطيتني ألفا فأنت طالق، " والثاني " كقوله: إن فعلت كذا فعبيدي أحرار، ونسائي طوالق، وعلي الحج، وأما النذر المعلق بالشرط، فاتفقوا على أنه إذا كان مقصوده وجود الشرط كقوله: إن شفى الله مريضي، أو سلم مالي الغائب فعلي صوم شهر، أو الصدقة بمائة: أنه يلزمه، وتنازعوا فيما إذا لم يكن مقصوده وجود الشرط ; بل مقصوده عدم الشرط، وهو حالف بالنذر، كما إذا قال: لا أسافر، وإن سافرت فعلي الصوم، أو الحج، أو الصدقة، أو علي عتق رقبة، ونحو ذلك ؟ على ثلاثة أقوال: فالصحابة وجمهور السلف على أنه يجزيه كفارة يمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وهو آخر الروايتين عن أبي حنيفة، وقول طائفة من المالكية: كابن وهب، وابن أبي الغمر، وغيرهما، وهل يتعين ذلك، أم يجزيه الوفاء ؟ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقيل: عليه الوفاء، كقول مالك، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وحكاه بعض المتأخرين قولا للشافعي ; ولا أصل له في كلامه، وقيل: لا شيء عليه بحال، كقول طائفة من التابعين، وهو قول داود، وابن حزم، وهكذا تنازعوا على هذه الأقوال الثلاثة فيمن حلف بالعتاق أو الطلاق أن لا يفعل شيئا كقوله: إن فعلت كذا فعبدي حر، أو امرأتي طالق، هل يقع ذلك إذا حنث، أو يجزيه كفارة يمين، أو لا شيء عليه ؟ على ثلاثة أقوال، ومنهم من فرق بين الطلاق والعتاق، واتفقوا على أنه إذا قال: إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي لا يقع به الطلاق ; بل ولا يجب عليه إذ لم يكن قربة ; ولكن هل عليه كفارة يمين ؟ على قولين، " أحدهما " يجب عليه كفارة يمين، وهو مذهب أحمد في المشهور عنه، ومذهب أبي حنيفة فيما حكاه ابن المنذر والخطابي وابن عبد البر وغيرهم، وهو الذي وصل إلينا في كتب أصحابه، وحكى القاضي أبو يعلى وغيره، وعنه أنه لا كفارة فيه، " والثاني " لا شيء عليه، وهو مذهب الشافعي .

- مسألة: قال شيخ الإسلام: إذا حلف الرجل يمينا من الأيمان، فالأيمان ثلاثة أقسام: أحدها: ما ليس من أيمان المسلمين، وهو الحلف بالمخلوقات، كالكعبة، والملائكة، والمشايخ، والملوك والآباء ; وتربتهم، ونحو ذلك، فهذه يمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها باتفاق العلماء ; بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصح قوليهم، ففي الصحيح، عن النبي ﷺ أنه قال: { من كان حالفا فيحلف بالله أو ليصمت }، وقال: { إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم }، وفي السنن عنه أنه قال: { من حلف بغير الله فقد أشرك }، والثاني: اليمين بالله تعالى، كقوله: والله لأفعلن، فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين، وأيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها تعظيم الخالق - لا الحلف بالمخلوقات - كالحلف بالنذر، والطلاق، والعتاق، كقوله: إن فعلت كذا فعلي صيام شهر أو الحج إلى بيت الله، أو الحل علي حرام لا أفعل كذا، أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام، أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، أو لا أفعله، أو إن فعلته فنسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وكل ما أملكه صدقة، ونحو ذلك فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال، قيل إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به، وقيل لا يلزمه شيء، وقيل: يلزمه كفارة يمين، ومنهم من قال: الحلف بالنذر يجزيه فيه الكفارة، والحلف بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به، وأظهر الأقوال، وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار: أنه يجزئه كفارة يمين في جميع أيمان المسلمين، كما قال الله تعالى: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم }، وقال تعالى: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، وثبت في الصحيح، عن النبي ﷺ أنه قال: { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه }، فإذا قال: الحلال علي حرام لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، أو إن فعلت كذا فعلي الحج، أو مالي صدقة: أجزأه في ذلك كفارة يمين، فإن كفر كفارة الظهار فهو أحسن، وكفارة اليمين يخير فيها بين العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، وإذا أطعمهم أطعم كل واحد جراية من الجرايات المعروفة في بلده، مثل: أن يطعم ثمان أواق، أو تسع أواق بالشامي، ويطعم مع

ذلك إدامها ; كما جرت عادة أهل الشام في إعطاء الجرايات خبزا وإداما، وإذا كفر يمينه لم يقع به الطلاق، وأما إذا قصد إيقاع الطلاق على الوجه الشرعي، مثل أن ينجز الطلاق فيطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه، فهذا يقع به الطلاق باتفاق العلماء، وكذلك إذا علق الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها، مثل أن يكون مريدا للطلاق إذا فعلت أمرا من الأمور، فيقول لها: إن فعلته فأنت طالق، قصده أن يطلقها إذا فعلته، فهذا مطلق يقع به الطلاق عند السلف وجماهير الخلف ; بخلاف من قصده أن ينهاها ويزجرها باليمين ; ولو فعلت ذلك الذي يكرهه لم يجز أن يطلقها ; بل هو مريد لها وإن فعلته ; لكنه قصد اليمين لمنعها عن الفعل ; لا مريدا أن يقع الطلاق وإن فعلته، فهذا حالف لا يقع به الطلاق في أظهر قولي العلماء من السلف والخلف، بل يجزئه كفارة يمين، كما تقدم .

فصل وأما إذا قال: إن فعلته فعلي إذا عتق عبدي، فاتفقوا على أنه لا يقع العتق بمجرد الفعل ; لكن يجب عليه العتق، وهو مذهب مالك، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وقيل: لا يجب عليه شيء، وهو قول طائفة من التابعين، وقول داود، وابن حزم، وقيل: عليه كفارة يمين، وهو قول الصحابة وجمهور التابعين، ومذهب الشافعي وأحمد، وهو مخير بين التكفير والإعتاق على المشهور عنهما، وقيل: يجب التكفير عينا ; ولم ينقل عن الصحابة شيء في الحلف بالطلاق فيما بلغنا بعد كثرة البحث، وتتبع كتب المتقدمين والمتأخرين ; بل المنقول عنهم إما ضعيف ; بل كذب من جهة النقل، وإما أن لا يكون دليلا على الحلف بالطلاق ; فإن الناس لم يكونوا يحلفون بالطلاق على عهدهم ; ولكن نقل عن طائفة منهم في الحلف بالعتق أن يجزيه كفارة يمين، كما إذا قال: إن فعلت كذا فعبدي حر، وقد نقل عن بعض هؤلاء نقيض هذا القول، وأنه يعتق، وقد تكلمنا على أسانيد ذلك في غير هذا الموضع، ومن قال من الصحابة والتابعين: إنه لا يقع العتق فإنه لا يقع الطلاق بطريق الأولى، كما صرح بذلك من صرح به من التابعين، وبعض العلماء ظن أن الطلاق لا نزاع فيه فاضطره ذلك إلى أن عكس موجب الدليل فقال: يقع الطلاق ; دون العتاق، وقد بسط الكلام على هذه المسائل، وبين ما فيها من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والأئمة الأربعة، وغيرهم من علماء المسلمين، وحجة كل قوم في غير هذا الموضع، وتنازع العلماء فيما إذا حلف بالله أو الطلاق أو الظهار أو الحرام أو النذر أنه لا يفعل شيئا ففعله ناسيا ليمينه، أو جاهلا بأنه المحلوف عليه: فهل يحنث، كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأحد القولين للشافعي وإحدى الروايات عن أحمد ؟ أو لا يحنث بحال، كقول المكيين، والقول الآخر للشافعي والرواية الثانية عن أحمد ؟ أو يفرق بين اليمين بالطلاق والعتاق وغيرهما، كالرواية الثالثة عن أحمد، وهو اختيار القاضي والخرقي وغيرهما من أصحاب أحمد، والقفال من أصحاب الشافعي ؟ وكذلك لو اعتقد أن امرأته بانت بفعل المحلوف عليه، ثم تبين له أنها لم تبن ؟ ففيه قولان، وكذلك إذا حلف بالطلاق أو غيره على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه ؟ ففيه ثلاثة أقوال كما ذكر، ولو حلف على شيء يشك فيه ثم تبين صدقه ؟ ففيه قولان، عند مالك يقع، وعند الأكثرين لا يقع، وهو المشهور من مذهب أحمد، والمنصوص عنه في رواية حرب التوقف في المسألة، فيخرج على وجهين، كما إذا حلف ليفعلن اليوم كذا ومضى اليوم، أو شك في فعله هل يحنث ؟ على وجهين، واتفقوا على أنه يرجع في اليمين إلى نية الحالف إذا احتملها لفظه، ولم يخالف الظاهر، أو خالفه وكان مظلوما، وتنازعوا هل يرجع إلى سبب اليمين وسياقها وما هيجها ؟ على قولين: فمذهب المدنيين كمالك وأحمد وغيره أنه يرجع إلى ذلك، والمعروف في مذهب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يرجع: لكن في مسائلهما ما يقتضي خلاف ذلك، وإن كان السبب أعم من اليمين عمل به عند من يرى السبب، وإن كان خاصا: فهل يقصر اليمين عليه ؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره، وإن حلف على معين يعتقده على صفة فتبين بخلافها ؟ ففيه أيضا قولان، وكذلك لو طلق امرأته بصفة ; ثم تبين بخلافها مثل أن يقول: أنت طالق أن دخلت الدار - بالفتح - أي لأجل دخولك الدار ; ولم تكن دخلت، فهل يقع به الطلاق ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، وكذلك إذا قال: أنت طالق لأنك فعلت كذا ونحو ذلك، ولم تكن فعلته ؟ ولو قيل له: امرأتك فعلت كذا ; فقال: هي طالق، ثم تبين أنهم كذبوا عليها ؟ ففيه قولان وتنازعوا في الطلاق المحرم: كالطلاق في الحيض ; وكجمع الثلاث عند الجمهور الذين يقولون: إنه حرام ; ولكن الأربعة وجمهور العلماء يقولون: كونه حراما لا يمنع وقوعه، كما أن الظهار محرم وإذا ظاهر ثبت حكم الظهار ; وكذلك " النذر " قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ " أنه نهى عنه " ومع هذا يجب عليه الوفاء به بالنص والإجماع، والذين قالوا: لا يقع، اعتقدوا أن كل ما نهى الله عنه فإنه يقع فاسدا لا يترتب عليه حكم، والجمهور فرقوا بين أن يكون الحكم يعمه لا يناسب فعل المحرم: كحل الأموال والأبضاع وإجزاء العبادات وبين أن يكون عبادة تناسب فعل المحرم كالإيجاب والتحريم ; فإن المنهي عن شيء إذا فعله قد تلزمه بفعله كفارة أو حد، أو غير ذلك من العقوبات: فكذلك قد ينهى عن فعل شيء فإذا فعله لزمه به واجبات ومحرمات ; ولكن لا ينهى عن شيء إذا فعله أحلت له بسبب فعل المحرم الطيبات ; فبرئت ذمته من الواجبات ; فإن هذا من " باب الإكرام والإحسان " والمحرمات لا تكون سببا محضا للإكرام والإحسان ; بل هي سبب للعقوبات إذا لم يتقوا الله تبارك وتعالى ; كما قال تعالى: {

فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وقال تعالى: { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } إلى قوله تبارك وتعالى: { ذلك جزيناهم ببغيهم } وكذلك ما ذكره تعالى في قصة البقرة من كثرة سؤالهم وتوقفهم عن امتثال أمره كان سببا لزيادة الإيجاب، ومنه قوله تعالى: { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } وحديث النبي ﷺ: { إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته } { ولما سألوه عن الحج: أفي كل عام ؟ قال: لا، ولو قلت: نعم لوجب ; ولو وجب لم تطيقوه ; ذروني ما تركتم ; فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ; فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم }، ومن هنا قال طائفة من العلماء: إن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق ; فإن الله يبغض الطلاق ; وإنما يأمر به الشياطين والسحرة كما قال تعالى في السحر: { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { إن الشيطان ينصب عرشه على البحر ; ويبعث جنوده فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة ; فيأتي أحدهم فيقول: ما زلت به حتى شرب الخمر، فيقول الساعة يتوب، ويأتي الآخر فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيقبله بين عينيه، ويقول: أنت، أنت، }، وقد روى أهل التفسير والحديث والفقه: أنهم كانوا في أول الإسلام يطلقون بغير عدد: يطلق الرجل المرأة، ثم يدعها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ضرارا، فقصرهم الله على الطلقات الثلاث ; لأن الثلاث أول حد الكثرة، وآخر حد القلة، ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه، كما دلت عليه الآثار والأصول ; ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحيانا، وحرمه في مواضع باتفاق العلماء، كما إذا طلقها في الحيض ولم تكن سألته الطلاق ; فإن هذا الطلاق حرام باتفاق العلماء، والله تعالى بعث محمدا ﷺ بأفضل الشرائع وهي الحنيفية السمحة، كما قال: { أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة } فأباح لعباده المؤمنين الوطء بالنكاح، والوطء بملك اليمين، واليهود والنصارى لا يطئون إلا بالنكاح ; لا يطئون بملك اليمين، " وأصل ابتداء الرق " إنما يقع من السبي، والغنائم لم تحل إلا لأمة محمد ﷺ، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال: { فضلنا على الأنبياء بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، وأعطيت الشفاعة } فأباح سبحانه للمؤمنين أن ينكحوا وأن يطلقوا، وأن يتزوجوا المرأة المطلقة بعد أن تتزوج بغير زوجها، " والنصارى " يحرمون النكاح على بعضهم، ومن أباحوا له النكاح لم يبيحوا له الطلاق، " واليهود " يبيحون الطلاق ; لكن إذا تزوجت المطلقة بغير زوجها حرمت عليه عندهم، والنصارى لا طلاق عندهم، واليهود لا مراجعة بعد أن تتزوج غيره عندهم، والله تعالى أباح للمؤمنين هذا وهذا، ولو أبيح الطلاق بغير عدد - كما كان في أول الأمر - لكان الناس يطلقون دائما: إذا لم يكن أمر يزجرهم عن الطلاق ; وفي ذلك من الضرر والفساد ما أوجب حرمة ذلك، ولم يكن فساد الطلاق لمجرد حق المرأة فقط: كالطلاق في الحيض حتى يباح دائما بسؤالها ; بل نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة منهي عنه باتفاق العلماء: إما نهي تحريم، أو نهي تنزيه، وما كان مباحا للحاجة قدر بقدر الحاجة، والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة، كما قال النبي ﷺ: { لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } وكما قال: { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ; إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا } وكما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا، وهذه الأحاديث في الصحيح، وهذا مما احتج به من لا يرى وقوع الطلاق إلا من القصد ; ولا يرى وقوع طلاق المكره ; كما لا يكفر من تكلم بالكفر مكرها بالنص والإجماع ; ولو تكلم بالكفر مستهزئا بآيات الله وبالله ورسوله كفر ; كذلك من تكلم بالطلاق هازلا وقع به، ولو حلف بالكفر فقال: إن فعل كذا فهو بريء من الله ورسوله ; أو فهو يهودي أو نصراني، لم يكفر بفعل المحلوف عليه ; وإن كان هذا حكما معلقا بشرط في اللفظ ; لأن مقصوده الحلف به بغضا له ونفورا عنه ; لا إرادة له ; بخلاف من قال: إن أعطيتموني ألفا كفرت فإن هذا يكفر، وهكذا يقول من يفرق بين الحلف بالطلاق وتعليقه بشرط لا يقصد كونه، وبين الطلاق المقصود عند وقوع الشرط، ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن الخلع فسخ للنكاح ; وليس هو من الطلقات الثلاث، كقول ابن عباس، والشافعي و أحمد في أحد قوليهما لأن المرأة افتدت نفسها من الزوج كافتداء الأسير ; وليس هو من الطلاق المكروه في الأصل، ولهذا يباح في الحيض ; بخلاف الطلاق، وأما إذا عدل هو عن الخلع وطلقها إحدى الثلاث بعوض فالتفريط منه، وذهب طائفة من السلف: كعثمان بن عفان وغيره ; ورووا في ذلك حديثا مرفوعا، وبعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد جعلوه مع الأجنبي فسخا، كالإقالة، والصواب أنه مع الأجنبي كما هو مع المرأة ; فإنه إذا كان افتداء المرأة كما يفدى الأسير فقد يفتدي الأسير بمال منه ومال من غيره ; وكذلك العبد يعتق بمال يبذله هو وما يبذله الأجنبي، وكذلك الصلح يصح مع المدعى عليه ومع أجنبي فإن هذا جميعه من باب الإسقاط والإزالة، وإذ كان الخلع رفعا للنكاح ; وليس هو من الطلاق الثلاث: فلا فرق بين أن يكون المال المبذول من المرأة، أو من أجنبي، وتشبيه فسخ النكاح بفسخ البيع: فيه نظر ; فإن البيع لا يزول إلا برضى المتبايعين ; لا يستقل

أحدهما بإزالته ; بخلاف النكاح ; فإن المرأة ليس إليها إزالته ; بل الزوج يستقل بذلك ; لكن افتداؤها نفسها منه كافتداء الأجنبي لها، ومسائل الطلاق وما فيها من الإجماع والنزاع مبسوط في غير هذا الموضوع، والمقصود هنا إذا وقع به الثلاث حرمت عليه المرأة بإجماع المسلمين، كما دل عليه الكتاب والسنة، ولا يباح إلا بنكاح ثان، وبوطئه لها عند عامة السلف والخلف ; فإن النكاح المأمور به يؤمر فيه بالعقد وبالوطء، بخلاف المنهي عنه ; فإنه ينهى فيه عن كل من العقد والوطء ; ولهذا كان النكاح الواجب والمستحب يؤمر فيه بالوطء من العقد " والنكاح المحرم " يحرم فيه مجرد العقد، وقد ثبت في الصحيح { أن النبي ﷺ قال لامرأة رفاعة القرظي، لما أرادت أن ترجع إلى رفاعة بدون الوطء لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك } وليس في هذا خلاف إلا عن سعيد بن المسيب، فإنه - مع أنه أعلم التابعين - لم تبلغه السنة في هذه المسألة، " والنكاح المبيح " هو النكاح المعروف عند المسلمين، وهو النكاح الذي جعل الله فيه بين الزوجين مودة ورحمة ; ولهذا قال النبي ﷺ فيه: { حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك } فأما " نكاح المحلل " فإنه لا يحلها للأول عند جماهير السلف، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: { لعن الله المحلل والمحلل له } وقال عمر بن الخطاب: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما، وكذلك قال عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وغيرهم: إنه لا يبيحها إلا بنكاح رغبة ; لا نكاح محلل، ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه رخص في نكاح التحليل، ولكن تنازعوا في " نكاح المتعة " فإن نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من ثلاثة أوجه، " أحدها " أنه كان مباحا في أول الإسلام ; بخلاف التحليل، " الثاني " أنه رخص فيه ابن عباس وطائفة من السلف ; بخلاف التحليل فإنه لم يرخص فيه أحد من الصحابة، " الثالث " أن المتمتع له رغبة في المرأة وللمرأة رغبة فيه إلى أجل ; بخلاف المحلل فإن المرأة ليس لها رغبة فيه بحال، وهو ليس له رغبة فيها ; بل في أخذ ما يعطاه، وإن كان له رغبة فهي من رغبته في الوطء ; لا في اتخاذها زوجة، من جنس رغبة الزاني ; ولهذا قال ابن عمر: لا يزالان زانيين، وإن مكثا عشرين سنة، إذ الله علم من قلبه أنه يريد أن يحلها له، ولهذا تعدم فيه خصائص النكاح ; فإن النكاح المعروف كما قال تعالى: { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } والتحليل فيه البغضة والنفرة ; ولهذا لا يظهره أصحابه ; بل يكتمونه كما يكتم السفاح، ومن شعائر النكاح إعلانه، كما قال النبي ﷺ: { أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف }، ولهذا يكفي في إعلانه الشهادة عليه عند طائفة من العلماء، وطائفة أخرى توجب الإشهاد والإعلان ; فإذا تواصوا بكتمانه بطل، ومن ذلك الوليمة عليه، والنثار، والطيب، والشراب، ونحو ذلك مما جرت به عادات الناس في النكاح، وأما " التحليل " فإنه لا يفعل فيه شيء من هذا ; لأن أهله لم يريدوا أن يكون المحلل زوج المرأة، ولا أن تكون المرأة امرأته ; وإنما المقصود استعارته لينزو عليها، كما جاء في الحديث المرفوع تسميته بالتيس المستعار ; ولهذا شبه بحمار العشريين الذي يكترى للتقفيز على الإناث ; ولهذا لا تبقى المرأة مع زوجها بعد التحليل كما كانت قبله ; بل يحصل بينهما نوع من النفرة، ولهذا لما لم يكن في التحليل مقصود صحيح يأمر به الشارع: صار الشيطان يشبه به أشياء مخالفة للإجماع، فصار طائفة من عامة الناس يظنون أن ولادتها لذكر يحلها، أو إن وطئها بالرجل على قدمها أو رأسها أو فوق سقف أو سلم هي تحته يحلها، ومنهم من يظن أنهما إذا التقيا بعرفات، كما التقى آدم وامرأته أحلها ذلك، ومنهن من إذا تزوجت بالمحلل به لم تمكنه من نفسها ; بل تمكنه من أمة لها، ومنهن من تعطيه شيئا، وتوصيه بأن يقر بوطئها، ومنهم من يحلل الأم وبنتها، إلى أمور أخر قد بسطت في غير هذا الموضع، بيناها في " كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل "، ولا ريب أن المنسوخ من الشريعة وما تنازع فيه السلف خير من مثل هذا، فإنه لو قدر أن الشريعة تأتي بأن الطلاق لا عدد له لكان هذا ممكنا وإن كان هذا منسوخا، وإما أن يقال: إن من طلق امرأته لا تحل له حتى يستكري من يطؤها فهذا لا تأتي به شريعة، وكثير من أهل التحليل يفعلون أشياء محرمة باتفاق المسلمين ; فإن المرأة المعتدة لا يحل لغير زوجها أن يصرح بخطبتها، سواء كانت معتدة من عدة طلاق أو عدة وفاة، قال تعالى: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } فنهى الله تعالى عن المواعدة سرا، وعن عزم عقدة النكاح، حتى يبلغ الكتاب أجله، وإذا كان هذا في عدة الموت فهو في عدة الطلاق أشد باتفاق المسلمين ; فإن المطلقة قد ترجع إلى زوجها ; بخلاف من مات عنها، وأما " التعريض " فإنه يجوز في عدة المتوفى عنها، ولا يجوز في عدة الرجعية وفيما سواهما، فهذه المطلقة ثلاثا لا يحل لأحد أن يواعدها سرا، ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله باتفاق المسلمين، وإذا تزوجت بزوج ثان وطلقها ثلاثا لم يحل للأول أن يواعدها سرا، ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله باتفاق المسلمين، وذلك أشد وأشد وإذا كانت مع زوجها لم يحل لأحد أن يخطبها، لا تصريحا، ولا تعريضا ; باتفاق المسلمين، فإذا كانت لم تتزوج بعد لم يحل للمطلق ثلاثا أن يخطبها ; لا تصريحا ولا تعريضا، باتفاق المسلمين، وخطبتها في هذه الحال أعظم من خطبتها بعد أن تتزوج بالثاني، وهؤلاء " أهل التحليل " قد يواعد أحدهم المطلقة ثلاثا، ويعزمان قبل أن تنقضي عدتها وقبل نكاح الثاني على عقدة النكاح بعد النكاح الثاني نكاح المحلل، ويعطيها ما تنفقه على شهود عقد التحليل، وللمحلل، وما ينفقه عليها في عدة التحليل، والزوج المحلل لا يعطيها مهرا، ولا نفقة عدة، ولا نفقة طلاق، فإذا كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز في هذه وقت نكاحها بالثاني أن يخطبها الأول - لا تصريحا ولا تعريضا - فكيف إذا خطبها قبل أن تتزوج بالثاني ؟ أو إذا كان بعد أن يطلقها الثاني لا يحل للأول أن يواعدها سرا، ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله: فكيف إذا فعل ذلك من قبل أن يطلق ؟، بل قبل أن يتزوج، بل قبل أن تنقضي عدتها منه، فهذا كله يحرم باتفاق المسلمين، وكثير من أهل التحليل يفعله، وليس في التحليل صورة اتفق المسلمون على حلها ولا صورة أباحها النص ; بل من صور التحليل ما أجمع المسلمون على تحريمه، ومنها ما تنازع فيه العلماء، وأما الصحابة فلم يثبت { عن النبي ﷺ أنه لعن المحلل والمحلل له } منهم ; وهذا وغيره يبين أن من التحليل ما هو شر من نكاح المتعة وغيره من الأنكحة التي تنازع فيها السلف ; وبكل حال فالصحابة أفضل هذه الأمة وبعدهم التابعون، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم } فنكاح تنازع السلف في جوازه أقرب من نكاح أجمع السلف على تحريمه، وإذا تنازع فيه الخلف فإن أولئك أعظم علما ودينا ; وما أجمعوا على تعظيم تحريمه كان أمره أحق مما اتفقوا على تحريمه وإن اشتبه تحريمه على من بعدهم، والله تعالى أعلم .

فصل والطلاق الذي يقع بلا ريب هو الطلاق الذي أذن الله فيه وأباحه، وهو أن يطلقها في الطهر قبل أن يطأها، أو بعد ما يبين حملها طلقة واحدة، فأما الطلاق المحرم: مثل أن يطلقها في الحيض، أو يطلقها بعد أن يطأها وقبل أن يبين حملها، فهذا الطلاق محرم باتفاق العلماء، وكذلك إذا طلقها ثلاثا بكلمة أو كلمات في طهر واحد، فهو محرم عند جمهور العلماء، وتنازعوا فيما يقع بها، فقيل: يقع بها الثلاث، وقيل: لا يقع بها إلا طلقة واحدة، وهذا هو الأظهر الذي يدل عليه الكتاب والسنة، كما قد بسط في موضعه، وكذلك الطلاق المحرم في الحيض وبعد الوطء، هل يلزم ؟ فيه قولان للعلماء، والأظهر أنه لا يلزم، كما لا يلزم النكاح المحرم، والبيع المحرم، وقد ثبت في الصحيح { عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة }، وثبت أيضا في مسند أحمد { أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فقال النبي ﷺ: هي واحدة }، ولم يثبت عن النبي خلاف هذه السنة، بل ما يخالفها إما أنه ضعيف ; بل مرجوح، وإما إنه صحيح لا يدل على خلاف ذلك، كما قد بسط ذلك في موضعه، والله أعلم .

فصل الطلاق منه طلاق سنة أباحه الله تعالى، وطلاق بدعة حرمه الله، فطلاق السنة أن يطلقها طلقة واحدة إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها، أو يطلقها حاملا قد تبين حملها، فإن طلقها وهي حائض، أو وطئها وطلقها بعد الوطء قبل أن يتبين حملها فهذا طلاق محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وتنازع العلماء: هل يلزم ؟ أو لا يلزم ؟ على قولين، والأظهر أنه لا يلزم، وإن طلقها ثلاثا بكلمة، أو بكلمات في طهر واحد قبل أن يراجعها، مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا، أو أنت طالق ألف طلقة، أو أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ونحو ذلك من الكلام، فهذا حرام عند جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وظاهر مذهبه، وكذلك لو طلقها ثلاثا قبل أن تنقضي عدتها، فهو أيضا حرام عند الأكثرين، وهو مذهب مالك وأحمد في ظاهر مذهبه، وأما السنة: إذا طلقها طلقة واحدة لم يطلقها الثانية حتى يراجعها في العدة، أو يتزوجها بعقد جديد بعد العدة، فحينئذ له أن يطلقها الثانية وكذلك الثالثة، فإذا طلقها الثالثة كما أمر الله ورسوله حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، وأما لو طلقها الثلاث طلاقا محرما، مثل أن يقول: لها أنت طالق ثلاثة جملة واحدة، فهذا فيه قولان للعلماء أحدهما يلزمه الثلاث، والثاني لا يلزمه إلا طلقة واحدة، وله أن يرتجعها في العدة، وينكحها بعقد جديد بعد العدة، وهذا قول كثير من السلف والخلف، وهو قول طائفة من أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل ; وهذا أظهر القولين ; لدلائل كثيرة: منها ما ثبت في الصحيح { عن ابن عباس قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة }، ومنها ما رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد جيد عن ابن عباس: { أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، وجاء إلى النبي ﷺ فقال: إنما هي واحدة وردها عليه } وهذا الحديث قد ثبته أحمد بن حنبل وغيره، وضعف أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم، ما روي { أنه طلقها ألبتة وقد استحلفه ما أردت إلا واحدة ؟ } فإن رواة هذا مجاهيل لا يعرف حفظهم وعدلهم ; ورواة الأول معروفون بذلك، ولم ينقل أحد عن النبي ﷺ بإسناد مقبول أن أحدا طلق امرأته ثلاثا بكلمة واحدة فألزمه الثلاث ; بل روي في ذلك أحاديث كلها كذب باتفاق أهل العلم ; ولكن جاء في أحاديث صحيحة: " أن فلانا طلق امرأته ثلاثا "، أي ثلاثا متفرقة وجاء: { إن الملاعن طلق ثلاثا } وتلك امرأة لا سبيل له إلى رجعتها ; بل هي محرمة عليه سواء طلقها أو لم يطلقها، كما لو طلق المسلم امرأته إذا ارتدت ثلاثا، وكما لو أسلمت امرأة اليهودي فطلقها ثلاثا ; أو أسلم زوج المشركة فطلقها ثلاثا، وإنما الطلاق الشرعي أن يطلق من يملك أن يرتجعها أو يتزوجها بعقد جديد، والله أعلم .

فالطلاق ثلاثة أنواع باتفاق المسلمين: الطلاق الرجعي: وهو الذي يمكنه أن يرتجعها فيه بغير اختيارها، وإذا مات أحدهما في العدة ورثه الآخر، والطلاق البائن: وهو ما يبقى به خاطبا من الخطاب، لا تباح له إلا بعقد جديد، والطلاق المحرم لها: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وهو فيما إذا طلقها ثلاث تطليقات، كما أذن الله ورسوله، وهو: أن يطلقها ثم يرتجعها في العدة، أو يتزوجها ثم يطلقها ثم يرتجعها، أو يتزوجها ثم يطلقها الطلقة الثالثة، فهذا الطلاق المحرم لها حتى تنكح زوجا غيره باتفاق العلماء، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله في المدخول بها طلاق بائن يحسب من الثلاث، ولهذا كان مذهب فقهاء الحديث كالإمام أحمد في ظاهر مذهبه، والشافعي في أحد قوليه، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وابن المنذر، وداود وابن خزيمة وغيرهم: أن " الخلع " فسخ للنكاح وفرقة بائنة بين الزوجين، لا يحسب من الثلاث، وهذا هو الثابت عن الصحابة: كابن عباس، وكذلك ثبت عن عثمان بن عفان وابن عباس وغيرهما: أن المختلعة ليس عليها أن تعتد بثلاثة قروء ; وإنما عليها أن تعتد بحيضة، وهو قول إسحاق بن راهويه ; وابن المنذر وغيرهما، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وروي في ذلك أحاديث معروفة في السنن عن النبي ﷺ يصدق بعضها بعضا، وبين أن ذلك ثابت عن النبي ﷺ وقال: روي عن طائفة من الصحابة أنهم جعلوا الخلع طلاقا ; لكن ضعفه أئمة الحديث، كالإمام أحمد بن حنبل ; وابن خزيمة ; وابن المنذر، والبيهقي، وغيرهم، كما روي في ذلك عنهم، والخلع: أن تبذل المرأة عوضا لزوجها ; ليفارقها، قال الله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون، فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون، وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم } فبين سبحانه أن المطلقات بعد الدخول يتربصن أي ينتظرن ثلاث قروء، " والقرء " عند أكثر الصحابة: كعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وغيرهم: الحيض، فلا تزال في العدة حتى تنقضي الحيضة الثالثة، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وذهب ابن عمر وعائشة وغيرهما أن العدة تنقضي بطعنها في الحيضة الثالثة، وهي مذهب مالك، والشافعي .

- مسألة: سئل الشيخ رحمه الله تعالى أيضا عن الفرق بين الطلاق الحلال والطلاق الحرام ؟ وعن الطلاق الحرام هل هو لازم أو ليس بلازم ؟ وعن الفرق بين الخلع والطلاق ؟ وعن حكم الحلف بلفظ الحرام، هل هو طلاق أم لا ؟ وعن بسط الحكم في ذلك ؟ فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: الطلاق منه ما هو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، ومنه ما ليس بمحرم، فالطلاق المباح - باتفاق العلماء - هو أن يطلق الرجل امرأته طلقة واحدة ; إذا طهرت من حيضتها، بعد أن تغتسل وقبل أن يطأها ثم يدعها فلا يطلقها حتى تنقضي عدتها، وهذا الطلاق يسمى " طلاق السنة " فإن أراد أن يرتجعها في العدة فله ذلك بدون رضاها ولا رضا وليها، ولا مهر جديد، وإن تركها حتى تقضي العدة، فعليه أن يسرحها بإحسان فقد بانت منه، فإن أراد أن يتزوجها بعد انقضاء العدة جاز له ذلك ; لكن يكون بعقد ; كما لو تزوجها ابتداء أو تزوجها غيره ثم ارتجعها في العدة، أو تزوجها بعد العدة وأراد أن يطلقها ; فإنه يطلقها كما تقدم، ثم إذا ارتجعها، أو تزوجها مرة ثانية، وأراد أن يطلقها، فإنه يطلقها كما تقدم، فإذا طلقها الطلقة الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، كما حرم الله ذلك ورسوله، وحينئذ فلا تباح له إلا بعد أن يتزوجها غيره النكاح المعروف الذي يفعله الناس إذا كان الرجل راغبا في نكاح المرأة ثم يفارقها، فأما إن تزوجها بقصد أن يحلها لغيره فإنه محرم عند أكثر العلماء، كما نقل عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وغيرهم، وكما دلت على ذلك النصوص النبوية، والأدلة الشرعية، ومن العلماء من رخص في ذلك، كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع، وإن كانت المرأة مما لا تحيض لصغرها أو كبرها ; فإنه يطلقها متى شاء، سواء كان وطئها أو لم يكن يطؤها ; فإن هذه عدتها ثلاثة أشهر، ففي أي وقت طلقها لعدتها ; فإنها لا تعتد بقروء، ولا بحمل ; لكن من العلماء من يسمي هذا " طلاق سنة " ومنهم من لا يسميه " طلاق سنة " ولا " بدعة "، وإن طلقها في الحيض، أو طلقها بعد أن وطئها وقبل أن يتبين حملها: فهذا الطلاق محرم، ويسمى " طلاق البدعة " وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وإن كان قد تبين حملها، وأراد أن يطلقها: فله أن يطلقها، وهل يسمى هذا طلاق سنة ؟ أو لا يسمى طلاق سنة، ولا بدعة ؟ فيه نزاع لفظي، وهذا الطلاق المحرم في الحيض، وبعد الوطء وقبل تبين الحمل هل يقع ؟ أو لا يقع ؟ سواء كانت واحدة أو ثلاثا، فيه قولان معروفان للسلف والخلف، وإن طلقها ثلاثا في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات ; مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا، أو أنت طالق وطالق وطالق، أو أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، أو يقول: أنت طالق، ثم يقول: أنت طالق، ثم يقول: أنت طالق، أو يقول: أنت طالق ثلاثا، أو عشر طلقات، أو مائة طلقة، أو ألف طلقة ونحو ذلك من العبارات فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها، ومن السلف من فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها، وفيه قول رابع محدث مبتدع: أحدها: أنه طلاق مباح لازم، وهو قول الشافعي، وأحمد في الرواية القديمة عنه: اختارها الخرقي، الثاني: أنه طلاق محرم لازم وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف، من الصحابة، والتابعين، والذي قبله منقول عن بعضهم، الثالث: أنه محرم، ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله ﷺ مثل الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان ; وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم ; مثل طاوس وخلاس بن عمرو ; ومحمد بن إسحاق ; وهو قول داود وأكثر أصحابه، ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد، ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل، وأما القول الرابع: الذي قاله بعض المعتزلة والشيعة: فلا يعرف عن أحد من السلف، وهو أنه لا يلزمه شيء، والقول الثالث: هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة: فإن كل طلاق شرعه الله في القرآن في المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعي ; لم يشرع الله لأحد أن يطلق الثلاث جميعا، ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقا بائنا، ولكن إذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه، فإذا انقضت عدتها بانت منه .

وأما المطلقة قبل الدخول فقد قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا }، ثم قال: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك }، أي في ذلك التربص، ثم قال: { الطلاق مرتان }، فبين أن الطلاق الذي ذكره هو الطلاق الرجعي الذي يكون فيه أحق بردها: هو ( مرتان ) مرة بعد مرة، كما إذا قيل للرجل: سبح مرتين، أو سبح ثلاث مرات، أو مائة مرة، فلا بد أن يقول: سبحان الله، سبحان الله، حتى يستوفي العدد، فلو أراد أن يجمل ذلك فيقول: سبحان الله مرتين، أو مائة مرة، لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة والله تعالى لم يقل: الطلاق طلقتان، بل قال: { مرتان } فإذا قال لامرأته: أنت طالق اثنتين، أو ثلاثا، أو عشرا، أو ألفا، لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة، { وقول النبي ﷺ لأم المؤمنين جويرية: لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله مداد كلماته }، أخرجه مسلم في صحيحه .

فمعناه أنه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك، { كقوله ﷺ: ربنا ولك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد }، ليس المراد أنه سبح تسبيحا بقدر ذلك، فالمقدار تارة يكون وصفا لفعل العبد، وفعله محصور، وتارة يكون لما يستحقه الرب، فذاك الذي يعظم قدره ; وإلا فلو قال المصلي في صلاته: سبحان الله عدد خلقه، لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة، ولما شرع النبي ﷺ أن يسبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويكبر ثلاثا وثلاثين، فلو قال: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، عدد خلقه، لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة، ولا نعرف أن أحدا طلق على عهد النبي ﷺ امرأته ثلاثا بكلمة واحدة فألزمه النبي ﷺ بالثلاث، ولا روي في ذلك حديث صحيح ولا حسن، ولا نقل أهل الكتب المعتمد عليها في ذلك شيئا ; بل رويت في ذلك أحاديث كلها ضعيفة باتفاق علماء الحديث، بل موضوعة ; بل الذي في صحيح مسلم وغيره من السنن والمسانيد، عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال: { كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم }، وفي رواية لمسلم وغيره، عن طاوس { أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر ؟ فقال ابن عباس: نعم }، وفي رواية: { أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة ؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في زمن عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم }، وروى الإمام أحمد في مسنده، حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، { عن ابن عباس أنه قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا ; قال: فسأله رسول الله ﷺ: كيف طلقتها ؟ قال: طلقتها ثلاثا، قال ; فقال: في مجلس واحد ؟ قال: نعم، قال: فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت، قال: فرجعها }، فكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر ; وقد أخرجه أبو عبد الله المقدسي في كتابه " المختارة " الذي هو أصح من " صحيح الحاكم "، وهكذا روى أبو داود وغيره من حديث، وقول النبي ﷺ: " في مجلس واحد " مفهومه أنه لو لم يكن في مجلس واحد لم يكن الأمر كذلك ; وذلك لأنها لو كانت في مجالس لأمكن في العادة أن يكون قد ارتجعها ; فإنها عنده، والطلاق بعد الرجعة يقع، والمفهوم لا عموم له في جانب المسكوت عنه ; بل قد يكون فيه تفصيل، كقوله: { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث }، أو: { لم ينجسه شيء }، وهو إذا بلغ قلتين فقد يحمل الخبث، وقد لا يحمله، وقوله: { في الإبل السائمة الزكاة }، وهي إذا لم تكن سائمة قد يكون فيها الزكاة - زكاة التجارة - وقد لا يكون فيها، وكذلك قوله: { من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه }، ومن لم يقمها فقد يغفر له بسبب آخر، وكقوله: { من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه }، وقوله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله }، ومن لم يكن كذلك فقد يعمل عملا آخر يرجو به رحمة الله مع الإيمان،

وقد لا يكون كذلك، فلو كان في مجالس فقد يكون له فيها رجعة، وقد لا يكون ; بخلاف المجلس الواحد الذي جرت عادة صاحبه بأنه لا يراجعها فيه ; فإن له فيه الرجعة، كما قال النبي ﷺ حيث قال: { ارجعها إن شئت }، ولم يقل كما قال في حديث ابن عمر: { مره فليراجعها }، فأمره بالرجعة، والرجعة يستقل بها الزوج: بخلاف المراجعة، وقد روى أبو داود وغيره { أن ركانة طلق امرأته ألبتة فقال له النبي ﷺ: الله ما أردت إلا واحدة ؟ فقال: ما أردت بها إلا واحدة، فردها إليه رسول الله ﷺ }، وأبو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده فقال: حديث " ألبتة " أصح من حديث ابن جريج: { أن ركانة طلق امرأته ثلاثا }، لأن أهل بيته أعلم ; لكن الأئمة الأكابر العارفون بعلل الحديث والفقه فيه: كالإمام أحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهما وأبي عبيد، وأبي محمد بن حزم، وغيره: ضعفوا حديث ألبتة، وبينوا أن رواته قوم مجاهيل، لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد أثبت حديث الثلاث، وبين أنه الصواب مثل قوله: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته ألبتة .

وقال أيضا: حديث ركانة في " ألبتة " ليس بشيء، لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: { أن ركانة طلق امرأته ثلاثا }، وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق ألبتة، وأحمد إنما عدل عن حديث ابن عباس ; لأنه كان يرى أن الثلاث جائزة، موافقة للشافعي، فأمكن أن يقال: حديث ركانة منسوخ، ثم لما رجع عن ذلك، وتبين أنه ليس في القرآن والسنة طلاق مباح إلا الرجعي عدل: عن حديث ابن عباس، لأنه أفتى بخلافه، وهذا علة عنده في إحدى الروايتين عنه ; لكن الرواية الأخرى التي عليها أصحابه أنه ليس بعلة، فيلزم أن يكون مذهبه العمل بحديث ابن عباس، وقد تبين في غير هذا الموضع أعذار الأئمة المجتهدين - رضي الله عنهم - الذين ألزموا من أوقع جملة الثلاث بها مثل عمر رضي الله عنه ; فإنه لما رأى الناس قد أكثروا مما حرمه الله عليهم من جمع الثلاث، ولا ينتهون عن ذلك إلا بعقوبة: رأى عقوبتهم بإلزامها: لئلا يفعلوها، إما من نوع التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق الرأس، وينفي، وكما { منع النبي ﷺ الثلاثة الذين تخلفوا عن الاجتماع بنسائهم }، وإما ظنا أن جعلها واحدة كان مشروطا بشرط وقد زال، كما ذهب إلى مثل ذلك في متعة الحج: إما مطلقا، وإما متعة الفسخ، والإلزام بالفرقة لمن لم يقم بالواجب: مما يسوغ فيه الاجتهاد ; لكن تارة يكون حقا للمرأة، كما في العنين، والمولى عند جمهور العلماء، والعاجز عن النفقة عند من يقول به، وتارة يقال: إنه حق لله، كما في تفريق الحكمين بين الزوجين عند الأكثرين إذا لم يجعلا وكيلين، وكما في وقوع الطلاق بالمولى عند من يقول بذلك من السلف والخلف إذا لم يف في مدة التربص، كما قال من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره: إنهما إذا تطاوعا في الإتيان في الدبر فرق بينهما، والأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما رآه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه، كما قال أحمد وغيره، كما { أمر النبي ﷺ عبد الله بن عمر أن يطيع أباه لما أمره أبوه بطلاق امرأته }، فالإلزام إما من الشارع: وإما من الإمام بالفرقة إذا لم يقم الزوج بالواجب: هو من موارد الاجتهاد، فلما كان الناس إذا لم يلزموا بالثلاث يفعلون المحرم رأى عمر إلزامهم بذلك، لأنهم لم يلزموا طاعة الله ورسوله مع بقاء النكاح ; ولكن كثير من الصحابة والتابعين نازعوا من قال ذلك: إما لأنهم لم يروا التعزير بمثل ذلك، إما لأن الشارع لم يعاقب بمثل ذلك، وهذا فيمن يستحق العقوبة، وأما من لا يستحقها بجهل أو تأويل فلا وجه لإلزامه بالثلاث، وهذا شرع شرعه النبي ﷺ كما شرع نظائره لم يخصه ; ولهذا قال من قال من السلف والخلف: إن ما شرعه النبي ﷺ في فسخ الحج إلى العمرة - التمتع كما أمر به أصحابه في حجة الوداع - هو شرع مطلق، كما أخبر به لما { سئل أعمرتنا هذه لعامنا هذا ؟ أم للأبد ؟ فقال: لا ; بل لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة }، وإن قول من قال: إنما شرع للشيوخ لمعنى يختص بهم مثل بيان جواز العمرة في أشهر الحج: قول فاسد ; لوجوه مبسوطة في غير هذا الموضع، وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }، فأمر المؤمنين عند تنازعهم برد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فما تنازع فيه السلف والخلف وجب رده إلى الكتاب والسنة، وليس في الكتاب والسنة ما يوجب الإلزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقدة ; بل إنما في الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذي أباحه الله ورسوله ; وعلى هذا يدل القياس والاعتبار بسائر أصول الشرع ; فإن كل عقد يباح تارة ويحرم تارة - كالبيع والنكاح - إذا فعل على الوجه المحرم لم يكن لازما نافذا كما يلزم الحلال الذي أباحه الله ورسوله، ولهذا اتفق المسلمون على أن ما حرمه الله من نكاح المحارم ومن النكاح في العدة ونحو ذلك يقع باطلا غير لازم، وكذلك ما حرمه الله من بيع المحرمات: كالخمر، والخنزير ; والميتة، وهذا بخلاف ما كان محرم الجنس كالظهار، والقذف، والكذب، وشهادة الزور، ونحو ذلك، فإن هذا يستحق من فعله العقوبة بما شرعه الله من الأحكام ; فإنه لا يكون تارة حلالا وتارة حراما حتى يكون تارة صحيحا وتارة فاسدا، وما كان محرما من أحد الجانبين مباحا من الجانب الآخر - كافتداء الأسير، واشتراء المجحود عتقه، ورشوة الظالم لدفع ظلمة أو لبذل الحق الواجب، وكاشتراء الإنسان المصراة وما دلس عيبه، وإعطاء المؤلفة قلوبهم ليفعل الواجب أو ليترك المحرم، وكبيع الجالب لمن تلقى منه ونحو ذلك، فإن - المظلوم يباح له فعله، وله أن يفسخ العقد، وله أن يمضيه ; بخلاف الظالم فإن ما فعله ليس بلازم، والطلاق هو مما أباحه الله تارة، وحرمه أخرى، فإذا فعل على الوجه الذي حرمه الله ورسوله لم يكن لازما نافذا كما يلزم ما أحله الله ورسوله، كما في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي ﷺ أنه قال: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وقد قال تعالى: { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }، فبين أن الطلاق الذي شرعه الله للمدخول بها - وهو الطلاق الرجعي - ( مرتان ) وبعد المرتين: إما ( إمساك بمعروف ) بأن يراجعها فتبقى زوجته، وتبقى معه على طلقة واحدة، وإما ( تسريح بإحسان ) بأن يرسلها إذا انقضت العدة، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا }، ثم قال بعد ذلك: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به }، وهذا هو الخلع سماه " افتداء " لأن المرأة تفتدي نفسها من أسر زوجها، كما يفتدي الأسير والعبد نفسه من سيده بما يبذله، قال تعالى: { فإن طلقها } يعني الطلقة الثالثة { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره }، { فإن طلقها } يعني هذا الزوج الثاني { فلا جناح عليهما } يعني عليها وعلى الزوج الأول { أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } وكذلك قال الله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا }، وفي الصحيح والسنن والمسانيد { عن عبد الله بن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر عمر للنبي ﷺ فتغيض عليه النبي ﷺ، وقال: مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء بعد أمسكها، وإن شاء طلقها قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء }، ( ) وفي رواية في الصحيح: { أنه أمره أن يطلقها طاهرا أو حاملا } وفي رواية في الصحيح " قرأ النبي ﷺ: { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }، وعن ابن عباس وغيره من الصحابة: " الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام، فأما اللذان هما حلال: فأن يطلق امرأته طاهرا في غير جماع، أو يطلقها حاملا قد استبان حملها، وأما اللذان هما حرام: فأن يطلقها حائضا، أو يطلقها بعد الجماع لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا، ورواه الدارقطني وغيره، وقد بين النبي ﷺ أنه لا يحل له أن يطلقها إلا إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها، وهذا هو الطلاق للعدة، أي: لاستقبال العدة، فإن ذلك الطهر أو العدة، فإن طلقها قبل العدة يكون قد طلقها قبل الوقت الذي أذن الله فيه، ويكون قد طول عليها التربص، وطلقها من غير حاجة به إلى طلاقها، والطلاق في الأصل مما يبغضه، وهو أبغض الحلال إلى الله، وإنما أباح منه ما يحتاج إليه الناس كما تباح المحرمات للحاجة: فلهذا حرمها بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له، لينتهي الإنسان عن إكثار الطلاق، فإذا طلقها لم تزل في العدة متربصة ثلاثة قروء، وهو مالك لها يرثها وترثه، وليس له فائدة في تعجيل الطلاق قبل وقته ; كما لا فائدة في مسابقة الإمام، ولهذا لا يعتد له بما فعله قبل الإمام ; بل تبطل صلاته إذا تعمد ذلك في أحد قولي العلماء، وهو لا يزال معه في الصلاة حتى يسلم . - مسألة: في ثيب بالغ لم يكن وليها إلا الحاكم فزوجها الحاكم لعدم الأولياء ثم خالعها الزوج وأبرأته من الصداق بغير إذن الحاكم، فهل تصح المخالعة والإبراء ؟ الجواب: إذا كانت أهلا للتبرع جاز خلعها، وإبراؤها بدون إذن الحاكم .

مسألة: في رجل طلق زوجته طلقة رجعية، فلما حضر عند الشهود قال له بعضهم: قل طلقتها على درهم، فقال ذلك، فلما فعل، قالوا له: قد ملكت نفسها فلا ترجع إليك إلا برضاها، فإذا وقع المنع، هل يسقط حقهما مع غرره بذلك أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، إذا كان قد طلقها طلقة رجعية ثم إن الشاهد قد لقنه أن يقول طلقها على درهم، فقال ذلك معتقدا أنه يقرر بذلك الطلاق الأول لا لشيء طلاقا آخر لم يقع به غير الطلاق الأول، ويكون رجعيا لا بائنا، وإذا ادعى عليه أنه قال ذلك القول الثاني إنشاء لطلاق آخر ثان، وقال إنما قلته إقرارا بالطلاق الأول، وليس ممن يعلم أن الطلاق بالعوض يبينها فالقول قوله مع يمينه، لا سيما وقرينة الحال تصدقه، فإن العادة جارية بأنه إذا طلقها ثم حضر عند الشهود فإنما حضر ليشهد عليه بما وقع من الطلاق .

- مسألة: في رجل تزوج بامرأة وليها فاسق، يأكل الحرام، ويشرب الخمر، والشهود أيضا كذلك، وقد وقع به الطلاق الثلاث فهل له بذلك الرخصة في رجعتها ؟ الجواب: إذا طلقها ثلاثا وقع به الطلاق، ومن أخذ ينظر بعد الطلاق في صفة العقد ولم ينظر في صفته قبل ذلك، فهو من المتعدين لحدود الله، فإنه يريد أن يستحل محارم الله قبل الطلاق وبعده، والطلاق في النكاح الفاسد المختلف فيه عند مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة، والنكاح بولاية الفاسق يصح عند جماهير الأئمة، والله أعلم . - مسألة: في رجل طلق زوجته الطلاق الثلاث قبل أن يدخل بها، وهي بكر، فهل له سبيل في مراجعتها ؟ الجواب: الحمد لله الطلاق ثلاث قبل الدخول وبعد الدخول سواء في ثبوت التحريم بذلك عند الأئمة الأربعة .

مكرر - مسألة: في رجل قال لامرأته: أنت علي مثل أمي، وأختي ؟ الجواب: إن كان مقصوده أنت علي مثل أمي وأختي في الكرامة فلا شيء عليه، وإن كان مقصوده يشبهها بأمه وأخته في " باب النكاح " فهذا ظهار، عليه ما عليه لعانا، فإذا أمسكها فلا يقربها حتى يكفر كفارة ظهار .

باب فتيا - مسألة: في رجل تزوج امرأة ولها عنده أربع سنين لم تحض، وذكرت أن لها أربع سنين قبل زواجها لم تحض، فحصل من زوجها الطلاق الثلاث: فكيف يكون تزويجها بالزوج الآخر ؟ وكيف تكون العدة وعمرها خمسون سنة ؟ الجواب: الحمد لله، هذه تعتد عدة الآيسات ثلاثة أشهر في أظهر قولي العلماء ; فإنها قد عرفت أن حيضها قد انقطع، وقد عرفت أنه قد انقطع انقطاعا مستمرا ; بخلاف المستريبة التي لا تدري ما رفع حيضها: هل هو ارتفاع إياس ؟ أو ارتفاع لعارض ثم يعود: كالمرض، والرضاع ؟ فهذه ثلاثة أنواع، فما ارتفع لعارض: كالمرض، والرضاع، فإنها تنتظر زوال العارض بلا ريب، ومتى ارتفع لا تدري ما رفعه ; فمذهب مالك وأحمد في المنصوص عنه، وقول للشافعي: أنها تعتد عدة الآيسات بعد أن تمكث مدة الحمل، كما قضى بذلك عمر، ومذهب أبي حنيفة والشافعي في الجديد أنها تمكث حتى تطعن في سن الإياس، فتعتد عدة الآيسات، وفي هذا ضرر عظيم عليها ; فإنها تمكث عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة لا تتزوج، ومثل هذا الحرج مرفوع عن الأمة ; وإنما { واللائي يئسن من المحيض } فإنهن يعتددن ثلاثة أشهر بنص القرآن، وإجماع الأمة، لكن العلماء مختلفون: هل للإياس سن لا يكون الدم بعده إلا دم إياس ؟ وهل ذلك السن خمسون، أو ستون ؟ أو فيه تفصيل ؟ ومتنازعون: هل يعلم الإياس بدون السن ؟ وهذه المرأة قد طعنت في سن الإياس على أحد القولين، وهو الخمسون، ولها مدة طويلة لم تحض، وقد ذكرت أنها شربت ما يقطع الدم، والدم يأتي بدواء: فهذه لا ترجو عود الدم إليها، فهي من الآيسات تعتد عدة الآيسات، والله أعلم .

مسألة: في رجل طلق امرأته وهي مرضعة لولده، فلبثت مطلقة ثمانية أشهر ثم تزوجت برجل آخر، فلبثت معه دون شهر، ثم طلقها فلبثت مطلقة ثلاثة أشهر، ولم تحض لا في الثمانية الأولى، ولا في مدة عصمتها مع الرجل الثاني، ولا في الثلاثة أشهر الأخيرة، ثم تزوج بها المطلق الأول أبو الولد، فهل يصح هذان العقدان أو أحدهما ؟ الجواب: الحمد لله، لا يصح العقد الأول ولا الثاني بل عليها أن تكمل عدة الأول ثم تقضي عدة الثاني، ثم بعد انقضاء العدتين تتزوج من شاءت منهما والله أعلم .

- مسألة: في امرأة معتدة عدة وفاة، ولم تعتد في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية، فهل يجب عليها إعادة العدة ؟ وهل تأثم بذلك ؟ الجواب: العدة انقضت بمعنى أربعة أشهر وعشر من حين الموت، ولا تقضي العدة، فإن كانت خرجت لأمر يحتاج إليه، ولم تبت إلا في منزلها فلا شيء عليها، وإن كانت قد خرجت لغير حاجة وباتت في غير منزلها لغير حاجة أو باتت في غير ضرورة، أو تركت الإحداد فلتستغفر الله وتتب إليه من ذلك، ولا إعادة عليها .

- مسألة: في رجل أقر عند عدول أنه طلق امرأته من مدة تزيد على العدة الشرعية، فهل يجوز لهم تزويجها له الآن ؟ الجواب: أما إن كان المقر فاسقا أو مجهولا لم يقبل قوله في إسقاط العدة التي فيها حق الله وليس هذا إقرارا محضا على نفسه حتى يقبل من الفاسق بل فيه حق لله إذ في العدة حق لله وحق للزوج، وأما إذا كان عدلا غير متهم، مثل أن يكون غائبا فلما حضر أخبرها أنه طلق من مدة كذا وكذا، فهل تعتد من حين بلغها الخبر إذا لم تقم بذلك بينة أو من حين الطلاق كما لو قامت به بينة ؟ فيه خلاف مشهور عن أحمد وغيره والمشهور عنه هو الثاني والله أعلم .

- مسألة: في رجل عقد العقد على أنها تكون بالغا، ولم يدخل بها ولم يصبها، ثم طلقها ثلاثا، ثم عقد عليها شخص آخر ولم يدخل بها ولم يصبها ثم طلقها ثلاثا، فهل يجوز للذي طلقها أولا أن يتزوج بها ؟ الجواب: إذا طلقها قبل الدخول فهو كما لو طلقها بعد الدخول عند الأئمة الأربعة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويدخل بها، فإذا طلقها قبل الدخول لم تحل للأول .

- مسألة: في رجل حلف على زوجته، وقال: لأهجرنك إن كنت ما تصلين فامتنعت من الصلاة ولم تصل، وهجر الرجل فراشها، فهل لها على الزوج نفقة أم لا ؟ وماذا يجب عليها إذا تركت الصلاة ؟ الجواب: الحمد لله، إذا امتنعت من الصلاة فإنها تستتاب فإن تابت وإلا قتلت، وهجر الرجل على ترك الصلاة من أعمال البر التي يحبها الله ورسوله، ولا نفقة لها إذا امتنعت من تمكينه إلا مع ترك الصلاة، والله أعلم . - مسألة: في رجل عجز عن الكسب، ولا له شيء، وله زوجة وأولاد: فهل يجوز لولده الموسر أن ينفق عليه، وعلى زوجته، وإخوته الصغار ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، نعم على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه، وعلى إخوته الصغار، وإن لم يفعل ذلك كان عاقا لأبيه، قاطعا لرحمه مستحقا لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة، والله أعلم .

- مسألة: في رجل له ولد كبير، فسافر مع كرائم أمواله في البحر المالح، وله آخر مراهق من أم أخرى مطلقة منه، ولها أب وأم ; والولد عندهم مقيم، فأراد والده أخذه وتسفيره صحبة أخيه بغير رضا الوالدة، وغير رضا الولد: فهل له ذلك ؟ الجواب: يخير الولد بين أبويه: فإن اختار المقام عند أمه وهي غير مزوجة كان عندها ولم يكن للأب تسفيره ; لكن يكون عند أبيه نهارا ليعلمه ويؤدبه وعند أمه ليلا، وإن اختار أن يكون عند الأب كان عنده، وإذا كان عند الأب ورأى من المصلحة له تسفيره ولم يكن في ذلك ضرر على الولد فله ذلك، والله أعلم .

- مسألة: في رجل له زوجة، وله مدة سبع سنين لم ينتفع بها ; لأجل مرضها: فهل تستحق عليه نفقة، أم لا ؟ فإن لم تكن تستحق وحكم عليه حاكم: فهل يجب عليه إعطاؤه أم لا ؟ الجواب: نعم تستحق النفقة في مذهب الأئمة الأربعة .

- مسألة: في رجل وطئ أجنبية حملت منه، ثم بعد ذلك تزوج بها: فهل يجب عليه فرض الولد في تربيته، أم لا ؟ الجواب: الولد ولد زنا ; لا يلحقه نسبه عند الأئمة الأربعة ; ولكن لا بد أن ينفق عليه المسلمون ; فإنه يتيم من اليتامى، ونفقة اليتامى على المسلمين مؤكدة، والله أعلم .

- مسألة: في رجل عدل له جارية اعترف بوطئها بحضرة عدول، وأنها حبلت منه، وأنه سأل بعض الناس عن أشياء تسقط الحمل، وأنه ضرب الجارية ضربا مبرحا على فؤادها فأسقطت عقيب ذلك ; وأن الجارية قالت: إنه كان يلطخ ذكره بالقطران ويطؤها حتى يسقطها، وأنه أسقاها السم وغيره من الأشياء المسقطة مكرهة، فما يجب على مالك الجارية بما ذكر ؟ وهل هذا مسقط لعدالته أم لا ؟ الجواب: الحمد لله: إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد الذي قال الله فيه: { وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت } وقد قال: { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ولو قدر أن الشخص أسقط الحمل خطأ مثل أن يضرب المرأة خطأ فتسقط: فعليه غرة عبد أو أمة ; بنص النبي ﷺ واتفاق الأئمة، وتكون قيمة الغرة بقدر عشر دية الأم عند جمهور العلماء: كمالك، والشافعي، وأحمد، كذلك عليه " كفارة القتل " عند جمهور الفقهاء، وهو المذكور في قوله تعالى: { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } إلى قوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله } وأما إذا تعمد الإسقاط فإنه يعاقب على ذلك عقوبة تردعه عن ذلك، وذلك مما يقدح في دينه وعدالته، والله أعلم .

- مسألة: في رجل وجد عند امرأته رجلا أجنبيا فقتلها، ثم تاب بعد موتها، وكان له أولاد صغار، فلما كبر أحدهما أراد أداء كفارة القتل، ولم يجد قدرة على العتق، فأراد أن يصوم شهرين متتابعين: فهل تجب الكفارة على القاتل ؟ وهل يجزي قيام الولد بها ؟ وإذا كان الولد امرأة فحاضت في زمن الشهرين: هل ينقطع التتابع ؟ وإذا غلب على ظنها أن الطهر يحصل في وقت معين: هل يجب عليها الإمساك، أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، إن كان قد وجدهما يفعلان الفاحشة وقتلها فلا شيء عليه في الباطن في أظهر قولي العلماء، وهو أظهر القولين في مذهب أحمد ; وإن كان يمكنه دفعه عن وطئها بالكلام، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { لو أن رجلا اطلع في بيتك ففقأت عينه ما كان عليك شيء } " و { نظر رجل مرة في بيته فجعل يتبع عينه بمدرى لو أصابته لقلعت عينه } " وقال: { إنما جعل الاستئذان من أجل النظر } "، وقد كان يمكن دفعه بالكلام، وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبيده سيف متلطخ بدم قد قتل امرأته، فجاء أهلها يشكون عليه، فقال الرجل: إني قد وجدت لكاعا قد تفخذها فضربت ما هنالك بالسيف فأخذ السيف فهزه، ثم أعاده إليه، فقال: إن عاد فعد، ومن العلماء من قال يسقط القود عنه إذا كان الزاني محصنا، سواء كان القاتل هو زوج المرأة أو غيره، كما يقوله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، والقول الأول إنما مأخذه أنه جنى على حرمته فهو كفقء عين الناظر، وكالذي انتزع يده من فم العاض حتى سقطت ثناياه، فأهدر النبي ﷺ دمه، وقال: { يدع يده في فيك فتقضمها كما يقضم الفحل ؟ } " وهذا الحديث الأول القول به مذهب الشافعي وأحمد، ومن العلماء من لم يأخذ به، قال: لأن دفع الصائل يكون بالأسهل، والنص يقدم على هذا القول، وهذا القول فيه نزاع بين السلف والخلف، فقد دخل اللص على عبد الله بن عمر، فأصلت له السيف، قالوا: فلولا أنا نهيناه عنه لضربه، وقد استدل أحمد بن حنبل بفعل ابن عمر هذا مع ما تقدم من الحديثين، وأخذ بذلك، وأما إن كان الرجل لم يفعل بعد فاحشة ; ولكن وصل لأجل ذلك فهذا فيه نزاع، والأحوط لهذا أن يتوب من القتل من مثل هذه الصورة

، وفي وجوب الكفارة عليه نزاع، فإذا كفر فقد فعل الأحوط ; فإن الكفارة تجب في قتل الخطأ، وأما قتل العمد فلا كفارة فيه عند الجمهور: كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وعليه الكفارة عند الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى، وإذا مات من عليه الكفارة ولم يكفر فليطعم عنه وليه ستين مسكينا فإنه بدل الصيام الذي عجزت عنه قوته، فإذا أطعم عنه في صيام رمضان فهذا أولى، والمرأة إن صامت شهرين متتابعين لم يقطع الحيض تتابعها، بل تبني بعد الطهر باتفاق الأئمة، والله أعلم، . - مسألة: فيمن اتهموه النصارى في قتل نصارى ولم يظهر عليه ; فأحضروه إلى النائب بالكرك ; وألزموه أن يعاقبه، فعوقب حتى مات ولم يقر بشيء: فما يلزم النصارى الذين التزموا بدمه ؟ الجواب: يجب عليهم ضمان الذي التزموا دمه إن مات تحت العقوبة بل يعاقبون كما عوقب أيضا ; كما روى أبو داود في السنن عن النعمان بن بشير قضى نحو ذلك، والله أعلم .

حد الزنا - - سئل: عمن زنى بأخته: ماذا يجب عليه ؟ الجواب: وأما من زنى بأخته مع علمه بتحريم ذلك وجب قتله، والحجة في ذلك ما رواه { البراء بن عازب، قال: مر بي خالي أبو بردة، ومعه راية، فقلت: أين تذهب يا خالي، قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى رجل تزوج بامرأة أبيه ; فأمرني أن أضرب عنقه، وأخمس ماله } " والله أعلم .

- مسألة: في امرأة مزوجة بزوج كامل، ولها أولاد، فتعلقت بشخص من الأطراف أقامت معه على الفجور، فلما ظهر أمرها سعت في مفارقة الزوج: فهل بقي لها حق على أولادها بعد هذا الفعل ؟ وهل عليهم إثم في قطعها ؟ وهل يجوز لمن تحقق ذلك منها قتلها سرا ؟ وإن فعل ذلك غيره يأثم ؟ الجواب: الحمد لله، الواجب على أولادها وعصبتها أن يمنعوها من المحرمات فإن لم تمتنع إلا بالحبس حبسوها ; وإن احتاجت إلى القيد قيدوها، وما ينبغي للولد أن يضرب أمه، وأما برها فليس لهم أن يمنعوها برها، ولا يجوز لهم مقاطعتها بحيث تتمكن بذلك من السوء ; بل يمنعوها بحسب قدرتهم، وإن احتاجت إلى رزق وكسوة رزقوها، وكسوها، ولا يجوز لهم إقامة الحد عليها بقتل ولا غيره، وعليهم الإثم في ذلك .

- مسألة: في بلد فيها جوار سائبات يزنون مع النصارى والمسلمين ؟ الجواب: على سيد الأمة إذا إن زنت أن يقيم عليها الحد، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها ; ثم إن زنت فليجلدها ; ثم إن زنت في الرابعة فليبعها ولو بظفير } " والظفير الحبل، فإن لم يفعل ما أمره به رسول الله ﷺ كان عاصيا لله ورسوله، وكان إصراره على المعصية قادحا في عدالته، فأما إذا كان هو يرسلها لتبغي وتنفق على نفسها من مهر البغاء، أو يأخذ هو شيئا من ذلك: فهذا ممن لعنه الله ورسوله ; وهو فاسق خبيث ; آذن في الكبيرة، وآخذ مهر البغي ; ولم ينهها عن الفاحشة، ومثل هذا لا يجوز أن يكون معدلا ; بل لا يجوز إقراره بين المسلمين ; بل يستحق العقوبة الغليظة حتى يصون إماءه، وأقل العقوبة أن يهجر فلا يسلم عليه، ولا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة خلف غيره، ولا يستشهد ولا يولى ولاية أصلا، ومن استحل ذلك فهو كافر مرتد ; يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وكان مرتدا لا ترثه ورثته المسلمون، وإن كان جاهلا بالتحريم عرف ذلك حتى تقوم عليه الحجة، فإن هذا من المحرمات المجمع عليها .

سئل: عمن حلف لولده أنه إن فعل منكرا يقيم عليه الحد، فأقر لوالده فضربه مائة جلدة، وبقي تغريب عام: فهل يجوز في تغريب العام كفارة، أم لا ؟ الجواب: أنه إذا غربه في الحبس ولو في دار الأب بر في يمينه، وإن كان مطلقا غير مقيد في موضع معين ; فإنه لا يجب القيد، ولا جعله في مكان مظلم، والله أعلم .

مسألة: في اليهود بمصر من أمصار المسلمين وقد كثرت منهم بيع الخمر لآحاد المسلمين وقد كثرت أموالهم من ذلك وقد شرط عليهم سلطان المسلمين أنهم لا يبيعونها للمسلمين ومتى فعلوا ذلك حل منهم ما يحل من أهل الحرب فماذا يستحقون من العقوبة وهل للسلطان أن يأخذ منهم الأموال التي اكتسبوها من بيع الخمر أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، يستحقون على ذلك العقوبة التي تردعهم وأمثالهم عن ذلك وينتقض بذلك عهدهم في أحد قولي العلماء في مذهب أحمد وغيره، وإذا أنقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم وحل منهم ما يحل من المحاربين الكفار وللسلطان أن يأخذ منهم هذه الأموال التي قبضوها من أموال المسلمين بغير حق ولا يردها إلى من اشترى منهم الخمر فإنهم إذا علموا أنهم ممنوعون عن شرب الخمر وشرائها وبيعها فإذا اشتروها كانوا بمنزلة من يبيع الخمر من المسلمين ومن باع خمرا لم يملك ثمنه، فإذا كان المشتري قد أخذ الخمر فشربها لم يجمع له بين العوض والمعوض بل يؤخذ هذا المال فيصرف في مصالح المسلمين كما قيل في مهر البغي وحلوان الكاهن وأمثال ذلك مما هو عوض عن عين أو منفعة محرمة إذا كان الماضي قد استوفى العوض وهذا بخلاف ما لو باع ذمي لذمي خمرا سرا فإنه لا يمنع من ذلك وإذا تقابضا جاز أن يعامله المسلم بذلك الثمن الذي قبضه من ثمن الخمر كما قال عمر رضي الله عنه، ولو هم ببيعها وأخذوا منهم أثمانها بل أبلغ من ذلك أنه يجوز للإمام أن يخرب المكان الذي يباع فيه الخمر كالحانوت والدار كما فعل ذلك عمر بن الخطاب حيث أخرب حانوت رويشد الثقفي قال: إنما أنت فويسق لست برويشد وكما أحرق علي بن أبي طالب قرية كان يباع فيها الخمر وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء .

مسألة: في رجل يسفه على والديه: فما يجب عليه ؟ الجواب: إذا شتم الرجل أباه واعتدى عليه فإنه يجب أن يعاقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، بل وأبلغ من ذلك أنه قد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيحين أنه قال: { من الكبائر أن يسب الرجل والديه قالوا: وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال: يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه } " فإذا كان النبي ﷺ قد جعل من الكبائر أن يسب الرجل أبا غيره لئلا يسب أباه فكيف إذا سب هو أباه مباشرة: فهذا يستحق العقوبة التي تمنعه عن عقوق الوالدين الذي قرن الله حقهما بحقه حيث قال: { أن اشكر لي ولوالديك } وقال تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } فكيف بسبهما ؟، .

مسألة: في رجل من أكابر مقدمي العسكر معروف بالخير والدين، وكذب عليه بعض المكاسين، حتى ضربه، وعلقه، وطاف به على حمار ; وحبسه بعد ذلك: هل يجب على ولي الأمر ضرب من ظلمه ؟ الجواب: من كذب عليه وظلمه حتى فعل به ذلك فإنه تجب عقوبته التي تزجره وأمثاله عن مثل ذلك باتفاق المسلمين ; بل جمهور السلف يثبتون القصاص في مثل ذلك ; فمن ضرب غيره وجرحه بغير حق فإنه يفعل به كما فعل ; كما قال { عمر بن الخطاب: أيها الناس، إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم كتاب الله وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيأكم، فلا يبلغني أن أحدا ضربه عامله بغير حق إلا أقدته، فراجعه عمرو بن العاص في ذلك، فقاله لهم: إن رسول الله ﷺ أقاد ممن ظلمه }، .

مسألة: فيمن شتم رجلا وسبه ؟ الجواب: إذا اعتدى عليه بالشتم والسب فله أن يعتدي عليه بمثل ما اعتدى عليه ; فيشتمه إذا لم يكن ذلك محرما لعينه: كالكذب، وأما إن كان محرما لعينه كالقذف بغير الزنا فإنه يعزر على ذلك تعزيرا بليغا يردعه وأمثاله من السفهاء، ولو عزر على النوع الأول من الشتم جاز ; وهو الذي يشرع إذا تكرر سفهه أو عدوانه على من هو أفضل منه، والله أعلم .

- مسألة: فيمن شتم رجلا فقال له: أنت ملعون، ولد زنا ؟ الجواب: يجب تعزيره على هذا الكلام، ويجب عليه حد القذف إن لم يقصد بهذه الكلمة ما يقصده كثير من الناس قصدهم بهذه الكلمة أن المشتوم فعله خبيث كفعل ولد الزنا .

مسألة: في مسلم بدت منه معصية في حال صباه توجب مهاجرته ومجانبته، فقالت طائفة منهم يستغفر الله ويصفح عنه ويتجاوز عن كل ما كان منه، وقالت طائفة أخرى لا تجوز أخوته ولا مصاحبته فأي الطائفتين أحق بالحق ؟ الجواب: لا ريب أن من تاب إلى الله توبة نصوحا تاب الله عليه كما قال تعالى: { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون } وقال تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } ( ) أي لمن تاب وإذا كان كذلك وتاب الرجل فإن عمل عملا صالحا سنة من الزمان ولم ينقض التوبة، فإنه يقبل منه ذلك ويجالس ويكلم، وأما إذا تاب ولم تمض عليه سنة فللعلماء فيه قولان مشهوران، ومنهم من يقول في الحال: يجالس وتقبل شهادته، ومنهم من يقول لا بد من مضي سنة كما فعل عمر بن الخطاب بصبغ بن عسل وهذه من مسائل الاجتهاد، فمن رأى أن تقبل توبة هذا التائب ويجالس في الحال قبل اختباره فقد أخذ بقول سائغ ومن رأى أنه يؤخر مدة حتى يعمل صالحا ويظهر صدق توبته فقد أخذ بقول سائغ وكلا القولين ليس من المنكرات .

- مسألة: هل يجوز بيع الكرم لمن يعصره خمرا إذا اضطر صاحبه إلى ذلك ؟ الجواب: لا يجوز بيع العنب لمن يعصره خمرا، بل قد لعن رسول الله ﷺ من يعصر العنب لمن يتخذه خمرا فكيف بالبائع له الذي هو أعظم معاونة ولا ضرورة إلى ذلك، فإنه إذا لم يمكن بيعه رطبا ولا تزبيبه فإنه يتخذ خلا أو دبسا ونحو ذلك .

مسألة: في الفتن التي تقع من أهل البر وأمثالها ; فيقتل بعضهم بعضا ويستبيح بعضهم حرمة بعض: فما حكم الله تعالى فيهم ؟ الجواب: الحمد لله، هذه الفتن وأمثالها من أعظم المحرمات، وأكبر المنكرات، قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }، وهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا حتى صار عنهم من الكفر ما صار، وقد قال النبي ﷺ: { لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض } " فهذا من الكفر ; وإن كان المسلم لا يكفر بالذنب، قال تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } فهذا حكم الله بين المقتتلين من المؤمنين: أخبر أنهم إخوة، وأمر أولا بالإصلاح بينهم إن اقتتلوا: { فإن بغت إحداهما على الأخرى } ولم يقبلوا الصلاح: { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل } فأمر بالإصلاح بينهم بالعدل بعد أن { تفيء إلى أمر الله } أي ترجع إلى أمر الله، فمن رجع إلى أمر الله وجب أن يعدل بينه وبين خصمه، ويقسط بينهما، فقبل أن نقاتل الطائفة الباغية وبعد اقتتالهما أمرنا بالإصلاح بينهما مطلقا ; لأنه لم تقهر إحدى الطائفتين بقتال، وإذا كان كذلك فالواجب أن يسعى بين هاتين الطائفتين بالصلح الذي أمر الله به، ورسوله، ويقال لهذه: ما تنقم من هذه ؟ ولهذه: ما تنقم من هذه ؟ فإن ثبت على إحدى الطائفتين أنها اعتدت على الأخرى: بإتلاف شيء من الأنفس، والأموال: كان عليها ضمان ما أتلفته، وإن كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء تقاصوا بينهم، كما قال الله تعالى: { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وقد ذكرت طائفة من السلف أنها نزلت في مثل ذلك في طائفتين اقتتلتا فأمرهم الله بالمقاصة، قال: { فمن عفي له من أخيه شيء } والعفو الفضل فإذا فضل لواحدة من الطائفتين شيء على الأخرى { فاتباع بالمعروف } والذي عليه الحق يؤديه بإحسان، وإن تعذر أن تضمن واحدة للأخرى، فيجوز أن يتحمل الرجل حمالة يؤديها لصلاح ذات البين، وله أن يأخذها بعد ذلك من زكاة المسلمين، ويسأل الناس في إعانته على هذه الحالة وإن كان غنيا، { قال النبي ﷺ لقبيصة بن مخارق الهلالي: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فيسأل حتى يجد سدادا من عيش، ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة ; فإنه يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ; فيقولون: قد أصاب فلانا فاقة، فيسأل حتى يجد قواما من عيش وسدادا من عيش ; ثم يمسك، ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته، ثم يمسك } "، والواجب على كل مسلم قادر أن يسعى في الإصلاح بينهم ويأمرهم بما أمر الله به مهما أمكن. ومن كان من الطائفتين يظن أنه مظلوم مبغي عليه فإذا صبر ومن أعزه الله ونصره ; كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: { ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ; ولا نقصت صدقة من مال } " وقال تعالى: { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } وقال تعالى: { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } فالباغي الظالم ينتقم الله منه في الدنيا والآخرة، فإن البغي مصرعه، قال ابن مسعود: ولو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكا، ومن حكمة الشعر: قضى الله أن البغي يصرع أهله وأن على الباغي تدور الدوائر ويشهد لهذا قوله تعالى: { إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } الآية، وفي الحديث: { ما من ذنب أحرى أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا من البغي، وما حسنة أحرى أن يعجل لصاحبها الثواب من صلة الرحم } " فمن كان من إحدى الطائفتين باغيا ظالما فليتق الله وليتب، ومتى كان مظلوما مبغيا عليه وصبر كان له البشرى من الله، قال تعالى: { وبشر الصابرين } قال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون إذا ظلموا، وقد قال تعالى للمؤمنين في حق عدوهم: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } وقال يوسف عليه السلام لما فعل به إخوته ما فعلوا فصبر واتقى حتى نصره الله ودخلوا عليه وهو في عزه: { قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فمن اتقى الله من هؤلاء وغيرهم بصدق وعدل، ولم يتعد حدود الله، وصبر على أذى الآخر وظلمه لم يضره كيد الآخر ; بل ينصره الله عليه، وهذه الفتن سببها الذنوب والخطايا فعلى كل من الطائفتين أن يستغفر الله ويتوب إليه فإن ذلك يرفع العذاب، وينزل الرحمة، قال الله تعالى: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } وفي الحديث عن النبي ﷺ: { من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب } قال الله تعالى: { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذيفضل فضله) .

- مسألة: في أقوام لم يصلوا ولم يصوموا، والذي يصوم لم يصل، ومالهم حرام، ويأخذون أموال الناس، ويكرمون الجار والضعيف، ولم يعرف لهم مذهب، وهم مسلمون ؟ الجواب: الحمد لله، هؤلاء وإن كانوا تحت حكم ولاة الأمور فإنه يجب أن يأمروهم بإقامة الصلاة، ويعاقبوا على تركها، وكذلك الصيام، وإن أقروا بوجوب الصلاة الخمس وصيام رمضان والزكاة المفروضة ; وإلا فمن لم يقر بذلك فهو كافر، وإن أقروا بوجوب الصلاة وامتنعوا عن إقامتها عوقبوا حتى يقيموها، ويجب قتل كل من لم يصل إذا كان بالغا عاقلا عند جماهير العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد، وكذلك تقام عليهم الحدود، وإن كانوا طائفة ممتنعة ذات شوكة ; فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا أداء الواجبات الظاهرة والمتواترة: كالصلاة، والصيام، والزكاة، وترك المحرمات، كالزنا، والربا، وقطع الطريق، ونحو ذلك، ومن لم يقر بوجوب الصلاة والزكاة فإنه كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن لم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافر أكفر من اليهود والنصارى، وعقوق الوالدين من الكبائر الموجبة للنار

- مسألة: في أقوام مقيمون في الثغور، يغيروا على الأرمن وغيرهم، ويكسبون المال ينفقون على الخمر والزنا: هل يكونون شهداء إذا قتلوا ؟ الجواب: الحمد لله، إن كانوا إنما يغيرون على الكفار المحاربين، فإنما الأعمال بالنيات، وقد { قالوا يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية ; ويقاتل رياء: فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } فإن كان أحدهم لا يقصد إلا أخذ المال، وإنفاقه في المعاصي: فهؤلاء فساق مستحقون للوعيد، وإن كان مقصودهم أن تكون كلمة الله هي العليا ; ويكون الدين لله: فهؤلاء مجاهدون ; لكن إذا كانت لهم كبائر كان لهم حسنات وسيئات، وأما إن كانوا يغيرون على المسلمين الذين هناك: فهؤلاء مفسدون في الأرض ; محاربون لله ورسوله ; ومستحقون للعقوبة البليغة في الدنيا والآخرة، والله أعلم .

وقد شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لا يخرجهم عن الإيمان بقوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } فسماهم " مؤمنين " وجعلهم " إخوة " مع وجود الاقتتال والبغي، والحديث المذكور { إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون } " كذب مفترى لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من دواوين الإسلام المعتمدة، " ومعاوية " لم يدع الخلافة ; ولم يبايع له بها حين قاتل عليا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليا وأصحابه بالقتال، ولا يعلوا، بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة، وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين قالوا: لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا، وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان ; وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف، وكان في جهال الفريقين من يظن بعلي وعثمان ظنونا كاذبة، برأ الله منها عليا، وعثمان، كان يظن بعلي أنه أمر بقتل عثمان، وكان علي يحلف وهو البار الصادق بلا يمين أنه لم يقتله، ولا رضي بقتله، ولم يمالئ على قتله، وهذا معلوم بلا ريب من علي رضي الله عنه، فكان أناس من محبي علي ومن مبغضيه يشيعون ذلك عنه: فمحبوه يقصدون بذلك الطعن على عثمان بأنه كان يستحق القتل، وأن عليا أمر بقتله، ومبغضوه يقصدون بذلك الطعن على علي، وأنه أعان على قتل الخليفة المظلوم الشهيد، الذي صبر نفسه ولم يدفع عنها، ولم يسفك دم مسلم في الدفع عنه، فكيف في طلب طاعته ؟، وأمثال هذه الأمور التي يتسبب بها الزائغون على المتشيعين العثمانية، والعلوية، وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفئا لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه ; فإن فضل علي وسابقيته، وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم، ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد، وسعد كان قد ترك هذا الأمر وكان الأمر قد انحصر في عثمان وعلي ; فلما توفي عثمان لم يبق لها معين إلا علي رضي الله عنه، وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان، فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والإيمان، حتى حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه من غيره أولى منه بالطاعة ; ولهذا أمر الله بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف ; ولهذا قيل: ما يكرهون في الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة، وأما الحديث الذي فيه { أن عمارا تقتله الفئة الباغية } " فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم ; لكن رواه مسلم في صحيحه وهو في بعض نسخ البخاري: قد تأوله بعضهم على أن المراد بالباغية الطالبة بدم عثمان، كما قالوا: نبغي ابن عفان بأطراف الأسل، وليس بشيء ; بل يقال ما قاله رسول الله ﷺ، فهو حق كما قاله، وليس في كون عمارا تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه، فإنه قد قال الله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة ; بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين، وليس كل ما كان بغيا وظلما أو عدوانا يخرج عموم الناس عن الإيمان، ولا يوجب لعنتهم ; فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون ؟، وكل من كان باغيا، أو ظالما، أو معتديا، أو مرتكبا ما هو ذنب فهو " قسمان " متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد: كأهل العلم والدين، الذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حل أمور، واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم

مخطئون، وقد قال الله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء، وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في الحرث، وخص أحدهما بالعلم والحكم، مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم، والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملوما ولا مانعا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثما وظلما، والإصرار عليه فسقا، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا، فالبغي هو من هذا الباب، أما إذا كان الباغي مجتهدا ومتأولا، ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه على الحق وإن كان مخطئا في اعتقاده: لم تكن تسميته " باغيا " موجبة لإثمه، فضلا عن أن توجب فسقه، والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون: مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم ; لا عقوبة لهم ; بل للمنع من العدوان، ويقولون: إنهم باقون على العدالة ; لا يفسقون، ويقولون هم كغير المكلف، كما يمنع الصبي والمجنون والناسي والمغمى عليه والنائم من العدوان أن لا يصدر منهم ; بل تمنع البهائم من العدوان .

ويجب على من قتل مؤمنا خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا من رفع إلى الإمام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحد، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والباغي المتأول يجلد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة، ثم بتقدير أن يكون " البغي " بغير تأويل: يكون ذنبا، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة: بالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة وغير ذلك، ثم " إن عمارا تقتله الفئة الباغية " ليس نصا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه ; بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته، وهي طائفة من العسكر، ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها، ومن المعلوم أنه كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار: كعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيره ; بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار، حتى معاوية، وعمرو، ويروى أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذي جاء به ; دون مقاتليه: وأن عليا رد هذا التأويل بقوله: فنحن إذا قتلنا حمزة ولا ريب أن ما قاله علي هو الصواب ; لكن من نظر في كلام المتناظرين من العلماء الذين ليس بينهم قتال ولا ملك، وأن لهم في النصوص من التأويلات ما هو أضعف من معاوية بكثير، ومن تأول هذا التأويل لم ير أنه قتل عمارا، فلم يعتقد أنه باغ، ومن لم يعتقد أنه باغ وهو في نفس الأمر باغ: فهو متأول مخطئ، والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارا ; لكن لهم قولان مشهوران كما كان عليهما أكابر الصحابة: منهم من يرى القتال مع عمار وطائفته، ومنهم من يرى الإمساك عن القتال مطلقا، وفي كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين، ففي القول الأول عمار، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب، وفي الثاني سعد بن أبي وقاص ; ومحمد بن مسلمة ; وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر ونحوهم، ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا على هذا الرأي ; ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبي وقاص، وكان من القاعدين، " وحديث عمار " قد يحتج به من رأى القتال ; لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فالله يقول: { فقاتلوا التي تبغي } والمتمسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ في { أن القعود عن الفتنة خير من القتال فيها } " وتقول: إن هذا القتال ونحوه هو قتال الفتنة ; كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك ; وأن النبي ﷺ لم يأمر بالقتال ; ولم يرض له ; وإنما رضي بالصلح ; وإنما أمر الله بقتال الباغي ; ولم يأمر بقتاله ابتداء ; بل قال: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } قالوا: والاقتتال الأول لم يأمر الله به ; ولا أمر كل من بغي عليه أن يقاتل من بغى عليه ; فإنه إذا قتل كل باغ كفر ; بل غالب المؤمنين ; بل غالب الناس: لا يخلو من ظلم وبغي ; ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب الإصلاح بينهما ; وإن لم تكن واحدة منهما مأمورة بالقتال، فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت ; لأنها لم تترك القتال ; ولم تجب إلى الصلح ; فلم يندفع شرها إلا بالقتال فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لا يندفع ظلمه عن غيره إلا بالقتال، كما قال النبي ﷺ، { من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد } "، قالوا: فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء ; بل أمرنا بالإصلاح بينهم، " وأيضا، فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين مع علي ناكلين عن القتال فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفي الطاعة له، " والمقصود " أن هذا الحديث لا يبيح لعن أحد من الصحابة، ولا يوجب فسقه، وأما " أهل البيت " فلم يسبوا قط، ولله الحمد، ولم يقتل الحجاج أحدا من بني هاشم، وإنما قتل رجالا من أشراف العرب، وكان قد تزوج بنت عبد الله بن جعفر فلم يرض بذلك بنو عبد مناف ولا بنو هاشم ولا بنو أمية حتى فرقوا بينه وبينها ; حيث لم يروه كفئا، والله أعلم .

- مسألة: طائفتان يزعمان أنهما من أمة محمد تتداعيان بدعوة الجاهلية: كأسد وهلال، وثعلبة، وحرام، وغير ذلك، وبينهم أحقاد ودماء ; فإذا تراءت الفئتان سعى المؤمنون بينهم لقصد التأليف، وإصلاح ذات البين ; فيقول أولئك الباغون: إن الله قد أوجب علينا طلب الثأر بقوله: { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } - إلى قوله - { والجروح قصاص } ثم إن المؤمنين يعرفونهم أن هذا الأمر يقضي إلى الكفر: من قتل النفوس، ونهب الأموال فيقولون: نحن لنا عليهم حقوق، فلا نفارق حتى نأخذ ثأرنا بسيوفهم، ثم يحملون عليهم، فمن انتصر منهم بغى وتعدى وقتل النفس، ويفسدون في الأرض، فهل يجب قتال الطائفة الباغية وقتلها، بعد أمرهم بالمعروف ؟ أو ماذا يجب على الإمام أن يفعل بهذه الطائفة الباغية ؟ الجواب: الحمد لله: قتال هاتين الطائفتين حرام بالكتاب والسنة والإجماع، حتى قال: { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه } " وقال ﷺ: { لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض } " وقال ﷺ: { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع } " والواجب في مثل هذا ما أمر الله به ورسوله، حيث قال: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } فيجب الإصلاح بين هاتين الطائفتين، كما أمر الله تعالى، والإصلاح له طرق، " منها " أن تجمع أموال الزكوات وغيرها حتى يدفع في مثل ذلك فإن الغرم لإصلاح ذات البين، يبيح لصاحبه أن يأخذ من الزكاة بقدر ما غرم، كما ذكره الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كما { قال النبي ﷺ لقبيصة بن مخارق: إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لرجل تحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله وسأل حتى يجد سدادا من عيش، ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، فيقولون: قد أصابت فلانا فاقة، فيسأل ; حتى يجد قواما من عيش، وسدادا من عيش، ثم يمسك، وما سوى ذلك من المسألة فإنه يأكله صاحبه سحتا } "، ومن طرق الصلح أن تعفو إحدى الطائفتين أو كلاهما عن بعض مالها عند الأخرى من الدماء والأموال { فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين } ومن طرق الصلح أن يحكم بينهما بالعدل، فينظر ما أتلفته كل طائفة من الأخرى من النفوس والأموال، فيتقاصان { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وإذا فضل لإحداهما على الأخرى شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، فإن كان يجهل عدد القتلى، أو مقدار المال: جعل المجهول كالمعدوم، وإذا ادعت إحداهما على الأخرى بزيادة: فإما أن تحلفها على نفي ذلك، وإما أن تقيم البينة، وإما تمتنع عن اليمين فيقضي برد اليمين أو النكول، فإن كانت إحدى الطائفتين تبغي بأن تمتنع عن العدل الواجب، ولا تجيب إلى أمر الله ورسوله، وتقاتل على ذلك أو تطلب قتال الأخرى وإتلاف النفوس والأموال، كما جرت عادتهم به ; فإذا لم يقدر على كفها إلا بالقتل قوتلت حتى تفيء إلى أمر الله ; وإن أمكن أن تلزم بالعدل بدون القتال مثل أن يعاقب بعضهم، أو يحبس ; أو يقتل من وجب قتله منهم، ونحو ذلك: عمل ذلك، ولا حاجة إلى القتال، وأما قول القائل: إن الله أوجب علينا طلب الثأر، فهو كذب على الله ورسوله ; فإن الله لم يوجب على من له عند أخيه المسلم المؤمن مظلمة من دم أو مال أو عرض أن يستوفي ذلك ; بل لم يذكر حقوق الآدميين في القرآن إلا ندب فيها إلى العفو، فقال تعالى: { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } وقال تعالى: { فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح }، وأما قوله تعالى: { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } فهذا مع أنه مكتوب على بني إسرائيل، وإن كان حكمنا كحكمهم مما لم ينسخ من الشرائع: فالمراد بذلك التسوية في الدماء بين المؤمنين، كما قال النبي: { المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم } "، فالنفس بالنفس وإن كان القاتل رئيسا مطاعا من قبيلة شريفة والمقتول سوقيا طارفا، وكذلك إن كان كبيرا وهذا صغيرا، أو هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا عربيا وهذا عجميا، أو هذا هاشميا وهذا قرشيا، وهذا رد لما كان عليه أهل الجاهلية من أنه إذا قتل كبير من القبيلة قتلوا به عددا من القبيلة الأخرى غير قبيلة القاتل، وإذا قتل ضعيف من قبيلة لم يقتلوا قاتله إذا كان رئيسا مطلقا فأبطل الله ذلك بقوله: { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فالمكتوب عليهم هو العدل، وهو كون النفس بالنفس ; إذ الظلم حرام وأما استيفاء الحق فهو إلى المستحق، وهذا مثل قوله: { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } أي لا يقتل غير قاتله، وأما إذا طلبت إحدى الطائفتين حكم الله ورسوله، فقالت الأخرى: نحن نأخذ حقنا بأيدينا في هذا الوقت، فهذا من أعظم الذنوب الموجبة عقوبة هذا القاتل الظالم الفاجر، وإذا امتنعوا عن حكم الله ورسوله ولهم شوكة وجب على الأمير قتالهم ; وإن لم يكن لهم شوكة: عرف من امتنع من حكم الله ورسوله، وألزم بالعدل، وأما قولهم: لنا عليهم حقوق من سنين متقادمة، فيقال لهم نحن نحكم بينكم في الحقوق القديمة والحديثة، فإن حكم الله ورسوله يأتي على هذا، وأما من قتل أحدا من بعد الاصطلاح، أو بعد المعاهدة والمعاقدة: فهذا يستحق القتل، حتى قالت طائفة من العلماء: إنه يقتل حدا، ولا يجوز العفو عنه لأولياء المقتول، وقال الأكثرون: بل قتله قصاص، والخيار فيه إلى أولياء المقتول، وإن كان الباغي طائفة فإنهم يستحقون العقوبة، وإن لم يمكن كف صنيعهم إلا بقتالهم قوتلوا، وإن أمكن بما دون ذلك عوقبوا بما يمنعهم من البغي والعدوان ونقض العهد والميثاق، قال: { ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته، فيقال: هذه غدرة فلان } وقد قال تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قالت طائفة من العلماء: المعتدي هو القاتل بعد العفو، فهذا يقتل حتما وقال آخرون: بل يعذب بما يمنعه من الاعتداء، والله أعلم .

- مسألة: في قوم ذوي شوكة مقيمين بأرض، وهم لا يصلون الصلوات المكتوبات، وليس عندهم مسجد ولا أذان ولا إقامة، وإن صلى أحدهم صلى الصلاة غير المشروعة، ولا يؤدون الزكاة مع كثرة أموالهم من المواشي والزروع، وهم يقتتلون فيقتل بعضهم بعضا، وينهبون مال بعضهم بعضا، ويقتلون الأطفال، وقد لا يمتنعون عن سفك الدماء وأخذ الأموال، لا في شهر رمضان، ولا في الأشهر الحرم، ولا غيرها، وإذا أسر بعضهم بعضا باعوا أسراهم للإفرنج، ويبيعون رقيقهم من الذكور والإناث للإفرنج علانية، ويسوقونهم كسوق الدواب ويتزوجون المرأة في عدتها، ولا يورثون النساء، ولا ينقادون لحاكم المسلمين، وإذا دعي أحدهم إلى الشرع قال جاءنا الشرع إلى غير ذلك فهل يجوز قتالهم والحالة هذه، وكيف الطريق إلى دخولهم في الإسلام مع ما ذكر، الجواب: نعم يجوز بل يجب بإجماع المسلمين قتال هؤلاء وأمثالهم من كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، مثل الطائفة الممتنعة عن الصلوات الخمس أو عن أداء الزكاة المفروضة إلى الأصناف الثمانية التي سماها الله تعالى في كتابه، وعن صيام شهر رمضان أو الذين لا يمتنعون عن سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم، أو لا يتحاكمون بينهم بالشرع الذي بعث الله به رسوله، كما قال أبو بكر الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم في مانع الزكاة، وكما قاتل علي بن أبي طالب وأصحاب النبي ﷺ الخوارج الذين قال فيهم النبي: { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة } ( ) وذلك بقوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } ( )، وبقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ( )، والربا آخر ما حرمه الله ورسوله، فكيف بما هو أعظم تحريما، ويدعون قبل القتال إلى التزام شرائع الإسلام، فإن التزموها استوثق منهم، ولم يكتف منهم بمجرد الكلام كما فعل أبو بكر بمن قاتلهم بعد أن أذلهم، وقال اختاروا إما الحرب وإما السلم المخزية، وقال أنا خليفة رسول الله ﷺ فقالوا هذه حرب الحيلة قد عرفناها فما السلم المخزية، قال تشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار وننزع منكم الكراع يعني الخيل والسلاح، حتى يرى خليفة رسول الله ﷺ والمؤمنون أمرا بعد، فهكذا الواجب في مثل هؤلاء، إذا أظهروا الطاعة يرسل إليهم من يعلمهم شرائع الإسلام ويقيم بهم الصلوات، وما ينتفعون به من شرائع الإسلام، وإما أن يستخدم بعض المطيعين منهم في جند المسلمين، ويجعلهم في جماعة المسلمين وإما بأن ينزع منهم السلاح الذي يقاتلون به ويمنعون من ركوب الخيل، وإما أنهم يضعونه حتى يستقيموا، وإما أن يقبل الممتنع منهم التزام الشريعة، وإن لم يستجيبوا لله ولرسوله وجب قتالهم حتى يلتزموا شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، وهذا متفق عليه بين علماء المسلمين، والله أعلم.

- مسألة: في جندي مع أمير، وطلع السلطان إلى الصيد، ورسم السلطان بنهب ناس من العرب وقتلهم، فطلع إلى الجبل فوجد ثلاثين نفرا فهربوا، فقال الأمير: سوقوا خلفهم، فردوا عليهم ليحاربوا، فوقع من الجندي ضربة في واحد فمات: فهل عليه شيء أم لا ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، إذا كان هذا المطلوب من الطائفة المفسدة الظلمة الذين خرجوا عن الطاعة وفارقوا الجماعة وعدوا على المسلمين في دمائهم وأموالهم بغير حق، وقد طلبوا ليقام فيهم أمر الله ورسوله: فهذا الذي عاد منهم مقاتلا يجوز قتاله، ولا شيء على من قتله على الوجه المذكور ; بل المحاربون يستوي فيهم المعاون والمباشر عند جمهور الأئمة: كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، فمن كان معاونا كان حكمه حكمهم .

- مسألة: ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم في " الحلاج الحسين بن منصور " هل كان صديقا ؟ أو زنديقا ؟ وهل كان وليا لله متقيا له ؟ أم كان له حال رحماني ؟ أو من أهل السحر والخزعبلات ؟ وهل قتل على الزندقة بمحضر من علماء المسلمين ؟ أو قتل مظلوما ؟ أفتونا مأجورين ؟ أجاب: شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية قدس الله روحه: الحمد لله رب العالمين، الحلاج قتل على الزندقة، التي ثبتت عليه بإقراره، وبغير إقراره ; والأمر الذي ثبت عليه لما يوجب القتل باتفاق المسلمين ومن قال: إنه قتل بغير حق فهو إما منافق ملحد، وإما جاهل ضال، والذي قتل به ما استفاض عنه من أنواع الكفر، وبعضه يوجب قتله ; فضلا عن جميعه، ولم يكن من أولياء الله المتقين ; بل كان له عبادات ورياضات ومجاهدات: بعضها شيطاني، وبعضها نفساني، وبعضها موافق للشريعة من وجه دون وجه، فلبس الحق بالباطل، وكان قد ذهب إلى بلاد الهند، وتعلم أنواعا من السحر، وصنف كتابا في السحر معروفا، وهو موجود إلى اليوم، وكان له أقوال شيطانية، ومخاريق بهتانية، وقد جمع العلماء أخباره في كتب كثيرة أرخوها الذين كانوا في زمنه، والذين نقلوا عنهم مثل أبي علي الحطي ذكره في تاريخ بغداد " والحافظ أبو بكر الخطيب ذكر له ترجمة كبيرة في تاريخ بغداد " وأبو يوسف القزويني صنف مجلدا في أخباره، وأبو الفرج بن الجوزي له فيه مصنف سماه " رفع اللجاج في أخبار الحلاج "، وبسط ذكره في تاريخه أبو عبد الرحمن السلمي في " طبقات الصوفية " أن كثيرا من المشايخ ذموه وأنكروا عليه، ولم يعدوه من مشايخ الطريق ; وأكثرهم حط عليه، وممن ذمه وحط عليه أبو القاسم الجنيد ; ولم يقتل في حياة الجنيد ; بل قتل بعد موت الجنيد ; فإن الجنيد توفي سنة ثمان وتسعين ومئتين، والحلاج قتل سنة بضع وثلاثمائة، وقدموا به إلى بغداد راكبا على جمل ينادى عليه: هذا داعي القرامطة، وأقام في الحبس مدة حتى وجد من كلامه الكفر والزندقة، واعترف به: مثل أنه ذكر في كتاب له: من فاته الحج فإنه يبني في داره بيتا ويطوف به، كما يطوف بالبيت، ويتصدق على ثلاثين يتيما بصدقة ذكرها، وقد أجزأه ذلك عن الحج، فقالوا له: أنت قلت هذا ؟ قال: نعم، فقالوا له: من أين لك هذا ؟ قال ذكره الحسن البصري في " كتاب الصلاة " فقال له القاضي أبو عمر: تكذب يا زنديق، أنا قرأت هذا الكتاب وليس هذا فيه، فطلب منهم الوزير أن يشهدوا بما سمعوه، ويفتوا بما يجب عليه، فاتفقوا على وجوب قتله، لكن العلماء لهم قولان في الزنديق إذا أظهر التوبة، هل تقبل توبته فلا يقتل ؟ أم يقتل ; لأنه لا يعلم صدقه ; فإنه ما زال يظهر ذلك ؟ فأفتى طائفة بأنه يستتاب فلا يقتل، وأفتى الأكثرون بأنه يقتل وإن أظهر التوبة فإن كان صادقا في توبته نفعه ذلك عند الله وقتل في الدنيا ; وكان الحد تطهيرا له، كما لو تاب الزاني والسارق ونحوهما بعد أن يرفعوا إلى الإمام فإنه لا بد من إقامة الحد عليهم: فإنهم إن كانوا صادقين كان قتلهم كفارة لهم، ومن كان كاذبا في التوبة كان قتله عقوبة له، فإن كان الحلاج وقت قتله تاب في الباطن فإن الله ينفعه بتلك التوبة، وإن كان كاذبا فإنه قتل كافرا، ولما قتل لم يظهر له وقت القتل شيء من الكرامات ; وكل من ذكر أن دمه كتب على الأرض، اسم الله، وأن رجله انقطع ماؤها، أو غير ذلك، فإنه كاذب، وهذه الأمور لا يحكيها إلا جاهل أو منافق، وإنما وضعها الزنادقة وأعداء الإسلام، حتى يقول قائلهم: إن شرع محمد بن عبد الله يقتل أولياء الله، حتى يسمعوا أمثال هذه الهذيانات ; وإلا فقد قتل أنبياء كثيرون، وقتل من أصحابهم وأصحاب نبينا ﷺ والتابعين وغيرهم من الصالحين من لا يحصي عددهم إلا الله، قتلوا بسيوف الفجار والكفار والظلمة وغيرهم، ولم يكتب دم أحدهم اسم الله، والدم أيضا نجس فلا يجوز أن يكتب به اسم الله تعالى، فهل الحلاج خير من هؤلاء، ودمه أطهر من دمائهم ؟، ، وقد جزع وقت القتل ; وأظهر التوبة والسنة فلم يقبل ذلك منه، ولو عاش افتتن به كثير من الجهال، لأنه كان صاحب خزعبلات بهتانية، وأحوال شيطانية، ولهذا إنما يعظمه من يعظم الأحوال الشيطانية، والنفسانية، والبهتانية، وأما أولياء الله العالمون بحال الحلاج فليس منهم واحد يعظمه ; ولهذا لم يذكره القشيري في مشايخ رسالته ; وإن كان قد ذكر من كلامه كلمات استحسنها، وكان الشيخ أبو يعقوب النهرجوري قد زوجه بابنته، فلما اطلع على زندقته نزعها منه، وكان عمرو بن عثمان يذكر أنه كافر، ويقول: كنت معه فسمع قارئا يقرأ القرآن، فقال: أقدر أن أصنف مثل هذا القرآن، أو نحو هذا من الكلام، كان يظهر عند كل قوم ما يستجلبهم به إلى تعظيمه ; فيظهر عند أهل السنة أنه سني، وعند أهل الشيعة أنه شيعي، ويلبس لباس الزهاد تارة، ولباس الأجناد تارة، وكان من مخاريقه أنه بعث بعض أصحابه إلى مكان في البرية يخبئ فيه شيئا من الفاكهة والحلوى، ثم يجيء بجماعة من أهل الدنيا إلى قريب من ذلك المكان، فيقول لهم: ما تشتهون أن آتيكم به من هذه البرية فيشتهي أحدهم فاكهة، أو حلاوة، فيقول: امكثوا ; ثم يذهب إلى ذلك المكان ويأتي بما خبأ أو ببعضه، فيظن الحاضرون أن هذه كرامة له، ، وكان صاحب سيما وشياطين تخدمه أحيانا، كانوا معه على جبل أبي قبيس، فطلبوا منه حلاوة، فذهب إلى مكان قريب منهم وجاء بصحن حلوى، فكشفوا الأمر فوجدوا ذلك قد سرق من دكان حلاوي باليمن، حمله شيطان من تلك البقعة، ومثل هذا يحصل كثيرا لغير الحلاج ممن له حال شيطاني، ونحن نعرف كثيرا من هؤلاء في زماننا وغير زماننا: مثل شخص هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق، فيجيء من الهوى إلى طاعة البيت الذي فيه الناس، فيدخل وهم يرونه، ويجيء بالليل إلى باب الصغير فيعبر منه هو ورفقته، وهو من أفجر الناس . وآخر كان بالشويك، في قرية يقال لها: " الشاهدة " يطير في الهوى إلى رأس الجبل والناس يرونه، وكان شيطان يحمله، كان يقطع الطريق، وأكثرهم شيوخ الشر، يقال لأحدهم " البوي " أي المخبث، ينصبون له حركات في ليلة مظلمة، ويصنعون خبزا على سبيل القربات، فلا يذكرون الله، ولا يكون عندهم من يذكر الله، ولا كتاب فيه ذكر الله ; ثم يصعد ذلك البوي في الهوى، وهم يرونه، ويسمعون خطابه للشيطان، وخطاب الشيطان له، ومن ضحك أو شرق بالخبز ضربه بالدف، ولا يرون من يضرب به، ثم إن الشيطان يخبرهم ببعض ما يسألونه عنه، ويأمرهم بأن يقربوا له بقرا وخيلا وغير ذلك وأن يخنقوها خنقا ولا يذكرون اسم الله عليها، فإذا فعلوا قضى حاجتهم، وشيخ آخر أخبر عن نفسه أنه كان يزني بالنساء، ويلوط بالصبيان الذين يقال لهم " الحوارات " وكان يقول: يأتيني كلب أسود بين عينيه نكتتان بيضاوان، فيقول لي: فلان، إن فلانا نذر لك نذرا، وغدا يأتيك به، وأنا قضيت حاجته لأجلك، فيصبح ذلك الشخص يأتيه بذلك النذر ; ويكاشفه هذا الشيخ الكافر، قال: وكنت إذا طلب مني تغيير مثل اللاذن أقول حتى أغيب عن عقلي ; وإذ باللاذن في يدي، أو في فمي وأنا لا أدري من وضعه، ، قال: وكنت أمشي وبين يدي عمود أسود عليه نور، فلما تاب هذا الشيخ، وصار يصلي، ويصوم ويجتنب المحارم، ذهب الكلب الأسود وذهب التغيير ; فلا يؤتى بلاذن ولا غيره، وشيخ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون منه إبراءه، فيرسل إلى أتباعه فيفارقون ذلك المصروع، ويعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة، وكان أحيانا تأتيه الجن بدراهم وطعام تسرقه من الناس، حتى إن بعض الناس كان له تين في كوارة، فيطلب الشيخ من شياطينه تينا، فيحضرونه له، فطلب أصحاب الكوارة التين فوجدوه قد ذهب، وآخر كان مشتغلا بالعلم والقراءة، فجاءته الشياطين أغرته، وقالوا له: نحن نسقط عنك الصلاة، ونحضر لك ما تريد، فكانوا يأتونه بالحلوى والفاكهة، حتى حضر عند بعض الشيوخ العارفين بالسنة فاستتابه وأعطى أهل الحلاوة ثمن حلاوتهم التي أكلها ذلك المفتون بالشيطان، فكل من خرج عن الكتاب والسنة، وكان له حال من مكاشفة أو تأثير، فإنه صاحب حال نفساني ; أو شيطاني، وإن لم يكن له حال بل هو يتشبه بأصحاب الأحوال فهو صاحب حال بهتاني، وعامة أصحاب الأحوال الشيطانية يجمعون بين الحال الشيطاني، والحال البهتاني، كما قال تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم } والحلاج " كان من أئمة هؤلاء أهل الحال الشيطاني، والحال البهتاني وهؤلاء طوائف كثيرة، فأئمة هؤلاء هم شيوخ المشركين الذين يعبدون الأصنام مثل الكهان، والسحرة الذين كانوا للعرب المشركين، ومثل الكهان الذين هم بأرض الهند والترك وغيرهم، ومن هؤلاء من إذا مات لهم ميت يعتقدون أنه يجيء بعد الموت ; فيكلمهم ويقضي ديونه، ويرد ودائعه ويوصيهم بوصايا، فإنهم تأتيهم تلك الصورة التي كانت في الحياة، وهو شيطان يتمثل في صورته ; فيظنونه إياه، وكثير ممن يستغيث بالمشايخ فيقول: يا سيدي فلان، أو يا شيخ فلان، اقض حاجتي، فيرى صورة ذلك الشيخ تخاطبه، ويقول: أنا أقضي حاجتك وأطيب قلبك فيقضي حاجته، أو يدفع عنه عدوه، ويكون ذلك شيطانا تمثل في صورته لما أشرك بالله فدعا غيره، وأنا أعرف من هذا وقائع متعددة ; حتى إن طائفة من أصحابي ذكروا أنهم استغاثوا بي في شدائد أصابتهم، أحدهم كان خائفا من الأرمن، والآخر كان خائفا من التتر، فذكر كل منهم أنه لما استغاث بي رآني في الهوى وقد رفعت عنه عدوه، فأخبرتهم أني لم أشعر بهذا، ولا دفعت عنكم شيئا ; وإنما هذا الشيطان تمثل لأحدهم فأغواه لما أشرك بالله تعالى، وهكذا جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ مع أصحابهم ; يستغيث أحدهم بالشيخ، فيرى الشيخ قد جاء وقضى حاجته، ويقول ذلك الشيخ: إني لم أعلم بهذا، فيعرف أن ذلك كان شيطانا، وقد قلت لبعض أصحابنا لما ذكر لي أنه استغاث بهما كان يعتقدهما، وأنهما أتياه في الهوى ; وقالا له طيب قلبك، نحن ندفع عنك هؤلاء، ونفعل، ونصنع، قلت له: فهل كان من ذلك شيء ؟ فقال: لا فكان هذا مما دله على أنهما شيطانان ; فإن الشياطين وإن كانوا يخبرون الإنسان بقضية أو قصة فيها صدق، فإنهم يكذبون أضعاف ذلك، كما كانت الجن يخبرون الكهان، ولهذا من اعتمد على مكاشفته التي هي من أخبار الجن كان كذبه أكبر من صدقه، كشيخ كان يقال له: " الشياح " توبناه، وجددنا إسلامه كان له قرين من الجن يقال له: عنتر " يخبره بأشياء، فيصدق تارة، ويكذب تارة، فلما ذكرت له أنك تعبد شيطانا من دون الله، اعترف بأنه يقول له: يا عنتر، لا سبحانك ; إنك إله قذر، وتاب من ذلك، في قصة مشهورة، وقد قتل سيف الشرع من قتل من هؤلاء مثل الشخص الذي قتلناه سنة خمس عشرة وكان له قرين يأتيه ويكاشفه فيصدق تارة، ويكذب تارة، وقد انقاد له طائفة من المنسوبين إلى أهل العلم والرئاسة، فيكاشفهم حتى كشف الله لهم، وذلك أن القرين كان تارة يقول له: أنا رسول الله، ويذكر أشياء تنافي حال الرسول، فشهد عليه أنه قال: إن الرسول يأتيني، ويقول لي كذا وكذا من الأمور التي يكفر من أضافها إلى الرسول ; فذكرت لولاة الأمور أن هذا من جنس الكهان ; وأن الذي يراه شيطانا ; ولهذا لا يأتيه في الصورة المعروفة للنبي، بل يأتيه في صورة منكرة، ويذكر عنه أنه يشكي له ; ويبيح له أن يتناول المسكر وأمورا أخرى، وكان كثير من الناس يظنون أنه كاذب فيما يخبر به من الرؤية ; ولم يكن كاذبا في أنه رأى تلك الصورة ; لكن كان كافرا في اعتقاده أن ذلك رسول الله، ومثل هذا كثير، ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مراد الشيطان ; فكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من الشيطان، فيطيرون في الهواء ; والشيطان طار بهم، ومنهم من يصرع الحاضرين، وشياطينه صرعتهم، ومنهم من يحضر طعاما وإداما وملأ الإبريق ماء من الهوى، والشياطين فعلت ذلك، فيحسب الجاهلون أن هذه كرامات أولياء الله المتقين ; وإنما هي من جنس أحوال السحرة والكهنة وأمثالهم، ومن لم يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية اشتبه عليه الحق بالباطل، ومن لم ينور الله قلبه بحقائق الإيمان واتباع القرآن لم يعرف طريق المحق من المبطل ; والتبس عليه الأمر والحال، كما التبس على الناس حال مسيلمة صاحب اليمامة وغيره من الكذابين في زعمهم أنهم أنبياء ; وإنما هم كذابون، وقد قال: { لا تقوم الساعة حتى يكون فيكم ثلاثون دجالون كذابون، كلهم يزعم أنه رسول الله }، وأعظم الدجاجلة فتنة " الدجال الكبير " الذي يقتله عيسى ابن مريم: فإنه ما خلق الله من لدن آدم إلى قيام الساعة أعظم من فتنته، وأمر المسلمين أن يستعيذوا من فتنته في صلاتهم، وقد ثبت { أنه يقول للسماء: أمطري: فتمطر ; وللأرض أنبتي، فتنبت } { وأنه يقتل رجلا مؤمنا ; ثم يقول له قم فيقوم ; فيقول أنا ربك ; فيقول له كذبت ; بل أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا عنه رسول الله، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة فيقتله مرتين، فيريد أن يقتله في الثالثة فلا يسلطه الله عليه } وهو يدعي الإلهية، وقد بين له النبي ثلاث علامات تنافي ما يدعيه: أحدها: { أنه أعور ; وإن ربكم ليس بأعور }، والثاني: { أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن من قارئ وغير قارئ }، والثالثة قوله: { واعلموا أن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت }، فهذا هو الدجال الكبير ودونه دجاجلة منهم من يدعي النبوة ; ومنهم من يكذب بغير ادعاء النبوة ; كما قال: { يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم }، فالحلاج كان من الدجاجلة بلا ريب ; ولكن إذا قيل: هل تاب قبل الموت، أم لا ؟ قال: الله أعلم ; فلا يقول ما ليس له به علم ; ولكن ظهر عنه من الأقوال والأعمال ما أوجب كفره وقتله باتفاق المسلمين، والله أعلم به .

-مسألة: عن " المعز معد بن تميم " الذي بنى القاهرة، والقصرين: هل كان شريفا فاطميا ؟ وهل كان هو وأولاده معصومين ؟ وأنهم أصحاب العلم الباطن، وإن، كانوا ليسوا أشرافا: فما الحجة على القول بذلك ؟ وإن كانوا على خلاف الشريعة: فهل هم " بغاة " أم لا ؟ وما حكم من نقل ذلك عنهم من العلماء المعتمدين الذين يحتج بقولهم ؟ ولتبسطوا القول في ذلك، الجواب: الحمد لله، أما القول بأنه هو أو أحد من أولاده أو نحوهم كانوا معصومين من الذنوب والخطأ، كما يدعيه الرافضة في " الاثني عشرة فهذا القول شر من قول الرافضة بكثير ; فإن الرافضة ادعت ذلك فيمن لا شك في إيمانه وتقواه، بل فيمن لا يشك أنه من أهل الجنة: كعلي، والحسن، والحسين رضي الله عنهم، ومع هذا فقد اتفق أهل العلم والإيمان على أن هذا القول من أفسد الأقوال ; وأنه من أقوال أهل الإفك والبهتان ; فإن العصمة في ذلك ليست لغير الأنبياء عليهم السلام، بل كان من سوى الأنبياء يؤخذ من قوله ويترك، ولا تجب طاعة من سوى الأنبياء والرسل في كل ما يقول، ولا يجب على الخلق اتباعه والإيمان به في كل ما يأمر به ويخبر به، ولا تكون مخالفته في ذلك كفرا ; بخلاف الأنبياء ; بل إذا خالفه غيره من نظرائه وجب على المجتهد النظر في قوليهما، وأيهما كان أشبه بالكتاب والسنة تابعه، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأمر عند التنازع بالرد إلى الله وإلى الرسول ; إذ المعصوم لا يقول إلا حقا، ومن علم أنه قال الحق في موارد النزاع وجب اتباعه، كما لو ذكر آية من كتاب الله تعالى، أو حديثا ثابتا عن رسول الله يقصد به قطع النزاع، أما وجوب اتباع القائل في كل ما يقوله من غير ذكر دليل يدل على صحة ما يقول فليس بصحيح ; بل هذه المرتبة هي " مرتبة الرسول، التي لا تصلح إلا له، كما قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى: { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما }، وقال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وقال تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }، وقال تعالى: { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } وقال: { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا }، وقال تعالى: { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وقال تعالى: { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس، على الله حجة بعد الرسل }، وقال تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }، وقال تعالى: { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم } وأمثال هذه في القرآن كثير، بين فيه سعادة من آمن بالرسل واتبعهم وأطاعهم، وشقاوة من لم يؤمن بهم ولم يتبعهم ; بل عصاهم، فلو كان غير الرسول معصوما فيما يأمر به وينهي عنه لكان حكمه في ذلك حكم الرسول، والنبي المبعوث إلى الخلق رسول إليهم ; بخلاف من لم يبعث إليهم، فمن كان آمرا ناهيا للخلق: من إمام، وعالم، وشيخ، وأولي أمر غير هؤلاء من أهل البيت أو غيرهم، وكان معصوما: كان بمنزلة الرسول في ذلك، وكان من أطاعه وجبت له الجنة، ومن عصاه وجبت له النار، كما يقوله القائلون بعصمة علي أو غيره من الأئمة ; بل من أطاعه يكون مؤمنا ; ومن عصاه يكون كافرا ; وكان هؤلاء كأنبياء بني إسرائيل ; فلا يصح حينئذ قول النبي: { لا نبي بعدي } وفي السنن عنه أنه قال: { العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا إنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر }، فغاية العلماء من الأئمة وغيرهم من هذه الأمة أن يكونوا ورثة أنبياء، وأيضا فقد ثبت بالنصوص الصحيحة والإجماع { أن النبي قال للصديق في تأويل رؤيا عبرها: أصبت بعضا، وأخطأت بعضا } وقال الصديق: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم وغضب مرة على رجل فقال له أبو بردة: دعني أضرب عنقه، فقال له: أكنت فاعلا ؟ قال: نعم، فقال: ما كانت لأحد بعد رسول الله، ولهذا اتفق الأئمة على أن من سب نبيا قتل، ومن سب غير النبي لا يقتل بكل سب سبه ; بل يفصل في ذلك ; فإن من قذف أم النبي ﷺ، قتل مسلما كان أو كافرا: لأنه قدح في نسبه، ولو قذف غير أم النبي ممن لم يعلم براءتها لم يقتل، وكذلك عمر بن الخطاب كان يقر على نفسه في مواضع بمثل هذه، فيرجع عن أقوال كثيرة إذا تبين له الحق في خلاف ما قال، ويسأل الصحابة عن بعض السنة حتى يستفيدها منهم، ويقول في مواضع: والله ما يدري عمر أصاب الحق أو أخطأه، ويقول: امرأة أصابت، ورجل أخطأ، ومع هذا فقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: { قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر } وفي الترمذي: { لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر } وقال: { إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه } فإذا كان المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه بهذه المنزلة يشهد على نفسه بأنه ليس بمعصوم فكيف بغيره من الصحابة وغيرهم الذين لم يبلغوا منزلته ؟، فإن أهل العلم متفقون على أن أبا بكر وعمر أعلم من سائر الصحابة، وأعظم طاعة لله ورسوله من سائرهم، وأولى بمعرفة الحق واتباعه منهم، وقد ثبت بالنقل المتواتر الصحيح عن النبي أنه قال: { خير هذه

الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر } روي ذلك عنه من نحو ثمانين وجها، وقال علي رضي الله عنه: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري، والأقوال المأثورة عن عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة [ كثيرة ]، بل أبو بكر الصديق لا يحفظ له فتيا أفتى فيها بخلاف نص النبي، وقد وجد لعلي وغيره من الصحابة من ذلك أكثر مما وجد لعمر وكان الشافعي رضي الله عنه يناظر بعض فقهاء الكوفة في مسائل الفقه، فيحتجون عليه بقول علي، فصنف كتاب اختلاف علي وعبد الله بن مسعود " وبين فيه مسائل كثيرة تركت من قولهما ; لمجيء السنة بخلافها، وصنف بعده محمد بن نصر الثوري كتابا أكبر من ذلك، كما ترك من قول علي رضي الله عنه أن المعتدة المتوفى عنها إذا كانت حاملا فإنها تعتد أبعد الأجلين، ويروى ذلك عن ابن عباس أيضا، واتفقت أئمة الفتيا على قول عثمان وابن مسعود وغيرهما في ذلك، وهو أنها إذا وضعت حملها حلت، لما ثبت { عن النبي: أن سبيعة الأسلمية كانت قد وضعت بعد زوجها بليال، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، فقال: ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا، فسألت النبي عن ذلك ؟ فقال: كذب أبو السنابل، حللت فانكحي } فكذب النبي من قال بهذه الفتيا، " وكذلك المفوضة التي تزوجها زوجها ومات عنها ولم يفرض لها مهر قال فيها علي وابن عباس إنها لا مهر لها، وأفتى فيها ابن مسعود وغيره أن لها مهر المثل، فقام رجل من أشجع فقال: نشهد " أن رسول الله قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به في هذه "، ومثل هذا كثير، وقد كان علي وابناه وغيرهم يخالف بعضهم بعضا في العلم والفتيا، كما يخالف سائر أهل العلم بعضهم بعضا، ولو كانوا معصومين لكانت مخالفة المعصوم للمعصوم ممتنعة، وقد كان الحسن، في أمر القتال يخالف أباه ويكره كثيرا مما يفعله، ويرجع علي رضي الله عنه في آخر الأمر إلى رأيه، وكان يقول: لئن عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها وأستمر وأجبر الرأي النسيب المنتشر وتبين له في آخر عمره أن لو فعل غير الذي كان فعله لكان هو الأصوب وله فتاوى رجع ببعضها عن بعض، كقوله في أمهات الأولاد، فإن له فيها قولين: أحدهما: المنع من بيعهن، والثاني: إباحة ذلك والمعصوم لا يكون له قولان متناقضان ; إلا أن يكون أحدهما ناسخا للآخر، كما في { قول النبي السنة استقرت } فلا يرد عليها بعده نسخ إذ لا نبي بعده، وقد وصى الحسن أخاه الحسين بأن لا يطيع أهل العراق، ولا يطلب هذا الأمر، وأشار عليه بذلك ابن عمر وابن عباس وغيرهما ممن يتولاه ويحبه ورأوا أن مصلحته ومصلحة المسلمين أن لا يذهب إليهم، لا يجيبهم إلى ما قالوه من المجيء إليهم والقتال معهم ; وإن كان هذا هو المصلحة له وللمسلمين، ولكنه رضي الله عنه قال ما رآه مصلحة، والرأي يصيب ويخطئ، والمعصوم ليس لأحد أن يخالفه ; وليس له أن يخالف معصوما آخر ; إلا أن يكونا على شريعتين، كالرسولين، ومعلوم أن شريعتهما واحدة، وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع، والمقصود أن من ادعى عصمة هؤلاء السادة، المشهور لهم بالإيمان والتقوى والجنة ; هو في غاية الضلال والجهالة، ولم يقل هذا القول من له في الأمة لسان صدق ; بل ولا من له عقل محمود، فكيف تكون العصمة في ذرية " عبد الله بن ميمون القداح " مع شهرة النفاق والكذب والضلال ؟، وهب أن الأمر ليس كذلك: فلا ريب أن سيرتهم من سيرة الملوك، وأكثرها ظلما وانتهاكا للمحرمات، وأبعدها عن إقامة الأمور والواجبات، وأعظم إظهارا للبدع المخالفة للكتاب والسنة، وإعانة لأهل النفاق والبدعة، وقد اتفق أهل العلم على أن دولة بني أمية وبني العباس أقرب إلى الله ورسوله من دولتهم، وأعظم علما وإيمانا من دولتهم، وأقل بدعا وفجورا من بدعتهم، وأن خليفة الدولتين أطوع لله ورسوله من خلفاء دولتهم ; ولم يكن في خلفاء الدولتين من يجوز أن يقال فيه أنه معصوم، فكيف يدعي العصمة من ظهرت عنه الفواحش والمنكرات، والظلم والبغي، والعدوان والعداوة لأهل البر والتقوى من الأمة، والاطمئنان لأهل الكفر والنفاق ؟، فهم من أفسق الناس، ومن أكفر الناس، وما يدعي العصمة في النفاق والفسوق إلا جاهل مبسوط الجهل، أو زنديق يقول بلا علم، ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من شهد لهم بالإيمان والتقوى، أو بصحة النسب فقد شهد لهم بما لا يعلم، وقد قال الله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقال تعالى: { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وقال عن إخوة يوسف: { وما شهدنا إلا بما علمنا } وليس أحد من الناس يعلم صحة نسبهم ولا ثبوت إيمانهم وتقواهم ; فإن غاية ما يزعمه أنهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه ; وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمنا في الباطن ; أن قد عرف في المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق، قال الله تعالى: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين }، وقال تعالى: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }، وقال تعالى: { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماء الأمة، وأئمتها وجماهيرها أنهم كانوا منافقين زنادقة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فإذا قدر أن بعض الناس خالفهم في ذلك صار في إيمانهم نزاع مشهور، فالشاهد لهم بالإيمان شاهد لهم بما لا يعلمه ; إذ ليس معه شيء يدل على إيمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم، وكذلك " النسب " قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من: الحنيفية، والمالكية والشافعية، والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب، والعامة، وغيرهم، وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم، حتى بعض من قد يتوقف في أمرهم كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه، فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم، وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه، فإنهم ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي، وأبو شامة وغيرهم من أهل العلم بذلك، حتى صنف العلماء في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، كما صنف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى ; بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون إلهية علي أو نبوته، فهم أكفر من هؤلاء ; وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه " المعتمد " فصلا طويلا في شرح زندقتهم وكفرهم، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه الذي سماه فضائل المستظهرية وفضائح الباطنية، قال: ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض، وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضلون على علي غيره ; بل يفسقون من قاتله ولم يتب من قتاله: يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة، فهذه مقالة المعتزلة في حقهم، فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة ؟، ، والرافضة الإمامية - مع أنهم من أجهل الخلق، وأنهم ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح، ولا دنيا منصورة نعم - يعلمون أن مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين ; ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شر من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلهية علي رضي الله عنه، وأما القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطوائف، وقد تولى الخلافة غيرهم طوائف، وكان في بعضهم من البدعة والعلم ما فيه ; فلم يقدح الناس في نسب أحد من أولئك، كما قدحوا في نسب هؤلاء ولا نسبوهم إلى الزندقة والنفاق كما نسبوا هؤلاء، وقد قام من ولد علي طوائف ; من ولد الحسن، وولد الحسين، كمحمد بن عبد الله بن حسن، وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأمثالهما، ولم يطعن أحد لا من أعدائهم ولا من غير أعدائهم لا في نسبهم ولا في إسلامهم، وكذلك الداعي القائم بطبرستان وغيره من العلويين، وكذلك بنو حمود الذين تغلبوا بالأندلس مدة وأمثال هؤلاء لم يقدح أحد في نسبهم، ولا في إسلامهم، وقد قتل جماعة من الطالبين من على الخلافة، لا سيما في الدولة العباسية، وحبس طائفة موسى بن جعفر وغيره، ولم يقدح أعداؤهم في نسبهم، ولا دينهم، وسبب ذلك أن الأنساب المشهورة أمرها ظاهر متدارك مثل الشمس لا يقدر العدو أن يطفئه

وكذلك إسلام الرجل وصحة إيمانه بالله والرسول أمر لا يخفى، وصاحب النسب والدين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك، فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ولا يجوز أن تتفق على ذلك أقوال العلماء، وهؤلاء " بنو عبيد القداح " ما زالت علماء الأمة المأمونون علما ودينا يقدحون في نسبهم ودينهم ; لا يذمونهم بالرفض والتشيع ; فإن لهم في هذا شركاء كثيرين ; بل يجعلونهم " من القرامطة الباطنية " الذين منهم الإسماعيلية والنصيرية، ومن جنسهم الخرمية المحمرة وأمثالهم من الكفار المنافقين، الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ; ولا ريب أن اتباع هؤلاء باطل ; وقد وصف العلماء أئمة هذا القول بأنهم الذين ابتدعوه ووضعوه ; وذكروا ما بنوا عليه مذاهبهم ; وأنهم أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة ; فوضعوا لهم " السابق " " والتالي " " والأساس " " والحجج " " والدعاوى " وأمثال ذلك من المراتب، وترتيب الدعوة سبع درجات ; آخرها " البلاغ

الأكبر ; والناموس الأعظم " مما ليس هذا موضع تفصيل ذلك، وإذا كان كذلك فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان فأقل ما في شهادته أنه شاهد بلا علم، قاف ما ليس له به علم ; وذلك حرام باتفاق الأمة ; بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق، ومعاداة ما جاء به الرسول: دليل على بطلان نسبهم الفاطمي ; فإن من يكون من أقارب النبي القائمين بالخلافة في أمته لا تكون معاداته لدينه كمعاداة هؤلاء ; فلم يعرف في بني هاشم، ولا ولد أبي طالب، ولا بني أمية: من كان خليفة وهو معاد لدين الإسلام ; فضلا عن أن يكون معاديا كمعاداة هؤلاء ; بل أولاد الملوك الذين لا دين لهم فيكون فيهم نوع حمية لدين آبائهم وأسلافهم، فمن كان من ولد سيد ولد آدم الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق كيف يعادي دينه هذه المعاداة ; ولهذا نجد جميع المأمونين على دين الإسلام باطنا وظاهرا معادين لهؤلاء، إلا من هو زنديق عدو لله ورسوله، أو جاهل لا يعرف ما بعث به رسوله، وهذا مما يدل على كفرهم، وكذبهم في نسبهم .

 =====
10-


سئل: عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة ؟ الجواب: الحمد لله، كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد ﷺ فهو خير من كل من كفر به ; وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة، سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم ; فإن اليهود والنصارى كفار، كفرا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول ﷺ لا مخالف له لم يكن كافرا به، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول ﷺ .

فصل وأما سؤال القائل " إنهم أصحاب العلم الباطن " فدعواهم التي ادعوها من العلم الباطن هو أعظم حجة ودليل على أنهم زنادقة منافقون ; لا يؤمنون بالله، ولا برسوله، ولا باليوم الآخر، فإن هذا العلم الباطن الذي ادعوه هو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى ; بل أكثر المشركين على أنه كفر أيضا ; فإن مضمونه أن للكتب الإلهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين في الأوامر، والنواهي، والأخبار، أما " الأوامر " فإن الناس يعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن محمدا أمرهم بالصلوات المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، وأما " النواهي " فإن الله تعالى حرم عليهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والأثم، والبغي بغير الحق، وأن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون، كما حرم الخمر، ونكاح ذوات المحارم، والربا والميسر، وغير ذلك، فزعم هؤلاء أنه ليس المراد بهذا ما يعرفه المسلمون، ولكن لهذا باطن يعلمه هؤلاء الأئمة الإسماعيلية، الذين انتسبوا إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، الذين يقولون: إنهم معصومون، وأنهم أصحاب العلم الباطن، كقولهم :" الصلاة " معرفة أسرارنا ; لا هذه الصلوات ذات الركوع والسجود والقراءة، " والصيام " كتمان أسرارنا ليس هو الإمساك عن الأكل والشرب والنكاح، " والحج " زيارة شيوخنا المقدسين، وأمثال ذلك، وهؤلاء المدعون للباطن لا يوجبون هذه العبادات ولا يحرمون هذه المحرمات ; بل يستحلون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونكاح الأمهات والبنات، وغير ذلك من المنكرات، ومعلوم أن هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، فمن يكون هكذا كيف يكون معصوما ؟، ، وأما " الأخبار " فإنهم لا يقرون بقيام الناس من قبورهم لرب العالمين ; ولا بما وعد الله به عباده من الثواب والعقاب ; بل ولا بما أخبرت به الرسل من الملائكة ; بل ولا بما ذكرته من أسماء الله وصفاته، بل أخبارهم التي يتبعونها اتباع المتفلسفة المشائين التابعين لأرسطو، ويريدون أن يجمعوا بين ما أخبر به الرسل وما يقوله هؤلاء، كما فعل أصحاب " رسائل إخوان الصفا " وهم على طريقة هؤلاء العبيديين، ذرية " عبد الله بن ميمون القداح "، فهل ينكر أحد ممن يعرف دين المسلمين، أو اليهود، أو النصارى: أن ما يقوله أصحاب " رسائل إخوان الصفا " مخالف للملل الثلاث وإن كان في ذلك من العلوم الرياضية، والطبيعية، وبعض المنطقية، والإلهية، وعلوم الأخلاق، والسياسة، والمنزل: ما لا ينكر ; فإن في ذلك من مخالفة الرسل فيما أخبرت به وأمرت به، والتكذيب بكثير مما جاءت به، وتبديل شرائع الرسل كلهم بما لا يخفى على عارف بملة من الملل، فهؤلاء خارجون عن الملل الثلاث، ومن أكاذيبهم وزعمهم: أن هذه " الرسائل " من كلام جعفر بن محمد الصادق، والعلماء يعلمون أنها إنما وضعت بعد المائة الثالثة زمان بناء القاهرة، وقد ذكر واضعها فيها ما حدث في الإسلام من استيلاء النصارى على سواحل الشام، ونحو ذلك من الحوادث التي حدثت بعد المائة الثالثة، وجعفر بن محمد - رضي الله عنه - توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، قبل بناء القاهرة بأكثر من مائتي سنة ; إذ القاهرة بنيت حول الستين وثلاثمائة، كما في تاريخ الجامع الأزهر "، ويقال: إن ابتداء بنائها سنة ثمان وخمسين، وأنه في سنة اثنين وستين قدم " معد بن تميم " من المغرب واستوطنها، ومما يبين هذا أن المتفلسفة الذين يعلم خروجهم من دين الإسلام كانوا من أتباع مبشر بن فاتك أحد أمرائهم، وأبي علي بن الهيثم اللذين كانا في دولة الحاكم نازلين قريبا من الجامع الأزهر، وابن سينا وابنه وأخوه كانوا من أتباعهما: قال ابن سينا: وقرأت من الفلسفة، وكنت أسمع أبي وأخي يذكران " العقل " " والنفس "، وكان وجوده على عهد الحاكم، وقد علم الناس من سيرة الحاكم ما علموه، وما فعله هشتكين الدرزي بأمره من دعوة الناس إلى عبادته، ومقاتلته أهل مصر على ذلك، ثم ذهابه إلى الشام حتى أضل وادي التيم بن ثعلبة، والزندقة والنفاق فيهم إلى اليوم، وعندهم كتب الحاكم، وقد أخذتها منهم، وقرأت ما فيها من عبادتهم الحاكم ; وإسقاطه عنهم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وتسمية المسلمين الموجبين لهذه الواجبات المحرمين لما حرم الله ورسوله بالحشوية، إلى أمثال ذلك من أنواع النفاق التي لا تكاد تحصى، وبالجملة " فعلم الباطن " الذي يدعون مضمونه الكفر بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ; بل هو جامع لكل كفر، لكنهم فيه على درجات فليسوا مستوين في الكفر ; إذ هو عندهم سبع طبقات، كل طبقة يخاطبون بها طائفة من الناس بحسب بعدهم من الدين وقربهم منه، ولهم ألقاب وترتيبات ركبوها من مذهب المجوس، والفلاسفة، والرافضة مثل قولهم: " السابق " " والتالي " جعلوهما بإزاء، العقل " " والنفس " كالذي يذكره الفلاسفة، وبإزاء النور والظلمة كالذي يذكره المجوس، وهم ينتمون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، ويدعون أنه هو السابع ويتكلمون في الباطن، والأساس، والحجة، والباب، وغير ذلك مما يطول وصفهم، ومن وصاياهم في " الناموس الأكبر، والبلاغ الأعظم " أنهم يدخلون على المسلمين من " باب التشيع " وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف، وأضعفها عقلا وعلما، وأبعدها عن دين الإسلام علما وعملا، ولهذا دخلت الزنادقة على الإسلام من باب المتشيعة قديما وحديثا، كما دخل الكفار المحاربون مدائن الإسلام بغداد بمعاونة الشيعة، كما جرى لهم في دولة الترك الكفار ببغداد وحلب وغيرهما ; بل كما جرى بتغير المسلمين مع النصارى وغيرهم، فهم يظهرون التشيع لمن يدعونه، وإذا استجاب لهم نقلوه إلى الرفض والقدح في الصحابة، فإن رأوه قابلا نقلوه إلى الطعن في علي وغيره ثم نقلوه إلى القدح في نبينا وسائر الأنبياء، وقالوا: إن الأنبياء لهم بواطن وأسرار تخالف ما عليه أمتهم، وكانوا قوما أذكياء فضلاء قالوا بأغراضهم الدنيوية بما وضعوه من النواميس الشرعية، ثم قدحوا في المسيح ونسبوه إلى يوسف النجار، وجعلوه ضعيف الرأي حيث تمكن عدوه منه حتى صلبه فيوافقون اليهود في القدح من المسيح ; لكن هم شر من اليهود، فإنهم يقدحون في الأنبياء، وأما موسى ومحمد فيعظمون أمرهما، لتمكنهما وقهر عدوهما ; ويدعون أنهما أظهرا ما أظهرا من الكتاب لذب العامة، وأن لذلك أسرارا باطنة من عرفها صار من الكمل البالغين، ويقولون: إن الله أحل كل ما نشتهيه من الفواحش والمنكرات، وأخذ أموال الناس بكل طريق ; ولم يجب علينا شيء مما يجب على العامة: من صلاة، وزكاة وصيام وغير ذلك ; إذ البالغ عندهم قد عرف أنه لا جنة ولا نار ; ولا ثواب ولا عقاب، وفي " إثبات واجب الوجود " المبدع للعالم على قولين لأئمتهم تنكره وتزعم أن المشائين من الفلاسفة في نزاع إلا في واجب الوجود ; ويستهينون بذكر الله واسمه حتى يكتب أحدهم اسم الله واسم رسوله في أسفله ; وأمثال ذلك من كفرهم كثير، وذوو الدعوة التي كانت مشهورة ; والإسماعيلية الذين كانوا على هذا المذهب بقلاع الألموت وغيرها في بلاد خراسان ; وبأرض اليمن وجبال الشام ; وغير ذلك: كانوا على مذهب العبيديين المسئول عنهم ; وابن الصباح الذي كان رأس الإسماعيلية ; وكان الغزالي يناظر أصحابه لما كان قدم إلى مصر في دولة المستنصر، وكان أطولهم مدة ; وتلقى عنه أسرارهم، وفي دولة المستنصر كانت فتنة البساسري في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد البساسري خارجا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي، واتفق مع المستنصر العبيدي وذهب يحشر إلى العراق، وأظهروا في بلاد الشام والعراق شعار الرافضة كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر، وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف، وأذنوا على المنابر: " حي على خير العمل " حتى جاء الترك السلاجقة " الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلى مصر، وكان من أواخرهم " الشهيد نور الدين محمود " الذي فتح أكثر الشام، واستنقذه من أيدي النصارى ; ثم بعث عسكره إلى مصر لما استنجدوه على الإفرنج، وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذي فتح مصر ; فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية، وأظهر فيها شرائع الإسلام، حتى سكنها من حينئذ من أظهر بها دين الإسلام، وكان في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروي حديثا عن رسول الله فيقتل، كما حكى ذلك إبراهيم بن سعد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد، وامتنع من رواية الحديث خوفا أن يقتلوه، وكانوا ينادون بين القصرين: من لعن وسب، فله دينار وإردب، وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة ; بل يقطعهم فيها بالكفر الصريح، وكان لهم مدرسة بقرب " المشهد " الذي بنوه ونسبوه إلى الحسين وليس، فيه الحسين، ولا شيء منه: باتفاق العلماء، وكانوا لا يدرسون في مدرستهم علوم المسلمين ; بل المنطق، والطبيعة، والإلهي، ونحو ذلك من مقالات الفلاسفة، وبنوا أرصادا على الجبال وغير الجبال، يرصدون فيها الكواكب، يعبدونها، ويسبحونها، ويستنزلون روحانياتها التي هي شياطين تتنزل على المشركين الكفار، كشياطين الأصنام، ونحو ذلك، " والمعز بن تميم بن معد " أول من دخل القاهرة منهم في ذلك، فصنف كلاما معروفا عند أتباعه ; وليس هذا " المعز بن باديس " فإن ذاك كان مسلما من أهل السنة، وكان رجلا من ملوك المغرب ; وهذا بعد ذاك بمدة، ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان، حتى قالت فيها العلماء: إنها كانت دار ردة ونفاق، كدار مسيلمة الكذاب، والقرامطة " الخارجين بأرض العراق الذين كانوا سلفا لهؤلاء القرامطة ذهبوا من العراق إلى المغرب، ثم جاءوا من المغرب إلى مصر ; فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة، وهم أعظم كفرا وردة من كفر أتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين ; فإن أولئك لم يقولوا في الإلهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء، ولهذا يميز بين قبورهم وقبور المسلمين، كما يميز بين قبور المسلمين والكفار فإن قبورهم موجهة إلى غير القبلة، وإذا أصاب الخيل أرصده أتوا بها إلى قبورهم، كما يأتون بها إلى قبور الكفار، وهذه عادة معروفة للخيل إذا أصاب الخيل مغل ذهبوا بها إلى قبور النصارى بدمشق، وإن كانوا بمساكن الإسماعيلية والنصيرية ونحوهما، ذهبوا بها إلى قبورهم، وإن كانوا بمصر ذهبوا بها إلى قبور اليهود والنصارى، أو لهؤلاء العبيديين الذين قد يتسمون بالأشراف، وليسوا من الأشراف، ولا يذهبون بالخيل إلى قبور الأنبياء والصالحين ; ولا إلى قبور عموم المسلمين وهذا أمر مجرد معلوم عند الجند وعلمائهم، وقد ذكر سبب ذلك: أن الكفار يعاقبون في قبورهم، فتسمع أصواتهم البهائم، كما أخبر النبي بذلك أن الكفار يعذبون في قبورهم، ففي الصحيحين عن النبي: { أنه كان راكبا على بغلته، فمر بقبور فحادت به كادت تلقيه، فقال: هذه أصوات يهود تعذب في قبورها، فإن البهائم إذا سمعت ذلك الصوت المنكر أوجب لها من الحرارة ما يذهب المغل }، وكان الجهال يظنون أن تمشية الخيل عند قبور هؤلاء لدينهم وفضلهم، فلما تبين لهم أنهم يمشونها عند قبور اليهود والنصارى والنصيرية ونحوهم دون قبور الأنبياء والصالحين، وذكر العلماء أنهم لا يمشونها عند قبر من يعرف بالدين بمصر والشام وغيرها ; إنما يمشونها عند قبور الفجار والكفار: تبين بذلك ما كان مشتبها، ومن علم حوادث الإسلام، وما جرى فيه بين أوليائه وأعدائه الكفار والمنافقين: علم أن عداوة هؤلاء المعتدين للإسلام الذين بعث الله به رسوله أعظم من عداوة التتار، وأن علم الباطن الذي كانوا يدعون حقيقته هو إبطال الرسالة التي بعث الله بها محمدا ; بل إبطال جميع المرسلين ; وأنهم لا يقروه بما جاء به الرسول عن الله، ولا من خبره، ولا من أمره ; وأن لهم قصدا مؤكدا في إبطال دعوته وإفساد ملته، وقتل خاصته واتباع عثرته، وأنهم في معاداة الإسلام ; بل وسائر الملل: أعظم من اليهود والنصارى ; فإن اليهود والنصارى يقرون بأصل الجمل التي جاءت بها الرسل: كإثبات الصانع، والرسل ; والشرائع، واليوم الآخر، ولكن يكذبون بعض الكتب والرسل، كما قال الله سبحانه: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا }، وأما هؤلاء القرامطة فإنهم في الباطن كافرون بجميع الكتب والرسل، يخفون ذلك ويكتمونه عن غير من يثقون به ; لا يظهرونه، كما يظهر أهل الكتاب دينهم، لأنهم لو أظهروه لنفر عنهم جماهير أهل الأرض من المسلمين وغيرهم، وهم يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور ; بل الرافضة الذين ليسوا زنادقة كفارا يفرقون بين مقالتها ومقالة الجمهور، ويرون كتمان مذهبهم، واستعمال التقية، وقد لا يكون من الرافضة من له نسب صحيح مسلما في الباطن ولا يكون زنديقا ; لكن يكون جاهلا مبتدعا، وإذا كان هؤلاء مع صحة نسبهم وإسلامهم يكتمون ما هم عليه من البدعة والهوى لكن جمهور الناس يخالفونهم: فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم أهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصارى، وإنما يقرب منهم " الفلاسفة المشاءون أصحاب أرسطو " فإن بينهم وبين القرامطة مقاربة كبيرة، ولهذا يوجد فضلاء القرامطة في الباطن متفلسفة: كسنان الذي كان بالشام، والطوسي الذي كان وزيرا لهم بالألموت، ثم صار منجما لهؤلاء وملك الكفار، وصنف " شرح الإشارات لابن سينا " وهو الذي أشار على ملك الكفار بقتل الخليفة وصار عند الكفار الترك هو المقدم على الذين يسمونهم " الداسميدية " فهؤلاء وأمثالهم يعلمون أن ما يظهره القرامطة من الدين والكرامات ونحو ذلك أنه باطل ; لكن يكون أحدهم متفلسفا، ويدخل معهم لموافقتهم له على ما هو فيه من الإقرار بالرسل والشرائع في الظاهر، وتأويل ذلك بأمور يعلم بالاضطرار أنها مخالفة لما جاءت به الرسل، فإن " المتفلسفة " متأولون ما أخبرت به الرسل من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر بالنفي والتعطيل الذي يوافق مذهبهم، وأما الشرائع العملية فلا ينفونها كما ينفيها القرامطة ; بل يوجبونها على العامة ; ويوجبون بعضها على الخاصة، أو لا يوجبون ذلك، ويقولون: إن الرسل فيما أخبروا به وأمروا به لم يأتوا بحقائق الأمور ; ولكن أتوا بأمر فيه صلاح العامة، وإن كان هو كذبا في الحقيقة، ولهذا اختار كل مبطل أن يأتي بمخاريق لقصد صلاح العامة، كما فعل ابن التومرت الملقب بالمهدي، ومذهبه في الصفات مذهب الفلاسفة لأنه كان مثلها في الجملة، ولم يكن منافقا مكذبا للرسل معطلا للشرائع، ولا يجعل للشريعة العملية باطنا يخالف ظاهرها ; بل كان فيه نوع من رأي الجهمية الموافق لرأي الفلاسفة، ونوع من رأي الخوارج الذين يرون السيف ويكفرون بالذنب، فهؤلاء " القرامطة " هم في الباطن والحقيقة أكفر من اليهود والنصارى وأما في الظاهر فيدعون الإسلام بل وإيصال النسب إلى العترة النبوية، وعلم الباطن الذي لا يوجد عند الأنبياء والأولياء، وأن إمامهم معصوم، فهم في الظاهر من أعظم الناس دعوى بحقائق الإيمان وفي الباطن من أكفر الناس بالرحمن بمنزلة من ادعى النبوة من الكذابين قال تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } وهؤلاء قد يدعون هذا وهذا فإن الذي يضاهي الرسول الصادق لا يخلو إما أن يدعي مثل دعوته فيقول: إن الله أرسلني وأنزل علي، وكذب على الله أو يدعي أنه يوحى إليه ولا يسمي موحيه كما يقول قيل لي ونوديت وخوطبت ونحو ذلك ويكون كاذبا، فيكون هذا قد حذف الفاعل أو لا يدعي واحدا من الأمرين لكنه يدعي أنه يمكنه أن يأتي بما أتى به الرسول ووجه القسمة أن ما يدعيه في مضاهاة الرسول إما أن يضيفه إلى الله أو إلى نفسه أو لا يضيفه إلى أحد فهؤلاء في دعواهم مثل الرسول هم أكفر من اليهود والنصارى فكيف بالقرامطة الذين يكذبون على الله أعظم مما فعل مسيلمة وألحدوا في أسماء الله وآياته أعظم مما فعل مسيلمة وحاربوا الله ورسوله أعظم مما فعل مسيلمة، وبسط حالهم يطول لكن هذه الأوراق لا تسع أكثر من هذا، وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم، ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالما بحقيقة باطنهم ولا موافقا لهم على ذلك، فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين الموالي لهم الناصر لهم ; بمنزلة أتباع الاتحادية الذين يوالونهم ويعظمونهم وينصرونهم، ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود ; وأن الخالق هو المخلوق، فمن كان مسلما في الباطن وهو جاهل معظم لقول ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم، وكذا من كان معظما للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد فإن نسبة هؤلاء إلى الجهمية كنسبة أولئك إلى الرافضة والجهمية، ولكن القرامطة أكفر من الاتحادية بكثير ; ولهذا كان أحسن حال عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية، وأما الاتحادية ففي عوامهم من ليس برافضي ولا جهمي صريح ; ولكن لا يفهم كلامهم ; ويعتقد أن كلامهم كلام الأولياء المحققين، وبسط هذا الجواب له مواضع غير هذا، والله أعلم .

سئل: عن " الدرزية " " والنصيرية ": ما حكمهم ؟ أجاب: هؤلاء الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم، ولا نكاح نسائهم ; بل ولا يقرون بالجزية ; فإنهم مرتدون عن دين الإسلام، ليسوا مسلمين ; ولا يهود، ولا نصارى، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس، ولا وجوب صوم رمضان، ولا وجوب الحج ; ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما، وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين، فأما " النصيرية " فهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير، وكان من الغلاة الذين يقولون: إن عليا إله، وهم ينشدون: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين وأما " الدرزية " فأتباع هشتكين الدرزي ; وكان من موالي الحاكم أرسله إلى أهل وادي تيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلى إلهية الحاكم، ويسمونه " الباري، العلام " ويحلفون به، وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله، وهم أعظم كفرا من الغالية، يقولون بقدم العالم، وإنكار المعاد، وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب، وغايتهم أن يكونوا " فلاسفة " على مذهب أرسطو وأمثاله أو " مجوسا "، وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس، ويظهروا التشيع نفاقا، والله أعلم . وأما " أوانيهم وملابسهم " فكأواني المجوس وملابس المجوس، على ما عرف من مذاهب الأئمة، والصحيح في ذلك أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها ; فإن ذبائحهم ميتة، فلا بد أن يصيب أوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك، فأما الآنية التي لا يغلب على الظن وصول النجاسة إليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التي لا يضعون فيها طبيخهم، أو يغسلونها قبل وضع اللبن فيها، وقد توضأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جرة نصرانية، فما شك في نجاسته لم يحكم بنجاسته بالشك، ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، ولا يصلى على من مات منهم ; فإن الله سبحانه وتعالى نهى نبيه ﷺ عن الصلاة على المنافقين: كعبد الله بن أبي، ونحوه ; وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين ; ولا يظهرون مقالة تخالف دين الإسلام ; لكن يسرون ذلك، فقال الله: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، ولا تقم على قبره ; إنهم كفروا بالله ورسوله، وماتوا وهم فاسقون } فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر والإلحاد، وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر، وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم: فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم، وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر ; فإن المخامر قد يكون له غرض: إما مع أمير العسكر، وإما مع العدو، وهؤلاء مع الملة، نبيها ودينها، وملوكها ; وعلمائها، وعامتها، وخاصتها، وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين، وعلى إفساد الجند على ولي الأمر، وإخراجهم عن طاعته، والواجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر، ولا في غير ثغر ; فإن ضررهم في الثغر أشد، وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام، وعلى النصح لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ; بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلما فكيف بمن يغش المسلمين كلهم ؟ ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه ; بل أي وقت قدر على الاستبدال بهم وجب عليه ذلك، وأما إذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم فلهم إما المسمى وإما أجرة المثل، لأنهم عوقدوا على ذلك، فإن كان العقد صحيحا وجب المسمى وإن كان فاسدا وجبت أجرة المثل، وإن لم يكن استخدامهم من جنس الإجارة اللازمة فهي من جنس الجعالة الجائزة ; لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم، فالعقد عقد فاسد، فلا يستحقون إلا قيمة عملهم، فإن لم يكونوا عملوا عملا له قيمة فلا شيء لهم ; لكن دماؤهم وأموالهم مباحة، وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء ; فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم، ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم ; فإن مالهم يكون فيئا لبيت المال ; لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة ; لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم، وفيهم من يعرف، وفيهم من قد لا يعرف، فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم، فلا يتركون مجتمعين، ولا يمكنون من حمل السلاح، ولا أن يكونوا من المقاتلة، ويلزمون شرائع الإسلام: من الصلوات الخمس، وقراءة القرآن، ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام، ويحال بينهم وبين معلمهم، فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة لما ظهروا على أهل الردة، وجاءوا إليه، قال لهم الصديق: اختاروا إما الحرب المجلية، وإما السلم المخزية، قالوا: يا خليفة رسول الله، هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية ؟ قال: تدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ونقسم ما أصبنا من أموالكم، وتردون ما أصبتم من أموالنا، وتنزع منكم الحلقة والسلاح، وتمنعون من ركوب الخيل، وتتركون تتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله والمؤمنين أمرا بعد ردتكم، فوافقه الصحابة على ذلك ; إلا في تضمين قتلى المسلمين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: هؤلاء قتلوا في سبيل الله فأجورهم على الله، يعني هم شهداء فلا دية لهم، فاتفقوا على قول عمر في ذلك، وهذا الذي اتفق الصحابة عليه هو مذهب أئمة العلماء، والذي تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء، فمذهب أكثرهم أن من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن ; كما اتفقوا عليه آخرا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى هو القول الأول، فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلى الإسلام يفعل بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه، فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلاح والدرع التي تلبسها المقاتلة، ولا يترك في الجند من يكون يهوديا ولا نصرانيا ويلزمون شرائع الإسلام حتى يظهر ما يفعلونه من خير أو شر، ومن كان من أئمة ضلالهم وأظهر التوبة أخرج عنهم، وسير إلى بلاد المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور، فإما أن يهديه الله تعالى، وإما أن يموت على نفاقه من غير مضرة للمسلمين، ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب ; فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدءوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب ; فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين، وحفظ رأس المال مقدم على الربح، وأيضا فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك ; بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم في الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب، ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم ; بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ولا يحل لأحد أن يعاونهم على بقائهم في الجند والمستخدمين، ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله، ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله ; فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى: وقد قال الله تعالى لنبيه ﷺ: { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين، والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى: فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم: كما قال الله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس تأتون بهم من القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الإسلام . فالمقصود بالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ; هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان، فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة، ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره، ومعلوم أن الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: هو أفضل الأعمال، كما قال ﷺ: { رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله تعالى } وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: { إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله } وقال ﷺ: { رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه } ومن مات مرابطا مات مجاهدا وجرى عليه عمله وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتنة، والجهاد أفضل من الحج والعمرة، كما قال تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم }، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . - مسألة: في طائفة من رعية البلاد كانوا يرون مذهب النصيرية، ثم أجمعوا على رجل واختلفت أقوالهم فيه، فمنهم من يزعم أنه إله، ومنهم من يزعم أنه نبي مرسل، ومنهم من ادعى أنه محمد بن الحسن، يعنون المهدي، وأمروا من وجده بالسجود له، وأعلنوا بالكفر بذلك، وسب الصحابة، وأظهروا الخروج عن الطاعة، وعزموا على المحاربة، فهل يجب قتالهم وقتل مقاتلتهم، وهل تباح ذراريهم وأموالهم أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، هؤلاء يجب قتالهم ما داموا ممتنعين حتى يلتزموا شرائع الإسلام، فإن النصيرية من أعظم الناس كفرا بدون اتباعهم لمثل هذا الدجال، فكيف إذا اتبعوا مثل هذا الدجال، وهم مرتدون من أسوإ الناس ردة، تقتل مقاتلهم وتغنم أموالهم، وسبي الذرية فيه نزاع، لكن أكثر العلماء على أنه تسبى الصغار من أولاد المرتدين، وهذا هو الذي دلت عليه سيرة الصديق في قتال المرتدين، وكذلك قد تنازع العلماء في استرقاق المرتد، وطائفة تقول: إنها تسترق كقول أبي حنيفة، وطائفة تقول لا تسترق كقول الشافعي وأحمد، والمعروف عن الصحابة هو الأول، وأنه تسترق منهن المرتدات نساء المرتدين، فإن الحنفية التي تسرى بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه أم ابنه محمد بن الحنفية من سبي بني حنيفة المرتدين الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه والصحابة لما بعث خالد بن الوليد في قتالهم، والنصيرية لا يكتمون أمرهم، بل هم معروفون عند جميع المسلمين، لا يصلون الصلوات الخمس، ولا يصومون شهر رمضان، ولا يحجون البيت، ولا يؤدون الزكاة ولا يقرون بوجوب ذلك، ويستحلون الخمر وغيرها من المحرمات، ويعتقدون أن الإله علي بن أبي طالب ويقولون: نشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين وأما إذا لم يظهروا الرفض، وأن هذا الكذاب هو المهدي المنتظر، وامتنعوا، فإنهم يقاتلون أيضا، لكن يقاتلون كما يقاتل الخوارج المارقون الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأمر رسول الله ﷺ وكما يقاتل المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهؤلاء يقاتلون ما داموا ممتنعين، ولا تسبى ذراريهم، ولا تغنم أموالهم التي لم يستعينوا بها على القتال، وأما ما استعانوا به على قتال المسلمين من خيل وسلاح وغير ذلك ففي أخذه نزاع بين العلماء، وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه نهب عسكره ما في عسكر الخوارج، فإن رأى ولي الأمر أن يستبيح ما في عسكرهم من المال كان هذا سائغا، هذا ما داموا ممتنعين، فإن قدر عليهم فإنه يجب أن يفرق شملهم ويحسم مادة شرهم، وإلزامهم شرائع الإسلام، وقتل من أصر على الردة منهم، وأما قتل من أظهر الإسلام وأبطن كفرا منه، وهو المنافق الذي تسميه الفقهاء الزنديق، فأكثر الفقهاء على أنه يقتل وإن تاب، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه، وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة والشافعي، ومن كان داعيا منهم إلى الضلال لا ينكف شره إلا بقتله، قتل أيضا، وإن أظهر التوبة، وإن لم يحكم بكفره كأئمة الرفض الذين يضلون الناس، كما قتل المسلمون غيلان القدري، والجعد بن درهم وأمثالهما من الدعاة، فهذا الدجال يقتل مطلقا والله أعلم .

مسألة: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم على إظهار الحق المبين، وإخماد شغب المبطلين: في " النصيرية " القائلين باستحلال الخمر، وتناسخ الأرواح، وقدم العالم، وإنكار البعث والنشور والجنة والنار في غير الحياة الدنيا، وبأن " الصلوات الخمس " عبارة عن خمسة أسماء، وهي: علي، وحسن، وحسين، ومحسن، وفاطمة، فذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزيهم عن الغسل من الجنابة، والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها، وبأن " الصيام " عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا، واسم ثلاثين امرأة، يعدونهم في كتبهم، ويضيق هذا الموضع عن إبرازهم ; وبأن إلههم الذي خلق السموات والأرض هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فهو عندهم الإله في السماء، والإمام في الأرض، فكانت الحكمة في ظهور اللاهوت بهذا الناسوت على رأيهم أن يؤنس خلقه وعبيده ; ليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه، وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه، ويشربون معه الخمر، ويطلعونه على أسرارهم، ويزوجونه من نسائهم: حتى يخاطبه معلمه، وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلفوه على كتمان

دينه، ومعرفة مشايخه، وأكابر أهل مذهبه ; وعلى أن لا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه، وعلى أن يعرف ربه وإمامه بظهوره في أنواره وأدواره، فيعرفه انتقال الاسم والمعنى في كل حين وزمان، فالاسم عندهم في أول الناس آدم والمعنى هو شيث، والاسم يعقوب، والمعنى هو يوسف، ويستدلون على هذه الصورة كما يزعمون بما في القرآن العظيم حكاية عن يعقوب ويوسف - عليهما الصلاة والسلام - فيقولون: أما يعقوب فإنه كان الاسم، فما قدر أن يتعدى منزلته فقال: { سوف أستغفر لكم ربي } وأما يوسف فكان المعنى المطلوب فقال: { لا تثريب عليكم اليوم } فلم يعلق الأمر بغيره ; لأنه علم أنه الإله المتصرف، ويجعلون موسى هو الاسم، ويوشع هو المعنى ويقولون: يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره ; وهل ترد الشمس إلا لربها ؟، ويجعلون سليمان هو الاسم، وآصف هو المعنى القادر المقتدر، ويقولون: سليمان عجز عن إحضار عرش بلقيس، وقدر عليه آصف لأن سليمان كان الصورة، وآصف كان المعنى القادر المقتدر، وقد قال قائلهم: هابيل شيث يوسف يوشع آصف شمعون الصفا حيدر ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا على هذا النمط إلى زمن رسول الله ﷺ فيقولون: محمد هو الاسم، وعلي هو المعنى، ويوصلون العدد على هذا الترتيب في كل زمان إلى وقتنا هذا، فمن حقيقة الخطاب في الدين عندهم أن عليا هو الرب، وأن محمدا هو الحجاب، وأن سلمان هو الباب، وأنشد بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه في شهور السنة سبع مائة فقال: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين ويقولون: إن ذلك على هذا الترتيب لم يزل ولا يزال، وكذلك الخمسة الأيتام، والاثنا عشر نقيبا، وأسماؤهم مشهورة عندهم، ومعلومة من كتبهم الخبيثة، وأنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب في كل كور ودور أبدا سرمدا على الدوام والاستمرار، ويقولون: إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويليه في رتبة الإبليسية أبو بكر رضي الله عنه ; ثم عثمان - رضي الله عنهم أجمعين وشرفهم وأعلى رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحال أنواع الضالين والمفسدين - فلا يزالون موجودين في كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب، ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلى هذه الأصول المذكورة، وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام [ وهم ] معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب، وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم، ومن عامة الناس أيضا في هذا الزمان ; لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين على البلاد الساحلية ; فلما جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم، والابتلاء بهم كثير جدا، فهل يجوز لمسلم أن يزوجهم، أو يتزوج منهم ؟ وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه، أم لا ؟ وما حكم الجبن المعمول من إنفحة ذبيحتهم وما حكم أوانيهم وملابسهم ؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين، أم لا وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم ؟ أم يجب على ولي الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة، وهل يأثم إذا أخر طردهم ؟ أم يجوز له التمهل مع أن في عزمه ذلك ؟ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم، وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمى ; فأخره ولي الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحقين، أو أرصده لذلك، هل يجوز له فعل هذه الصور ؟ أم يجب عليه ؟ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال، أم لا ؟ وإذا جاهدهم ولي الأمر أيده الله تعالى بإخماد باطلهم، وقطعهم من حصون المسلمين، وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وألزمهم بالصوم والصلاة، ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار ; هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدي والترصد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد سيبس وديار الإفرنج على أهلها ؟ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا، ويكون أجر من رابط في الثغور على ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر، أم هذا أكبر أجرا ؟ وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد على إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم، فلعل الله تعالى أن يهدي بعضهم إلى الإسلام وأن يجعل من ذريتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم أم يجوز التغافل عنهم والإهمال ؟ وما قدر المجتهد على ذلك، والمجاهد فيه، والمرابط له والملازم عليه ؟ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى إنه على كل شيء قدير ; وحسبنا الله ونعم الوكيل، فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى ; بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد ﷺ أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم ; فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع، وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله، ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين قبل محمد ﷺ ولا بملة من الملل السالفة بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها ; يدعون أنها علم الباطن ; من جنس ما ذكر من السائل، وما غير هذا الجنس، فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته، وتحريف كلام الله تعالى ورسوله عن مواضعه ; إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل، ومن جنس قولهم: أن " الصلوات الخمس " معرفة أسرارهم، " والصيام المفروض " كتاب أسرارهم " وحج البيت العتيق " زيارة شيوخهم، وأن { يدا أبي لهب } هما أبو بكر وعمر، وأن البناء العظيم والإمام المبين هو علي بن أبي طالب: ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين ; كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم، وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة، وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره، وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ; وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد، الذي هم به أكفر من اليهود والنصارى، ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام، وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم، ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم، وهم دائما مع كل عدو للمسلمين ; فهم مع النصارى على المسلمين ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل، وانقهار النصارى ; بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى - والعياذ بالله تعالى - النصارى على ثغور المسلمين، فإن ثغور المسلمين ما زالت بأيدي المسلمين، حتى جزيرة قبرص يسر الله فتحها عن قريب، وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين " عثمان بن عفان " رضي الله عنه، فتحها " معاوية بن أبي سفيان " إلى أثناء المائة الرابعة، فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل ; ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره ; فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك ; ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى " كنور الدين الشهيد، وصلاح الدين " وأتباعهما ; وفتحوا السواحل من النصارى، وممن كان بها منهم، وفتحوا أيضا أرض مصر ; فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصارى، فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية، ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين لا بمعاونتهم ومؤازرتهم ; فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو " النصير الطوسي " كان وزيرا لهم بالألموت، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء، ولهم " ألقاب " معروفة عند المسلمين تارة يسمون " الملاحدة " وتارة يسمون " القرامطة " وتارة يسمون " الباطنية " وتارة يسمون " الإسماعيلية " وتارة يسمون " النصيرية " وتارة يسمون " الخرمية "، وتارة يسمون " المحرمة " وهذه الأسماء منها ما يعمهم، ومنها ما يخص بعض أصنافهم، كما أن الإسلام والإيمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه إما لنسب، وإما لمذهب، وإما لبلد، وإما لغير ذلك، وشرح مقاصدهم يطول، وهم كما قال العلماء فيهم: ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض، وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين ; لا بنوح، ولا إبراهيم، ولا موسى، ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا بشيء من كتب الله المنزلة، لا التوراة، ولا الإنجيل، ولا القرآن، ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه ولا بأن له دينا أمر به، ولا أن له دارا يجزي الناس فيها على أعمالهم على هذه الدار، وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة الطبيعيين أو الإلهيين، وتارة يبنونه على قول المجوس الذين يعبدون النور، ويضمون إلى ذلك الرفض . ويحتجون لذلك من كلام النبوات: إما بقول مكذوب ينقلونه، كما ينقلون عن النبي ﷺ أنه قال: { أول ما خلق الله العقل } والحديث، موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ; ولفظه { إن الله لما خلق العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، فقال له: أدبر، فأدبر } فيحرفون لفظه فيقولون { أول ما خلق الله العقل }، ليوافقوا قول المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل، وإما بلفظ ثابت عن النبي ﷺ فيحرفونه عن مواضعه، كما يصنع أصحاب " رسائل إخوان الصفا " ونحوهم، فإنهم من أئمتهم، وقد دخل كثير من باطلهم على كثير من المسلمين، وراج عليهم حتى صار ذلك في كتب طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين ; وإن كانوا لا يوافقونهم على أصل كفرهم ; فإن هؤلاء لهم في إظهار دعوتهم الملعونة التي يسمونها " الدعوة الهادية " درجات متعددة، ويسمون النهاية " البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم " ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق تعالى ; والاستهزاء به، وبمن يقر به، حتى قد يكتب أحدهم اسم الله في أسفل رجله، وفيه أيضا جحد شرائعه ودينه وما جاء به الأنبياء، ودعوى أنهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة، فمنهم من أحسن في طلبها، ومنهم من أساء في طلبها حتى قتل، ويجعلون محمدا وموسى من القسم الأول، ويجعلون المسيح من القسم الثاني، وفيه من الاستهزاء بالصلاة، والزكاة والصوم، والحج ومن تحليل نكاح ذوات المحارم، وسائر الفواحش: ما يطول وصفه، ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضا، وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان فقد يخفون على من لا يعرفهم، وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلا عن خاصتهم، وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم ; ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم امرأة، ولا تباح ذبائحهم، وأما الجبن المعمول بإنفحتهم " ففيه قولان مشهوران للعلماء، كسائر إنفحة الميتة، وكإنفحة ذبيحة المجوس، وذبيحة الفرنج الذين يقال عنهم: إنهم لا يذكون الذبائح، فمذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين أنه يحل هذا الجبن ; لأن إنفحة الميتة طاهرة على هذا القول ; لأن الإنفحة لا تموت بموت البهيمة، وملاقاة الوعاء النجس في الباطن لا ينجس، ومذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى أن هذا الجبن نجس لأن الإنفحة عند هؤلاء نجسة ; لأن لبن الميتة وإنفحتها عندهم نجس، ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة، وكل من أصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم أكلوا جبن المجوس، وأصحاب القول الثاني نقلوا أنهم أكلوا ما كانوا يظنون أنه من جبن النصارى، فهذه مسألة اجتهاد ; للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين .

- سئل: عن رجل لعن اليهود، ولعن دينه، وسب التوراة: فهل يجوز لمسلم أن يسب كتابهم، أم لا ؟ أجاب: الحمد لله ليس لأحد أن يلعن التوراة ; بل من أطلق لعن التوراة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها: فهذا يقتل بشتمه لها ; ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء، وأما إن لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس به في ذلك، فإنهم ملعونون هم ودينهم، وكذلك إن سب التوراة التي عندهم بما يبين أن قصده ذكر تحريفها مثل أن يقال: نسخ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر: فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله، والله أعلم .

- مسألة: في رجل له مملوك ذكر أنه سرق له قماشا ; وذكر الغلام أنه أودعه ؟ عند سيده القديم [ في ] منديل: فهل يقبل قوله في ذلك ؟ وما يلزم في ذلك، الجواب: لا يؤخذ بمجرد قول الغلام باتفاق المسلمين، سواء كان الحاكم بينهما والي الحرب، أو قاضي الحكم ; بل الذي عليه جمهور الفقهاء في المتهم بسرقة ونحوها أن ينظر في المتهم: فإما أن يكون معروفا بالفجور، وإما أن يكون مجهول الحال، فإن كان معروفا بالبر لم يجز مطالبته ولا عقوبته، وهل يحلف ؟ على قولين للعلماء، ومنهم من قال: يعزر من رماه بالتهمة، وإما أن يكون مجهول الحال فإنه يحبس حتى يكشف أمره، قيل: يحبس شهرا، وقيل: اجتهاد ولي الأمر، لما في السنن عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: { أن رسول الله ﷺ حبس في تهمة } وإن كان قد يكون الرجل معروفا بالفجور المناسب للتهمة، فقال طائفة من الفقهاء: يضربه الوالي ; دون القاضي، وقد ذكر ذلك طوائف من أصحاب مالك، والشافعي، والإمام أحمد، ومن الفقهاء من قال: لا يضرب وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ { أنه أمر الزبير بن العوام أن يمس بعض المعاهدين بالعذاب، لما كتم إخباره بالمال الذي كان النبي ﷺ قد عاهدهم عليه، وقال له: أين كنز حيي بن أخطب ؟ فقال: يا محمد، أذهبته النفقات والحروب، فقال: المال كثير، والعهد قريب من هذا وقال للزبير: دونك هذا فمسه الزبير بشيء من العذاب ; فدلهم على المال }، وأما إذا ادعى أنه استودع المال فهذا أخف، فإن كان معروفا بالخير لم يجز إلزامه بالمال باتفاق المسلمين ; بل يحلف المدعى عليه، سواء كان الحاكم واليا، أو قاضيا .

حد السرقة - - مسألة: في رجل سرق بيته مرارا، ثم وجد بعد ذلك في بيته مملوكا بعد أن أغلق بابه فأخذ فأقر أنه دخل البيت مختلسا مرارا عديدة، ولم يقر أنه أخذ شيئا: فهل يلزمه ما عدم لهم من البيت ؟ وما الحكم فيه ؟ الجواب: هذا العبد يعاقب باتفاق المسلمين على ما ثبت عليه من دخول البيت ; ويعاقب أيضا عند كثير من العلماء، فإذا أقر بما تبين أنه أخذ المال: مثل أن يدل على موضع المال، أو على من أعطاه إياه، ونحو ذلك: أخذ المال، وأعطي لصاحبه إن كان موجودا، وغرمه إن كان تالفا، وينبغي للمعاقب له أن يحتال عليه بما يقر به، كما يفعل الحذاق من القضاة والولاة بمن يظهر لهم فجوره حتى يعترف، وأقل ما في ذلك أن يشهد عليهم برد اليمين على المدعي، فإذا حلف رب المال حينئذ حكم لرب المال إذا حلف، وأما الحكم لرب المال بيمينه بما ظهر من اللوث، والإمارات التي يغلب على الظن صدق المدعي، فهذا فيه اجتهاده، وأما في النفوس فالحكم بذلك مذهب أكثر العلماء كالشافعي، وأحمد، والله أعلم .

- سئل: عن رجل قال: قال رسول الله ﷺ: { من قال لا إله إلا الله دخل الجنة } وقال آخر: إذا سلك الطريق الحميدة واتبع الشرع دخل ضمن هذا الحديث، وإذا فعل غير ذلك ولم يبال ما نقص من دينه وزاد في دنياه لم يدخل في ضمن هذا الحديث، قال له ناقل الحديث: أنا لو فعلت كل ما لا يليق ; وقلت لا إله إلا الله: دخلت الجنة ولم أدخل النار ؟ فأجاب رحمه الله: الحمد لله رب العالمين، من اعتقد أنه بمجرد تلفظ الإنسان بهذه الكلمة يدخل الجنة ولا يدخل النار بحال فهو ضال، مخالف للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين: فإنه قد تلفظ بها المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وهم كثيرون ; بل المنافقون قد يصومون ويصلون ويتصدقون ; ولكن لا يتقبل منهم، قال الله تعالى: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }، وقال تعالى: { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين، وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } وقال

تعالى: { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } وقال تعالى: { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير } إلى قوله { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا }، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان }، ولمسلم { وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم } وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب ; وإذا وعد أخلف ; وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر }، ولكن إن قال: لا إله إلا الله خالصا صادقا من قلبه ومات على ذلك فإنه لا يخلد في النار ; إذ لا يخلد في النار من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي ﷺ ; لكن من دخلها من " فساق أهل القبلة " من أهل السرقة، والزنا وشرب الخمر، وشهادة الزور وأكل الربا وأكل مال اليتيم ; وغير هؤلاء، فإنهم إذا عذبوا فيها عذبهم على قدر

ذنوبهم، كما جاء في الأحاديث الصحيحة { منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه } ومكثوا فيها ما شاء الله أن يمكثوا أخرجوا بعد ذلك كالحمم ; فيلقون في نهر يقال له الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويدخلون الجنة مكتوب على رقابهم، هؤلاء الجهنميون عتقاء الله من النار " وتفصيل هذه المسألة في غير هذا الموضع، والله أعلم .

- سئل: عن رجل حبس خصما له عليه دين بحكم الشرع، فحضر إليه رجل يشفع فيه فلم يقبل شفاعته، فتخاصما بسبب ذلك، فشهد الشافع على الرجل لأنه صدر منه كلام يقتضي الكفر، خاف الرجل غائلة ذلك، فأحضر إلى حاكم شافعي، وادعى عليه رجل من المسلمين بأنه تلفظ بما قيل عنه، وسأل حكم الشرع في ذلك، فقال الحاكم للخصم عن ذلك فلم يعترف، فلقن أن يعترف ليتم له الحكم بصحة إسلامه وحقن دمه فاعترف بأن ذلك صدر منه جاهلا بما يترتب عليه، ثم أسلم، ونطق بالشهادتين، وتاب واستغفر الله تعالى، ثم سأل الحاكم المذكور أن يحكم له بإسلامه وحقن دمه وتوبته وبقاء ماله عليه، فأجابه إلى سؤاله، وحكم بإسلامه، وحقن دمه، وبقاء ماله عليه، وقبول توبته وعزره تعزير مثله وحكم بسقوط تعزير ثان عنه، وقضى بموجب ذلك كله، ثم نفذ ذلك حاكم آخر حنفي: فهل الحكم المذكور صحيح في جميع ما حكم له به، أم لا ؟ وهل يفتقر حكم الشافعي إلى حضور خصم من جهة بيت المال ; أم لا ؟ وهل لأحد أن يتعرض بما صدر منه من أخذ ماله أو شيء منه بعد إسلامه، أم لا ؟ وهل يحل لحاكم آخر بعد الحكم والتنفيذ المذكورين أن يحكم في ماله بخلاف الحكم الأول وتنفيذه أم لا ؟ وهل ثياب ولي الأمر على منع من يتعرض إليه بأخذ ماله أو شيء منه بما ذكر، أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، نعم الحكم المذكور صحيح، وكذلك تنفيذه وليس لبيت المال في مال مثل هذا حق باتفاق المسلمين ; ولا يفتقر الحكم بإسلامه وعصمة ماله إلى حضور خصم من جهة بيت المال ; فإن ذلك لا يتوقف على الحكم ; إذ الأئمة متفقون على أن المرتد إذا أسلم عصم بإسلامه دمه وماله وإن لم يحكم بذلك حاكم ; ولا كلام لولي بيت المال في مال من أسلم بعد ردته ; بل مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد أيضا في المشهور عنه أن من شهدت عليه بينة بالردة فأنكر وتشهد الشهادتين المعتبرتين حكم بإسلامه، ولا يحتاج أن يقر بما شهد به عليه، فكيف إذا لم يشهد عليه عدل ؟ فإنه من هذه الصورة لا يفتقر الحكم بعصمة دمه وماله إلى إقراره باتفاق المسلمين: ولا يحتاج عصمة دم مثل هذا إلى أن يقر ثم يسلم بعد إخراجه إلى ذلك، فقد يكون فيه إلزام له بالكذب على نفسه أنه كفر ; ولهذا لا يجوز أن يبنى على مثل هذا الإقرار حكم الإقرار الصحيح ; فإنه قد علم أنه لقن الإقرار، وأنه مكره عليه في المعنى فإنه إنما فعله خوف القتل، ولو قدر أن كفر المرتد كفر سب فليس في الحكام بمذهب الأئمة الأربعة من يحكم بأن ماله لبيت المال بعد إسلامه ; إنما يحكم من يحكم بقتله لكونه يقتل حدا عندهم على المشهور، ومن قال: يقتل لزندقته فإن مذهبه أنه لا يؤخذ بمثل هذا الإقرار، وأيضا فمال الزنديق عند أكثر من قال بذلك لورثته من المسلمين فإن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي ﷺ كانوا إذا ماتوا ورثهم المسلمون مع الجزم بنفاقهم ; كعبد الله بن أبي وأمثاله ممن ورثهم ورثتهم الذين يعلمون بنفاقهم، ولم يتوارث أحد من الصحابة غير ميراث منافق، والمنافق هو الزنديق في اصطلاح الفقهاء الذين تكلموا في توبة الزنديق، وأيضا فحكم الحاكم إذا نفذ في دمه الذي قد يكون فيه نزاع نفذ في ماله بطريق الأولى ; إذ ليس في الأمة من يقول: يؤخذ ماله ولا يباح دمه، فلو قيل بهذا كان خلاف الإجماع ; فإذا لم يتوقف الحكم بعصمة دمه على دعوى من جهة ولي الأمر فماله أولى، وقد تبين أن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال غير ممكن من وجوه: أحدها: أنه لم يثبت عليه ما يبيح دمه: لا ببينة، ولا بإقرار متعين ; ولكن بإقرار قصد به عصمة ماله ودمه من جنس الدعوى على الخصم المسخر، الثاني: أن الحكم بعصمة دمه وماله واجب في مذهب الشافعي والجمهور وإن لم يقر ; بل هو واجب بالإجماع مع عدم البينة والإقرار، الثالث: أن الحكم صحيح بلا ريب، الرابع: أنه لو كان حكم مجتهد فيه لزال ذلك بتنفيذ المنفذ له، الخامس: أنه ليس في الحكام من الحكم بمال هذا لبيت المال ولو ثبت عليه الكفر ثم الإسلام ; ولو كان الكفر سببا ; فكيف إذا لم يثبت عليه ؟، أم كيف إذا حكم بعصمة ماله ؟، بل مذهب مالك وأحمد الذي يستند إليها في مثل هذه من أبعد المذاهب عن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال ; لأن مثل هذا الإقرار عندهم قرار تلجئة لا يلتفت إليه ; ولما عرف من مذهبهما في الساب، والله أعلم .

-مسألة: فيما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته ; فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال، وطمعت الفساق، وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها، أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك ؟ وإن أقدم وسأل أو أمسك المتهومين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه ؟ وهو يسأل ضابطا في هذه الصورة، وفي أمر قاطع الطريق ؟ الجواب: أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه، وذلك أن الناس في التهم ثلاثة أصناف: صنف: معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم، فهذا لا يحبس، ولا يضرب ; بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء ; بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم، والثاني: من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور، فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله، وقد قيل: يحبس شهرا، وقيل: يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر، والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره { أن النبي ﷺ حبس في تهمة } وقد نص على ذلك الأئمة، وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه

مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما، وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله، فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره، ثم إذا سأل عنه ووجد بارا أطلق، وإن وجد فاجرا كان من: الصنف الثالث: وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك، أو عرف بأسباب السرقة: مثل أن يكون معروفا بالقمار، والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال، وليس له مال، ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة ; ولهذا قالت طائفة من العلماء إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي - كما قال أشهب صاحب مالك وغيره - حتى يقر بالمال، وقالت طائفة: يضربه الوالي ; دون القاضي، كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية، وهو قول طائفة من المالكية، كما ذكره الطرسوسي وغيره، ثم المتولي له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف، فيكون تعزيرا وتقريرا، وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق ; بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا، ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا } إلى آخر الآيات، وكان سبب ذلك أن قوما يقال لهم بنو أبيرق سرقوا لبعض الأنصار طعاما ودرعين، فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله ﷺ فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل ; فكأن النبي ﷺ ظن صدق المزكين فلام صاحب المال: فأنزل الله هذه الآية، ولم يقل النبي ﷺ لصاحب المال: أقم البينة ; ولا حلف المتهمين ; لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر، وظهرت الريبة عليهم، وهكذا حكم النبي ﷺ بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين ; فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة ; ليست من الحقوق الخاصة، فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية، ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة ; واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث اليمين، وقول النبي ﷺ: { لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ; ولكن اليمين على المدعى عليه } هذا فيما لا يمكن من المدعي حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا، ولكن يحلف المدعى عليه، فأما إذا أقام شاهدا بالمال فإن النبي ﷺ قد حكم في المال بشاهد ويمين وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث، كمالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم، وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي ﷺ للمدعين: { أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم } ؟، كذلك أمر " قطاع الطريق " وأمر " اللصوص " وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة ; فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء، ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم ; ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتما، وقتله حد لله ; وليس قتله مفوضا إلى أولياء المقتول، قالوا: لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه ; إنما قتله لأجل المال، فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره، فقتله مصلحة عامة، فعلى الإمام أن يقيم ذلك، وكذلك " السارق " ليس غرضه في مال معين، وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا، كذلك كان قطعه حقا واجبا لله ليس لرب المال ; بل رب المال يأخذ ماله، وتقطع يد السارق، حتى لو قال صاحب المال: أنا أعطيه مالي لم يسقط عنه القطع، كما قال صفوان للنبي ﷺ: أنا أهبه ردائي، فقال النبي ﷺ: { فهلا فعلت قبل أن تأتي به }، وقال النبي ﷺ: { من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال } وقال للزبير بن العوام { إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع }، ومما يشبه هذا من ظهر عنده مال يجب عليه إحضاره كالمدين إذا ظهر أنه غيب ماله وأصر على الحبس، وكمن عنده أمانة ولم يردها إلى مستحقها ظهر كذبه، فإنه لا يحلف ; لكن يضرب حتى يحضر المال الذي يجب إحضاره، أو يعرف مكانه، كما قال النبي ﷺ للزبير بن العوام عام خيبر في عم حيي بن أخطب، وكان النبي صالحهم على أن له الذهب والفضة ; فقال لهذا الرجل: { أين كنز حيي بن أخطب ؟ فقال: يا محمد، أذهبته النفقات، والحروب، فقال: المال كثير، والعهد أحدث من هذا ثم قال: دونك هذا فمسه بشيء من العذاب، فدلهم عليه في خربة هناك } فهذا لما قال أذهبته النفقات والحروب والعادة تكذبه في ذلك لم يلتفت إليه بل أمر بعقوبته حتى دلهم على المال ; فكذلك من أخذ من أموال الناس وادعى ذهابها دعوى تكذبه فيها العادة كان هذا حكمه .

- مسألة: في تاجر نصب عليه جماعة ; وأخذوا مبلغا، فحملهم لولي الأمر ; وعاقبهم حتى أقروا بالمال، وهم محبوسون على المال، ولم يعطوه شيئا، وهم مصرون على أنهم لا يعطونه شيئا ؟ الجواب: الحمد لله هؤلاء من كان المال بيده وامتنع من إعطائه فإنه يضرب حتى يؤدي المال الذي بيده لغيره، ومن كان قد غيب المال وجحد موضعه فإنه يضرب حتى يدل على موضعه، ومن كان متهما لا يعرف هل معه من المال شيء أم لا ; فإنه يجوز ضربه معاقبة له على ما فعل من الكذب والظلم، ويقرر مع ذلك على المال أين هو، ويطلب منه إحضاره، والله أعلم .

- مسألة: عن المفسدين في الأرض ; الذين يستحلون أموال الناس ودماءهم: مثل السارق، وقاطع الطريق: هل للإنسان أن يعطيهم شيئا من ماله ؟ أو يقاتلهم ؟ وهل إذا قتل رجل أحدا منهم: فهل يكون ممن ينسب إلى النفاق ؟ وهل عليه إثم في قتل من طلب قتله ؟ أجاب: أجمع المسلمون على جواز مقاتلة قطاع الطريق، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: { من قتل دون ماله فهو شهيد }، فالقطاع: إذا طلبوا مال المعصوم لم يجب عليه أن يعطيهم شيئا باتفاق الأئمة بل يدفعهم بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفعوا إلا بالقتال فله أن يقاتلهم، فإن قتل كان شهيدا، وإن قتل واحدا منهم على هذا الوجه كان دمه هدرا ; وكذلك إذا طلبوا دمه كان له أن يدفعهم ولو بالقتل إجماعا ; لكن الدفع عن المال لا يجب، بل يجوز له أن يعطيهم المال ولا يقاتلهم، وأما الدفع عن النفس ففي وجوبه قولان، هما روايتان عن أحمد .

سئل: عن ثلاثة من اللصوص أخذ اثنان منهم جمالا، والثالث قتل الجمال: هل يقتل الثلاثة ؟ الجواب: إذا كان الثلاثة حرامية اجتمعوا ليأخذوا المال بالمحاربة قتل الثلاثة ; وإن كان الذي باشر القتل واحد منهم، والله أعلم .

-مسألة: في عسكر نزلوا مكانا باتوا فيه فجاء أناس سرقوا لهم قماشا فلحقوا السارق فضربه أحدهم بالسيف، ثم حمل إلى مقدم العسكر ثم مات بعد ذلك ؟ الجواب: إذا كان هذا هو الطريق في استرجاع ما مع السارق لم يلزم الضارب شيء، فقد روى ابن عمر أن لصا دخل داره فقام إليه بالسيف فلولا أنهم ردوه عنه لضربه بالسيف، وفي الصحيحين { من قتل دون ماله فهو شهيد } .

- مسألة: في رجل له ملك، وهو واقع، فأعلموه بوقوعه فأبى أن ينقضه ثم وقع على صغير فهشمه هل يضمن أو لا ؟ الجواب: هذا يجب الضمان عليه في أحد قولي العلماء، لأنه مفرط في عدم إزالة هذا الضرر، والضمان على المالك الرشيد الحاضر أو وكيله إن كان غائبا أو وليه إن كان محجورا عليه، ووجوب الضمان في مثل هذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، والواجب نصف الدية والأرش فيما لا تقدير فيه، ويجب ذلك على عاقلة هؤلاء إن أمكن وإلا فعليهم في أصح قولي العلماء .

كتاب الجهاد - مسألة: في الحديث وهو: { حرس ليلة على ساحل البحر أفضل من عمل رجل في أهله ألف سنة } وفي سكنى مكة، والبيت المقدس، والمدينة المنورة على نية العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والسكنى بدمياط، وإسكندرية، وطرابلس على نية الرباط أيهم أفضل، الجواب: الحمد لله، بل المقام في ثغور المسلمين كالثغور الشامية، والمصرية أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، وما أعلم في هذا نزاعا من أهل العلم، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، وذلك لأن الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج كما قال تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله }، وفي الصحيحين: عن النبي ﷺ: أنه سئل أي الأعمال أفضل قال: " { إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا ؟ قال: ثم جهاد في سبيله، قيل: ثم ماذا ؟ قال: ثم حج مبرور }، وقد روي: { غزوة في سبيل الله أفضل من سبعين حجة }، وقد روى مسلم في صحيحه: عن سلمان الفارسي أن النبي ﷺ قال: { رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا مات مجاهدا وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان }، وفي السنن عن عثمان عن النبي ﷺ أنه قال: { رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل } "، وهذا قاله عثمان على منبر رسول الله ﷺ وذكر أنه قال لهم ذلك تبليغا للسنة، وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود، وفضائل الرباط الحرس في سبيل الله كثيرة لا تسعها هذه الورقة، والله أعلم . - مسألة: في رجل جندي وهو يريد أن لا يخدم ؟ الجواب: إذا كان للمسلمين به منفعة وهو قادر عليها لم ينبغ له أن يترك ذلك لغير مصلحة راجحة على المسلمين، بل كونه مقدما في الجهاد الذي يحبه الله ورسوله أفضل من التطوع بالعبادة كصلاة التطوع، والحج التطوع، والصيام التطوع، والله أعلم .

-مسألة: في بلد " ماردين " هل هي بلد حرب أم بلد سلم ؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا ؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم في ذلك، وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا ؟ الجواب: الحمد لله دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها، وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة، سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم، والمقيم بها إن كان عاجزا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه، وإلا استحبت ولم تجب ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال، محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم من تغيب، أو تعريض، أو مصانعة، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت، ولا يحل سبهم عموما ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم، وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ليست بمنزلة دار السلم التي يجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه .

- مسألة: إذا دخل التتار الشام ونهبوا أموال النصارى والمسلمين ثم نهب المسلمون التتار وسلبوا القتلى منهم فهل المأخوذ من أموالهم وسلبهم حلال أم لا ؟ الجواب: كل ما أخذ من التتار يخمس ويباح الانتفاع به . وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة: منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعقد له ذمة بخلاف الكافر الأصلي، ومنها: أن المرتد يقتل وإن كان عاجزا عن القتال بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، ومنها أن المرتد لا يرث، ولا يناكح، ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي، إلى غير ذلك من الأحكام، وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه، ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار ويعلم أن المرتدين الذين فيهم من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين من الترك ونحوهم، وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم، وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك الذين كانوا كفارا، فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالا ممن لم يدخل بعد في تلك الشرائع مثل: مانعي الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق، وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقها، أو متصوفا أو تاجرا، أو كاتبا، أو غير ذلك فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا في تلك الشرائع وأصروا على الإسلام، ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء على الدين ما لا يجدونه من ضرر أولئك، وينقادون للإسلام وشرائعه وطاعة الله ورسوله أعظم من انقياد هؤلاء الذين ارتدوا عن بعض الدين ونافقوا في بعضه، وإن تظاهروا بالانتساب إلى العلم والدين، وغاية ما يوجد من هؤلاء يكون ملحدا نصيريا، أو إسماعيليا، أو رافضيا، وخيارهم يكون جهميا اتحاديا أو نحوه، فإنه لا ينضم إليهم طوعا من المظهرين للإسلام إلا منافق، أو زنديق، أو فاسق فاجر، ومن أخرجوه معهم مكرها فإنه يبعث على نيته، ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه إذ لا يتميز المكره من غيره، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: { يغزو هذا البيت جيش من الناس، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل: يا رسول الله، إن فيهم المكره، فقال: يبعثون على نياتهم }، والحديث مستفيض عن النبي ﷺ من وجوه متعددة أخرجه أرباب الصحيح عن عائشة، وحفصة، وأم سلمة، ففي صحيح مسلم: عن أم سلمة قالت: { قال رسول الله ﷺ: يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها، قال: يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته } وفي الصحيحين: عن عائشة قالت: { عبث رسول الله ﷺ في منامه فقلنا: يا رسول الله، صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله، فقال: العجب أن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت برجل من قريش، وقد لجأ إلى البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم المستنصر والمجنون وابن السبيل فيهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله عز وجل على نياتهم } وفي لفظ للبخاري: عن عائشة قالت: { قال رسول الله ﷺ: يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، قالت: قلت: يا رسول الله، يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم، قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم }، وفي صحيح مسلم: عن حفصة { أن رسول الله ﷺ قال: سيعوذ بهذا البيت - يعني الكعبة - قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة، يبعث إليهم جيش يومئذ حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم }، قال يوسف بن ماهك: وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة فقال عبد الله بن صفوان: أما والله ما هو بهذا الجيش فالله تعالى أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته المكره فيهم وغير المكره، مع قدرته على التمييز بينهم مع أنه يبعثهم على نياتهم، فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين المكره وغيره وهم لا يعلمون ذلك بل لو ادعى مدع أنه خرج مكرها لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه، كما روي { أن العباس بن عبد المطلب قال للنبي ﷺ لما أسره المسلمون يوم بدر: يا رسول الله، إني، كنت مكرها، فقال: أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله }، بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضا فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار، ولو لم نخف على المسلمين جاز وهي أولئك المسلمين أيضا في أحد قولي العلماء، ومن قتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله هو في الباطن مظلوم كان شهيدا، وبعث على نيته، ولم يكن قتله أعظم فسادا من قتل من يقتل من المؤمنين المجاهدين، وإذا كان الجهاد واجبا وإن قتل من المسلمين ما شاء الله فقيل من يقتل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا، بل قد أمر النبي ﷺ المكره في قتال الفتنة بكسر سيفه وليس له أن يقاتل، وإن قتل، كما في صحيح مسلم عن أبي بكرة { قال رسول الله ﷺ: إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتن ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال: فقال رجل يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل، ولا غنم، ولا أرض قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى إحدى الصفين أو إحدى الفئتين فيضربني رجل بسيفه أو بسهمه فيقتلني، قال: يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار }، ففي هذا الحديث أنه نهى عن القتال في الفتنة بل أمر بما يتعذر معه القتال من الاعتزال أو إفساد السلاح الذي يقاتل به، وقد دخل في ذلك المكره وغيره ثم بين أن المكره إذا قتل ظلما كان القاتل قد باء بإثمه وإثم المقتول كما قال تعالى في قصة ابني آدم عن المظلوم { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين } ومعلوم أن الإنسان إذا صال صائل على نفسه جاز له الدفع بالسنة والإجماع وإنما تنازعوا هل يجب عليه الدفع بالقتال على قولين هما روايتان عن أحمد: إحداهما: يجب الدفع عن نفسه ولو لم يحضر الصف، والثانية: يجوز له الدفع عن نفسه، وأما الابتداء بالقتال في الفتنة فلا يجوز بلا ريب، والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل، بل عليه إفساد سلاحه، وأن يصبر حتى يقتل مظلوما فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام: كمانعي الزكاة، والمرتدين، ونحوهم، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين، وإن أكرهه بالقتل فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس، فليس له أن يظلم غيره فيقتله، لئلا يقتل هو، بل إذا فعل ذلك كان القود على المكره جميعا عند أكثر العلماء: كأحمد، ومالك، والشافعي، في أحد قوليه، وفي الآخر: يجب القود على المكره فقط كقول: أبي حنيفة، ومحمد، وقيل: القود على المكره المباشر كما روي ذلك عن زفر، وأبو يوسف: يوجب الضمان بالدية بدل القود ولم يوجبه، وقد روى مسلم في صحيحه: عن النبي ﷺ قصة أصحاب الأخدود وفيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين، ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، وقد بسطنا القول في هذه المسألة في موضع آخر، فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا، الذي لا يندفع إلا بذلك أولى وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قتل وإن كان المال الذي يأخذه قيراطا من دينار، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: { من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمه فهو شهيد }، فكيف بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام المحاربين لله ورسوله الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم، فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع، وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين في أنفسهم، وأموالهم، وحرمهم، ودينهم، وكل من هذه يبيح قتال الصائل عليها، ومن قتل دونها فهو شهيد، فكيف بمن قاتل عليها كلها وهم من شر البغاة المتأولين الظالمين، لكن من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون فقد أخطأ خطأ قبيحا وضل ضلالا بعيدا فإن أقل ما في البغاة المتأولين أن يكون لهم تأويل سائغ خرجوا به، ولهذا قالوا: إن الإمام يراسلهم، فإن ذكروا شبهة بينها، وإن ذكروا مظلمة أزالها، فأي شبهة لهؤلاء المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا، والخارجين عن شرائع الدين ولا ريب أنهم لا يقولون أنهم أقوم بدين الإسلام علما وعملا من هذه الطائفة بل هو مع دعواهم الإسلام يعلمون أن هذه الطائفة أعلمهم بإسلام منهم، وأتبع له منهم، وكل من تحت أديم السماء من مسلم وكافر يعلم ذلك وهم مع ذلك ينذرون المسلمين بالقتال، فامتنع أن تكون لهم شبهة بينة يستحلون بها قتال المسلمين كيف وهم قد سبوا غالب حريم الرعية الذين لم يقاتلوهم ؟ حتى إن الناس قد رأوهم يعظمون البقعة ويأخذون ما فيها من الأموال، ويعظمون الرجل ويتبركون به، ويسلبونه ما عليه من الثياب، ويسبون حريمه ويعاقبونه بأنواع العقوبات التي لا يعاقب بها إلا أظلم الناس وأفجرهم، والمتأول تأويلا دينيا لا يعاقب إلا من يراه عاصيا للدين، وهم يعظمون من يعاقبونه في الدين، ويقولون: إنه أطوع لله منهم، فأي تأويل بقي لهم، ثم لو قدر أنهم متأولون لم يكن تأويلهم سائغا، بل تأويل الخوارج ومانعي الزكاة أوجه من تأويلهم، أما الخوارج فإنهم ادعوا اتباع القرآن، وأن ما خالفه من السنة لا يجوز العمل به، وأما مانعوا الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا: إن الله قال لنبيه: خذ من أموالهم صدقة وهذا خطاب لنبيه فقط فليس علينا أن ندفعها لغيره فلم يكونوا يدفعونها لأبي بكر ولا يخرجونها له، والخوارج لهم علم وعبادة وللعلماء معهم مناظرات كمناظرتهم مع الرافضة والجهمية، وأما هؤلاء فلا يناظرون على قتال المسلمين، فلو كانوا متأولين لم يكن لهم تأويل يقوله ذو عقل، وقد خاطبني بعضهم بأن قال: ملكنا ملك ابن ملك ابن ملك إلى سبعة أجداد، وملككم ابن مولى فقلت: له: آباء ذلك الملك كلهم كفار، ولا فخر بالكافر، بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر، قال الله تعالى { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم }، فهذه وأمثالها حججهم، ومعلوم أن من كان مسلما وجب عليه أن يطيع المسلم ولو كان عبدا ولا يطيع الكافر، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: { اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله }، ودين الإسلام إنما يفضل الإنسان بإيمانه وتقواه لا بآبائه، ولو كانوا من بني هاشم أهل بيت النبي ﷺ فإنه خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفا قرشيا، وقد قال تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: " { لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب }، وفي الصحيحين: عنه أنه قال لقبيلة قريبة منه: { إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين }، فأخبر النبي ﷺ أن موالاته ليست بالقرابة والنسب، بل بالإيمان والتقوى، فإذا كان هذا في قرابة الرسول فكيف بقرابة جنكيز خان الكافر المشرك، وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه في الإيمان والتقوى، وإن كان الأول أسود حبشيا والثاني علويا أو عباسيا .

كتاب البيوع قواعد في العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرها وأما العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرها، فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة، فإن ذلك فيها كالقول في العبادات، فمن ذلك: صفة العقود فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: إن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغة، وهي العبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك: البيع، والإجارة والهبة، والنكاح، والعتق، والوقف، وغير ذلك، وهذا ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد، يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع والوقف، ويكون تارة رواية مخرجة كالهبة والإجارة، ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها، كما في إشارة الأخرس، ويقيمون أيضا الكتابة في مقام العبارة عند الحاجة وقد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها، كما في الهدي إذا عطب دون محله، فإنه ينحر ثم يضمخ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس، ومن أخذه ملكه، وكذلك الهدية ونحو ذلك، لكن الأصل عندهم هو اللفظ ; لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا }، والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي قد جعلت لإبانة ما في القلب، إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها يحتمل وجوها كثيرة، ولأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر والدعاء في العبادات، القول الثاني: إنها تصح بالأفعال فيما كثر عقده بالأفعال، كالمبيعات بالمعاطاة، وكالوقف في مثل من بنى مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه، أو سبل أرضا للدفن، أو بنى مطهرة وسبلها للناس، وكبعض أنواع الإجارة: كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة، أو ركب سفينة ملاح، وكالهدية ونحو ذلك، فإن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أمور الناس، ولأن الناس من لدن النبي ﷺ وإلى يومنا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود، وهذا قول الغالب على أصول أبي حنيفة، وهو قول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف، القول الثالث: إنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عده الناس بيعا وإجارة فهو بيع وإجارة، وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع ولا في لغة، بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس، كما تتنوع لغاتهم، فإن لفظ البيع والإجارة في لغة العرب، ليس هو اللفظ الذي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة، بل قد يختلف أنواع اللغة الواحدة، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم، إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات، وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد، ولهذا يصح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقا وإن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر، بأن يقول: خذ هذا لله فيأخذه، أو يقول: أعطني خبزا بدرهم فيعطيه، أو لم يوجد لفظ من أحدهما بأن يضع الثمن ويقبض جرزة البقل أو الحلوى أو غير ذلك كما يتعامل به غالب الناس، أو يضع المتاع ليوضع له بدله، فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه، كما يجلبه التجار عن عادة بعض أهل

المشرق، فكل ما عده الناس بيعا فهو بيع، وكذلك في الهبة مثل الهدية، ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية، وكذلك الإجارات، مثل ركوب سفينة الملاح، والمكارين، وركوب دابة الجمال إذ الحمار أو البغال المكارين على الوجه المعتاد أنه إجارة، ومثل الدخول إلى حمام الحمامي، ومثل دفع الثوب إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر، أو دفع الطعام إلى طباخ أو شواي يطبخ، أو يشوي للآخر سواء شواي اللحم مشروحا أو غير مشروح، حتى اختلف أصحابه، هل يقع بالمعاطاة مثل أن تقول: اخلعني بهذه الألف، أو بهذا الثوب، فيقبض العوض على الوجه المعتاد أنه رضي بالمعاوضة ؟ فذهب العكبريون كأبي حفص، وأبي علي بن شهاب إلى أن ذلك خلع صحيح وذكروا من كلام أحمد ومن كلام غيره من السلف من الصحابة والتابعين ما يوافق قولهم، ولعله هو الغالب على نصوصه، بل قد نص على أن الطلاق يقع بالفعل والقول، واحتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبي ﷺ: { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به }، قال: وإذا كتب فقد عمل، وذهب البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت، كابن حامد ومن اتبعهم، كالقاضي أبي يعلى ومن سلك سبيله: أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام، وذكروا من كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك بناء على أن الفرقة فسخ النكاح، والنكاح يفتقر إلى لفظ، فكذلك فسخه، وأما النكاح فقال هؤلاء: ابن حامد، والقاضي، وأصحابه مثل: أبي الخطاب، وعامة المتأخرين: أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج، كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكتابة ; لأنها تفتقر إلى نية، والشهادة شرط في صحة النكاح، والشهادة على النية غير ممكنة، ومنعوا من انعقاده بلفظ الهبة والعطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك، وقال أكثر هؤلاء أيضا: إنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها، فإن لم يحسنها ولم يقدر على تعليمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان، وإن قدر على تعلمها ففيه وجهان، بناء على أنه مختص بهذين اللفظين، وأن فيه شوب التعبد، وهذا مع أنه ليس منصوصا عن أحمد فهو مخالف لأصوله، ولم ينص أحمد على ذلك، ولا نقلوا عنه نصا في ذلك، وإنما نقلوا قوله في رواية أبي الحارث: إذا وهب لرجل فليس بنكاح، فإن الله قال: { خالصة لك من دون المؤمنين }، وهذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي ﷺ وهو النكاح بغير مهر، بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك أو صداقك عتقك، أو بقوله: جعلت عتقك صداقك ذكر ذلك في غير موضع من جواباته، فاختلف أصحابه، فأما ابن حامد فطرد قياسه وقال: لا بد مع ذلك من أن يقول وتزوجتها أو نكحتها ; لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين اللفظتين، وأما القاضي أبو يعلى وغيره فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه ابن حامد، وأن تلك من صورة الاستحسان، وذكر ابن عقيل قولا في المذهب أنه ينعقد بعين لفظ الإنكاح والتزويج لنص أحمد، هذا وهذا أشبه بنصوص أحمد وأصوله، ومذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه، فإن أصحاب مالك اختلفوا: هل ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج على قولين، والمنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به النبي ﷺ من هبة البضع بغير مهر "، قال ابن القاسم وإن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك، وهو عندي جائز، وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما، فإن الحكم مبني على مقدمتين: أحدهما: إنما نسمي ذلك كناية، وأن الكناية تفتقر إلى النية، ومذهبهما المشهوران دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة ويقوم مقام إظهار النية، ولهذا جعل الكنايات في الطلاق والقذف ونحوهما مع دلالة الحال كالصريح، ومعلوم أن دلالات الأحوال في النكاح من اجتماع الناس لذلك، والتحدث بما اجتمعوا، فإذا قال بعد ذلك: ملكتكها بألف درهم، علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الإنكاح، وقد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده أملاكا وملاكا، ولهذا روى الناس قول النبي ﷺ لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتما من حديد تارة: { بأنكحتكها بما معك من القرآن }، وتارة: " ملكتكها "، وإن كان النبي ﷺ يثبت أنه اقتصر على ملكتكها، بل إما قالهما جميعا أو قال أحدهما، لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء، رووا الحديث تارة هكذا وتارة هكذا، ثم تعين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن أصول أحمد ونصوصه وعن أصول الأدلة الشرعية، إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم، وهو إن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة، ومعلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربي ولا عجمي، وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعين لفظ عربي بالإجماع، ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهم من اللغة التي اعتادها، نعم لو قيل: يكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة، لكن متوجها كما قد روي عن مالك أحمد والشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة، وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع، وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد كالقاضي وابن عقيل والمتأخرين، أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم كما اعتقدوه نكاحا بينهم، جاز إقرارهم عليه إذا تسلموا أو تحاكموا إلينا، إذا لم يكن حينئذ مشتملا على مانع، وإن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يجز الإقرار عليه، حتى قالوا: لو قهر حربي حربية فوطئها أو طاوعته واعتقداه نكاحا أقرا عليه وإلا فلا، ومعلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر، إنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح أن يميز عن السفاح، كما قال: { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان }، فأمر بالوالي والشهود ونحو ذلك مبالغة في تميزه عن السفاح وصيانة النساء عن التشبه بالبغايا، حتى شرع الصوت بالدف والوليمة الموجبة لشهرته، ولهذا جاء في الأثر: { المرأة لا تزوج نفسها، فإن البغي هي التي تزوج نفسها }، وأمر فيه بالإشهاد أو بالإعلان أو بهما جميعا ثلاثة أقوال: هي ثلاث روايات في مذهب أحمد، ومن اقتصر على الإشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن السفاح، وبأنه يحفظ النسب عن التجاحد، فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع في الكتاب والآثار حكمها بينه، فأما التزام لفظ خاص فليس فيه أثر ولا تعلق، وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي تعرفها القلوب، وذلك أن الله سبحانه قال: { فانكحوا ما طاب لكم من النساء }، وقال: { وأنكحوا الأيامى منكم }، وقال: { وأحل الله البيع }، وقال: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه }، وقال: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }، وقال: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }، وقال: { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إلى قوله: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم } إلى قوله: { فرهان مقبوضة }، وقال: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا }، وقال: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل }، وقال: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات }، وقال: { إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا }، وقال: { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا }، وقال: { فأمسكوهن بمعروف } إلى نحو ذلك من الآيات المشروع فيها العقود، إما أمر وإما إباحة، والمنهي فيها عن بعضها كالزنا فإن الدلالة فيها من وجوه: أحدها: أنه بالتراضي في البيع في قوله: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }، وبطيب النفس في التبرع في قوله: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } فتلك الآية في جنس المعاوضات وهذه من جنس التبرعات، ولم يشترط لفظا معينا، ولا فعلا معينا يدل على التراضي وعلى طيب النفس، ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس، والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وظاهر في بعضها، وإذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن، وبعض الناس قد يحمله الكذب في نصرة قول معين، على أن يجحد ما يعلم الناس من التراضي وطيب النفس، فلا عبرة بجحد مثل هذا، فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن موطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب، فالعبرة بلفظته التي لم يعارضها ما يغيرها، ولهذا قلنا: إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم بحيث لا يتواطأ على الكذب ; لأن الفطرة لا تتفق، فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد تتفق جماعات على الكذب، الوجه الثاني: أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله معلقا بها أحكام شرعية، وكل اسم فلا بد له من حد، فمنه ما يعلم حده باللغة، كالشمس، والقمر، والبحر، والبر، والسماء، والأرض، ومنه ما يعلم بالشرع، كالمؤمن، والكافر، والمنافق، وكالصلاة، والزكاة، والحج، وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس، كالقبض المذكور في قوله ﷺ: { من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه }، ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحو ذلك لم يحد الشارع له حدا لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، بل ولا ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صيغة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ، بل قد قيل إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم، وأنه من البدع، وليس لذلك حد في اللغة بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا، ولا يسمون هذا بيعا، حتى يدخل أحدهما في خطاب الله فلا يدخل الآخر، بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعا، والأصل بقاء اللغة وتقديرها لا نقلها وتغييرها، فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة المرجوع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعا فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة، الوجه الثالث: أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فاستقراء أصول الشريعة أن العبادات التي أوجبها الله أو أباحها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله ورسوله، وذلك ; لأن الأمر والنهي مما شرع الله تعالى، والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور كيف يحكم عليه بأنه عبادة ؟ وما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور ؟ ولهذا كان أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }، والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله: { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا }، ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون، وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون }، وقالوا: { هذه أنعام وحرث حجر }، فذكر ما ابتدعوه من العبادات ومن التحريمات، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن النبي ﷺ قال: { قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا }، وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها، هي من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم، كالأكل، والشرب، واللباس، فالشريعة جاءت في العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت منها ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها، وإذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويتاجرون كيف شاءوا ما لم تحرمه الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرمه الشريعة، وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها، ولم تحد الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي، وأما السنة والإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين من أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات، علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين، والآثار بذلك كثيرة ليس هذا موضعها، إذ الغرض التنبيه على القواعد، وإلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا، فمن ذلك أن رسول الله ﷺ بنى مسجده، والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته، ولم يؤمر أحد أن يقول وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ، بل قال النبي ﷺ: { من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة }، فعلق الحكم بنفس بنائه، وفي الصحيحين { أنه لما اشترى الجمل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: هو لك يا عبد الله بن عمر }، ولم يصدر من ابن عمر لفظ قبول، وكان يهدي ويهدى له، فيكون قبض الهدية قبولها، ولما نحر البدنات قال: " من شاء اقتطع "، مع إمكان قسمتها فكان هذا إيجابا، وكان الاقتطاع هو القبول، وكان يسأل فيعطي، أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطى، ويكون الإعطاء هو الإيجاب، والأخذ هو القبول في قضايا كثيرة جدا، ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ، ولا يلتزم أن يتلفظ لهم كما في إعطائه للمؤلفة وللعاملين وغيرهم، وجعل إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من المدلسات، وأيضا فإن التصرفات جنسان، عقود وقبوض، كما جمعهما النبي ﷺ في قوله: { رحم الله عبدا كان سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى }، وتقول الناس البيع والشراء والأخذ والعطاء، والمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء، فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض أو جوازه بمنزلة إيجاب الشارع، ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود، بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد، ويتعلق به أحكام شرعية كما يتعلق بالعقد، فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحوال والأوقات، فكذلك العقود وإن حررت عبارته قلت أحد نوعي التصرفات، فكان المرجع فيه إلى عادة الناس كالنوع الآخر، ومما يلتحق بهذا أن الإذن العرفي في الاستباحة، أو التملك أو التصرف بطريق الوكالة، كالإذن اللفظي، وكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قول وفعل، والعلم برضى المستحق يقوم مقام إظهاره الترضي، وعلى هذا يخرج مبايعة النبي ﷺ عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان، وكان غائبا، وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة، ومنزل جابر بدون استئذانهما، لعلمه أنهما راضيان بذلك، ولما دعاه ﷺ اللحام سادس ستة تبعهم رجل فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي، وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصري أن أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه، قال: " ذكرتموني أخلاق قوم قد مضوا "، وكذلك معنى قول أبي جعفر إن الإخوان من يدخل أحدهم يده إلى جيب صاحبه فيأخذ منه ما شاء، ومن ذلك { قوله ﷺ لمن استوهبه كبة شعر: أما ما كان إعطاؤه لي ولبني عبد المطلب فقد وهبته لك }، وكذلك المؤلفة عند من يقول إنه أعطاهم من أربعة الأخماس، وعلى هذا خرج الإمام أحمد بيع حكيم بن حزام وعروة بن الجعد، لما وكله النبي ﷺ في شراء شاة بدينار فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار، فإن التصرف بغير استئذان خاص تارة بالمعاوضة، وتارة بالتبرع، وتارة بالانتفاع مأخذه إما إذن عرفي عام أو خاص .

وأيضا فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجداد، وفيه روايتان عن أحمد، إحداهما: يجوز كقول مالك وحديث جابر في الصحيح يدل عليه، وأيضا فقد دل الكتاب في قوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة }، والسنة في حديث بروع بنت واشق، وإجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق، وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم، وإذا مات عند فقهاء الحديث وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع، وهو أحد قولي الشافعي: ومعلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود، فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه، وكما رواه أحمد في المسند، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ: { نهى عن استئجار الأجير حتى يتبين له أجره، وعن اللمس والنجش وإلقاء الحجر }، فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر، وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبين الأجر، فدل على الفرق بينهما وسببه أن المعقود عليه في النكاح وهو منافع البضع غير محدود، بل المرجع فيها إلى العرف فكذلك عوضه الأجر، ولأن المهر فيه ليس هو المقصود، وإنما هو نخلة تابعة فأشبه الثمر

التابع للشجر في البيع قبل بدو الصلاح، وكذلك { لما قدم وفد هوازن على النبي ﷺ فخيرهم بين السبي وبين المال، فاختاروا السبي، وقال لهم: إني قائم فخاطب الناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله على المسلمين، ونستشفع بالمسلمين على رسول الله، وقام فخطب الناس: فقال: إني قد رددت على هؤلاء سبيهم فمن شاء طيب ذلك ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفي الله علينا } فهذا معاوضة عن الإعتاق، كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة إلى أجل متفاوت غير محدود، وقد روى البخاري عن ابن عمر ; في حديث حنين { أن النبي ﷺ قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وعاملهم على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يخلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله ﷺ الصفراء والبيضاء والحلقة هي السلاح، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد } فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم، { وعن ابن عباس قال: صالح رسول الله ﷺ أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من السلاح يغزون بها، والمسلمون صامتون لها حتى يردوها عليهم }، رواه أبو داود، فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس غير موصوفة بصفات السلم، وكذلك كل عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط، قد يكون وقد لا يكون، فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص، والجزية والصلح مع أهل الحرب، ليس يجب أن يعلم كما يعلم الثمن والأجرة، ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر ; لأن الأموال إما أن لا تجب في هذه العقود، أو ليست هي المقصود الأعظم فيها، وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده .

فصل ومما تمس الحاجة إليه من فروع هذه القاعدة، ومن مسائل بيع الثمر قبل بدو صلاحه ما قد عم به البلوى في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها، لا سيما دمشق، وذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس، وأرض تصلح للزرع، وربما اشتملت على مساكن فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزرعها أو يسكنها مع ذلك، فهذا إذا كان فيها أرض وغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين والشافعي وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه، والقول الثاني: يجوز إذا كافي الشجر قليلا فكان البياض الثلثين أو أكثر، وكذلك إذا استكرى دارا فيها نخلات قليلة، أو شجرات عنب، ونحو ذلك، وهذا قول مالك وعن أحمد كالقولين فإن الكرماني قال لأحمد: الرجل يستأجر الأرض وفيها نخلات، قال: أخاف أن يكون استأجر شجرا لم يثمر، وكأنه لم يعجبه أظنه إذا أراد الشجر، فلم أفهم عنه أكثر من هذا، وقد تقدم فيها إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكثر هو غير الجنس، كشاة ذات صوف أو لبن بصوف أو لبن روايتان وأكثر أصوله على الجواز كقول مالك، فإنه يقول: إذا ابتاع عبدا وله مال وكان مقصوده العبد جاز، وإن كان المال مجهولا أو من جنس الثمن، ولأنه يقول إذا ابتاع أرضا أو شجرا فيها ثمر أو زرع لم يدرك يجوز إذا كان مقصوده الأرض والشجر، وهذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة، فإن ابتياع الأرض، واشتراء النخيل ودخول الثمرة التي لم تؤمن العاهة في البيع تبعا للأصل بمنزلة دخول تمر النخلات والعنب في الإجارة تبعا، وحجة الفريقين في المنع ما ثبت، عن النبي ﷺ من { نهيه عن بيع اللبن وبيع الثمر حتى يبدو صلاحه }، كما خرجا في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ { نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع }، وفيها، عن جابر بن عبد الله، قال: { نهى رسول الله ﷺ أن تباع الثمرة حتى تشقح، قيل: وما تشقح ؟ قال: تحمر أو تصفر ويؤكل منها } وفي رواية لمسلم أن هذا التفسير كلام سعيد بن ميناء المحدث عن جابر وفي الصحيحين عن جابر { نهى النبي ﷺ عن المحاقلة والمزابنة والمعاوضة والمخابرة }، وفي رواية لهما { وعن بيع السنين } بدل المعاوضة، وفيها أيضا عن زيد بن أبي أنيسة، عن عطاء،

عن جابر: { أن رسول الله ﷺ نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة، وأن يشتري النخل حتى يشقح }، والإشقاح أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء، والمحاقلة أن يبيع الحقل بكيل من الطعام معلوم، والمزابنة أن يباع للنخل بأوساق من الثمر، والمخابرة الثلث أو الربع وأشباه ذلك، قال زيد: قلت: لعطاء أسمعت جابرا يذكرها عن النبي ﷺ ؟ قال: نعم، وفيها عن أبي البختري سألت ابن عباس عن بيع النخل، فقال: { نهى رسول الله ﷺ عن بيع النخل حتى يؤكل منه أو يؤكل منه، وحتى يوزن }، فقلت: ما يوزن، فقال رجل عنده: حتى تحرز، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: { لا تتبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تتبايعوا التمر بالتمر )

فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة كما تقدم، فلا يجوز إلحاقها بها فتبقى على الأصل المبيح، فحرف المسألة أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة، فإن أراد الخاصة لم يصح، وإن أراد العامة فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم، فإن ذكر قياسا بين له الفرق الذي لا يخفى على غير فقيه فضلا عن الفقيه، وأن يجد إلى أمر يشمل مثل هذه الإجارة سبيلا فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحل، وسلك من هذا في طريقة أخرى وهو قياس العكس، وهو أن يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل، لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل، فيقال المعنى الموجب لكون الأجرة تجب أن تكون معلومة منتف في باب المزارعة ونحوها ; لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر فيكون في معنى بيع الغرر المقتضي أكل المال بالباطل، أو ما يذكر من هذا الجنس، وهذه المعاني منفية في الفرع، فإذا لم يكن للتحريم موجب إلا كذا وهو منتف فلا تحريم، وأما الأحاديث: حديث رافع بن خديج، وغيره فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبي ﷺ أنه لم يكن عما فعل هو وأصحابه في عهده وبعده، بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه، فعن رافع بن خديج، قال: { كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض، قال: فيما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما يصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ }، رواه البخاري، وفي رواية له قال: { كنا أكثر أهل المدينة حقلا، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي وهذه لك، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهاهم النبي ﷺ وفي رواية له فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الزرع }، وفي صحيح مسلم عن رافع قال: كنا أكثر أهل الأمصار حقلا، وكنا نكري الأرض، على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك، وأما الورق فلم ينهنا، وفي مسلم أيضا، عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق ؟، قال: فلا بأس به، إنما كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله ﷺ بما على الماذيانات وإقبال الجداول وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به، فهذا رافع بن خديج الذي عليه مدار الحديث يذكر أنه لم يكن لهم على عهد النبي ﷺ كراء إلا بزرع مكان معين من الحقل، وهذا النوع حرام عند الفقهاء قاطبة وحرموا نظيره في المضاربة، فلو اشترط رب ثوب بعينه لم يجز، وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات وذلك أن الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين، فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم فحرمها الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله محرما على عباده، فإذا كان أحد المتبايعين إذا ملك الثمن وبقي الآخر تحت الخطر، ولذلك حرم النبي ﷺ بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فكذلك هذا إذا اشترط لأحد الشريكين مكانا معينا خرجا عن موجب الشركة، فإن الشركة تقتضي الاشتراك في النماء، فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب، ودخله الخطر ومعنى القمار كما ذكره رافع رضي الله عنه في قوله، ربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فيفوز أحدهما ويخيب الآخر، وهو معنى القمار، وأخبر رافع أنه لم يكن له كراء على عهد رسول الله ﷺ إلا هذا، وأنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من المخاطرة ومعنى القمار، وأن النهي انصرف إلى ذلك الكراء المعهود، لا إلى ما تكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة، وسأشير إن شاء الله تعالى إلى مثل ذلك في نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، ورافع أعلم بنهي النبي ﷺ عن أي شيء وقع، وهذا والله أعلم هو الذي نهى عنه عبد الله بن عمر، فإنه قال لما حدثه رافع قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وشيء من التبن، فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين، وكان ابن عمر يفعله ; لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبي ﷺ حتى بلغه النهي، يدل على ذلك أن ابن عمر، كان يروي حديث معاملة خيبر دائما ويفتي به، ويفتي بالمزارعة على الأرض البيضاء، وأهل بيته أيضا بعد حديث رافع، فروى حرب الكرماني، حدثنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت كليب بن وائل، قال: أتيت ابن عمر، فقلت: أتاني رجل له أرض وماء، وليس له بذر ولا بقر، فأخذتها بالنصف، فبذرت فيها بذري وعملت فيها ببقري فناصفته، قال حسن، قال: وحدثنا ابن أخي حزم، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا سعيد بن عبيد سمعت سالم بن عبد الله وأتاه رجل، فقال الرجل: منا ينطلق إلى الرجل فيقول: أجيء ببذري وبقري وأعمل أرضك فما أخرج الله منه فلك منه كذا ولي منه كذا، قال: لا بأس به ونحن نضيقه، وهكذا أخبر أقارب رافع، ففي البخاري، عن رافع قال: حدثني عمومتي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله ﷺ بما ينبت على الأربعاء، وشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهانا النبي ﷺ عن ذلك، فقيل: لرافع فكيف بالدينار والدرهم، فقال: ليس به بأس بالدينار والدرهم، وكان الذي نهى عنه، وذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزئ، لما فيه من المخاطرة، وعن أسيد بن ظهير قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث أو الربع أو النصف، ويشترط ثلاث جداول، والقصارة، وما سقى الربيع، وكان العيش إذ ذاك شديدا وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء الله ويصيب منها منفعة، فأتانا رافع بن خديج، فقال: إن رسول الله ﷺ ينهاكم عن الحقل، ويقول: { من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه، أو ليدع } رواه أحمد وابن ماجه، وروى أبو داود قول النبي ﷺ زاد أحمد { وينهاكم عن المزابنة } . والمزابنة: أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل فيأتيه الرجل فيقول أخذته بكذا وكذا وسقا من تمر، والقصارة: ما سقط من السنبل، وهكذا أخبر سعد بن أبي وقاص وجابر فأخبر سعد أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله ﷺ، كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع وما يتغذى بالماء مما حول البئر، فجاءوا رسول الله ﷺ فاختصموا في ذلك، فنهاهم أن يكروا بذلك، وقال { اكروا بالذهب والفضة } رواه أحمد وأبو داود والنسائي، فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة، وأن النهي إنما كان عن اشتراط زرع مكان معين، وعن جابر، قال: كنا نخابر على عهد رسول الله ﷺ فنصيب من القصارة ومن كذا، فقال رسول الله ﷺ: { من كانت له أرض فليزرعها أو فليمنحها أخاه وإلا فليدعها } رواه مسلم، فهؤلاء أصحاب النبي ﷺ الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها، والعلة التي نهى من أجلها، وإذا كان قد جاء في بعض طرق الحديث أنه نهى عن كراء المزارع، فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه، وهو أعلم بمقصوده، وكما جاء مفسرا عنه أنه رخص غير ذلك الكراء ومما يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة ونحوها، واللفظ وإن كان في المزابنة مطلقا فإنه إذا كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال أو عقب حكاية حال ونحو ذلك، فإن كثيرا ما يكون مقيلا بمثل حال المخاطب، كما لو قال المريض للطبيب: إن به حرارة فقال: لا تأكل الدسم، فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال، وذلك أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمى معهود أو حال تقتضيه انصرف إليه، وإن كان يكره كالمتبايعين إذا قال أحدهما بعتك عشرة دراهم فإنها مطلقة في اللفظ، ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم، فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ الكراء إلا لذلك الذي كانوا يفعلونه، ثم خوطبوا به لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه، وكان ذلك من باب التخصيص العرفي، كلفظ الدابة إذا كان معروفا بينهم أنه الفرس أو ذوات الحافر فقال: لا يأتي بدابة لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك، ونهي النبي ﷺ لهم كان مقيدا بالعرف وبالسؤال، فقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج عن ظهير بن رافع، قال: دعاني رسول الله ﷺ فقال : ما تصنعون بمحاقلكم، قلت: نؤاجرها على الربع، وعلى الأوسق من التمر والشعير، فقال: لا تفعلوا ازرعوها أو امسكوها }، فقد خرج بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه، وأما المزارعة المحضة فلم يتناولها النهي ولا ذكرها رافع وغيره فيما يجوز من الكراء ; لأنها والله أعلم عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد، فإن الكراء اسم لما وجبت فيه أجرة معلومة إما عين وإما دين، فإن كان دينا في الذمة مضمونا فهو جائز وكذلك إن كان عينا من غير الزرع، أما إن كان عينا من الزرع لم يجز، فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق، بل هو شركة محضة إذ ليس جعل العامل مكتريا لأرض بجزء من الزرع بأولى من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر، وإن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا، فإنما هو كراء بالمعنى العام الذي تقدم مثاله، فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره فلا، ولهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز وبين الكراء الآخر الذي نهو عنه، ولم يتعرض للشركة ; لأنها جنس آخر، بقي أن يقال قول النبي ﷺ: { من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليمسكها } أمر إذا لم يفعل واحدا من الزرع والمنيحة أن يمسكها، وذلك يقتضي المنع من المؤاجرة ومن المزارعة كما تقدم، فيقال الأمر بهذا أمر ندب واستحباب لا أمر إيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد، وهذا كما أنه ﷺ لما نهاهم عن لحوم الحمر فقال أهريقوا ما فيها وأكثرها وقال ﷺ في آنية أهل الكتاب الذين سأله عنهم أبو ثعلبة: { إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فأرخصوها بالماء }، وذلك ; لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدا إلا بترك ما يقاربها من المباح، كما قيل لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال، كما أنها أحيانا لا تترك المعصية إلا بتدريج لا بتركها جملة، فهذا يقع تارة وهذا يقع تارة، ولهذا يوجد في سنة النبي ﷺ لمن خشي منه النفرة عن الطاعة الرخصة في أشياء يستغني بها عن المحرم، ولمن وثق بإيمانه وصبره النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل، ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه وصبره من فعل المستحبات البدنية والمالية كالخروج عن جميع ماله مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ما لا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك، كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب فحدفه فلو أصابته لأوجعته، ثم قال: " { يذهب أحدكم فيخرج ماله ثم يجلس كلا على الناس }، يدل على ذلك ما قدمنا من رواية مسلم الصحيحة، عن ثابت بن الضحاك، { أن النبي ﷺ نهى، عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة، وقال: لا بأس بها }، وما ذكرناه من رواية سعد أنه نهاهم أن يكروا بزرع موضع معين، وقال: اكروا بالذهب والفضة وكذلك فهمته الصحابة رضي الله عنهم، فإن رافع بن خديج قد روى ذلك، وأخبر أنه لا بأس بكرائها بالفضة والذهب، وكذلك فقهاء الصحابة كزيد بن ثابت وابن عباس، ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي ﷺ نهى عنه، قال ابن عمرو: إني أعطيهم وأعينهم وأنا أعلمهم، أخبرني يعني ابن عباس { أن النبي ﷺ لم ينه عنه، ولكن قال: إن منح أحدهم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما }، وعن ابن عباس أيضا أن رسول الله ﷺ لم يحرم المزارعة، ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض، رواه مسلم مجملا، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، فقد أخبر طاوس عن ابن عباس أن النبي ﷺ أمر بالرفق الذي منه واجب وهو ترك الربا والغرر ومنه مستحب كالعارية والقرض، ولهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الاختبار كان المسلم أحق، فقال: { لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما }، وقال: { من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو ليمسكها }، فكان الأخ هو الممنوح، ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي ﷺ ولم يمنحهم، لا سيما والتبرع إنما يكون عن فضل غنى، فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب لها المنيحة، كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر، وكما كان الأنصار محتاجين إلى أرضهم حيث عاملوا عليها المهاجرين، وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة، كما نهاهم النبي ﷺ عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الرأفة التي وجبت عليهم ليطعموا الجياع ; لأن إطعامهم واجب، فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض وأصحابها أغنياء نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ولم يأمرهم بالتبرع عينا كما نهاهم عن الادخار، فإن من نهى عن الانتفاع بماله جاد ببذله إذ لا يترك كذا، وقد ينهى النبي ﷺ بل الله عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال، لما في ذلك من منفعة المنهي كما نهاهم في بعض المغازي، وأما ما رواه جابر، من نهيه ﷺ عن المخابرة، فهذه هي المخابرة التي نهى عنها، واللام لتعريف العهد ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك، بين ذلك ما في الصحيح عن ابن عمر قال: كنا لا نرى بالخبرة بأسا حتى كان عام أول، فزعم رافع أن نبي الله ﷺ نهى عنه فتركناه من أجله، فأخبر ابن عمر أن رافعا روى النهي عن الخبرة وقد تقدم معنى حديث رافع، قال أبو عبيد: الخبرة بكسر الخاء والمخابرة، والمزارعة بالنصف، أو الثلث والربع، وأقل وأكثر، وكان أبو عبيد يقول لهذا سمي الأكار خبيرا ; لأنه يخابر الأرض، المخابرة هي المؤاكرة، وقد قال بعضهم: أصل هذا من خيبر ; لأن رسول الله أقرها في أيديهم على النصف، فقيل خابرهم أي عاملهم في خيبر، وليس هذا بشيء فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط بل فعلها الصحابة في حياته وبعد موته، وإنما روى حديث المخابرة رافع، وجابر، وقد فسرا ما كانوا يفعلونه، والخبير هو الفلاح سمي بذلك ; لأنه يخبر الأرض، وقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة، فقالوا: المخابرة هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل، والمزارعة على أن يكون البذر من المالك، قالوا: والنبي ﷺ نهى عن المخابرة لا المزارعة، وهذا أيضا ضعيف فإنا قد ذكرنا عن النبي ﷺ ما في الصحيح أنه نهى عن المزارعة، كما نهى عن المخابرة، وكما نهى عن كراء الأرض، وهذه الألفاظ في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه، وإنما اختصت مما يفعلونه لأجل التخصيص العرفي لفظا وفعلا، ولأجل القرينة اللفظية وهي لام العهد، وسؤال السائل وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة هي المزارعة والاشتقاق يدل على ذلك .

ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والبعض منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع كما سأذكره إن شاء الله، فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير، اتباعا لحديث جابر لما باع النبي ﷺ جمله واستثنى ظهره إلى المدينة، ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة، واشترطت عليه خدمة النبي ﷺ ما عاش، وجوز على عامة أقواله أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها، كما في حديث صفية وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة، كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع لكنه استثناها بالنكاح، إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز بخلاف منفعة الخدمة، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره، فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره، وإلى هذا المعنى أشار النبي ﷺ في قوله: { إنما الولاء لمن أعتق }، وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها ; لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه، فهذا هذا مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي لم يرد إلا المعنى الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله، والتحذير من اشتراط شيء لم يبحه الله أو من اشتراط ما ينافي كتاب الله، بدليل قوله: { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق }، وإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط وصحتها أصلان: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرم، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم، أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون، وعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان أهل ذلك، فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله، وحرمه الله ورسوله مغيرا لهذا الاستصحاب، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك، وأما إذا كان المدرك هو منصوص العامة فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة، هل هي من المستخرج أو المستبقى، وهذا أيضا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف بين العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينة منه ; هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وذكروا عن أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانهم ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم، وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه، فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات التي بعد البحث عن المعارض سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل، ولا العلة من أصحابنا وغيرهم، أو جعل المعارض المانع من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر، لكن القرينة مانعة لدلالته، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي، أو إطلاق لفظي، أو اصطلاح حري لا يرجع لأمر فقهي أو علمي، فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم، والحجج الخاصة في ذلك النوع فهي بأصول الفقه التي هي الأدلة العامة أشبه منها بقواعد الفقه التي هي الأحكام العامة، نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية، أو حادثة انتفع بهذه القاعدة، فيذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة، من ذلك ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا عن ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع، أو تبرع، كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها، فإن كان مما لا يصح فيه الغرر كالبيع فلا بد أن يكون المستثنى معلوما، لما روى جابر، وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش عبده أو عاش فلان، أو يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف، ومن ذلك أن البائع إذا اشترط على المشتري أن يعتق العبد صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، لحديث بريرة وإن كان عنهما قول بخلافه، ثم هل يصير العتق واجبا على المشتري، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع، على وجهين في مذهبهما، ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس، لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضى العقد، فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا، قالوا: وإنما جوزته السنة ; لأن للشارع إلى العتق تشوقا لا يوجد في غيره، وكذلك أوجب فيه السراية مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره، وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره، قال أحمد بن القاسم، قيل لأحمد الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها، فأجازه، قيل له: فإن هؤلاء يعني أصحاب أبي حنيفة يقولون لا يجوز البيع على هذا الشرط، قال: لم لا يجوز، قد اشترى النبي ﷺ بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة، واشترت عائشة بريرة على أنها تعتقها، فلم لا يجوز هذا، قال: وإنما هذا شرط واحد، والنهي إنما هو عن شرطين، قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز، قال: لا يجوز، فقد نازع من منع منه واستدل على جوازه باشتراط النبي ﷺ ظهر بعير جابر، وحديث بريرة، وبأن النبي ﷺ إنما نهى عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع، وهو يقضي لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقض موجب العقد المطلق، فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقض في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره ولا استدل عليه بما يشمل له ولغيره، وكذلك قال أحمد بن الحسن بن حسان سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط هو حريته بعد موته، قال: هذا مدبر، فجوز اشتراط التدبير كالعتق، ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف، صحح الرافعي أنه لا يصح، ولذلك جوز اشتراط التسري فقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها، ولا تكون للخدمة، قال: لا بأس، فلما كان التسري لبائع الجارية فيه مقصود صحيح جوزه، وكذلك جوز أن يشترط على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول، كما روي عن عمر، وابن مسعود، وامرأته زينب، وجماع ذلك أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه، كما قال النبي ﷺ ; { من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع }، فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق وهو جائز بالإجماع، ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء، كما نهى النبي ﷺ عن الشياه إلا أن تعلم فدل على جوازها إذا علمت، وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة، وقد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر، مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها، أو الثياب أو العبيد أو الماشية التي قدر إياها إلا شيئا منها قد عيناه، واختلفوا في استثناء بعض المنفعة كسكن الدار شهرا أو استخدام العبيد شهرا، وركوب الدابة مدة معينة أو إلى بلدة معينة، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك ينفع إذا اشترى أمة مزوجة فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم يدخل في العقد، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة، ولكن هي اشترتها بشرط العتق فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق، والعتق لا ينافي نكاحها، فكذلك كان ابن عباس وهو ممن روى حديث بريرة يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }، قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فيباح له، ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج، واحتج بعض الفقهاء على ذلك بحديث بريرة، فلم يرض أحمد هذه الحجة ; لأن ابن عباس رواه وخالفه، وذلك والله أعلم لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا، ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك، وكان مالكا معصوم الملك لم يزل عنها ملك الزوج وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع، ومن حجتهم أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه، فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه، ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من ملك البائع والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه، بخلاف الماشية فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه، لكون أهل الحرب يباح دماؤهم وأموالهم، فكذلك ما ملكوه من الإبضاع .

المقدمة الثالثة: وفيها يظهر شر مسائل الأيمان ونحوها، أن صيغة التعليق التي تسمى صيغة الشرط وصيغة المجازاة تنقسم إلى ستة أنواع ; لأن الحالف إما أن يكون مقصوده وجود الشرط فقط أو وجود الجزاء فقط أو وجودهما، وإما أن لا يقصد واحد منهما بل يكون مقصوده عدم الشرط فقط أو الجزاء فقط أو عدمهما، فالأول: بمنزلة كثير من صور الخلع والكتابة ونذر التبرر والجعالة ونحوها، فإن الرجل إذا قال لامرأته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق أو فقد خالعتك، أو قال لعبده إن أديت ألفا فأنت حر، أو قال إن رددت عبدي الآبق فلك ألف، أو قال إن شفى الله مريضي أو سلم مالي الغائب فعلي عتق كذا والصدقة بكذا، فالمعلق قد لا يكون مقصوده إلا أخذ المال ورد العبد وسلامة العتق والمال وإنما التزم الجزاء على سبيل العوض كالبائع الذي كان مقصوده أخذ الثمن، والتزم رد المبيع على سبيل العوض، فهذا الضرب هو سببه بالمعاوضة في البيع والإجارة، وكذلك إذا كان قد جعل الطلاق عقوبة مثل أن يقول إذا ضربت أمتي فأنت طالق وإن خرجت من الدار فأنت طالق، فإنه في الخلع عوضها بالتطليق عن المال ; لأنها تزيل الطلاق وهنا عوضها عن معصيتها بالطلاق، وأما الثاني: قيل: أن يقول لامرأته إنه إذا ظهرت فأنت طالق، أو يقول لعبده إذا مت فأنت حر، أو إذا جاء رأس الحول فأنت حر أو فمالي صدقة ونحو ذلك من التعليق الذي هو توقيت محض، فهذا الضرب بمنزلة المنجز في أن كل واحد منهما قصد الطلاق والعتاق وإنما أخره إلى الوقت المعين، بمنزلة تأجيل الدين، وبمنزلة من يؤخر الطلاق من وقت إلى وقت لغرض له في التأخير لا لعوض ولا لحث على طلب أو خبر، ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا حلف أنه لا يحلف بالطلاق مثل أن يقول والله لا أحلف بطلاقك، أو إن حلفت بطلاقك فعبدي حر أو فأنت طالق فإنه إذا قال إن دخلت أو لم تدخلي ونحو ذلك مما فيه معنى الحض أو المنع فهو حالف ولو كان تعليقا محضا كقوله: إذا طلعت الشمس فأنت طالق وإن طلعت الشمس فاختلفوا فيه، فقال أصحاب الشافعي ليس بحالف وقال أصحاب أبي حنيفة والقاضي في الجامع هو حالف، وأما الثالث: وهو أن يكون مقصوده وجودهما جميعا، فمثل الذي قد آذته امرأته حتى أحب طلاقها واسترجاع الفدية منها، فيقول إن أبرأتني من صداقك أو من نفقتك فأنت طالق، وهو يريد كلا منهما، وأما الرابع: وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط، لكنه إذا وجد لم يكره الجزاء بل يحبه أو لا يحبه ولا يكرهه، فمثل أن يقول لامرأته إن زنيت فأنت طالق، وإن ضربت أمي فأنت طالق ونحو ذلك من التعليق الذي يقصد فيه عدم الشرط، ويقصد وجود الجزاء عند وجوده، بحيث تكون إذا زنت أو إذا ضربت أمه يجب فراقها ; لأنها لا تصلح له، فهذا فيه معنى اليمين ومعنى التوقيت فإنه منعها من الفعل وقصد إيقاع الطلاق عنده كما قصد إيقاعه عند أخذ العوض منها أو عند طهرها أو طلوع الهلال، وأما الخامس: وهو أن يكون مقصوده عدم الجزاء وتعليقه بالشرط، لئلا يوجد، وليس له غرض في عدم الشرط فهذا قليل كمن يقول إن أصبت مائة رمية أعطيتك كذا، وأما السادس: وهو أن يكون مقصوده عدمهما الشرط والجزاء، وإنما تعلق الجزاء بالشرط ليمتنع وجودهما، فهو مثل نذر اللجاج والغضب ومثل الحلف بالطلاق والعتاق على حض أو منع أو تصديق أو تكذيب، مثل أن يقال له تصدق فيقول إن أتصدق فعليه صيام كذا وكذا، أو فامرأته طالق، أو فعبيده أحرار، أو يقول إن لم أفعل كذا وكذا فعلي نذر كذا أو امرأتي طالق أو عبدي حر، أو يحلف على فعل غيره ممن يقصد منعه كعبده ونسيبه وصديقه ممن يحضه على طاعته، فيقول له: إن فعلت أو إن لم أفعل فعلي كذا أو فامرأتي طالق أو فعبدي حر ونحو ذلك، فهذا نذر اللجاج والغضب وهذا وما أشبهه من الحلف بالطلاق والعتاق بخلافه في المعنى نذر التبرر والتقرب وما أشبهه من الخلع والكتابة، فإن الذي يقول إن سلمني الله أو سلم مالي من كذا أو إن أعطاني الله كذا فعلي أن أتصدق أو أصوم أو أحج، قصده حصول الشرط الذي هو الغنيمة أو السلامة، وقصد أن يشكر الله على ذلك بما نذره له وكذلك المخالع والمكاتب قصده حصول العوض وبدل الطلاق والعتاق عوضا عن ذلك، وأما النذر في اللجاج والغضب إذا قيل له افعل كذا فامتنع من فعله، ثم قال إن فعلته فعلي الحج والصيام، فهنا مقصوده أن لا يكون الشرط ثم إنه لقوة امتناعه ألزم نفسه إن فعله بهذه الأمور الثقيلة عليه، ليكون إلزامها له إذا فعل مانعا له من الفعل، وكذلك إذا قال إن فعلته فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار، إنما مقصوده الامتناع والتزم بتقدير الفعل ما هو شديد عليه من فراق أهله وذهاب ماله، ليس غرض هذا أن يتقرب إلى الله بعتق أو صدقة ولا أن يفارق امرأته، ولهذا سمى العلماء هذا نذر اللجاج والغضب مأخوذ من قول النبي فيما أخرجاه في الصحيحين: { لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يأتي الكفارة التي فرض الله له }، فصورة هذا النذر صورة نذر التبرر في اللفظ، ومعناه شديد المباينة لمعناه، ومن هنا نشأت الشبهة التي سنذكرها في هذا الباب إن شاء الله تعالى على طائفة من العلماء، ويتبين فقه الصحابة رضي الله عنهم الذين نظروا إلى معاني الألفاظ لا إلى صورها إذا ثبتت هذه الأنواع الداخلة في قسم التعليق، فقد علمت أن بعضها معناه معنى اليمين بصيغة القسم وبعضها ليس معناه ذلك، فمتى كان الشرط المقصود حضا على فعل أو منعا منه أو تصديقا لخبر أو تكذيبا كان الشرط مقصود العدم وجزاؤه كنذر اللجاج والحلف بالطلاق على وجه اللجاج والغضب :

القاعدة الأولى: إن الحلف بالله سبحانه وتعالى قد بين الله تعالى حكمه بالكتاب والسنة والإجماع فقال تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }، وقال: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، وقال تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون }، وفي الصحيحين عن { عبد الله بن سمرة، أن النبي قال له: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك }، فبين له النبي حكم الأمانة الذي هو الإمارة، وحكم العهد الذي هو اليمين، وكانوا في أول الإسلام لا مخرج لهم من اليمين قبل أن تشرع الكفارة، ولهذا قالت عائشة: كان أبو بكر لا يحنث في يمين، حتى أنزل الله كفارة اليمين، وذلك ; لأن اليمين بالله عقد بالله فيجب الوفاء به، كما يجب بسائر العقود وأشد، قوله احلف بالله واقسم بالله ونحو ذلك في معنى قوله اعقد بالله، ولهذا عدي بحرف الإلصاق الذي يستعمل في الربط والعقد، فينعقد المحلوف عليه بالله، كما تنعقد إحدى اليدين بالأخرى في المعاقدة، ولهذا سماه الله عقدا في قوله: { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } فإذا كان قد عقدها بالله كان الحنث فيها نقضا لعهد الله وميثاقه لولا ما فرضه الله من التحلة، ولهذا سمى حلها حنثا والحنث هو الاسم في الأصل، فالحنث فيها سبب للإثم لولا الكفارة الماحية، فإنما الكفارة منعته أن يوجب إثما، ونظير الرخصة في كفارة اليمين بعد عقدها الرخصة أيضا في كفارة الظهار بعد أن كان الظهار في الجاهلية وأول الإسلام طلاقا، وكذلك الإيلاء كان عندهم طلاقا، فإن هذا جار على قاعدة وجوب الوفاء بمقتضى اليمين، فإن الإيلاء إذا وجب الوفاء بمقتضاه من ترك الوطء صار الوطء محرما، وتحريم الوطء تحريما مطلقا مستلزم لزوال الملك، فإن الزوجة لا تكون محرمة على الإطلاق، ولهذا قال سبحانه: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم، قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، والتحلة مصدر حللت الشيء أحله تحليلا وتحلة، كما يقال كرمته تكريما وتكرما، وهذا مصدر يسمى به المحلل نفسه الذي هو الكفارة، فإن أريد المصدر فالمعنى فرض الله لكم تحليل اليمين، وهو حلها الذي هو خلاف العقد، ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم، كأبي بكر عبد العزيز بهذه الآية على التكفير قبل الحنث ; لأن التحلة لا تكون بعد الحنث، فإنه بالحنث ينحل اليمين، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث، لينحل اليمين، وإنما هي بعد الحنث كفارة ; لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله، فإذا تبين أن ما اقتضت اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلا من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار التي نبه عليها بقوله: { ويضع عنهم إصرهم }، فالأفعال ثلاثة: إما طاعة، وإما معصية، وإما مباح، فإذا حلف ليفعلن مباحا أو ليتركنه فهنا الكفارة مشروعة بالإجماع، وكذلك إذا كان المحلوف عليه فعل مكروه أو ترك مستحب، وهو المذكور في قوله تعالى: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس }، وأما إن كان المحلوف عليه فعل واجب أو ترك محرم فها هنا لا يجوز الوفاء بالاتفاق، بل يجب التكفير عند عامة العلماء وقبل أن تشرع الكفارة كان الحالف على مثل هذا لا يحل له الوفاء بيمينه، ولا كفارة له ترفع عنه مقتضى الحنث، بل يكون عاصيا معصية لا كفارة فيها سواء وفى أو لم يف، كما لو نذر معصية عند من لم يجعل في نذره كفارة، وكما إن كان المحلف عليه فعل طاعة غير واجبة .

فصل فأما الحلف بالنذر الذي هو نذر اللجاج والغضب: مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي الحج أو فمالي صدقة، أو فعلي صيام، ويريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل، أو أن يقول إن لم أفعل كذا فعلي الحج ونحوه، فمذهب أكثر أهل العلم أنه يجزئه كفارة يمين من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة، وهو قول فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم، وهذا إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهو الرواية المتأخرة عنه، ثم اختلف هؤلاء فأكثرهم قالوا هو مخير بين الوفاء بنذره وبين كفارة يمين، وهذا قول الشافعي والمشهور عن أحمد، ومنهم من قال بل عليه الكفارة عينا كما يلزمه ذلك في اليمين بالله، وهو الراوية الأخرى عن أحمد، وقول بعض أصحاب الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة في الرواية الأخرى، وطائفة من يحب الوفاء بهذا النذر، وقد ذكروا أن الشافعي، سئل عن هذه المسألة بمصر، فأفتى بها بالكفارة، فقال له السائل: يا أبا عبد الله هذا قولك، قال: قول من هو خير مني عطاء بن أبي رباح وذكروا أن عبد الرحمن بن القاسم حنث ابنه في هذه اليمين فأفتاه بكفارة يمين بقول الليث بن سعد، وقال: إن عدت حلفت أفتيتك بقول مالك وهو الوفاء به، ولهذا تفرع أصحاب مالك مسائل هذه اليمين على النذر لعمومات الوفاء بالنذر، لقوله: { من نذر أن يطيع الله فليطعه }، ولأنه حكم جائز معلق بشرط، فوجب عند ثبوت شرطه كسائر الأحكام، والقول الأول هو الصحيح والدليل عليه مع ما سنذكره إن شاء الله من دلالة الكتاب والسنة ما اعتمده الإمام أحمد وغيره، قال أبو بكر الأثرم في مسائله: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل، قال ماله في رتاج الكعبة، قال: كفارة يمين، واحتج بحديث عائشة قال: وسمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يحلف بالمشي إلى بيت الله أو الصدقة بالملك، ونحو ذلك من الأيمان، فقال: إذا حنث فكفارة إلا أني لا أحمله على الحنث ما لم يحنث، قيل له: لا تفعل، قيل لأبي عبد الله: فإذا حنث كفر، قال: نعم، قيل له: أليس كفارة يمين، قال: نعم، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء، حين حلفت بكذا وكذا وكل مملوك لها حر، فأفتت بكفارة يمين، فاحتج بحديث ابن عمر، وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جارية وأيمان فقال أما الجارية فتعتق، وقال الأثرم: حدثنا الفضل بن دكين، ثنا حسن، عن ابن

أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة قالت: من قال مالي في ميراث الكعبة ; وكل مالي فهو هدي وكل مالي في المساكين فليكفر يمينه، وقال: حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا معمر بن سليمان، قال: قال أبي: حدثنا بكر بن عبد الله، أخبرني أبو رافع، قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر ; وكل مال لها هدي ; وهي يهودية، وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك ; أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب، قال: فأتيتها فجاءت معي إليها، فقالت: في البيت هاروت وماروت، وقالت: يا زينب جعلني الله فداءك، إنها قالت كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية فقالت يهودية ونصرانية حل بين الرجل وبين امرأته، فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها فقالت: يا أم المؤمنين، جعلني الله فداءك إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية، وهي نصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية حل بين الرجل وبين امرأته، قال: فأتيت عبد الله بن عمر فجاء معي إليها فقام على الباب فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أنت أم من أي شيء أنت أفتتك زينب، وأفتتك أم المؤمنين، فلم تقبلي فتياهما، قالت: يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية فقال: يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وامرأته . وعن أحمد قال: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا عمر بن قتادة، عن الحسن، وجابر بن زيد في الرجل يقول إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة قالا ليس الإحرام إلا على من نوى الحج يمين يكفرها، وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال يمين يكفرها .

 ======
11-


فإذا حلف الرجل بالنذر أو الطلاق أو بالتعلق، وأن لا يبر ولا يتقي ولا يصلح، فهو بين أمرين إن وفى بذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس، وإن حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور، فقد يكون خروج أهله وماله منه أبعد عن البر والتقوى من الأمر المحلوف عليه، فإن أقام على يمينه ترك البر والتقوى وإن خرج عن أهله وماله ترك البر والتقوى فصارت عرضة ليمينه أن يبر ويتقي فلا يخرج عن ذلك إلا بالكفارة، وهذا المعنى هو الذي دلت عليه السنة ففي الصحيحين من حديث همام قال: قال رسول الله: { لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه } رواه البخاري أيضا من حديث عكرمة عن أبي هريرة عن النبي: { من استنتج في أهله بيمين فهو أعظم إثما } فأخبر النبي أن اللجاج باليمين في أهل الحالف أعظم إثما من التكفير، واللجاج التمادي في الخصومة، ومنه قيل رجل لجوج إذا تمادى في الخصومة، ولهذا سمى العلماء هذا نذر اللجاج والغضب، فإنه يلج حتى يعقده ثم يلج في الامتناع من الحنث، فبين النبي أن اللجاج باليمين أعظم إثما من الكفارة وهذا عام في جميع الأيمان، وأيضا فإن النبي، قال لعبد الرحمن بن سمرة: { إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك } أخرجاه في الصحيحين، وفي رواية في الصحيحين: { فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير } روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير }، وفي رواية: { فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه }، وهذا نكرة في سياق الشرط فيعم كل حلف على يمين كائنا ما كان الحلف، فإذا رأى غير اليمين المحلوف عليها خيرا منها وهو أن يكون المحلوف عليها تركا لخير فيرى فعله خيرا من تركه، أو يكون فعلا لشر فيرى تركه خيرا من فعله فقد أمره النبي أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وقوله هنا على يمين هو والله أعلم من باب تسمية المفعول باسم المصدر، سمي الأمر المحلوف عليه يمينا كما يسمى المخلوق خلقا والمضروب ضربا والمبيع بيعا ونحو ذلك، وكذلك أخرجاه في الصحيحين عن { أبي موسى الأشعري في قصته، وقصة أصحابه به لما جاءوا إلى النبي ليستحملوه، فقال: والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه، ثم قال: إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير }، وروى مسلم في صحيحه، عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله: { إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير } وفي رواية لمسلم: { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليكفرها وليأت الذي هو خير }، وقد رويت هذه السنة عن النبي من غير هذه الوجوه، من حديث عبد الله بن عمر وعوف بن مالك الجشمي، فهذه نصوص رسول الله المتواترة، أنه أمر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير، ولم يفرق بين الحلف بالله أن النذر ونحوه، وروى النسائي عن أبي موسى قال: قال رسول الله: { ما على الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيته } وهذا صريح بأنه قصد تعميم كل يمين في الأرض، وكذلك الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر في هذا الكلام، فروى أبو داود في سننه، حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مال لي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله يقول: { لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك } "، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر يمينه، وأن لا يفعل ذلك المنذور، واحتج بما سمعه من النبي أنه قال: { لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم، وفيما لا يملك } "، ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر، وإنما عليه الكفارة كما أفتاه عمر، ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك، وإنما قال النبي: " لا يمين ولا نذر " لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع، والنذر ما قصد به التقرب، وكلاهما لا يوفي به المعصية والقطيعة، وفي هذا الحديث دلالة أخرى وهو أن قول النبي: { لا يمين ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم } يعلم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا، سواء كان اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدي، أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق، ومقصود النبي إما أن يكون نهيه عن فعل المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط، أو يكون مقصوده مع ذلك أنه لا يلزمه ما في اليمين والنذور من الإيجاب والتحريم، وهذا الثاني هو الظاهر لاستدلال عمر بن الخطاب به، فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة ; لأن لفظ النبي يعلم ذلك كله، وأيضا كما تبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق في اليمين والحلف في كلام الله تعالى وكلام رسوله ما روى ابن عمر قال: قال رسول الله: { من حلف يمينا وقال إن شاء الله فلا حنث عليه }، رواه أحمد، والنسائي، والترمذي، وقال: حديث حسن، وأبو داود ولفظه: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، يبلغ به النبي قال: { من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى }، رواه أيضا من طريق عبد الرزاق، عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله { من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث }، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: { من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث } رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه، ولفظه فله ثنيا والنسائي وقال: فقد استثنى، ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر وبالطلاق وبالعتاق في هذا الحديث، وقالوا ينفع الاستثناء بالمشيئة، بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه في مذهبه، وإنما الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجزاء، وإنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق والعتاق، والفرق بين إيقاعهما والحلف بهما ظاهر، وسنذكر إن شاء الله قاعدة الاستثناء، فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء في قوله: { من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه }، فكذلك يدخل في قوله: { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه }، فإن كلا اللفظين سواء وهذا واضح لمن تأمله، فإن قوله، من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه، لفظ العموم فيه مثله في قوله { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي خير وليكفر عن يمينه }، وإذا كان لفظ رسول الله في حكم الاستثناء هو لفظه في حكم الكفارة، وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الاستثناء ينفع فيه التكفير، وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الاستثناء، كما نص عليه أحمد في غير موضع، ومن قال إن رسول الله قصد بقوله من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه جميع الأيمان التي يحلف بها من اليمين بالله وبالنذر وبالطلاق وبالعتاق، وبقوله من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها إنما قصد به التمين بالله أو اليمين بالله والنذر فقوله ضعيف فإن موجب حضور أحد اللفظين بقلب النبي، مثل حضور موجب اللفظ الآخر، كلاهما لفظ واحد والحكم فيهما من جنس واحد وهو رفع اليمين إما بالاستثناء وإما بالتكفير، وبعد هذا فاعلم أن الأمة انقسمت في دخول الطلاق والعتاق في حديث الاستثناء على ثلاثة أقسام: فقوم قالوا: يدخل في ذلك الطلاق والعتاق أنفسهما حتى لو قال: أنت طالق إن شاء الله وأنت حر إن شاء الله، دخل ذلك في عموم الحديث، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وقوم قالوا: يدخل في ذلك الطلاق والعتاق لا إيقاعهما ولا الحلف بهما لا بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم، وهذا أشهر القولين في مذهب مالك في إحدى الروايتين عن أحمد، والقول الثالث: إن إيقاع الطلاق والعتاق لا يدخل في ذلك، بل يدخل فيه الحلف بالطلاق والعتاق ، وهذه الرواية الثانية عن أحمد ومن أصحابه من قال إن كان الحلف بصيغة القسم دخل في الحديث ونفعته المشيئة رواية واحدة، وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان، وهذا القول الثالث هو الصواب المأثور معناه عن أصحاب رسول الله، جمهور التابعين، كسعيد بن المسيب، والحسن لم يجعلوا في الطلاق استثناء، ولم يجعلوه من الأيمان، ثم ذكرناه عن الصحابة وجمهور التابعين أنهم جعلوا الحلف بالصدقة والهدي والعتاق ونحو ذلك يمينا مكفرة، وهذا قول أحمد في غير موضع الاستثناء في الطلاق والعتاق من الأيمان، وقال أيضا: الثنيا في الطلاق لا أقول به، وذلك أن الطلاق والعتاق جزما واقعان، وقال أيضا: إنما يكون الاستثناء فيما يكون فيه كفارة، والطلاق والعتاق لا يكفران، وهذا الذي قاله ظاهر، وذلك أن إيقاع الطلاق والعتاق ليس يمينا أصلا وإنما هو بمنزلة العفو عن القصاص والإبراء من الدين، ولهذا قال والله لا أحلف يمينا ثم أعتق عبدا له أو طلق امرأته أو أبرأ غريمه من دم أو مال أو عرض فإنه لا يحنث، ما علمت أحدا خالف في ذلك، فمن أدخل إيقاع الطلاق والعتاق في قول النبي: { من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث بعد }، حمل العام ما لا يحتمله، كما أن من أخرج من العام قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لأفعله إن شاء الله، أو إن فعلته فامرأتي طالق إن شاء الله، فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه، قال هذا يمين بالطلاق والعتاق، وهنا ينبغي تقليد أحمد بقوله الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان، فإن الحلف بهما كالحلف بالصدقة والحج ونحوهما، وذلك معلوم بالاضطرار عقلا وعرفا وشرعا، ولهذا لو قال: والله لا أحلف على يمين أبدا ثم قال إن فعلت كذا فامرأتي طالق حنث، وقد تقدم أن أصحاب رسول الله سموه يمينا، وكذلك الفقهاء كلهم سموه يمينا، وكذلك عامة المسلمين سموه يمينا، ومعنى اليمين موجود فيه، فإنه إذا قال أحلف بالله لأفعلن إن شاء الله فإن المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه، والمعنى إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله، فإذا لم يفعل لم يكن قد شاءه، فلا يكون ملتزما له، فلو نوى عوده إلى الحلف بأن يقصد أي الحالف إن شاء الله أن أكون حالفا كان معنى هذا مغاير الاستثناء في الإنشاءات كالطلاق وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك، وكذلك قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله، تعود المشيئة عند الإطلاق إلى الفعل، فالمعنى لأفعلنه إن شاء الله فعله، فمتى لم يفعله لم يكن الله قد شاءه فلا يكون ملتزما للطلاق، بخلاف ما لو عنى بالطلاق يلزمني إن شاء الله لزومه إياه فإن هذا بمنزلة قوله أنت طالق إن شاء الله، وقول أحمد إنما يكون الاستثناء فيما فيه حكم الكفارة والطلاق والعتاق لا يكفران، كلام حسن بليغ لما تقدم من أن النبي، أخرج حكم الاستثناء وحكم الكفارة مخرجا واحدا بصيغة الجزاء، وبصيغة واحدة، فلا يفرق بين ما جمعه النبي ﷺ إنما يقع لما علق به الفعل، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوهما لا تعلق على مشيئة الله تعالى بعد وجود أسبابها، فإنها واجبة بوجوب أسبابها، فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله، وإنما تعلق على الحوادث التي قد يشاءها الله وقد لا يشاءها من أفعال العباد ونحوها، والكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث في اليمين التي قد يحصل فيها الموافقة بالبر تارة والمخالفة بالحنث أخرى، ووجوب الكفارة بالحنث في اليمين التي تحتمل الموافقة والمخالفة، كارتفاع اليمين بالمشيئة التي تحتمل التعليق وعدم التعليق فكل من حلف على شيء ليفعلنه فلم يفعله فإنه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه، وإن لم يعلقه بالمشيئة لزمته بالكفارة، فالاستثناء والتكفير يتعاقبان اليمين إذا لم يحصل فيه الموافقة ; فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع في هذا الباب من الزيادة أو النقص، فهذا على ما أوجبه كلام رسول الله، ثم يقال بعد ذلك قول أحمد وغيره، الطلاق والعتاق لا يكفران كقول غيره لا استثناء فيهما، وهذا في إيقاع الطلاق والعتاق وأما الحلف بهما فليس تكفيرا لهما، وإنما هو تكفير للحلف بهما، كما أنه إذا حلف بالصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي ونحو ذلك في نذر اللجاج والغضب فإنه لم يكفر الصلاة والصيام والحج والهدي، وإنما يكفر الحلف بهم، وإلا فالصلاة لا كفارة فيها وكذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها، وكما أنه إذا قال إن فعلت كذا فعلي أن أعتق فإن عليه الكفارة بلا خلاف في مذهب أحمد، وموافقة من القائلين بنذر اللجاج والغضب وليس ذلك تكفيرا للعتق، وإنما هو تكفير للحلف به، فلازم قول أحمد هذا أنه إذا جعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كان الحلف بهما يصح فيه الكفارة وهذا موجب سنة رسول الله ﷺ كما قدمناه .

وأما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كأحد القولين في مذهب أحمد ومذهب مالك فهو قول مرجوح، ونحن في هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه، وسنتكلم إن شاء الله في مسألة الاستثناء على حدة، وإذا قال أحمد وغيره من العلماء إن الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه ; لأنه لا استثناء فيه، لزم من هذا القول أن الاستثناء في الحلف بهما، وأما من فرق من أصحاب أحمد فقال يصح الحلف في الحلف بهما الاستثناء ولا تصح الكفارة فهذا لم أعلمه منصوصا عن أحمد، ولكنهم معذورون فيه من قوله حيث لم يجدوه نص في تكفير الحلف بهما على روايتين، كما نص الاستثناء في الحلف بها على روايتين لكن هذا القول لازم على إحدى الروايتين عنه التي ينصرونها، ومن سوى الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم يتفطن للزومها، ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها أو لا يلتزمها بل يرجع عن الملزوم أو لا يرجع عنه، ويعتقد أنها غير لوازم، والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه، فإما أن لا يكون نص على ذلك اللازم لا بنفي ولا إثبات أو نص على نفيه، وإذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه أو لم ينص، فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم وخرجوا عنه خلاف المنصوص عنه في تلك المسألة، مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين، أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر، كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء وعنه في الاستثناء روايتان، فهذا مبني على تخريج ما لم يتكلم فيه بنفي ولا إثبات، هل يسمى ذلك مذهبا أو لا يسمى، ولأصحابنا فيه خلاف مشهور، فالأثرم والخرقي وغيرهما يجعلونه مذهبا له، والخلال وصاحبه وغيرهما لا يجعلونه مذهبا لهما، والتحقيق أن هذا قياس قوله ولازم قوله فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه، ولا أيضا بمنزلة ما ليس بلازم قوله بل هو منزلة بين منزلتين، هذا حيث أمكن أن لا يلزمه وأيضا فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرا به أو ملزما له إذا أوقعه صاحبه، وكذلك العتق وكذلك النذر وهذه العقود من النذر والطلاق والعتاق يقتضي وجوب أشياء على العبد، أو تحريم أشياء عليه، والوجوب والتحريم إنما يلزم العبد إذا قصده أو قصد سببه، فإنه لو جرى على لسانه هذا الكلام لغير قصد لم يلزمه شيء بالاتفاق، ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة ; لأن مقصوده إنما هو دفع المكروه عنه لم يقصد حكمها ولا قصد التكلم بها ابتداء، فكذلك الحالف إذا قال إن لم أفعل كذا فعلي الحج أو الطلاق ليس يقصد التزام حج ولا طلاق، ولا تكلم بما يوجبه ابتداء وإنما قصده الحض على ذلك الفعل أو منع نفسه منه، كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه، ثم قال، على طريق المبالغة في الحض والمنع: إن فعلت كذا فهذا لي لازم أو هذا علي حرام لشدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به، فقصده منهما جميعا لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه، وإذا لم يكن قاصدا للحكم ولا لسببه إنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم، وأيضا فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة لم يبلغني أنه كان يحلف بها على عهد قدماء الصحابة، ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج بن يوسف وهي تشتمل على اليمين بالله وصدقة المال والطلاق والعتاق ولم أقف إلى الساعة على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق، وإنما الذي بلغنا عنهم الجواب في الحلف بالعتق كما تقدم، ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة وانتشرت انتشارا عظيما، ثم لما اعتقد من اعتقد أن الطلاق يقع بها لا محالة، صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل، ونشأ عن ذلك خمس أنواع من الحيل والمفاسد في الأيمان، حتى اتخذوا آيات الله هزوا وذلك أنهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لا بد لهم من فعلها إما شرعا وإما طبعا، وعلى فعل أمور لا يصلح فعلها إما شرعا وإما طبعا، وغالب ما يحلفون بذلك في حال اللجاج والغضب، ثم فراق الأهل فيه من الضرر في الدين والدنيا ما يزيد على كثير من أغلال اليهود،

وقد قيل إن الله إنما حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره لئلا يتسارع الناس إلى الطلاق لما فيه من المفسدة، فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة وهم محتاجون إلى تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل قدحت الأفكار لهم أنواعا من الحيل أربعة أخذت عن الكوفيين وغيرهم، الحيلة الأولى في المحلوف عليه: فيتأول لهم خلاف قصدوه وخلاف ما يدل عليه الكلام في عرف الناس وعاداتهم، وهذا هو الذي وصفه بعض المتكلمين في الفقه ويسمونه باب المعاياة وباب الحيل في الأيمان، وأكثره مما يعلم بالاضطرار من الدين أنه لا يسوغ في الدين، ولا يجوز حمل كلام الحالف عليه، ولهذا كان الأئمة كأحمد وغيره يشددون النكير على من يحتال في هذه الأيمان، الحيلة الثانية: إذا تعذر الاحتيال في الكلام المحلوف عليه احتالوا للفعل المحلوف عليه، بأن يأمروه بمخالفة امرأته ليفعل المحلوف عليه في زمن البينونة، وهذه الحيلة أحدث من التي قبلها وأظنها حدثت في حدود المائة الثالثة، فإن عامة الحيل إنما نشأت عن بعض أهل الكوفة، وحيلة الخلع لا تمشي على أصلهم ; لأنهم يقولون إذا فعل المحلوف عليه في العدة وقع به الطلاق ; لأن المعتدة من فرقة بائنة يلحقها الطلاق عندهم، فيحتاج المحتال بهذه الحيلة أن يتربص حتى تنقضي العدة، ثم يفعل المحلوف عليه بعد انقضائها، وهذا فيه ضرر عليه من جهة طول المدة، فصار يفتي بها بعض أصحاب الشافعي، وربما ركنوا معها إلى أخذ قوله الموافق لأشهر الروايتين عن أحمد، من أن الخلع فسخ وليس بطلاق فيصير الحالف كلما أراد الحنث خلع زوجته، وفعل المحلوف عليه ثم تزوجها، فإما أن يفتوه بنقص عدد الطلاق أو يفتوه بعدمه، وهذا الخلع الذي هو خلع الأيمان شبيه بنكاح المحلل سواء، فإن ذلك عقد لم يقصده وإنما قصد إزالته وهذا فسخ فسخا لم يقصده، وإنما قصد إزالته، وهذه حيلة محدثة باردة قد صنف أبو عبد الله بن بطة جزءا في إبطالها، وذكر عن السلف في ذلك من الآثار ما قد ذكرت بعضه في غير هذا الموضع، الحيلة الثالثة: إذا تعذر الاحتيال في المحلوف عليه، احتالوا في المحلوف به فيبطلونه بالبحث عن شروطه، فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعي يبحثون عن صفة عقد النكاح، لعله اشتمل على أمر يكون به فاسدا ليرتبوا على ذلك أن الطلاق في النكاح الفاسد لا يقع، ومذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدى روايتيه أن الولي الفاسق لا يصح نكاحه، والفسوق غالب في كثير من الناس فيقتنون هذه المسألة بسبب الاحتيال لرفع الطلاق ثم نجد هؤلاء الذين يحتالون بهذه الحيلة إنما ينظرون في صفة عقد النكاح، وكون فلان الفاسق لا يصح عند إيقاع الطلاق الذي قد ذهب كثير من أهل العلم أو أكثرهم إلى أنه يقع الفاسد في الجملة، وأما عند الوطء والاستمتاع الذي أجمع المسلمون على أنه لا يباح في النكاح الفاسد فلا ينظرون في ذلك، ولا ينظرون في ذلك أيضا عند الميراث وغيره من أحكام النكاح الصحيح، بل عند وقوع الطلاق خاصة، وهذا نوع من اتخاذ آيات الله هزوا ومن المكر في آيات الله إنما أوجبه الحلف بالطلاق والضرورة إلى عدم وقوعه، الحيلة الرابعة: الشرعية في إفساد المحلوف به أيضا لكن لوجود مانع، لا لفوات شرط فإن أبا العباس بن سريج وطائفة بعده اعتقدوا أنه إذا قال لامرأته إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبل ثلاثا فإنه لا يقع عليها بعد ذلك طلاق أبدا ; لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق، وإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز، فيفضي وقوعه إلى عدم وقوعه فلا يقع، وأما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف أنكروا ذلك، بل رأوه من الزلات التي يعلم بالاضطرار كونها ليست من دين الإسلام، حيث قد علم بالضرورة من دين محمد بن عبد الله أن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح، وأنه ما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق، وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام، فقالوا إذا وقع المنجز وقع المعلق، وهذا الكلام ليس بصحيح، فإنه مستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة، فالكلام المشتمل على ذلك باطل، وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق ; لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحا، ثم اختلفوا هل يقع من المعلق تمام الثلاث أم يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز، على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على دفع الطلاق أم قاله طردا لقياس اعتقد صحته، واحتال بها من بعده، لكني رأيت مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة، ومقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق، ولهذا صاغوها بقوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا ; لأنه لو قالوا إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا لم تنفعه هذه الصيغة في الحيلة وإن كان كلاهما في الدور سواء، وذلك ; لأن الرجل إذا قال لامرأته إذا طلقتك فعبدي حر أو فأنت طالق، لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد، فإن كان كل واحد من التنجيز والتعليق الذي وجد شرطه تطليق، أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا ; لأن التطليق لا بد أن يصدر عن المطلق، ووقوع الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه، فأما إذ قال إذا وقع عليك طلاقي فهذا يعم المنجز والمعلق يعد هذا شرط والواقع بعد هذا شرط يقدم تعليقه، فصوروا المسألة بصور قوله إذا وقع عليك طلاقي حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا، قالوا له بل إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فيقول ذلك، فيقولون له افعل الآن ما حلفت عليه، فإنه لا يقع عليك طلاق، فهذا التسريح المنكر عند عامة أهل الإسلام المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التي بعث الله بها محمدا إنما تفقه في الغالب وأحوج كثيرا من الناس إلى الحلف بالطلاق، وإلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد ; لأن العاقل لا يكاد يقصد انسداد باب الطلاق عليه إلا بالبر، الحيلة الخامسة: إذا وقع الطلاق ولم يمكن الاحتيال لا في المحلوف عليه قولا ولا فعلا، ولا في المحلوف به إبطالا ولا منعا، احتالوا لإعادة النكاح بنكاح المحلل الذي دلت السنة وإجماع الصحابة مع دلالة القرآن وشواهد الأصول على تحريمه وفساده، ثم قد توالد من نكاح المحلل من الفساد ما لا يعلمه إلا الله كما قد نبهنا على بعضه في كتاب إقامة الدليل على بطلان التحليل، وأغلب ما يحوج الناس إلى نكاح المحلل هو الحلف بالطلاق، وإلا فالطلاق الثلاث لا يقدم عليه الرجل في الغالب إلا إذا قصده، ومن قصده لم يترتب عليه من الندم والفساد ما يترتب على من اضطر لوقوعه لحاجته إلى الحنث، فهذه المفاسد الخمس التي هي الاحتيال على نقض الأيمان وإخراجهما على مفهومهما ومقصودها بالاحتيال بالخلع وإعادة النكاح، ثم الاحتيال عن فساد النكاح، ثم الاحتيال بمنع وقوع الطلاق، ثم الاحتيال بنكاح المحلل في هذه الأمور من المكر والخداع والاستهزاء بآيات الله واللعب الذي ينفر العقلاء عن دين الإسلام، ويوجب ظفر الكفار فيه كما رأيته في بعض كتب النصارى وغيرها، وتبين لكل مؤمن صحيح الفطرة أن دين الإسلام بريء منزه عن هذه الخزعبلات التي تشبه حيل اليهود ومخاريف الرهبان، وأكثر ما أوقع الناس فيها وأوجب كثرة إنكار الفقهاء فيها واستخراجهم لها هو حلف الناس بالطلاق، واعتقاد وقوع الطلاق عند الحنث لا محالة حتى لقد فرع الكوفيون وغيرهم من فروع الأيمان شيئا كثيرا مبناه على هذا الأصل، وكثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء ونحوهم هي كما كان الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله يقول مثالها مثال رجل بنى دارا حسنة على حجارة مغصوبة، فإذا توزع في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس فاستحقها غيره انهدم بناؤه، فإن الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة، وإلا لم يكن لها منفعة، فإذا كان الحلف بالطلاق واعتقاد لزوم الطلاق عند الحنث قد أوجب هذه المفاسد العظيمة التي قد غيرت بعض أمور الإسلام، غلا من فعل ذلك وقال في هؤلاء شبه من أهل الكتاب، كما أخبر به النبي، مع أن لزوم الطلاق عند الحلف به ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا أفتى به أصحاب رسول الله، بل ولا أحد منهم مما أعلمه ولا اتفق عليه التابعون لهم بإحسان والعلماء بعدهم ولا هو مناسب لأصول الشريعة ولا حجة لمن قاله أكثر من عادة مستمرة أسندت إلى قياس معتضد بتقليد لقوم أئمة علماء محمودين عند الأمة، وهم لله الحمد فوق ما يظن به، لكن لم نؤمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله وإلى الرسول، وقد خالفهم من ليس دونهم بل مثلهم أو فوقهم، فإنا قد ذكرنا عن أعيان من الصحابة كعبد الله بن عمر المجمع على إمامته وفقهه ودينه وأخته حفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله، وهي من أمثل فقيهات الصحابة في الإفتاء بالكفارة في الحلف بالعتق والطلاق أولى منه، وذكرنا عن طاوس وهو من أفاضل علماء التابعين علما وفقها ودينا أنه لم يكن يرى اليمين بالطلاق موقعة له، فإذا كان من لزوم الطلاق عند الحنث في اليمين به مقتضيا لهذه المفاسد وحاله في الشريعة هذه الحال كان هذا دليلا على أن ما أفضى إلى هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله، كما نبهنا عليه في ضمان الحدائق لمن يزدرعها ويستثمرها، وبيع الخضر ونحوها وذلك أن الحالف بالطلاق، إذا حلف ليقطعن رحمه، وليعقن أباه، وليقتلن عدوه المسلم المعصوم، وليأتين الفاحشة وليشربن الخمر، وليفرقن بين المرء وزوجه، ونحو ذلك من كبائر الإثم والفواحش، فهو بين ثلاثة أمور: إما أن يفعل هذا المحلوف عليه، فهذا لا يقوله مسلم لما فيه من ضرر الدنيا والآخرة، مع أن كثيرا من الناس بل والمفتين إذا رأوه قد حلف بالطلاق كان ذلك سببا لتخفيف الأمر عليه وإقامة عذره، وإما أن يحتال ببعض تلك الحيل المذكورة كما استخرجه قوم من المفتين، ففي ذلك من الاستهزاء بآيات الله ومخادعته والمكر في دينه والكيد له، وضعف العقل والدين والاعتداء لحدوده والانتهاك لمحارمه والإلحاد في آياته ما لا خفاء به، وإن كان في إخواننا الفقهاء من قد يستجيز بعض ذلك، فقد دخل من الغلط في ذلك، وإن كان مغفورا لصاحبه المجتهد المنفي لله ما فساده ظاهر لمن تأمل حقيقة الدين، وإما أن لا يحتال ولا يفعل المحلوف عليه بل يطلق امرأته كما يفعله من يخشى الله إذا اعتقد وقوع الطلاق، ففي ذلك من الفساد في الدين والدنيا ما لا يأذن الله به ولا رسوله، أما فساد الدين فإن الطلاق منهي عنه مع استقامة حال الزوج باتفاق العلماء، حتى قال النبي { إن المختلعات والمنتزعات هن من المنافقات }، وقال: { أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة }، وقد اختلف العلماء هل هو محرم أو مكروه، وفيه روايتان عن أحمد، وقد استحسنوا جواب أحمد رضي الله عنه لما سئل عمن حلف بالطلاق، وليطأن امرأته وهي حائض، فقال: يطلقها ولا يطؤها قد أباح الله الطلاق وحرم وطء الحائض، وهذا الاستحسان يتوجه على أصلين إما على قوله إن الطلاق ليس بحرام، وإما أن يكون تحريمه دون تحريم الوطء، وإلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلى حرام، وأما ضرر الدنيا فأبين من أن يوصف، فإن لزوم الطلاق المحلوف به في كثير من الأوقات يوجب من الضرر ما لم تأت به الشريعة في مثل هذا قط، فإن المرأة الصالحة تكون في صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة، وهي متاعه الذي قال فيها رسول الله: { الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة المؤمنة، إن نظرت إليها أعجبتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك }، وهي التي أمر بها النبي في قوله لما سأله المهاجرون أي المال نتخذ فقال: { لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا أو امرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه } رواه الترمذي، من حديث سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، ويكون منها من المودة والرحمة ما امتن الله تعالى بها في كتابه، فيكون ألم الفراق أشد عليها من الموت أحيانا وأشد من ذهاب المال وأشد من فراق الأوطان، خصوصا إن كان بأحدهما علاقة من صاحبه أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق ويفسد حالهم، ثم يفضي ذلك إلى القطيعة بين أقاربها ووقع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله تعالى بها في قوله { فجعله نسبا وصهرا }، ومعلوم أن هذا من الحرج الداخل في عموم قوله: { ما جعل عليكم في الدين من حرج } ومن العسر المنفي بقوله: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وأيضا فإذا كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر وإحسان من صدقة أو عتاقة وتعليم علم وصلة رحم وجهاد في سبيل الله وإصلاح بين الناس، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها، فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق أعظم لا يفعل ذلك بل ولا يؤمر به شرعا ; لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال، وهذه المفسدة هي التي أزالها الله ورسوله بقوله تعالى: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم }، وقوله: { لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يأتي الكفارة }، فإن قيل: فهو الذي أوقع نفسه في أحد هذه الضرائر الثلاث، فلا ينبغي له أن يحلف، قيل: ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم، فإن الله لم يحمل علينا إصرا كما حمل على الذين من قبلنا، فهب هذا قد أتى كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق ثم تاب من تلك الكبيرة، فكيف يناسب أصول شريعتنا أن تنفي ضرر ذلك الذنب عليه لا يجد منه مخرجا، وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق لا بالحلف عليه فإنه لا يفعل ذلك إلا هو مريد للطلاق إما لكراهة المرأة أو غضب عليها ونحو ذلك، قد جعل الله الطلاق ثلاثا، فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره، وله ذلك ثلاث مرات كان وقوع الضرر بمثل هذا نادرا بخلاف الأول، فإن مقصوده لم يكن الطلاق، وإنما كان يفعل المحلوف عليه أو لا يفعله ثم قد يأمره الشرع أو يضطره الحاجة إلى فعله أو تركه، فيلزمه الطلاق بغير اختيار لا له ولا لسببه، وأيضا فإن الذي بعث الله محمدا في باب الأيمان تخفيفها بالكفارة لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم، فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا، واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت من امرأته، وأيضا فالاعتبار بنذر اللجاج والغضب فإنه ليس من الفرق إلا ما ذكرناه، وسنبين إن شاء الله عدم تأثيره، والقياس بإلغاء الفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين، وذلك أن الرجل إذا قال إذا أكلت أو شربت فعلي أن أعتق عبدي، أو فعلي أن أطلق امرأتي أو فعلي الحج أو فأنا محرم بالحج، أو فمالي صدقة أو فعلي صدقة فإنه تجزئه كفارة يمين عند الجمهور كما قدمناه، بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فكذلك إذا قال إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلي الطلاق أو فالطلاق لي لازم أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار فإن قوله علي الطلاق لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا فهو بمنزلة قوله علي الحج لا أفعل كذا أو الحج لي لازم لا أفعل كذا، وكلاهما يمينان محدثتان ليستا مأثورتين عن العرب، ولا معروفتين عن الصحابة، وإنما المتأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا وربطوا إحدى الجملتين بالأخرى كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها، وكانت العرب تحلف بها لا فرق بين هذا وهذا ; لأن قوله: إن فعلت فمالي صدقة، يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل، وقوله: فامرأتي طالق، يقتضي وجود الطلاق، فالذي يقتضي وقوع الطلاق نفس الشرط، وإن لم يحدث بعد هذا طلاقا ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى تحدث صدقة، وجواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء المفرقون من وجهين، أحدهما: مع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها، وفي بعض صور الفروع المقيس عليها بيان عدم التأثير، أما الأول فإنه إذا قال: إن فعلت كذا فمالي صدقة، أو فأنا محرم أو فبعيري هدي، فالمعلق بالصفة وجود الصدقة والإحرام والهدي لا وجوبهما، كما أن المعلق في قوله فعبدي حر وامرأتي طالق وجود الطلاق والعتق لا وجوبهما، ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم فيما إذا قال: هذا هدي، وهذا صدقة لله، هل يخرج عن ملكه أو لا يخرج، فمن قال يخرج عن ملكه فهو كخروج زوجته وعبده عن ملكه، أكثر ما في الباب أن الصدقة والهدي يتملكه الناس بخلاف الزوجة والعبد، وهذا لا تأثير له، وكذا لو قال علي الطلاق لأفعلن كذا أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا فهو كقوله: علي الحج لأفعلن، فهل جعل المحلوف به هاهنا وجوب الطلاق لا وجوده، كأنه قال: إن فعلت كذا فعلي أن أطلق، فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجود، وأما الثاني فيقول هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتاق والمعلق هناك وجوب الصدقة والحج والصيام والإهداء ليس موجب الشرط ثبوت هذا الوجوب بل يجزئه كفارة يمين، كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجوب بل تجزئه كفارة يمين عند وجود الشرط فإن كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب، كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود، بل كما لو قال: هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط، ثم إذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق بل يلزم كفارة يمين أو لا يلزمه شيء، ولو قال ابتداء: هو يهودي أو نصراني أو كافر يلزمه الكفر بمنزلة قوله ابتداء: عبدي حر وامرأتي طالق، وهذه البدنة هدي، وعلي صوم هدي، وعلي صوم يوم الخميس، ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده، كقوله: إذا هل الهلال فقد برئت من دين الإسلام، لكان الواجب أنه يحكم بكفره، لكن لا يناجز الكفر ; لأن توقيته دليل على فساد عقيدته، قيل: فالحلف بالنذر إنما عليه فيه الكفارة فقط، قيل: مثل في الحلف بالعتق وكذلك الحلف بالطلاق، كما لو قال: فعلي أن أطلق امرأتي، ومن قال: إنه إذا قال: فعلي أن أطلق امرأتي لا يلزمه شيء، فقياس قوله الطلاق لا يلزمه شيء، ولهذا توقف طاوس في كونه يمينا وإن قيل إنه يخير بين الوفاء به والتكفير، فكذلك هنا يخير بين الطلاق والعتق وبين التكفير فإن وطئ امرأته كان اختيارا للتكفير، كما أنه في الظهار يكون مخيرا بين التكفير وبين تطليقها ; فإن وطئها لزمته الكفارة ولكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر ; لأن الظهار منكر من القول وزور حرمه عليه، وأما هنا فقوله إن فعلت فهي طالق بمنزلة قوله فعلي أن أطلقها أو قال والله لأطلقنها إن لم يطلقها فلا شيء وإن طلقها فعليه كفارة يمين، يبقى أن يقال هل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها حينئذ كما لو قال والله لأطلقها الساعة ولم يطلقها أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها، أو لا تجب حتى يوجد منه ما يدل على الرضاء بها من قول أو فعل، كالذي يخير بين فراقها وإمساكها ونحوه كالمتعة تجب ابتداء أو لا تجب بحال حتى يفوت الطلاق، قيل الحكم في ذلك كما لو قال فثلث مالي صدقة أو هدي ونحو ذلك، وإلا قيس في ذلك أنه مخير بينهما على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على الرضاء بأحدهما كسائر أنواع الخيار .

والقول بجواز المسابقة بلا محلل وإن أخرج المتسابقان .

والقول بأن البكر لا تستبرأ وإن كانت كبيرة، كما هو قول ابن عمر واختاره البخاري صاحب الصحيح .

مسألة: فيمن أوقف رباطا ; وجعل فيه جماعة من أهل القرآن ; وجعل لهم كل يوم ما يكفيهم ; وشرط عليهم شروطا غير مشروعة: منها أن يجتمعوا في وقتين معينين من النهار ; فيقرءون شيئا معينا من القرآن في المكان الذي أوقفه لا في غيره ; مجتمعين في ذلك غير متفرقين ; وشرط أن يهدوا له ثواب التلاوة ; ومن لم يفعل ما شرط في المكان الذي أوقفه لم يأخذ ما جعل له، فهل جميع الشروط لازمة لمن أخذ المعلوم ؟ أم بعضها ؟ أم لا أثر لجميعها ؟ وهل إذا لزمت القراءة، فهل يلزم جميع ما شرطه منها ؟ أم يقرءون ما تيسر عليهم قراءته من غير أن يهدوا شيئا ؟ الجواب: الحمد لله، الأصل في هذا أن كل ما شرط من العمل من الوقوف التي توقف على الأعمال فلا بد أن تكون قربة ; إما واجبا ; وإما مستحبا وأما اشتراط عمل محرم فلا يصح باتفاق علماء المسلمين ; بل وكذلك المكروه ; وكذلك المباح على الصحيح، وقد اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وفاسد، كالشروط في سائر العقود، ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف ; لا في وجوب العمل بها: أي أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة ; كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه ; فكما يعرف العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظ الشارع، فكذلك تعرف في الوقف من ألفاظ الواقف، مع أن التحقيق في هذا أن لفظ الواقف ولفظ الحالف والشافع والموصي وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها ; سواء وافقت العربية العرباء ; أو العربية المولدة ; أو العربية الملحونة ; أو كانت غير عربية وسواء وافقت لغة الشارع ; أو لم توافقها ; فإن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها ; فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع لأن معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده، وكذلك في خطاب كل أمة وكل قوم ; فإذا تخاطبوا بينهم في البيع والإجارة أو الوقف أو الوصية أو النذر أو غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم وإلى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب ; وما يقترن بذلك من الأسباب، وأما أن تحل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها ; فهذا كفر باتفاق المسلمين ; إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر - بعد رسول الله ﷺ - والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه خطب على منبره قال: { ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق }، وهذا الكلام حكمه ثابت في البيع والإجارة والوقف، وغير ذلك باتفاق الأئمة، سواء تناوله لفظ الشارع أو لا ; إذ الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أو كان متناولا لغير الشروط في البيع بطريق الاعتبار عموما معنويا، وإذا كانت شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وباطل بالاتفاق ; فإن شرط فعلا محرما ظهر أنه باطل فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإن شرط مباحا لا قربة فيه كان أيضا باطلا ; لأنه شرط شرطا لا منفعة فيه، لا له ولا للموقوف عليه ; فإنه في نفسه لا ينتفع إلا بالإعانة على البر والتقوى، وأما بذل المال في مباح: فهذا إذا بذله في حياته مثل الابتياع ; والاستئجار جاز ; لأنه ينتفع بتناول المباحات في حياته، وأما الواقف والموصي فإنهما لا ينتفعان بما يفعل الموصى له والموقوف عليه من المباحات في الدنيا، ولا يثابان على بذل المال في ذلك في الآخرة، فلو بذل المال في ذلك عبثا وسفها لم يكن فيه حجة على تناول المال، فكيف إذا ألزم بمباح لا غرض له فيه فلا هو ينتفع به في الدنيا، ولا في الآخرة ; بل يبقى هذا منفقا للمال في الباطل مسخر معذب آكل للمال بالباطل، وإذا كان الشارع قد قال: { لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل }، فلم يجوز بالجعل شيئا لا يستعان به على الجهاد، وإن كان مباحا، وقد يكون فيه منفعة، كما في المصارعة والمسابقة على الأقدام، فكيف يبذل العوض المؤبد في عمل لا منفعة فيه، لا سيما والوقف محبس مؤبد فكيف يحبس المال دائما مؤبدا على عمل لا ينتفع به هو ولا ينتفع به العامل، فيكون في ذلك ضرر على حبس الورثة وسائر الآدميين بحبس المال عليهم بلا منفعة حصلت لأحد، وفي ذلك ضرر على المناولين باستعمالهم في عمل هم فيه مسخرون، يعوقهم عن مصالحهم الدينية والدنيوية، فلا فائدة تحصل له ولا لهم، وقد بسطنا الكلام في هذه القاعدة في غير هذا الموضع، فإذا عرف هذا فقراءة القرآن كل واحد على حدته أفضل من قراءة مجتمعين بصوت واحد ; فإن هذه تسمى " قراءة الإرادة " وقد كرهها طوائف من أهل العلم: كمالك وطائفة من أصحاب الإمام أحمد، وغيرهم، ومن رخص فيها - كبعض أصحاب الإمام أحمد - لم يقل إنها أفضل من قراءة الانفراد، يقرأ كل منهم جميع القرآن، وأما هذه القراءة فلا يحصل لواحد جميع القرآن، بل هذا يتم ما قرأه هذا، وهذا يتم ما قرأه هذا، ومن كان لا يحفظ القرآن يترك قراءة ما لم يحفظه، وليس في القراءة بعد المغرب فضيلة مستحبة يقدم بها على القراءة في جوف الليل، أو بعد الفجر، ونحو ذلك من الأوقات، فلا قربة في تخصيص مثل ذلك بالوقت، ولو نذر صلاة أو صياما أو قراءة أو اعتكافا في مكان بعينه، فإن كان للتعيين مزية في الشرع: كالصلاة والاعتكاف في المساجد الثلاثة، لزم الوفاء به، وإن لم يكن له مزية: كالصلاة والاعتكاف في مساجد الأمصار لم يتعين بالنذر الذي أمر الله بالوفاء به، وقال النبي ﷺ: { من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه }، فإذا كان النذر الذي يجب الوفاء به لا يجب أن يوفى به إلا ما كان طاعة باتفاق الأئمة، فلا يجب أن يوفى منه بمباح، كما لا يجب أن يوفى منه بمحرم باتفاق العلماء في الصورتين، وإنما تنازعوا في لزوم الكفارة: كمذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، فكيف بغير النذر من العقود التي ليس في لزومها من الأدلة الشرعية ما في النذر، وأما اشتراط إهداء ثواب التلاوة، فهذا ينبني على إهداء ثواب العبادات البدنية: كالصلاة والصيام والقراءة فإن العبادات المالية يجوز إهداء ثوابها بلا نزاع، وأما البدنية ففيها قولان مشهوران، فمن كان من مذهبه أنه لا يجوز إهداء ثوابها: كأكثر أصحاب مالك والشافعي كان هذا الشرط عندهم باطلا، كما لو شرط أن يحمل عن الواقف ديونه فإنه { ولا تزر وازرة وزر أخرى }، ومن كان من مذهبه أنه يجوز إهداء ثواب العبادات البدنية ; كأحمد وأصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك فهذا يعتبر أمرا آخر، وهو أن هذا إنما يكون من العبادات ما قصد بها وجه الله، فأما ما يقع مستحقا بعقد إجارة أو جعالة فإنه لا يكون قربة فإن جاز أخذ الأجر والجعل عليه، فإنه يجوز الاستئجار على الإمامة والأذان وتعليم القرآن، نقول .

مسألة: فيمن وقف وقفا على جماعة معينين، وفيهم من قرر الواقف لوظيفته شيئا معلوما، وجعل للناظر على هذا الوقف صرف من شاء منهم، يخرج بغير خراج، وإخراج من شاء منهم، والتعوض عنه، وزيادة من أراد زيادته ونقصانه، على ما يراه ويختاره، ويرى المصلحة فيه، فعزل أحد المعينين واستبدل به غيره من هو أهل للقيام بها ببعض ذلك المعلوم المقدر للوظيفة، ووفى باقي ذلك لمصلحة الوقف، فهل للناظر فعل ذلك أم لا ؟ وإذا عزل أحد المعينين للمصلحة واستمر على تناول المعلوم بعد علمه بالعزل: يفسق بذلك، ويجب عليه إعادة ما أخذه أم لا ؟ وهل يلزم الناظر بيان المصلحة أم لا ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، الناظر ليس له أن يفعل شيئا في أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية، وعليه أن يفعل الأصلح، فالأصلح، وإذا جعل الواقف للناظر صرف من شاء، وزيادة من أراد زيادته ونقصانه، فليس للذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل ما يشتهيه، أو ما يكون فيه اتباع الظن، وما تهوى الأنفس ; بل الذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل من الأمور الذي هو خير ما يكون إرضاء لله ورسوله، وهذا في كل من تصرف لغيره بحكم الولاية، كالإمام، والحاكم، والواقف، وناظر الوقف، وغيرهم: إذا قيل: هو مخير بين كذا وكذا، أو يفعل ما شاء، وما رأى، فإنما ذاك تخيير مصلحة، لا تخيير شهوة، والمقصود بذلك أنه لا يتعين عليه فعل معين، بل له أن يعدل عنه إلى ما هو أصلح وأرضى لله ورسوله، وقد قال الواقف: على ما يراه ويختاره ويرى المصلحة فيه، وموجب هذا كله أن يتصرف برأيه واختياره الشرعي، الذي يتبع فيه المصلحة الشرعية، وقد يرى هو مصلحة، والله ورسوله يأمر بخلاف ذلك، ولا يكون هذا مصلحة كما يراه مصلحة، وقد يختار ما يهواه لا ما فيه رضى الله، فلا يلتفت إلى اختياره، حتى لو صرح الواقف بأن للناظر أن يفعل ما يهواه وما يراه مطلقا لم يكن هذا الشرط صحيحا ; بل كان باطلا، لأنه شرط مخالف لكتاب الله: " ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق "، وإذا كان كذلك وكان عزل الناظر واستبداله، موافقا لأمر الله ورسوله لم يكن للمعزول ولا غيره رد ذلك، ولا يتناول شيئا من الوقف والحال هذه، وإن لم يكن موافقا لأمر الله ورسوله كان مردودا بحسب الإمكان، فإن النبي قال: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد }، وقال: { لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق }، وإن تنازعوا هل الذي فعله هو المأمور به أم لا ؟ رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، فإن كان الذي فعل الناظر أرضى لله ورسوله نفذ، وإن كان الأول هو الأرضى ألزم الناظر بإقراره، وإن كان هناك أمر ثالث هو الأرضى لزم اتباعه، وعلى الناظر بيان المصلحة، فإن ظهرت وجب اتباعها، وإن ظهر أنها مفسدة ردت، وإن اشتبه الأمر وكان الناظر عالما عادلا سوغ له اجتهاده، والله أعلم . وسئل: عمن ترك ابنتين، وعمه أخا أبيه من أمه: فما الحكم ؟ فأجاب: إذا مات الميت وترك بنتيه، وأخاه من أمه، فلا شيء لأخيه لأمه باتفاق الأئمة، بل للبنتين الثلثان، والباقي للعصبة، إن كان له عصبة وإلا فهو مردود على البنتين، أو بيت المال .

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله: عن رجل مات، وخلف بنتا، وله أولاد أخ من أبيه، وهم صغار، وله ابن عم راجل، وله بنت عم، وله أخ من أمه، وليس هو من أولاد أعمامه: فمن يأخذ المال ؟ ومن يكون ولي البنت ؟ فأجاب: أما الميراث فنصفه للبنت، ونصفه لأبناء الأخ، وأما حضانة الجارية فهي لبنت العم ; دون العم من الأم ; ودون ابن العم الذي ليس بمحرم وله الولاية على المال الذي لليتيمة لوصي أو نوابه .

وسئل رحمه الله تعالى: عن رجل مات، وترك زوجة، وأختا لأبويه، وثلاث بنات أخ لأبويه، فهل لبنات الأخ معهن شيء ؟ وما يخص كل واحدة منهن ؟ فأجاب: للزوجة الربع ; وللأخت لأبوين النصف، ولا شيء لبنات الأخ، والربع الثاني إن كان هناك عصبة هو للعصبة، وإلا فهو مردود على الأخت على أحد قولي العلماء، وعلى الآخر هو لبيت المال .

وسئل: عن رجل له خالة ماتت وخلفت موجودا ; ولم يكن لها وارث: فهل يرثها ابن أختها ؟ فأجاب: هذا في أحد قولي العلماء هو الوارث ; وفي الآخر بيت المال الشرعي .

وسئل: عن رجل توفي، وخلف ابنين، وبنتين ; وزوجة، وابن أخ، فتوفي الابنان، وأخذت الزوجة ما خصها، وتزوجت بأجنبي، وبقي نصيب الذكرين ما قسم، وأن الزوجة حبلت من الزوج الجديد، فأراد بقية الورثة قسمة الموجود، فمنع البقية إلى حيث تلد الزوجة، فهل يكون لها إذا ولدت مشاركة في الموجود ؟ فأجاب: الحمد لله، الميت الأول لزوجته الثمن، والباقي لبنيه وبناته للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا شيء لابن الأخ، فيكون للزوجة ثلاثة قراريط، ولكل ابن سبعة قراريط، وللبنتين سبعة قراريط، ثم الابن الأول لما مات خلف أخاه وأختين وأمه، والأخ الثاني خلف أختيه وأمه وابن عمه، والحمل إن كان موجودا عند موت أحدهما ورثا منه: لأنه أخوه من أمه، وينبغي لزوج المرأة أن يكف عن وطئها من حين موت هذا، وهذا كما أمر بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه ; فإنه إذا لم يطأها وولدته علم أنه كان موجودا وقت الموت، وإذا وطئها وتأخر الحمل اشتبه ; لكن من أراد من الورثة أن يعطى حقه أعطي الثلثين ووقف للحمل نصيب، وهو الثلث، والله أعلم .

وسئل رحمه الله عن قوله: ما بال قوم غدوا قد مات ميتهم فأصبحوا يقسمون المال والحللا فقالت امرأة من غير عترتهم ألا أخبركم أعجوبة مثلا في البطن من جنين دام يشكركم فأخروا القسم حتى تعرفوا الحملا فإن يكن ذكرا لم يعط خردلة وإن يكن غيره أنثى فقد فضلا بالنصف حقا يقينا ليس ينكره من كان يعرف فرض الله لا زللا إني ذكرت لكم أمري بلا كذب فلا أقول لكم جهلا ولا مثلا فأجاب: زوج، وأم، واثنان من ولد الأم، وحمل من الأب ; والمرأة الحامل ليست أم الميت ; بل هي زوجة أبيها، فللزوج النصف، وللأم السدس ولولد الأم الثلث، فإن كان الحمل ذكرا فهو أخ من أب فلا شيء له باتفاق العلماء، وإن كان الحمل أنثى فهو أخت من أب، فيفرض لها النصف، وهو فاضل عن السهام، فأصلها من ستة، وتعول إلى تسعة، وأما إن كان الحمل من أم الميت: فهكذا الجواب في أحد قولي العلماء من الصحابة، ومن بعدهم، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وعلى القول الآخر إن كان الحمل ذكرا يشارك ولد الأم، كواحد منهم ; ولا يسقط وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه .

وسئل الشيخ رحمه الله: عن امرأة مزوجة، ولزوجها ثلاث شهور، وهو في مرض مزمن، فطلب منها شرابا فأبطأت عليه، فنفر منها، وقال لها: أنت طالق ثلاثة، وهي مقيمة عنده تخدمه، وبعد عشرين يوما توفي الزوج: فهل يقع الطلاق ؟ وهل إذا حلف على حكم هذه الصورة يحنث ؟ وهل للوارث أن يمنعها الإرث ؟ فأجاب: أما الطلاق فإنه يقع إن كان عاقلا مختارا ; لكن ترثه عند جمهور أئمة الإسلام، وهو مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، والشافعي في القول القديم، كما قضى به عثمان بن عفان في امرأة عبد الرحمن بن عوف، فإنه طلقها في مرض موته، فورثها منه عثمان، وعليها أن تعتد أبعد الأجلين: من عدة الطلاق، أو عدة الوفاة، وأما إن كان عقله قد زال فلا طلاق عليه .

وسئل رحمه الله: عن رجل زوج ابنته، وكتب الصداق عليه، ثم إن الزوج مرض بعد ذلك، فحين قوي عليه المرض فقبل موته بثلاثة أيام طلق الزوجة ; ليمنعها من الميراث: فهل يقع هذا الطلاق ؟ وما الذي يجب لها في تركته ؟ فأجاب: هذه المطلقة إن كانت مطلقة طلاقا رجعيا، ومات زوجها، وهي في العدة ورثته باتفاق المسلمين وإن كان الطلاق بائنا كالمطلقة ثلاثا ; ورثته أيضا عند جماهير أئمة الإسلام، وبه قضى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما طلق عبد الرحمن بن عوف زوجته بنت الأصبغ الكلبية طلقها ثلاثا، في مرض موته، فشاور عثمان الصحابة فأشاروا على أنها ترث منه، ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلاف، وإنما ظهر الخلاف في خلافة ابن الزبير، فإنه قال: لو كنت أنا لم أورثها، وابن الزبير قد انعقد الإجماع قبل أن يصير من أهل الاجتهاد، وإلى ذلك ذهب أئمة التابعين، ومن بعدهم وهو مذهب أهل العراق: كالثوري وأبي حنيفة، وأصحابه، ومذهب أهل المدينة كمالك، وأصحابه، ومذهب فقهاء الحديث: كأحمد بن حنبل، وأمثاله، وهو القول القديم للشافعي، وفي الجديد وافق ابن الزبير ; لأن الطلاق واقع بحيث لو ماتت هي لم يرثها هو بالاتفاق، فكذلك لا ترثه هي، ولأنها حرمت عليه بالطلاق، فلا يحل له وطؤها، ولا الاستمتاع بها، فتكون أجنبية، فلا ترث، والجمهور قالوا: إن المريض مرض الموت قد تعلق الورثة بماله من حين المرض ; وصار محجورا عليه بالنسبة إليهم، فلا يتصرف في مرض موته من التبرعات إلا ما يتصرفه بعد موته ; فليس له في مرض الموت أن يحرم بعض الورثة ميراثه، ويخص بعضهم بالإرث، كما ليس له ذلك بعد الموت وليس له أن يتبرع لأجنبي بما زاد على الثلث في مرض موته ; كما لا يملك ذلك بعد الموت وفي الحديث: { من قطع ميراثا قطع الله ميراثه من الجنة }، وإذا كان كذلك فليس له بعد المرض أن يقطع حقها من الإرث ; لا بطلاق ; ولا غيره، وإن وقع الطلاق بالنسبة له، إذ له أن يقطع نفسه منها، ولا يقطع حقها منه، وعلى هذا القول ففي وجوب العدة نزاع، هل تعتد عدة الطلاق أو عدة الوفاة ؟ أو أطولهما ؟ على ثلاثه أقوال، أظهرها أنها تعتد أبعد الأجلين وكذلك هل يكمل لها المهر ؟ قولان: أظهرهما أنه يكمل لها المهر أيضا ; فإنه من حقوقها التي تستقر ; كما تستحق الإرث .

مسألة: في الأيام والليالي، مثل أن يقول: السفر يكره يوم الأربعاء، أو الخميس، أو السبت، أو يكره التفصيل أو الخياطة أو الغزل في هذه الأيام ; أو يكره الجماع في ليلة من الليالي ويخاف على الولد، الجواب: الحمد لله، هذا كله باطل لا أصل له، بل الرجل إذا استخار الله تعالى وفعل شيئا مباحا فليفعله في أي وقت تيسر، ولا يكره التفصيل ولا الخياطة، ولا الغزل ولا نحو ذلك من الأفعال في يوم من الأيام، ولا يكره الجماع في ليلة من الليالي، ولا يوم من الأيام، والنبي ﷺ قد نهى عن التطير كما ثبت في الصحيح عن معاوية بن الحكم السلمي قال: { قلت يا رسول الله إن منا قوما يأتون الكهان، قال: فلا تأتوهم قلت: منا قوم يتطيرون، قال: ذاك شيء يجده أحدكم من نفسه فلا يصدنكم }، فإذا كان قد نهى عن أن يصده الطيرة عما عزم عليه، فكيف بالأيام والليالي، ولكن يستحب السفر يوم الخميس، ويوم السبت، ويوم الاثنين من غير نهي عن سائر الأيام إلا يوم الجمعة إذا كانت الجمعة تفوته بالسفر، ففيه نزاع بين العلماء، وأما الصناعات، والجماع فلا يكره في شيء من الأيام، والله أعلم .

مسألة: في قول النبي ﷺ { أنزل القرآن على سبعة أحرف } ما المراد بهذه السبعة، وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة أو واحد منها، وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف، وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أم لا، وإذا جازت القراءة بها فهل تجوز الصلاة بها أم لا ؟ أفتونا مأجورين، الجواب: الحمد لله رب العالمين، هذه مسألة كبيرة قد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب، وغيرهم، حتى صنف فيها التصنيف المفرد، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة صاحب " شرح الشاطبية "، فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطا فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وذكر ألفاظها وسائر الأدلة إلى ما لا يتسع له هذا المكان، ولا يليق بمثل هذا الجواب، ولا نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب، فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي ﷺ أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين، والعراقين، والشام، إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها علم النبوة من القرآن وتفسيره والحديث، والفقه في الأعمال الباطنة والظاهرة وسائر العلوم الدينية، فلما أراد ذلك جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار ليكون ذلك موافقا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده، أو اعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبعة هي الحروف السبعة، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم، ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة، وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المائتين، ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقا أو متقاربا كما قال عبد الله بن

مسعود: إنما هو كقول أحدكم أقبل، وهلم، وتعال، وقد يكون معنى أحدها ليس هو معنى الآخر، لكن كلا المعنيين حق، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض، وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي ﷺ في هذا الحديث حديث: { أنزل القرآن على سبعة أحرف: إن قلت غفورا رحيما أو قلت عزيزا حكيما، فالله كذلك ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة }، وهذا كما في القراءات المشهور: إلا أن يخافا ألا يقيما، وإلا أن يخافا ألا يقيما، وإن كان مكرهم لتزول، ولتزول منه الجبال، وبل عجبت، وبل عجبت، ونحو ذلك، ومن القراءات ما يكون المعنى فيها متفقا من وجه، متباينا من وجه كقوله: يخدعون ويخادعون، ويكذبون ويكذبون، ولمستم ولامستم، وحتى يطهرن ويطهرن، ونحو ذلك، وهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنته من المعنى علما وعملا، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى، ظنا أن ذلك تعارض، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله. وأما ما اتحد لفظه ومعناه، وإنما يتنوع صفة النطق به كالهمزات والمدات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها ونحو ذلك مما تسمى القراءات الأصول، فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد، مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى، إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا، ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه، ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها، مما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى وإن وافق رسم المصحف، وهو ما يختلف فيه النقط أو الشكل، ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعين من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة، أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي، ونحوهما، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف، بل أكثر العلماء الأئمة الذين أدركوا قراءة سفيان بن عيينة . وأحمد بن حنبل، وبشر بن الحارث، وغيرهم يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح المدنيين، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق، وغيرهم على قراءة حمزة، والكسائي، وللعلماء في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء، ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة يجمعون ذلك في الكتب ويقرءونه في الصلاة، وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم، وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة وجرت له قضية مشهورة فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه: ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة، ولكن من لم يكن عالما بها أو لم تثبت عنده كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره، ولم يتصل به بعض هذه القراءات فليس له أن يقرأ إلا بعلمه فإن القراءة كما قال زيد بن ثابت سنة يأخذها الآخر عن الأول، كما أن ما ثبت عن النبي ﷺ من أنواع الاستفتاحات في الصلاة، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة، وصفة صلاة الخوف، وغير ذلك كله حسن يشرع العمل به لمن علمه، وأما من علم نوعا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ولا أن يخالفه، كما قال النبي ﷺ: { لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا }، وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى }، كما قد ثبت ذلك في الصحيحين، ومثل قراءة عبد الله: فصيام ثلاثة أيام متتابعات، وكقراءته: { إن كانت الأزقية واحدة }، ونحو ذلك، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة ؟ على قولين للعلماء: هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد وروايتان عن مالك: إحداهما: يجوز ذلك لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة، والثانية: لا يجوز ذلك وهو قول أكثر العلماء، لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي ﷺ وإن ثبت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم { أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي ﷺ في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين }، والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر، وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره، وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل وهو أن القراءات السبعة هل هي حرف من الحروف السبعة أم لا، فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة، بل يقولون إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي ﷺ على جبريل، والأحاديث والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول، وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وغيره ، بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها، ثم أرسل عثمان بمشاورة الصحابة إلى كل مصر من أمصار المسلمين، بمصحف وأمر بترك ما سوى ذلك، قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة، ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكر محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، وإن كان جائزا لهم، مرخصا لهم فيه، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبا عليهم منصوصا بل مفوضا إلى اجتهادهم، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد، وكذلك مصحف غيره، وأما ترتيب آيات السور فهو منزل منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم، كما قدموا سورة على سورة، لأن ترتيب الآيات مأمور به نصا، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم، قالوا: فكذلك الأحرف السبعة، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد، اجتمعوا على ذلك اجتماعا سائغا، وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور، ومن هؤلاء من يقول بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أوفق لهم، أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة، ويقولون إنه نسخ ما سوى ذلك، وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما مما يخالف رسم هذا المصحف منسوخة، وأما من قال عن ابن مسعود إنه يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، وإنما قال: قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم أقبل، وهلم، وتعال، فاقرءوا كما علمتم، أو كما قال، فمن جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها، ومن لم يجوزه فله ثلاثة مآخذ: تارة يقول ليس هو من الحروف المنسوخة، وتارة يقول هو من الحروف المنسوخة، وتارة يقول هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه، وتارة يقول لم ينقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن، وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين، ولهذا كان في المسألة: قول ثالث وهو اختيار جدي أبي البركات، أنه إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة وهي الفاتحة عند القدرة عليها لم تصح صلاته، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة لعدم ثبوت القرآن بذلك، وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها، وهذا القول ينبني على أصل، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة فهل يجب القطع بكونه ليس منها، فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا، وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه، حتى قطع بعض هؤلاء كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي وغيره، ممن أثبت البسملة من القرآن في غير سورة النمل، لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه، والصواب القطع بخطإ هؤلاء، وأن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف، إذ لم يكتبوا فيه إلا القرآن، وجردوه عما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور ولكن مع ذلك لا يقال هي من السورة التي بعدها كما ليست من السورة التي قبلها، بل هي كما كتبت آية أنزلها الله في أول كل سورة، وإن لم تكن من السورة، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة، وسواء قيل بالقطع في النفي والإثبات فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت، بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء إن كل واحد من القولين حق، وإنها آية من القرآن في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين، وليست آية في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يصلون، لا يفصلون بها، وأما قول السائل ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف، فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله إذ ليس لأحد أن يقرأ برأيه المجرد، بل القراءة سنة متبعة، وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمامي، وقد قرأ بعضهم بالياء، وبعضهم بالتاء، لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف، ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء، ويتنوعون في بعض كما اتفقوا في قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون } في موضع وتنوعوا في موضعين، وقد بينا أن القراءتين كالآيتين فزيادة القراءات لزيادة الآيات، لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذلك أخصر في الرسم، والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب، لا على حفظ المصاحف، كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { إن ربي قال لي قم في قريش فأنذرهم، فقلت أي رب إذا يثلغوا رأسي أي يشدخوا فقال: إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا فابعث جندا أبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأنفق أنفق عليك }، فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال كما جاء في نعت أمته: أناجيلهم في صدورهم بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه إلا نظرا لا عن ظهر قلب، وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي ﷺ جماعة من الصحابة كالأربعة الذين من الأنصار، وكعبد الله بن عمرو، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم ليست هي الأحرف

السبعة التي أنزل القرآن عليها، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف، وكذلك ليست هذه القراءات السبعة هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين، بل القراءات الثابتة عن أئمة القرآن كالأعمش، ويعقوب، وخلف، وأبي جعفر يزيد بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، ونحوهم هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة عند من ثبت ذلك عنده، كما ثبت ذلك، وهذا أيضا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمامي الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون لهم بإحسان والأئمة بعدهم، هل هو بما فيه من القراءات السبعة وتمام العشرة وغير ذلك، هل هو حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها، أو هو مجموع الأحرف السبعة ؟ على قولين مشهورين: والأول: قول أئمة السلف والعلماء، والثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم، وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضا خلافا يتضاد في المعنى ويتناقض، بل يصدق بعضها بعضا كما تصدق الآيات بعضها بعضا، وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع، لا إلى الرأي والابتداع، أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل إن ذلك حرف من الأحرف السبعة، فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف، مع تنوع الأحرف في الرسم، فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى، وهذا من أسباب تركهم المصاحف أول ما كتبت غير مشكولة ولا منقوطة لتكون صورة الرسم محتملة للأمرين كالتاء والياء، والفتح والضم، وهم يضبطون باللفظ كلا الأمرين، ويكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيها بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين، فإن أصحاب رسول الله ﷺ تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعا كما قال أبو عبد الرحمن السلمي، وهو الذي روى عن عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: { خيركم من تعلم القرآن وعلمه }، كما رواه البخاري في صحيحه وكان يقرئ القرآن أربعين سنة، قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا دخل في معنى قوله { خيركم من تعلم القرآن وعلمه } تعليم حروفه ومعانيه جميعا، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر وغيرهما: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان، وفي الصحيحين: عن حذيفة قال: { حدثنا رسول الله ﷺ حديثين، رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ونزل القرآن }، وذكر الحديث بطوله، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك، وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول الله ﷺ إلى الناس، وتلقاه أصحابه عنه الإيمان والقرآن حروفه ومعانيه، وذلك مما أوحاه الله إليه كما قال تعالى: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست شاذة حينئذ، والله أعلم .

-مسألة: قوله ﷺ: { لا غيبة لفاسق } وما حد الفسق ؟ ورجل شاجر رجلين أحدهما شارب خمر، أو جليس في الشرب أو آكل حرام، أو حاضر الرقص أو السماع للدف أو الشبابة، فهل على من لم يسلم عليه إثم ؟ الجواب: أما الحديث فليس هو من كلام النبي ﷺ ولكنه مأثور عن الحسن البصري أنه قال أترغبون عن ذلك الفاجر ؟ اذكروه بما فيه يحذره الناس، وفي حديث آخر: { من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له } وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء، أحدهما: أن يكون الرجل مظهرا للفجور مثل: الظلم، والفواحش، والبدع المخالفة السنة، فإذا أظهر المنكر وجب الإنكار عليه بحسب القدرة كما قال النبي ﷺ: { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان } رواه مسلم، وفي المسند، والسنن: عن

أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس، إنكم تقرءون القرآن وتقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: { إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه، فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار، وأن يهجر ويذم على ذلك } فهذا معنى قولهم " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له "، بخلاف من كان مستترا بذنبه مستخفيا، فإن هذا يستر عليه لكن ينصح سرا ويهجره من عرف حتى يتوب ويذكر، وأمره على وجه النصيحة، النوع الثاني: أن يستشار الرجل في مناكحته ومعاملته أو استشهاده ويعلم أنه لا يصلح لذلك فينصحه مستشيره ببيان حاله، كما ثبت في الصحيح: { أن النبي ﷺ قالت له فاطمة بنت أبي: قد خطبني أبو جهم ومعاوية، فقال لها: أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له } فبين النبي ﷺ حال الخاطبين للمرأة فهذا حجة لقول الحسن: " أترغبون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يحذره الناس " فإن النصح في الدين أعظم من النصح في الدنيا، فإذا كان النبي ﷺ نصح المرأة في دنياها فالنصيحة في الدين أعظم، وإذا كان الرجل يترك الصلوات ويرتكب المنكرات وقد عاشره من يخاف أن يفسد دينه بين أمره له لتتقى معاشرته، إذا كان مبتدعا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة أو يسلك طريقا يخالف الكتاب والسنة ويخاف أن يضل الرجل الناس بذلك بين أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان مثل أن يكون بينهم عداوة دنيوية أو تحاسد أو تباغض أو تنازع على الرئاسة فيتكلم بمساوئه مظهرا للنصح وقصده في الباطن البغض في الشخص واستيفاؤه منه فهذا من عمل الشيطان، وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، بل يكون الناصح قصده أن الله يصلح ذلك الشخص وأن يكفي المسلمين ضرره في دينهم ودنياهم، ويسلك في هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه، ولا يجوز لأحد أن يحضر مجالس المنكر باختياره لغير ضرورة كما في الحديث أنه قال: { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر }، ورفع لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر، فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم صائما فقال: ابدءوا به، أما سمعتم الله يقول: { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم }، بين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن الله جعل حاضر المنكر كفاعله، ولهذا قال العلماء: إذا دعي إلى وليمة فيها منكر كالخمر والزمر لم يجز حضورها، وذلك أن الله تعالى قد أمرنا بإنكار المنكر بحسب الإمكان، فمن حضر المنكر باختياره ولم ينكره فقد عصى الله ورسوله، بترك ما أمره به من بغض إنكاره والنهي عنه، وإذا كان كذلك فهذا الذي يحضر مجالس الخمر باختياره من غير ضرورة ولا ينكر المنكر كما أمره الله هو شريك الفساق في فسقهم فيلحق بهم .

مسألة: في رجل لعب بالشطرنج، وقال: هو خير من النرد، فهل هذا صحيح، وهل اللعب بالشطرنج بعوض أو غير عوض حرام، وما قول العلماء فيه ؟ الجواب: الحمد لله، اللعب بالشطرنج حرام عند جماهير علماء الأمة وأئمتها كالنرد، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: { من لعب بالنرد فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه }، وقال: { من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله }، وثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، وروي أنه قلب الرقعة عليهم، وقالت طائفة من السلف: الشطرنج من الميسر، وهو كما قالوا، فإن الله حرم الميسر، وقد أجمع العلماء على أن اللعب بالنرد والشطرنج حرام إذا كان بعوض، وهو من القمار والميسر الذي حرم الله، والنرد حرام عند الأئمة الأربعة سواء كان بعوض أو غير عوض، ولكن بعض أصحاب الشافعي جوزه بغير عوض، لاعتقاده أنه لا يكون حينئذ من الميسر، وأما الشافعي وجمهور أصحابه، وأحمد، وأبو حنيفة، وسائر الأئمة فيحرمون ذلك بعوض وبغير عوض، وكذلك الشطرنج صرح هؤلاء الأئمة بتحريمها مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وغيرهم، وتنازعوا أيهما أشد فقال مالك وغيره: الشطرنج شر من النرد، وقال أحمد وغيره: الشطرنج أخف من النرد، ولهذا توقف الشافعي في النرد إذا خلا عن المحرمات، إذ سبب الشبهة في ذلك أن أكبر من يلعب فيها بعوض بخلاف الشطرنج، فإنها تلعب بغير عوض غالبا، وأيضا فظن بعضهم أن اللعب بالشطرنج يعين على القتال لما فيها من صف الطائفتين، والتحقيق أن النرد والشطرنج إذا لعب بهما بعوض فالشطرنج شر منها ; لأن الشطرنج حينئذ حرام بإجماع المسلمين، وكذلك يحرم بالإجماع إذا اشتملت على حرام من كذب ويمين فاجرة، أو ظلم أو جناية، أو حديث غير واجب ونحوها، وهي حرام عند الجمهور، وإن خلت عن هذه المحرمات فإنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء أعظم من النرد إذا كان بعوض، وإذا كانا بعوض فالشطرنج شر في الحالين، وأما إذا كان العوض من أحدهما ففيه من أكل المال بالباطل ما ليس في الآخر، والله تعالى قرن الميسر بالخمر والأنصاب، والأزلام، لما فيها من الصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهو إيقاع العداوة والبغضاء، فإن الشطرنج إذا استكثر منها تستر القلب وتصده عن ذلك أعظم من تستر الخمر، وقد شبه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لاعبيها بعباد الأصنام، حيث قال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ كما شبه النبي ﷺ شارب الخمر بعابد الوثن في الحديث الذي في المسند عن النبي ﷺ أنه قال: { شارب الخمر كعابد وثن }، وأما ما يروى عن سعيد بن جبير من اللعب بها، فقد بين سبب ذلك أن الحجاج طلبه للقضاء، فلعب بها ليكون ذلك قادحا فيه فلا يولى القضاء، وذلك أنه رأى ولاية الحجاج أشد ضررا عليه في دينه من ذلك، والأعمال بالنيات وقد يباح ما هو أعظم تحريما من ذلك لأجل الحاجة، وهذا يبين أن اللعب بالشطرنج كان عندهم من المنكرات، كما نقل عن علي وابن عمر وغيرهما، ولهذا قال أبو حنيفة وأحمد وغيرهما: أنه لا يسلم على لاعب الشطرنج، لأنه مظهر للمعصية، وقال صاحبا أبي حنيفة: يسلم عليه .

فصل وأما قول القائل: أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه حقيقة من غير واسطة، وتقولون إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة، وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة فما الفرق بين ذلك، فيقال له: بين هذا وهذا من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق فإن كل عاقل يميز بين سماع كلام النبي ﷺ منه بغير واسطة كسماع الصحابة منه، وبين سماعه منه بواسطة المبلغين عنه كأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس، وكل من يسمع كلام النبي ﷺ حقيقة، وكذلك من سمع شعر حسان بن ثابت أو عبد الله بن رواحة أو غيرهما من الشعراء منه بلا واسطة، ومن سمعه من الرواة عنه ; يعلم الفرق بين هذا وهذا، وهو في الموضعين شعر حسان لا شعر غيره، والإنسان إذا تعلم شعر غيره، فهو يعلم أن ذلك الشاعر أنشأ معانيه ونظم حروفه بالأصوات المقطعة يرويه بحركة نفسه وأصوات نفسه، فإذا كان هذا الفرق معقولا في كلام المخلوقين، بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء، وسماعه بواسطة الراوي عنه أو المبلغ عنه، فكيف لا يعقل ذلك في سماع كلام الله، وقد تقدم أن من ظن أن المسموع من

القراء هو صوت الرب، فهو إلى تأديب المجانين أقرب منه إلى خطاب العقلاء، وكذلك من توهم أن الصوت قديم، وأن المراد قديم، فهذا لا يقوله ذو حس سليم، بل ما بين لوحي المصحف كلام الله، وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين، لا كلام غيره، فمن قال إن الذي في المصحف ليس كلام الله بل كلام غيره فهو ملحد مارق، ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته، وانتقل إلى غيره، كما كتب في المصاحف، وأن المراد قديم أزلي، فهو أيضا مارق، بل كلام المخلوقين يكتب في الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم، فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى، والشبهة تنشأ في مثل هذا من جهة أن بعض الناس لا يفرق بين المطلق من الكلام والمقيد، مثال ذلك أن الإنسان يقول رأيت الشمس والقمر والهلال إذا رآه بغير واسطة، وهذه الرؤية المطلقة ; وقد يراه في ماء أو مرآة ; فهذه رؤية مقيدة ; فإذا أطلق قوله رأيته، أو ما رأيته، حمل على مفهوم اللفظ المطلق، وإذا قال لقد رأيت الشمس في الماء والمرآة، فهو كلام صحيح مع التقييد، واللفظ يختلف معناه بالإطلاق والتقييد، فإذا وصل بالكلام ما يغير معناه كالشرط والاستثناء ونحوهما من التخصيصات المتصلة، كقوله ألف سنة إلا خمسين عاما، كان هذا المجموع دالا على تسعمائة وخمسين سنة بطرق الحقيقة عند جماهير الناس، ومن قال: إن هذا مجاز فقد غلط ; فإن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه ; وما يقرن باللفظ من القرائن اللفظية الموضوعة هي من تمام الكلام، ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين، ولا يجوز نفي مفهومهما، بخلاف استعمال نفي الأسد في الرجل الشجاع مع أن قول القائل هذا اللفظ حقيقة، وهذا مجاز، نزاع لفظي، وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة وفي القرآن، ولم ينطق بهذا أحد من السلف والأئمة، ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحد من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد، فإن فيما كتبه من الرد على الزنادقة والجهمية هذا من مجاز القرآن، وأول من قال ذلك مطلقا أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه الذي صنفه في مجاز القرآن، ثم إن هذا كان معناه عند الأولين مما يجوز في اللغة ويسوغ فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء " عقد لازم " وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى المجاز، ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير المقصود، فإن القائل إذا قال: رأيت الشمس أو القمر أو الهلال أو غير ذلك في الماء والمرآة، فالعقلاء متفقون على الفرق بين هذه الرؤية، وبين رؤية ذلك بلا واسطة، وإذا قال قائل: ما رأى ذلك بل رأى مثاله أو خياله أو الشعاع المنعكس أو نحو ذلك، لم يكن هذا مانعا لما يعلمه الناس ويقولونه من أنه رآه في الماء أو المرآة، وهذه الرؤية في الماء أو المرآة حقيقة مقيدة، وكذلك قول النبي ﷺ: { من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي }، هو كما قال ﷺ رآه حقا، فمن قال رآه في المنام حقا فقد أخطأ، ومن قال إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية المقيدة في النوم فقد أخطأ، ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون تلك، وكذلك ما سمعه منه من الكلام في المنام هو سماع منه في المنام، وليس هذا كالسماع منه في اليقظة، وقد يرى الرائي المنام أشخاصا ويخاطبونه، والمرئيون لا شعور لهم بذلك، وإنما رأى أمثالهم، ولكن يقال رآهم في المنام حقيقة، فيحترز بذلك عن الرؤيا التي هي حديث النفس، فإن الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام، وقد ثبت هذا التقسيم في الصحيح عن النبي ﷺ، وتلك الرؤيا يظهر لكل من الفرق بينها وبين اليقظة ما لا يظهر في غيرها، فكما أن الرؤية تكون مطلقة، وتكون بواسطة المرآة والماء أو غير ذلك حتى أن المرئي يختلف باختلاف المرآة، فإذا كانت كبيرة مستديرة رأى كذلك، فذلك في السماع يفرق بين من سمع كلام غيره منه، ومن سمعه بواسطة المبلغ، ففي الموضعين المقصود سماع كلامه، كما أن هناك في الموضعين يقصدونه، لكن إذا كان بواسطة اختلف باختلاف الواسطة، فيختلف باختلاف أصوات المبلغين كما يختلف باختلاف المرايا، قال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء }، فجعل التكليم ثلاثة أنواع الوحي المجرد، والتكليم من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام، والتكليم بواسطة إرسال الرسول، كما كلم الرسل بإرسال الملائكة، وكما نبأنا الله من أخبار المنافقين بإرسال محمد ﷺ والمسلمون متفقون على أن أمرهم بما أمرهم به من القرآن، ونهاهم عنه في القرآن وأخبرهم به من القرآن فأمره ونهيه وإخباره بواسطة الرسول، فهذا المعنى أوجب الشبهة، والنبي ﷺ يروي عن ربه، ويخبر عن ربه، ويحكي عن ربه، فهذا يذكر ما يذكره عن ربه من كلامه الذي قاله راويا حاكيا عنه . فلو قال من قال: إن القرآن حكاية إن محمدا حكاه عن الله كما يقال بلغه عن الله وأداه عن الله لكان قد قصد معنى صحيحا، لكن يقصدون ما يقصده القائل بقوله: فلان يحكي فلانا أي يفعل مثل فعله، وهو إنما يتكلم بمثل كلام الله، فهذا باطل، قال الله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }، ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة لا بالوسائل المطلوبة لغيرها، فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه بالمرآة حصل مقصوده، وقال رأيت الوجه وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة، وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره ألف ألفاظه وقصد معانيه، فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود، وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير باختلاف الصائتين والقلوب، وإنما أشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود، كما في الاسم والمسمى، فإن القائل إذا قال: جاء زيد وذهب عمرو لم يكن مقصوده الإخبار بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد ولفظ عمرو وإلا كان مبطلا، فكذلك إذا قال القائل هذا كلام الله، وكلام الله غير مخلوق، فالمقصود بواسطة حركة التالي وصوته، فمن ظن المشار إليه هو صوت القارئ وحركته كان مبطلا، ولهذا لما قرأ أبو طالب المكي على الإمام أحمد رضي الله عنه: { قل هو الله أحد }، وسأله هل هذا كلام الله وهل هو مخلوق ؟ فأجابه: كلام الله وهو غير مخلوق، ونقل عنه أبو طالب خطأ منه أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فاستدعاه وغضب عليه وقال: أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ قال: لا، ولكن قرأت عليك { قل هو الله أحد } وقلت لك هذا غير مخلوق، فقلت: نعم، قال: فلم تحكي عني ما لم أقل ؟ لا تقل هذا، فإن هذا لم يقله عالم، وقصته مشهورة حكاها عبد الله، وصالح، وحنبل، والمروزي، وثوبان، وبسطها الخلال في كتاب السنة، وصنف المروزي في مسألة اللفظ مصنفا ذكر فيه قول الأئمة، وهذا الذي ذكره أحمد من أحسن الكلام وأدقه فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود، وهو كلام الله الذي تكلم به، لا ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم، فإذا قيل لفظي جعل نفس الوسائط غير مخلوقة، وهذا باطل كما أن رأى راء في مرآة فقال أكرم الله هذا الوجه وحياه أو قبحه كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها، وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال قد أبدر، فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال هذا رجل صالح أو رجل فاسق، علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم، لا نفس الصوت المسموع من الناطق، فلو قال: هذا الصوت أو صوت فلان صالح أو فاسق فسد المعنى، وكان بعضهم يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، كرجل ضرب رجلا وعليه فروة فأوجعه بالضرب، فقال له: لا تضربني، فقال: أنا ما أضربك وإنما أضرب الفروة، فقال: إنما الضرب يقع علي، فقال: هكذا إذا قلت لفظي بالقرآن مخلوق، فالخلق إنما يقع على القرآن، يقول: كما أن المقصود بالضرب بدنك، واللباس واسطة، فهكذا المقصود بالتلاوة كلام الله، وصوتك واسطة، فإذا قلت " مخلوق " وقع ذلك على المقصود، كما إذا سمعت قائلا يذكر رجلا فقلت أنا أحب هذا، وأنا أبغض هذا، انصرف الكلام إلى المسمى المقصود بالاسم، لا إلى الصوت الذاكر، ولهذا قال الأئمة: القرآن كلام الله غير مخلوق، كيفما تصرف، خلاف أفعال العباد وأصواتهم، فإنه من نفى عنها الخلق كان مبتدعا ضالا، وأما قول القائل: يقولون: إن القرآن صفته، وإن صفات الله غير مخلوقة، فإن قلتم إن هذا نفس كلام الله، فقد قلتم بالحلول، وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية، وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا، فمن تبين له ما نبهنا عليه سهل عليه الجواب عن هذا وأمثاله، فإن منشأ الشبهة أن قول القائل هذا كلام الله، يجعل أحكامه واحدة سواء كان كلامه مسموعا منه أو كلامه مبلغا عنه، ومن هنا ضلت طوائف من الناس، طائفة قالت: هذا كلام الله، وهذا حروف وأصوات مخلوقة، وكلام الله مخلوق، وطائفة قالت هذا مخلوق، وكلام الله ليس بمخلوق، وهذا ليس كلام الله، وطائفة قالت: هذا كلام الله، وكلام الله ليس بمخلوق، وهذا ألفاظنا وتلاوتنا، فألفاظنا وتلاوتنا غير مخلوقة، ومنشأ ضلال الجميع من عدم الفرق في المشار إليه في هذا، وأنت تقول هذا الكلام تسمعه من قائله فتقول هذا الكلام صدق وحق وصواب وكلام حكيم، وكذلك إذا سمعته من ناقله تقول هذا الكلام صدق وحق وصواب، وهو كلام حكيم، فالمشار إليه في الموضعين واحد، وتقول أيضا: إن هذا صوت حسن، وهذا كلام من وسط القلب فالمشار إليه هنا ليس هو المشار إليه هناك: بل أشار إلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه، وإذا كتب الكلام صفحتين كالمصحفين تقول في كل منهما هذا قرآن كريم، وهذا كتاب مجيد، وهذا كلام، فالمشار إليه واحد، ثم تقول: هذا خط حسن، وهذا قلم النسخ أو الثلث، وهذا الخط أحمر أو أصفر، والمشار إليه هنا ما يختص به كل من المصحفين عن الآخر، فإذا ميز الإنسان في المشار إليه بهذا وهذا، تبين المتفق والمفترق، وعلم أن هذا القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن المشار إليه الكلام من حيث هو مع قطع النظر عما به وصل إلينا من حركات العباد وأصواتهم، ومن قال: هذا مخلوق، وأشار به إلى مجرد صوت العبد وحركته لم يكن له في هذا حجة على أن القرآن نفسه حروفه ومعانيه الذي تعلم هذا القارئ من غيره وبلغه بحركته وصوته مخلوق من اعتقد ذلك فقد أخطأ وضل، ويقال لهذا: هذا الكلام الذي أشرت إليه كان موجودا قبل أن يخلق هذا القارئ فهب أن القارئ لم يخلق، ولا وجدت لا أفعاله ولا أصواته فمن أين يلزم أن الكلام نفسه الذي كان موجودا قبله يعدم بعدمه، ويحدث بحدوثه، فإشارته بالخلق إن كان إلى ما يختص به هذا القارئ من أفعاله وأصواته، فالقرآن غني عن هذا القارئ، وموجود قبله فلا يلزم من عدم هذا عدمه: وإن كانت إلى الكلام الذي يتعلمه الناس بعضهم من بعض فهذا هو الكلام المنزل من الله الذي جاء به جبريل إلى محمد وبلغه محمد لأمته، وهو كلام الله الذي تكلم به، وذلك يمتنع أن يكون مخلوقا، فإنه لو كان مخلوقا لكان كلاما لمحله الذي خلق فيه ولم يكن كلاما لله، ولأنه لو كان سبحانه إذا خلق كلاما كان كلامه كان ما نطق به كل ناطق كلامه، مثل تسبيح الجبال وشهادة الجلود، بل كل كلام في الوجود، وهذا قول الحلولية الذين يقولون: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ومن قال: القرآن مخلوق فهو بين أمرين، إما أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه، وبين أن يجعله غير متكلم بشيء أصلا، فيجعل العباد المتكلمين أكمل منه، وشبهه بالأصنام والجامدات والموات، كالعجل الذي لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، فيكون قد فر عن إثبات صفات وشبهه بالجامد والموات، وكذلك قول القائل: هذا نفس كلام الله، وعين كلام

الله، وهذا الذي في المصحف هو عين كلام الله، ونفس كلام الله، وأمثال هذه العبارات، هذه مفهومها عند الإطلاق في نظر المسلمين أنه كلامه لا كلام غيره، وأنه لا زيادة فيه ولا نقصان، فإن من ينقل كلام غيره ويكتبه في كتاب قد يزيد فيه وينقص، كما جرت عادة الناس في كثير من مكاتبات الملوك وغيرها، فإذا جاء كتاب السلطان فقيل هذا الذي فيه كلام السلطان بعينه بلا زيادة ولا نقص، يعني لم يزد فيه الكاتب ولا نقص، وكذلك من نقل كلام بعض الأئمة في مسألة من تصنيفه، قيل هذا الكلام كلام فلان بعينه، يعني لم يزد فيه ولم ينقص كما قال النبي ﷺ: { نضر الله امرأ سمع حديثا فبلغه كما سمعه }، فقوله: فبلغه كما سمعه، لم يرد أن يبلغه بحركاته وأصواته التي سمعه بها، ولكن أراد أنه يأتي بالحديث على وجهه، لا يزيد فيه ولا ينقص، فيكون قد بلغه كما سمعه، فالمستمع له من المبلغ يسمعه كما قاله ﷺ ويكون قد سمع كلام رسول الله ﷺ كما قاله، وذلك معنى قولهم: " وهذا كلامه بعينه "، وهذا نفس كلامه ; لا يريدون أن هذا هو أصواته وحركاته، وهذا لا يقوله عاقل ولا يخطر ببال عاقل ابتداء، ولكن اتباع الظن وما تهوى الأنفس يلجئ أصحابه إلى القرمطة في السمعيات والسفسطية في العقليات، ولو ترك الناس على فطرتهم لكانت صحيحة سليمة، فإن من تكلم بكلام سمع منه ونقل عنه أو كتبه في كتاب، لا يقول العاقل إن ما قام بالمتكلم من المعاني التي في قلبه والألفاظ القائمة بلسانه، فارقته وانتقلت إلى المستمع والمبلغ عنه، ولا فارقته وحلت في الورق، بل ولا يقول إن نفس ما قام من المعاني والألفاظ هو نفس المراد الذي في الورق، بل ولا يقول إن نفس ألفاظه التي هي أصواته هي أصوات المبلغ عنه، فهذه الأمور كلها ظاهرة لا يقولها عاقل في كلام المخلوق إذا سمع وبلغ وتكتب في كتاب، فكيف يقال ذلك في كلام الله الذي سمع منه وبلغ عنه، أو كتبه سبحانه كما كتب في التوراة لموسى، وكما كتب القرآن في اللوح المحفوظ، يكون كما كتب في مصاحفهم، وإذا كان من سمع كلام مخلوق فبلغه عنه بلفظه ومعناه، بل شعر مخلوق، كما يبلغ شعر حسان وابن رواحة ولبيد وأمثالهم من الشعراء، ويقول الناس: هذا شعر حسان بعينه، وهذا هو شعر حسان، وهذا شعر لبيد بعينه كقوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، ومع هذا فيعلم كل عاقل أن رواة الشعر ومنشديه لم يسلبوا الشعراء نفس صفاتهم حين حلت، بل ولا عين ما قام بأولئك من صفاتهم وأفعالهم كأصواتهم وحركاتهم حلت بالرواة والمنشدين، فكيف يتوهم متوهم أن صفات الباري: كلامه أو غير كلامه فارق ذاته، وحل في مخلوقاته، وأن ما قام بالمخلوق من صفاته وأفعاله كحركاته وأصواته هي صفات الباري حلت فيه، وهم لا يقولون مثل ذلك في المخلوق، بل يمثلون العلم بنور السراج يقتبس من المتعلم، ولا ينقص ما عند العالم كما يقتبس المقتبس ضوء السراج، فيحدث الله له ضوءا، كما يقول إن الهوى ينقلب نارا بمجاورة الفتيلة للمصباح من غير أن تتغير تلك النار التي في المصباح، والمقرئ يقرأ القرآن ويعلم العلم ولم ينقص مما عنده شيء، بل يصير عند المتعلم مثل ما عنده، ولهذا يقال: فلان ينقل علم فلان وينقل كلامه، ويقال العلم الذي كان عند فلان صار إلى فلان، وأمثال ذلك، كما يقال نقلت ما في الكتاب، ونسخت ما في الكتاب، أو نقلت الكتاب ونسخته، وهم لا يريدون إلا نفس الحروف التي في الكتاب الأول عدمت منه وحلت في الثاني، بل لما كان المقصود من نسخ الكتاب من الكتب ونقلها من جنس نقل العلم والكلام، وذلك يحصل بأن يجعل في الثاني مثل ما في الأول، فيبقى المقصود بالأول منقولا منسوخا، وإن كان لم يتغير الأول، بخلاف نقل الأجسام وتوابعها، فإن ذلك إذا نقل من موضع إلى موضع زال عن الأول، وذلك لأن الأشياء لها وجود في أنفسها، وهو وجودها العيني، أولها ثبوتها في العلم ثم في اللفظ المطابق للعلم، ثم في الخط، وهذا الذي يقال وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البيان، ووجود عيني، ووجود علمي، ولفظي ورسمي، ولهذا افتتح الله كتابه بقوله تعالى: { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم }، فذكر الخلق عموما وخصوصا، وذكر التعليم عموما وخصوصا، فالخط يطابق اللفظ، واللفظ يطابق العلم، والعلم يطابق المعلوم، ومن هنا غلط من غلط فظن أن القرآن في المصحف كالأعيان في الورق فظن أن قوله: { إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون }، كقوله { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } فجعل إثبات القرآن الذي هو كلام الله في المصاحف، كإثبات الرسول في المصاحف وهذا غلط وكإثبات اسم الرسول، هذا كلام، وهذا كلام، وأما إثبات اسم الرسول فهذا كإثبات الأعمال أو كإثبات القرآن في زبر الأولين، قال تعالى: { وكل شيء فعلوه في الزبر }، وقال تعالى: { وإنه لفي زبر الأولين }، فثبوت الأعمال في الزبر، وثبوت القرآن في زبر الأولين، هو مثل كون الرسول مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ولهذا مثل سبحانه بلفظ الزبر، والكتب زبر، يقال زبرت الكتاب إذا كتبته والزبور بمعنى المزبور أي: المكتوب، فالقرآن نفسه ليس عند بني إسرائيل ولكن ذكره، كما أن محمدا ليس عندهم، ولكن ذكره، فثبوت الرسول في كتبهم كثبوت القرآن في كتبهم، بخلاف ثبوت القرآن في اللوح المحفوظ وفي المصاحف، فإن نفس القرآن أثبت فيها، فمن جعل هذا مثل هذا كان ضلاله بينا، وهذا مبسوط في موضعه، والمقصود هنا أن نفس الموجودات وصفاتها إذا انتقلت من محل إلى محل حلت في ذلك المحل الثاني، وأما العلم بها والخبر عنها فيأخذه الثاني عن الأول، مع بقائه في الأول، وإن كان الذي عند الثاني هو نظير ذلك ومثله، لكن لما كان المقصود بالعلمين واحد في نفسه صارت وحدة المقصود توجب وحدة التابع له، والدليل عليه، ولم يكن

للناس غرض في تعدد التابع كما في الاسم مع المسمى، فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون، ودعا به أناس متعددون، فالناس يقولون إنه اسم واحد لمسمى، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله، وقال ذلك هذا المؤذن، وهذا المؤذن، وقاله غير المؤذن، فالناس يقولون إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله، كما أن المسمى هو الله ورسوله، وإذا قال: { اقرأ باسم ربك }، وقال: { اركبوا فيها بسم الله } وقال: { سبح اسم ربك الأعلى }، وقال: ( بسم الله ) ففي الجميع المذكور هو اسم الله وإن تعدد الذكر والذاكر، فالخبر الواحد من المخبر الواحد من مخبره، والأمر الواحد بالمأمور به من الأمر الواحد، بمنزلة الاسم الواحد لمسماه، هذا في المؤلف نظير هذا في المفرد، وهذا هو واحد باعتبار الحقيقة، وباعتبار اتحاد المقصود وإن تعدد من يذكر ذلك الاسم والخبر، وتعددت حركاتهم وأصواتهم وسائر صفاتهم، وأما قول القائل: إن قلتم إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول، وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية، فهذا قياس فاسد، مثال رجل ادعى أن النبي ﷺ يحل بذاته في بدن الذي يقرأ حديثه فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا النبي ﷺ لا يحل في بدن غيره فقال: أنتم تقولون إن المحدث يقرأ كلامه، وإن ما يقرؤه هو كلام النبي ﷺ فإذا قلتم ذلك فقد قلتم بالحلول، ومعلوم أن هذا في غاية الفساد، والناس متفقون على إطلاق القول بأن كلام زيد في هذا الكلام، وهذا الذي سمعناه كلام زيد، ولا يستجيز العاقل إطلاق القول بأنه هو نفسه في هذا المتكلم أو في هذا الورق، وقد نطقت النصوص بأن القرآن في الصدور كقول النبي ﷺ { استذكروا القرآن فلهو أشد تعلقا من صدور الرجال من النعم في عقلها }، وقوله: { الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب } وأمثال ذلك، وليس هذا عند عاقل مثل أن يقال: الله في صدورنا وأجوافنا، ولهذا لما ابتدع شخص يقال له الصوري بأن قال: القرآن في صدورنا، فقد قال بقول النصارى، فقيل لأحمد: قد جاءت جهمية رابعة إلى جهمية الخلقية واللفظية والواقفية وهذه الواقفة، اشتد نكيره لذلك وقال: هذا أعظم من الجهمية، وهو كما قال: فإن الجهمية ليس فيهم من ينكر أن يقال: القرآن في الصدور، ولا يشبه هذا بقول النصارى بالحلول إلا من هو في غاية الضلالة والجهالة، فإن النصارى يقولون الأب والابن وروح القدس إله واحد، وإن الكلمة التي هي اللاهوت تدرعت الناسوت وهو عندهم إله يخلق ويرزق، ولهذا كانوا يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم، ويقولون: المسيح ابن الله، ولهذا كانوا متناقضين، فإن الذي تدرع المسيح كان هو الإله الجامع للأقانيم، فهو الأب نفسه وإن كان هو صفة من صفاته، فالصفة لا تخلق ولا ترزق، وليست إلها، والمسيح عندهم إله، ولو قال النصارى: إن كلام الله في صدر المسيح، كما هو في صدور الأنبياء والمؤمنين لم يكن في قولهم ما ينكر، فالحلولية المشهورون بهذا الاسم من يقول بحلول الله في البشر كما قالت النصارى والغالبة من الرافضة، وغلاة أتباع المشايخ يقولون بحلوله في شيء كما قالت الجهمية إنه بذاته في كل مكان، وهو سبحانه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وكذلك من قال باتحاده بالمسيح أو غيره أو قال باتحاده بالمخلوقات كلها، أو قال وجود المخلوقات أو نحو ذلك، فأما قول القائل: إن كلام الله في قلوب أنبيائه وعباده المؤمنين، وإن الرسل بلغت كلام الله والذي بلغته هو كلام الله، وإن الكلام في الصحيفة ونحو ذلك، فهذا لا يسمى حلولا، ومن سماه حلولا لم يكن بتسميته لذلك مبطلا للحقيقة، وقد تقدم أن ذلك لا يقتضي مفارقة صفة المخلوق له وانتقالها إلى غيره، فكيف صفة الخالق تبارك وتعالى، ولكن لما كان فيه شبهة الحلول تنازع الناس في إثبات لفظ الحلول ونفيه عنه، هل يقال إن كلام الله حال في المصحف، أو حال في الصدور، وهل يقال كلام الناس المكتوب حال في المصحف أو حال في قلوب حافظيه، فمنهم طائفة نفت الحلول كالقاضي أبي يعلى وأمثاله وقالوا ظهر كلام الله في هذا، ولا نقول حل، لأن حلول صفة الخالق في المخلوق أو حلول القديم في المحدث ممتنع، وطائفة أطلقت القول بأن كلام الله حال في المصحف كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي الملقب بشيخ الإسلام وقالوا ليس هذا هو الحلول المحذور الذي نفيناه، بل نطلق القول بأن الكلام في الصحيفة، ولا يقال بأن الله في الصحيفة أو في صدر الإنسان، كذلك نطلق القول بأن كلامه حال في ذلك دون حلول ذاته، وطائفة قالت كأبي علي بن أبي موسى وغيره قالوا لا نطلق الحلول نفيا ولا إثباتا، لأن إثبات ذلك يوهم انتقال صفة الرب إلى المخلوقات، ونفي ذلك يوهم نفي نزول القرآن إلى الخلق، فنطلق ما أطلقته النصوص، ونمسك عما في إطلاقه محذور لما في ذلك من الإجمال، وأما قول القائل: إن قلتم بالحلول قلتم بمقالتنا، فجواب ذلك أن المقالة المنكرة هنا تتضمن ثلاثة أمور فإذا زالت لم يبق منكرا، أحدها: من يقول إن القرآن العربي لم يتكلم الله به، وإنما أحدثه غير الله كجبريل ومحمد، وإن الله خلقه في غيره، الثاني: قول من يقول إن كلام الله ليس إلا معنى واحدا، هو الأمر والنهي والخبر، وإن الكتب الإلهية تختلف باختلاف العبارات لا باختلاف المعاني، فيجعل معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدا، وكذلك معنى آية الدين وآية الكرسي، كمن يقول إن معاني أسماء الله الحسنى معنى واحد فمعنى العليم والقدير والرحيم والحليم معنى واحد، فهذا اتحاد في أسمائه وصفاته وآياته، الثالث: قول من يقول إن ما بلغه الرسل عن الله من المعنى والألفاظ ليس هو كلام الله، بل كلام التالين لا كلام رب العالمين، فهذه الأقوال الثلاثة باطلة بأي عبارة عبر عنها، وأما قول من قال: إن القرآن العربي كلام الله، نقله عنه رسول الله ﷺ وإنه تارة يسمع من الله وتارة من رسله، وهو كلام الله حيث تصرف وكلام الله حيث يتكلم، لم يخلقه في غيره، ولا يكون كلام الله مخلوقا ولو قرأه الناس وكتبوه وسمعوه، ومن قال مع ذلك إن أفعال العباد وأصواتهم وسائر صفاتهم مخلوقة، فهذا لا ينكر عليه، وإذا نفى الحلول وأراد به أن صفة الموصوف لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فقد أصاب في هذا المعنى، لكن عليه مع ذلك أن يؤمن أن القرآن العربي كلام الله تعالى، وليس هو ولا شيء منه كلاما لغيره، ولكن بلغته عنه رسله، وإذا كان كلام المخلوق يبلغ عنه مع العلم بأن كلامه حروفه ومعانيه ومع العلم بأن شيئا من صفاته لم تفارق ذاته فالعلم بمثل هذا من كلام الله أولى وأظهر، والله أعلم .

وهؤلاء الذين يشهدون " الحقيقة الكونية " وهي ربوبيته تعالى لكل شيء، ويجعلون ذلك مانعا من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال، فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقا عاما، فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة، وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } وقالوا: { لو شاء الرحمن ما عبدناهم }، وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضا: بل كل من احتج بالقدر فإنه متناقض، فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما فعل ; فلا بد إذا ظلمه ظالم أو ظلم الناس ظالم وسعى في الأرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من أنواع الضرر التي لا قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر ; وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوان أمثاله، فيقال له: إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك: حجة، وأصحاب هذا القول [ الذين ] يحتجون بالحقيقة الكونية لا يطردون هذا القول ولا يلتزمونه، وإنما هم بحسب آرائهم وأهوائهم ; كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري ; أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، ومنهم " صنف " يدعون التحقيق والمعرفة، فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلا وأثبت له صنعا ; أما من شهد أن أفعاله مخلوقة ; أو أنه مجبور على ذلك ; وأن الله هو المتصرف فيه، كما تحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد، وقد يقولون: من شهد " الإرادة " سقط عنه التكليف، ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف لشهوده الإرادة، فهؤلاء لا يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فشهدوا أن الله خالق أفعال العباد، وأنه يدبر جميع الكائنات، وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علما وبين من يراه شهودا، فلا يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمه فقط، ولكن عمن يشهده، فلا يرى لنفسه فعلا أصلا، وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعا من التكليف على هذا الوجه، وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد، وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلافه، كما ضاق نطاق المعتزلة ونحوهم من القدرية عن ذلك، ثم المعتزلة أثبتت الأمر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة الله العامة وخلقه لأفعال العباد، وهؤلاء أثبتوا القضاء والقدر ونفوا الأمر والنهي في حق من شهد القدر، إذ لم يمكنهم نفي ذلك مطلقا، وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة ; ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد، وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية، ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه الأمر والنهي، وصار من الخاصة، وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة، وقول هؤلاء كفر صريح، وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر ; فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضرا إلى أن يموت، لا يسقط عنه الأمر والنهي لا بشهوده القدر، ولا بغير ذلك، فمن لم يعرف ذلك عرفه، وبين له، فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فإنه يقتل، وقد كثرت مثل هذه المقالات في المستأخرين، وأما المستقدمون من هذه الأمة، فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم، وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله، ومعاداة له، وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله ; ومضادة له في حكمه، وإن كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك، ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول، وطريق أولياء الله المحققين ; فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلاة لا تجب عليه ; لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية، أو أن الخمر حلال له لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر ; أو أن الفاحشة حلال له ; لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب ; ونحو ذلك، ولا ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله ; وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله ; فهؤلاء الأصناف فيهم شبه من المشركين، إما أن يبتدعوا، وإما أن يحتجوا بالقدر، وإما أن يجمعوا بين الأمرين ; كما قال تعالى عن المشركين: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } وكما قال تعالى عنهم: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء }، وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام، والعبادة التي لم يشرعها الله بمثل قوله تعالى: { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه } إلى آخر السورة، وكذلك في سورة الأعراف في قوله: { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } إلى قوله: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } إلى قوله: { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } إلى قوله: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } إلى قوله: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }، وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع " حقيقة "، كما يسمون ما يشهدون من القدر " حقيقة "، وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه، ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ونحو ذلك، وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقا، بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة، وأمرهم باتباعها دون اتباع أمر الله ورسوله، نظير بدع أهل الكلام من الجهمية وغيرهم، الذين يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها، دون ما دلت عليه السمعيات، ثم الكتاب والسنة إما أن يحرفوه عن مواضعه، وإما أن يعرضوا عنه بالكلية، فلا يتدبرونه ولا يعقلونه، بل يقولون: نفوض معناه إلى الله، مع اعتقادهم نقيض مدلوله، وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة وجدت جهليات واعتقادات فاسدة، وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء الله المخالفة للكتاب والسنة وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء الله لا أولياؤه، وأصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله، واختياره الهوى على اتباع أمر الله، فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد، فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته، فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبي ﷺ بقوله في الحديث الصحيح: { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار }، وقال ﷺ في الحديث الصحيح { ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا }، وأما أهل الكفر والبدع والشهوات فكل بحسبه، قيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم ؟، فقال: أنسيت قوله تعالى: { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } أو نحو هذا من الكلام ؟، فعباد الأصنام يحبون آلهتهم، كما قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وقال: { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله }، وقال: { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب المردان، ومحب النسوان، وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته وطاعة رسوله لا يكون متبعا لدين شرعه الله، كما قال تعالى: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا } إلى قوله: { والله ولي المتقين }، بل يكون متبعا لهواه بغير هدى من الله قال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الله، وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة، كما أخبر الله به عن المشركين كما تقدم، ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم قدرا وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة، واجتناب المحرمات المشهورة، لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة، ظانين أن العارف إذا شهد " القدر " أعرض عن ذلك، مثل من يجعل التوكل منهم، أو الدعاء، ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون، فلا حاجة إلى ذلك، وهذا غلط عظيم، فإن الله قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها، كما قال النبي ﷺ: { إن الله خلق للجنة أهلا خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون }، وكما { قال النبي ﷺ لما أخبرهم بأن الله كتب المقادير، فقالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ فقال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة }، فما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى: { فاعبده وتوكل عليه } وفي قوله: { قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب }، وقول شعيب عليه السلام { عليه توكلت وإليه أنيب } ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات، فتنقص بقدر ذلك، ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة، أو استجابة دعوة مخالفة للعادة العامة، ونحو ذلك، فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة والشكر ونحو ذلك، فهذه الأمور ونحوها كثيرا ما تعرض لأهل السلوك والتوجه ; وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت، كما قال الزهري :

كان من مضى من سلفنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، وذلك أن السنة - كما قال مالك رحمه الله - مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق .

فصل إذا تبين ذلك: فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلا عظيما، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى: عام، وخاص، ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ; ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي، وإن منع سخط } فسماه النبي ﷺ عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر ما فيه دعاء وخبر، وهو قوله: { تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش } والنقش: إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش: ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه { إذا أعطي رضي، وإذا منع سخط } كما قال تعالى: { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال: العبد حر ما قنع والحر عبد ما طمع وقال القائل: أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا ويقال: الطمع غل في العنق قيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل، ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الطمع فقر، واليأس غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه ; فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه ولا يطمع به، ولا يبقى قلبه فقيرا إليه، ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه تعلق قلبه به، فصار فقيرا إلى حصوله ; وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه والصور وغير ذلك قال الخليل ﷺ: { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون }، فالعبد لا بد له من رزق، محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله، فقيرا إليه، وإن طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه، ولهذا كانت " مسألة المخلوق " محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح، والسنن، والمسانيد: كقوله ﷺ: { لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم } وقوله: { من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجهه } وقوله: { لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع } هذا المعنى في الصحيح، وفيه أيضا: { لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه } وقال: { ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك } فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب، وقال في الحديث الصحيح: { من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله ; ومن يتصبر يصبره الله ; وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر } وأوصى خواص أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا، وفي المسند: أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه ; ويقول: خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئا "، وفي صحيح مسلم، وغيره: عن عوف بن مالك { أن النبي بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية: أن لا تسألوا الناس شيئا، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم، ولا يقول لأحد ناولني إياه } وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق ; في غير موضع، كقوله تعالى: { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } وقول النبي ﷺ لابن عباس: { إذا سألت فاسأل الله ; وإذا استعنت فاستعن بالله } ومنه قول الخليل: { فابتغوا عند الله الرزق } ولم يقل فابتغوا الرزق عند الله ; لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر ; كأنه قال لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال تعالى { واسألوا الله من فضله } والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه ; ودفع ما يضره ; وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله ; فله أن يسأل الله وإليه يشتكي ; كما قال يعقوب عليه السلام: { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله }، والله تعالى ذكر في القرآن " الهجر الجميل " " والصفح الجميل " " والصبر الجميل " وقد قيل : إن " الهجر الجميل " هو هجر بلا أذى، والصفح الجميل صفح بلا معاتبة، والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى المخلوق ; ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوسا كان يكره أنين المريض ويقول: إنه شكوى فما أن أحمد حتى مات، وأما الشكوى إلى الخالق فلا تنافي الصبر الجميل ; فإن يعقوب قال: { فصبر جميل } وقال: { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله }، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقرأ في الفجر بسورة ( يونس )، ( ويوسف )، ( والنحل ) فمر بهذه الآية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف، ومن دعاء موسى: " اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك "، وفي الدعاء الذي دعا به النبي لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: { اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ; وقلة حيلتي ; وهواني على الناس ; أنت رب المستضعفين وأنت ربي، اللهم إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري ; إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ; غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ; وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك ; أو يحل علي غضبك ; لك العتبى حتى ترضى ; فلا حول ولا قوة إلا بك } - وفي بعض الروايات - { ولا حول ولا قوة إلا بك }، وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه ; فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وافضل على من شئت تكن أميره ; واحتج إلى من شئت تكن أسيره، فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له: وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله ; لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق ; بحيث يكون قلبه معتمدا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه ; وإما على أهله وأصدقائه ; وإما على أمواله وذخائره ; وإما على ساداته وكبرائه ; كمالكه وملكه ; وشيخه ومخدومه وغيرهم ; ممن هو قد مات أو يموت قال تعالى { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا }، وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه خضع قلبه لهم ; وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك ; وإن كان في الظاهر أميرا لهم مدبرا لهم متصرفا بهم ; فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر ; فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد ; وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها ; وأنه لا يعتاض عنها بغيرها ; فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور ; الذي لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقا مستعبدا متيما لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب، وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر ; أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائما بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه له أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك وأما من استعبد قلبه فصار عبدا لغير الله فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس، فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي ﷺ: { ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس }، وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه، وهؤلاء من أعظم الناس عذابا وأقلهم ثوابا، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقا بها، مستعبدا له اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضررا عليه، ممن يفعل ذنبا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين، كما قيل: سكران: سكر هوى، وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران، وقيل: قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفا من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح ; أو بالخوف من الضرر، قال تعالى في حق يوسف: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }، فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله، ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي في قلبه انقهر له هواه بلا علاج، قال تعالى: { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر }، فإن الصلاة فيها دفع للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب، وهو ذكر الله، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه، فإن ذكر الله عبادة لله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل، ولهذا قال تعالى: { قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها }، وقال تعالى: { قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى }، وقال: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم } وقال تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا } فجعل سبحانه غض البصر، وحفظ الفرج هو أزكى للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك، وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم، فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عنهم ليطيعوه، ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم، والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر، وهكذا أيضا طالب المال فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: منها: ما يحتاج العبد إليه كما يحتاج إليه من طعامه، وشرابه، ومسكنه، ومنكحه، ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه ; بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعا إن مسه الشر جزوعا ; وإذا مسه الخير منوعا، ومنها: ما لا يحتاج العبد إليه، فهذه لا ينبغي له أن يعلق قلبه بها ; فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها ; وربما صار معتمدا على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه ; بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله ﷺ: { تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة } وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي ; وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ; ويسخطه ما يسخط الله ; ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ; ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله تعالى، وهذا هو الذي استكمل الإيمان، كما في الحديث: { من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله: فقد استكمل الإيمان } وقال: { أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله }، وفي الصحيح: عنه: { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار }، فهذا وافق ربه فيما يحبه، وما يكرهه فكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق لله لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه لله، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب ; فإذا أحب أنبياء الله وأولياء الله لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر، فقد أحبهم لله لا لغيره، وقد قال تعالى: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين }، ولهذا قال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فإن الرسول يأمر بما يحب الله وينهى عما يبغضه الله ويفعل ما يحبه الله ويخبر بما يحب الله التصديق به ; فمن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله ; فيحبه الله ; فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول ; والجهاد في سبيله، وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ; ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان، وقد قال تعالى: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } إلى قوله: { حتى يأتي الله بأمره } فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد، بل قد ثبت عنه في الصحيح: أنه قال: { والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده، والناس أجمعين }، وفي الصحيح: أن { عمر بن الخطاب قال له: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي: فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال: فوالله، لأنت أحب إلي من نفسي فقال: الآن يا عمر }، فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب، وبغض ما يبغض، والله يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان، ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات، فإذا كان العبد قادرا عليها حصلها، وإن كان عاجزا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل، كما قال النبي ﷺ: { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ; ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا }، وقال: { إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بالمدينة، قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر )

والإيمان المطلق " يدخل فيه الإسلام كما في الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه { قال لوفد عبد القيس: آمركم بالإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم } ولهذا قال من قال من السلف: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، وأما إذا قرن لفظ الإيمان بالعمل أو بالإسلام فإنه يفرق بينهما كما في قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وهو في القرآن كثير، وكما في { قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: لما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت قال: فما الإيمان ؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: فما الإحسان ؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك }، ففرق في هذا النص بين الإسلام والإيمان لما أفرده بالذكر، وكذلك لفظ " العمل " فإن الإسلام المذكور هو من العمل والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة، وإيمان القلب لا بد فيه من تصديق القلب وانقياده، وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدا رسول الله وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته لم يكن قد آمن قلبه، " والإيمان " وإن تضمن التصديق فليس هو مرادفا له ; فلا يقال لكل مصدق بشيء: إنه مؤمن به، فلو قال: أنا أصدق بأن الواحد نصف الاثنين، وأن السماء فوقنا والأرض تحتنا، ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه لم يقل لهذا: إنه مؤمن بذلك ; بل لا يستعمل إلا فيمن أخبر بشيء من الأمور الغائبة كقول إخوة يوسف: { وما أنت بمؤمن لنا } فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين من آمن له وآمن به فالأول يقال للمخبر، والثاني يقال للمخبر به كما قال إخوة يوسف: { وما أنت بمؤمن لنا } وقال تعالى: { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه }، وقال تعالى: { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } ففرق بين إيمانه بالله وإيمانه للمؤمنين ; لأن المراد يصدق المؤمنين إذا أخبروه وأما إيمانه بالله فهو من باب الإقرار به، ومنه قوله تعالى عن فرعون وملئه: { أنؤمن لبشرين مثلنا } أي نقر لهما ونصدقهما، ومنه قوله: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } ومنه قوله تعالى: { فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي } ومن المعنى الآخر قوله تعالى: { يؤمنون بالغيب } وقوله: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } وقوله: { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } أي أقر بذلك ومثل هذا في القرآن كثير، والمقصود هنا أن لفظ " الإيمان " إنما يستعمل في بعض الأخبار، وهو مأخوذ من الأمن، كما أن الإقرار مأخوذ من قر، فالمؤمن صاحب أمن، كما أن المقر صاحب إقرار، فلا بد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه، فإذا كان عالما بأن محمدا رسول الله ولم يقترن بذلك حبه وتعظيمه بل كان يبغضه ويحسده ويستكبر عن اتباعه فإن هذا ليس بمؤمن به بل كافر به، ومن هذا الباب كفر إبليس وفرعون وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير هؤلاء، فإن إبليس لم يكذب خبرا ولا مخبرا بل استكبر عن أمر ربه، وفرعون وقومه قال الله فيهم: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وقال له موسى: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر } وقال تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }، فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له لم ينفع صاحبه، بل أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، وقد كان النبي ﷺ يقول: { اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وقلب لا يخشع }، ولكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو الإيمان، وأن من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن فإن ذلك يدل على عدم علم قلبه وهذا من أعظم الجهل شرعا وعقلا وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر ; ولهذا أطلق وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة كفرهم بذلك، فإنه من المعلوم أن الإنسان يكون عالما بالحق ويبغضه لغرض آخر، فليس كل من كان مستكبرا عن الحق يكون غير عالم به، وحينئذ فالإيمان لا بد فيه من تصديق القلب وعمله، وهذا معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل، ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة لزم وجود الأفعال الظاهرة، فإن الإرادة الجازمة إذ اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة، أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري، فإذا أقر القلب إقرارا تاما بأن محمدا رسول الله وأحبه محبة تامة امتنع مع ذلك أن لا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزا لخرس ونحوه أو لخوف ونحوه لم يكن قادرا على النطق بهما، " وأبو طالب " وإن كان عالما بأن محمدا رسول الله وهو محب له فلم تكن محبته له لمحبته لله، بل كان يحبه لأنه ابن أخيه فيحبه للقرابة، وإذا أحب ظهوره فلما يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة، فأصل محبوبه هو الرئاسة ; فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالإقرار بهما زوال دينه الذي يحبه، فكان دينه أحب إليه من ابن أخيه فلم يقر بهما - فلو كان يحبه لأنه رسول الله كما كان يحبه أبو بكر الذي قال الله فيه: { وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى } وكما كان يحبه سائر المؤمنين به، كعمر وعثمان وعلي وغيرهم لنطق بالشهادتين قطعا - فكان حبه حبا مع الله لا حبا لله، ولهذا لم يقبل الله ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته لأنه لم يعمله لله، والله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، بخلاف الذي فعل ما فعل ابتغاء وجه ربه الأعلى، وهذا مما يحقق أن " الإيمان، والتوحيد " لا بد فيهما من عمل القلب، كحب القلب، فلا بد من إخلاص الدين لله، والدين لا يكون دينا إلا بعمل ; فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة ; وقد أنزل الله عز وجل سورتي الإخلاص: { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد }، إحداهما في توحيد القول والعلم، والثانية في توحيد العمل والإرادة ; فقال في الأول: { قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد } فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في الثاني { قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين } فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير الله وإخلاص العبادة لله، " والعبادة " أصلها القصد والإرادة، والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه، وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما لها، كما ذكرناه في لفظ الإيمان، قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } فهذا ونحوه يدخل فيه فعل المأمورات وترك المحظورات ; والتوكل من ذلك، وقد قال في موضع آخر: { إياك نعبد وإياك نستعين } وقال: { فاعبده وتوكل عليه }، ومثل هذا كثيرا ما يجيء في القرآن: تتنوع دلالة اللفظ في عمومه وخصوصه بحسب الإفراد والاقتران ; كلفظ " المعروف والمنكر " فإنه قد قال: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } وقال: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقال: { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } فالمنكر يدخل فيه ما كرهه الله ; كما يدخل في المعروف ما يحبه الله، وقد قال في موضع آخر: { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فعطف المنكر على الفحشاء، ودخل في المنكر هنا البغي، وقال في موضع آخر: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } فقرن بالمنكر الفحشاء والبغي، ومن هذا الباب لفظ " الفقراء، والمساكين " إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا قرن أحدهما بالآخر صار بينهما فرق ; لكن هناك أحد الاسمين أعم من الآخر، وهنا بينهما عموم وخصوص، فمحبة الله وحده والتوكل عليه وحده وخشية الله وحده ونحو هذا كل هذا يدخل في توحيد الله تعالى، قال تعالى في المحبة: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وقال تعالى: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } وقال تعالى: { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى: { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } وقال تعالى: { فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب } فجعل التحسب والرغبة إلى الله وحده، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .

والمقصود هنا أن قول القائل: ( لا إله إلا أنت ) فيه إفراد الإلهية لله وحده وذلك يتضمن التصديق لله قولا وعملا، فالمشركون كانوا يقرون بأن الله رب كل شيء ; لكن كانوا يجعلون معه آلهة أخرى، فلا يخصونه بالإلهية، وتخصيصه بالإلهية يوجب أن لا يعبد إلا إياه، وأن لا يسأل غيره، كما في قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } فإن الإنسان قد يقصد سؤال الله وحده والتوكل عليه، لكن في أمور لا يحبها الله ; بل يكرهها وينهى عنها، فهذا وإن كان مخلصا له في سؤاله والتوكل عليه، لكن ليس هو مخلصا في عبادته وطاعته، وهذا حال كثير من أهل التوجهات الفاسدة أصحاب الكشوفات والتصرفات المخالفة لأمر الله ورسوله، فإنهم يعانون على هذه الأمور، وكثير منهم يستعين الله عليها لكن لما لم تكن موافقة لأمر الله ورسوله حصل لهم نصيب من العاجلة، وكانت عاقبتهم عاقبة سيئة، قال تعالى: { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } وقال تعالى: { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه }، وطائفة أخرى قد يقصدون طاعة الله ورسوله، لكن لا يحققون التوكل عليه والاستعانة به، فهؤلاء يثابون على حسن نيتهم، وعلى طاعتهم، لكنهم مخذولون فيما يقصدونه، إذ لم يحققوا الاستعانة بالله والتوكل عليه ; ولهذا يبتلى الواحد من هؤلاء بالضعف والجزع تارة، وبالإعجاب أخرى، فإن لم يحصل مراده من الخير كان لضعفه، وربما حصل له جزع، فإن حصل مراده نظر إلى نفسه وقوته فحصل له إعجاب، وقد يعجب بحاله فيظن حصول مراده فيخذل، قال تعالى: { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } إلى قوله: { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم }، وكثيرا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله: { إياك نعبد } والمعجب لا يحقق قوله: { إياك نستعين } فمن حقق قوله: { إياك نعبد } خرج عن الرياء ومن حقق قوله: { إياك نستعين } خرج عن الإعجاب، وفي الحديث المعروف: { ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه }، وشر من هؤلاء وهؤلاء من لا تكون عبادته لله ولا استعانته بالله بل يعبد غيره ويستعين غيره وهؤلاء المشركون من الوجهين، ومن هؤلاء من يكون شركه بالشياطين كأصحاب الأحوال الشيطانية فيفعلون ما تحبه الشياطين من الكذب والفجور ويدعونه بأدعية تحبها الشياطين ويعزمون بالعزائم التي تطيعها الشياطين مما فيها إشراك بالله، كما قد بسط الكلام عليهم في مواضع أخر، وهؤلاء قد يحصل لهم من الخوارق ما يظن أنه من كرامات الأولياء، وإنما هو من أحوال السحرة والكهان ; ولهذا يجب الفرق بين الأحوال الإيمانية القرآنية والأحوال النفسانية والأحوال الشيطانية، وأما القسم الرابع: فهم أهل التوحيد الذين أخلصوا دينهم لله فلم يعبدوا إلا إياه ولم يتوكلوا إلا عليه، وقول المكروب: { لا إله إلا أنت } قد يستحضر في ذلك أحد النوعين دون الآخر فمن أتم الله عليه النعمة استحضر التوحيد في النوعين، فإن المكروب همته منصرفة إلى دفع ضره وجلب نفعه، فقد يقول " لا إله إلا الله " مستشعرا أنه لا يكشف الضر غيرك، ولا يأتي بالنعمة إلا أنت فهذا مستحضر توحيد الربوبية، ومستحضر توحيد السؤال والطلب، والتوكل عليه، معرض عن توحيد الإلهية الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به وهو أن لا يعبد إلا إياه ولا يعبده إلا بطاعته وطاعة رسوله فمن استشعر هذا في قوله: { لا إله إلا أنت } كان عابدا لله متوكلا عليه وكان ممتثلا قوله: { فاعبده وتوكل عليه } وقوله: { عليه توكلت وإليه أنيب } وقوله: { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا }، ثم إن كان مطلوبه محرما أثم وإن قضيت حاجته، وإن كان طالبا مباحا لغير قصد الاستعانة به على طاعة الله وعبادته لم يكن آثما ولا مثابا، وإن كان طالبا ما يعينه على طاعة الله وعبادته لقصد الاستعانة به على ذلك كان مثابا مأجورا، وهذا مما يفرق به بين العبد الرسول وخلفائه، وبين النبي الملك، فإن نبينا محمدا ﷺ خير بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا ; فإن العبد الرسول هو الذي لا يفعل إلا ما أمر به، ففعله كله عبادة لله، فهو عبد محض منفذ أمر مرسله، كما ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال: { إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت } وهو لم يرد بقوله { لا أعطي أحدا ولا أمنع } إفراد الله بذلك قدرا وكونا، فإن جميع المخلوقين يشاركونه في هذا فلا يعطي أحدا ولا يمنع إلا بقضاء الله وقدره ; وإنما أراد إفراد الله بذلك شرعا ودينا، أي لا أعطي إلا من أمرت بإعطائه، ولا أمنع إلا من أمرت بمنعه، فأنا مطيع لله في إعطائي ومنعي فهو يقسم الصدقة والفيء والغنائم كما يقسم المواريث بين أهلها ; لأن الله أمره بهذه القسمة، ولهذا كان المال حيث أضيف إلى الله ورسوله فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة الله ورسوله، ليس المراد به أنه ملك للرسول، كما ظنه طائفة من الفقهاء، ولا المراد به كونه مملوكا لله خلقا وقدرا فإن جميع الأموال بهذه المثابة، وهذا كقوله: { قل الأنفال لله والرسول } وقوله: { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } الآية وقوله: { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } إلى قوله: { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى }، فذكر في الفيء ما ذكر في الخمس، فظن طائفة من الفقهاء أن الإضافة إلى الرسول تقتضي أنه يملكه، كما يملك الناس أملاكهم، ثم قال بعضهم: إن غنائم بدر كانت ملكا للرسول، وقال بعضهم: إن الفيء وأربعة أخماسه كان ملكا للرسول، وقال بعضهم: إن الرسول إنما كان يستحق من الخمس خمسه، وقال بعض هؤلاء: وكذلك كان يستحق من خمس الفيء خمسه، وهذه الأقوال توجد في كلام طوائف من أصحاب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهذا غلط من وجوه: منها: أن الرسول لم يكن يملك هذه الأموال كما يملك الناس أموالهم، ولا كما يتصرف الملوك في ملكهم، فإن هؤلاء وهؤلاء لهم أن يصرفوا أموالهم في المباحات، فإما أن يكون مالكا له فيصرفه في أغراضه الخاصة، وإما أن يكون ملكا له فيصرفه في مصلحة ملكه، وهذه حال النبي الملك كداود وسليمان، قال تعالى: { فامنن أو أمسك بغير حساب } أي أعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك، ونبينا كان عبدا رسولا لا يعطي إلا من أمر بإعطائه، ولا يمنع إلا من أمر بمنعه، فلم يكن يصرف الأموال إلا في عبادة الله وطاعة له، ومنها: أن النبي لا يورث ولو كان ملكا، فإن الأنبياء لا يورثون فإذا كان ملوك الأنبياء لم يكونوا ملاكا كما يملك الناس أموالهم، فكيف يكون صفوة الرسل الذي هو عبد رسول مالكا، ومنها: أن النبي كان ينفق على نفسه وعياله قدر الحاجة، ويصرف سائر المال في طاعة الله لا يستفضله، وليست هذه حال الملاك، بل المال الذي يتصرف فيه كله هو مال الله ورسوله، بمعنى أن الله أمر رسوله أن يصرف ذلك المال في طاعته، فتجب طاعته في قسمه، كما تجب طاعته في سائر ما يأمر به ; فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وهو في ذلك مبلغ عن الله . 

=============

 12


والأموال التي كان يقسمها النبي ﷺ على وجهين: منها: ما تعين مستحقه ومصرفه كالمواريث، ومنها: ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه، فإن ما أمر الله به منه ما هو محدود بالشرع: كالصلوات، وطواف الأسبوع بالبيت، ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها الله، فمن هذا ما اتفق عليه الناس، ومنه ما تنازعوا فيه: كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات: هل هي مقدرة بالشرع ؟ أم يرجع فيها إلى العرف، فتختلف في قدرها وصفتها باختلاف أحوال الناس ؟، وجمهور الفقهاء على القول الثاني، وهو الصواب { لقول النبي ﷺ لهند: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } وقال أيضا: في خطبته المعروفة { للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف }، وكذلك تنازعوا أيضا فيما يجب من الكفارات: هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف ؟ فما أضيف إلى الله والرسل من الأموال كان المرجع في قسمته إلى أمر النبي، بخلاف ما سمي مستحقوه كالمواريث، ولهذا قال النبي ﷺ عام حنين { ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم } أي ليس له بحكم القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إلا الخمس، ولهذا قال: { وهو مردود عليكم } بخلاف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة، ولهذا كانت الغنائم يقسمها الأمراء بين الغانمين، والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين الذين خلفوا رسول الله ﷺ في أمته فيقسمونها بأمرهم، فأما أربعة الأخماس فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم الله ورسوله كما يستفتي المستفتي، وكما كانوا في الحدود لمعرفة الأمر الشرعي، والنبي ﷺ أعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم ; فقيل: إن ذلك كان من الخمس ; وقيل: إنه كان من أصل الغنيمة، وعلى هذا القول فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك ; ولهذا أجاب من عتب من الأنصار بما أزال عتبه وأراد تعويضهم عن ذلك، ومن الناس من يقول الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون ; وإن للإمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في غير هذا الموضع، فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله الذي يعبده ويستعينه فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية ; وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية .

ما يذكر في الإسرائيليات: " أن الله قال لداود: أما الذنب فقد غفرناه ; وأما الود فلا يعود " فهذا لو عرفت صحته لم يكن شرعا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا ; فإن دين محمد ﷺ في التوبة جاء بما لم يجئ به شرع من قبله ; ولهذا قال: { أنا نبي الرحمة ; وأنا نبي التوبة } وقد رفع به من الآصار والأغلال ما كان على من قبلنا، وقد قال تعالى في كتابه: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والموكب إذا وجده بعد اليأس، فإذا كان هذا فرح الرب بتوبة التائب وتلك محبته ; كيف يقال: إنه لا يعود لمودته: { وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد }، ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة ; فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة ; وإن كان أنقص كان الأمر أنقص ; فإن الجزاء من جنس العمل ; وما ربك بظلام للعبيد، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: { يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ; وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها: فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ; ولئن سألني لأعطينه ; ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه }، ومعلوم أن أفضل الأولياء بعد الأنبياء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ; وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق والعصيان أعظم محبة ومودة، وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم، وقد قال تعالى: { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم }، نزلت في المشركين الذين عادوا الله ورسوله مثل أهل الأحزاب " كأبي سفيان بن حرب، وأبي سفيان بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وغيرهم، فإنهم بعد معاداتهم لله ورسوله جعل الله بينهم وبين الرسل والمؤمنين مودة، وكانوا في ذلك متفاضلين وكان عكرمة وسهيل والحارث بن هشام أعظم مودة من أبي سفيان بن حرب ونحوه، وقد ثبت في الصحيح: { أن هند امرأة أبي سفيان أم معاوية قالت: والله يا رسول الله، ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، وقد أصبحت وما على وجه الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك فذكر النبي ﷺ لها نحو ذلك }، ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم لله تعالى، فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، فالحب لله من كمال التوحيد ; والحب مع الله شرك، قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة لله ومحبة لله ومن أحب الله أحبه الله، ومن ود الله وده الله، فعلم أن الله أحبهم وودهم بعد التوبة، كما أحبوه وودوه، فكيف يقال: إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة ؟، ، وإن قال قائل: أولئك كانوا كفارا، لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم ; بل كانوا جهالا بخلاف من علم أن الفعل محرم وأتاه، قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: إنه ليس الأمر كذلك، بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمدا رسول الله، ويعادونه حسدا وكبرا وأبو سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي ﷺ ما لم يسمع غيره، كما سمع من أمية بن أبي الصلت، وما سمعه من هرقل ملك الروم، وقد أخبر عن نفسه أنه لم يزل موقنا أن أمر النبي ﷺ سيظهر حتى أدخل عليه الإسلام، وهو كاره له، وقد سمع منه عام اليرموك وغيره ما دل على حسن إسلامه ومحبته لله ورسوله بعد تلك العداوة العظيمة، وقد قال تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } فإذا كان الله يبدل سيئاتهم حسنات فالحسنات توجب مودة الله لهم، وتبديل السيئات حسنات ليس مختصا بمن كان كافرا، وقد قال تعالى: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما } قال أبو العالية: سألت أصحاب رسول الله ﷺ عن هذه الآية فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، الوجه الثاني: إن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة الله تعالى للتائبين فرق لا أصل له ; بل الكتاب والسنة يدل على أن الله يحب التوابين، ويفرح بتوبة التائبين، سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنبا أو لم يكونوا عالمين بذلك، ومن علم أن ما أتاه ذنبا ثم تاب فلا بد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود ; فإذا كان يبغض الحق فلا بد أن يحبه، وإذا كان يحب الباطل فلا بد أن يبغضه، فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به، ومن بغض الباطل واجتنابه هو من الأمور التي يحبها الله تعالى ويرضاها، ومحبة الله كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه، فكل من كان أعظم فعلا لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له، وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان عليه من الباطل، وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق، فوجب زيادة محبة الحق له ومودته إياه ; بل يبدل الله سيئاته حسنات لأنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل الله سيئاته حسنات، فإن الجزاء من جنس العمل، وحينئذ فإذا كان إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده الله منه أعظم من فعله له قبل التوبة كانت مودة الله له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، فكيف يقال الود لا يعود، وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول: " إن الله لا يبعث نبيا إلا من كان معصوما قبل النبوة، كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال إنه لا يبعث نبيا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة، فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصا فهو غالط غلطا عظيما، فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منه شيء أصلا ; لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب، والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة ; بل يسارعون إليها، ويسابقون إليها، لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك، ومن أخر ذلك زمنا قليلا كفر الله ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون ﷺ هذا على المشهور أن إلقاءه كان بعد النبوة ; وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فلا يحتاج إلى هذا، والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب ; ` وإذا كان قد يكون أفضل، فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة، وقد أخبر الله عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم الأسباط الذين نبأهم الله تعالى وقد قال تعالى: { فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي } فآمن لوط لإبراهيم عليه السلام ثم أرسله الله تعالى إلى قوم لوط وقد قال تعالى في قصة شعيب: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } وقال تعالى: { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد }، وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولا بد لكل عبد من التوبة وهي واجبة على الأولين والآخرين، كما قال تعالى: { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما }، وقد أخبر الله سبحانه بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد ﷺ وآخر ما نزل عليه - أو من آخر ما نزل عليه - قوله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }، وفي الصحيحين: عن عائشة رضي الله عنها أن { النبي ﷺ كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي } يتأول القرآن، وقد أنزل الله عليه قبل ذلك: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم }، وفي صحيح البخاري: عن النبي ﷺ أنه كان يقول: { يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة }، وفي صحيح مسلم: عن الأغر المزني عن النبي ﷺ أنه قال: { إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة }، وفي السنن: عن ابن عمر أنه قال: { كنا نعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة }، وفي الصحيحين: عن أبي موسى عن [ النبي ﷺ ] أنه كان يقول: { اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم أنه مني ; اللهم: اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير } وفي الصحيحين: عن أبي هريرة أنه قال: { يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟ قال: أقول: اللهم: باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم، نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد }، وفي صحيح مسلم وغيره: { أنه كان يقول: نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع }، وفي صحيح مسلم: عن علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: { اللهم، أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت }، في صحيح مسلم: عن النبي ﷺ أنه كان يقول في سجوده: { اللهم، اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره }، وفي السنن عن علي { أن النبي أتي بدابة ليركبها وأنه حمد الله وقال: { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } ثم كبره وحمده ثم قال: سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، وقال إن الرب يعجب من عبده إذا قال اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا }، وقد قال تعالى: { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقال: { إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وثبت في الصحيحين: في حديث الشفاعة { أن المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر }، وفي الصحيح: { أن النبي ﷺ كان يقوم حتى ترم قدماه، فيقال له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا }، ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة، لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب، وتأويلاتهم تبين لمن تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه، كتأويلهم قوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلان ويدل على ذلك وجوه: أحدها: أن آدم قد تاب الله عليه قبل أن ينزل إلى الأرض فضلا عن عام الحديبية الذي أنزل الله فيه هذه السورة قال تعالى: { وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } وقال: { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } ذكر أنه قال: { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }، والثاني: أن يقال: فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ولا يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أيضا، ومن قال: إنه لم يصدر من الأنبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما، الوجه الثالث: أن الله لا يجعل الذنب ذنبا لمن لم يفعله فإنه هو القائل: { ولا تزر وازرة وزر أخرى }، فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد ﷺ ذنب آدم ﷺ أو أمته أو غيرهما، وقد قال تعالى: { فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } وقال تعالى: { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } ولو جاز هذا لجاز أن يضاف إلى محمد ذنوب الأنبياء كلهم، ويقال: إن قوله: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } المراد ذنوب الأنبياء وأممهم قبلك، فإنه يوم القيامة يشفع للخلائق كلهم، وهو سيد ولد آدم، وقال: { أنا سيد ولد آدم ولا فخر وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة، أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا، وإمامهم إذا اجتمعوا } وحينئذ فلا يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد، بل

تجعل ذنوب الأولين والآخرين على قول هؤلاء ذنوبا له، فإن قال: إن الله لم يغفر ذنوب جميع الأمم، قيل: وهو أيضا لم يغفر ذنوب جميع أمته، الوجه الرابع: أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } فكيف يكون ذنب المؤمنين ذنبا له، الوجه الخامس: أنه ثبت في الصحيح: أن هذه الآية لما نزلت قال الصحابة يا رسول الله، هذا لك فما لنا فأنزل الله { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن قوله: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } مختص به دون أمته، الوجه السادس: أن الله لم يغفر ذنوب جميع أمته بل قد ثبت أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وشوهد في الدنيا من ذلك ما لا يحصيه إلا الله، وقد قال الله تعالى: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } والاستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الأفضل، فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول ; لكن الذم والوعيد لا يكون إلا على ذنب .

-مسألة: عن العمرة، هل هي واجبة ؟ وإن كان، فما الدليل عليه ؟، فصل: العمرة في وجوبها قولان للعلماء وهما قولان في مذهب الشافعي وأحمد، والمشهور عنهما وجوبها، والقول الآخر: لا تجب، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وهذا القول أرجح فإن الله إنما أوجب الحج بقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } لم يوجب العمرة كما أوجب إتمامها بقوله: { وأتموا الحج والعمرة لله } إيجاب الإتمام وأوجب إتمامهما، وفي الابتداء إنما أوجب الحج، وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب الحج ; ولأن العمرة ليس فيها جنس غير ما في الحج فإنها إحرام وإحلال وطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وهذا كله داخل في الحج، وإذا كان كذلك فأفعال الحج لم يفرض الله منها شيئا مرتين، فلم يفرض وقوفين ولا طوافين ولا سعيين، ولا فرض الحج مرتين، فطواف الوداع ليس بركن بل هو واجب وليس هو من تمام الحج، ولكن كل من خرج من مكة عليه أن يودع، ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح، فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت كما وجب الدخول بالإحرام في أحد قولي العلماء لسبب عارض، لا لكون ذلك واجبا بالإسلام كوجوب الحج، ولأن الصحابة المقيمين بمكة لم يكونوا يعتمرون بمكة لا على عهد النبي ﷺ ولا على عهد خلفائه، بل لم يعتمر أحد عمرة بمكة على عهد النبي ﷺ إلا عائشة وحدها لسبب عارض، وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع .

وتجب النفقة لكل وارث ولو كان مقاطعا من ذوي الأرحام وغيرهم لأنه من صلة الرحم وهو عام كعموم الميراث في ذوي الأرحام، وهو رواية عن أحمد والأوجه وجوبها مرتبا وإن كان الموسر القريب ممتنعا فينبغي أن يكون كالمعسر كما لو كان للرجل مال وحيل بينه وبينه لغصب أو بعد لكن ينبغي أن يكون الواجب هنا القرض رجاء الاسترجاع وعلى هذا فمتى وجبت عليه النفقة وجب عليه القرض إذا كان له وفاء، وذكر القاضي وأبو الخطاب وغيرهما في أب وابن القياس أن على الأب السدس إلا أن الأصحاب تركوا القياس لظاهر الآية، والآية إنما هي في الرضيع وليس له ابن فينبغي أن يفرق بين الصغير وغيره فإن من له ابن يبعد أن لا تكون عليه نفقته بل تكون على الأب فليس في القرآن ما يخالف ذلك وهذا جيد على قول ابن عقيل حيث ذكر في التذكرة أن الولد ينفرد بنفقة والديه .

الوجه الرابع والعشرون: أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم، أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب، فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء لكونها في نفسها فسادا بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة وهي مفضية إلى ضرر أكثر منها فتحرم، فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة وإلا سميت سببا ومقتضيا ونحو ذلك من الأسماء المشهورة، ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي لكن الطبع متقاض لإفضائها، وأما إن كانت إنما تفضي أحيانا فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا، ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها، ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا القسم الثاني يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة وقد لا يقترن كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع، فصارت الأقسام ثلاثة، الأول: ما هو ذريعة وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى، وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسئا، وكقرض بني آدم، الثاني: ما هو ذريعة لا يحتال بها كسب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن، الثالث: ما يحتال به من المباحات في الأصل كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة، والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا ; لأن هذه

المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقول القائل لم أقصد به ذلك، ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى، ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه، وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر لعلم الشارع ما جلبت عليه النفوس وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة، أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر، فنذكر منها ما حضر، فالأول: قوله سبحانه وتعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } حرم سب الآلهة مع أنه عبادة لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى ; لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم، الثاني

ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال: { من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه } متفق عليه ولفظ البخاري: { إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه } فقد جعل النبي ﷺ الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق ; لأن سب أبا الناس هنا حرام لكن قد جعله النبي ﷺ من أكبر الكبائر لكونه شتما لوالديه لما فيه من العقوق وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره، الثالث: أن النبي ﷺ كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمدا ﷺ يقتل أصحابه ; لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام، الرابع: أن الله سبحانه حرم الخمر لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل وهذا في الأصل ليس من هذا الباب، ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل وجعلها نجسة لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها، ثم إنه قد نهى عن الخليطين، وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها حسما لمادة ذلك، وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف - وبين ﷺ أنه إنما نهى بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة فقال: { لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه }، يعني ﷺ أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا، الخامس: أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير، السادس: أنه نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها، ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا، وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة، السابع: أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود الكفار للشمس ففي ذلك تشبيه بهم ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها، الثامن: أنه نهى ﷺ عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة مثل قوله { إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم } - { إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم }، وقوله ﷺ في عاشوراء: { لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع }، وقال في موضع: { لا تشبهوا بالأعاجم } وقال فيما رواه الترمذي: { ليس منا من تشبه بغيرنا }، حتى قال حذيفة بن اليمان من تشبه بقوم فهو منهم، وما ذاك إلا ; لأن المشابهة في بعض الهدى الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب ذلك يجر إلى فساد عريض، التاسع: أنه ﷺ نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، وقال: { إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم } حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها كما رضيت بذلك { أم حبيبة لما طلبت من النبي ﷺ أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك }، وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك ; لأن الطباع تتغير فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة، وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع ; لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم، وإن زعم أن به قوة على العدل بينهن مع الكثرة، وكذلك عند من زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العين الأولى بقوله تعالى: { ذلك أدنى ألا تعولوا } وهذا نص في اعتبار الذريعة، العاشر: أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك، الحادي عشر: أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة، وفي حال الإحرام حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين، ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين، الثاني عشر: أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به مثل اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما، ومثل اشتراط الولي فيه، ومنع المرأة أن تليه، وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة، وكان أصل ذلك في قوله تعالى: { محصنين غير مسافحين } و { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } وإنما ذلك ; لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش، ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى: { نسبا وصهرا }، وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح وتبين أن نكاح المحل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه، الثالث عشر: { أن النبي ﷺ نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع } وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح، وإنما ذاك ; لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين وهذا هو معنى الربا، ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة قال إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر يقصد بذلك أن هذا ذريعة إلى الربا وهذه علة صحيحة في مسألة مد عجوة، لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله ﷺ، والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له، الرابع عشر: إن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطآ على الربا وما ذاك إلا سدا للذريعة، الخامس عشر: أنه تقدم عن النبي ﷺ وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض إلى أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض، وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا، وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية، ومنع الشافعي قبول الهدية، فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية، السادس عشر: أن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من الميراث شيء، إما القاتل عمدا كما قال مالك، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة، أو القاتل بغير حق، أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا، وما ذاك إلا ; لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر، السابع عشر: أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان ; لأن الطلاق ذريعة، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف مأخذ الشارع في ذلك أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين، الثامن عشر: أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء، التاسع عشر: { أن النبي ﷺ نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب } لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار، العشرون: { أن النبي ﷺ نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه } { ونهى عن صوم يوم الشك } إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد، وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم تمييزا لوقت العبادة من غيره لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها فكره للإمام أن يتطوع في مكانه وأن يستديم استقبال القبلة، وندب المأموم إلى هذا التمييز، ومن جملة فوائد ذلك سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض، الحادي والعشرون: أنه ﷺ كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه، الثاني والعشرون: أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي ﷺ راعنا مع قصدهم الصالح ; لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه ﷺ ولئلا يشتبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا، الثالث والعشرون: أنه أوجب الشفعة لما فيه من رفع الشركة وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة سدا لهذه المفسدة بحسب الإمكان، الرابع والعشرون: أن الله سبحانه أمر رسوله ﷺ أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه الباطن، وأمره أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق وأن لا يقبل شهادة ظنين في قرابة وإن وثق بتقواه، حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء لينضبط طريق الحكم، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم لغير الحق فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير، الخامس والعشرون: أن الله سبحانه منع رسول الله ﷺ لما كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به، السادس والعشرون: أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر وإن كانت العقوبات من جنس الشر، ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك فإنه اكتفى فيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة وإن تاب العاصي عند ذلك وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود، مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، السابع والعشرون: أنه ﷺ سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال وزجر عن ذرائع الفرقة، وهي من الأفعال أيضا، الثامن والعشرون: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع، التاسع والعشرون: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم، الثلاثون: أن النبي ﷺ أمر الذي أرسل معه بهدية إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله الذي قلده بدمه ويخلي بينه وبين الناس ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته، قالوا وسبب ذلك أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها لحصول غرضه بعطبها دون المحل كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذرائع، والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول لا يحتج بها، ولم يذكر الحيل التي قصد بها الحرام كاحتيال اليهود، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا، ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخرى غير ما ذكرناه من الذرائع وإنما قصدنا أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به المحرم أو بأن لا يقصد به يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله والله الهادي إلى سواء الصراط .

وإذا اختلف أصحاب محمد ﷺ وأخذ آخر عن رجل آخر من أصحاب رسول الله ﷺ، فالحق عند الله واحد، وعلى الرجل أن يجتهد وهو لا يدري أصاب الحق أم أخطأ، وهكذا قال عمر والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأ، ولو كان حكم بحكم عن رسول الله ﷺ لم يقل ما يدري عمر أخطأ أم أصاب، ولكن إنما كان رأيا منه، قال: وإذا اختلف أصحاب رسول الله ﷺ وأخذ رجل بقول أصحاب رسول الله ﷺ وأخذ آخر بقول التابعين كان الحق في قول أصحاب رسوله ﷺ، ومن قال بقول التابعين كان تأويله خطأ، والحق عند الله واحد، ولو أن حاكما حكم في المفلس أنه أسبق الغرماء إذا وجد رجل عين ماله، ثم رفع إلى حاكم آخر، فذهب إلى حديث رسول الله ﷺ رد لحكم هذا الحاكم، وإنما يجوز حكم الحاكم إذا حكم أن لا يرد إذا اعتدلت الرواية عن رسول الله ﷺ فهذا لا يرد أو يختلف عن أصحاب رسول الله ﷺ فأخذ رجل ببعض قول أصحاب رسول الله ﷺ، فهذا لا يرد أو يختلف عن التابعين، فأخذ بقول بعضهم فهذا لا يرد، فأما إذا كان عن رسول الله ﷺ وأخذ بقول أصحاب رسول الله ﷺ أو بقول التابعين، فهذا يرد حكمه ; لأنه حكم بجور وتأول وذكر حديث زيد بن أرقم عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها، قال: قال رسول الله ﷺ: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } قال أبو عبد الله من عمل خلاف ما روي عن النبي ﷺ أو خلاف السنة رد عليه، وهذا حديث حسن، وقد بين أبو عبد الله فنون الاختلاف وقسمه خمسة أقسام، أحدها: أن يتعارض حديثان صحيحان، الثاني: أن يعارض الحديث الصحيح حديث ضعيف، الثالث: أن يعارض قول صاحب، الرابع: أن لا يكون في المسألة نص بل اختلف فيها الصحابة فأخذ بقول بعضهم، الخامس: أن يأخذ بالقول الثالث أو الثاني الذي أحدث بعد اتفاق الصحابة على قول أو قولين، وبين أن من خالف النص الصحيح لقول صاحب أو حديث ضعيف أو ترك أقوال الصحابة التي هي إجماع أو كالإجماع إلى قول من بعدهم فهو مخطئ مخالف للحق ; لأنه ترك الدليل الذي يجب اتباعه إلى ما ليس بدليل، وأما إذا تعارض النصان أو فقدا واختلف الصحابة فهنا يجتهد في الراجح ولا يرد حكم من حكم بأحدهما ; لأن تراجيح الأدلة أو استنباطها عند خفاها هو محل اجتهاد المجتهدين، ثم إنه لم يحكم بخطإ من ذهب إلى أحد النصين مع قوله إن الحق عند الله واحد، وعند خفاء الأدلة قال لا أدري أصاب الحق أم أخطأ، وهذا تحقيق عظيم وذلك ; لأن النص دليل قطعا لكن عند معارضة الآخر له هل سلبت دلالته أم لم تسلب، هذا محل تردد، فإن اعتقد رجحانه اعتقد بقاء دلالته فقد تمسك بما هو دليل لم يثبت سلب دلالته فصار إن كان الحق في القول الآخر كالتمسك بالنص الذي نسخ ولم يعلم نسخه فلا يحكم على مخالفه بالخطإ، كما لا يحكم لنفسه بإصابة الحق الذي عند الله، وأما إذا لم يكن نصا وقد اجتهد فقد يكون ما اعتمده من الاستنباط بالرأي تأويلا وقياسا ليس بدليل، فلا ندري أنه أصاب كالمتمسك بدليل أم لم يصب فتحرر من كلامه أنه في الباطن ليس المصيب إلا واحدا، وأما في الظاهر فلا نحكم بالخطإ لمن تمسك بدليل صحيح، ولا نحكم بالصواب لمن لا نعلم أنه تمسك بدليل صحيح، وهذا التفصيل خير من إطلاق بعض أصحابنا وغيرهم الخطأ في الحكم مطلقا، وإطلاق بعضهم الإصابة في الحكم مطلقا، واعلم أن أحمد لم يقل إنه مصيب في الحكم، بل قال لا يقال إنه مخطئ لعدم العلم بأنه مخطئ، ولأن ذلك يوهم أنه مخطئ في استدلاله . المقام الثالث: أن ذلك الدليل هل يفيد العلم اليقيني أو العلم الظاهر الذي يسميه المتكلمون الظن ويسمى الاعتقاد، فمن المتكلمين وأهل الظاهر من يقول عليه دليل يفيد اليقين، ثم من هؤلاء من يؤثم مخالف ذلك الدليل، وربما فسقه، ومنهم من لا يؤثمه ولا يفسقه وقد يؤثم ولا يفسق، وأما أكثر المتأخرين من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم فإنهم يقولون ليس عليه إلا دليل يفيد الاعتقاد الراجح الذي يسمى الظن الغالب، وقد يسمى العلم الظاهر، والمنصوص عن الإمام أحمد وعليه عامة السلف من الفقهاء وغيرهم أنه تارة يكون عليه دليل يقيني وتارة لا يكون الدليل يقينا وكون المسألة مختلفا فيها لا يمنع أن دليلها يكون يقينا، ويكون من خالفه لم يبلغه أو لم يفهمه أو ذهل عنه، وقد يكون يفيد اعتقادا قويا غالبا يسمى أيضا يقينا، وإن كان تجويز نقيضه في غاية البعد، وعلى هذا يتفرع نقض حكم الحاكم وجواز الأدلة على من يفتي بالقول المعين، والائتمام بمن أخل بفرض في مذهب المأمور وتعيين المخطئ والتغليظ على المخالف .

المقام الرابع: أن هذه الأدلة اليقينية أو الاعتقادية، لا بد أن يعمل بها بعض الأمة لئلا تكون الأمة مجمعة على الخطإ، ولا يحصل مقتضاه إلا لمن بلغته ونظر فيها، فمن يبلغه من غير تقصير ولا قصور إما أن يكون متمسكا بما هو دليل شرعي لولا معارضة تلك الأدلة كالمتمسك بالعام قبل أن يبلغه تخصيصه، وإما أن يكون متمسكا بحق في الباطن، لكن تلك الأدلة نسخته، وإما أن يكون متمسكا بالنفي الأصلي، وهو عدم الوجوب والتحريم، فهل يقال لأحد هؤلاء أنه مصيب أو مخطئ، أو مصيب من وجه مخطئ من وجه، أو لا يطلق عليه صواب ولا خطأ، وهل يقال فعل ما وجب أو ما لم يجب، أو ما أبيح أو ما لم يبح هذا المقام والذي بعده أكثر شعب هذه المسألة فمن أصحابنا وغيرهم من يطلق عليه الخطأ في الباطن في جميع هذه الأمور، وهو عنده معذور بل مأجور، وهذا قول من يقول إن النسخ يثبت في حق المكلف إذا بلغه الرسول قبل أن يصل إلى المكلف بمعنى وجوب القضاء عليه والضمان إذا بلغه لا بمعنى التأثيم، ويقول إنما يجب القضاء على من صلى إلى القبلة المنسوخة قبل العلم ; لأن القبلة لا تجب إلا مع العلم والقدرة، ولهذا لا يجب القضاء على من تيقن أنه أخطأها في زماننا إذا كان قد اجتهد وإن سميته مخطئا ومنهم من يطلق الخطأ على المتمسك بدليل ليس في الباطن دليلا وعلى المتمسك بالنفي دون المستصحب للحكم بناء على أن الله ما حكم بموجب دليل قط، ومنهم من لا يطلق الخطأ على واحد من الثلاثة، وأما في الظاهر فمنهم من يطلق على المجتهد المخطئ عموما أنه مخطئ في الباطن وفي الحكم، هذا قول القاضي لكن عنده أن النسخ لا يثبت حكمه في حق المكلف قبل البلاغ، ومنهم من يقول ليس بمخطئ في الحكم، ومنهم من يقول هو مصيب في الحكم، حكى هذا أبو عبد الله بن حامد، وخرج القاضي في الخطإ في الحكم روايتين، وخرج ابن عقيل رواية أن كل مجتهد مصيب، والصحيح إذا ثبت أن في الباطن حكم في حقه أن يقال هو مصيب في الظاهر دون الباطن، أو مصيب في اجتهاده دون اعتقاده، أو مصيب إصابة مقيدة لا مطلقة بمعنى أن اعتقاد الإيجاب والتحري لا يتعداه إلى غيره، وإن اعتقده عاما هذا في الظاهر فقط، فإن النبي ﷺ أخبر { أن الحاكم المجتهد المخطئ له أجر والمصيب أجران }، ولو كان كل منهما أصاب حكم الله باطنا وظاهرا لكانا سواء، ولم ينقض حكم الحاكم أو المفتي إذا تبين أن النص بخلافه، وإن كان لم يبلغه من غير قصور ولا تقصير، ولما قال النبي ﷺ { فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم }، ولما قال { لسعد لقد حكمت فيهم بحكم الملك }، إن كان كل مجتهد يحكم بحكم الله وارتفاع اللوم بحديث المختلفين في صلاة العصر في بني قريظة، وحديث الحاكم .

المقام السادس: أن الواجب على المجتهد ماذا ؟ من أصحابنا وغيرهم من يقول الواجب طلب ذلك الحق المعين وإصابته، ومنهم من يقول الواجب طلبه لا إصابته ومنهم من يقول الواجب اتباع الدليل الراجح سواء كان مطابقا أو لم يكن، وكل من هؤلاء لحظ جانبا، وجمع هذه الأقوال أن الواجب في نفس الأمر إصابة ذلك الحكم، وأما الواجب في الظاهر هو اتباع ما ظهر من الدليل واتباعه أن يكون بالاجتهاد الذي يعجز معه الناظر عن الزيادة في الطلب، أو يشق عليه مشقة فادحة ومقدارا غير مضبوط، ولهذا كان العلماء يخافون في الفتوى بالاجتهاد كثيرا ويخشون الله ; لأن مقدار المشقة التي يعذرون معها ومقدار الاستدلال الذي يبيح لهم القول قد لا ينضبط فلو أصاب الحكم بلا دليل راجح فقد أصاب الحكم وأخطأ الحق المعين فقد أحسن وخطؤه مغفور له، وهذا عندنا وعند الجمهور لا يجوز إلا إذا كان ثم دليل آخر على الحق هو الراجح، لكن يعجز عن دركه وإلا للزم أن لا يكون الله نصب على الحق دليلا، وفي الحقيقة فالدليل الذي نصبه الله حقيقة على الحكم لا يجوز أن يخلف كما يجوز خطأ الشاهد لكن يجوز أن يخفى على بعض المجتهدين ويظهر له غيره .

المسلك الرابع: إجماع الصحابة، فروى قبيصة بن جابر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم وهو مشهور محفوظ عن عمر، وعن زيد بن عياض بن جعد أنه سمع نافعا يقول إن رجلا سأل ابن عمر عن المحلل فقال له ابن عمر: عرفت ابن الخطاب رضي الله عنه لو رأى شيئا من ذلك لرجم فيه، رواه ابن وهب عنه لكن زيدا هذا يضعف جدا وحديثه هذا محفوظ من غير طريقه، كما سنذكر إن شاء الله تعالى وعن سليمان بن يسار قال رفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما، وقال لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة، رواه الجوزجاني وعن أبي مرزوق التجيبي أن رجلا أتى عثمان فقال إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول، فقال له عثمان لا تنكحها إلا نكاح رغبة ذكره أبو إسحاق الشيرازي في المهذب، رواه ابن وهب عن الليث بن سعد عن محمد بن عبد الرحمن المرادي أنه سمع أبا مروان التجيبي يقول: إن رجلا طلق امرأته ثلاثا ثم ندما وكان له جار فأراد أن يحلل بينهما بغير علمهما، فسأل عن ذلك عثمان فقال له عثمان إلا نكاح رغبة غير مدالسة، وعن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في المحلل لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ذكره بعض المالكية، وذكر عبد الرزاق عن هيثم عن خالد الحذاء عن مروان الأصفر عن أبي رافع قال سئل عثمان وعلي وزيد بن ثابت عن الأمة هل يحلها سيدها لزوجها إذا كان لا يريد التحليل، يعني إذا بت طلاقها، فقال عثمان وزيد نعم، فقام علي غضبان وكره قولهما، وعن علي: لعن الله المحلل والمحلل له، وعن أشعث عن ابن عباس قال لعن الله المحلل والمحلل له، وعن أبي معشر عن رجل عن ابن عمر قال: لعن الله المحلل والمحلل له والمحللة، وعن الزهري عن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل أن ابن عمر سئل عن تحليل المرأة لزوجها قال: ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم، رواه الإمام أبو بكر بن أبي شيبة وعن الثوري عن عبد الله بن شريك قال سمعت ابن عمر رضي الله عنه وسئل عن المحلل قال لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله سبحانه أنه أراد أن يحلها له، هكذا رواه عنه حسين بن حفص ورواه الجوزجاني، عن ابن نمير عنه لكن قال عن سفيان عن رجل سماه عن ابن عمر في المحلل إذا علم الله سبحانه منه أنه محلل، لا يزالان زانيين ولو مكثا عشرين سنة، ورواه عبد الرزاق عن عبد الله بن شريك، قال سمعت عمر يسأل عمن طلق امرأته ثم ندم فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له، فقال له ابن عمر كلاهما زان ولو مكثا عشرين سنة، ورواه الشالنجي بإسناده عن عبد الله بن شريك العامري قال سمعت ابن عمر سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، فقال لعن الله المحلل والمحلل له، هما زانيان، وقال سعيد في سننه ثنا هشيم ثنا الأعمش عن عمران بن الحارث السلمي قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إن عمه طلق امرأته ثلاثا فندم فقال عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا قال أرأيت إن أنا تزوجتها من غير علم منه أترجع إليه قال من يخادع الله يخدعه الله، رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر كلاهما عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس أن رجلا سأله عمن طلق امرأته، كيف ترى في رجل يحلها له، فقال ابن عباس: من يخادع الله يخدعه، وهذه الآثار مشهورة عن الصحابة، وفيها بيان أن المحلل عندهم اسم لمن قصد التحليل سواء يظهر ذلك أو لم يظهره، وأن عمر كان ينكل من يفعل ذلك وأنه يفرق بين المحلل والمرأة وإن حصلت له رغبة بعد العقد، إذا كان في الابتداء قصد التحليل، وأن المطلق طلق ثلاثا وإن تأذى وندم ولقي شدة من الطلاق، فإنه لا يحل التحليل له، وإن لم يشعر هو بذلك، وهذه الآثار مع ما فيها من تغليظ التحليل فهي من أبلغ الدليل، على أن تحريم ذلك واستحقاق صاحبه العقوبة كان مشهورا على عهد عمر، ومن بعده من الخلفاء الراشدين، ولم يخالف فيه من خالف في المتعة مثل ابن عباس، بل اتفقوا كلهم على تحريم هذا التحليل، وقد ذكرنا في أول الكتاب عن الحسن البصري أنه قال له رجل، إن رجلا من قومي طلق امرأته ثلاثا فندم وندمت، فأردت أن أنطلق فأتزوجها وأصدقها صداقا، ثم أدخل بها كما يدخل الرجل بامرأته ثم أطلقها، فقال له الحسن اتق الله يا فتى ولا تكون مسمار نار لحدود الله، وروي عن الحسن أنه قال كان المسلمون يقولون هو التيس المستعار وهذا يقتضي شهرة ذلك بين المسلمين زمن الصحابة، فإن قيل: فقد روى ابن

سيرين أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فندم وكان بالمدينة رجل من الأعراب عليه رقعتان رقعة يواري بها عورته، ورقعة يواري بها سوأته، فقال له هل لك تتزوج امرأة فتبيت عندها ليلة وتجعل لك جعلا، قال نعم فزوجوها منه، فلما دخل فبات عندها قالت له هل عندك من خير قال هو حيث تحبين جعله الله فداها، فقالت لا تطلقني فإن عمر لن يجبرك على طلاقي، فلما أصبحوا لم يفتح لهم الباب حتى كادوا يكسرون الباب، فلما دخلوا قالوا له طلقها، قال الأمر إليها فقالوا لها، فقالت إني أكره أن لا يزال يدخل علي الرجل بعد الرجل، فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب أخبروه القصة فرفع يده، وقال اللهم أنت رزقت ذا الرقعتين إذ بخل عليه عمر فقال له لئن طلقها فأوعده، رواه سعيد بن منصور وحرب عنه بهذا اللفظ، ولفظه في سنن سعيد أن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا، وندم، وبلغ ذلك منه ما شاء الله فقيل له انظر رجلا يحللها لك وكان رجلا من أهل البادية له حسب أقحم إلى المدينة، وكان محتاجا ليس له شيء يتوارى به إلا رقعتين، رقعة يواري بها فرجه ورقعة يواري بها دبره، فأرسلوه إليه فقالوا له هل لك أن نزوجك امرأة فتدخل عليها فتكشف عنها خمارها ثم تطلقها، ونجعل لك على ذلك جعلا، قال نعم، فزوجوه فدخل عليها وهو شاب صحيح الحسب فلما دخل على المرأة فأصابها فأعجبها، فقالت له أعندك خير قال نعم هو حيث تحبين جعله الله فداها، وذكر الحديث ورواه أبو حفص العكبري في كتابه عن ابن سيرين، قال قدم رجل مكة ومعه إخوة له صغار وعليه إزار من بين يديه رقعة ومن خلفه رقعة، فسأل عمر فلم يعطه شيئا، فبينما هو كذلك، إذ نزع الشيطان بين رجل من قريش وبين امرأته فطلقها، فقال لها هل لك أن تعطين ذا الرقعتين شيئا، ويحلك لي قالت نعم إن شئت، فأخبروه ذلك، قال نعم، فتزوجها فدخل بها فلما أصبحت أدخلت إخوته الدار فجاء القرشي يحوم حول الدار ويقول يا ويله غلب علي امرأتي، فأتى عمر فقال يا أمير المؤمنين غلبت على امرأتي، قال من غلبك، قال ذو الرقعتين، قال أرسلوا إليه فلما جاء الرسول قالت له المرأة كيف موضعك من قومك، قال ليس بموضعي بأس، قالت إن أمير المؤمنين يقول لك أتطلق امرأتك فقل والله لا أطلقها، فإنه لا يكرهك، وألبسته حلة، فلما رآه عمر من بعيد قال الحمد لله الذي شرف ذا الرقعتين، فدخل عليه، فقال له أتطلق امرأتك قال لا والله لا أطلقها، فقال له عمر لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط، فهذا عن عمر رضي الله عنه وهو شرط تقدم العقد وقد حكم عمر بصحته، وإذا كان كذلك صارت المسألة خلافا في الصحابة، وربما حملنا ما روي عن عمر من النهي عن نكاح المحلل على الشرط المقرون بالعقد لتتفق روايتاه، ورواه عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن عمر وابن سيرين قال جاءت امرأة إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها، فأمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقيم عليها ولا يطلقها، وأوعده أن يعاقبه إن طلقها، قلنا: الجواب عن هذا من ستة أوجه، أحدها: أنه منقطع ليس له إسناد فروى أبو حفص عن أبي النضر قال سمعت أبا عبد الله يقول في المحلل والمحلل له: إنه يفسخ نكاحه في الحال، قلت أو ليس يروى عن عمر حديث ذي الرقعتين حيث أمره عمر أن لا يفارقها، قال ليس له إسناد، وقال أبو عبيد هذا حديث مرسل لابن سيرين وإن كان مأمونا لم ير عمر ولم يدركه، فأين هذا من الذين سمعوه يخطب على المنبر لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، قلت: وقد رويناه عن ابن عمر أنه سئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال: ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم وأحاديث ابن عمر كلها تبين أن نفس التحليل المكتوم زنا وسفاح، وقد أخبر عن أبيه بأنه لو أدرك ذلك لنكل عليه، وسائر الآثار عن عثمان وعلي وغيرهما تبين أن التحليل عندهم كل نكاح أراد به أن يحلها، وقد ثبت عن عمر أنه خطب هؤلاء فقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، فعلم أن عمر أراد التحليل مطلقا وإن كان مكتوما، فالمنقطع إذا عارض المسند لم يلتفت إليه، الوجه الثاني: أن هذا إن كان له أصل، فلعله لم تكن الإرادة فيه من الزوج الثاني، وإنما كانت من الزوج المطلق، وقد أجاب أبو عبيد وأبو حفص بهذا الجواب أيضا، ثم قال بعض أصحابنا وبعض المالكية لعله وقت العقد لم ينو التحليل، وإن كانوا قد شرطوه بل قصد نكاح الرغبة، ويشبه والله أعلم أنهم لم يذكروا للزوج سببا من ذلك بل زوجوه بها، وتواطئوا فيما بينهم على أن يعطوه شيئا ليطلقها، ولم يشعروه بذلك، ولكن ظاهر المروي في القصة أنهم شارطوه على الخلع قبل النكاح، ولم يشترطوا عليه الطلاق بمال، وهذا أمر لا ينفرد به، بل هو موقوف على بذل المال له، فهو مواطأة على فرقة من الزوج، ومن أجنبي، وهو بمنزلة المواطأة على الطلاق المجرد، كالمواطأة من الزوجة والمطلق ثلاثا على أن يبيعها الزوج أو يهبها إياه، إذا كان عبده، ومع هذا فيمكن أنهم ذكروا له بعد العقد فإن ابن سيرين لم يشهد القصة، وإنما سمعها من غيره، ومثل هذه القصة إذا حدث بها قد لا يخبر المخبر بأعيان الألفاظ وترتيبها، لا سيما إذا كان المقصود منها غير ذلك، بل يذكر على سبيل الإجمال، ونحن نعلم أنه لا بد أن يعقد النكاح على صداق يلتزمه الزوج، وبالجملة فهذه حكاية حال لم يشهدها الحاكي، فيحتمل أنها وقعت على هذا الوجه وهو الأقرب ; لأن الرجل لما جاء إلى عمر رضي الله عنه إنما قال غلبت على امرأتي ولم يقل غدر بي ولا مكر بي ولا خدعت، ولو كان المتزوج قد واطأه على أن يخلعها أو يطلقها لكانت شكايته ذلك إلى عمر رضي الله عنه، واحتجاجه به أولى من قوله غلبت على امرأتي، فإن أقل ما في ذلك أن ذا الرقعتين يكون قد حدثه فكذبه ووعده فأخلفه، وما ذكره بعض أصحابنا ضعيف، فإن عمر لم يستفصله هل نويت التحليل وقت العقد أم لم تنوه، ولو كان مناط الحكم ذلك لوجب الاستفصال، وصاحب هذا القول من أصحابنا ومن المالكية يقول إذا وطئ الزوج على التحليل وقصد هو وقت العقد الرغبة ولم يعلمهم بذلك، فهو نكاح صحيح لعدم النية والشرط المقارن، وذكر أصحابنا أن كل واحد من المواطأة المتقدمة على العقد واعتقاد التحليل مبطل للعقد، وهذا هو الذي دل عليه كلام الإمام أحمد، وهو قياس قول أصحابنا وقول المالكية فإن الشروط المتقدمة على العقد بمنزلة المقارنة إن كانت صحيحة، وجب الوفاء بها، وإن كانت باطلة أثرت في العقد في المذهبين جميعا، بل هذه الصورة أبلغ في البطلان من الاعتقاد المجرد، فلهذا لم يرخص أحد من التابعين في المواطأة قبل العقد وحكي عن بعضهم الرخصة في الاعتقاد المجرد، فإن هذا تلبيس مدلس على القوم، والنكاح الذي قصده لم يرضوا به ولم يعاقدوه عليه، والنكاح الذي رضوا به لم يرض الله به ورسوله، وإنما يصح العقد برضى المتعاقدين التابع لرضى الله ورسوله، فإذا تخلف أحدهما فهو باطل، الوجه الثالث: أنه ليس في القصة أنهم واطئوه على أن يحلها للأول، ولا أشعروه أنها مطلقة، وإنما فيها أنهم واطئوه على أن يبيت عندها ليلة ثم يطلقها، وهذا من جنس نكاح المتعة، الذي يكون للزوج فيه رغبة في النكاح إلى وقت، ونكاح المتعة قد كانوا يستحلونه صدرا من خلافة عمر، حتى أظهر عمر السنة بتحريمه، ولعل هذا كان قبل أن يظهر تحريم نكاح المتعة، ثم النكاح المشروط فيه الطلاق في الوقت الذي كان يصح فيه مثل هذا الشرط، إنما يجب الوفاء به إذا طلبت المرأة ذلك ; لأن الشرط حق لها كالصداق مثلا، ولهذا لما طلب من الرجل الطلاق رد الأمر إليها فلم تطلبه، وإذا كانت المرأة لم تطلبه لم يكن عليه أن يطلق، بخلاف النكاح المؤقت فإنه ينقضي بمضي الوقت، وقولها له فإن عمر لا يجبرك على طلاقي لأن الطلاق حق لها وعمر لا يجبر على توفية حق لم يطلبه صاحبه، بل عفا عنه، ثم إن عمر رضي الله عنه أظهر بعد هذا تحريم المتعة وتوعد عليه، الوجه الرابع: أن هذه القصة قضية عين وحكاية حال، والحاكي لها يشهدها ليستوفي صفتها، فيمكن أن تكون المرأة لما رغبت في الرجل وهو قد رغب فيها وهي امرأة ثيب هي أولى بنفسها من وليها كان بمنزلة خاطب، قد رغبت المرأة فيه فأمره عمر بإمساكها بنكاح جديد، وإن كان قد قال له لا تطلقها، فإن الفرقة النكاح وإن كان فاسدا يسمى طلاقا، وإن كانت فسخا، حتى قد قال بعض العلماء إنه طلاق واقع، وهذا كما روي { عن فيروز الديلمي أنه قال أسلمت وعندي أختان فأمرني النبي ﷺ أن أطلق إحداهما }، ومعلوم أن هذا ليس هو الطلاق الذي ينقص به العدد، ويقوي ذلك أن الإمساك كان بنكاح جديد لا بذلك النكاح، أشياء: أحدها: أن في الحديث أنه لما جاء الرسول من عند عمر قالت له المرأة كيف موضعك من قومك، قال ليس بموضعي بأس، قالت إن أمير المؤمنين يقول لك أتطلق امرأتك فقل لا والله لا أطلقها، فاعتبرت المرأة كفاءته بعلمها، بأنه قد يكون للأولياء بها تعلق، فلو كان النكاح الأول صحيحا لازما، لم يكن للأولياء الاعتراض بعد ذلك، وإنما يكون اعتراض لهم إذا أرادت المرأة أن تتزوج من غير كفء، ووقع النكاح بلا رضاهم، فهذا دليل على أن النكاح لم يكن قد انعقد لازما إلا أن يقال كان مقصودهم أنه إذا كان غير كفء يبطل عمر رضي الله عنه النكاح ; لأنه هو القائل لأمنعن خروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء، وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد رضي الله عنه، فيقال لم يكن الأولياء يمكنهم الطعن في كفاءته ; لأن عمر رضي الله عنه قد كان ينكر عليهم تزويجها بغير كفء، إن كان يرى ذلك، وإن لم يكن يرى ذلك فلا ينفعهم ذكره ; لأن النكاح يكون فاسدا فلا يحصل التحليل، وإن لم يكن يرى ذلك فلا ينفعهم ذكره، فعلى التقريرين لا حاجة لهم بذكره إلا إذا كان العقد الأول غير لازم، وثانيها: أن عمر رضي الله عنه قال لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط، ولو كان هذا النكاح صحيحا يحلها للأول لم ينهه عمر عن طلاقها إذا أرضوه، وهو يرى شغف الأول بها، وصفو الأولياء إليه فلما نهاه عن مفارقتها كان كالدليل على أنها لم تحل للأول إذا فارقها، وهم يريدون الاستحلال، وإنما درأ عمر رضي الله عنه العقوبة مع أنه قال لا أوتى بمحلل إلا رجمته، ; لأنه أعرابي جدير بأنه لا يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، وثالثها: أنهم لما قالوا له طلقها قال الأمر إليها فدل على أن مقامه مشروط وهذا إنما يكون قبل لزوم النكاح وصحته، ورابعها: أنه قد روى بعض المالكية أن عمر رضي الله عنه بعث المرأة لواسطة بينهما التي تسمى الدلالة، ونكل بها وهذا دليل على أنها فعلت ما لا يحل، الوجه الخامس: أن هذا الأثر ليس فيه عودها إلى المطلق بل فيه النهي عن ذلك، وليس فيه دوام نية التحليل بل فيه أنه صار نكاح رغبة بعد أن كان تحليلا فإن كان بنكاح مستأنف فلا كلام، وإن كان باستدامة النكاح الأول فهذا مما قد يسوغ فيه الخلاف، كما في النكاح بدون إذن المرأة أو نكاح العبد بدون إذن سيده أو بيع الفضولي وشرائه، فإنه قد اختلف فيه هل هو مردود أو موقوف، وبعض الفقهاء يقول: إن الشرط الفاسد إذا حذف بعد العقد صح، فيمكن أن يكون قول عمر رضي الله عنه مخرجا على هذا، فإن الصحابة قد اختلفت فيه، ونية التحليل كاشتراطه، فيكون هذا الشرط الفاسد إن حذف صح العقد وإلا فسد، وإذا حمل الحديث على هذا فهو محل اختلاف في مسألة أخرى، ولا يلزم من ذلك الخلاف في مسألة المحلل، ولهذا لما أفتى أحمد في نكاح المحلل بأن يفرق بينهما وإن حدث له رغبة بعد ذلك، كما دلت عليه السنة وكما فعل عثمان وقاله ابن عمر، اعترض عليه بحديث عمر هذا، فأجاب بأنه غير مسند فلا يعارض الآثار المسندة، وإنما اعترض عليه بذلك بناء على الآثار قد اختلفت في نكاح المحلل، هل له أن يمسكها به، ولم يقل أحد إنها اختلفت في صحة أصل النكاح ولا في جواز عودها إلى الأول بالتحليل، وإذا كانت هذه الحكاية بهذه المثابة من الإسناد والاحتمال لم تعارض ما عرف من كلام عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه ابنه، ومن سمعه يخطب على منبر المدينة، ومما يبين أن مثل ذلك قد يقع فيه التباس، ما رواه سعيد في سننه ثنا جرير عن مغيرة قال قلت لإبراهيم هل كان عمر بن الخطاب حلل بين رجل وامرأته، فقال لا إنما كانت لرجل امرأة ذات حسب ومال فطلقها زوجها تطليقة أو اثنتين فبانت منه، ثم إن عمر تزوجها فهني بها وقالوا لولا أنها امرأة ليس بها ولد فقال عمر وما بركتهن إلا أولادهن فطلقها قبل أن يتزوجها فتزوجها زوجها الأول، قال مغيرة عن أبي معشر كان زوجها الأول الحارث بن أبي ربيعة، فهذا مغيرة قد بلغه إما عن أبي معشر أو غيره أن عمر حلل امرأة حتى أخبره إبراهيم أنه إنما كان نكاح رغبة، لا أنه تزوجها للتحلل لكن ; لأنه طلقها عقب الدخول بها أو عقب العقد، توهم من لم يعلم حقيقة الأمر أنه كان تحليلا، فكذلك ذو الرقعتين لما بلغهم أنهم طلبوا منه أن يطلق، وبذلوا له المال على ذلك فامتنع ظنوا أنه كان محللا، فإن وقوع الطلاق أشد إيهاما للتحليل من مسألته فإن كان توهمه مع وقوع الطلاق باطلا كان توهمه مع مسألة الطلاق أولى بذلك، الوجه السادس: أنه لو ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه صحح نكاح المحلل فيجب أن يحمل هذا منه على أنه رجع عن ذلك ; لأنه ثبت عنه من غير وجه التغليظ في التحليل والنهي عنه، وأنه خطب الناس على المنبر فقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، وكذلك ذكر ابنه أن التحليل سفاح، وأن عمر لو رأى أصحابه لنكلهم، وبين أن التحليل يكون باعتقاد التحليل وقصده، كما يكون بشرطه، وقد كانوا في صدر خلافته يستحلون المتعة بناء على ما تقدم من رسول الله ﷺ فيها من الرخصة، يفعل ذلك من يبلغه تحريمها بعد ذلك، فلعله في ذلك الوقت كان يقصد من يقصد التحليل، ثم بعد هذا بلغ عمر رضي الله عنه النهي عن التحليل، فخطب به وأعلن حكمه كما خطب عن المتعة وأعلن حكمها، ولا يمكن أن يكون رخص في التحليل بعد النهي ; لأن النهي إنما يكون عن علم بسنة رسول الله ﷺ بخلاف ترك الإنكار فإنه يكون عن الاستصحاب، وما نهى عنه رسول الله ﷺ ولعن فاعله فإنه لا يمكن تغيير ذلك بعد موته، فثبت أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يختلفوا في ذلك .

ومن ذلك أن تجويز التحليل قد أفضى إلى ما هو غالب في التحليل المظهر بين الزوجين أو لازم له من الأمور المحرمة، وهو أن المرأة المعتدة لا يحل لأحد أن يصرح بخطبتها في عدتها، إلا أن يكون ممن يجوز له نكاحها في العدة، دل عليه الكتاب واجتمعت عليه الأمة قال تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله }، وقد قال قبل هذا: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا }، وأما التعريض فيجوز في حق من لا يمكن عودها إلى زوجها، مثل المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا عند الجمهور، فأما المرأة المزوجة فلا يجوز أن تخطب تصريحا ولا تعريضا، بل ذلك تخبيب للمرأة على زوجها، وهو من أقبح المعاصي، والمطلقة ثلاثا أحرم على المطلق من المزوجة، فلا يجوز له أن يصرح بخطبتها ولا يعرض لا في العدة ولا بعد العدة، ثم إذا تزوجها رجل لم يجز له أن يصرح بخطبتها، أو لا يعرض حتى يطلقها ثم إذا طلقها لم يجز التصريح بخطبتها حتى تقضي العدة، وإنما يجوز التعريض إذا كان الطلاق ثلاثا عند الجمهور، فإن كان الطلاق بائنا ففيه خلاف مشهور، وإن كان رجعيا لم يجز وفاقا، وقد أفضى تجويز التحليل إلى أن يطلق الرجل المرأة ثلاثا فيواعدها في عدتها على أن يتزوجها بعد التحليل، ويسعى هو في هذا التحليل، وربما أعطاها ما تعطيه المحلل، وأنفق عليها مدة العدتين إنفاقه على زوجته، فيا سبحان الله أين مواعدتها على أن يتزوجها وهي في العدة من غيره، وقد حرمه الله من مواعدتها على أن يتزوجها قبل العدة بدرجتين، وليس يخفى على اللبيب أن هذا ركوب للمحرم مكررا مغلظا، ومن شرح الله صدره للإسلام علم أن الفعل إذا كان مظنة لبعض هذه المفاسد حسم الشارع الحكيم مادته بتحريمه جميعه، ألا ترى { أن النبي ﷺ لما استأذنه وفد عبد القيس في الانتباذ في وعاء صغير قال لو رخصت لكم في هذه لجعلتموها مثل هذه، ثم يشرب أحدكم حتى يضرب ابن عمه بالسيف } أو كما قال ﷺ، { وفي القوم رجل قد أصابه ذلك، قال فسدلت رحلي حياء من النبي ﷺ }، فحرم الله ورسوله قليل الخمر وكثيرها، وحكم بنجاستها ونهى عن الخليطين، وعن شرب النبيذ بعد ثلاث وعن الأوعية المقوية، كل ذلك حسما للمادة، وإن كان العناد التام هو شرب المسكر ; لأن القليل من ذلك يقتضي الكثير طبعا، فكذلك أصل التحليل لما كان مفضيا إلى هذه المفاسد كثيرا أو غالبا، كان الذي يقتضيه القياس تحريمه، وقد تقدم في مسلك الذرائع شواهد كثيرة لهذا الأصل، واعلم أنه ليس في المتعة شر إلا وفي التحليل ما هو شر منه بكثير، فإن المستمتع راغب إلى وقت فيعطي الرغبة حقها، بخلاف المحلل فإنه تيس مستعار، فمن العجب أن يشنع على بعض أهل الأهواء بنكاح المتعة، ولهم في استحلاله سلف، ومعهم فيه أثر وحظ من قياس، وإن كان مدفوعا بما قد نسخه، ثم يرخص في التحليل الذي لعن الشارع فاعله ولم يبحه في وقت من الأوقات، واتفق سلف الأمة على لعن فاعله، وليس فيه حظ من قياس، بل القياس الجلي يقتضي تحريمه، ويعتصم من يفرق بينهما بمقارنة الشرط العقد وتقدمه عليه، أو يكون هذا شرطا وذاك توقيتا، وهو فرق بين ما جمع الله بينه، وليس له أصل في كتاب ولا سنة، ولا يعرف مأثورا عن أحد من السلف، بل الأصول من الكتاب والسنة وما هو المأثور عن سلف الأمة يدل على أن الشروط معتبرة إما صحة

ووفاء وإما فسادا أو إلغاء سواء قارنت العقد أو تقدم عليه، ولولا أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك لبسطنا القول فيه، فإنما قد قررنا أن مجرد النية تحليل، والشرط المتقدم بطريق الأولى، ولكن ننبه على بعض أدلة ذلك لكي يدخل فيه إذا تواطآ على التحليل، ثم تزوجها غير ناو للتحليل من غير إظهار ذلك، قال الله تعالى { أوفوا بالعقود } وقال: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون }، وقال: { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام }، وقال: { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا }، ولم يفرق سبحانه بين عقد وعقد وعهد وعهد، ومن شارط غيره في بيع أو نكاح على صفات اتفقا عليها ثم تعاقدا بناء عليها فهي من عقودهم وعهودهم، لا يعقلون ولا يفهمون إلا ذلك، والقرآن نزل بلغة العرب، وقال سبحانه وتعالى: { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } وقال: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } يعني العهود ومن نكث الشرط المتقدم فهو ناكث، كمن نكث المقارن لا تفرق العرب بينهما في ذلك، وكذلك قال ﷺ { المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا }، رواه أبو داود وغيره، والمسلمون يفهمون أن ما تقدم العقد شرط كما قارنه، حتى أنه وقت الخصام يقول أحدهما لصاحبه ألم يكن الشرط بيننا كذلك، ألم نشارطك على كذا، والأصل عدم نقل اللغة وتعييرها، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: { ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته، فيقال هذه غدرة فلان }، ومن شارط غيره على شيء على أن يتعاقدا عليه وتعاقدا ثم لم يف له بشرطه فقد غدر به، هذا هو الذي يعقله الناس ويفهمونه ولا يعرف التفريق بينهما في معاني الكلام عن أحد من أهل اللغة، ولا في الحكم عمن قوله حجة تلزمه، وفي الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن النبي ﷺ { لما خطب في شأن بنت أبي جهل، لما أراد علي رضي الله عنه أن يتزوجها، قال فذكر صهرا له من أبي العاص قال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي }، ومعلوم أنه إنما قال هذا مدحا لمن فعله وذما لمن تركه، وإلا لم يكن حجة لما قرنه به، والوعد في العقود إنما يتقدمها لا يقارنها، فعلم أن من وفى به كان ممدوحا ومن لم يف به كان مذموما معيبا، وهذا شأن الواجب، وفي حديث السيرة المشهور { أن الأنصار لما بايعوا النبي ﷺ ليلة العقبة، قالوا يا رسول الله اشترط لربك واشترط لنفسك واشترط لأصحابك، فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أزركم وأشترط لأصحابي أن تواسوهم، فقالوا إذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال الجنة قالوا مد يدك فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك، فبايعوه }، أفلا ترى كيف تقدم الشرط العقد ولم يحتج حين المبايعة أن يتكلم بالشروط المتقدمة ولو كانوا قد تكلموا بها فإنهم سموا ما قبل العقد اشتراطا، فيدخل في مسمى الشرط الذي دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء به، وهذا المحلل يقال له شرطنا عليك أنك إذا وطئتها فطلقها، ويعقد العقد بعد ذلك، وأيضا لو وصف المبيع أو الثمن المعين بصفات عند التساوم، ثم بعد ذلك بزمان تعاقدا كان العقد مبنيا على ما تقدم بينهما من الصفة، حتى إذا ظهر المبيع ناقصا عن تلك الصفة كان له الفسخ، ولو لا أن الصفة المتقدمة كالمقارنة لما وجب ذلك، وكذلك لو رآه ثم تعاقدا بعد ذلك بزمن لا يفتر في مثله غالبا، ولولا أن الرؤية المتقدمة كالمقارنة لما لزم البيع، وبعض الناس يخالف في الصفة المتقدمة، وأما الرؤية المتقدمة فلا أعلم فيها مخالفا، ولا فرق بين الموضعين، بل الواصف إلى الفرقة أقرب، وأيضا فإن من دخل مع رجل في عقد على صفات تشارطوا عليها وعقدوا العقد ثم نكث به فلا ريب أنه قد خدعه ومكر به، فإن الخدع أن يظهر له شيئا ويبطن خلافه، والمكر قريب من ذلك، وهذا مما تسميه الناس خديعة ومكرا، والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا زوالها وتغييرها، والخديعة والمكر حرام في النار كما دل عليه الكتاب والسنة، وأيضا فإن العقود في الحقيقة إنما تثبت على رضا المتعاقدين، وإنما كلامهما دليل على رضاهما كما نبه عليه قوله سبحانه: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ولما كانت البيوع تقع غالبا قبل الاختيار والاستكشاف، شرع فيها الخيار إلى التفرق بالأبدان ليتم الرضا بذلك، واكتفى في النكاح بما هو الغالب من تقدم الخطبة على العقد، لاستعلام حال الزوجين، وإذا تشارطا على أمر يتعاقدان عليه ثم تعاقدا فمن المعلوم أن كلا منهما إنما رضي بالعقد المشروط فيه الشرط الذي تشارطا عليه أولا، ومن ادعى أن أحدهما رضي بعقد مطلق خال عن شرط كان بطلان قوله معلوما بالاضطرار، وإذا كانا إنما رضيا بالعقد الذي تشارطا عليه قبل عقده وملاك العقود هو الرضا، ووجب أن يكون العقد ما رضيا به لا سيما في النكاح الذي سبق شرطه عقده، وليس بعد عقده خيار يستدرك فيه الفائت، ولهذا قال ﷺ: { إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج }، متفق عليه، وهذا بين لا خفاء فيه وأيضا فإن العقود في الحقيقة إنما هي بالقلوب، وإنما العبارات مبينات لما في القلوب، لا سيما إن قيل هي إخبارات، وبيانها لما في القلب لا يختلف بجمع الكلام في وقت أو يفرقه في وقتين، لا سيما الكلام الكثير الذي قد يتعذر ذكره في التعاقد، وهذا هو الواقع في خطاب جميع الخلق بل في أفصح الخطاب وأبلغه، فإن من مهد قاعدة بين بها مراده، فإنه يطلق الكلام ويرسله، وإنما يريد به ذلك المقيد الذي تقدم، والمستمع يفهم ذلك منه ويحمل كلامه عليه، كالعالم يقول مثلا يجوز للرجل أن يوصي بثلث ماله، فلا يدخل في كلامه المجنون ونحوه للعلم بأنه قد قرر في موضع آخر أن المجنون لا حكم له في الشرع، فكذلك الرجل يقول مثلا وأنكحت، فإن هذا اللفظ وإن كان مطلقا في اللفظ فهو مقيد بما تشارطا عليه قبل، ومعنى كلامه بعتك البيع الذي

تشارطنا وأنكحتك النكاح الذي تراضينا به، فمن جعل كلامه مطلقا بعد أن تقدم منه المشارطة والمواطأة فقد خرج عن مقتضى قواعد خطاب الخلق وكلامهم في جميع إيجابهم ومقاصدهم، وهذا واضح لا معنى للإطناب فيه، وإذا كان الشرط المشروط قبل العقد كالمشروط فيه، فمعلوم أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، ولهذا قالوا من دفع ثيابه إلى غسال يعرف منه الغسل بالأجرة لزمه الأجرة بناء على أن العرف شرط، وكذلك من دخل حمام حمامي أو ركب سفينة ربان فإنه يلزمه الأجرة بناء على العرف، وكذلك لا خلاف أنه لو أطلق الدراهم والدنانير في عقد بيع أو نكاح أو صلح أو غيرها، انصرف إلى النقد الغالب المعروف بين المتعاقدين، وكان هذا العرف مقيدا للفظ، ولم يجز أن ينزل على إطلاق اللفظ بإلزام مسمى الدرهم من أي نقد أو وزن كان، ولو أطلق اللفظ في الأيمان والمثمنات ونحوها انصرف الإطلاق إلى السليم من العيوب بناء على أنه العرف، وإن كان اللفظ أعم من ذلك، والعرف الخاص في ذلك كالعام على ما شهد به باب الأيمان والنذور والوقوف والوصايا وغيرها من الأحكام الشرعية، فإن كان بعض التيوس معروفا بالتحليل، وجيء بالمرأة إليه فهو اشتراط منهم للتحليل لا يعقل الناس إلا هذا، فلو لم يف بما شرطوه لكان عندهم خديعة ومكرا ونكثا وغدرا، وعلى هذا فيبطل العقد من وجهين من جهة نية التحليل، ومن جهة اشتراطه قبل العقد لفظا أو عرفا، وكذلك على هذا لو شرط التحليل لفظا أو عرفا وعقد النكاح بنية ثانية كان النكاح باطلا على ظاهر المذهب ; لأن ما شرطوه عليه لم يرض الله به فلا يصح شرعا، وما نواه الزوج لم ترض المرأة به ولا وليها فلا يصح لعدم الرضا من جهتهما فما رضوا به لم يأذن الله سبحانه فيه، وما أذن الله فيه لم يرتضوا به، فلا يصح واحد منهما، وهذا هو الجواب عما ذكروه في الاعتراض على دلالة الحديث، من أن الشروط المؤثرة هي ما قارنت العقد دون ما تقدمته، فإن هذا غير مسلم، وهو ممنوع لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا وفاق ولا عبرة صحيحة، والقول في النكاح والبيع وغيرهما واحد، وقد سلمه بعض أصحابنا مثل أبي محمد المقدسي، وادعى أن المؤثر في الفساد هو النية المقترنة بالعقد لا الشرط المتقدم، والصحيح أن كلا منهما لو انفرد لكان مؤثرا كما تقدم، وسلم آخرون منهم القاضي أبو يعلى وغيره أن الشرط المتقدم إن لم يمنع القصد بالعقد كالتواطؤ على أجل مجهول ونحوه، لم يفسد العقد، وإن منع القصد بالعقد كالتواطؤ على بيع تلجئة ونكاح تحليل أبطل العقد، والصحيح أن الشروط المتقدمة كالمقارنة مطلقا، وهذا قول أبي حفص العكبري وهو قول المالكية، وأما قولهم بحمل الحديث على من أظهر التحليل دون من نواه ولم يظهره، لئلا يفضي القول بالإفساد إلى إضرار المعاقد الآخر، ولأن النية لو كانت شرطا لما صحت الشهادة على النكاح فنقول هذا السؤال من قال بموجبه، فإنه يبطل أكثر صور التحليل التي هي منشأ الفساد، وهو الذي قال به بعض التابعين إن صح، وبعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه، والجواب عنه أن الزوجة متى لم تعلم نية التحليل لم يضرها ذلك، فإنها تعتقده حلالا فلا يكون أسوأ حالا من وطء الشبهة فالوطء حلال بالنسبة إليها، حرام بالنسبة إلى الزوج، كما لو تزوج امرأة يعلم أنها محرمة عليه، وهي لا تعلم ذلك، وكذلك ما يعطيها إياه من المهر والنفقة يحل لها أخذه، كما يحل لها ذلك في مثل هذه الصورة، ومثل ذلك ما ذكره أصحابنا، وأكثر الفقهاء في الصلح على الإنكار والنكول فإن أحد المصالحين إذا علم كذب نفسه كان الصلح باطلا في حقه خاصة فيكون ما يأخذه من مال الآخر أو ما يهضمه من حقه حراما عليه، وكذلك لو ورث الرجل من أبيه رقيقا قد علم رجل أن الأب أعتقهم، والابن لا يعلم ذلك فاشتراهم منه من يعلم بعتقهم كان البيع صحيحا بالنسبة إلى البائع، فيحل له الثمن وكان بالنسبة إلى المشتري باطلا فلا يحل له استعبادهم، وأشبه منه بمسألتنا لو كان بيد الرجل مال يملكه مثل عبد أعتقه فباعه لرجل، فإنه يكون باطلا بالنسبة إلى البائع فيحرم عليه الثمن، وهو حلال في الظاهر بالنسبة إلى المشتري فيحل له المبيع، ونظائر هذا كثيرة في الشريعة، وأما الشهود فإنهم يشهدون على لفظ المتعاقدين، وبه يصح العقد في الظاهر، فإن لم يشعروا بنيته للتحليل لم يكن عليهم إثم، وإن علموا ذلك بقرينة لفظية أو عرفية، كان كما لو علموا أن الزوج مكره، فتحرم عليهم الشهادة على مثل هذا النكاح، كما تحرم عليهم الشهادة على عقد الربا والنحل الجائرة وغير ذلك، لكن إذا لم يكن إلا مجرد نية الزوج فهناك لا يظهر التحليل أصلا فلا يأثمون بالشهادة على ما ظاهره الصحة، ولهذا لم يلعنوا في الحديث، وإنما صححنا العقد في الظاهر بدون العلم بالقصد، كما صححنا إسلام الرجل بدون العلم بما في قلبه، فإن الألفاظ تعبر عما في القلوب، والأصل فيها المطابقة والموافقة، ولم نؤمر أن ننقب عما في قلوب الناس ولا نشق بطونهم، ولكن نقبل علانيتهم ونكل سرائرهم إلى الله سبحانه، ولكن هم فيما بينهم وبين الله مؤاخذون بنياتهم وسرائرهم، وهذا بين، وأما قولهم إذا اشترى بنيته أن لا يبيعه ولا يهب صح، ولو شرط ذلك لم يصح، فعلم أن النية ليست كالشرط فسيأتي إن شاء الله الكلام على ذلك، ونبين الفرق بين نية تنافي مقصود العقد ومقتضاه، ونية لا تنافيه، كما فرق بين شرط ينافي العقد وشرط لا ينافيه، ولا يلزم من كون بعض الأشياء تنافي العقد شرطا وقصدا أن يكون كل شيء ينافيه شرطا وقصدا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

المرتبة الثالثة: أن تتسبب إلى فرقته مثل أن تبالغ في استيفاء الحقوق منه، والامتناع من الإحسان إليه لست أعني أنها تترك واجبا تعتقد وجوبه، أو تفعل محرما تعتقد تحريمه، لكن غير ذلك مثل أن تطالبه بالصداق جميعه، ليفسخ أو يحبس أو لتمتنع منه، أو تبذل له في خصومتها، وذلك يشق عليها مثل أن تطالبه بفرض النفقة، أو إفرادها بمسكن يليق بها وخادم ونحو ذلك من الحقوق التي عليه، أو تمنع من إعانته في المنزل بطبخ أو فرش أو لبس أو غسل ونحو ذلك، كل ذلك ليفارقها فإن قيل فهذه الأمور منها ما قد يختلف في وجوبه، فإذا قيل بوجوبه فتقديره إلى اجتهاد الحاكم، وهو أمر يدخله الزيادة والنقصان، ولا يكاد ينقل غالبا من عاشرت زوجها بمثل هذا عن معصية الله، ونحن نتكلم على تقدير خلوه من المعصية فنقول: إذا فعلت المباح لغرض مباح فلا بأس به، أما إذا قصدت به ضررا غير مستحق فإنه لا يحل، مثل من يقصد حرمان ورثته بالإسراف في النفقة في مرضه، فإذا كانت المرأة لا تريد استيفاء الصداق ولا فرض النفقة وهي طيبة النفس بالخدمة المعتادة، وإنما تجشم ذلك لتضيق على الزوج ليطلقها، فإلجاؤه إلى

الطلاق غير جائز ; لأنه إلجاء إلى فعل ما لا يجب عليه ولا يستحب له وهو يضره، وهي آثمة بهذا الفعل إذا كان ممسكا لها بالمعروف، وإنما الذي تستحقه بالشرع المطالبة لأحد أمرين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أما إذا قصدت التسريح فقط، وإنما تطالبه بموجبات العقد لتضطره بعسرها عليه إلى التسريح، فهذه ليست طالبة أحد الأمرين وإنما هي طالبة واحدا بعينه، وهي لا تملك ذلك شرعا، فهذه المرتبة تلحق بالتي بعدها كما قدمنا نظائر ذلك في أقسام الحيل، لكن هذا الفعل إنما حرم بالقصد، وهذا أمر لا يمكن الحكم عليه ظاهرا بخلاف الذي بعده، ولا فرق بين أن يكون التحريم لجنس الفعل أو لقصد يقترن بالفعل، ولا يقال فقد يباح لها الاختلاع إذا كانت تخاف أن لا تقيم حدود الله معه، فكذلك يباح لها الاستقصاء في الحقوق حتى تفارق ; لأنا نقول الاختلاع يتضمن تعويضه عن الطلاق برد الصداق إليه، أو رد ما يرضى به وهو شبيه بالإقالة في البيع، وهذه تلجئة إلى الطلاق من غير عوض فليست بمنزلة المختلعة، وإذا كانت لا تستحق أن يطلقها بغير عوض، وفي ذلك عليه ضرر فإذا قصدت إيقاع هذا الضرر به بفعل هو مباح، أو خلا عن هذا القصد دخلت في قوله ﷺ { من ضار ضار الله به ومن شق شق الله عليه } وهو حديث حسن، وهذا ليس مختصا بحقوق النكاح بل هو عام في كل من قصد إضرار غيره بشيء هو مباح في نفسه، بقي أن يقال: فهي لا تقصد إضراره وإنما تقصد نفع نفسها بالخلاص منه، فيقال الشارع لم يجعل هذه المنفعة بيدها، ولو كان انتفاعها بالأخص حقا لها لملكها الشارع ذلك وحيث احتاجت إليه أمرها أن تفتدي منه كافتداء العبد والأسير، ألا ترى أن العبد لا يحل له أن يقصد مضارة سيده ليعتقه، إذا لم يكن السيد متسببا إليه، ثم، إن كانت نوت هذا حين العقد فقد دخلت على ما تضاره به مع غناها عنه، فإنه ليس لها أن تتوصل إلى بعض أغراضها التي لا تجب لها بما فيه ضرر على غيرها، فكيف إذا قصدت أن تحل لنفسها ما حرم الله عليها بأضرار الغير، فهذا الضرب قريب مما ذكر بعده، وإن كان بينهما فرق .

وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر وقدموهم على أهل السنة والإثبات، وخالفوا أوليهم، ومنهم من يتقارب نفيه وإثباته وأكثر الناس يقولون إن هؤلاء يتناقضون فيما يجمعونه من النفي والإثبات، وفي هذه الدرجة حصل النزاع في مسألة الحرف والصوت والمعنى القائم بالنفس، وذلك أن الجهمية لما أحدثت القول بأن القرآن مخلوق، ومعناه أن الله لم يصف نفسه بالكلام أصلا بل حقيقة أن الله لم يتكلم ولا يتكلم، كما أفصح به رأسهم الأول الجعد بن درهم، حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما ; لأن الخلة إنما تكون من المحبة، وعنده أن الله لا يحب شيئا في الحقيقة، ولا يحبه شيء في الحقيقة فلا يتخذ شيئا خليلا، وكذلك الكلام يمتنع عنده على الرب تعالى، وكذلك نفت الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن يكون لله كلام قائم به، أو إرادة قائمة به، وادعوا ما باهتوا به صريح العقل المعلوم بالضرورة، أن المتكلم يكون متكلما بكلام يكون في غيره، وقالوا أيضا: يكون مريدا بإرادة ليست فيه ولا في غيره، أو الإرادة وصف عدمي، أو ليست غير المرادات المخلوقة وغير الأمر وهو الصوت المخلوق في غيره، فكان حقيقة قولهم التكذيب بحقيقة ما أخبرت به الرسل من كلام الله ومحبته ومشيئته، وإن كانوا قد يقرون بإطلاق الألفاظ التي أطلقتها الرسل وهذا حال الزنادقة المنافقين، من الصابئين والمشركين، من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم: فيما أخبرت به الرسل في باب الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، بل وفيما أمرت به أيضا، وهم مع ذلك يقرون بكثير مما أخبرت به الرسل، وتعظيم أقدارهم، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، لكن هؤلاء المتفلسفة يقولون إن كلام الله هو ما يفيض على نفوس الأنبياء الصافية القدسية، من العقل الفعال الذي يزعمون أنه الروح المفارق للأجسام، الذي هو العقل العاشر كفلك القمر، ويزعمون أنه الذي يفيض منه ما في هذا العالم من الصور والأعراض، ويزعم من يزعم من منافقيهم الذين يحاولون الجمع بين النبوة وبين قولهم بأن ذلك هو جبريل، ويقولون: إن تلك المعاني التي تفيض على نفس النبي والحروف التي تتشكل في نفسه، هي كلام الله، كما يزعمون أن ما يتصور في نفسه من الصور النورانية، هي ملائكة الله، فلا وجود لكلام الله عندهم خارجا عن نفس النبي، وكذلك الملائكة غير العقول العشرة والنفوس التسعة، أكثرهم متنازعون فيها، هل هي جواهر أو أعراض، إنما الملائكة ما يوجد في النفوس والأبدان من القوى الصالحة والمعارف والإرادات الصالحة ونحو ذلك وحقيقة ذلك أن القرآن إنشاء الرسول وكلامه كما قال ذلك فيلسوف قريش وطاغوتها الوحيد ابن المغيرة، الذي قال الله فيه: { ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر } إلى قوله: { إن هذا إلا قول البشر } وهذا قول وقع فيه طوائف من متأخري غالية المتكلمة والمتصوفة، الذين ضلوا بكلام المتفلسفة فوقعوا فيما ينافي أصلي الإسلام، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، بما وقعوا فيه من الإشراك وجحود حقيقة الرسالة، فهذا قول من قال من غالية الجهمية، وأما الجهمية المشهورون من المعتزلة ونحوهم، فقالوا: إنه يخلق كلاما في غيره إما في الهواء وإما بين ورق الشجرة التي كلم منها موسى، وإما غير ذلك فذلك هو كلام الله عندهم، فإذا قالوا: إن الله متكلم

حقيقة، وإن له كلاما حقيقة، فهذا معناه عندهم وهو تبديل للحقيقة التي فطر الله عليها عباده، واللغة التي اتفق عليها بنو آدم، والكتب التي أنزلها الله من السماء، ولما كان من المعلوم بالفطرة الضرورية التي اتفق عليها بنو آدم إلا من اجتالت الشياطين فطرته، أن المتكلم هو الذي يقوم به الكلام ويتصف به، وكذلك المحب والمريد من تقوم به المحبة والإرادة، كما أن العليم والقدير من يقوم به العلم والقدرة، وقد قالوا: ليس لله كلام إلا ما يكون قائما بغيره، كالشجرة لزم أن تكون الشجرة هي المتكلمة بالكلام الذي خاطب الله به موسى ولهذا قال عبد الله بن المبارك: من قال إنني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوق فهو كافر، ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك ; لأن حقيقة قولهم إن المخلوق هو القائل لذلك، وكذلك قال يحيى بن سعيد القطان وذكر له أن قوما يقولون القرآن مخلوق، فقال: كيف يصنعون ب { قل هو الله أحد }، كيف يصنعون بقوله: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا }، وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال أنا ربكم الأعلى، وقال غيره إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فهذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا وكلاهما عنده مخلوق فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه، قال البخاري: وقال علي بن عاصم أما الذين قالوا إن لله ولدا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم، وقال: احذر ابن المريسي وأصحابه ; فإن كلا منهم ابن جد الزندقة، وأنا كلمت أستاذهم جعدا فلم يثبت أن في السماء إلها قال البخاري، وقال عبد الرحمن بن عفان، سمعت سفيان بن عيينة يقول في السنة التي ضرب فيها المريسي فقام ابن عيينة من مجلسه مغضبا فقال: ويحكم القرآن كلام الله قد صحبت الناس وأدركتهم، هذا عمرو بن دينار، وهذا ابن المنكدر، حتى ذكر منصورا أو الأعمش ومسعر بن كدام، فقال ابن عيينة قد تكلموا في الاعتزال والرفض والقدر، وأمرونا باجتناب القوم، فما نعرف القرآن إلا كلام الله فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله ما أشبه هذا القول بقول النصارى، لا تجالسوهم ولا تسمعوا كلامهم، قال البخاري: حدثني الحكم بن محمد الطبري، حدثنا سفيان بن عيينة، قال أدركت مشايخنا منذ سبعين سنة، منهم عمرو بن دينار، يقولون: القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكذلك أيضا قالوا: الله تعالى قد خلق كلاما في غيره، كما قال تعالى: { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء }، ومن ذلك كلام الذراع للنبي ﷺ وتسليم الحجر عليه، وغير ذلك مما يطول، ومعلوم أن ذلك ليس كلام الله، لا سيما من علم أن الله خالق كل شيء، وهو خالق أفعال العباد من كلامهم وحركاتهم وغير ذلك فكل ذلك يجب أن يكون كلاما لله إن كان ما خلقه من الكلام في غيره يكون كلاما له، وهذا مما يعلم فساده بالضرورة، ويوجب أن يكون الكفر والكذب، وقول الشاة: إني مسمومة فلا تأكلني، وقول البقرة: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث وشهادة الجلود والأيدي والأرجل كلام الله وإلا يفرق بين نطقه وبين إنطاقه لغيره، وأيضا فقد قال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فأخبر بأنه ليس لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على هذه الوجوه الثلاثة ; فلو كان تكليمه ليس هو نفسه المتكلم به، ولا هو قائم به بل هو بأن يخلق كلاما في شجرة أو نحوها من المخلوقات، لم يكن لاشتراط هذه الوجوه معنى ; لأن ما يقوم بالمخلوقات يسمعه كل أحد، كما يسمعون ما يحدثه في الجمادات من الإنطاق، وكما سمعوا ما يحدثه في الأحياء من الإنطاق، ولأنه فرق بين الوحي وبين التكليم من وراء حجاب، فلو كان كلامه هو ما يخلقه في غيره من غير أن يقوم به كلام، لم يحصل الفرق ولأنه فرق بين ذلك وبين أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، فلو كان ذلك الرسول لم يسمع إلا ما خلق في بعض المخلوقات لكان هذا من جنس ما يخلقه فيسمعه البشر، وحينئذ فيكون كلاهما من وراء حجاب فلا يكون الله مكلما للملائكة قط إلا من وراء حجاب، وقوله: { من وراء حجاب } دليل على أنه قد يكلم من شاء بلا حجاب، كما استفاضت بذلك السنن عن النبي ﷺ - فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات، أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها وبقايا التابعين وأتباعهم وصاروا يظهرون أعظم المقالات شبهة كقولهم: القرآن مخلوق ; لأنهم يشبهون بهذا على العامة ما لا يشبهونه بغيرهم إذ يقول القائل كل ما سوى الله مخلوق ولأن نقيض هذا اللفظ ليس مشهورا كشهرة أحاديث الرؤية والعرش وغير ذلك، ومع هذا فكان إنكار السلف والأئمة لذلك من أعظم الأنكار دع ما هو أظهر فسادا، قال الإمام الحافظ أبو القاسم اللالكائي: وقد ذكر أقوال السلف والأئمة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وما ورد عنهم من تكفير من يقول ذلك، ثم قال: فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسا وأكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخبيرين على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، قال: ولو اشتغلت بنقل قول المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة، لكن اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر، لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه وأمروا بقتله أو نفيه أو صلبه، قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق الجعد بن درهم في سني نيف وعشرين ثم الجهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القشيري، وأما جهم فقتل بمرو في خلافة هشام بن عبد الملك وسأذكر قصتهما إن شاء الله .

فصل: ومع هذا فقد حفظ عن أئمة الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس هذا القول، وفي ذلك حجة على من يزعم أن أقوال هؤلاء الأئمة بدون الصحابة ليس بحجة، فروى اللالكائي من طريقين، من طريق محمد بن المصفى، ومن طريق الفضل بن عبد الله الفارسي، كلاهما عن عمرو بن جميع أبي المنذر، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: لما حكم علي الحكمين، قالت له الخوارج: حكمت رجلين ؟ قال: ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن، ورواه عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناد آخر إلى علي، وقال: حدثنا محمد بن حجاج الحضرمي المضري، حدثنا يعلى بن عبد العزيز، حدثنا عتبة بن السكن الفزاري، حدثنا الفرج بن يزيد الكلاعي، قال: قالوا لعلي يوم صفين حكمت كافرا أو منافقا ؟ قال: ما حكمت مخلوقا، ما حكمت إلا القرآن، وهذا السياق يبطل تأويل من يفسر كلام السلف، بأن المخلوق هو المفتري المكذوب، والقرآن غير مفتر ولا مكذوب، فإنهم لما قالوا: حكمت مخلوقا، إنما أرادوا مربوبا مصنوعا خلقه الله، لم يريدوا مكذوبا، فقوله: ما حكمت مخلوقا، نفي لما ادعوه، وقوله: ما حكمت إلا القرآن، نفي لهذا الخلق عنه، وقد روي ذلك عن علي من طريق ثالث، وأما قول ابن مسعود، فمن المحفوظ الثابت عنه، الذي رواه الناس من وجوه كثيرة صحيحة، من حديث يحيى بن سعيد القطان وغيره، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي كنف، قال: قال عبد الله من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم قال فقال عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع، وروى محمد بن هارون الروياني، حدثنا أبو الربيع حدثنا أبو عوانة، عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن حنظلة بن خويلد العنزي، قال: أخذ عبد الله بيدي، فلما أشرفنا على السد إذ نظر إلى السوق، قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها، قال: فمر برجل يحلف بسورة من القرآن وآية، قال فغمزني عبد الله بيدي ثم قال: أتراه مكفرا ؟ أما إن كل آية فيها يمين، ولا نزاع بين الأمة أن المخلوقات لا يجب في الحلف بها يمين، كالكعبة وغيرها، إلا ما نازع فيه بعضهم من الحلف برسول الله ﷺ - لكون الإيمان به أحد ركني الإيمان، وقوله: عليه بكل آية يمين، قد اتبعه الأئمة وعملوا به ; كالإمام أحمد وإسحاق وغيرهما، لكن هل تتداخل الأيمان إذا كان المحلوف عليه واحدا، كما لو حلف بالله لا يفعل، ثم حلف بالله لا يفعل، هذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد، وأما قول ابن عباس، فقال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا أبي حدثنا ابن صالح بن جابر الأنماطي حدثنا علي بن عاصم، عن عمران بن حدير، عن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده، قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس، فقال: مه القرآن منه، زاد الصهيبي في حديثه فقال ابن عباس: القرآن كلام الله وليس بمربوب، منه خرج وإليه يعود، فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات في أثناء المائة الثانية، أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ثم استفحل أمرهم في أوائل المائة الثالثة بسبب من أدخلوه في شركهم وفريتهم من ولاة الأمور، وجرت المحنة المشهورة، وكان أئمة الهدى على ما جاءت به الرسل عن الله، من أن القرآن كلام الله تكلم به هو سبحانه، وهو منه وقائم به، وما كان كذلك لم يكن مخلوقا، إنما المخلوق ما يخلقه من الأعيان المحدثة وصفاتها، وكثير منهم يرد قول الجهمية بإطلاق القول بأن القرآن كلام الله ; لأن حقيقة قولهم، أنه ليس كلامه، ولا تكلم ولا يتكلم به ولا بغيره، فإن المستقر في فطر الناس وعقولهم ولغاتهم، أن المتكلم بالكلام، لا بد أن يقوم به الكلام فلا يكون متكلما بشيء لم يقم به بل هو قائم بغيره كما لا يكون عالما بعلم قائما بغيره، ولا حيا بحياة قائمة بغيره ولا مريدا بإرادة قائمة بغيره ولا محبا ومبغضا ولا راضيا وساخطا بحب وبغض ورضا وسخط قائم بغيره، ولا متألما ولا متنعما وفرحا وضاحكا بتألم وتنعم وفرح وضحك قائم بغيره، فكل ذلك عند الناس من العلوم الضرورية البديهية الفطرية التي لا ينازعهم فيها إلا من أحيلت فطرته، وكذلك عندهم لا يكون آمرا وناهيا بأمر ونهي لا يقوم به بل يقوم بغيره ولا يكون مخبرا ومحدثا ومنبئا بخبر وحديث ونبأ لا يقوم به بل بغيره، ولا يكون حامدا أو ذاما ومادحا ومثنيا بحمد وذم ومدح وثناء لا يقوم به بل بغيره ولا يكون مناجيا ومناديا وداعيا بنجاء ودعاء ونداء لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره، ولا يكون واعدا وموعدا بوعد ووعيد لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره، ولا يكون مصدقا ومكذبا بتصديق وتكذيب لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره، ولا يكون حالفا ومقسما موليا بحلف وقسم ويمين لا يقوم به ولا يقوم إلا بغيره بل من أظهر العلوم الفطرية الضرورية التي علمها بنو آدم، وجوب قيام هذه الأمور بالموصوف بها، وامتناع أنها لا تقوم إلا بغيره، فمن قال إن الحمد والثناء، والأمر والنهي، والنبأ والخبر، والوعد والوعيد، والحلف واليمين، والمناداة والمناجاة، وسائر ما يسمى ويوصف به أنواع الكلام، يمتنع أن تكون قائمة بالآمر الناهي المناجي المنادي المنبئ المخبر الواعد المتوعد الحامد المثني الذي هو الله تعالى ويجب أن تكون قائمة بغيره، فقد خالف الفطرة الضرورية المتفق عليها بين الآدميين، وبدل لغات الخلق أجمعين، ثم مع مخالفته للمعقولات واللغات فقد كذب المرسلين أجمعين، ونسبهم إلى غاية التدليس والتلبيس على المخاطبين ; لأن الرسل أجمعين أخبروا أن لله أمرا ونهيا، وقال ويقول، وقد علم بالاضطرار أن مقصودهم أن الله هو نفسه الذي أمر ونهى، وقال: لا، إن ذلك شيء لم يقم به، بل خلقه في غيره، ثم لو كان مقصودهم ذلك، فمعلوم أن هذا ليس هو المعروف من الخطاب، ولا المفهوم منه، لا عند الخاصة ولا عند العامة: بل المعروف المعلوم أن يكون الكلام قائما بالمتكلم، فلو أرادوا بكلامه وقوله أنه خلق في بعض المخلوقات كلاما ; لكانوا قد أضلوا الخلق على زعم الجهمية ولبسوا عليهم غاية التلبيس، وأرادوا باللفظ ما لم يدلوا الخلق عليه، والله تعالى قد أخبر أن الرسل بلغت البلاغ المبين، فمن نسبهم إلى هذا فقد كفر بالله ورسوله، وهذا قول الزنادقة المنافقين، الذين هم أصل الجهمية الذين يصفون الرسل بذلك من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم بل كون المتكلم الآمر الناهي لا يوصف بذلك إلا لقيام الكلام بغيره مع امتناع قيامه به أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازا، وزعمت الجهمية الملحدة في أسماء الله وآياته المحرفة للكلم عن مواضعه المبدلة لدين الله من المعتزلة ونحوهم أن المتكلم في اللغة من فعل الكلام وإن كان قائما بغيره، كالجني المتكلم على لسان الإنسي المصروع فإنه هو المتكلم بما يسمع من المصروع ; لأنه فعل ذلك وإن كان الكلام لم يقع إلا بالإنسي دون الجني، وهذا من التمويه والتدليس، فأما قولهم المتكلم من فعل الكلام فقد نازعهم فيه طائفة من الصفاتية وقالوا بل المتكلم من قام به الكلام وإن لم يفعله كما يقوله الكلابية والأشعرية وبين الفريقين في ذلك نزاع طويل، وأما السلف والأئمة وأكثر الناس فلم ينازعوهم هذا النزاع، بل قالوا: الكلام وإن قيل إنه فعل للمتكلم فلا بد أن يكون قائما به فلا يكون الكلام لازما لمتكلم يمتنع أن يقوم به الكلام، وجميع المسموع من اللغات والمعلوم في فطرة البريات يوافق ذلك، وأما تكلم الجني، على لسان الإنسي فلا بد أن يقوم بالجني كلام ولكن تحريكه مع ذلك لجوارح الإنسي يشبه تحريك روح الإنسي لجوارحه بكلامه ويشبه تحريك الإنسان بكلامه وحركته وتصويته كما يصوت بقصبة ونحوها مع أنه في ذلك كله قد قام به من الفعل ما يصح به نسبة ذلك إليه، وقولهم: المتكلم من فعل الكلام وإن كان قائما بغيره، كلام متناقض فإن الفعل أيضا لا يقوم بغير الفاعل، وإنما الذي يقوم بغيره هو المفعول، وأما قول من يقول: إن الخلق لا يكون إلا بمعنى المخلوق، فهو من بدع الجهمية، وعامة أهل الإسلام على خلاف هذا وكذلك قال الأئمة مثل ما ذكره الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية قال: ففيما يسأل عنه بأولا يقال له : تجد في كتاب الله أنه يخبر عن القرآن أنه مخلوق ؟ فلا يجد، فيقال له فبم قلت ؟ فيقول، من قول الله: { إنا جعلناه قرآنا عربيا } وزعم أن كل مجعول مخلوق، فادعى كلمة من الكلام المتشابه يحتج بها من أراد أن يلحد في تنزيلها ويبتغي الفتنة في تأويلها، وذلك أن جعل في القرآن من المخلوقين على وجهين على معنى التسمية، وعلى معنى فعل من أفعالهم، قوله: { الذين جعلوا القرآن عضين } قالوا: هو شعر وأنباء الأولين وأضغاث أحلام، فهذا على معنى التسمية، وقال: { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } يعني أنهم سموهم إناثا ثم ذكر جعل على غير معنى تسمية فقال: { يجعلون أصابعهم في آذانهم } فهذا على معنى فعل من أفعالهم وقال: { حتى إذا جعله نارا } هذا على معنى فعل، هذا جعل المخلوقين، ثم ذكر جعل من الله على معنى خلق، وجعل على غير معنى خلق، والذي قال الله جل ثناؤه جعل على معنى خلق لا يكون إلا خلقا ولا يقوم إلا مقام خلق لا يزول عن المعنى فما قال الله جعل على معنى خلق كذلك قوله: { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور } يعني خلق الظلمات والنور، { وجعلنا الليل والنهار آيتين } يقول خلقنا الليل والنهار آيتين: قال { وجعل الشمس سراجا } وقال: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } يقول خلق منها زوجها خلق من آدم حواء، وقال: { وجعل لها رواسي } ومثله في القرآن كثير فهذا وما كان مثاله لا يكون مثاله إلا على معنى خلق وقوله: { ما جعل الله من بحيرة } لا يعني ما خلق الله من بحيرة، وقال الله لإبراهيم: { إني جاعلك للناس إماما } لا يعني أني خالقك للناس إماما لأن خلق إبراهيم كان متقدما قال إبراهيم: { رب اجعل هذا بلدا آمنا }، وقال: { رب اجعلني مقيم الصلاة } لا يعني، خلقني مقيم الصلاة، وقال: { يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة } لا يعني يريد الله أن لا يخلق لهم حظا في الآخرة، وقال لأم موسى { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } لا يعني وخالقوه من المرسلين ; لأن الله تعالى وعد أم موسى أن يرده إليها ثم يجعله من بعد ذلك مرسلا، وقال: { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم } لا يعني فيخلقه في جهنم، وقال: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين } وقال: { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } لا يعني خلقه دكا ومثله في القرآن كثير وما كان على مثاله لا يكون على معنى خلق، فإذا قال تعالى جعل على معنى خلق وقال جعل على غير معنى خلق فبأي حجة قال الجهمي جعل على معنى الخلق، فإن رد الجهمي الجعل إلى المعنى الذي وصفه الله فيه وإلا كان من الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، فلما قال الله عز وجل: { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } يقول جعله جعلا على معنى فعل من أفعال الله على غير معنى خلق، وقال في سورة يوسف: { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }، وقال: { بلسان عربي مبين } وقال: { فإنما يسرناه بلسانك } فلما جعل الله القرآن عربيا ويسره بلسان نبيه كان ذلك فعلا من أفعال الله جعل به القرآن عربيا، ففي هذا بيان لمن أراد الله هداه، وقال البخاري في صحيحه، باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون، وقال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية، بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كلم موسى ﷺ وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء، قلنا: لم أنكرتم ذلك ؟ قالوا: لأن الله لم يتكلم ولا يتكلم إنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فسمع، فزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان، فقلنا فهل يجوز لمكون أو لغير الله أن يقول لموسى { لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } وإني أنا ربك ؟ فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمية أن الله كون شيئا كان يقول ذلك المكون يا موسى أنا الله رب العالمين، ولا يجوز أن يقول إني أنا الله رب العالمين وقد قال الله جل ثناؤه { وكلم الله موسى تكليما }، وقال: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال: { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } فهذا منصوص القرآن قال: وأما ما قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، فكيف يصنعون بحديث سليمان الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي، قال: قال رسول الله ﷺ: { ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان } قال: وأما قولهم إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان، أليس الله عز وجل قال للسماوات والأرض: { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } أتراه أنها قالت بجوف وشفتين ولسان ؟ وقال الله: { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أتراها أنها سبحت بفم وجوف ولسان وشفتين والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أتراها نطقت بجوف وشفتين وفم ولسان ولكن الله أنطقها كيف شاء من غير أن يقول فم ولسان وشفتان، قال: فلما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره، فقلنا وغيره مخلوق ؟ قال نعم قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون وحديث الزهري قال { لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من ذلك مت قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك، فقال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا تشبهه، قال: أسمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله }، قال وقلنا للجهمية: من القائل لعيسى يوم القيامة { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } أليس الله هو القائل قالوا: يكون الله شيئا يعبر عن الله كما يكون فعبر لموسى فقلنا: فمن القائل: { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } أليس الله هو الذي يسأل ؟ قالوا: هذا كله إنما يكون الله شيئا فيعبر عن الله قلنا قد أعظمتم على الله الفرية حتى زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله ; لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول عن مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال أقول إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق، قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة، بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء، ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم، ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول إنه كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة، فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله هذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا: لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر، فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا: نحن نقول كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته، وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا لهم: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله جل ثناؤه وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد، لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا علم له حتى خلق فعلم والذي لا يعلم فهو جاهل ولكن نقول لم يزل الله قادرا عالما مالكا لا متى ولا كيف، وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: (ذرني ومن خلقت وحيدا } أوقد كان لهذا الذي سماه وحيدا عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته، فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد، وكذلك ذكر الأشعري في المقالات قلت وفي هذا الكلام الذي ذكره الإمام أحمد رد على الطائفتين المختلفتين في معنى قول أحمد وسائر السلف في معنى أن القرآن غير مخلوق هل المراد أنه قديم لازم لذاته لا يتعلق بالمشيئة والقدرة كالعلم أو المراد أنه لم يزل متكلما كما يقال لم يزل خالقا، وقد ذكر الخلاف في ذلك عن أصحاب الإمام أحمد أبو بكر عبد العزيز في كتاب المقنع، وذكره عنه القاضي أبو يعلى في كتاب البيان في القرآن مع أن القاضي وأتباعه يقولون بالقول الأول ويتأولون كلام أحمد المخالف لذلك على الأسماع ونحوه، وليس الأمر كذلك وهذه المسألة هي التي وقعت الفتنة بها بين الإمام أبي بكر بن خزيمة وبعض أصحابه، وكلام أحمد والأئمة ليس هو قول هؤلاء ولا قول هؤلاء، بل فيه ما أثبته هؤلاء من الحق وما أثبته هؤلاء من الحق وكل من الطائفتين أثبت من الحق ما أثبته فإن الإمام أحمد قد بين أنه لم يزل الله متكلما إذا شاء وإذا نظر ذلك بالعلم والقدرة والنور فليس كالمخلوقات الباينة عنه، لأن الكلام من صفاته وليس كالصفة القائمة به التي لا تتعلق بمشيئته ولهذا قال أحمد في رواية حنبل: لم يزل الله متكلما عالما غفورا، وقد ذكرنا كلام ابن عباس في دلالة القرآن على ذلك فذكر أحمد ثلاث صفات متكلما عالما غفورا، فالتكلم يشبه العلم من وجه ويشبه المغفرة من وجه فلا يشبه بأحدهما دون الآخر فالطائفة التي جعلته كالعلم من وجه والطائفة التي جعلته كالمغفرة من كل وجه قصرت في معرفته وليس هذا وصفا له بالقدرة على الكلام بل هو وصف له بوجود الكلام إذا شاء، وسيجيء كلام أحمد في رواية المروزي .

من العلم والكلام " وليسا من الخلق لأنه لم يخل منهما ولم يزل الله متكلما عالما، فقد نفى عنهما الخلق في ذاته أو غير ذاته، وبين أنه لم يخل منهما، وهنا يبين أنه لم يخلق القرآن لا في ذاته ولا خارجا عنه، وفي كلامه دليل على أن قول القائل تحله الحوادث أو لا تحله الحوادث كلاهما منكر عنده، وهو تقتضي أصوله لأن في نفي ذلك بدعة وفي إثباته أيضا بدعة ولهذا أنكر أحمد على من قال القرآن محدث إذ كان معناه عندهم معنى الخلق المخلوق، كما روى الخلال عن الميموني أنه قال لأبي عبد الله، ما تقول فيمن قال إن أسماء الله محدثة، فقال: كافر، ثم قال لي: الله من أسمائه، فمن قال إنها محدثة، فقد زعم أن الله مخلوق، وأعظم أمرهم عنده وجعل يكفرهم، وقرأ علي { الله ربكم ورب آبائكم الأولين } وذكر آية أخرى، وقال الخلال سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يحكي عن أبيه كلامه في داود الأصبهاني، وكتاب محمد بن يحيى النيسابوري فقال: جاءني داود فقال: تدخل على أبي عبد الله وتعلمه قصتي وأنه لم يكن مني يعني ما حكوا عنه، قال: فدخلت على أبي فذكرت له ذلك قال: ولم أعلم أنه على الباب - فقال لي: كذب قد جاءني كتاب محمد بن يحيى، هات تلك الضبارة قال الخلال وذكر الكلام فلم أحفظه جيدا، فأخبرني أبو يحيى عن زكريا أبو الفرج الرازي قال: جئت يوما إلى أبي بكر المروزي وإذا عنده عبد الله بن أحمد، فقال له أبو بكر: أحب أن تخبر أبا يحيى ما سمعت من أبيك في داود الأصبهاني، فقال عبد الله: لما قدم داود من خراسان جاءني فسلم علي فسلمت عليه فقال لي قد علمت شدة محبتي لكم وللشيخ، وقد بلغه عني كلام فأحب أن تعذرني عنده وتقول له أن ليس هذا مقالتي أو ليس كما قيل لك، فقلت: لا تريد ؟ فأبي فدخلت إلى أبي فأخبرته أن داود جاء فقال إنه لا يقول بهذه المقالة وأنكر، قال: جئني بتلك الإضبارة [ الكتب ] فأخرج منها كتابا فقال هذا كتاب محمد بن يحيى النيسابوري وفيه أنه يعني داود الأصبهاني - أحل في بلدنا الحال والمحل، وذكر في كتابه أنه قال القرآن محدث فقلت له إنه ينكر ذلك، فقال: محمد بن يحيى أصدق منه لا نقبل قول عدو الله، أو نحو ما قال أبو يحيى وأخبرني أبو بكر المروزي بنحو ذلك، قال الخلال، وأخبرني الحسين بن عبد الله - يعني الخرقي - والد أبي القاسم صاحب المختصر، قال: سألت أبا بكر المروزي عن قصة داود الأصبهاني وما أنكر عليه أبو عبد الله فقال: كان داود خرج إلى خراسان إلى إسحاق بن راهويه، فتكلم بكلام شهد عليه أبو نصر بن عبد المجيد وشيخ من أصحاب الحديث من قطيعة الربيع، شهدوا عليه أنه قال القرآن محدث، فقال لي أبو عبد الله: من داود بن علي الأصبهاني لا فرج الله عنه، فقلت: هذا من غلمان أبي ثور، قال جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري أن داود الأصبهاني قال ببلدنا: إن القرآن محدث، ثم إن داود قدم إلى ههنا فذكر نحو قصة عبد الله، قال المروزي وحدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري أن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه لما سمع كلام داود في بيته وثب عليه إسحاق فضربه وأنكر عليه، هذه قصته، قال الخلال أخبرني محمد بن جعفر الراشدي قال: لقيت ابن محمد بن يحيى بالبصرة عند بندار، فسألته عن داود فأخبرني بمثل ما كتب به محمد بن يحيى إلى أحمد بن حنبل، وقال: خرج من عندنا من خراسان بأسوإ حال وكتب لي بخطه وقال شهد عليه بهذا القول بخراسان علماء نيسابور، قلت: أما الذي تكلم به عند إسحاق فأظنه كلامه في مسألة اللفظ فإنه قال: الأمرين كما قال الخلال، سمعت أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة، سمعت أبا عبد الله محمد بن الحسن بن صبيح قال سمعت داود الأصبهاني يقول: القرآن محدث ولفظي بالقرآن مخلوق، قلت فأنكر الأئمة على داود قوله إن القرآن محدث لوجهين: أحدهما: أن معنى هذا عند الناس كان معنى قول من يقول القرآن مخلوق، وكانت الواقفة الذين يعتقدون أن الخلق مخلوق ويظهرون الوقف، فلا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون إنه محدث، ومقصودهم مقصود الذين قالوا هو مخلوق فيوافقونهم في المعنى ويستترون بهذا اللفظ فيمتنعون عن نفي الخلق عنه، وكان إمام الواقفة في زمن أحمد محمد بن شجاع الثلجي يفعل ذلك وهو تلميذ بشر المريسي وكانوا يسمونه ترس الجهمية، ولهذا حكى أهل المقالات عنه ذلك، قال الأشعري في كتاب المقالات " القول في القرآن " قالت المعتزلة والخوارج وأكثر الزيدية والمرجئة وكثير من الرافضة: " إن القرآن كلام الله وإنه مخلوق لله لم يكن ثم كان وقال هشام بن الحكم ومن ذهب مذهبه أن القرآن صفة لله لا يقال مخلوق ولا أنه خالق هذه الحكاية عنه وزاد الثلجي في الحكاية عنه أنه قال: لا يقال غير مخلوق أيضا كما لا يقال مخلوق لأن الصفات لا توصف، وحكى زرقان عنه أن القرآن على ضربين إن كنت تريد المسموع فقد خلق الله الصوت المقطع وهو رسم القرآن، وأما القرآن ففعل الله، مثل العلم والحركة منه لا هو هو ولا هو غيره، قال محمد بن شجاع الثلجي ومن وافقه من الواقفة: إن القرآن كلام الله وإنه محدث كان بعد أن لم يكن وبالله كان وهو الذي أحدثه وامتنعوا من إطلاق القول بأنه مخلوق، أو غير مخلوق وقال زهير: ألا يرى أن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد، وبلغني عن بعض المتفقهين كان يقول: إن الله لم يزل متكلما بمعنى أنه لم يزل قادرا على الكلام، ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق، قال وهذا قول داود الأصبهاني، وقال أبو معاذ التومني: القرآن كلام الله حدث وليس بمحدث وفعل ليس بمفعول وامتنع أن يزعم أنه خلق ويقول ليس يخلق ولا مخلوق وأنه قائم بالله ومحال أن يتكلم الله بكلام قائم بغيره، كما يستحيل أن يتحرك بحركة قائمة بغيره، وكذلك يقول في إرادة الله ومحبته وبغضه أن ذلك أجمع قائم بالله، وكان يقول: إن بعض القرآن أمر وهو الإرادة من الله الإيمان لأن معنى أن الله أراد الإيمان هو أنه أمر به، وحكى زرقان عن معمر أنه قال: إن الله تعالى خلق الجوهر، والأعراض التي هي فيه هي فعل الجوهر إنما هي فعل الطبيعة، فالقرآن فعل الجوهر الذي هو فيه بطبعه فهو لا خالق ولا مخلوق، وهو محدث للشيء الذي هو حال فيه بطبعه وحكي عن ثمامة بن أشرس النميري أنه قال: يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون الله تعالى يبتدئه فإن كان الله ابتدأه فهو مخلوق وإن كان فعل الطبيعة فهو لا خالق ولا مخلوق، قال وهذا قول عبد الله بن كلاب، قال عبد الله بن كلاب: إن الله لم يزل متكلما وإن كلام الله صفة له قائمة به وإنه قديم بكلامه، وإن كلامه قائم به، كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به، وهو قديم بعلمه وقدرته، وإن الكلام ليس بحرف ولا صوت، ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وإنه معنى واحد بالله تعالى، وإن الرسم هو الحروف المتغايرة دون قراءة القارئ، وإنه خطأ أن يقال كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره، وإن العبارات عن كلام الله تعالى تختلف وتتغاير وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير كما أن ذكرنا الله يختلف ويتغاير والمدلول لا يختلف ولا يتغاير، وإنما سمي كلام الله عربيا لأن الرسم الذي هو العبارة عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيا لعلة وكذلك سمي عبرانيا لعلة وهي أن الرسم الذي هو عبارة عنه عبراني وكذلك سمي أمرا لعلة ونهيا وخبرا لعلة ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمى كلامه أمرا قبل وجود العلة التي بها يسمى كلامه أمرا وكذلك القول في تسمية كلامه نهيا وخبرا، وأنكر أن يكون البارئ لم يزل مخبرا أو لم يزل ناهيا وقال إن الله لا يخلق شيئا إلا قال له كن فيكون فيستحيل أن يكون قوله كن مخلوقا قال: وزعم عبد الله بن كلاب أن ما يسمع الناس يتلونه هو عبارة عن كلام الله وأن موسى سمع الله متكلما بكلامه وأن معنى قوله: { فأجره حتى يسمع كلام الله } معناه حتى يفهم كلام الله قال ويحتمل على مذهبه أن يكون معناه حتى يسمع التالين يتلونه قال: وقال بعض من أنكر خلق القرآن إن القرآن قد يكتب ويسمع وإنه متغاير غير مخلوق، وكذلك العلم غير القدرة والقدرة غير العلم وإن الله تعالى لا يجوز أن يكون غير صفاته وصفاته متغايرة وهو غير متغاير قال، وقد حكي عن صاحب هذه المقالة أنه قال: بعض القرآن مخلوق وبعضه غير مخلوق فما كان منه مخلوقا فمثل صفات المخلوقين وغير ذلك والأخبار عن أفعالهم قال وزعم هؤلاء أن الكلام غير محدث وأن الله تعالى لم يزل به متكلما وأنه مع ذلك حروف وأصوات وأن هذه الحروف الكثيرة لم يزل الله متكلما بها وحكي عن ابن الماجشون: أن نصف القرآن مخلوق ونصفه غير مخلوق وحكى بعض من يخبر عن المقالات: أن قائلا من أصحاب الحديث قال ما كان علما من علم الله في القرآن فلا نقول مخلوق ولا نقول غير الله وما كان منه أمرا أو نهيا فهو مخلوق، وحكى هذا الحاكي عن سليمان بن جرير قال وهو معه عندي قال وحكى محمد بن شجاع أن فرقة قالت إن القرآن هو الخالق وأن فرقة قالت هو بعضه، وحكى زرقان أن القائل بهذا وكيع بن الجراح وأن فرقة قالت إن الله هو بعض القرآن وذهب إلى أنه مسمى فيه فلما كان اسم الله في القرآن والاسم هو المسمى كان الله في القرآن وأن فرقة قالت هو أولى قائم بالله لم يسبقه قال الأشعري وكل القائلين بأن القرآن ليس بمخلوق كنحو عبد الله بن كلاب ومن قال إنه محدث كنحو زهير ومن قال إنه محدث كنحو أبي معاذ التوني يقولون إن القرآن ليس بجسم ولا عرض قلت: محمد بن شجاع وزر قال ونحوهما هم من الجهمية ونقلهم عن أهل السنة فيه تحريف في النقل، وقد ذكر الأشعري في أول كتابه في المقالات أنه وجد ذلك في نقل المقالات فإنه قال: أما بعد، فإنه لا بد لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها من معرفة المذاهب والمقالات ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات ويصنفون في النحل والديانات، من بين مقصر فيما يحكيه، وغالط فيما يذكر من قول مخالفيه، وبين معتمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من خالفه ومن بين تارك للتقضي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به، قال: وليس هذا سبيل الديانين ولا سبيل ألفاظ المتميزين، فحداني ما رأيت من ذلك على شرح ما التمست شرحه من أمر المقالات واختصار ذلك، قلت: وهو نفسه وإن تحدى فيما ينقله ضبطا وصدقا، لكنه أكثر ما ينقله من مذاهب الذين لم يقف على كتبهم وكلامهم هو من نقل هؤلاء المصنفين في المقالات، كزرقان وهو معتزلي وابن الراوندي وهو شيعي، وكتب أبي علي الجبائي ونحوهم فيقع في النقل ما فيه من جهة هؤلاء مثل هذا الموضع، فإن ما ذكره محمد بن شجاع عن فرقة أنها قالت إن القرآن هو الخالق وفرقة قالت هو بعضه، وحكاية زرقان أن القائل بهذا هو وكيع بن الجراح، هو من باب النقل بتأويلهم الفاسد، وكذلك قوله إن فرقة قالت إن الله بعض القرآن وذهب إلى أنه مسمى فيه، فلما كان اسم الله في القرآن والاسم هو المسمى كان الله في القرآن، وذلك أن الذي قاله وكيع وسائر الأئمة إن القرآن من الله، يعنون أن القرآن صفة الله وأنه تعالى هو المتكلم به، وأن الصفة هي مما تدخل في مسمى الموصوف، كما روى الخلال حدثني أبو بكر السالمي، حدثني ابن أبي أويس سمعت مالك بن أنس يقول: القرآن كلام الله من الله وليس شيء من الله مخلوق ورواه اللالكائي من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عبد الله بن يزيد الواسطي، سمعت أبا بكر أحمد بن محمد المعمري، سمعت ابن أبي أويس يقول، سمعت خالي مالك بن أنس وجماعة العلماء بالمدينة يذكرون القرآن، فقالوا: كلام الله وهو منه ليس من الله شيء مخلوق وقال الخلال أخبرنا علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين يقول: أدركت الناس ما يتكلمون في هذا ولا عرفنا هذا إلا بعد منذ سنين، القرآن كلام الله منزل من عند الله لا يئول إلى خالق ولا مخلوق منه بدأ وإليه يعود، هذا الذي لم نزل عليه ولا نعرف غيره، قال الخلال أنبأنا المروزي أخبرني أبو سعيد ابن أخي حجاج الأنماطي، أنه سمع عمه يقول: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق وهو منه، وروى اللالكائي من حديث أحمد بن الحسن الصوفي، حدثنا عبد الصمد مردويه قال: اجتمعنا إلى إسماعيل ابن علية بعد ما رجع من كلامه، فكنت أنا وعلي فتى هشيم وأبو الوليد خلف الجوهري وأبو كنانة الأعور وأبو محمد سرور مولى المعلى صاحب هشيم فقال له علي فتى هشيم: نحب أن نسمع منك ما نؤديه إلى الناس في أمر القرآن فقال: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق ومن قال إن شيئا من الله مخلوق فقد كفر، وأنا أستغفر الله مما كان مني في المجلس، وروى من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال أخبرت عن محرز بن عون قال محمد بن يزيد الواسطي: علمه وكلامه منه وهو غير مخلوق، وقال عبد الله أنبأنا إسحاق بن البهلول، سمعت ابن أبي أويس يقول: القرآن كلام الله ومن الله وما كان من الله فليس بمخلوق، وقال الخلال في كتاب السنة، أخبرني محمد بن سليمان قال قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل ما تقول في القرآن عن أي قالة تسأل قلت كلام الله قال كلام الله وليس بمخلوق ولا تجزع أن تقول ليس بمخلوق فإن كلام الله من الله ومن ذات الله وتكلم الله به وليس من الله شيء مخلوق، وروى عن جماعة عن أحمد بن الحسن الترمذي قال سألت أحمد فقلت: يا أبا عبد الله قد وقع في أمر القرآن ما قد وقع فإن سئلت عنه ماذا أقول، فقال لي ألست أنت مخلوقا ؟ قلت نعم، فقال أليس كل شيء منك مخلوقا ؟ قلت نعم، قال فكلام الله أليس هو منه ؟ قلت نعم قال فيكون شيء من الله عز وجل مخلوقا قال الخلال وأخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني حنبل سمعت أبا عبد الله يقول قال الله في كتابه العزيز: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فجبريل سمعه من الله تعالى، وسمعه النبي ﷺ من جبريل وسمعه أصحاب النبي من النبي فالقرآن كلام الله غير مخلوق ولا نشك، ولا نرتاب فيه وأسماء الله تعالى في القرآن وصفاته في القرآن وأن القرآن من علم الله وصفاته منه فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر والقرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وقد كنا نهاب الكلام في هذا حتى أحدث هؤلاء ما أحدثوا وقالوا ما قالوا ودعوا الناس إلى ما دعوهم إليه فبان لنا أمرهم وهو الكفر بالله العظيم، ثم قال أبو عبد الله يزال الله عالما متكلما نعبد الله بصفات غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف بها نفسه { سميع عليم } { غفور رحيم } { عالم الغيب والشهادة } { علام الغيوب } ; فهذه صفات الله تبارك وتعالى وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال { ثم استوى على العرش } كيف شاء، المشيئة إليه والاستطاعة له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لا يبلغه صفة الواصفين وهو كما وصف نفسه نؤمن بالقرآن محكمه ومتشابهه كل من عند ربنا قال الله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } نترك الجدال في القرآن والمراد فيه لا نجادل ولا نماري ونؤمن به كله ونرده إلى عالمه تبارك وتعالى فهو أعلم به منه بدأ وإليه يعود قال أبو عبد الله وقال لي عبد الرحمن بن إسحاق كان الله ولا قرآن فقلت مجيبا له: كان الله ولا علم، فالعلم من الله وله وعلم الله منه، والعلم غير مخلوق فمن قال أنه مخلوق فقد كفر بالله وزعم أن الله مخلوق فهذا الكفر البين الصراح .

وذكر أن محمد بن شجاع إمام الواقف هو وأصحابه الذين لا يقولون القرآن مخلوق ولا غير مخلوق يطلقون عليه أنه محدث، بمعنى أنه أحدثه في غيره، وهو معنى قول من قال إنه مخلوق ليس بينهما فرق إلا في اللفظ، وقد سلك هذا المسلك طوائف من أهل البدع من الرافضة وغيرهم، يقولون هو محدث مجعول ولا يقولون هو مخلوق، ويزعمون أن لفظ الخلق يحتمل المفتري، وهم في المعنى موافقون لأصحاب المخلوق، وقد وافقهم على الترادف طوائف الكلابية والأشعرية وطوائف من أهل الفقه والحديث والتصوف، يقولون المحدث هو المخلوق في غيره لا يسمون محدثا إلا ما كان كذلك، فهؤلاء كلهم يقولون من قال إنه محدث كان معنى قوله إنه مخلوق ولزمه القول بأنه مخلوق فهو أحد الوجهين للإنكار على داود الأصبهاني وغيره ممن قال إنه محدث وأطلق القول بذلك، وإن كان داود وأبو معاذ وغيرهما لم يريدوا بقولهم أنه محدث أنه بائن عن الله كما يريد الذين يقولون إنه مخلوق، بل ذهب داود وغيره ممن قال إنه محدث وليس بمخلوق من أهل الإثبات أنه هو الذي تكلم به، وأنه قائم بذاته ليس بمخلوق منفصل عنه، ولعل هذا كان مستند داود في قوله لعبد الله أحب أن تعذر بي عنده، وتقول له ليس هذا مقالتي أو ليس كما قيل لك، فإنه قد يكون قصد بذلك أني لا أقول إنه محدث بالمعنى الذي فهموه وأفهموه وهو أنه مخلوق، وليس هذا مذهبي، ولم يقبل أحمد قوله لأن هذا القول منكر، ولو فسره بهذا التفسير لما ذكرناه ولأنه أنكر مطلقا فلم يقربا للفظ الذي قاله وقد قامت عليه البينة به فلم يقبل إنكاره بعد الشهادة عليه، ولأنه أظهر مع هذه البدعة بدعة أخرى وهي إباحة التحليل وهو مذهبه .

فعارض هؤلاء طائفة قالت إن القرآن هو الحرف والصوت أو الحروف والأصوات وقالوا إن حقيقة الكلام هو الحروف والأصوات، ولم يجعلوا المعاني داخلة في مسمى الكلام، وهؤلاء وافقوا المعتزلة الجهمية في قولهم إن الكلام ليس هو إلا الحروف والأصوات، لكن المعتزلة لا يقولون إن الله تكلم بكلام قائم به، وحقيقة قولهم إن الله لم يتكلم بشيء وهؤلاء يقولون إن الله تكلم بذلك وإن كلام الله قائم به وإن كلام الله غير مخلوق وهؤلاء أخرجوا المعاني أن تكون داخلة في مسمى الكلام وكلام الله كما أخرج الأولون الحروف والأصوات أن تكون داخلة في مسمى الكلام وكلام الله لكن هؤلاء الذين يقولون إن الكلام ليس هو إلا الحروف والأصوات لا يمنعون أن يكون الكلام معنى بل الناس كلهم متفقون على أن الحروف والأصوات التي يتكلم بها المتكلم تدل على معان وإنما النزاع بينهم في شيئين: أحدهما: إن تلك المعاني هل هي من جنس العلوم والإرادات أم هي حقيقة أخرى ليست هي العلوم والإرادات فالأولون يقولون ذلك المعنى حقيقة غير حقيقة العلم والإرادة والآخرون يقولون ليست حقيقته تخرج عن ذلك، والنزاع الثاني: أن مسمى الكلام هل هو

المعنى أو هو اللفظ فالذين يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق ويقولون الكلام هو الحروف والأصوات هم وإن وافقوا المعتزلة في مسمى الكلام فإنهم يقولون إن معنى الكلام سواء كان هو العلم والإرادة أو أمرا آخر قائما بذات الله والجهمية من المعتزلة وغيرهم نحوهم لا تثبت معنى قائما بذات الله بل هؤلاء يقولون إن الكلام الذي هو الحروف قائم بذات الله أيضا فموافقة هؤلاء المعتزلة أقل من موافقة الأولين بكثير والصواب الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا فاللفظ والمعنى داخل في مسمى الكلام والأقوال في ذلك أربعة: أحدها: أن الكلام حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى كما تقوله الطائفة الثانية، والثاني: أنه حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ كما يقوله جمهور الأولين، والثالث: أنه مشترك بينهما كما يقوله طائفة من الأولين، والرابع: أنه حقيقة في المجموع وإذا أريد به أحدهما دون الآخر احتاج إلى قرينة وهذا قول أهل الجماعة، وقد يحكي الأولون عن الآخرين أنهم يقولون إن القرآن قديم غير مخلوق وإن القديم الذي ليس بمخلوق هو الحروف والأصوات القائمة بالمخلوقات وهي أصوات العباد ومداد المصاحف فيحكون عنهم أن نفس صوت العبد ونفس المداد قديم أزلي غير مخلوق وهذا مما يعلم كل أحد فساده بالحس والاضطرار وما وجدت أحدا من العلماء المعروفين يقر بذلك بل ينكرون ذلك ولكن قد يوجد مثل هذا القول في بعض الجهال من أهل البوادي والجبال ونحوه وإنكار ذلك مأثور عن الأئمة المتقدمين كما ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال قال وقال إسحاق بن إبراهيم فأما الأوعية فمن شك في خلقها قال الله تعالى: { وكتاب مسطور، في رق منشور }، وقال: { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ }، فذكر محمد بن نصر وحية في كتابه عن أحمد بن عمر عن عبدان عن ابن المبارك قال الورق والمداد مخلوق فأما القرآن فليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله ولكن منهم طائفة يقولون إن لفظهم بالقرآن أو الصوت المسموع منهم غير مخلوق أو أنه يسمع منهم الصوت المخلوق والصوت الذي ليس بمخلوق لكن هذا مما أنكره عليهم أئمتهم وجماهيرهم، والآخرون يحكون عن الأولين أنه ليس لله في الأرض كلام وأن هذا القرآن الذي يقرأه المسلمون ليس هو كلام الله وأنه ليس لله في الأرض كلام وإنما هذا حكاية أو عبارة عن كلام الله وهؤلاء صادقون في هذا النقل فإن هذا قول الأولين وهم أول من ابتدع في الإسلام القول بالحكاية والعبارة وهي البدعة التي أضافها المسلمون إلى ابن كلاب والأشعري فإن ابن كلاب قال الحروف حكاية عن كلام الله وليست من كلام الله لأن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم والله يمتنع أن يقوم به حروف وأصوات فوافق الجهمية والمعتزلة في هذا النفي فجاء الأشعري بعده وهو موافق لابن كلاب على عامة أصوله فقال الحكاية تقتضي أن تكون مثل المحكي وليس الحروف مثل المعنى بل هي عبارة عن المعنى ودالة عليه وهم وأتباعهم يقولون إن تسمية ذلك كلاما لله مجازا لا حقيقة ويطلقون القول الحقيقي بأن أحدا من المسلمين لم يسمع كلام الله وأمثال ذلك سواء قالوا إن الحروف تسمى كلاما مجازا أو بطريق الاشتراك بينهما وبين المعاني لأنها وإن سميت كلاما بطريق الاشتراك فالكلام عندهم وعند الجماعة لا بد أن يقوم بالمتكلم فيصح على أحد قولهم أن تكون الحروف والأصوات كلاما للعباد حقيقة لقيامها بهم ولا يصح أن تكون كلاما لله حقيقة لأنها لا تقوم به عندهم بحال فلو قال أحد منهم إن الحروف التي يخلقها الله في الهواء تسمى كلاما له حقيقة أو إن ما يسمع من العباد أو يوجد في المصاحف يسمى كلام الله حقيقة للزمه أن يجعل مسمى الكلام ما لا يقوم بالمتكلم بل يكون دلالة على ما يقوم المتكلم وإن كان مخلوقا له وهذا ما وجدته لهم وهو ممكن أن يقال لكن متى قالوه انتقض عليهم عامة الحجج التي أبطلوا بها مذهب المعتزلة عليهم وصار للمعتزلة حجة قوية، وقد يحكي الآخرون عن الأولين أنهم يستهينون بالمصاحف فيطئونها وينامون عليها ويجعلونها مع نعالهم وربما كتبوا القرآن بالعذرة وغير ذلك مما هو من أفعال المنافقين الملحدين وهذا يوجد في أهل الجفاء والغلو منهم لما ألقى إليهم أئمتهم أن هذا ليس هو كلام الله صاروا يفرعون على ذلك فروعا من عندهم لم يأمرهم بها أئمتهم وإنما هي من أفعال الزنادقة المنافقين وإلا فلا خلاف بين من يعتقد الإسلام في وجوب احترام المصاحف وإكرامها وإجلالها وتنزيهها وفي العمل يقول النبي ﷺ: { لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو }، وإن كان أهل البدعة يتناقضون في الجمع بين ما جاءت به الشريعة وما اعتقدوه من البدعة لكن التناقض جائز على العباد وهو أيسر عليهم من التزام الزندقة والنفاق والإلحاد وإن كانت تلك البدعة هي المرقاة إلى هذا الفساد، وأما الطائفة الثانية التي جعلت القرآن هو مجرد الحروف والأصوات فإنهم وافقوا الجهمية من المعتزلة وغيرهم، وعلى ذلك فإن أولئك جعلوا القرآن وسائر الكلام هو مجرد الحروف والأصوات الدالة على المعاني لكنهم لم يجعلوا لله كلاما تكلم هو به وقام به ولا جعلوا لهذه الحروف معاني تقوم بالله أصلا إذ عندهم لم يقم بالله لا علم ولا إرادة ولا غير ذلك بل جعلوا الحروف والأصوات مخلوقة خلقها الله في بعض الأجسام كما يزعمون أنه خلق في نفس الشجرة صوتا سمعه موسى حروف ذلك الصوت { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } ولا ريب أن هذا يوجب أن تكون الشجرة هي القائلة إنني، أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إذ المتكلم بالكلام هو الذي يقوم به كما أن المتحرك بالحركة والعالم بالعلم وغير ذلك من الصفات والأفعال وغيرها هو من يقوم به الصفة ولا يجوز أن يكون لشيء متكلما بكلام يقوم بغيره ولا يقوم به أصلا كما لا يكون عالما قادرا بعلم وقدرة لا تقوم إلا بغيره ومتحركا بحركة لا تقوم إلا بغيره وطرد ذلك عند المحققين من الصفاتية أنه لا يكون فاعلا خالقا ومكونا بفعل وخلق وتكوين لا يقوم إلا بغيره كما هو مذهب أهل الحديث والصوفية والفقهاء وطوائف من أهل الكلام . وأهل الحديث لم يكونوا يتنازعون في تحريم ذلك كما جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ والتابعين، وكان محمد بن يحيى من أئمة أهل الحديث، كما قال أبو نعيم الأصبهاني أنبأنا محمد بن عبد الله يعني الحاكم، سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول سمعت خالي عبد الله بن علي بن الجارود يقول: سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول: كنا عند أحمد بن حنبل فدخل محمد بن يحيى فقام إليه أحمد وتعجب منه الناس ثم قال لبنيه وأصحابه اذهبوا إلى أبي عبد الله فاكتبوا عنه، وقد تنازع الناس في لفظ المحدث هل هو مرادف للفظ المخلوق أم ليس كذلك على قولين، قال الأشعري في المقالات، لما ذكر النزاع في الخلق والكسب والفعل قال واتفق أهل الإثبات على أن معنى مخلوق معنى محدث، ومعنى محدث معنى مخلوق، وهذا هو الحق عندي وإليه أذهب وبه أقول، وقال زهير الأبري وأبو معاذ التومني معنى مخلوق أنه وقع عن إرادة من الله، وقوله له كن، وقال كثير من المعتزلة بذلك منهم أبو الهذيل وقد قال قائلون معنى المخلوق أن له خلقا، ولم يجعلوا الخلق قولا على وجه من الوجوه منهم أبو موسى وبشر بن المعتمر، الفرق بين المخلوق والمحدث هو اصطلاح أئمة أهل الحديث، وهو موافق للغة التي نزل بها القرآن، ومنهم من يفرق بين حدث ومحدث كما حكى القولين الأشعري، قال البخاري في صحيحه في كتاب الرد على الجهمية في أثناء أبواب القرآن، باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان يفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون، ثم قال بعد ذلك قال باب قول الله تعالى: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } ولم يقل ماذا خلق ربكم وقال: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }، وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا، حتى إذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق، قال: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنيس سمعت النبي ﷺ يقول { يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان }، ثم روي عن عكرمة عن أبي هريرة بلغ به النبي ﷺ قال { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على الصفوان حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا: الحق وهو العلي الكبير } ثم قال بعد أبواب باب قول الله تعالى، { كل يوم هو في شأن }، { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }، وقوله، { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين، لقوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وقال ابن مسعود عن النبي ﷺ: { إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة }، وروى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، قال كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله تقرءونه محضا لم يشك فيه، وروي الزهري أخبرني، عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس قال يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم أحدث الأخبار بالله محضا لم يشك فيه، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا فكتبوا بأيديهم الكتب، وقالوا هو من الله ليشتروا بذلك ثمنا قليلا أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم، والذي كان عليه السلف والأئمة أهل السنة والجماعة، أن القرآن الذي هو كلام الله هو القرآن الذي يعلم المسلمون، أنه القرآن والقرآن وسائر الكلام له حروف ومعان فليس الكلام ولا القرآن إذا أطلق اسما لمجرد الحروف ولا أسماء لمجرد المعاني، بل الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا فنشأ بعد السلف والأئمة ممن هو موافق للسلف والأئمة على إطلاق القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق طائفتان .

ومما ينبغي أن يعلم أن الجهمية لما كانت في نفس الأمر قولها قول أهل الشرك والتعطيل وليس هو قول أحد من أهل الكتب المنزلة ولكن لم يكن لهم بد من موافقة أهل الكتب في الظاهر كانوا في ذلك منافقين عالمين بنفاق أنفسهم كما عليه طواغيتهم الذين علموا بمخالفة أنفسهم للرسل وأقدموا على ذلك وهؤلاء منافقون زنادقة، وأما الجهال بنفاق أنفسهم صاروا في الجمع بين تكذيبهم الباطن وتصديقهم الظاهر جامعين بين النقيضين مضطرين إلى السفسطة في العقليات والقرامطة في السمعيات مفسدين للعقل والدين وقولهم بخلق القرآن ونفي الصفات من أصول نفاقهم وذلك أنه من المعلوم ببداية العقول أن الحي لا يكون حيا إلا بحياة تقوم به ولا يكون حيا بلا حياة أو بحياة تقوم بغيره وكذلك العالم والقادر لا يكون عالما قادرا إلا بعلم وقدرة تقوم به ولا يكون عالما قادرا بلا علم ولا قدرة أو بعلم وقدرة تقوم بغيره، وكذلك الحكيم والرحيم والمتكلم والمريد لا يكون حكيما ولا رحيما أو متكلما أو مريدا إلا بحكمة ورحمة أو كلام وإرادة تقوم به ولا يكون حكيما بلا حكمة ولا رحيما بلا رحمة أو بحكمة ورحمة تقوم بغيره ولا يكون

متكلما ولا مريدا بلا كلام ولا إرادة أو بكلام وإرادة تقوم بغيره وكذلك من المعلوم ببداية العقول أن الكلام والإرادة والعلم والقدرة لا تقوم إلا بمحل إذ هذه صفات لا تقوم بأنفسها ومن المعلوم ببداية العقول أن المحل الذي يقوم به العلم يكون عالما والذي تقوم به القدرة يكون قادرا والذي يقوم به الكلام يكون متكلما والذي تقوم به الرحمة يكون رحيما والذي تقوم به الإرادة يكون مريدا فهذه الأمور مستقرة في فطر الناس تعلمها قلوبهم علما فطريا ضروريا والألفاظ المعبرة عن هذه المعاني هي من اللغات التي اتفق عليها بنو آدم فلا يسمون عالما قادرا إلا من قام به العلم والقدرة ومن قام به العلم والقدرة سموه عالما قادرا وهذا معنى قول من قال من أهل الإثبات إن الصفة إذا قدمت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره أي إذا قام العلم والكلام بمحل كان ذلك المحل هو العالم المتكلم دون غيره، ومعنى قولهم إن الصفة إذا قامت بمحل اشتق له منها اسم كما يشتق لمحل العلم عليم ولمحل الكلام متكلم ومعنى قولهم أن صدق المشتق لا ينفك عن صدق المشتق منه أي أن لفظ العليم والمتكلم مشتق من لفظ العلم والكلام فإذا صدق على الموصوف أنه عليم لزم أن يصدق حصول العلم والكلام له ولهذا كان أئمة السلف الذين عرفوا حقيقة قول من قال مخلوق وأن معنى ذلك أن الله لم يقم به كلام بل الكلام قام بجسم من الأجسام غيره وعلموا أن هذا يوجب بالفطرة الضرورية أن يكون ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام دون الله وأن الله لا يكون متكلما أصلا وصاروا يذكرون قولهم بحسب ما هو عليه في نفسه وهو أن الله لا يتكلم وإنما خلق شيئا تكلم عنه وهكذا كانت الجهمية تقول أولا ثم أنها زعمت أن المتكلم من فعل الكلام ولو في غيره واختلفوا هل يسمى متكلما حقيقة أو مجازا على قولين فلهم في تسمية الله تعالى متكلما بالكلام المخلوق ثلاثة أقوال: أحدها: وهو حقيقة قولهم وهم فيه أصدق لإظهارهم كفرهم أن الله لا تكلم ولا يتكلم، والثاني: وهم فيه متوسطون فيه النفاق أنه يسمى متكلما بطريق المجاز، والثالث: وهم فيه منافقون نفاقا محضا أنه يسمى متكلما بطريق الحقيقة وأساس النفاق الذي بني عليه الكذب فلهذا كانوا من أكذب الناس في تسمية الله متكلما بكلام ليس قائما به وإنما هو مخلوق في غيره كما كانوا كاذبين مفترين في تسمية الله عالما قادرا مريدا متكلما بلا علم يقوم به ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام فكانوا وإن نطقوا بأسمائه فهم كاذبون بتسميته بها وهم ملحدون في الحقيقة كإلحاد الذين نفوا عنه أن يسمى بالرحمن: { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } وبذلك وصفهم الأئمة وغيرهم ممن خبر مقالاتهم كما قال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، قلنا: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون وقلنا، لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى، قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يعلم أنهم إنما يقودون بقولهم إلى ضلالة وكفر، وقال بعد ذلك بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كلم موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء قلنا لم أنكرتم ذلك قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم إنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم ولسان وشفتين فقلنا هل يجوز لمكون أو لغيره أن يقول: يا موسى { أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } أو { إني أنا ربك } فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم بأولا أن الله كون الأشياء كأن يقول ذلك المكون يا موسى أنا الله رب العالمين لا يجوز أن يقول إني أنا الله رب العالمين، وقد قال الله جل ثناؤه { وكلم الله موسى تكليما } وقال { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } فهذا منصوص القرآن وأما ما قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم فكيف يصنعون بحديث سليمان الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله ﷺ: { ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان }، وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان أليس الله قال للسماوات والأرض { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } أتراها أنها قالت بجوف وشفتين ولسان وقال الله جل ثناؤه { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أتراها أنها سبحت بجوف وفم وشفتين ولسان والجوارح إذا شهدت على الكافر { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أتراها نطقت بجوف وفم وشفتين ولسان ولكن الله أنطقها كما شاء فكذلك تكلم الله كيف شاء من غير أن نقول جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان فلما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره قلنا غيره مخلوق قال نعم قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون وحديث الزهري قال { لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك إنما كلمتك على قدر ما تطيق بذلك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت قال فلما رجع موسى إلى قومه قالوا أتصف لنا كلام ربك قال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه لنا قال: أسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله }، وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } أليس الله هو القائل قالوا يكون الله شيئا فيعبر عن الله كما كون فعبر لموسى قلنا فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } أليس الله هو الذي يسأل قالوا هذا كله إنما يكون شيئا فيعبر عن الله قلنا قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تكلم ولا تحرك ولا تزول من مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق فقلنا وكذلك بنو آدم عليه السلام وكلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله جل ثناؤه عن هذه الصفة بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه قد كان ولا يتكلم حتى خلق ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن لم يزل بنوره وبقدرته لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا لهم أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد سميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله جل ثناؤه وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق فعلم والذي لا يعلم فهو جاهل .

 
=============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل المقحمات هي الذنوب العظام كما قال النووي أم أنها ذنوب أرتكبت بقصد طاعة الله لكن التسرع والاندفاع دافع للخطأ من غير قصد

تعقيب علي المقحمات يتبين من تعريف المقحمات بين النووي ومعاجم اللغة العتيدة أن النووي أخطأ جدا في التعريف { المقحمات مفتوح للكتابة...