معاني كلمات القران الكريم




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بؤامج نداء الايمان

النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق/مدونة ديوان الطلاق//المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني / / /*الـذاكـر / /القرآن الكريم مع الترجمة / /القرآن الكريم مع التفسير / /القرآن الكريم مع التلاوة / / /الموسوعة الحديثية المصغرة/الموسوعة الفقهية الكبرى //برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم //برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية / /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة / /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين / /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر / /برنامج مكتبة السنة / /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية / /برنامج موسوعة شرح الحديث الشريف فتح البارى لشرح صحيح البخارى وشرح مسلم لعبد الباقى وشرح مالك للإمام اللكنوى / /خلفيات إسلامية رائعة / /مجموع فتاوى ابن تيمية / /مكتبة الإمام ابن الجوزي / /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني / /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي / /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي / /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي / /مكتبة الإمام ابن كثير / /مكتبة الإمام الذهبي / /مكتبة الإمام السيوطي / /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني / /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي / /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي / /مكتبة الشيخ حمود التويجري / /مكتبة الشيخ ربيع المدخلي / /مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ / /مكتبة الشيخ صالح الفوزان / /مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي / /مكتبة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم / /مكتبة الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان / /مكتبة الشيخ عبد المحسن العباد / /مكتبة الشيخ عطية محمد سالم / /مكتبة الشيخ محمد أمان الجامي /مكتبة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي / /مكتبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / /مكتبة الشيخ مقبل الوادعي / /موسوعة أصول الفقه / /موسوعة التاريخ الإسلامي / /موسوعة الحديث النبوي الشريف / /موسوعة السيرة النبوية / /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية / موسوعة توحيد رب العبيد / موسوعة رواة الحديث / موسوعة شروح الحديث / /موسوعة علوم الحديث / /موسوعة علوم القرآن / /موسوعة علوم اللغة / /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

الجمعة، 4 مارس 2022

ج1- كتاب الاستقامة: لابن تيمية { من صفحة رقم 1. الي صفحة رقم الاستقامة/7. }

بسم الله الرحمن الرحيم وبه توفيق
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
قاعدة في وجوب الاستقامة والاعتدال ومتابعة الكتاب والسنة في باب أسماء الله وصفاته وتوحيده بالقول والاعتقاد وبيان اشتمال الكتاب والسنة على جميع الهدى وأن التفرق والضلال إنما حصل بترك بعضه والتنبيه على جميع البدع المقابلة في ذلك بالزيادة في النفي والإثبات ومبدأ حدوثها وما وقع في ذلك من الاسماء المجملة والاختلاف والافتراق الذي أوجب تكفير بعض هؤلاء المختلفين بعضهم لبعض وذلك بسبب ترك بعض الحق وأخذ بعض الباطل وكتمان الحق ولبس الحق بالباطل
فصل
الرأي المحدث في الأصول وهو الكلام المحدث وفي الفروع وهو الرأي المحدث في الفقه والتعبد المحدث كالتصوف المحدث والسياسة المحدثة
يظن طوائف من الناس أن الدين محتاج إلى ذلك لا سيما كل طائفة في طريقها وليس الأمر كذلك فإن الله تعالى يقول اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا سورة المائدة 3 إلى غير ذلك من النصوص التي دلت على أن الرسول عرف الأمة جميع ما يحتاجون إليه من دينهم
وقال تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون سورة التوبة 115
وقال ﷺ تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي إلا هالك وقال ﷺ إنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ
فلولا أن سنته وسنة الخلفاء الراشدين تسع المؤمن وتكفيه عند الاختلاف الكثير لم يجز الأمر بذلك
وكان يقول في خطبته شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
وكان ابن مسعود يخطب بنحو ذلك كل خميس ويقول إنكم ستحدثون ويحدث لكم
وقد قررنا في القواعد في قاعدة السنة والبدعة أن البدعة هي الدين الذي لم يأمر الله به ورسوله فمن دان دينا لم يأمر الله ورسوله به فهو مبتدع بذلك وهذا معنى قوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله سورة الشورى 21
ولا ريب أن هذا يشكل على كثير من الناس لعدم علمهم بالنصوص ودلالتها على المقاصد ولعدم علمهم بما أحدث من الرأي والعمل وكيف يرد ذلك إلى السنة كما قال عمر بن الخطاب ردوا الجهالات إلى السنة
وقد تكلم الناس على أصناف ذلك كما بين طوائف استغناء الدين عن الكلام المحدث وأن الله قد بين في كتابه بالأمثال المضروبة من الدلائل ما هو أعظم منفعة مما يحدثه هؤلاء وأن ما يذكرونه من الأدلة فهي مندرجة فيما ذكره الله تعالى
حتى ان الأشعرى نفسه وأمثاله قد بينوا طريقة السلف في أصول الدين واستغنائها عن الطريقة الكلامية كطريقة الأعراض ونحوها وأن القرآن نبه على الأدلة ليس دلالته كما يظنه بعض أهل الكلام من جهة الخبر فقط
وأين هذا من أهل الكلام الذين يقولون إن الكتاب والسنة لا يدلان على أصول الدين بحال وأن أصول الدين تستفاد بقياس العقل المعلوم من غيرهما وكذلك الأمور العملية التي يتكلم فيها الفقهاء فإن من الناس من يقول إن القياس يحتاج إليه في معظم الشريعة لقلة النصوص الدالة على الأحكام الشرعية كما يقول ذلك أبو المعالى وأمثاله من الفقهاء مع أنتسابهم إلى مذهب الشافعي ونحوه من فقهاء الحديث فكيف بمن كان من أهل رأى الكوفة ونحوهم فإنه عندهم لا يثبت من الفقه بالنصوص إلا أقل من ذلك وإنما العمدة على الرأي والقياس حتى أن الخراسانيين من أصحاب الشافعى بسبب مخالطتهم لهم غلب عليهم استعمال الرأي وقلة المعرفة بالنصوص
وبإزاء هؤلاء أهل الظاهر كأبن حزم ونحوه ممن يدعى أن النصوص تستوعب جميع الحوادث بالأسماء اللغوية التي لا تحتاج إلى استنباط واستخراج أكثر من جمع النصوص حتى تنفى دلالة فحوى الخطاب وتثبته في معنى الأصل ونحو ذلك من المواضع التي يدل فيها اللفظ الخاص على المعنى العام
والتوسط في ذلك طريقة فقهاء الحديث وهى إثبات النصوص والآثار الصحابية على جمهور الحوادث وما خرج عن ذلك كان في معنى الأصل فيستعملون قياس العلة والقياس في معنى الأصل وفحوى الخطاب إذ ذلك من جملة دلالات اللفظ وأيضا فالرأي كثيرا ما يكون في تحقيق المناط الذي لا خلاف بين الناس في استعمال الرأي والقياس فيه فإن الله أمر بالعدل في الحكم والعدل قد يعرف بالرأي وقد يعرف بالنص
ولهذا قال النبي ﷺ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر إذ الحاكم مقصوده الحكم بالعدل بحسب الإمكان فحيث تعذر العدل الحقيقى للتعذر أو التعسر في علمه أو عمله كان الواجب ما كان به أشبه وأمثل وهو العدل المقدور
وهذا باب واسع في الحكم في الدماء والأموال وغير ذلك من أنواع القضاء وفيها يجتهد القضاة
ونعلم أن عليا رضى الله عنه كان أقضى من غيره بما أفهم من ذلك مع أن سماع النصوص مشترك بينه وبين غيره
وإنما ظن كثير من الناس الحاجة إلى الرأي المحدث لأنهم يجدون مسائل كثيرة وفروعا عظيمة لا يمكنهم إدخالها تحت النصوص كما يوجد في فروع من ولد الفروع من فقهاء الكوفة ومن أخذ عنهم
وجواب هذا من وجوه
أحدها ان كثيرا من تلك الفروع المولد المقدرة لا يقع أصلا وما كان كذلك لم يجب أن تدل عليه النصوص ومن تدبر ما فرعه المولدون من الفروع في باب الوصايا والطلاق والأيمان وغير ذلك علم صحة هذا
الوجه الثاني أن تكون تلك الفروع والمسائل مبنية على أصول فاسدة فمن عرف السنة بين حكم ذلك الأصل فسقطت تلك الفروع المولدة كلها
وهذا كما فرعه صاحب الجامع الكبير فإن غالب فروعه كما بلغنا عن الإمام أبي محمد المقدسي أنه كان يقول مثله مثل من بنى دارا حسنة على أساس مغصوب فلما جاء صاحب الأساس ونازعه في الاساس وقلعه انهدمت تلك الدار
وذلك كالفروع العظيمة المذكورة في كتاب الأيمان وبناها على ما كان المفرع يعتقده من مذهب أهل النحو الكوفيين فإن أصل باب الأيمان الرجوع إلى نية الحالف وقصده ثم إلى القرائن الحالية الدالة على قصده كسبب اليمين وما هيجها ثم إلى العرف الذي من عادته التكلم به سواء كان موافقا للغة العربية أو مخالفا لها فإن الأيمان وغيرها من كلام الناس بعضهم لبعض في المعاملات والمراسلات والمصنفات وغيرها تجمعها كلها دلالة اللفظ على قصد المتكلم ومراده وذلك متنوع بتنوع اللغات والعادات
وتختلف الدلالة بالقرائن الحالية والمقالية ثم إنما يستدل على مقصود الرجل إذا لم يعرف فإذا أمكن العلم بمقصوده يقينا لم يكن بنا حاجة إلى الشك لكن من الأمور ما لا تقبل من قائله إرادة تخالف الظاهر كما إذا تعلق به حقوق العباد كما في الأقارير ونحوها وهذا مقرر في موضعه وليس الغرض هنا إلا التمثيل
وإذا كان هذا أصل الأيمان فيقال لذلك المفرع إذا كان هذا أصل قصده الذي هو في أكثر المواضع يخالف مقتضى ما ذكرته من الجواب وينظر إلى القرائن الحالية ومعها لا تستقيم عامة الأجوبة
وإذا عدم ذلك وله عرف وعادة يتكلم بها وغالب عادات الناس لا ينبني على المقاييس التي وضعتها أنت فإذا جواب الحالفين بمثل ما أجبتهم به ليس هو من الشريعة في غالب المواضع
ولا يحتاج باب الأيمان إلى تفريع إذ هذه الأصول الثلاثة تضبطه ضبطا حسنا لكن لا بد أن يكون المفتى ممن يحس أن يضع الحوادث على القواعد وينزلها عليها
وكذلك ما فرعوه في باب الحكم والسياسة وغيرها عامة ذلك مبنى على أصول فاسدة مخالفة للشريعة وهذا والله أعلم من معنى قول ابن مسعود إنكم ستحدثون ويحدث لكم ولهذا تكثر هذه الفروع وتنتشر حتى لا تضبطها قاعدة لأنها ليست موافقة للشريعة فأما الشريعة فإنها كما قال النبي ﷺ بعثت بجوامع الكلم والكلمة الجامعة هي القضية الكلية والقاعدة العامة التي بعث بها نبينا ﷺ فمن فهم كلمه الجوامع علم اشتمالها لعامة الفروع وانضباطها بها والله أعلم
الوجه الثالث أن النصوص دالة على عامة الفروع الواقعة كما يعرفه من يتحرى ذلك ويقصد الإفتاء بموجب الكتاب والسنة ودلالتها وهذا يعرفه من يتأمل كمن يفتى في اليوم بمائة فتيا أو مائتين أو ثلاثمائة وأكثر أو أقل وأنا قد جربت ذلك ومن تدبر ذلك رأى أهل النصوص دائما أقدر على الإفتاء وأنفع للمسلمين في ذلك من أهل الرأي المحدث فإن الذى رأيناه دائما أن أهل رأى الكوفة من أقل الناس علما بالفتيا وأقلهم منفعة للمسلمين مع كثرة عددهم وما لهم من سلطان وكثرة بما يتناولونه من الأموال الوقفية والسلطانية وغير ذلك ثم إنهم في الفتوى من أقل الناس منفعة قل أن يجيبوا فيها وإن أجابوا فقل أن يجيبوا بجواب شاف وأما كونهم يجيبون بحجة فهم من أبعد الناس عن ذلك
وسبب هذا ان الأعمال الواقعة يحتاج المسلمون فيها إلى معرفة بالنصوص ثم إن لهم أصولا كثيرة تخالف النصوص والذي عندهم من الفروع التي لا توجد عند غيرهم فهي مع ما فيها من المخالفة للنصوص التي لم يخالفها أحد من الفقهاء أكثر منهم عامتها إما فروع مقدرة غير واقعة وإما فروع متقررة على أصول فاسدة فإذا أرادوا أن يجيبوا بمقتضاها رأوا ما في ذلك من الفساد وإنكار قلوب المؤمنين علهيم فأمسكوا
لكن أعظم المهم في هذا الباب وغيره تمييز السنة من البدعة إذ السنة ما أمر به الشارع والبدعة ما لم يشرعه من الدين فإن هذا الباب كثر فيه اضطراب الناس في الأصول والفروع حيث يزعم كل فريق أن طريقه هو السنة وطريق مخالفه هو البدعة ثم إنه يحكم على مخالفه بحكم المبتدع فيقوم من ذلك من الشر ما لا يحصيه إلا الله
وأول من ضل في ذلك هم الخوارج المارقون حيث حكموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنته وأن عليا ومعاوية والعسكرين هم أهل المعصية والبدعة فاستحلوا ما استحلوه من المسلمين
وليس المقصود هنا ذكر البدع الظاهرة التي تظهر للعامة أنها بدعة كبدعة الخوارج والروافض ونحو ذلك لكن المقصود التنبيه على ما وقع من ذلك في أخص الطوائف بالسنة وأعظمهم انتحالا لها كالمنتسبين إلى الحديث مثل مالك والشافعي وأحمد فإنه لا ريب أن هؤلاء أعظم اتباعا للسنة وذما للبدعة من غيرهم والأئمة كمالك وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي وغيرهم يذكرون من ذم المبتدعة وهجرانهم وعقوبتهم ما شاء الله تعالى
وهذه الأقوال سمعها طوائف ممن اتبعهم وقلدهم ثم إنهم يخلطون في مواضع كثيرة السنة والبدعة حتى قد يبدلون الأمر فيجعلون البدعة التي ذمها أولئك هي السنة والسنة التي حمدها اولئك هي البدعة ويحكمون بموجب ذلك حتى يقعوا في البدع والمعاداة لطريق أئمتهم السنية وفي الحب والموالاة لطريق المبتدعة التي أمر أئمتهم بعقوبتهم ويلزمهم تكفير أئمتهم ولعنهم والبراءة منهم وقد يلعنون المبتدعة وتكون اللعنة واقعة عليهم أنفسهم ضد ما يقع على المؤمن كما قال النبي ﷺ ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش يسبون مذمما وانا محمد
وهؤلاء بالعكس يسبون المبتدعة يعنون غيرهم ويكونون هم المبتدعة كالذي يلعن الظالمين ويكون هو الظالم او احد الظالمين وهذا كله من باب قوله تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا سورة فاطر 8
واعتبر ذلك بأمور
أحدها أن كلام مالك في ذم المبتدعة وهجرهم وعقوبتهم كثير ومن أعظمهم عنده الجهمية الذين يقولون إن الله ليس فوق العرش وإن الله لم يتكلم بالقرآن كله وإنه لا يرى كما وردت به السنة وينفون نحو ذلك من الصفات
ثم إنه كثير في المتأخرين من أصحابه من ينكر هذه الأمور كما ينكرها فروع الجهمية ويجعل ذلك هو السنة ويجعل القول الذي يخالفها وهو قول مالك وسائر أئمة السنة هو البدعة ثم إنه مع ذلك يعتقد في أهل البدعة ما قاله مالك فبدل هؤلاء الدين فصاروا يطعنون في أهل السنة
الثاني أن الشافعي من أعظم الناس ذما لأهل الكلام ولأهل التغيير ونهيا عن ذلك وجعلا له من البدعة الخارجة عن السنة ثم إن كثيرا من أصحابه عكسوا الأمر حتى جعلوا الكلام الذي ذمه الشافعي هو السنة وأصول الدين الذي يجب اعتقاده وموالاة أهله وجعلوا موجب الكتاب والسنة الذي مدحه الشافعي هو البدعة التي يعاقب أهلها
الثالث أن الإمام أحمد في أمره بأتباع السنة ومعرفته بها ولزومه لها ونهيه عن البدع وذمه لها ولأهلها وعقوبته لأهلها بالحال التي لا تخفى ثم إن كثيرا مما نص هو على أنه من البدع التي يذم أهلها صار بعض أتباعه يعتقد أن ذلك من السنة وان الذي يذم من خالف ذلك مثل كلامه في مسألة القرآن في مواضع منها تبديعه لمن قال لفظى بالقرآن غير مخلوق وتجهيه لمن قال مخلوق ثم إن من أصحابه من جعل ما بدعه الإمام أحمد هو السنة فتراهم يحكمون على ما هو من صفات العبد كألفاظهم وأصواتهم وغير ذلك بأنه غير مخلوق بل يقولون هو قديم ثم إنهم يبدعون من لا يقول بذلك ويحكمون في هؤلاء بما قاله أحمد في المبتدعة وهو فيهم
وكذلك ما أثبته أحمد من الصفات التي جاءت بها الآثار واتفق عليها السلف كالصفات الفعلية من الاستواء والنزول المجئ والتكلم إذا شاء وغير ذلك فينكرون ذلك بزعم أن الحودث لا تحل به ويجعلون ذلك بدعة ويحكمون على أصحابه بما حكم به أحمد في أهل البدع وهم من أهل البدعة الذين ذمهم أحمد لا أولئك ونظائر هذا كثيرة
بل قد يحكى عن واحد من أئمتهم إجماع المسلمين على أن الحوادث لا تحل بذاته لينفي بذلك ما نص أحمد وسائر الأئمة عليه من أنه يتكلم إذا شاء ومن هذه الأفعال التعلقة بمشيئته
ومعلوم أن نقل الإجماع على خلاف نصوصة ونصوص الأئمة من أبلغ ما يكون وهذا كنقل غير واحد من المصنفين في العلم إجماع المسلمين على خلاف نصوص الرسول وهذه المواضع من ذلك أيضا فإن نصوص أحمد والأئمة مطابقة لنصوص الرسول ﷺ
فصل
قوله تعالى الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار سورة غافر 35 بعد قوله تعالى وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب سورة غافر 30 إلى قوله ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا سورة غاقر 34 الآية يخوفهم بمثل عقوبات الله في الدنيا للأمم الكافرة قبلهم وخوفهم بما يكون يوم القيامة
وهذا فيه بيان إخباره بيوم القيامة وهو ممن آمن بموسى كما قد قررناه في غير هذا الموضع أن جميع الرسل أخبرت بيوم القيامة خلاف ما تزعم طوائف من الفلاسفة وأهل الكلام أن المعاد الجسماني لم يخبر به إلا محمد وعيسى ونحو ذلك
ثم قال المؤمن ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب سورة غافر 34 لأن الريب عدم العلم وهذه حال أهل الضلال
وقال هناك كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار سورة غافر 35 لأنه أخبر بجدالهم في آيات الله بغير سلطان أتاهم وهذه حال المتكلمين بغير علم لطلب العلو والفساد
كما قال في الآية الأخرى إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه باستعذ بالله إنه هو السميع البصير سورة غافر 56
ولهذا قال في هؤلاء المجادلين كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا سورة غافر 35 أى كبر مقتهم أو كبر هذا المقت أو كبر هذا الجدال أو هذا الفعل مقتا أى ممقوتا كما قال تعالى كبرت كلمة تخرج من أفواههم سورة الكهف 5 وكما قال تعالى بئس للظالمين بدلا سورة الكهف 50
فإن المخصوص بالمدح والذم في هذا الباب كثيرا ما يكون مضمرا إذا تقدم ما يعود الضمير إليه والمدح يراد به الرجل كما تقول نعم رجلا زيد ونعم رجلا وزيد نعم رجلا
والمقت يراد به نفس المقت ويراد به الممقوت كما في الخلق ونظائره ومثله قوله لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون سورة الصف 23 أي كبر ممقوتا أي كبر مقته مقتا
والمقت البغض الشديد وهو من جنس الغضب المناسب لحال هؤلاء كما قال في اليهود بل طبع الله عليها بكفرهم سورة النساء 144
وقد وصعهم بنحو مما وصف عدوهم فرعون فقوله وقضينا إلى بنى إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا سورة الإسراء 4 فوصفهم بالفساد في الأرض والعلو كما أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين سورة القصص وختم السورة بقوله تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين سورة القصص 83
وهذا مما يبين أن قوله الذين يجادلون في آيات الله سورة غافر 35 مبتدأ ليس بدلا من قوله من هو مسرف مرتاب سورة غافر 34 فإنه سبحانه وصف هؤلاء بغير ما وصف هؤلاء ويؤيد هذا انه ابتداء قد قال في الأخرى الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم وقال قبل هذه الآية ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا سورة غافر 4
وقد يقال يمكن اجتماع الوصفين الريب والجدل بغير علم كما هو الواقع في طوائف كثيرة كما يجتمع الغضب والضلال وقد يقال الآية تحتمل الوقف وتحتمل الابتداء وقد يكون هذا قراءتين فتسوغ كل منهما ويكون له صف صحيح كما في نظائره
وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن الحارث عن علي عن النبي ﷺ ورواه أبو نعيم الأصفهاني وغيره من طرق عديدة عن علي عن النبي ﷺ في القرآن الحديث المعروف قال قلت يا رسول الله ستكون فتن فما المخرج منها قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تختلف به الآراء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضى عجائبه ولا يشبع منه العلماء من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم
فقوله من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله يناسب قوله تعالى كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب سورة غافر 34 وكذلك قوله كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار سورة غافر 35 فذكر ضلال الأول وذكر تجبر الثاني وذلك لأن الاول مرتاب ففاته العلم حيث ابتغى الهدى في غيره والثاني جبار عمل بخلاف ما فيه فقصمه الله وهذان الوصفان يجمعان العلم والعمل
وفي ذلك بيان ان كل علم دين لا يطلب من القرآن فهو ضلال كفاسد كلام الفلاسفة والمتكلمة والمتصوفة والمتفقهة وكل عاقل يترك كتاب الله مريدا للعلو في الارض والفساد فان الله يقصمه فالضال لم يحصل له المطلوب بل يعذب بالعمل الذي لا فائدة فيه والجبار حصل لذة فقصمه الله عليها فهذا عذب بإزاء لذاته التي طلبها بالباطل وذلك يعذب بسعيه الباطل الذي لم يفده
والمقصود هنا أنه سبحانه في هاتين الآيتين بين من يجادل في آيات الله بغير سلطان أتاهم وقد بين في غير موضع ان السلطان هو الحجة وهو الكتاب المنزل كما قال تعالى أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون سورة الروم 35 وقيل إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان سورة النجم 23 في غير موضع
وقال تعالى ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله إلى قوله أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين سورة الصافات 151 157
وقال أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستعهم بسلطان سورة الطور 38 وقال أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون سورة القلم 35 37
وإذا كان كذلك ففي هذا بيان أنه لا يجوز لأحد أن يعارض كتاب الله بغير كتاب فمن عارض كتاب الله وجادل فيه بما يسميه معقولات وبراهين وأقيسة أو ما يسميه مكاشفات ومواجيد وأذواق من غير أن يأتي على ما يقوله بكتاب منزل فقد جادل في آيات الله بغير سلطان هذه حال الكفار الذين قال فيهم ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا سورة غافر 4 فهذه حال من يجادل في آيات الله مطلقا
ومن المعلوم أن الذي يجادل في جميع آيات الله لا يجادل بسلطان فإن السلطان من آيات الله وإنما الذي يجادل في آيات الله بسلطان يكون قد جادل في بعض آيات الله ببعض آيات الله
وهذه الحال يحمد منها ان يكون إحدى الآيتين ناسخة لها او مفسرة لها بما يخالف ظاهرها وإن كان السلف يسمون الجميع نسخا ولهذا لم يكن السلف من الصحابة والتابعين يتركون دلالة آية من كتاب الله إلا بما يسمونه نسخا ولم يكن في عهدهم كتب في ذلك إلا كتب الناسخ والمنسوخ لأن ذلك غايته أن نجادل في آيات الله بسلطان كجدالنا مع أهل التوراة والإنجيل وهما من آيات الله بالقرآن الذي أنزله الله مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
فأما معارضة القرآن بمعقول أو قياس فهذا لم يكن يستحله أحد من السلف وإنما ابتدع ذلك لما ظهرت الجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن بنوا أصول دينهم على ما سموه معقولا وردوا القرآن إليه وقالوا إذ تعارض العقل والشرع إما أن يفوض أو يتأول فهؤلاء من أعظم المجادلين في آيات الله بغير سلطان أتاهم
وأما تسمية المتأخرين تخصيصا وتقييدا ونحو ذلك مما فيه صرف الظواهر فهو داخل في مسمى النسخ عند المتقدمين وعلى هذا الاصطلاح فيدخل النسخ في الإخبار كما يدخل في الأوامر وإنما النسخ الخاص الذي هو رفع الحكم فلا بد في الخبر عن أمر مستقر
وأما ما يدخل في الخبر عن إنشاء أمر فيكون لدخوله في الإنشاء إنشاء الأمر والنهي وإنشاء الوعيد عند من يجوز النسخ فيه كآخر البقرة على ما روى عن جمهور السلف
وهو مبني على أن الوعيد هل هو خبر محض أو هو مع ذلك إنشاء كالعقود التي تقبل الفسخ لكونه إخبارا عن إرادة المتوعد وعزمه وكالخبر عن الأمر والنهي المتضمن خبره عن طلبه المتضمن إرادته الشرعية وهذا مما يبين ما قررناه في غير هذا الموضع أن الله سبحانه بين بكتابه سبيل الهدى وأنه لا يصلح أن يخاطب بما ظاهر معناه باطل أو فاسد بل ولا يضلل المخاطبين بأن يحيلهم على الأدلة التي يستسيغونها برأيهم بل يجب أن يكون الكتاب بيانا وهدى وشفاء لما في الصدور وأن مدلوله ومفهومه حق وهذا أصل عظيم جدا
فصل
فيما اختلف فيه المؤمنون من الأقوال والافعال في الأصول والفروع
فإن هذا من أعظم أصول الإسلام الذي هو معرفة الجماعة وحكم الفرقة والتقاتل والتكفير والتلاعن والتباغض وغير ذلك
فنقول هذا الباب أصله المحرم فيه من البغي فإن الإنسان ظلوم جهول قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم سورة البقرة في غير موضع
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لتسلكن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن
وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم سورة آل عمران 105
وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ سورة الأنعام 159
ومن هذا الباب ما هو من باب التأويل والاجتهاد الذي يكون الإنسان مستفرغا فيه وسعه علما وعملا
ثم الإنسان قد يبلغ ذلك ولا يعرف الحق في المسائل الخبرية الاعتقادية وفي المسائل العملية الاقتصادية والله سبحانه قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان بقوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة 286
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس ومن حديث أبى هريرة عن النبي ﷺ أن الله استجاب لهم هذا الدعاء وقال قد فعلت وأنهم لم يقرأو بحرف منها إلا أعطوه وهذا مع قوله تعالى والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة سورة البقرة 82
وقوله دليل على ان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وغير ذلك دليل على أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها
والوسع هو ما تسعه النفس فلا تضيق عنه ولا تعجز عنه فالوسع فعل بمعنى مفعول كالجهد
وهذا أيضا كقوله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج سورة الحج 78
وقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة 185
وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج سورة المائدة 6 والحرج الضيق فهو نفى أن يكون عليهم ضيق أي ما يضيق عنهم كما أخبر أنه لا يكلف النفس إلا ما تسعه فلا بد أن يكون الإيجاب والتحريم مما تسعه النفس حتى يقدر الإنسان على فعله ولا بد أن يكون المباح مما يسع الإنسان ولا يضيق عنه حتى يكون للانسان ما يسع الإنسان ويحمل الإنسان ولا يضيق عنه من المباح
وليتدبر الفرق بين ما يسعه الإنسان وهو الوسع الذي قيل فيه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها سورة البقرة 286 وبين ما يسع الإنسان فلا يكون حرجا عليه وهو مما لا بد للإنسان منه من المباحات وهذا يكون في صفة فعل المأمور به كما في الوضوء والصلاة فلا بد ان يكون المجزئ له من ذلك ما يسع الإنسان والواجب عليه ما يسعه الإنسان ويكون في باب الحلال والحرام فلا يحرم عليه ما لا يسع هو تركه بحيث يبقى المباح له ضيقا منه لا يسعه
وإذا كان كذلك فينبغي أن يعلم أن للقلوب قدرة في باب العلم والاعتقاد العلمى وفي باب الإرادة والقصد وفي الحركة البدنية أيضا
فالخطأ والنسيان هو من باب العلم يكون إما مع تعذر العلم عليه أو تعسره عليه والله قد قال ما جعل عليكم في الدين من حرج سورة الحج 78 وقال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة 185
وقال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه لمعاذ وأبى موسى لما أرسلها إلى اليمن يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وطاوعا ولا تختلفا
وإذا كان كذلك فما عجز الإنسان عن عمله واعتقاده حتى يعتقد ويقول ضده خطأ أو نسيانا فذلك مغفور له كما قال النبي ﷺ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وهذا يكون فيما هو من باب القياس والنظر بعقله ورأيه ويكون فيما هو من باب النقل والخبر الذي يناله بسمعه وفهمه وعقله ويكون فيما هو من باب الإحساس والبصر الذي يجده ويناله بنفسه
فهذه المدارك الثلاثة قد يحصل للشخص بها علم يقطع به ويكون ضروريا في حقه مثل ما يجده في نفسه من العلوم الضرورية ومثل ما سمعه من النبي ﷺ أو من المخبرين له الصادقين خبرا يفيده العلم كالخبر المتواتر الذي يفيده العلم تارة بكثرة عدد المخبرين وتارة بصفاتهم وتارة بهما وغير ذلك مما يفيد العلم
وقد يكون مما علمه بآثاره الدالة عليه أو بحكم نظره المساوى له من كل وجه او الذي يدل على الآخر بطريق الأولى والتنبيه ونحو ذلك ومع هذا فتكون هذه العلوم عند غيره متيقنة مع اجتهاده لدقة العلوم أو خفائها أو لوجود ما يعتقد المعتقد أنه يعارض ولا يكون معارضا في الحقيقة فيشتبه بالمعارض لاشتباه المعارض لاشتباه المعاني او لاشتراك الألفاظ
فهذا من أعظم أسباب اختلاف بني آدم من المؤمنين وغيرهم ولهذا نجد في المختلفين كل طائفة تدعى العلم الضروري فما يقوله إما من جهة القياس والنظر وإما من جهة السماع والخبر وإما من جهة الإحساس والبصر ولا تكون واحدة من الطائفتين كاذبة بل صادقة
لكن يكون قد أدخل مع الحق ما ليس منه في النفي والإثبات لاشتباه المعاني واشتراك الألفاظ فيكون حينئذ ما ينفيه هذا يثبته الآخر ولو زال الاشتباه والاشتراك زال الخلاف التضادى وكان اختلاف الناس في مسائل الجبر والقدر ومسائل نفي الجسم وإثباته ونفى موجب الأخبار وإثبات ذلك هو من هذا الباب
وهذا كله موجود في كتب أهل الكلام وأهل الحديث والفقه وغير ذلك
وقول القائل إن الضروريات يجب اشتراك العقلاء فيها خطأ بل الضروريات كالنظريات تارة يشتركون فيها وتارة يختص بها من جعل له قوة على إدراكها
وكذلك قول القائلين إن الطائفة التي تبلغ عدد التواتر لا يتفقون على جحد الضروريات ليس بصواب بل يتفقون على ذلك إذا تواطأوا عليها وخبر التواتر متى كان عن تواطؤ لم يفد العلم وإنما يفيد العلم لانتفاء التواطؤ فيه وإذا كان كذلك فقد يكون المختلفون قد اجتهد أحدهم فأصاب ويكون الآخر اجتهد فأخطأ فيكون للأول أجران وللثاني أجر مع أن خطأه مغفور مغفور له وقد يكون كلاهما اجتهد فأخطأ فيغفر لهما جميعا مع وجود الأجر
ويكون الصواب في قولنا ثالثا أما تفصيل ما أطلقوه مثل أن ينفى هذا نفيا عاما ويثبت الآخر ما نفاه الأول فيفصل المفصل ويثبت البعض دون البعض وكذلك في المعنى المشتبه واللفظ المشترك يفصل بين المعنى وما يشبهه إذا كان مخالفا له وبين معنى لفظ ومعنى لفظ
ثم إنه من مسائل الخلاف ما يتضمن أن اعتقاد أحدهما يوجب عليه بغض الآخر ولعنه أو تفسيقه أو تكفيره أو قتاله فإذا فعل ذلك مجتهدا مخطئا كان خطؤه مغفورا له وكان ذلك في حق الآخر محنة في حقه وفتنة وبلاء ابتلاه به
وهذه حال البغاة المتأولين مع أهل العدل سواء كان ذلك بين أهل اليد والقتال من الأمراء ونحوهم أو بين أهل اللسان والعمل من العلماء والعباد ونحوهم وبين من يجمع الأمرين
ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغى لا لمجرد الاجتهاد
كما قال تعالى وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم سورة آل عمران 19 وقال إن الذبن فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ سورة الأنعام 159 وقال ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات سورة آل عمران 105
فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ بل مع نوع بغى
ولهذا نهى النبي ﷺ عن القتال في الفتنة وكان ذلك من أصول السنة وهذا مذهب أهل السنة والحديث وأئمة اهل المدينة من فقهائهم وغيرهم
ومن الفقهاء من ذهب إلى أن ذلك يكون مع وجود العلم التام من أحدهما والبغى من الآخر فيجب القتال مع العادل حينئذ وعلى هذا الفتنة الكبرى بين أهل الشام والعراق هل كان الأصوب حال القاعدين أو حال المقاتلين من أهل العراق والنصوص دلت على الأول وقالوا كان ترك قتال أهل العراق أصوب وإن كانوا أقرب إلى الحق وأولى به من الشام إذ ذاك كما بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع وتكلمنا على الآيات والاحاديث في ذلك
ومن أصول هذا الموضع أن مجرد وجود البغى من إمام أو طائفة لا يوجب قتالهم بل لا يبيحه بل من الأصول التي دلت عليها النصوص أن الإمام الجائر الظالم يؤمر الناس بالصبر على جوره وظلمه وبغيه ولا يقاتلونه كما أمر النبي ﷺ بذلك في غير حديث فلم يأذن في دفع البغي مطلقا بالقتال بل إذا كانت فيه فتنة نهى عن دفع البغي به وأمر بالصبر
وأما قوله سبحانه فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى سورة الحجرات 9 فهو سبحانه قد بين مراده ولكن من الناس من يضع الآية على غير موضعها فإنه سبحانه قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين سورة الحجرات 9 فهو لم يأذن ابتداء في قتال بين المؤمنين بل إذا اقتتلوا فأصلحوا بينهما والاقتتال هو فتنة وقد تكون إحداهما أقرب إلى الحق فأمر سبحانه في ذلك بالإصلاح
وكذلك فعل النبي ﷺ لما اقتتل بنو عمرو بن عوف فخرج ليصلح بينهم وقال لبلال إن حضرت الصلاة فقدم ابا بكر
ثم قال سبحانه فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله سورة الحجرات 9 فهو بعد اقتتالهم إذا أصلح بينهم بالقسط فلم تقبل إحداهما القسط بل بغت فإنها تقاتل لأن قتالها هنا يدفع به القتال الذي هو أعظم منه فإنها اذا لم تقاتل حتى تفئ إلى أمر الله بل تركت حتى تقتتل هي والأخرى كان الفساد في ذلك أعظم
والشريعة مبناها على دفع الفسادين بالتزام أدناهما وفي مثل هذا يقاتلون حتى لا يكون فتنة ويكون الدين كله لله لأنه إذا أمروا بالصلاح والكف عن الفتنة فبغت إحداهما قوتلت حتى لا تكون فتنة والمأمور بالقتال هو غير المبغى عليه أمر بأن يقاتل الباغية حتى ترجع إلى الدين فقاتلها من باب الجهاد وإعانة المظلوم المبغى عليه
أما إذا وقع بغى ابتداء بغير قتال مثل أخذ مال أو مثل رئاسة بظلم فلم يأذن الله في اقتتال طائفتين من المؤمنين على مجرد ذلك لأن الفساد في الاقتتال في مجرد رئاسة أو أخذ مال فيه نوع ظلم
فلهذا نهى النبي ﷺ عن قتال الأئمة إذا كان فيهم ظلم لأن قتالهم فيه فساد أعظم من فساد ظلمهم
وعلى هذا فما ورد في صحيح البخارى من حديث أم سلمة أن النبي ﷺ قال ذلك ليس هو مخالفا لما تواتر عنه من أنه أمر بالإمساك عن القتال في الفتنة وأنه جعل القاعد فيها خيرا من القائم والقائم خيرا من الماشى والماشى خيرا من الساعى
وقال يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن وأمر فيها بأن يلحق الإنسان بإبله وبقره وغنمه لأن وصفه تلك الطائفة بالبغى هو كما وصف به من وصف من الولاة بالأثرة والظلم
كقوله ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض
وقوله ﷺ ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم وأمثال ذلك من الأحايث الصحاح
فأمر مع ذكره لظلمهم بالصبر وإعطاء حقوقهم وطلب المظلوم حقه من الله ولم يأذن للمظلوم المبغى عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها فتنة كما أذن في دفع الصائل بالقتال حيث قال من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد فإن قتال اللصوص ليس قتال فتنة إذ الناس كلهم أعوان على ذلك فليس فيه ضرر عام على غير الظالم بخلاف قتال ولاة الأمور فإن فيه فتنة وشرا عاما أعظم من ظلمهم فالمشروع فيه الصبر
وإذا وصف النبي ﷺ طائفة بأنها باغية سواء كان ذلك بتأويل أو بغير تأويل لم يكن مجرد ذلك موجبا لقتالها ولا مبيحا لذلك إذ كان قتال فتنة
فتدبر هذا فإنه موضع عظيم يظهر فيه الجمع بين النصوص ولأنه الموضع الذي اختلف فيه اجتهاد علماء المؤمنين قديما وحديثا حيث رأى قوم قتال هؤلاء مع من هو أولى بالحق منهم ورأى آخرون ترك القتال إذا كان القتال فيه من الشر أعظم من ترك القتال كما كان الواقع فإن أولئك كانوا لا يبدأون البغاة بقتال حتى يجعلوهم صائلين عليهم وإنما يكون ذنبهم ترك واجب مثل الامتناع من طاعة معين والدخول في الجماعة فهذه الفرقة إذا كانت باغية وفي قتالهم من الشر كما وقع أعظم من مجرد الاقتصار على ذلك كان القتال فتنة وكان تركه هو المشروع وإن كان المقاتل أولى بالحق وهو مجتهد
وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول وغيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك هو من هذا الباب فيه المجتهد المصيب وفيه المجتهد المخطئ ويكون المخطئ باغيا وفيه الباغي من غير اجتهاد وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر
وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين سواء كان قولا او فعلا ولكن المصيب العادل عليه أن يصبر عن الفتنة ويصبر على جهل الجهول وظلمة إن كان غير متأول وأما إن كان ذاك أيضا متأولا فخطؤه مغفور له وهو فيما يصيب به من أذى بقوله أو فعله له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور له وذلك محنة وابتلاء في حق ذلك المظلوم فإذا صبر على ذلك واتقى الله كانت العاقبة له كما قال تعالى وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا سورة آل عمران 120
وقال تعالى لتلبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور سورة آل عمران 186
فأمر سبحانه بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى وذلك تنبيه على الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض متأولين كانوا أو غير متأولين
وقد قال سبحانه ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى سورة المائدة 8 فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له
فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا فإن الشيطان موكل ببني آدم وهو يعرض للجميع ولايسلم أحد من مثل هذه الأمور دع ماسواها من نوع تقصير في مأمور أو فعل محظور باجتهاد أو غير اجتهاد وإن كان هو الحق
وقال سبحانه لنبيه فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار سورة غافر 55 فأمره بالصبر وأخبره أن وعد الله حق وأمره أن يستغفر لذنبه
ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر فالفتنة إما من ترك الحق وإما من ترك الصبر
فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور
وإن كان مجتهدا في معرفة الحق ولم يصبر فليس هذا بوجه الحق مطلقا لكن هذا وجه نوع حق فيما أصابه فينبغي أن يصبر عليه
وإن كان مقصرا في معرفة الحق فصارت ثلاثة ذنوب أنه لم يجتهد في معرفة الحق وأنه لم يصبه وأنه لم يصبر
وقد يكون مصيبا فيما عرفه من الحق فيما يتعلق بنفسه ولم يكن مصيبا في معرفة حكم الله في غيره وذلك بأن يكون قد علم الحق في أصل يختلف فيه بسماع وخبر أو بقياس ونظر أو بمعرفة وبصر ويظن مع ذلك أن ذلك الغير التارك للإقرار بذلك الحق عاص أو فاسق أو كافر ولا يكون الأمر كذلك لأن ذلك الغير يكون مجتهدا قد استفرغ وسعه ولا يقدر على معرفة الأول لعدم المقتضى ووجود المانع
وأمور القلوب لها أسباب كثيرة ولا يعرف كل احد حال غيره من ايذاء له بقول أو فعل قد يحسب المؤذى إذا كان مظلوما لا ريب فيه أن ذلك المؤذى محض باغ عليه ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن ويكون مخطئا في هذين الأصلين إذ قد يكون المؤذى متأولا مخطئا وإن كان ظالما لا تأويل له فلا يحل دفع ظلمه بما فيه فتنة بين الأمة وبما فيه شر أعظم من ظلمه بل يومر المظلوم ها هنا بالصبر فإن ذلك في حقه محنة وفتنة
وإنما يقع المظلوم في هذا لجزعه وضعف صبره أو لقلة علمه وضعف رأيه فإنه قد يحجب أن القتال ونحوه من الفتن يدفع الظلم عنه ولا يعلم أنه يضاعف الشر كما هو الواقع وقد يكون جزعه يمنعه من الصبر
والله سبحانه وصف الأئمة بالصبر واليقين فقال وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون سورة السجدة 24 وقال وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر سورة العصر 3
وذلك أن المظلوم وإن كان مأذونا له في دفع الظلم عنه بقوله تعالى ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل سورة الشورى 41 فذلك مشروط بشرطين
أحدهما القدرة على ذلك
والثاني ألا يعتدى
فإذا كان عاجزا أو كان الانتصار يفضى إلى عدوان زائد لم يجز وهذا هو أصل النهى عن الفتنة فكان إذا كان المنتصر عاجزا وانتصاره فيه عدوان فهذا هذا
ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة
========
الاستقامة/2
وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة فإما أن يؤمر بهما جميعا أو ينهى عنهما جميعا وليس كذلك بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة كما قال تعالى وأمر بالمعروف وانه عنه المنكر واصبر على ما أصابك سورة لقمان 17
وقال عبادة بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة الأمر أهله وأمرهم بالقيام بالحق ولأجل ما يظن من تعارض هذين تعرض الحيرة في ذلك لطوائف من الناس والحائر الذي لا يدري لعدم ظهور الحق وتميز المفعول من المتروك ما يفعل إما لخفاء الحق عليه أو لخفاء ما يناسب هواه عليه
والبدعة مقرونة بالفرقة كما ان السنة مقرونة بالجماعة فيقال أهل السنة والجماعة كما يقال أهل البدعة والفرقة وقد بسطنا هذا كله في غير هذا الموضع
وإنما المقصود هنا التنبيه على وجه تلازمهما موالاة المفترقين وإن كان كلاهما فيه بدعة وفرقة أو كانوا مؤمنين فيوالون بإيمانهم ويترك ما ليس من الإيمان من بدعة وفرقة فإن البدعة ما لم يشرعه الله من الدين فكل من دان بشئ لم يشرعه الله فذاك بدعة وإن كان متأولا فيه
وهذا موجود من جميع أهل التأويل المفترقين من الأولين والآخرين فإنهم إذا رأوا ما فعلوا مأمورا به ولم يكن كذلك فليس ما فعلوه سنة بل هو بدعة متأولة مجتهد فيها من المنافقين سواء كانت في الدنيا أو في الدين
كما قال تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم سورة التوبة 47 وقال فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله سورة آل عمران 7
وتجد أئمة أهل العلم من أهل البدعة والفرقة من أهل الإيمان والنفاق يصنفون لأهل السيف والمال من الملوك والوزراء في ذلك ويتقربون إليهم بالتصنيف فيما يوافقهم كما صنف كتاب تحليل النبيذ لبعض الأمراء وهو الكرخى وقد صنف الجاحظ قبله كتابا لكن أظنه مطلقا وكما صنف ابن فورك كتابا في مذهب ابن كلاب الرئيسي وكما صنف أبو المعالى النظامية والغياثى لنظام الملك وكما صنف الرازي كتاب الملخص في الفلسفة لوزير وقته زهير وكتابا في أحكام النجوم لملك وقته علاء الدين وكتابا في السحر وعبادة الأوثان لأم الملك
وكما صنف السهروردي الحلبى المقتول الألواح العمادية في المبدأ والمعاد لعماد الدين قره أرسلان بن داود وقال فيه لما تواترت لدى مكاتبات الملك فلان وقد أمرني بتحرير عجالة شديدة الإيجاز بينة الإعجاز تتضمن ما لابد من معرفته في المبدأ والمعاد على ما يراه من متأهلة وأساطين الفضلاء فبادرت إلى امتثال مرسومه وتحصيل مطلوبه وكنت قد صادفت مختصرات صنفها بعض المتأخرين لأمراء زمانهم وملوك أزمانهم وسمعت أنها ما انتفعوا بها لأنهم عدلوا عن مصلحة التعليم وطريق التفهيم وما غيروا شيئا من الاصطلاحات الغامضة المأخذ ففوتوا الرعاية لفائدة جزئية لا مصلحة كلية
وكما صنف صاحب دعوة البلاغ الأكبر والناموس الأعظم
فصل
مهم عظيم القدر في هذا الباب وذلك أن طوائف كبيرة من أهل الكلام من المعتزلة وهو أصل هذا الباب كأبي على وأبي هاشم وعبد الجبار وأبى الحسين وغيرهم ومن اتبعهم من الاشعرية كالقاضى أبى بكر وأبى المعالى وأبى حامد والرازي ومن إتبعهم من الفقهاء يعظمون أمر الكلام الذي يسمونه أصول الدين حتى يجعلون مسائله قطعية ويوهنون من أمر الفقه الذي هو معرفة أحكام الأفعال حتى يجعلوه من باب الظنون لا العلوم
وقد رتبوا على ذلك أصولا انتشرت في الناس حتى دخل فيها طوائف من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث لا يعلمون أصلها ولا ما تؤول إليه من الفساد مع أن هذه الأصول التي ادعوها في ذلك باطلة واهية كما سنبينه في غير هذا الموضع ذلك أنهم لم يجعلوا لله في الأحكام حكما معينا حتى ينقسم المجتهد إلى مصيب ومخطئ بل الحكم في حق كل شخص ما أدى إليه اجتهاده
وقد بينا في غير هذا الموضع ما في هذا من السفسطة والزندقة فلم يجعلوا لله حكما في موارد الاجتهاد أصلا ولا جعلوا له على ذلك دليلا أصلا بل ابن الباقلاني وغيره يقول وما ثم أمارة في الباطن بحيث يكون ظن أصح من ظن وإنما هو أمور اتفاقية فليست الظنون عنده مستندة إلى أدلة وأمارات تقتضيها كالمعلوم في استنادها إلى الأدلة
ثم إنه وطائفة مع هذا قد أبطلوا أصول الفقه ومنعوا دلالتها حتى سموا واقفة والكلام نوعان أمر وخبر فمنعوا دلالة صيغ الأمر عليه ومنعوا دلالة صيغ الخبر العام عليه
ومن فروع ذلك أنهم يزعمون أن ما تكلموا فيه من مسائل الكلام هي مسائل قطعية يقينية وليس في طوائف العلماء من المسلمين أكثر تفرقا واختلافا منهم ودعوى كل فريق في دعوى خصمه الذي يقول إنه قطعى بل الشخص الواحد منهم يناقض نفسه حتى أن الشخصين والطائفتين بل الشخص الواحد والطائفة الواحدة يدعون العلم الضروري بالشئ ونقيضه ثم مع هذا الاضطراب الغالب عليهم يكفر بعضهم بعضا كما هو أصول الخوارج والروافض والمعتزلة وكثير من الأشعرية
ويقولون في آخر أصول الفقه المصيب في أصول الدين واحد وأما الفروع ففيها كل مجتهد مصيب
ثم إنهم صنفوا في أصول الفقه وهو علم مشترك بين الفقهاء والمتكلمين فبنوه على أصولهم الفاسدة حتى ان أول مسألة منه وهي الكلام في حد الفقه لما حدوه بأنه العلم باحكام أفعال المكلفين الشرعية أورد هؤلاء كالقاضي أبي بكر والرازي والآمدي ومن وافقهم من فقهاء الطوائف كأبي الخطاب وغيره السؤال المشهور هنا وهو أن الفقه من باب الظنون لأنه مبنى على الحكم بخبر الواحد والقياس والعموم والظواهر وهي إنما تفيد الظن فكيف جعلتموه من العلم حيث قلتم العلم
وأجابوا عن ذلك بأن الفقيه قد علم أنه إذا حصل له هذا الظن وجب عليه العمل به كما قال الرازي
فإن قلت الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علما
قلت المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط الحكم قطع بوجوب العلم بما أدى إليه ظنه فالعلم حاصل قطعا والظن واقع في طريقه
وقد ظن طائفة من الفقهاء الناظرين في أصول الفقه أن هذا الجواب ضعيف لقوله العلم حاصل قطعا والظن واقع في طريقه
قالوا والحكم بالنتيجة يتبع أضعف المقدمات وأحسن المقدمات فالموقوف على الظن أولى أن يكون ظنا
وليس الأمر كما توهموا بل لم يفهموا كلام هؤلاء فإن هذا الظن ليس هو عندهم دليل العلم بوجوب العلم به ولا مقدمة من مقدمات دليله ولكنهم يقولون قامت الأدلة القطعية من النصوص والإجماع مثلا على وجوب العلم بالظن الحاصل عن خبر الواحد والقياس وذلك العلم حصل بأدلته المفيدة له لم يحصل بهذا الظن ولا مقدماته
لكن التقدير إذا حصل لك أيها المجتهد ظن فعليك أن تعمل به وحصول الظن في النفس وجدى يجده المرء في نفسه ويحسه كما يجد عمله ويحسه فمعرفته بحصول الظن يقينى ومعرفته بوجوب العمل به يقينى فهاتان مقدمتان علميتان إحداهما سمعية والأخرى وجدية
وصار هذا كما لو قيل له إذا حصل لك مرض في الصوم أنه يجوز لك الفطر وإذا حصل مرض يمنعك القيام في الصلاة فأعلم أن عليك أن تصلى قاعدا فإذا وجد المرض في نفسه علم حينئذ حكم الله باباحة الفطر وبالصلاة قاعدا فهكذا وجود الظن عندهم في نفس المجتهد
وإذا علم أن هذا حقيقة قولهم تبين حينئذ فساد ما ذكروه من غير تلك الجهة وهو أن هذا يقتضى ألا يكون الفقة إلا العلم بوجوب العمل بهذه الظنون والاعتقادات الحاصلة عن أمارات الفقه على اصطلاحهم
ومعلوم أن هذا العلم هو من أصول الفقه وهو لا يخص مسألة دون مسألة ولا فيه كلام في شئ من أحكام الأفعال كالصلاة والجهاد والحدود وغير ذلك وهو أمر عام كلى ليس هو الفقه بأتفاق الناس كلهم إذ الفقه يتضمن الأمر بهذه الأفعال والنهى عنها إما علما وإما ظنا
فعلى قولهم الفقه هو ظن وجوب هذه الأعمال وظن التحريم وظن الاباحة وتلك الظنون هي التي دلت عليها هذه الأدلة التي يسمونها الأمارات كخبر الواحد والقياس فإذا حصلت هذه الظنون حصل الفقه عندهم
وأما وجوب العلم بهذا الظن فهذاك شئ آخر وهذا الذي ذكروه إنما يصلح أن يذكر في جواب من يقول كيف يسوغ لكم العمل بالظن فهذا يورد في أصول الفقه في تقرير هذه الطرق إذا قيل إنها إنما تفيد الظن قيل وكيف يسوغ اتباع الظن مع دلالة الأدلة الشرعية على خلاف ذلك
فيقولون في الجواب المتبع إنما هو الأدلة القطعية الموجبة للعمل بهذا الظن والعامل بتلك الأدلة متبع للعلم لا للظن أما أن يجعل نفس الفقه الذي هو علم ظنا فهذا تبديل ظاهر وأتباعهم الأذكياء تفطنوا لفساد هذا الجواب
وقد تجيب طائفة أخرى كأبي الخطاب وغيره عن هذا السؤال بأن العلم يتناول اليقين والاعتقاد الراجح كقوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات سورة الممتحنة 10 وأن تخصيص لفظ العلم بالقطعيات اصطلاح المتكلمين والتعبير هو باللغة لا بالاصطلاح الخاص
والمقصود هنا ذكر أصلين هما بيان فساد قولهم الفقه من باب الظنون وبيان أنه أحق بأسم العلم من الكلام الذي يدعون أنه علم وأن طرق الفقه احق بأن تسمى أدلة من طرق الكلام
والأصل الثاني بيان أن غالب ما يتكلمون فيه من الأصول ليس بعلم ولا ظن صحيح بل ظن فاسد وجهل مركب
ويترتب على هذين الأصلين منع التكفير بأختلافهم في مسائلهم وأن التفكير في الأمور العملية الفقهية قد يكون أولى منه في مسائلهم
فنقول الفقه هو معرفة أحكام أفعال العباد سواء كانت تلك المعرفة علما أو ظنا أو نحو ذلك
ومن المعلوم لمن تدبر الشريعة أن أحكام عامة افعال العباد معلومة لا مظنونة وأن الظن فيها إنما هو قليل جدا في بعض الحوادث لبعض المجتهدين فأما غالب الأفعال مفادها وأحداثها فغالب احكامها معلومة ولله الحمد وأعنى بكونها أن العلم بها ممكن وهو حاصل لمن اجتهد واستدل بالأدلة الشرعية عليها لا أعنى أن العلم بها حاصل لكل احد بل ولا لغالب المتفقهة المقلدين لائمتهم بل هؤلاء غالب ما عندهم ظن أو تقليد
إذ الرجل قد يكون يرى مذهبه بعض الأئمة وصار ينقل أقواله في تلك المسائل وربما قربها بدليل ضعيف من قياس أو ظاهر هذا إن كان فاضلا وإلا كفاه مجرد نقل المذهب عن قائله إن كان حسن التصور فهما صادقا وإلا لم يكن عنده إلا حفظ حروفه إن كان حافظا وإلا كان كاذبا أو مدعيا أو مخطئا
ولا ريب أن الحاصل عند هؤلاء ليس بعلم كما أن العامة المقلدين للعلماء فيما يفتونهم فإن الحاصل عندهم ليس علما بذلك عن دليل يفيدهم القطع وإن كان العالم عنده دليل يفيد القطع
وهذا الأصل الذي ذكرته أصل عظيم فلا يصد المؤمن العليم عنه صاد فإنه لكثرة التقليد والجهل والظنون في المنتسبين إلى الفقه والفتوى والقضاء استطال عليهم أولئك المتكلمون حتى أخرجوا الفقه الذي نجد فيه كل العلوم من أصل العلم لما رأوه من تقليد أصحابه وظنهم
ومما يوضح هذا الأصل أنه من العلوم أن الظنون غالبا إنما تكون في مسائل الاجتهاد والنزاع فأما مسائل الإيمان والإجماع فالعلم فيها أكثر قطعا
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من أشهر ما تنازعت فيه الصحابة ومن بعدهم مسائل الفرائض كما تنازعوا في الجد وفروعه وفي الكلالة وفي حجب الأم بأخوين وفي العمريتين زوج وأبوان وزوجة وابوان وفي الجد هل يقوم مقام الأب في ذلك وفي الأخوات مع البنات هل هي عصبة أم لا وفيما إذا استكمل البنات الثلثين وهناك ولد ابن ونحو ذلك من المسائل التي يحفظ النزاع فيها عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد وابن عباس وغيرهم من الصحابة
لكن أئمة هذا الباب خمسة عمر وعلي وابن مسعود وزيد وابن عباس وإذا كانوا تنازعوا في الفرائض أكثر من غيرها فمن المعلوم أن عامة أحكام الفرائض معلومة بل منصوصة بالقرآن فإن الذي يفتي الناس في الفرائض قد يقسم ألف فريضة منصوصة في القرآن مجمعا عليها حتى تنزل به واحدة مختلف فيها بل قد تمضى عليه أحوال لا تجب في مسألة نزاع
وأما المسائل المنصوصة المجمع عليها فالجواب فيها دائم بدوام الموتى فكل من مات لا بد لميراثه من حكم ولهذا لم يكن شئ من مسائل النزاع على عهد النبي ﷺ مع وجود الموت والفرائض دائما ومع أن كل من كان يموت على عهد النبي ﷺ مع وجود الموت والفرائض دائما ومع أن كل من كان يموت على عهد النبي ﷺ فإنه ما وضع قط مال ميت في بيت مال ولا قسم بين المسلمين كما كان يقسم بينهم الفئ ومال المصالح
ولكن لما فتحت البلاد وكثر أهل الإسلام في إمارة عمر صار حينئذ يحدث اجتماع الجد والإخوة فتكلموا في ذلك وكذلك حدثت العمريتان فتكلموا فيها
هذا مع أن علم الفرائض من علم الخاصة حتى أن كثيرا من الفقهاء لا يعرفه فهو عند العلماء به من علم الفقه اليقين المقطوع به وليس عند أكثر المنتسبين إلى العلم فضلا عن العامة به علم ولاظن وذلك كالقضايا التجريبية في الطب هي عند المجربين لها والعالمين بها من المجربين معلومة وأكثر الخائضين في علوم أخر فضلا عن العامة ليس عندهم علم ولا ظن
بل باب الحيض الذي هو من أشكل الفقه في كتاب الطهارة وفيه من الفروع والنزاع ما هو معلوم ومع هذا أكثر الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال النساء في الحيض معلومة ومن انتصب ليفتي الناس يفتيهم بأحكام معلومة متفق عليها مائة مرة حتى يفتيهم بالظن مرة واحدة وإن أكثر الناس لا يعلمون أحكام الحيض وما تنازع الفقهاء فيه من أقله وأكثره وأكثر سنين الحيض وأقله ومسائل المتحيرة فهذا من أندر الموجود ومتى توجد امرأة لا تحيض إلا يوما وإنما في ذلك حكايات قليلة جدا مع العلم بأن عامة بنات آدم يحضن كما قال النبي ﷺ إن هذا شئ كتبه الله على بنات آدم
وكذلك متى توجد في العالم امرأة تحيض خمسة عشر يوما أو تسعة عشر أو امرأة مستحاضة دائما لا يعرف لها عادة ولا يتميز الدم في ألوانه بل الاستحاضة إذا وقعت فغالب النسوة يكون تميزها وعادتها واحدة والحكم في ذلك ثابت بالنصوص المتواترة عن النبي ﷺ وبأتفاق الفقهاء
ونحن ذكرنا في الموت الذي هو أمر لازم لكل أحد وقل من يموت إلا وله شئ وفي الحيض الذي هو أمر معتاد للنساء وكذلك سائر الأجناس المعتادة مثل النكاح وتوابعه والبيوع وتوابعها والعبادات والجنايات
فإن قال قائل مسائل الاجتهاد والخلاف في الفقه كثيرة جدا في هذه الأبواب
قيل له مسائل القطع والنص والإجماع بقدر تلك أضعافا مضاعفة وإنما كثرت لكثرة أعمال العباد وكثرة أنواعها فإنها أكثر ما يعلمه الناس مفصلا ومتى كثر الشئ إلى هذا الحد كان كل جزء منه كثيرا من ينظرها مكتوبة فلا يرتسم في نفسه إلا ذلك كما يطالع تواريخ الناس والفتن وهي متصلة في الخبر فيرتسم في نفسه أن العالم ما زال ذلك فيه متواصلا والمكتوب شئ والواقع أشياء كثيرة فكذلك أعمال العباد وأحكامها ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك
أما غير الخائض في الفقه في فنون أخرى فظاهر وأما الخائض فيه فغالبهم إنما يعرف احدهم مذهب إمامه وقد يعلمه جملة لا يميز بين المسائل القطعية المنصوصة والمجمع عليها وبين مفاريده أو ما شاع فيه الاجتهاد فنجده يفتي بمسائل النصوص والإجماع من جنس فتياه بمسائل الاجتهاد والنزاع بمنزلة حمار حمل سفرا ينقل نقلا مجردا حتى أنه يحكى لأحدهم أن مذهب فلان بخلاف ذلك فيسوغ ذلك ويكون الخلاف في ذلك من الممتنعات بين الملل فضلا عن أن يختلف فيه المسلمون
وقد بلغني من ذلك عن أقوام مشهورين بالفتيا والقضاء حتى حكوا لملك بلدهم أن من مذهب الشافعي أن المطلقة ثلاثا تباح بالعقد الخالي عن الوطء وصبيان الشافعية يعلمون أن هذا مما لم يختلف فيه مذهبه وحتى يحكوا عن مالك أن المتعة عنده جائزة وليس في المتبوعين أشد تحريما لها منه ومن أصحابه حتى أنه إذا وقت الطلاق عنده ينجز لئلا يصير النكاح مؤقتا كنكاح المتعة
وأبلغ من ذلك يحكون في بلادهم عن مالك حل اللواط ويذكر ذلك لمن هو من أعيان مذهبه فيقول القرآن دل على تحريمه ولا يمكنهم أن يكذبوا الناقل ويقولوا هذا حرام بالإجماع مع أن العالم يعلم أن هذا حرام بإجماع المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين وأكثر المشركين لم يستحله إلا قوم لوط وبعض الزنادقة من بقية الطوائف فلجهل هؤلاء وأمثالهم بالتمييز بين مسائل العلم والقطع ومسائل الاجتهاد التبس الامر عليهم فلم يمكنهم أن يحكموا في أكثر ما يفتى به أنه قطعى وهو قطعى معلوم من الدين للعلماء بالدين
لكن هؤلاء ليسوا في الحقيقة فقهاء في الدين بل هم نقلة لكلام بعض العلماء ومذهبه والفقه لا يكون إلا بفهم الأدلة الشرعية بأدلتها السمعية الثبوتية من الكتاب والسنة والإجماع نصا واستنباطا
ولكن أولئك المتكلمون كان علم الفقه عندهم هو مسائل الحل والحرام وشفعة الجوار والجهر بالبسملة وتثنية الإقامة وإفرادها والجمع بين الصلاتين وإزالة النجاسة والقود بالمثل وخيار المجلس والعوض بالعقد الفاسد والإجارة ونحو ذلك من المسائل التى شاع فيها النزاع لا سيما وقد جرد بعد المائة الثالثة مسائل الخلاف جردها أبو بكر الصيرفى فيما يغلب على ظني واتبعه على ذلك الناس حتى صنفوا كتبا كثيرة في مسائل الخلاف فقط
واقتصر أكثر هؤلاء على ما اختلف فيه أبو حنيفة والشافعي
وأمهات المسائل التي جردوا القول فيها نحو أربعمائة مسألة التي توجد في أمهات التعاليق وكتب الخلاف التي صنفها الخراسانيون والعراقيون من الطوائف وإن كانت مسائل الخلاف لمن استوعبها منهم كالقاضي أبي يعلى تنتهي إلى ألوف مؤلفة إما أربعة آلاف أو أقل أو أكثر ولمن اقتصر على كبار كبارها تكون نحو مائة مسألة كما فعل أبو محمد إسماعيل بن في تعليقه
وأما ذلك المقدار فهو الذي يصفه أبو المعالي وأبو إسحاق في خلافهما والشريف أبو جعفر وأسعد الميهني والسمعانى ونحوهم ويصفه ابو الخطاب في انتصاره وابن عقيل في نظرياته وكذلك ابن يساره والعالمى ونحوهم من أصحاب أبي حنيفة وإن كان في عمد الأدلة تبع شيخه القاضى في استيعاب مافي تعليق القاضي من هذه المسائل والنزاع فيها وشهد أنها مسائل اجتهاد ظنية
واشتهار أصحابها بعلم الفقه هو من الشبهة التي أوجبت للمتكلمين ولهؤلاء الفقهاء المختلفين ولكثير من المفتين وغيرهم أن يجعلوا الفقه من باب الظنون والاجتهاد
ولهذا كان ظهور هذا القول مع ظهور مسائل الخلاف هذه وذلك مع ظهور بدع كثيرة وتغير أمور الإسلام وضعف الخلافة حتى استولى عليها الديالم وظهر حينئذ من مذهب القرامطة والباطنية والرافضة والمعتزلة ما عم أكثر الأرض وأخذ من المسلمين كثير من ثغورهم الشامية وغيرها وانتشرت حينئذ بدع متكلمة الصفاتية وغيرهم وصار هذا الفقه من باب اتباع الظن وما تهوى الأنفس
وكذلك مال كثير من طلاب العلم إلى ما يظنونه علما غير الفقه إما الكلام وإما الفلسفة فإن النفس تطلب ما هو علم وتنفر مما هو شك وظن وهذا محمود منها
وكان من سبب هذا أنهم تفقهوا لغير الدين وذلك مما ذموا عليه
كما جاء ذلك في حديث رواه أبو هريرة وعلي رضي الله عنهما يقول فيه النبي ﷺ إذا اتخذ المال دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتفقه لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق امه وأدنى صديقته وأقصى أباه ورفعت الأصوات في المساجد وأكرم الرجل مخافة شره وساد القبيلة فاسقها وكان زعيم القوم أرذلهم فلينتظروا عند ذلك ريحا حمراء وفتنا تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع وكان هذا ما هو من أشراط الساعة الوسطى من ظهور الجهل ورفع العلم وكثرة الزنا
فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قد يريد بالساعة انخرام القرن ووقوع شرور وبلاء يعذب به الناس وإن كانت الساعة العامة هي قيام الناس من قبورهم لكن الأول جاء في مثل قوله إن يستنفد هذا الغلام عمره لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة يريد به انخرام ذلك القرن كما إنه قد أراد بلفظ القيامة موت الإنسان كما في قول المغيرة بن شعبة أيها الناس إنكم تقولون القيامة القيامة وإنه من مات فقد قامت قيامته
وترجم البغوى على ذلك في كتاب المصابيح باب من مات فقد قامت قيامته
لكن من الزنادقة الصابئة المتفلسفة كالسهروردى الحلبي المقتول وغيره من يظن ذلك هو القيامة التي وصفها الله في القرآن ويجعل هذا اللفظ من كلام رسول الله ﷺ وليس الأمر كذلك
وإذا كان بسبب تقليد كثير من الفقهاء لأئمتهم واتباعهم الظن اشتبه ما يمكن علمه وما هو معلوم لفقهاء الدين وعلماء الشريعة بغيره فكذلك نفس الأئمة المجتهدين لا ريب أنه قد يكون عند أحدهم ما هو مظنون بل مجهول وهو معلوم للآخر إما موافقا له وإما مخالفا فيها أكثر المسائل الفقهية التي لا يعرف حكمها كثير من الأئمة أو يتكلم فيها بنوع من الظن مصيبا أو مخطئا وتكون معلومة لغيره بأدلة قطعية عنده وعند من علم كعلمه
تارة بنص اختص بسماعه من الرسول أو من غيره وحصل له بذلك العلم لاسباب كثيرة في النقل وهذا كثير ما يكون لعلماء الحديث فإنهم يعلمون من النصوص ويقطعون منها بأشياء كثيرة جدا وغيرهم قد يكذب بها أو يجزم بكذبها دع من يجهلها أو يشك فيها
وتارة بفهم النصوص ومعرفة دلالتها فما أكثر من يجهل معنى النص أو يشك فيه أو يفهم منه نقيضه أو يذهل عنه أو يعجز ذهنه عن دركه ويكون الآخر قد فهم من ذلك النص وعلم منه ما يقطع به
وتارة بإجماع علمه من إجماعات الصحابة وغيرها
ثم بعد ذلك تارة بقياس قطعى
فإن القياس نوعان قطعى وظني كما في القياس الذي هو في معنى الأصل قطعا بحيث لا يكون بينهما فرق تأتى به الشريعة أو يكون اولى بالحكم منه قطعا
وتارة بتحقيق المناط وهذا يعود إلى عود فهم معنى النص بأن يعرف ثبوت المناط الذي لا شك فيه في المعين وغيره يشك في ذلك كما يقطع الرجل في القصاص وإبدال المتلفات بأن هذا أقرب إلى المثل والعدل من كذا وغيره فيه أو يعتقد خلافه وأمثال ذلك
فصل
وكذلك لفظ الحركة أثبته طوائف من أهل السنة والحديث وهو الذي ذكره حرب بن اسماعيل الكرماني في السنة التي حكاها عن الشيوخ الذين أدركهم كالحميدي وأحمد بن حنبل وسعيد ابن منصور وإسحاق بن إبراهيم وكذلك هو الذي ذكره عثمان ابن سعيد الدارمى في نقضه على بشر المريسى وذكر أن ذلك مذهب أهل السنة وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة من الشيعة والكرامية والفلاسفة الأوائل والمتأخرين كأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهم
ونفاه طوائف منهم أبو الحسن التميمي وأبو سليمان الخطابي وكل من اثبت حدوث العالم بحدوث الأعراض كأبى الحسن الأشعري والقاضى أبي بكر بن الباقلاني وأبى الوفاء بن عقيل وغيرهم ممن سلك في إثبات حدوث العالم هذه الطريقة التي أنشأها قبلهم المعتزلة وهو أيضا قول كثير من الفلاسفة الأوائل والمتأخرين كإبن سينا وغيره
والمنصوص عن الإمام أحمد إنكار نفي ذلك ولم يثبت عنه إثبات لفظ الحركة وإن أثبت أنواعا قد يدرجها المثبت في جنس الحركة فإنه لما سمع شخصا يروى حديث النزول ويقول ينزل بغير حركة ولا انتقال ولا بغير حال أنكر أحمد ذلك وقال قل كما قال رسول الله ﷺ فهو كان أغير على ربه منك
وقد نقل في رسالة عنه إثبات لفظ الحركة مثل ما في العقيدة التي كتبها حرب بن اسماعيل
وليست هذه العقيدة ثابتة عن الإمام أحمد بألفاظها فإنى تأملت لها ثلاثة أسانيد مظلمة برجال مجاهيل والألفاظ هي ألفاظ حرب بن إسماعيل لا ألفاظ الإمام أحمد ولم يذكرها المعنيون بجمع كلام الإمام أحمد كأبي بكر الخلال في كتاب السنة وغيره من العراقيين العالمين بكتاب أحمد ولا رواها المعروفون بنقل كلام الإمام لا سيما مثل هذه الرسالة الكبيرة وإن كانت راجت على كثير من المتأخرين
وقد نقل حنبل عن احمد في كتاب المحنة أنه تأول قوله هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من العمام والملائكة سورة البقرة فإن الجهمية الذين ناظروه احتجوا على خلق القرآن بقول النبي ﷺ بأن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما وما يجئ إلا مخلوق فقال الإمام أحمد فقد قال الله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتينهم الله في ظلل من الغمام فهل يجئ الله إنما يجئ أمره كذلك هنا إنما يجئ ثواب القرآن
فاختلف أصحابنا في هذه الرواية على خمس طرق
وقال قوم غلط حنبل في نقل هذه الرواية وحنبل له مفاريد ينفرد بها من الروايات في الفقه والجماهير يرروون خلافه
وقد اختلف الأصحاب في مفاريد حنبل التى خالفه فيها الجمهور هل تثبت روايته على طريقين فالخلال وصاحبه قد ينكرانها ويثبتها غيرهما كابن حامد
وقال قوم منهم إنما قال ذلك إلزاما للمنازعين له فإنهم يتأولون مجئ الرب بمجئ أمره قال فكذلك قولوا يجئ كلامه مجئ ثوابه وهذا قريب
وقال قوم منهم بل هذه الرواية ثابته في تأويل ما جاء من جنس الحركة والإتيان والنزول فيتأول على هذه الرواية بالقصد والعمد لذلك وهذه طريقة ابن الزاغوني وغيره
وقال قوم بل يتأول بمجئ ثوابه وهؤلاء جعلوا الرواية في جنس الحركة دون بقية الصفات
وقال قوم منهم ابن عقيل وابن الجوزى بل يتعدى الحكم من هذه الصفة إلى سائر الصفات التي تخالف ظاهرها للدليل الموجب لمخالفة الظاهر
وبكل حال فالمشهور عند أصحاب الإمام أحمد أنهم لا يتأولون الصفات التي من جنس الحركة كالمجئ والإتيان والنزول والهبوط والدنو والتدلى كما لا يتأولون غيرها متابعة للسلف الصالح وكلام السلف في هذا الباب يدل على اثبات المعنى المتنازع فيه
قال الأوزاعى لما سئل عن حديث النزول يفعل الله مايشاء وقال حماد بن زيد يدنو من خلقه كيف شاء وهو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث
وقال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمى أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء
وقال أبو عبد الله احمد بن سعيد الرباطى حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر وحضر إسحاق بن راهويه فسئل عن حديث النزول صحيح هو قال نعم فقال له بعض قواد عبد الله يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة قال نعم قال كيف ينزل قال له إسحاق أثبته حتى أصف لك النزول فقال له الرجل أثبته قال له إسحاق قال الله تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا سورة الفجر 22 فقال الأمير عبد الله بن طاهر يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة فقال إسحاق أعز الله الأمير ومن يجئ يوم القيامة من يمنعه اليوم
وقال حرب بن إسماعيل سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول ليس في النزول وصف قال وقال إسحاق لا يجوز الخوض في أمر الله كما يجوز الخوض في أمر المخلوقين لقول الله تعالى لايسأل عما يفعل وهم يسألون سورة الأنبياء 23 ولا يجوز أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر فيه من أمر المخلوقين وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفا بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما شاء ولا يسأل كيف نزوله لأن الخالق يصنع ما شاء كما شاء
فصل
وقد اعترف أكثر أئمة أهل الكلام والفلسفة من الأولين والآخرين بأن أكثر الطرائق التي سلكوها في أمور الربوبية بالأقيسة التي ضربوها لا تفضى بهم إلى العلم واليقين وفي الأمور الإلهية مثل تكلمهم بالجنس والعرض في دلائلهم ومسائلهم
فأما الأول فقد ذكرنا في غير هذا الموضع مقالة أساطين الفلسفة من الأوائل أنهم قالوا العلم الإلهي لا سبيل فيه إلى اليقين وإنما يتكلم فيه بالأولى والأحرى والأخلق ولهذا اتفق كل من خبر مقالة هؤلاء المتفلسفة في العلم الإلهي أن غالبه ظنون كاذبة وأقيسة فاسدة وأن الذي فيه من العلم الحق قليل
وأما اعتراف المتكلمة من الإسلاميين فكثير قد جمع العلماء فيه شيئا وذكروا رجوع أكابرهم عما كانوا يقولونه وتوبتهم إما عند الموت وإما قبل الموت وهذا من أسباب الرحمة إن شاء الله تعالى في هذه الأمة فإن الله يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات وهذا أصح القولين في قبول توبة الداعى لكن بقاء كلامهم وكتبهم وآثارهم محنة عظيمة في الأمة وفتنة عظيمة لمن نظر فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقد قال ابو حامد الغزالي في الكتاب الذي سماه إحياء علوم الدين وهو من أجل كتبه قال فإن قلت تعلم الجدل والكلام مذموم كتعلم النجوم أو هو مباح كتعلم الطب أو مندوب إليه فاعلم أن للناس في هذا غلوا وإسرافا في أطراف
فمن قائل إنه بدعة وحرام وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام
ومن قائل إنه واجب وفرض إما على الكفاية وإما على الأعيان وإنه أفضل الأعمال وأعلى القربات فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله
قال وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وسفيان الثورى وجميع أئمة السلف، وساق ألفاظا عن هؤلاء
قال واتفق أهل الحديث من السلف على هذا ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه وقالوا ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد منه من الشر
فصل
فيما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيرى في رسالته المشهورة من اعتقاد مشايخ الصوفية فإنه ذكر من متفرقات كلامهم ما يستدل به على انهم كانوا يوافقون اعتقاد كثير من المتكلمين الأشعرية وذلك هو اعتقاد ابي القاسم الذي تلقاه عن أبي بكر بن فورك وأبي إسحاق الإسفراييني
وهذا الاعتقاد غالبه موافق لأصول السلف وأهل السنة والجماعة لكنه مقصر عن ذلك ومتضمن ترك بعض ما كانوا عليه وزيادة تخالف ما كانوا عليه
والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ يوافق ما كان عليه السلف وهذا هو الذي كان يجب أن يذكر
فإن في الصحيح الصريح المحفوظ عن اكابر المشايخ مثل الفضيل ابن عياض وأبي سليمان الداراني ويوسف بن أسباط وحذيفة المرعشى ومعروف الكرخي إلى الجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثال هؤلاء ما يبين حقيقة مقالات المشايخ
وقد جمع كلام المشايخ إما بلفظه أو بما فهمه هو غير واحد فصنف أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاب اذى كتاب التعرف لمذاهب التصوف وهو أجود مما ذكره أبو القاسم وأصوب وأقرب إلى مذهب سلف الأمة وأممتها وأكابر مشايخها وكذلك معمر بن زياد الأصفهاني شيخ الصوفية وابو عبد الرحمن محمد بن الحسن السلمي جامع كلام الصوفية هما في ذلك أعلى درجة وأبعد عن البدعة والهوى من أبى القاسم
وأبو عبد الرحمن وإن كان أدنى الرجلين فقد كان ينكر مذهب الكلابية ويبدعهم وهو المذهب الذي ينصره أبو القاسم وله في ذم الكلام مصنف يخالف ما ينصره أبو القاسم وأبو عبد الرحمن أجل من أخذ عنه أبو القاسم كلام المشايخ وعليه يعتمد في أكثر ما يحكيه فإن له مصنفات متعددة
وكذلك عامة المشايخ الذين سماهم أبو القاسم في رسالته لا يعرف عن شيخ منهم أنه كان ينصر طريقة الكلابية والأشعرية التي نصرها أبو القاسم بل المحفوظ عنهم خلافهم ومن صرح منهم فإنما يصرح بخلافها حتى شيوخ عصره الذين سماهم حيث قال
فأما المشايخ الذين عاصرناهم والذين أدركناهم وإن لم يتفق لنا لقياهم مثل الأستاذ الشهيد لسان وقته وواحد عصره أبى على الدقاق والشيخ شيخ وقته أبى عبد الرحمن السلمى وأبى الحسن على بن جهضم مجاور الحرم والشيخ أبى العباس القصاب بطبرستان وأحمد الاسود الدينوري وأبى القاسم الصيرفى بنيسابور وأبى سهل الخشاب الكبير بها ومنصور بن خلف المغربى وأبى سعيد الماليني وأبى طاهر الجحدرى قدس الله ارواحهم وغيرهم
فإن هؤلاء المشايخ مثل أبى العباس القصاب له من التصانيف المشهورة في السنة ومخالفة طريقة الكلابية الأشعرية ما ليس هذا موضعه
وكذلك سائر شيوخ المسلمين من المتقدمين والمتأخرين الذين لهم لسان صدق في الأمة كما ذكر الشيخ يحيى بن يوسف الصرصري ونظمه في قصائده عن الشيخ على بن إدريس شيخه أنه سأل قطب العارفين أبا محمد عبد القادر بن عبد الله الجيلى فقال يا سيدي هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل فقال ما كان ولا يكون
وكذلك نقل الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد السهروردى وحدثنيه عنه الشيخ عز الدين عبد الله بن أحمد بن عمر الفاروثي أنه سمع هذه الحكاية منه ووجدتها معلقة بخط الشيخ موفق الدين أبي محمد بن قدامة المقدسى قال السهروردى كنت عزمت على أن أقرأ شيئا من علم الكلام وأنا متردد هل أقرأ الإرشاد لإمام الحرمين أو نهاية الإقدام للشهرستاني أو كتاب شيخه فذهبت مع خالي أبي النجيب وكان يصلى بجنب الشيخ عبد القادر قال فالتفت الشيخ عبد القادر وقال لي يا عمر ما هو من زاد القبر ما هو من زاد القبر فرجعت عن ذلك فأخبر أن الشيخ كاشفه بما كان في قلبه ونهاه عن الكلام الذي كان ينسب إليه القشيرى ونحوه
وكذلك حدثني الشيخ أبو الحسن بن غانم أنه سمع خاله الشيخ إبراهيم بن عبد الله الأرومي أنه كان له معلم يقرئه وأنه أقرأه اعتقاد الأشعرية المتأخرين قال فكنت أكرر عليه فسمع والذي والشيخ عبد الله الارميني قال فقال ما هذا يا إبراهيم فقلت هذا علمنيه الأستاذ فقال يا إبراهيم اترك هذا فقد طفت الأرض واجتمعت بكذا وكذا ولى لله فلم أجد أحدا منهم على هذا الاعتقاد وإنما وجدته على اعتقاد هؤلاء وأشار إلى جيرانه أهل الحديث والسنة من المقادسة الصالحين إذ ذاك
وحدثني أيضا الشيخ محمد بن أبي بكر بن قوام أنه سمع جده الشيخ أبا بكر بن قوام يقول إذا بلغك عن اهل المكان الفلانى سماه لى الشيخ محمد إذا بلغك أن فيهم رجلا مؤمنا أو رجلا صالحا فصدق وإذا بلغك أن فيهم وليا لله فلا تصدق فقلت ولم يا سيدي قال لأنهم أشعرية وهذا باب واسع
ومن نظر في عقائد المشايخ المشهورين مثل الشيخ عبد القادر والشيخ عدى بن مسافر والشيخ أبي البيان الدمشقي وغيرهم وجد من ذلك كثيرا ووجد أنه من ذهب إلى مذهب شئ من أهل الكلام وإن كان متأولا ففيه بعض نقص وانحطاط عن درجة أولياء الله الكاملين ووجد أنه من كان ناقصا في معرفة اعتقاد أهل السنة واتباعه ومحبته وبعض ما يخالف ذلك وذمه بحيث يكون خاليا عن اعتقاد كمال السنة واعتقاد البدعة تجده ناقصا عن درجة أولياء الله الراسخين في معرفة اعتقاد أهل السنة واتباع ذلك وقد جعل الله لكل شئ قدرا
وما ذكره أبو القاسم في رسالته من اعتقادهم وأخلاقهم وطريقتهم فيه من الخير والحق والدين أشياء كثيرة ولكن فيه نقص عن طريقة أكثر أولياء الله الكاملين وهم نقاوة القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم ولم يذكر في كتابه أئمة المشايخ من القرون الثلاثة ومع ما في كتابه من الفوائد في المقولات والمنقولات ففيه أحاديث وأحاديث ضعيفة بل باطلة وفيه كلمات مجملة تحتمل الحق والباطل رواية ورأيا وفيه كلمات باطلة في الرأي والرواية وقد جعل الله لكل شئ قدرا
وقال تعالى كونوا قوامين بالقسط شهداء لله على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا سورة النساء 135
فكتبت من تمييز ذلك ما يسره الله واجتهدت في اتباع سبيل الأمة الوسط الذين هم شهداء على الناس دون سبيل من قد يرفعه فوق قدره في اعتقاده وتصوفه على الطريقة التي هي أكمل وأصح مما ذكره علما وحالا وقولا وعملا واعتقادا واقتصادا أو يحطه دون قدره فيهما ممن يسرف في ذم أهل الكلام أو يذم طريقة التصوف مطلقا والله أعلم
والذي ذكره أبو القاسم فيه الحسن الجميل الذي يجب اعتقاده واعتماده وفيه المجمل الذي يأخذ المحق والمبطل وهذان قريبان وفيه منقولات ضعيفة ونقول عمن لا يقتدي بهم في ذلك فهذان مردودان وفيه كلام حمله على معنى وصاحبه لم يقصد نفس ما أراده هو ثم إنه لم يذكر عنهم إلا كلمات قليلة لا تشفى في هذا الباب وعنهم في هذا الباب من الصحيح الصريح الكبير ما هو شفاء للمقتدى بهم الطالب لمعرفة أصولهم وقد كتبت هنا نكتا يعرف بها الحال
قال القشيرى رحمه الله اعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد صانوا بها عقائدهم عن البدع ودانوا بما وجدوا عليه من السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل
قلت هذا كلام صحيح فإن كلام أئمة المشايخ الذين لهم في الأمة لسان صدق كانوا على ما كان عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل وهذه الجملة يتفق على إطلاقها عامة الطوائف المنتسبين إلى السنة وإن تنازعوا في مواضع هل هي تمثيل أو تعطيل
قال أبو القاسم عرفوا ما هو حق القدم وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم وكذلك قال سيد هذه الطائفة الجنيد رضي الله عنه التوحيد إفراد القدم من الحدث
قلت هذا الكلام فيه إجمال والمحق يحمله محملا حسنا وغير المحق يدخل فيه أشياء
والقشيري مقصوده ما يذكره أهل الكلام من تنزيه القديم عن خصائص المحدثات وهذا متفق عليه بين المسلمين لكن التنازع بينهم في كثير من الصفات هل هي من خصائص المحدثات التي يجب تنزيه القديم عنها أو هي من لوازم الوجود التي يكون نفيها تعطيلا
وأما الجنيد فمقصوده التوحيد الذي يشير إليه المشايخ وهو التوحيد في القصد والإرادة وما يدخل في ذلك من الإخلاص والتوكل والمحبة وهو ان يفرد الحق سبحانه وهو القديم بهذا كله فلا يشركه في ذلك محدث وتمييز الرب من المربوب في اعتقادك وعبادتك وهذا حق صحيح وهو داخل في التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ومما يدخل في كلام الجنيد تمييز القديم عن المحدث وإثبات مباينته له بحيث يعلمه ويشهد أن الخالق مباين للخلق خلافا لما دخل فيه الاتحادية من المتصوفة وغيرهم من الذين يقولون بالاتحاد معينا او مطلقا
ولهذا أنكر هؤلاء على الجنيد قوله هذا كما أنكره عليه ابن العربى الطائي كبير الاتحادية
قال أبو القاسم وأحكموا أصول العقائد بواضح الدلائل ولائح الشواهد كما قال أبو محمد الجريري من لم يقف على علم التوحيد بشاهد من شواهده زلت به قدمه الغرور إلى مهواة التلف قال أبو القاسم يريد بذلك أن من ركن إلى التقليد ولم يتأمل دلائل التوحيد سقط عن متن النجاة ووقع في أسر الهلاك
قلت المشايخ لا يشيرون إلى الطريق التي سلكها المتكلمون من الاستدلال بالأجسام والأعراض وما يدخل في ذلك بل هم منكرون لذلك كما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي وشيخ الإسلام الانصاري وغيرهما عنهم
وأبو القاسم يرى صحة هذه الطريق وهذا من المواضع التي خالف فيها مشايخ القوم
وقد ذكر أبو القاسم في ترجمة الشيخ أبي علي بن الكاتب وقد صحب أبا على الروذبارى وغيره وتأخر بعد الاربعين وثلاثمائة قال المعتزلة نزهوا الله من حيث العقل فأخطأوا والصوفية نزهوه من حيث العلم فأصابوا
قلت العلم في لسان الصوفية ووصاياهم كثيرا ما يريدون به الشريعة كقول أبي يعقوب النهرجوري أفضل الأحوال ما قارن العلم وكقول أبي يزيد عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت أشد على من العلم ومتابعته ولولا اخلتلاف العلماء لبقيت واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد
وهذا كقول سهل بن عبد الله التستري كل فعل تفعله بغير اقتداء طاعة أو معصية فهو عيش النفس وكل فعل تفعله بالاقتداء فهو عذاب على النفس
وقال أبو سليمان الداراني ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة
وقال صاحبه أحمد بن أبي الحواري من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله
وقال أبو حفص النيسابوري من لم يزن أفعاله وأقواله كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال
وقال الجنيد بن محمد الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول ﷺ وقال ايضا من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة
وقال أبو عثمان من امر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة قال الله تعالى وإن تطيعوه تهتدوا سورة النور 54 وقال أبو حمزة البغدادي من علم الطريق إلى الله سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله
ومن لفظ العلم في كلامهم قول أبي عثمان النيسابوري الصحبة مع الله بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع رسول الله ﷺ بأتباع سنته ولزوم ظاهر العلم والصحبة مع أولياء الله تعالى بالاحترام والخدمة والصحبة مع الأهل بحسن الخلق والصحبة مع الإخوان بدوام البشر ما لم يكن أثما والصحبة مع الجهال بالدعاء لهم والرحمة عليهم
ومنه قول أبي الحسين النوري من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعى فلا تقتربن منه وقال أعز الأشياء في زماننا شيئان عالم يعمل بعلمه وعارف ينطق عن حقيقته
وقال أبو عبد الرحمن السلمى سمعت جدى أبا عمرو بن نجيد يقول كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره أكثر على صاحبه من نفعه وسئل عن التصوف فقال الصبر تحت الأمر والنهى
=========
الاستقامة/3
وسبب تعبيرهم عن الشريعة بالعلم أن القوم أصحاب إرادة وقصد وعمل وحال هذا خاصتهم لكن قد يعمل أحدهم تارة بغير العلم الشرعى بل بما يدركه ويجد إرادته في قلبه وإن لم يكن ذلك مشروعا مأمورا به وهذا كثيرا ما يبتلى به كثير منهم من تقديم علمهم بالذوق والوجد على موجب العلم المشروع ومن العمل بذوق ليس معه فيه علم مشروع
ولا ريب أن هذا من اتباع الهوى بغير هدى من الله وهو مما ذم الله به النصارى الذين يضارعهم في كثير من أمورهم المنحرفون من الصوفية والعباد ولهذا جعله سهل من حظ النفس
ولهذا استضعف أبو يزيد متابعة العلم فإن مجاهدة هوى النفس يفعلها غالب النفوس مثل عبادات المشركين وأهل الكتاب من الرهبان وعباد الأنداد ونحوهم وكل ذلك من هذا الباب ولهم من الزهد والمجاهدة في العبادة ما لا يفعله المسلمون لكنه باطل ليس بمشروع ولهذا لا ينتج له من النتائج إلا ما يليق به
والمسلم الصادق إذا عبد الله بما شرع فتح الله عليه أنوار الهداية في مدة قريبة فالمهتدون من مشايخ العباد والزهاد يوصون بإتباع العلم المشروع كما ان أهل الاستقامة من العلم يوصون بعلمهم الذي يسلكه أهل الاستقامة من العباد والزهاد وأما المنحرفون من الطائفتين فيعرضون عن المشروع إما من العلم وإما من العمل وهما طريق المغضوب عليهم والضالين
قال سفيان بن عيينة كانوا يقولون من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى
ولهذا قصد أبو القاسم في الرسالة الرد على هؤلاء ولما ذكر المشايخ الذين ذكرهم قال هذا ذكر جماعة من شيوخ هذه الطائفة كان الغرض من ذكرهم في هذا الموضع التنبيه على أنهم كانوا مجمعين على تعظيم الشريعة متصفين بسلوك طريق الرياضة متفقين على متابعة السنة غير مخلين بشئ من آداب الديانة متفقين على ان من خلا عن المعاملات والمجاهدات ولم يبن أمره على اساس الورع والتقوى كان مفتريا على الله سبحانه فيما يدعيه مفتونا هلك في نفسه وأهلك من اغتر به ممن ركن إلى أباطيله
وإذا عرف معنى لفظ العلم في اصطلاحهم فقول أبي علي بن الكاتب الصوفية نزهوه من حيث العلم أي من جهة الشرع وهو الكتاب والسنة فنزهوه عما نزه عنه نفسه فأصابوا وأما المعتزلة فنزهوه بقياس عقلهم وأهوائهم أرادوا ان ينفوا عنه كل صفة موجودة لظنهم أن ذلك تشبيه ولم يهتدوا إلى أن الخالق يوصف بما يليق به والمخلوق يوصف بما يليق به وأن الاسم وإن كان متفقا فالإضافة إلى الله تخصصه وتقيده بما ينفى عنه مماثلة الخلق
وهذا الذي ذكره الشيخ أبو علي من أن الصوفية يخالفون المعتزلة فأمر متفق عليه فإن أصول الصوفية لا تلائم نفى الصفات بل هم أبعد الناس عن الاعتزال في الصفات والقدر
ومن المعلوم أن طريقة الكلام في الجواهر والأعراض في أدلة أصول الدين ومسائله هي الطريقة التي سلكها المعتزلة وأخذها عنهم متكلمة الصفاتية من الأشعرية ونحوهم وهي الطريقة التي أشار إليها أبو القاسم
فعلم أن القوم مخالفون لهذه الطريقة الكلامية التي أشار أبو القاسم إلى بعضها وكذلك قد ذكر أبو القاسم في ترجمة الشيخ أبي الحسن بن الصايغ وزمنه زمن ابن الكاتب سنة ثلاثين وثلاثمائة قال وكان من كبار المشايخ وقال قال ابو عثمان المغربي ما رأيت من المشايخ أنور من ابي يعقوب النهرجوري ولا أكثر هيبة من ابي الحسن بن الصايغ
قال القشيرى سئل ابن الصايغ عن الاستدلال بالشاهد على الغائب فقال كيف يستدل بصفات من له مثل ونظير على صفات من لا مثل له ولا نظير
والاستدلال بالشاهد على الغائب في إثبات الصفات هي طريقة شيوخ أبي القاسم من المتكلمين الذين يجمعون بين الشاهد والغائب في الحد والدليل والشرط والعلم لإثبات الحياة والعلم وسائر الصفات فقد رد الشيخ أبو الحسن هذه الطريقة
ومما يبين هذا أن أعظم المشايخ الذين أخذ عنهم أبو القاسم جمعا لكلام مشايخ الصوفية وتأليفا له ورواية له هو الشيخ أبو عبد الرحمن السلمى فإن القشيرى لم يدرك شيخا أجمع لكلام القوم وأحرص على ذلك وأرغب فيه منه ولهذا صنف في ذلك ما لم يصنفه نظراؤه
كما أن الذين أدركوا عصر أبي القاسم من مشايخ القوم لم يكن فيهم أقوم بهذا الباب من شيخ الإسلام أبى إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروى لا سيما في المعرفة بأخبار القوم وكلامهم وطريقهم فإنه في ذلك ونحوه من أعلم الناس وكان إماما في الحديث والتفسير وغير ذلك
ومع هذا فالشيخ أبو عبد الرحمن وشيخ الإسلام كلاهما له مصنف مشهور في ذم طريقة الكلام التي يدخل فيها كثير مما ذكره أبو القاسم من الدلائل والمسائل
حتى ذكر شيخ الإسلام في كتابه قال سمعت أحمد بن أبي نصر يقول رأينا محمد بن الحسين السلمي يلعن الكلابية
ومحمد بن الحسين السلمي هو الشيخ أبو عبد الرحمن أعرف مشايخ أبي القاسم القشيري بطريقة الصوفية وكلامهم ومعلوم أن القوم من أبعد الناس عن اللعن ونحوه لحظوظ أنفسهم ولولا أن ابا عبد الرحمن كان الذي عنده أن الكلابية مباينون لمذهب الصوفية المباينة العظيمة التي توجب مثل هذا لما لعنهم أبو عبد الرحمن هذا
والكلابية هم مشايخ الأشعرية فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمنا وطريقة وقد جمع أبو بكر بن فورك شيخ القشيري كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول ولكن لم يكن كلام ابي عبد الرحمن السلمي قد انتشر بعد فإنه انتشر في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت كتب القاضي أبي بكر بن الباقلانى ونحوه
وقد ذكر ذلك الحافظ أبو القاسم بن عساكر المنتصر لأبي الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري موافقا للشيخ أبي على الأهوازي المصنف في مثالب الأشعري مع كون ابن عساكر رد على الاهوازي ذمه وثلبه له لكن وافقه في ذلك فذكر أبو علي الأهوازي أنه مذقوى مذهبه أقل من ثلاثين سنة والأهوازى توفي سنة خمس وأربعين وأربعمائة
قال ابن عساكر وقوله إن مذ قوى من ثلاثين سنة فلعمري إنه إنما اشتهرت هذه النسبة من الأزمنة في عصر القاضي أبي بكر بن الباقلاني ذي التصانيف المستحسنة المنتشرة في بغداد وغيرها من البلدان والأمكنة
والمقصود هنا أن المشايخ المعروفين الذين جمع الشيخ أبو عبد الرحمن أسماءهم في كتاب طبقات الصوفية وجمع أخبارهم وأقوالهم دع من قبلهم من أئمة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين جمع ابو عبد الرحمن وغيره كلامهم في كتب معروفة وهم الذين يتضمن أخبارهم كتاب الزهد للإمام أحمد وغيره لم يكونوا مذهب الكلابية الأشعرية إذ لو كانت كذلك لما كان أبو عبد الرحمن يلعن الكلابية
وقال شيخ الإسلام الأنصاري سمعت أحمد بن حمزة وأبا علي الحداد يقولان وجدنا أبا العباس أحمد بن محمد النهاوندي على الانكار على أهل الكلام وتفكير الاشعرية وذكرا عظم شأنه في الإنكار على ابي الفوارس القرمسيني وهجر ابنه إياه لحرف واحد قال شيخ الإسلام سمعت أحمد بن حمزة يقول لما اشتد الهجران بين النهاوندي وأبي الفوارس سألوا ابا عبد الله الدينوري فقال لقيت ألف شيخ على ما عليه النهاوندي
وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمى في كتابه في ذم الكلام ما ذكر أيضا شيخ الإسلام أبو اسماعيل الأنصاري فقال أخبرني ابن أحمد حدثنا محمد بن الحسين فقال رأيت بخط أبي عمرو بن مطر يقول سئل ابن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات فقال بدعة ابتدعوها ولم يكن أئمة المسلمين وأرباب المذاهب وأئمة الدين مثل مالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى وابن المبارك ومحمد بن يحيى وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف يتكلمون في ذلك وينهون عن الخوض فيه ويدلون أصحابهم على الكتاب والسنة فإياك والخوض فيه والنظر في كتبهم بحال
وقال محمد بن الحسين وهو أبو عبد الرحمن السلمى سمعت أحمد بن سعيد المعداني بمرو سمعت أبا بكر بن بسطام سألت أبا بكر بن سيار عن الخوض في الكلام فنهاني عنه أشد النهي وقال عليك بالكتاب والسنة وما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين فإني رأيت المسلمين في أقطار الأرض ينهون عن ذلك وينكرونه ويأمرون بالكتاب والسنة
قال شيخ الإسلام أبو اسماعيل الأنصاري أخبرنا أحمد بن محمد بن العباس بن إسماعيل المقرى اخبرنا محمد بن عبد الله بن البيع وهو الحافظ الحاكم سمعت أبا سعيد عبد الرحمن بن محمد المقرىء سمعت أبا بكر محمد بن اسحاق بن خزيمة يقول من نظر في كتبي المصنفة في العلم ظهر له وبان بأن الكلابية لعنهم الله كذبة فيما يحكون عني مما هو خلاف أصلى وديانتي قد عرف أهل الشرق والغرب انه لم يصنف أحد في التوحيد وفي أصول العلم مثل تصنيفي فالحاكي عني خلاف ما في كتبي المصنفة التي حملت إلى الآفاق شرقا وغربا كذبة فسقة
وقال شيخ الإسلام وأخبرني أحمد بن حمزة حدثنا محمد بن الحسين وهو أبو عبد الرحمن السلمى يقول بلغني أن بعض أصحاب أبي علي الجوزاني سأله كيف الطريق إلى الله قال أصح الطرق وأعمرها وأبعدها من الشبه اتباع الكتاب والسنة قولا وفعلا وعقدا ونية لأن الله يقول وتطيعوه تهتدوا سورة النور 54 فسأله كيف طريق اتباع السنة قال بمجانبة البدع واتباع ما اجتمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام وأهله والتباعد عن مجالس الكلام واهله ولزوم طريقة الاقتداء والاتباع بذلك أمر النبي ﷺ بقوله تعالى ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة ابراهيم حنيفا سورة النحل 123
قال شيخ الإسلام أخبرني طب بن أحمد حدثنا محمد بن الحسين وهو أبو عبد الرحمن سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن شاذان الرازي سمعت أبا جعفر الفرغاني سمعت الجنيد بن محمد يقول أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب من القلب والقلب إذا عرى من الهيبة من الله عرى من الإيمان
قال أبو القاسم ونحن نذكر في هذا الفصل جملا من متفرقات كلامهم فيما يتعلق بمسائل الأصول ثم نحرر على الترتيب بعدها ما يشتمل على ما يحتاج إليه في الاعتقاد على وجه الإيجاز سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى يقول سمعت عبد الله بن موسى السلامى يقول سمعت الشبلى يقول جل الواحد المعروف قبل الحدود وقبل الحروف قال وهذا صريح من الشبلى رضي الله عنه أن القديم لا حد لذاته ولا حروف لكلامه
قلت هذا الكلام فيه استدراك من وجوه
أحدها أن الذي قال إنه تعالى معروف قبل الحدود وقبل الحروف لم يرد أن الخلق عرفوه قبل ذلك فإنه قبل الخلق لم يكن خلق يعرفونه وإنما أراد أنه عرف أنه كان قبل الحدود وقبل الحروف فالظرف وهو قبل متعلق بالضمير في معروف لا بنفس المعرفة اللهم إلا أن يريد أنه يعرف نفسه قبل الحدود وقبل الحروف فيكون هو العارف وهو المعروف وهذا معنى صحيح يحتمله الكلام والمقصود أنه كان قبل ذلك
ومعلوم ان اللام للتعريف فإذا كان قبل الحدود وقبل الحروف فإنما اراد الحدود المعروفة لنا والحروف المعروفة لنا وهي ما كان هو قبلها وتلك ما للمخلوق من الحدود والحروف ولا ريب أن الله كان قبل حدود المخلوقات وقبل أصوات العباد ومدادهم فأما أن يكون هذا يقتضي أن الله لم يتكلم بحرف أو ليس له حقيقة في ذاته يتميز بها عن مخلوقاته فليس هذا الكلام صريحا فيه إذ لو أراد ذلك لقال المنزه عن الحدود والحروف ولم يقل قبل الحدود والحروف فإن ما كان الرب قبله فهو صفة المخلوق وأما ما ينزه الرب عنه فهو ممتنع ليس هو صفة له ولا هو أيضا بعينه صفة للمخلوق وإن كان المخلوق قد يوصف بنظيره
الوجه الثاني أن الكلام المجمل من كلامهم يحمل على ما ينسب سائر كلامهم وهؤلاء أكثر ما يبتلون بالاتحادية والحلولية الذين يجعلون الرب حالا في المخلوقات محدودا بحدودها متكلما بحروفها حتى يجعلونه هو المتكلم على ألسنتهم كما ذكر ذلك أبو القاسم في أول الرساله لما ذكر ما أحدثه فاسدو الصوفية حيث قال زال الورع وطوى بساطه واشتد الطمع وقوى رباطه وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة وعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام واستخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة وركضوا إلى ميدان الغفلات وركنوا إلى اتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال فأدعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال وتحققوا بحقائق الوصال وأنهم قائمون بالحق تجرى عليهم أحكامه وهم محو ليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية واختطفوا عنهم بالكلية وزالت عنهم أحكامه البشرية وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا بل صرفوا
وهؤلاء كثيرون في المنتسبين إلى الصوفية وعلى مثل ذلك قتل الحلاج
فالشبلي وأمثاله يريدون أن يميزوا بين المخلوق والخالق لنفي مذهب الاتحاد والحلول كما نقل عن الجنيد إفراد القدم عن الحدث وكما قال أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب ليس في مخلوقاته شئ من ذاته ولا في ذاته شئ من مخلوقاته فذكر أنه معروف قبل الحدود والحروف وهي ما عرف من حدود المخلوقين وحروفهم وإذا كان معروفا قبل ذلك لم يكن محدودا بحدودهم ولا متكلما بكلامهم
الوجه الثالث أن أصول اعتقاد أئمة الطريق إلى الله لا يؤخذ مما يحكى عن مثل الشبلى ولو كانت الحكاية صادقة لما عرف من حال الشبلي وانه كان يغلب عليه الوجد حتى يزول عقله وتحلق لحيته ويذهبوا به إلى المارستان ويسقط عنه التمييز بين الحق والباطل
ومن كان بهذه الحالة لم يجز أن يجعل كلامه وحده أصلا يفرق به بين أئمة الهدى والضلال والسنة والبدعة والحق والباطل لكن يقبل من كلامه ما وافق فيه أئمة المشايخ وهو ما دل عليه الكتاب والسنة
وأقبح من ذلك أن يعتمد في اعتقاد أولياء الله في أصول الدين على كلام لم ينقل مثله إلا عن الحلاج وقد قتل على الزندقة وأحسن ما يقوله الناصر له إنه كان رجلا صالحا صحيح السلوك لكن غلب عليه الوجد والحال حتى عثر في المقال ولم يدر ما قال
وكلام السكران يطوى ولا يروى فالمقتول شهيد والقاتل مجاهد في سبيل الله دع ما يقوله من ينسبه إلى المخاريق وخلط الحق بالباطل
وليس أحد من مشايخ الطريق لا أولهم ولا آخرهم يصوب الحلاج في جميع مقاله بل اتفقت الأمة على انه إما مخطئ وإما عاص وإما فاسق وإما كافر ومن قال إنه مصيب في جميع هذه الأقوال المأثورة عنه فهو ضال بل كافر بأجماع المسلمين وإذا كان كذلك كيف يجوز أن يجعل عمدة لاهل طريق الله كلام لم يؤثر إلا عنه ولا يذكر في اعتقاد مشايخ طريق الله كلام أبسط منه وأكثر
وهو ما قال فيه أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمى قال سمعت محمد بن محمد بن غالب قال سمعت أبا نصر أحمد بن سعيد الأسفنجاني يقول قال الحسين بن منصور ألزم الكل الحدث لأن القدم له فالذي بالجسم ظهوره فالعرض يلزمه والذي بالأداة اجتماعه فقواها تمسكه والذي يؤلفه وقت يفرقه وقت والذي يقيمه غيره فالضرورة تمسه ولذي الوهم يظفر به فالتصوير يرتقى إليه ومن آواه محل ادركه أين ومن كان له جنس طالبه بكيف إنه سبحانه لا يظله فوق ولا يقله تحت ولا يقابله حد ولا يزاحمه عند ولا يأخذه خلف ولا يحده أمام ولم يظهره قبل ولم يفنه بعد ولم يجمعه كل ولم يوجده كان لم يفقده ليس وصفة لا صفة له وفعله لا علة له وكونه لا أمد له تنزه عن أحول خلقه ليس له من خلقه مزاج ولا في فعله علاج باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم إن قلت متى فقد سبق الوقت ذاته وإن قلت هو فالهاء والواو خلفه وإن قلت أين فقد تقدم المكان وجوده فالحروف آياته ووجوده إثباته ومعرفته توحيده وتوحيده تمييزه من خلقه ما تصور في الأوهام فهو بخلافه كيف يحل به ما منه بدأ أو يعود إليه ما هو أنشأ لا تماثله العيون ولا تقابله الظنون قربه كرامته وبعده إهانته علوه من غير توقل ومجيئه من غير تنقل هو الأول والآخر والظاهر والباطن والقريب البعيد ليس كمثله شئ وهو السميع البصير
قلت هذا الكلام والله أعلم هل هو صحيح عن الحلاج أم لا فإن في الإسناد من لا أعرف حاله وقد رأيت أشياء كثيرة منسوبة إلى الحلاج من مصنفات وكلمات ورسائل وهي كذب عليه لا شك في ذلك وإن كان في كثير من كلامه الثابت عنه فساد واضطراب لكن حملوه أكثر مما حمله وصار كل من يريد أن يأتي بنوع من الشطح والطامات يعزوه إلى الحلاج لكون محله أقبل لذلك من غيره ولكون قوم ممن يعظم المجهولات الهائلة يعظم مثل ذلك فإن كان هذا الكلام صحيحا فمعناه الصحيح هو نفي مذهب الاتحاد والحلول الذي وقع فيه طائفة من المتصوفه ونسب ذلك إلى الحلاج فيكون هذا الكلام من الحلاج ردا على أهل الاتحاد والحلول وهذا حسن مقبول وأما تفسيره بما يوافق رأى أبي القاسم في الصفات فلا يناسب هذا الكلام
وقد يقال إن هذا الكلام فيه من الشطح ما فيه وما زال اهل المعرفة يعيبون الشطح الذي دخل فيه طائفة من الصوفية حتى ذكر ذلك أبو حامد في إحيائه وغيره وهو قسمان شطح هو ظلم وعدوان وإن كان من ظلم الكفار وشطح هو جهل وهذيان والإنسان ظلوم جهول
قال أبو حامد وأما الشطح فنعنى به صنفين من الكلام أحدثه بعض المتصوفة
أحدهما الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله والوصال المغنى عن الاعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب فيقولون قيل لنا كذا وقلنا كذا ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس
قال والصنف الثاني من الشطح كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائعة وفيها عبارات هائلة وليس ورائها طائل وهي إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشوش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره
قال ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان
قلت وهذا الكلام المحكى عن الحلاج فيه ما هو باطل وفيه ما هو مجمل محتمل وفيه ما لا يتحصل له معنى صحيح بل هو مضطرب وفيه ما ليس في معناه فائدة وفيه ما هو حق لكن اتباع ذلك الحق من غير طريق الحلاج أحسن وأشد وأنفع
فقوله ألزم الكل الحدث لأن القدم له يتضمن حقا وهو أنه سبحانه القديم وما سواه محدث ولكن ليس تعليله مستقيما ولا العبارة سديدة فإن قوله ألزم الكل الحدث ظاهره أنه جعل الحدوث لازما لهم كما تجعل الصفات لازمة لموصوفها مثل الأكوان والألوان وغير ذلك
وليس كذلك بل الحدوث لهم هو من لوازم حقيقتهم فلا يمكن المخلوق أن يكون غير محدث حتى يلزم بذلك بل هذا مثل قول القائل ألزم المخلوق أن يكون مخلوقا وألزم المصنوع أن يكون مصنوعا
وأما تعليل ذلك بقوله لأن القدم له فليس كون القدم له هو الموجب لحدوثهم إذ كونه موصوفا بصفة لا يمنع أن يوصف المخلوق بما يليق به من تلك الصفة كما أن العلم له والحياة والكلام والسمع والبصر وللمخلوق أيضا علم وحياة وكلام وسمع وبصر فقد قال الله تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين سورة المنافقون 8
فتعليل إلزام الحدوث لهم بأن القدم له كلام ساقط بل المخلوق محدث لنفس ذاته وعين حقيقته مثل كونه مربوبا ومصنوعا وفقيرا ومحتاجا فإن هذه الصفات الناقصة المتضمنة احتياجاته إلى الله وربوبية الله ثبتت له لنفس حقيقته
وإلزامه إياه الحدث يقتضي نفى القدم عنه ونفى أنه على كل شئ قدير وأنه بكل شئ عليم وأنه مستغن بنفسه عما سواه فآنتفاء هذه الصفات عنه هو ليس لأمر وجودي ولا لأجل أن الله متصف بها بل هذه الصفات يمتنع ثبوتها له ولكن قد تفسر بتأويل حسن كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى
وقوله فالذي بالجسم ظهوره فالعرض يلزمه هذا الكلام يتضمن ثبوت الجسم وشئ ظهر بالجسم وعرض يلزمه وعند الذين نصر أبو القاسم طريقتهم وسائر أهل الكلام ليس في المخلوق إلا جسم أو عرض اذالجوهر الفرد جزء من الجسم فهذا الكلام لا يوافقه ثم إنه في نفسه قد يقال هو من جنس الشطح لا حقيقة
فما الذي بالجسم ظهوره أهو الجسم أم غيره إن كان هو الجسم لم يصح أن يقال الذي ظهوره هو الجسم وإن كان غيره وسلم ذلك له فما الموجب لتخصيص ذلك بالكلام فيه دون الجسم والعرض يلزم الجسم أبين من لزومه ما ليس بجسم
ثم إذا قيل إن العرض يلزمه هو طريقة بعض أهل الكلام المحدث في الاستدلال على حدوث الأجسام بلزوم الأعراض لها وفي هذه الطريقة من الاضطراب ما قد ذكرناه في موضعه وليست هذه طريقة المشايخ والعارفين
ومن أحسن ما يحمل عليه هذا الكلام أن قائله إن أراد به إبطال مذهب الحلول والاتحاد وظهور اللاهوت في الناسوت وأن الرب سبحانه ليس حالا في شئ من المخلوقات ولا يظهر في شئ من الأجسام المصنوعات كما يقوله من يقول إنه ظهر في المسيح وفي علي وفي الحلاج ونحو ذلك كما يقوله أهل التعيين منهم وكما يقوله من يقول بذلك في جميع المصنوعات على مذهب ابن العربي وابن سبعين ونحوهم فقوله ألزم الكل الحدث أي جعله لازما لهم لا يفارقهم فلا يصير المحدث قديما
وقوله الذي بالجسم ظهوره يعني أي شئ ظهر بهذه الأجسام مما يظن أنه الحق وأنه ظاهر في الأجسام فالعرض يلزم ذلك الظاهر في الجسم كما يلزم ذلك الجسم وحينئذ فيكون الظاهر في الجسم بمنزلة نفس الجسم ليس بأن يجعل أحدهما ربا خالقا والآخر مخلوقا بأولى من العكس
وكذلك قوله الذي بالأداة اجتماعه فقواها تمسكه هذا رد على من يقول بقدم الروح أو بحلول الخالق في المخلوق فإن أدوات الإنسان وهي جوارحه وأعضاؤه بها يكون اجتماع ذلك وقوى الأدوات تمسك ذلك فيكون مفترا إليها محتاجا والمحتاج إلى غيره لا يكون حقا غنيا بنفسه فلا يكون هو الله وليس في هذا تعرض لصفات الحق في نفسه نفيا وإثباتا بقبول مذهب ورد مذهب إذ لم يقل احد من الخلق ان الحق يجتمع بالادوات حتى ان من وصفه بالجوارح والأعضاء من ضلال المجسمة لا يقولون إن اجتماعه بها
وإن أريد بآجتماعه بها أنه لا بد له منها فقوله فقواها تمسكه هو مثل قوله إنه لا بد له منها لا يكون أحدهما إبطالا للآخر بل لزوم ذلك عندهم كلزوم صفاته له وليس في ذلك فقر منه إلى غيره كما أنه قائم بنفسه غنى بنفسه ولا يقال إنه مفتقر إلى غيره إذ ما هو من لوازم ذاته هو داخل في اسمه فلا يكون مفتقرا إلى غيره
وكذلك قوله الذي يؤلفه وقت يفرقه وقت هذا منطبق على إفساد مذهب الاتحادية فإن الآدمي تأليفه وتركيبه في بعض الأوقات كما يكون تفريقه في بعض الاوقات فلا يكون التأليف ولا التفريق لازما له بل هو محتاج فيهما إلى غيره وكذلك ما يقال إنه يتحد فيه أو يتحد به من اللاهوت هو مفارق له في وقت آخر
وأما قوله الذي يقيمه غيره فالضرورة تمسه فهذا كلام حسن وهو حق وكل ما سوى الله فإنما يقيمه غيره والله هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم الذي يقوم بنفسه ويقيم كل شئ وكل ما يقيمه غيره فهو مضطر إلى ذلك الغير فلا يكون ربا وهذا فيه دلالة على أنه ليس في شئ من الإلهية والربوبية إذ الضرورة لازمة لهم كلهم
وأما قوله الذي الوهم يظفر به فالتصوير يرتقي إليه فقد يقال فيه شيئان
أحدهما أن ما يتوهمه العبد لا يكون إلا ضرورة مصورة لكن هذا لا يدل على فساد ما يتوهم ولا على فساد الصورة
والثاني يكون المراد بالتصوير تصوير الإنسان في نفسه له فيكون تصويره مثل ظفر الوهم به فيعود الأمر إلى أن يقال ما يتوهمه العبد فقد تصوره وهذا لا فائدة فيه وذلك أن التصوير إما أن يراد به أنه في ذاته مصور أو يراد أن العبد تصوره في نفسه إذ ليست الصورة إلا عينية خارجة موجودة في الخارج أو ذهنية في نفس الإنسان مثلا ونحوه مما يتصور فيه والكلام إذا كان تكريرا بلا فائدة كان من الشطح وإن كان بلا حجة كان دعوى وقوله من آواه محل أدركه أين استدلال منه على انتفاء إيواء المحل بآنتفاء الأين وهذه ساقطة فإن العلم به أظهر من العلم بآنتفاء الأين عنه فإن عامة أهل السنة وسلف الأمة وأئمتها لا ينفون عنه الأين مطلقا لثبوت النصوص الصحيحة الصريحة عن النبي ﷺ بذلك سؤالا وجوابا
فقد ثبت في الصحيح عنه انه قال للجارية أين الله قالت في السماء وكذلك قال ذلك لغيرها
وقال له أبو رزين العقيلي أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض قال في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ثم خلق عرشه على الماء
ومن نفي الأين عنه يحتاج إلى أن يستدل على انتفاء ذلك بدليل
أما أن يجعل انتفاء الأين عنه دليلا فهذا لا يقوله عاقل ومن نفى الأين قال لأن الأين سؤال عن المكان يقول والله ليس في المكان لأن المكان لا يكون إلا للجسم والله ليس بجسم لأن الجسم لا يكون إلا محدثا ممكنا فلا بد له من هذه المقدمات أو ما يناسبها
ثم المثبت لما جاءت به السنة يرد عليه بمنع بعض هذه المقدمات والتفصيل فيها أو بعضها وبيان الحق في ذلك من الباطل مثل أن يقال المكان يراد به ما يحيط بالشئ والله لا يحيط به مخلوق أو يراد به ما يفتقر إليه الممكن والله لا يفتقر إلى شئ وقد يراد بالمكان ما يكون الشئ فوقه والله فوق عرشه فوق سماواته فلا يسلم نفى المكان عنه بهذا التفسير
ونقول قد وردت الآثار الثابتة بإثبات لفظ المكان فلا يصح نفيه مطلقا وكذلك نقول في سائر المقدمات فظهر أن هذا الكلام لا تصح دلالته إلا أن يراد به نفي الاتحاد والحلول فيكون المعنى لو آواه بطن مريم أو جسد واحد من البشر كما قد يقول بعض ذلك بعض الحلولية لكان الأين يلزمه كما يلزم محله ففرق بين أحدهما والآخر في جعل هذا خالقا وهذا مخلوقا
وأما نفس المعنى المقصود بنفى أيواء المحل عنه فإنه صحيح إذا قصد به أنه لا فوقه شئ من المخلوقات فتحيط به أو يكون الرب مفتقرا إليه
وأما إن قصد أنه ليس فوق العرش فهذا باطل ولكن لفظ إيواء المحل بالمعنى الاول أشبه
وأما قوله من كان له جنس طالبه بكيف فهو نمط الذي قبله فإنه يتضمن نفي المجانسة عنه بآنتفاء طلب الكيف والعلم بأن الله ليس له مثل ولا سمي ولا كفو أبين من العلم بأنه لا يقال له كيف فإن كثيرا من الناس دخلت عليهم الشبهة فطلبوا التكييف حتى بين لهم أن الكيف غير معلوم لنا
فالذي ثبت نفيه بالشرع والعقل واتفاق السلف إنما هو علم العباد بالكيفية وسؤالهم عن الكيفية التي لا يمكن معرفتها بخلاف المجانسة فإنها منتفية عنه في نفس الأمر فكيف نجعل هذا دليلا على الآخر
ولو قلب العبارة وقال فالذي يطلب له كيف له جنس لكان قد سلك سبيل الاستدلال لكن قد لا يسلم له ذلك ويقال له من أين تعلم ان كل ما يقال له كيف يجب أن يكون له مثل يجانسه
وحينئذ يمكن الاستدلال على ذلك بما ليس هذا موضعه ولعل المتكلم بهذا الكلام قصد هذا المعنى مع أنه في نفي السؤال بكيف كلام قد ذكرناه في غير هذا الموضع
وأما قوله لا يظله فوق ولا يقله تحت ولا يقابله حد ولا يزاحمه عند ولا يأخذه خلف ولا يحده أمام ولم يظهره قبل ولم يفنه بعد ولم يجمعه كل ولم يوجده كان ولم يفقده ليس فهذا الكلام أكثره مجمل وفيه ما هو حق وفيه ما هو باطل
فقوله لا يظله فوق حق إذ ظاهره أن الله ليس فوقه شئ وكذلك قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح أنت الأول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ
واما قوله لا يقله تحت فإن اراد به أن الله ليس فوق الخلق فهذا ليس بحق والنبي ﷺ لما قال أنت الظاهر فليس فوقك شئ لم يقل لست فوق شئ بل قال انت الباطن فليس دونك شئ ولم يقل ليس لك دون ولا قال لست موصوفا بالفوق ففرق بين قوله ليس دونه شئ وليس شئ فوقه وبين قوله ليس موصوفا بفوق وما هو موصوف بتحت
وأما قوله لا يقابله حد ولا يزاحمه عند فظاهره باطل إذ ظاهره أن الله لا يقابله شئ من المخلوقات ولا تنتهي إليه المحدودات ولا يكون عنده شئ من المخلوقات وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع سلف الامة
فإن الله تعالى يقول إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون سورة الأعراف 206
وقال وله من في السماوات ومن في الأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون سورة الأنبياء 19
وقال إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه سورة فاطر 10
وقال تعالى يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى سورة آل عمران 55
وقال تعرج الملائكة والروح إليه سورة المعارج 4
وقال النبي ﷺ في الأحاديث المستفيضة إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر
وقوله لا يأخذه خلف ولا يحده أمام كلام مجمل والله موصوف في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بأن المخلوق يكون أمامه وبين يديه في غير موضع فلا يجوز نفي ذلك عنه
وأما قوله ولم يظهره قبل ولم يفنه بعد فظاهره صحيح فإن ظاهره أنه ما ظهر بقبل كان قبله ولا يفنى فيكون شئ بعده وهذا حق فهو سبحانه كما قال النبي ﷺ أنت الأول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ
وأما قوله ولم يجمعه كل ولم يوجده كان ولم يفقده ليس ففيه إجمال فإن أراد أنه لا يقال كان الله فهذا باطل
ففي الصحيح عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ أن أهل اليمن قالوا يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله ولم يكن شئ قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شئ
وكذلك إن اراد أنه لا يوصف بليس فإن الله ينفى عنه أشياء كما ثبتت له أشياء وإن أراد أنه لم يوجد بكان ولا يفقد بليس فهذا حق فإنه ليس بمحدث في وقت دون وقت ولا يجوز عليه العدم فلا حدث بكان ولا يفقد بليس
وأما قوله وصفه لا صفة له فمجمل فإن اراد أن صفاته لا توصف بالكلام فالله ورسوله قد وصف صفاته مثل وصف علمه بأنه بكل شئ محيط وقدرته بعمومها وأنه على كل شئ قدير ورحمته بأنها وسعت كل شئ
وإن أراد أن العبد لا تحيط صفته بصفة ربه فحق وما أظنه أراد ما يريده بعض المتكلمين من أن صفة لا تقوم بها صفة لأن العرض لايقوم بالعرض بل تكون الصفتان والعرضان جميعا قائمين بالعين
وأما قوله فعله لا علة له فمجمل وهو اقرب إلى الحق إن أراد أنه لم يفعل شيئا لعلة من غيره فهذا حق وإن أراد أنه لم يفعل الأشياء لعلة من نفسه مثل مشيئته وإرادته وعلمه فهذا ليس بحق والأشبه أنه أراد المعنى الأول
واما قوله كونه لا أمد له فهذا حق صحيح
وأما قوله تنزه عن أحوال خلقه فصحيح إذا أراد أنه ليس مثل خلقه في شئ من الأشياء ولكن من جعل في هذا الكلام أنه لا يوصف بالصفات التي تليق به كما يوصف خلقه من تلك الصفات بما يليق بهم فهذا باطل فإنه يوصف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وإن كان خلقه يوصفون بما يليق بهم من ذلك
وأما قوله ليس له من خلقه مزاج ولا في فعله علاج فهو صحيح فإن الله لا عون له ولاظهير كما قال تعالى وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير سورة سبأ 22 بل هو الغني عن جميع خلقه وكذلك سبحانه إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه من المعالجة
وكذلك قوله باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم صحيح وإن كان ما باين الله به خلقه أعم من مجرد القدم فإنه باينهم بجميع صفاته ليس له في شئ منها مثل
وأما قوله إن قلت متى فقد سبق الوقت ذاته فهذا صحيح فأن الله لا يقال متى كان إذ هو القديم الذي لم يزل ولا يزال
وأما قوله إن قلت هو فالهاء والواو خلقه فهو كلام فاسد فإنه إن أراد أنه لا يقال هو فهذا خلاف إجماع المسلمين وسائر الأمم وهو فاسد بضرورة العقل والشرع
قال تعالى هو الأول والآخر سورة الحديد 3 وقال وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش سورة هود 7 وقال وهو الغفور الودود سورة البروج 14 وهو معكم أين ما كنتم سورة الحديد 4
وفي القرآن من ذكر هو أكثر من أن يحصر هنا فنفي قول هو من أعظم الباطل
وإن أراد أن يقال ما هو لعدم العلم بحقيقته فلا يصلح أن يدل على ذلك بقوله فالهاء والواو خلقه فإن هذا لو كان حجة لصح أن يحتج به في متى وأين وبتقدير كون الحروف مخلوقة لا يصلح أن يحتج بذلك على نفى الإخبار بها عن الله أو الإستفهام بها عن بعض شؤوونه وصفاته وإدخال لفظ هو بين متى وأين يدل على أنه أراد الاستفهام
وإن أراد انا إذا قلنا هو فإنما تكلمنا بحروف مخلوقة وإن ذلك يفيد نفى معرفتنا به فهذا من أبطل الكلام فإن القائلين بأن الحروف مخلوقة والحروف غير مخلوقة متفقون على أن الإخبار عنه بهو لا ينفى معرفته فظهر أن قوله الهاء والواو خلقه كلام ليس فيه هنا فائدة بحال
وإذا كان المتكلم بذلك لم يذكر كلاما منتظما مفيدا سواء كان حقا أو باطلا فهو جدير على أن لا يستدل بكلامه على أنه حق أو باطل ثم قال ذلك إن أراد ان نفس أصوات العباد مخلوقة فهذا صحيح وإن أراد أن نفس الحروف حروف القرآن وغيره ما تكلم الله بها وليست من كلامه وهذا خلاف الكتاب والسنة وخلاف سلف الأمة وأئمتها
وأما قوله إن قلت أين فقد تقدم المكان وجوده فحجة ضعيفة لأن وجوده قبل المكان لا يمنع بعد خلق المكان أن يقال وأين هو فإن الأين نسبة وإضافة لا تكون إلا بعد وجود المضاف إليه وأما متى فهو يقتضى حدوث المسؤول عنه فجواب متى يقتضى حدوثه إلا أن يجاب عنها بأنه لم يزل فإذا قال قائل متى كان قيل له لم يزل ولا يزال وأما جواب أين فهو يقتضى علوه وهو علي عظيم ليسبمحدث فلا يشبه أحدهما بالآخر
وأما قوله فالحروف آياته فكلام صحيح وكذلك القرآن هو كلام الله غير مخلوق وهو آياته وكون القرآن بحروفه ومعانيه آياته لا يستلزم كون ذلك مخلوقا
وأما قوله ووجود إثباته فلم يرد به والله أعلم ما يعنيه المتكلم بلفظ الوجود وإنما أراد به ما يريده الصوفية وهو مطابق اللغة يقول وجود العبد له هو إثبات
وأما قوله معرفته توحيده وتوحيده تميزه من خلقه فلا ريب أن هذا إبطال لمذهب الاتحاد والحلول وهو حق وتمييزه من خلقه متفق عليه بين أهل الإيمان ولا يستقيم ذلك إلا إذا كان بائنا من خلقه غير داخل فيهم
وأما قوله ما تصور في الأذهان فهو بخلافه فهو كلام مجمل ومعناه الصحيح أن حقيقة الرب لا يتصورها العبد من تصور شيئا اعتقد انه حقيقة الرب فالله بخلاف ذلك والمعنى الباطل أن يقال كلما تصوره العبد وعقله فهو مخالف للحق فليس الأمر كذلك
وأما قوله كيف يحل به ما منه بدأه أو يعود إليه ما هو أنشأه فكلام مجمل فإن من يقول القرآن مخلوق خلقه الله منفصلا عنه قد يقول مثل هذا الكلام فيقول لايحل القرآن به ولا يقوم بذاته فإنه منه بدأ ولا يعود إليه لأنه أنشأه والقول بأن كلام الله مخلوق منفصل عن قول باطل وهو شعار الجهمية وهو في الحقيقة تكذيب للرسل
وكذلك قوله لا تماقله العيون قد يشعر أنه لا تجوز رؤيته بالعيون وليس الأمر كذلك بل رؤيته بالعيون جائزة والمؤمنين يوم القيامة يرونه عيانا كما قال النبي ﷺ وإن كانت الأبصار لا تدركه
وأما قوله لا تقابل الظنون فمن المجملات
وقوله قربه كرامته وبعده اهانته فمردود
أما أولا فإنه وصفه بالبعد والله لا يوصف بالبعد وإن وصف بالقرب هذا إن أراد قربه من عباده وبعده منهم وإن أراد تقريبه لهم وتبعيده لهم فاللفظ لا يدل على ذلك فإن القرب والبعد غير التقريب والتبعيد
وأما ثانيا فلأن قربه من عباده وتقريبه لهم عند سلف الأمة وأمتها وعامة المشايخ الأجلاء ليس مجرد الإنعام والكرامة بل يقرب من خلقه كيف شاء ويقرب إليه منهم من يشاء كما قد بينا ذلك في موضعه
وقد ثبت أن النبي ﷺ قال أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر
وثبت في الصحيح أنه قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
وقال تعالى واسجد واقترب سورة العلق 19
وأما قوله علوه من غير توقل ومجيئه من غير تنقل فكلام مجمل هو إلى البدعة أقرب فإنه قد يظهر منه أنه ليس هو فوق خلقه ويفهم منه نفى ما دل عليه الكتاب والسنة من وصفه بالإستواء المجئ والإتيان وغيرذلك وهذه المسألة والتي قبلها كبيرتان ذكرناهما في غير هذا الموضع مثل جواب الإعتراضات المصرية وغير ذلك
وقوله هو الأول والآخر والظاهر والباطن والقريب والبعيد ليس في أسماء الله البعيد ولا وصفه بذلك أحد من سلف الأمة وأمتها بل هو موصفوف بالقرب دون البعد
وفي الحديث المشهور في التفسير أن المسلمين قالوا يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله وإذا سألك عبادي عني فإني قريب سورة البقرة 186 وهذا يقتضي وصفه بالقرب دون البعد
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال لأصحابه لما جعلوا يرفعون أصواتهم بالتكبير أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته
وإنما الواجب أن يوصف بالعلو والظهور كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح أنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ
وقال تعالى وهو العلي العظيم سورة البقرة 255 فلو قال هو العلي القريب كان حسنا صوابا وكذلك لو قال قريب في علوه علي في دنوه
فأما وصفه بأن القريب البعيد فلا أصل له بل هو وصف بأسم حسن وبضده كما لو قيل العلى السافل او الجواد البخيل او الرحيم القاسي ونحو ذلك والله تعالى له الأسماء الحسنى وإنما يؤتي مثل هؤلاء من القياس الفاسد لما سمعوه يخبر عن نفسه بأن الأول الآخر الظاهر الباطن قاسوا على ذلك القريب والبعيد وهذا خطأ لأن تلك الأسماء كلها حسنة دالة على كمال إحاطته مكانا وزمانا وأما هذا فهو جمع بين الإسم الحسن وضده
الوجه الرابع إنه قدم كلام الشبلى في الاعتقاد قبل كلام جميع المشايخ الذين هم اجل منه وأعظم مع أن هذه المسألة لا تستحق التقديم وإنما مرتبته فيما بعد كما ذكرها هناك وكان الواجب ان يؤخر ذلك إلى موضعه فإنه ذكر بعد ذلك أول الواجبات وهذا هو الذي يستحق التقديم ومثل هذا يقتضي كون المصنف فيه نوع من الهوى ومن أعظم الواجبات على أهل هذا الطريق خلوهم من الهوى فإن مبناه على قوله وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى سورة النازعات 40
ثم قال أبو القاسم رحمه الله سمعت أبا حاتم يقول سمعت ابا نصر السراج رحمه الله يقول سئل رويم عن أول فرض افترضه الله على خلقه ما هو قال المعرفة يقول الله عز و جل و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون سورة الذاريات 56 قال ابن عباس ليعرفون
قلت هذا الكلام صحيح فإن أول ما أوجبه الله على لسان رسوله هو الاقرار بالشهادتين كما قال النبي ﷺ لمعاذ ابن جبل لما بعثه إلى اليمن إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله أخرجاه في الصحيحين
و كذلك قال المشايخ المعتمدون مثل الشيخ عبد القادر و غيره و الإقرار بالشهادتين يتضمن المعرفة لكن ذهب طائفة من أهل الكلام و ممن اتبعهم من الفقهاء والصوفية إلى أنه يجب على العبد المعرفة أولا قبل وجوب الشهادتين ومنهم من قال يجب على العبد النظر قبل المعرفة ومنهم من قال يجب القصد إلى النظر ومن غالبيتهم من أوجب الشك وقد بسطنا القول في هذه المسألة في غير هذا الموضع
فهذا القول يوافق هؤلاء لكن في صحة الحكاية بهذا اللفظ عن رويم نظر فإن رويما من أهل العلم والمعرفة وما ذكره من الحجة لا يدل على هذا الجواب فليس في قوله إلا ليعبدون ما يدل على أن المعرفة أول الواجبات سواء فسر يعبدون بيعرفون أو فسر بغير ذلك فإن خلقهم لشئ لا يدل على أنه أول واجب إن لم يبين ذلك بشئ آخر
وأما التفسير المذكور عن ابن عباس فالذين ذكروه عنه جعلوا هذه المعرفة هي المعرفة الفطرية التي يقربها المؤمن والكافر ومقصودهم بذلك أن جميع الإنس والجن قد وجد منهم ما خلقوه له من العبادة التي هي مجرد الإقرار الفطري وجعلوا ذلك فرارا من احتجاج القدرية بهذه الآية
ولا ريب أن هذا ضعيف ليس المراد أن الله خلقهم لمجرد الإقرار الفطري وقد تكلمنا على الآية في غير هذا الموضع
ولعل السائل سأله عن أعظم واجب فقال المعرفة لقوله إلا ليعبدون أي يعرفون واعتقد رويم أن هذه المعرفة هي المعرفة التي يشير إليها مشايخ الطريق وهي معرفة الخواص فيكون جوابه عن أعظم واجب لا عن أول واجب فهذا كما ترى
ثم ذكر أبو القاسم بغير إسناد عن الجنيد أنه قال إن أول ما يحتاج إليه العبد من عقد الحكمة معرفة المصنوع صانعه والمحدث كيف كان إحداثه فيعرف صفة الخالق من المخلوق والقديم من المحدث ويذل لدعوته ويتعرف بوجوب طاعته فإن لم يعرف ما لله لم يعترف بالملك لمن استوجبه
وهذا كلام حسن يناسب كلام الجنيد وقد ضمن هذا الكلام التمييز بين المخلوق والخالق لئلا يقع السالك في الاتحاد والحلول كما وقع فيه طوائف وذكر أصيلين التصديق والانقياد لأن الايمان قول وعمل فذكر معرفة الصانع وذكر الذل لدعوته والاعتراف بوجوب طاعته
وهذا من أصول اهل السنة وأئمة المشايخ خصوصا مشايخ الصوفية فإن أصل طريقهم الإرادة التي هي أساس العمل فهم في الإرادات والعبادات والأعمال والأخلاق أعظم رسوخا منهم في المقالات والعلوم وهم بذلك أعظم اهتماما وأكثر عناية بل من لم يدخل في ذلك لم يكن من أهل الطريق بحال
وهذا حق فإن الدين والإيمان قول وعمل وأوله قول القلب وعمله فمن لم ينقد بقلبه ولم يذل لله لم يكن مؤمنا ولا داخلا في طريق الله ولهذا لم يتنازع المشايخ أن الإيمان يزيد وينقص وأن الناس يتفاضلون فيه وأن أعمال القلوب من الإيمان كما يتنازع غيرهم
وذكر أبو القاسم بعد هذا كلاما عن المشايخ في جمل مستحسنة قال أخبرني محمد بن الحسين سمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت أبا الطيب المراغى يقول للعقل دلالة وللحكمة إشارة وللمعرفة شهادة فالعقل يدل والحكمة تشير والمعرفة تشهد أن صفاء العبادات لا ينال إلا بصفاء التوحيد
وقال وسئل الجنيد ولم يسنده عن التوحيد فقال إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد بنفى الأضداد والأنداد والأشباه فلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل ليس كمثله شئ وهو السميع البصير سورة الشورى 11
وقال حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى الصوفي حدثنا عبد الله بن علي التميمي الصوفي يحكى عن الحسين بن علي الدامغاني قال سئل ابو بكر الزاهد عن المعرفة فقال المعرفة اسم ومعناها وجود تعظيم في القلب يمنعك عن التعطيل والتشبيه و قال أبو الحسن البوشنجي رحمه الله التوحيد أن يعلم أنه غير مشبه للذوات و لا منفى الصفات
وهذان قولان حسنان ولا يتنازع فى هذه الجملة أهل السنة والجماعة
========
الاستقامة/4
قال أبو القاسم القشيرى سمعت أبا حاتم السجستانى يقول سمعت أبا نصر الطوسى السراج يحكي عن يوسف بن الحسين قال قام رجل بين يدي ذى النون فقال أخبرني عن التوحيد ما هو فقال أن تعلم أن قدرة الله فى الأشياء بلا مزاج و صنعه للأشياء بلا علاج و علة كل شئ صنعه و لا علة لصنعه و ليس في السموات العلا و لا فى الأرضين السفلى مدبر غير الله و كل ما تصور فى وهمك فالله بخلافه
هذا الكلام غالبه في ذكر فعل الحق سبحانه و ربوبيته أخبر أنه رب كل شئ لا مدبر غيره ردا على القدرية و نحوهم ممن يجعل بعض الأشياء خارجة عن قدرة الله و تدبيره و أخبر أن قدرته و صنعه ليس مثل قدرة العباد و صنعهم فإن قدرة أبدانهم عن امتزاج الأخلاط و أفعالهم عن معالجة و الله تعالى ليس كذلك
وأما قوله علة كل شئ صنعه و لا علة لصنعه فقد تقدم أن هذا يريد به أهل الحق معناه الصحيح أن الله سبحانه لا يبعثه و يدعوه إلى الفعل شئ خارج عنه كما يكون مثل ذلك للمخلوقين فليس له علة غيره بل فعله علة كل شئ ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن
ومقصود أبى القاسم يبين أن القوم لم يكونوا على رأى القدرية من المعتزلة و هذا حق فما نعلم فى المشايخ المقبولين فى الأمة من كان على رأى المعتزلة لا في قولهم في الصفات بقول جهم و لا في قولهم في الأفعال بقول القدرية بل هم أعظم الناس إثباتا للقدر و شهودا له وافتقارا إلى الله و التجاء إليه حتى أن من المنتسبين إلى الطريق من غلوا في هذا حتى يذهب إلى الإباحة والجبر ويعرض عن الشرع والأمر والنهى فهذه الآفة توجد كثيرا في المتصوفة والمتفقرة وأما التكذيب بالقدر فقليل فيهم جدا
ثم ذكر عنهم في الإيمان كلمتين يدل بهما على أن الإيمان عندهم مجرد التصديق وليس هذا مذهب القوم بل الذي حكاه عن الجنيد فقال وقال الجنيد التوحيد علمك وإقراراك بأن الله فرد في أزليته لا ثاني معه ولا شئ يفعل فعله وقال أبو عبد الله بن خفيف الإيمان تصديق القلوب بما أعمله الحق من الغيوب
وهذا المذكور عن الجنيد وابن خفيف حسن وصواب لكن لم يدل على أن أعمال القلوب ليست من الإيمان
ثم ذكر عنهم في مسألة الاستثناء في الإيمان شيئا حسنا فقال وقال أبو العباس السيارى عطاؤه على نوعين كرامة واستدارج فما أبقاه عليك فهو كرامة وما أزاله عنك فهو استدراج فقل أنا مؤمن إن شاء الله تعالى
قال ابو العباس السياري كان شيخ وقته
وقال سمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول غمز رجل رجل أبى العباس السياري فقال تغمز رجلا ما نقلتها قط في معصية الله تعالى
قال وقال أبو بكر الواسطى من قال أنا مؤمن بالله حقا قيل له الحقيقة تشير إلى إشراف واطلاع وإحاطة فمن فقده فقد بطل دعواه منها
قال أبو القاسم يريد بذلك ما قاله أهل السنة من أن المؤمن الحقيقي من كان محكوما له بالجنة فمن لم يعلم ذلك من سر حكمة الله تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقا غير صحيحة
قلت الاستثناء في الايمان سنة عند عامة أهل السنة وقد ذكره طائفة من المرجئة وغيرهم وأوجبه كثير من أهل السنة ومن وجوهه وجهان حسنان
أحدهما أن الإيمان الذي أوجبه الله على العبد من الامور الباطنة او الظاهرة لا يتيقن أنه أتى بها على الوجه الذي أمر به كاملا بل قد يكون أخل ببعضه فيستثنى لذلك
والوجه الثاني ان المؤمن المطلق من علم الله أنه يوافى بالإيمان فأما الإيمان الذي تتعقبه الردة فهو باطل كالصوم والصلاة الذي يبطل قبل فراغه فلا يعلم العبد أنه مؤمن حتى يقضى جميع إيمانه وذلك إنما يكون بالموت
وهذا معنى ما يروى عن ابن مسعود أنه قيل له إن فلانا يقول إنه مؤمن قال فقولوا له اهو في الجنة فقال الله أعلم قال فهلا وكلت الاولى كما وكلت الثانية
وهذا الوجه تختاره طائفة من متكلمي أهل الحديث المائلين إلى الإرجاء كالأشعري وغيره ممن يقول بالاستثناء ولا يدخل الاعمال في مسمى الايمان فيجعل الاسثثناء يعود إلا إلى النوايا فقط وهو الذي ذكره أبو القاسم وفسر به كلام أبي بكر الواسطي وكلام الواسطي يحتمل الوجهين جميعا فإن الإشراف والاطلاع قد يكون على الحقيقة التي هي عند الله في هذا الوقت وقد يكون على ما يوافى به العبد وأما كلام أبي العباس فظاهر في أنه راعى الخاتمة
فإن قيل فإذا كان القدر السابق لا ينافى الأسباب فما وجه ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فقال النبي ﷺ يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو دع
فهذا يقتضى أن اختصاءه الذي قصد أن يمتنع به من الفاحشة لا يدفع المقدور
وكذلك في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أنهم سألوا النبي ﷺ عن العزل فقال النبي ﷺ لا عليكم أن تفعلوا فما من نسمة كتب الله أن تكون إلا وهي كائنة فهذا يقتضى ان عزل الماء وهو سبب لعدم العلوق لا فائدة فيه لدفع ما كتبه الله من الاولاد
وفي الصحيحين عن ابن عباس وهو في مسلم عن عمران بن حصين وهذا لفظه أن النبي ﷺ قال يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب قال ومن هم يا رسول الله قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون
فقال عكاشة ادع الله يجعلني منهم قال أنت منهم فقام رجل فقال يا نبي الله ادع الله ان يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة
فقد جعل التوكل ها هنا موجبا لترك الاكتواء والاسترقاء وهما من الأسباب
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال قالت ام حبيبة زوج النبي ﷺ اللهم امتعنى بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية قال فقال النبي ﷺ قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة لن يعجل الله شيئا قبل أجله ولن يؤخر شيئا عن أجله ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرا وأفضل قال وذكرت عنده القردة والخنازير هي من مسخ فقال إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك
وفي رواية قال رجل يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ فقال النبي ﷺ إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا فهذا الحديث أخبر فيه أن الدعاء وهو من الأسباب لا يفيد في إطالة الأعمار ويفيد في النجاة من عذاب الآخرة
قيل ليس كل ما يظنه الإنسان سببا يكون سببا وليس كل سبب مباحا في الشريعة بل قد تكون مضرته أعظم من منفعته فينتهي عنه وليس كل سبب مقدورا للعبد فالعبد يؤمر بالسبب الذي أحبه الله ويؤذن له فيما أذن الله فيه مع أمره بالتوكل على الله تعالى فأما ما لا قدرة له فيه فليس فيه إلا التوكل على الله والدعاء له وذلك من أعظم الأسباب التي يؤمر بها العبد أيضا
وما كان من الأسباب محرما لرجحان فساده على صلاحه أو غير نافع لا يفيد بل يظن أنه نافع فإنه لا يؤمر به أيضا فلا يؤمر بما لا فائدة فيه وما كان فساده راجحا نهى عنه
وجماع الأمر أن الأسباب إما أن تكون مقدورة أو غير مقدورة فغير المقدور ليس فيه إلا الدعاء والتوكل والمقدور إما أن يكون فساده راجحا أو لا يكون فإن كان فساده راجحا نهى عنه وإن لم يكن فساده راجحا فينهى عنه كما ينهى عن إضاعة المال والعبث وأما السبب المقدور النافع منفعة راجحة فهو الذي ينفع ويؤمر فقه به ويندب اليه الأحاديث
وايضا فينبغى أن التوكل على الله من أعظم الأسباب فربما كان بعض الأسباب يضعف التوكل فإذا ترك ذلك كمل توكله فهذا التقسيم حاصر والقدر يأتى على جميع الكائنات وبهذا يتبين فقه الأحاديث
أما حديث الاختصاء فإن الاختصاء محرم لرجحان مفسدته وقد ثبت في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال زجر رسول الله ﷺ عثمان بن مظعون عن التبتل ولو أذن لاختصينا
وبين النبي ﷺ أنه مع ركوب الاختصاء المحرم لا يسلم من الزنا بل لا بد أن يفعل ما كتب عليه منه كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال كتب الله على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر واللسان يزني وزناه المنطق والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها الخطا والنفس تتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه
وأما حديث العزل فالعزل لا يمنع انعقاد الولد ولا تركه يوجب الولادة ولهذا لو عزل عن سريته وأتت بولد ألحق به فإن الماء سباق مع ما فيه من ترك لذة الجماع فأخبر النبي ﷺ بأن الولد المكتوب يكون عزلت أو لم تعزل كما قال ليس من كل الماء يكون الولد فلا يكون ترك العزل سببا للولادة ولا العزل سببا لمنعها والقدر ماض بالأمرين فلا فائدة فيه
ومثل هذا ما ثبت في الصحيح أنه نهى عن النذر وقال لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل فأخبر أن النذر ليس من الأسباب التي تجتلب بها المنفعة وتدفع بها المضرة ولكن نلقيه إلى ما قدر له فنهى عنه لعدم فائدته
وأما حديث السبعين ألفا فلم يصفهم بترك سائر التطبب وإنما وصفهم بترك الاكتواء والاسترقاء والاكتواء مكروه وقد نهى عنه في غير هذا الحديث لما قال وأنا أنهى أمتي عن الكى والمسترقى لم يفعل شيئا إلا اعتماده على الراقى فتوكله على الله سبحانه وحده لا شريك له أنفع له من ذلك
وهذا الجواب الآخر وهو ان المسترقى يضعف توكله على الله فإنه إنما طلب دعاء الغير ورقيته فاعتماد قلبه على الله وحده وتوكله عليه أكمل لإيمانه وأنفع له
وأما حديث أم حبيبة ففيه أن الدعاء يكون مشروعا نافعا في بعض الأشياء دون بعض وكذلك هو ولهذا لا يحب الله المعتدين في الدعاء فالاعمار المقدرة لم يشرع الدعاء بتغييرها بخلاف النجاة من عذاب الآخرة فإن الدعاء مشروع له نافع فيه وقد كتبت مسألة زيادة العمر بصلة الرحم في غير هذا الموضع ولا يلزم من تأثير صلة الرحم ونحو ذلك أن يزيد العمر كما قد يقال بزيادة العمر بتأثير الدعاء ولذلك كان يكره أحمد أن يدعى له بطول العمر ويقول هذا فرغ منه
ثم ذكر ما جاء في الرؤية قال أبو القاسم سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى رحمه الله يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا الحسن العنبرى يقول سمعت سهل ابن عبد الله التسترى يقول ينظر إليه تعالى المؤمنون بأبصار من غير إحطة ولا إدراك نهاية
وهذا الكلام من أحسن الكلام وكلام سهل بن عبد الله في السنة وأصول الاعتقادات أسد وأصوب من كلام غيره وكذلك الفضيل ابن عياض ونحوه فإن الذين كانوا من المشايخ أعلم بالحديث والسنة واتبع لذلك هم أعظم علما وإيمانا وأجل قدرا في ذلك من غيرهم
وقول سهل ولا إدراك نهاية يتضمن شيئين أحدهما نفى الإدراك الذي نفاه الله عنه يجمع بين ما أثبته الكتاب والسنة وما نفاه والثاني أنه نفى إدراك النهاية ولم ينف نفس النهاية وهذا في الظاهر يخالف قول أبي القاسم لا حد لذاته
ثم قال أبو القاسم قال أبو الحسين النوري شاهد الحق القلوب فلم ير قلبا أشوق إليه من قلب محمد ﷺ فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة
وقصده بهذه الحكاية إثبات رؤية محمد ﷺ ربه ليلة المعراج وهذا هو قول أكثر أهل السنة أنه رأى ربه بفؤاده
ثم ذكر ما جاء في العلو فقال سمعت الإمام أبا بكر محمد بن الحسن بن فورك يقول سمعت محمد بن المحبوب خادم أبي عثمان المغربي يقول قال لي أبو عثمان المغربي يوما يا محمد لو قيل لك أين معبودك إيش تقول قلت أقول حيث لم يزل قال فإن قال فأين كان في الأزل إيش تقول قلت أقول حيث هو الآن قال يعنى أنه كان ولا مكان فهو الآن على ما عليه كان فارتضى منى ذلك ونزع قميصه وأعطانيه
وقال أبو القاسم سمعت أبا بكر بن فورك يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول كنت أعتقد شيئا من حديث الجهة فلما قدمت بغداد زال ذلك عن قلبي فكتبت إلى أصحابنا بمكة أنى أسلمت الآن إسلاما جديدا
قلت هذا الكلام الذي ذكره عن أبي عثمان كلام مجمل ليس فيه دليل على انه كان يقول ليس فوق السماوات رب ولا هناك إله كما يقول من يقول إن الله ليس فوق العرش وقد يعبر عن ذلك بعضهم بأنه ليس في الجهة بل إقراره لخادمه على جواب السائل له أين معبودك يخالف ما ذكره أبو القاسم الذي قال في خطبة كتابه تعالى عن ان يقال كيف هو أو أين هو فلو أراد ما ذكره أبو القاسم لقال لا يقال أين هو بل قال حيث لم يزل وهذا لا يوافق قول من يقول ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا هو فوق العرش ولا في جهة لأن قوله حيث لم يزل إخباره بأنه حيث لم يزل وحيث ظرف من ظروف المكان لا يطلق إلا على الجهة والحيز وعند النفاة لا يقال حيث لم يزل ولا كان في الأزل بحيث
وكذلك قوله فإن قال فأين كان في الأزل فقال اقول حيث الآن لا يستقيم عند من ينفى الجهة فإنه لا يقال أين كان في الأزل ولا يقال حيث الآن بل هذا السؤال والجواب ممتنع عندهم وإن كانوا في ذلك مخالفين للنصوص وإجماع السلف وأئمة الدين فإن النبي ﷺ سأل بأين فقال أين الله فقال له المسئول في السماء فحكم بأيمان من قال ذلك وكذلك سئل فقيل له أين كان ربنا قبل ان يخلق السماوات والأرض فأجاب عن ذلك ولكن جواب أبى عثمان يوافق قول أهل الإثبات وهم أهل الفطرة العقلية السليمة من الاولين والآخرين الذين يقولون إنه فوق العالم إذ العلم بذلك فطرى عقلى ضروري لا يتوقف على سمع
أما العلم بأنه استوى على العرش بعد ان خلق السماوات والأرض في ستة أيام فهذا سمعي إنما علم من جهة أخبار الأنبياء ولهذا شرع الله تعالى لأهل الملل الاجتماع كل أسبوع يوما واحدا ليكون الأسبوع الدائر دليلا على الأسبوع الذي خلق الله فيه السماوات والأرض ثم استوى على العرش ولهذا لا يعرف الأسبوع إلا من جهة أهل الكتب الإلهية بخلاف اليوم فإنه معلوم بالحس وكذلك الشهر والسنة يعلم بالحس وسيرالقمر فيعلم بالحس و الحساب و أما الأسبوع فليس له سبب حسى و كذلك لا يوجد لأيام الأسبوع ذكر عند الأمم الذين لا كتاب لهم و لا أخذوا عن أهل الكتب كالترك الباقين في بواديهم في لغتهم اسم اليوم و الشهر و السنة دون أيام الأسبوع بخلاف الفرس و نحوهم ممن أخذ عن المرسلين فإن في لغتهم أيام الأسبوع
و أهل الإثبات منازعون في أن الاستواء هل هو مجرد نسبة و إضافة بين الله و بين العرش من غير أن يكون الباري تصرف بنفسه بصعود أو علو و نحو ذلك أو هو يتصرف بنفسه و أنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا
وكذلك استواؤه إلى السماء و نزوله و نحو ذلك عن قولين مشهورين
والأول قول كثير ممن يميل إلى الكلام و قول طائفة من الفقهاء و الصوفية
والثاني قول أهل الحديث و قول كثير من أهل الكلام و الفقهاء و الصوفية
فكلام أبي عثمان ظاهرة يوافق القول الأول و أما الذي كان يعتقده في الجهة ثم رجع عنه فهو أمر مجمل لم يذكره فلعله كان يعتقد من التجسيم و التمثيل ما يقوله أهل الضلال من الرافضة و المجسمة فرجع عن ذلك فإن هذا ممكن و لعله كان يعتقد أن البارى تعالى محصور في السموات تظله و تقره و أنه مفتقر إلى عرش يحمله فرجع عن ذلك
وأعظم ما يقال إنه كان يعتقد أن الاستواء من الصفات الفعلية المتجددة أنه يفعله بنفسه ثم رجع عن ذلك إلى أنه على ما كان عليه مع كونه مستويا على العرش لكنه خلق العرش بعد أن لم يكن مخلوقا فيلزم أن يكون موصوفا بأنه فوق العرش و هذا يقوله كثير من المثبتة و إن كان هذا ليس موضع الكلام فيه
فأما أن يقال إن أبا عثمان رجع عن اعتقاد علو الله على خلقه و أنه سبحانه بائن عن مخلوقاته عال عليهم فليس في كلامه ما يفهم منه ذلك بحال ثم لو فرض أن أبا عثمان قال قولا فيه غلط لم يصلح أن يجعل ذلك أصلا لاعتقاد القوم فإن كلام أئمة المشايخ المصرح بأن الله فوق العرش كثير منتشر فإذا وجد عن بعضهم ما يخالف ذلك كان ذلك خلافا لهم
والصوفية يوجد فيهم المصيب و المخطئ كما يوجد في غيرهم و ليسوا في ذلك بأجل من الصحابة و التابعين و ليس أحد معصوما في كل ما يقوله إلا رسول الله ﷺ
نعم وقوع الغلط في مثل هذا يوجب ما نقوله دائما إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق فإن الله يغفر له خطأه وإن حصل منه نوع تقصير فهو ذنب لا يجب ان يبلغ الكفر وإن كان يطلق القول بأن هذا الكلام كفر كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية مثل القول بخلق القرآن أو إنكار الرؤية أو نحو ذلك مما هو دون إنكار علو الله على الخلق وأنه فوق العرش فإن تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور فإن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي تكفر تاركها
كما ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ في الرجل الذي قال إذا أنا مت فأحرقوني ثم استحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله على ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فقال الله له ما حملك على ما فعلت قال خشيتك فغفر له
فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شك وأنه لا يبعثه وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة لكنه كان يجهل ذلك ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده فخاف من عقابه فغفر الله له بخشيته
فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالا من الرجل فيغفر الله خطأه أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم
فقد ثبت في الصحيح عن ثابت بن الضحاك عن النبي ﷺ قال لعن المؤمن كقتله ومن رمى مؤمنا بالكفر فهو كقتله
وثبت في الصحيح أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد فإن ذلك أعظم من قتله إذ كل كافر يباح قتله وليس كل من أبيح قتله يكون كافرا فقد يقتل الداعي إلى ىبدعة لإضلاله الناس وإفساده مع إمكان أن الله يغفر له في الآخرة لما معه من الإيمان فإنه قد تواترت النصوص بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان
وقد رواه مسلم في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال بينا جبريل قاعدا عند النبي ﷺ إذ سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته
وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله سورة البقرة 284 دخل في قلوبهم منها شئ لم يدخل قلوبهم من شئ فقال النبي ﷺ قولوا سمعنا وأطعنا قال فألقى الله الايمان في قلوبهم فأنزل الله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة 286 قال قد فعلت
وكلام المشايخ في مسألة العلو كثير مثل ما ذكر محمد بن طاهر المقدسي الحافظ الصوفي المشهور الذي صنف للصوفية كتاب صفة التصوف ومسألة السماع وغير ذلك ذكر عن الشيخ الجليل أبي جعفر الهمداني أنه حضر مجلس أبي المعالي الجويني وهو يقول كان الله ولا عرش وهو على ما عليه كان أو كلاما من هذا المعنى فقال يا شيخ دعنا من ذكر العرش أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد من قلبه ضرورو بطلب العلو ولا يلتفت يمنة ولايسرة فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا قال فصرخ أبو المعالى ولطم على رأسه وقال حيرني الهمدانى حيرني الهمداني
وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الاصبهاني شيخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة قبل القشيري في رسالة له أحببت أن أوصى أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها اوإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول وأنه عز و جل مستو علىعرشه بائن من خلقه والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وأن الله سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فآستجيب له هل من مستغفر فآستغفر له هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال
ثم ذكر كلامهم في القدر قال أبو القاسم سمعت محمد ابن الحسين السلمى يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول وقد سئل عن الخلق فقال قوالب وأشباح تجري عليهم أحكام القدرة
قال وقال الواسطي لما كانت الأرواح والأجساد قامتا بالله وظهرتا به لا بذواتها كذلك قامت الخطرات والحركات بالله لا بذواتها إذ الخطرات والحركات فروع جساد والأرواح
قال أبو القاسم صرح بهذا الكلام أن أكساب العباد مخلوقة لله وكما أنه لا خالق للجواهر إلا الله فكذلك لا خالق للأعراض إلا الله
وهذا الذي قاله صحيح وهو متفق عليه بين المشايخ لا يعرف منهم من أنكر شيئا من أصول السنة في مسائل القدر
وقال سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السامي يقول سمعت محمد بن عبد الله سمعت أبا جعفر الصيدلاني سمعت أبا سعيد الخراز يقول من ظن أنه ببذل الجهد يصل فمتعن ومن ظن أنه بغير الجهد يصل فمتمن
وهذا كلام حسن كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شئ فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل ما قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان
وقال لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته
ثم قال وقال الواسطي المقامات أقسام قسمت ونعوت أجريت كيف تستجلب بحركات أو تنال بسعايات
وهذا الكلام الظاهر ليس بجيد بل هو مردود وهذه المسألة بعينها سئل عنها النبي ﷺ كما ثبت عنه في الأحاديث الصحاح من حديث عمران بن حصين وعلى ابن أبي طالب وغيرهما لما أخبر بالقدر فقالوا ألا ندعو العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له
وفي الصحيحين عن علي بن ابي طالب قال كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله ﷺ فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخسرته ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل السعاده واما من كان من أهل الشقاء فسيصير لعمل الشفاء ثم قرأ فأما من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى فسنيسره لليسرى سورة الليل 6
و في الصحيح عن عمران بن حصين قال قال رجل يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال فلم يعمل العاملون قال كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له و في رواية كل ميسر لما خلق له
وفي صحيح مسلم من حديث أبي الأسود الدئلي قال قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه أشئ قضى عليهم و مضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم و ثبتت الحجة عليهم فقلت بل شئ قضى عليهم و مضى عليهم قال فقال أفلا يكون ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا و قلت كل شئ خلق الله و ملك يده فلا يسأل عما يفعل و هم يسألون فقال لي يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله ﷺ فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه أشئ قضى عليهم و مضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون منه مما أتاهم به نبيهم و ثبتت الحجة عليهم قال لا بل شئ قضى عليهم و مضى فيهم و تصديق ذلك في كتاب الله و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها سورة الشمس 6 7
وفي السنن حديث عمر أنه سئل عن تفسير الآية و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم سورة الاعراف 172 قال عمر رضىالله عنه سمعت رسول ﷺ يقول إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فأستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة و بعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فأستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل ففيم العمل يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ إن الله إذا خلق العبد للنار استعمله بعمل اهل النار حتى يموت على عمل من أعمال النار فيدخل به النار وإذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة فيدخله به الجنة
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام و جرت به المقادير أم فيما يستقبل قال لا بل فيما جفت به الأقلام و جرت به المقادير قال ففيم العمل فقال اعملوا فكل ميسر و فى لفظ كل عامل ميسر لعمله
وفي السنن عن ابن أبي خزامة عن أبيه قال قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هي من قدر الله
فهذه السنن وغيرها تبين أن الله سبحانه وإن كان قد تقدم علمه وكتابيه وكلامه بما سيكون من السعادة والشقاوة فمما قدره أن يكون ذلك بالأسباب التي قدرها فالسعادة بالأعمال الصالحة والشقاوة بالفجور وكذلك الشفاء الذي يقدره للمريض يقدره بالأدوية والرقى وكذلك سائر ما يقدر من أمر الدنيا والآخرة
فقول القائل كيف تستجلب الأقسام بالحركات جوابه ان الأقسام تناولت الحركات كما تناولت السعادات والله تعالى قدر ان يكون هذا بهذا فإذا ترك العبد العمل ظانا أن السعادة تحصل له كان هذا الترك سببا لكونه من أهل الشقاوة
وهنا ضل فريقان فريق كذبوا بالقضاء والقدر وصدقوا بالأمر والنهى وفريق آمنوا بالقضاء ولاقدر لكن قصروا في الأمر والنهى وهؤلاء شر من الأولين فإن هؤلاء من جنس المشركين الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا سورة الأنعام 148 وأولئك من جنس المجوس
لكن إذا عنى بهذا الكلام أن العبد لا يتكل على عمله ولا يظن أنه ينجو بسعيه فهذا معنى صحيح فالأسباب التي من العباد بل ومن غيرهم ليست موجبات لا لأمر الدنيا ولا لأمر الآخرة بل قد يكون لا بد منها ومن أمور أخرى من فضل الله ورحمته خارجة عن قدرة العبد وما ثم موجب إلا مشيئة الله فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
وكل ذلك قد بينه النبي ﷺ وهو معروف عند من نور الله بصيرته
وأما التفريق بين المقدور عليه والمعجوز عنه ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شئ فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان
وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه اختصم إليه رجلان فقضى على أحدهما فقال المقضى عليه حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي ﷺ إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا أحزنك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل
قال أبو القاسم وسئل الواسطي عن الكفر بالله أولله فقال الكفر والإيمان والدنيا والآخرة من الله وإلى الله وبالله ولله من الله ابتداء وإنشاء وإلى الله مرجعا وانتهاء وبالله بقاء وفناء ولله ملكا وخلقا
قال وقال الجنيد سئل بعض العلماء عن التوحيد فقال هو اليقين فقال السائل بين لي ما هو فقال هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله وحده لا شريك له فإذا فعلت ذلك فقد وحدته وقال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الواحد بن علي يقول سمعت القاسم بن القاسم سمعت محمد بن موسى الواسطي سمعت محمد بن الحسين الجوهري سمعت ذا النون المصري يقول وجاءه رجل فقال ادع الله لي فقال إن كنت أيدت في علم الغيب بصدق التوحيد فكم من دعوة مجابة قد سبقت لك وإلا فإن النداء لا ينفع الغرقى
قال وقال الواسطي ادعى فرعون الربوبية على الكشف وادعت المعتزلة على السر تقول ما شئت فعلت وقال أبو الحسين النوري التوحيد كل خاطر يشير إلى الله بعد أن لا تزاحمه خواطر التشبيه
قلت كلام الواسطي والجنيد المذكور هنا هو توحيد الربوبية وأن الله رب كل شئ ومليكه وخالقه وفيه الرد على القدرية الذين يجعلون أفعال العبد خارجة عن قدرته وخلقه وملكه وكذلك جعل فيهم الواسطي شبها من فرعون فإن فرعون كشف كفره وقال أنا ربكم الأعلى فادعى الربوبية علانية والقدرية تدعى أنها رب الأفعال وما يتولد عنها فقد أدعت ربوبيته لكن في السر وهي ربوبية أفعال الأعيان
لكن مقصود أهل التحقيق كالجنيد ونحوه أن يكون هذا التوحيد للعبد خلقا ومقاما بحيث يعطيه ذلك كما توكله على الله تعالى وتفويصه إليه والصبر لحكمه والرضا بقضائه مالم يخرجه ذلك إلى إسقاط الأمر والنهي والثواب والعقاب والوعد والوعيد كما يقع في بعض ذلك طائفة من المتصوفة
وأما قول ذي النون إن كنت أيدت في علم الغيب بصدق التوحيد فلا يراد به مجرد الإقرار بالربوبية العامة فإن المشركين كانوا يوحدون هذا التوحيد كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله سورة الزمر 38 وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلاوهم مشركون سورة يوسف 106
قالوا غيمانهم هو إيمانهم بأنه خالق كل شئ وشركهم أن عبدوا معه إلها آخر
وإنما أراد تحقيق توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وهو أن يعبد الله وحده لايشرك به شيئا فهذا التوحيد الذي جاءت به الرسل هو يسعد صاحبه ويدخل الجنة لا محالة له من دعوة مجابة ومن فاته هذا التوحيد فإن الله لا يغفر أن يشرك به فلا ينفعه الدعاء
وهذا هو التوحيد المذكور في قول المراغى صفاء العبادات لا ينال إلا بصفاء التوحيد
وأما قول النوري التوحيد كل خاطر يشير إلى الله فهو يعم ذلك يقول كل توجه إلى الله وحده بقول أو عمل فهو توحيد إذا لم يكن فيه تشبيه الخالق بالمخلوق أو المخلوق بالخالق كما في قول الجهمية والممثلة والقدرية ونحوهم وقد تقدم ما ذكره المشايخ من نفي التشبيه والتعطيل
وكذلك ما ذكره عن الشيخ أبي عبد الرحمن سمعت عبد الواحد بن بكر سمعت هلال بن أحمد يقول سئل أبو علي الروذباري عن التوحيد فقال استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل وإنكار التشبيه والتوحيد في كلمة واحدة كل ما صورته الأفهام والأفكار فإن الله سبحانه بخلافه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير سورة الشورى 11
قال وقال ابو القاسم النصراباذي الجنة باقية بإبقائه وذكره لك ومحبته لك باق ببقائه فشتان بين ما هو باق ببقائه وبين ما هو باق بإبقائه
قال القشيري وهذا الذي قاله الشيخ النصراباذي غاية التحقيق فإن أهل الحق قالوا صفات ذات القديم سبحانه باقيات ببقائه تعالى فنبه على هذه المسألة ونبه على أن الباقي باق ببقائه خلاف ما قاله مخالفو الحق
قلت النصراباذي مقصوده التفريق بين من طلب النعيم بالمخلوق وطلب النعيم لحظه من الخالق فقال ما في المخلوق باق بإبقائه وأما محبته لك وذكره لك فباق ببقائه وليس مقصوده أن البقاء الذي يوصف به الرب هو صفة زائدة على الذات بما ليس بصفة كما ينازع فيه أهل الكلام مثل متكلمة أهل الإثبات وغيرهم بل القاضي أبو بكر الذي يعظمه القشيري ويقول هو اوحد وقته كان يقول ليس الباقي باقيا ببقاء
ولاالنزاع في هذه المسألة إذا حقق لم يرجع إلى معنى محصل يستوجب النزاع
ثم قال أبو القاسم حدثنا محمد بن الحسين سمعت النصراباذي يقول أنت متردد بين صفات الفعل وصفات الذات وكلاهما صفته تعالى على الحقيقة فإذا هيمك في مقام التفرقة قربك بصفات فعله وإذا بلغك إلى مقام الجمع قربك بصفات ذاته
قال وأبو القاسم النصراباذي كان شيخ وقته
قلت هذا الكلام من النصراباذي يقتضي أنه موصوف بصفات فعله على الحقيقة مثل الخلق والرزق كما أنه موصوف بصفات الذات عل ىالحقيقة كالعلم والقدرة وهذا هوالذي ذكره أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي عن مذهب الصوفية في كتاب التعرف وهو قول جمهور الفقهاء وأهل الحديث وطوائف من اهل الكلام وليس هو قول الأشعرية الذين سلك سبيلهم أبو القاسم القشيري
قال الخلق والرزق عندهم عين المخلوق ولا يستحق أن يسمى بالخالق الباعث الوارث إلا بعد وجود هذه المفعولات والنزاع في أن الفعل هل هو صفة لله وهل يوصف بالأسماء الفعلية في الأزل وقد بسطنا الكلام في هاتين المسألتين في موضعه
وقال سمعت الإمام أبا إسحاق الإسفراييني يقول لما قدمت من بغداد كنت أدرس في جامع نيسابور في مسألة الروح وأشرح القول أنها مخلوقة وكان ابو القاسم النصراباذي قاعدا متباعدا عنا يصغي إلى كلامي فأجتاز بنا بعد ذلك بأيام قلائل فقال لمحمد الفراء أشهد اني أسلمت جديدا على يد هذا الرجل وأشار إلي
قلت لعله كان عنده بعض شبهة أو رأي فاسد في خلقها كما يعرض مثل ذلك لبعض الناس
وقال سمعت محمد بن الحسين السلمي يقول سمعت أن حسين الفارسي يقول سمعت إبراهيم بن فاتك يقول سمعت الجنيد يقول متى يتصل من لاشبيه له ولا نظير بمن له شبيه ونظير هيهات هذا ظن عجيب إلا بما لطف اللطيف من حيث لا درك ولا وهم ولا إحاطة إلا إشارة اليقين وتحقيق الإيمان
قلت هذا الكلام يقتضي أن العباد إنما عرفوا ربهم بما الطف به من تعرفة إليهم وهدايته إياهم بما أعطاهم لا معرفة إدراك وإحاطة وهذا حسن وربما يتضمن نوعا من الرد على طريقة أهل النظر الذين يجعلونه بمجرده محصلا للمعرفة المطلوبة
وقال حدثنا محمد بن الحسين سمعت عبد الواحد بن بكر حدثني أحمد بن محمد البردعي حدثنا طاهر بن إسماعيل الرازي قال قيل ليحيى بن معاذ أخبرني عن الله فقال إله واحد فقال كيف هو فقال ملك قادر فقال أين هو فقال بالمرصاد فقال السائل لم أسألك عن هذا فقال ما كان غير هذا كان صفة المخلوق فأما صفته فما أخبرتك عنه
قلت لا تعلم صحة هذا الكلام عن يحيى بن معاذ إذ في الإسناد من لا نعرفه وكلام يحيى بن معاذ عندهم دون كلام الكبار من أهل التحقيق في المعاملات وغيرها فإنه يتكلم في الرجاء بكلام يشبه كلام سفلة المرجئة لا يوافق أصول المشايخ الكبار المتمسكين بالسنة ويدعى في التوحيد مقاما هو الغاية وقد عاب عليه ابو يزيد وغيره وكلامه يشبه كلام الوعاظ وهي طريقة أبي القاسم ونحوه
وهذا الكلام المذكور من هذا الباب فإنه ليس كل ما لم يذكره في هذا الجواب بصفة المخلوق لله بل لله صفات كثيرة عظيمة لم تدخل في هذا الكلام ثم صفة المخلوق إن كان لأجل الاشتراك في الاسم فقوله ملك قادر وإنه بالمرصاد كما قال تعالى واقعدوا لهم كل مرصد سورة التوبة 5
وأيضا فالجواب عن أين هو خلاف الجواب الذي رضيه رسول الله ﷺ وأقره وحكم بإيمان قائله وخلاف ما أجاب به هو سائله فإنه لما قال أين الله فقيل له في السماء رضى بهذا وأقر صاحبه ولم يقل هذا صفة المخلوق
وقد روى شيخ الإسلام الأنصاري الهروى صاحب علل المقامات ومنازل السائرين في كتابه المسمى بالفاروق بإسناد عن يحيى بن معاذ أنه قال إن الله على العرش بائن من خلقه وقد أحاط بكل شئ علما وأحصى كل شئ عددا لايشذ عن هذه المقالة إلا جهمى ردئ ضليل وهالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخالط منه الذات بالأقذار والإتيان في هيئته وهو يخالف إنكاره الأين في هذه الرواية
وقال أبو القاسم حدثني بن الحسين سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت أبا علي الروذبارى يقول كل ما توهم متوهم بالجهل أنه كذلك فالعقل يدل على أنه بخلافه
قال وسأل ابن شاهين الجنيد عن معنى مع فقال على معنيين مع الأنبياء بالنصرة والكلاءة قال الله إنني معكما أسمع وأرى سورة طه 46 ومع العامة بالعلم والإحاطة قال الله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم سورة المجادلة 7 فقال ابن شاهين مثلك يصلح أن يكون دالا للأمة على الله
قلت هذا كلام حسن متفق على صحة معناه بين ائمة الهدى وكانوا يقولون مثل هذا الكلام ردا على من يقول من الجهمية إن الحق بذاته في كل مكان ويمكن أن يقول فوق العرش وقد وقع في ذلك طائفة من المتصوفة حتى جعلوه عين الموجودات ونفس المصنوعات كما يقوله أهل الاتحاد العام
قال القشيري وسئل ذو النون المصري عن قوله الرحمن على العرش استوى سورة طه 5 فقال اثبت ذاته ونفى مكانه فهو موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمه كما شاء
قلت هذا الكلام لم يذكر له إسنادا عن ذي النون وفي هذه الكتب من الحكايات المسندة شئ كثير لا أصل له فكيف بهذه المنقطعة المسيئة التي تتضمن أن ينقل عن المشايخ كلام لا يقوله عاقل فإن هذا الكلام ليس فيه مناسبة للآية بل هو مناقض لها فإن هذه الآية لم تتضمن إثبات ذاته ونفى مكانه بوجه من الوجوه فكيف تفسر بذلك
وأما قوله هو موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمه فهو حق لكن ليس هذا معنى الآية
قال وسئل الشبلي عن قوله الرحمن على العرش استوى فقال الرحمن لم يزل والعرش محدث والعرش بالرحمن استوى
قلت هذا الكلام أيضا ليس له إسناد عن الشبلي وهو يتضمن من الباطل ما هو تحريف للقرآن
أما قوله الرحمن لم يزل والعرش محدث فحق وأما قوله العرش بالرحمن استوى فهو أولا خلاف القرآن فإن الله أخبر أنه هو الذي استوى على العرش فكيف يقال إن المستوى إنما هو العرش
وأما ثانيا فإنه إذا قال العرش استوى به فهذا ليس أبلغ من قوله إنه استوى على العرش
كما في حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ أهل حين استوت به راحلته وذلك يقتضي أن يكون العرش استوى بالله واستقل به وحمله وإن لم يرد هذا المعنى وإنما أراد أن العرش اعتدل واستوى بقدرة الله فهذا ليس هو معنى الآية بل تحريف صريح يستحق قائله العقوبة البليغة ولا يصلح ان يحكى مثل هذ عن قدوة في الدين بل ولا عن أطراف الناس
قال وسئل جعفر بن نصير عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى فقال استوى علمه بكل شئ فليس شئ أقرب إليه من شئ
وهذا من نمط الذي قبله وأردى وهو أسخف من تأويلات القرامطة الباطنية فإن اللفظ ليس فيه ما يدل على ذلك أصلا وجعفر ابن نصير أجل من أن يقول هذا التحريف الذي لا يصدر مثله إلا عن بعض غلاة الرافضة والقرامطة والملحدين الطاعنين في القرآن
قال وقال جعفر الصادق من زعم أن الله في شئ أو من شئ أو على شئ فقد أشرك إذ لو كان على شئ لكان محمولا أو كان في شئ لكان محصورا أو كان من شئ لكان محدثا
قال وقال جعفر الصادق في قوله ثم دنا فتدلى سورة النجم 8 من تودهم أنه بنفسه دنا جعل ثم مسافلة وانما تدنى أنه كلما قرب منه بعده عن أنواع المعارف إذ لا دنو ولا بعد
قلت هذا الكلام وأشباهه مما اتفق أهل المعرفة على أنه مكذوب على جعفر مثل كثير من الإشارات التي ذكرها عنه أبو عبد الرحمن في حقائق التفسير والكذب على جعفر كثير منتشر والذي نقله العلماء الثقات عنه معروف يخالف رواية المفترين عليه
قال ورأيت بخط الاستاذ أبي على أنه قيل لصوفي أين الله فقال أسحقك الله تطلب مع العين أثرا
قلت هذا كلام مجمل قد يعني به الصديق معنى صحيحا ويعني به الزنديق معنى فاسدا فإن السائل أين الله قد يكون سؤاله عن شك عن معرفة ما يستحقه الله من العلو وقد يكون الاستعلام عن حال المسئول كما سأل النبي ﷺ الجارية أين الله فالذي سأل الصوفي أين الله إن كان شاكا في نعت ربه أو جاهلا بحال المسئول فهو ناقص فيحتمل أن الصوفي كان عارفا بالله وقد عاين السائل من حاله ما عرف به صدقه فقال سؤالك سؤال من يريد أن يستدل بالأثر على حال وأنت قد عاينت ما يغنيك عن ذلك فقال أتطلب مع العين أثرا أو هدى
كما أن المعروفين بالإيمان من الصحابة لم يكن النبي ﷺ يقول لأحدهم أين الله وإنما قال ذلك لمن شك في إيمانه كالجارية وهذا كما يذكر في حكاية أخرى أن بعضهم لقى شخصا فقال أين ربك فقال لا تقل أين ربك ولكن قل أين محل الإيمان من قلبك أي ان مثلى لا يقال له أين ربك وإنما أسأل عما يليق بمثلي أن يسأل عنه
بل كما في الحكاية المعروفة عن يزيد بن هارون الواسطي ونحوها أيضا لأحمد بن حنبل أن منكرا أو نكيرا لما أتياه وسألاه من ربك وما دينك ومن نبيك فقال أتقولان لي هذا وأنا يزيد بن هارون الواسطي أعلم الناس السنة ستين سنة فقالا اعذرنا فإنا بهذا أمرنا وانصرفا وتركاه
وظاهر الأمر في حال الصوفي الذي ذكره الأستاذ أبي على أنه قصد هذا لأنه قال للسائل أسحقك الله أتطلب مع العين اثرا وهذا العين الذي أغناه عن الأثر إما أن يكون في معرفته بربه أو معرفته بحال المسئول فلو كان الأول لم يك جاهلا فيسأل أين الله ولم يجب عليه الصوفي حتى يقول له أسحقك الله فعلم أنه كان عارفا بحال الصوفي وطلب منه زيادة امتحان له عن معرفته بربه فقال أتطلب مع العين أثرا
وأما العين الذي يعنيه الزنديق فأن يكون من أهل الاتحاد المعين فيعتقد أنه عاين الله بعين بصره في الدنيا فيقول أتطلب مع العين أثرا أو يعتقد أن الوجود المعاين هو عين وجود الحق كما تقوله الاتحادية أهل الاتحاد المطلق أو نحو ذلك من مقالات الزنادقة المنافقين
ولكن ظاهر الحكاية لا يوافق هذا فإنه عند هؤلاء العين والأثر واحد والصوفي قال أتطلب مع العين أثرا وهذا يقتضي أن السائل بأين يصح منه طلب الأثر بعد العين
وليس في الحكاية مقصود لأبي القاسم من نفى كون الله على العرش ولا يقول ابو القاسم بأن العارف حصل له في الدنيا من معاينة الله تعالى ما يغنيه عن الأثر
قال ابو القاسم حدثنا الشيخ أبو عبد الرحمن سمعت أبا العباس بن الخشاب البغدادي سمعت أبا القاسم بن موسى سمعت محمد بن أحمد سمعت الانصاري سمعت الخراز يقول حقيقة القرب فقد حسن الأشياء من القلب وهدوء الضمير إلى الله
قلت هذه الحكاية في إسنادها من لا يعرف حاله وإن صح هذا الكلام عن أبي سعيد الخراز فليس مقصوده أن القرب من الله ليس إلا مجرد ذلك ولكن أراد أن هذا هو الذي يحقق القرب وحقيقة الشئ عندهم ما يحققه فيكون علة لوجوده ودليلا على صحته
كما يروون في الحديث الذي رواه ابن عساكر مرسلا وروى مسندا من وجه ضعيف لا يثبت أن النبي ﷺ قال لحارثة ابن سراقة كيف أصبحت يا حارثة قال أصبحت مؤمنا حقا قال فما حقيقة أيمانك فقال عزفت نفسي عن الدنيا فآستوى عندي حجرها وذهبها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتمتعون فيها وإلى أهل النار يعذبون فيها فقال عرفت فألزم عبد نور الله قلبه
فقولهم في هذا الحديث الذي يروونه ما حقيقة إيمانك أي ما يحققه ويصدقه فذكر ما يصدقه ويحققه من اليقين والزهد كما جاء في الحديث نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد
فقول أبي سعيد حقيقة القرب أي الذي يحققه هو خلو القلب مما سوى الله وسكونه إلى الله وهذا تحقيق الإخلاص والتوحيد الذي من حققه كان أقرب الخلق إلى الله وهو تحقيق كلمة الإخلاص لا إله إلا الله وهذا على درجتين فأهل الفناء يفقدون إدراك الأشياء ومعرفتها مصطلمين في ذكر الله والملائكة وأولو العلم وهو سبحانه شهد وحدانيتهم في الإلهيته متضمنه شهادته لجميع خلقه فإنه شهيد عليم ليس عن المخلوقات بغائب فأولو العلم الشاهدون ألا إله إلا هو إذا لم يكن فيهم عجز يوجب الفناء يعطون من القوة على ما يشهدون به الأمر وتلك شهادة كاملة أكمل من شهادة اهل الفناء فيفقدون تأله قلوبهم للأشياء ووجدهم وطمأنينتهم إليها معتاضين بتأله قلوبهم لله ووجدهم به وطمأنينة قلوبهم بذكره لا يفقدون الشهادة التي تزيد في علمهم وإيمانهم من شهود الربوبية المحيطة جملة وتفصيلا والإلهية الواجبة جملة وتفصيلا وما يدخل في ذلك من أصناف المخلوقات والمأمورات
=========
الاستقامة/5
وقال أبو القاسم سمعت محمد بن الحسين سمعت محمد بن علي الحافظ سمعت ابا معاذ القزويني سمعت أبا علي الدلال سمعت أبا عبد الله بن قهرمان سمعت إبراهيم الخواص يقول انتهيت إلى رجل وقد صرعه الشيطان فجعلت أؤذن في أذنه فناداني الشيطان من جوفه دعني أقتله فإنه يقول القرآن مخلوق
قلت هذه الحكاية موافقة لأصول السنة وقد ذكروا نحوها حكايات واعترض في ذلك الغزالي وغيره بأن هذا الاستدلال بكلام الشياطين في أصول الدين وذكر عن الإمام أحمد في ذلك حكاية باطلة ذكرها في المنخول فقال رب رجل يعتقد الشئ دليلا وليس بدليل كما يذكر
وجواب هذا أن الجن فيهم المؤمن والكافر كما دل على ذلك القرآن ويعرف ذلك بحال المصروع ويعرف بأسباب قد يقضي بها أهل المعرفة فإذا عرف ان الجني من أهل الإيمان كان هذا مثل ما قصه الله في القرآن من إيمان الجن بالقرآن وكما في السيرة من أخبار الهواتف
وإبراهيم الخواص من أكبر الرجال الذين لهم خوارق فله علمه بأن هذا الجني من المؤمنين لما ذكر هذه الحكاية على سبيل الذم لمن يقول بخلق القرآن
فصل
قال أبو القاسم وقال ابن عطاء لما خلق الله الأحرف جعلها سرا فلما
خلق آدم بث ذلك السر فيه ولم يبث ذلك السر في أحد من الملائكة فجرت الأحرف على لسان آدم بفنون الجريان وفنون المعارف فجعلها الله صورا لها
قال أبو القاسم صرح ابن عطاء رحمه الله بأن الحروف مخلوقة
قلت لم يذكر لهذه الحكاية إسنادا ومثل هذا لا تقوم به حجة ولا يحل لأحد أن يدل المسلمين في أصول دينهم بكلام لم تعرف صحة نقله مع ما علم من كثرة الكذب على المشايخ المقتدى بهم فلا يثبت بمثل هذا الكلام قول لابن عطاء ولا مذهب بل قد ظهر على هذه الحكاية من كذب ناقلها وجهل قائلها ما لا يصلح معه أن يحمد الاعتقاد بها فلو فرض ان هذه الحكاية قالها بعض الأعيان لكان فيها من الغلط ما يردها على قائلها
وكذلك أن الله لم يخص آدم بالأحرف وإنما خصه بتعليم الأسماء كلها كما قال تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء سورة البقرة 31
وقد تنازع الناس هل المراد بها أسماء من يعقل لقوله ثم عرضهم أو أسماء كل شئ على قولين
والأول اختيار ابن جرير الطبري وأبي بكر عبد العزيز صاحب الخلال وغيرهما
والثاني أصح لأن في الصحيحين في حديث الشفاعة عن النبي ﷺ يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شئ ويبين ذلك أن الملائكة كانوا يتكلمون قبل أن يخبرهم آدم بالأسماء وقد خاطبوا الله وخاطبوا آدم قبل ذلك
قال الله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة الآية سورة البقرة 30
قال وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لما خلق الله آدم قال اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم واسمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك فذهب إليهم فقال السلام عليكم فقالوا وعليك السلام ورحمة الله وبركاته فزادوه
وأيضا فآدم عليه السلام تكلم قبل أن يعلمه الله أسماء كل شئ كما في الصحيحين أن الله لما خلق آدم عطس فقال الحمد لله رب العالمين فقال الله له يرحمك ربك
وأيضا فمن المعلوم أن الملائكة كانوا يسبحون الله ويمجدونه قبل خلق آدم وقبل إخباره إياهم بالأسماء فكيف يظن ظان ان النطق كان مختصا بآدم لما علم الأسماء
وأيضا فإن هذه الحكاية من قائلها الأول مرسلة لا إسناد لها ولم يأثرها عن النبي ﷺ ولا عن أحد من أصحابه وأحسن أحوالها أن تكون من الإسرائليات التي إذا لم يعرف أنها حق أو باطل لم يصدق بها ولم يكذب ومثل هذه لا يعتمد عليها في الدين بحال
والمعروف عن بعض المشايخ حكاية لو ذكرها أبو القاسم لكان احتجاجه بها أمثل وهو ما أن الإمام أحمد ذكر له عن السري السقطي أنه ذكر عن بكر بن حبيش العابد أنه قال لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أومر فقال احمد هذا كفر
وهذا الكلام لم يقله بكر بن حبيش والسرى ونحوه من العباد إلا ليبينوا الفرق بين من لا يفعل إلا ما أمر به ومن يعتمد بما لم يؤمر به من البدع وهذا مقصود صحيح فإن العمل الصالح المقبول هو ما أمر الله به ورسوله دون شرع من الدين الذي لم يأذن به الله لكن كثير من العباد لا يحفظ الأحاديث ولا أسانيدها فكثيرا ما يغلطون في إسناد الحديث أو متنه ولهذا قال يحيى بن سعيد ما رأينا الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث يعني على سبيل الخطأ وقال أيوب السختياني إن من جيراني لمن ارجو بركة دعائهم في السحر ولو شهد عندي على جزرة بقل لما قبلت شهادته
ولهذا يميزون في اهل الخير والزهد والعبادة بين ثابت البناني والفضيل ابن عياض ونحوهما وبين مالك بن دينار وفرقد السبخي وحبيب العجمي وطبقتهم وكل هؤلاء أهل خير وفضل ودين والطبقة الأولى يدخل حديثها في الصحيح
وقال مالك بن أنس رحمه الله ادركت في هذا المسجد ثمانين رجلا لهم خير وفضل وصلاح كل يقول حدثني أبي عن جدي عن النبي ﷺ لم نأخذ عن أحد منهم شيئا وكان ابن شهاب يأتينا وهو شاب فنزدحم على بابه لأنه كان يعرف هذا الشأن
هذا وابن شهاب كان فيه من مداخلة الملوك وقبول جوائزهم ما لا يحبه أهل الزهد والنسك والله يختص كل قوم بما يختاره فأولئك النساك رووا هذا الاثر ليفرقوا بين العمل المشروع المأمور به وما ليس بمشروع مأمور به
وجاء في لفظ لما خلق الله الحروف فآحتج بهذا من يقول من الجهمية إن القرآن أو حروفه مخلوقة فقال أحمد هذا كفر لأن فيه القول بخلق ما هو من القرآن وذلك الأثر لا يعرف له إسناد ولا يعرف قائله ولا ناقله ولا يؤثر عن صاحب ولا تابع ولعله من الإسرائيليات فرد الاحتجاج به أسهل الأمور
وأما ما تضمنه من الفرق بين العمل الذي يؤمر به والذي لا يؤمر به فهذا الفرق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة متى كان في الأحاديث التي لا تعرف صحتها والأحاديث الضعيفة ما يوافق أصول الإسلام وما لا يوافق قبول الحق وترك الباطل فنقبل من هذه الحكاية ما وافق الاصول الاصول وهو الذي أخذه بكر بن حبيش والسرى وغيرهما ونرد منها ما خالف الأصول وهو الذي رده الإمام أحمد وغيره من أئمة الهدى مع أن أحمد من أعظم الناس قولا لما قصده السرى من الفرق بين المأمور وغير المأمور وهو من أعظم الناس أمرا بالعمل المشروع ونهيا عن غير المشروع
ثم حكاية السرى لعله لم يرد بالحروف إلا المداد الذي تكتب به الحروف فسجدت فإنه قال فسجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أومر وهذا إشارة إلى انتصاب الألف وانخفاض غيرها وهذا صورة ما يكتب به من المراد وأما الحروف التي أنزلها الله في كتابه فلا يختلف حكمها باختلاف ما يكتب به من صورة المداد
ولعل هذا أيضا هو الذي قصده في حكاية ابن عطاء إن كان لها أصل فإنه قد ذكرابن قتيبة في المعارف أن الله لما أهبط آدم انزل عليه حروف المعجم في إحدى وعشرين صحيفة فيكون ناقلها قصد أن آدم اختص من بين الملائكة بأن علم الكتابة بهده الحروف كما قال تعالى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم سورة العلق 4 5
والملائكة وإن كان الله قد وصفهم بأنهم يكتبون كما قال تعالى كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون سورة الانفطار 1112 وقال ورسلنا لديهم يكتبون سورة الزخرف 80 فلا يجب أن تكون حروفهم المكتوبة مثل الحروف التي يكتبها الآدميون إذ يكون الذين قالوا إنه خلق الحروف أرادوا أنه خلق أصوات العباد فلا ريب أن الله خالق أصوات العباد وأفعالهم لكن هذا لا يقتضي ان حروف القرآن أو مطلق الحروف مخلوقة بل يجب التفريق بين ما هو من صفات الله تعالى وما هو من خصائص المخلوقين
والتأويل من المداد ليس هو الظاهر من الحكاية فإنه قال فجرت الأحرف على لسان آدم ولا هو أيضا بذاك ولكن ذكر أمثاله هذه الحكايات لبيان المعتقدات نوع من ركوب الجهالات والضلالات فإذا تبين أنها لا تصح لا من ناقلها ولا من قائلها وأنها مشتملة على أنواع من الباطل كان بعد ذلك ذكر هذه التأويلات أحسن مما يذكره المحتجون بها من تأويلاتهم لنصوص الكتاب والسنة الصحيحات الصريحات
فتبين بذلك أن اهل السنة في كل مقام أصح نقلا وعقلا من غيرهم لان ذلك من تمام ظهور ما ارسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ظهوره بالحجة وظهوره بالقدرة
ثم إن هذه الحكاية المعروفة عن السرى لما بلغت الإمام أحمد أنكرها غاية الإنكار حتى توقف عن مدح السرى مع ما كان يذكر من فضله وورعه ونهى عن أن يذكر عنه مدحه حتى يظهر خطأه في ذلك مع أن السرى اعترف بأنه لم يقلها ذاكرا وإنما قالها آثرا
فذكر الخلال في كتاب السنة ذكر السرى وما أحدث اخبرني أحمد بن محمد عن مطر وزكريا بن يحيى أن ابا طالب حدثهم أنه قال لأبي عبد الله جاءني كتاب من طرسوس أن سريا قال لما خلق الله الحروف سجدت إلا الألف فإنه قال لا أسجد حتى أومر فقال هذا الكفر
قال الخلال فأخبرنا ابو بكر المروذي قال جاءني كتاب من الثغر في أمر رجل تكلم بكلام وعرضته على ابي عبد الله فيه لما خلق الله الحروف سجدت إلا الألف فغضب أبو عبد الله غضبا شديدا حتى قال هذا كلام الزنادقة ويله هذا جهمي وكان في الكتاب الذي كتب به أن هذا الرجل قال لو أن غلاما من غلمان حارث يعني المحاسبي لخبر أهل طرطوس فقال أبو عبد الله أشد ما ها هنا قوله لو أن غلاما من غلمان حارث لخبر أهل طرطوس ما البلية إلا حارث حذروا عنه أشد التحذير
قال أبو بكر المروذي جاءني حسن بن البزاز برقعة فيها كلام هذا الرجل بخطه قال إن هذا خطه فيها مكتوب إني إنما حكيت عن غيري فلما قرأتها قلت لحسن قد أقر قال إني أقر قلت فقوله حكيت عن غيري قلت لأبي عبد الله بأي شئ ترى قال دعه حتى يقر وبلغ أبا عبد الله عن حسن أنه قال بعد مجيئه إلى أبي عبد الله بالرقعة ليس له عند ابي عبد الله إلا خيرا فقال اذهب إليه فقل له قد علمت ما في قلبي حتى على مثل هذا قل له لا تحك عني شيئا مرة فلقيت حسنا فقال ليس أحكى عنه شيئا
ثم أيضا قول القائل لما خلق الله الأحرف جعلها سرا له فلما خلق آدم عليه السلام بث ذلك السر فيه ولم يبث ذلك السر في أحد من ملائكته فساده ظاهر من وجوه
أحدها أن فيه أنه خلق الحروف قبل خلق آدم وهذا لم يقله أحد من المسلمين فإن الذين يقولون بخلقها يقولون إنما يخلقها إذا اراد إنزال كلامه على رسوله فيخلق حروفا في الهواء يسمعها جبريل أو غيره ينزل بها ويفهمه المعنى الذي أراده بتلك الحروف فيكون جبريل أول من تكلم بتلك الحروف وعبر بها عن مراد الله وهو المعنى القائم بنفسه كما يعبر عن الأخرس من فهم معناه بإشارته فأما أن يقال خلقت الحروف قبل خلق آدم عليه السلام ولم تخاطب بها الملائكة فهذا لم يقله أحد
الثاني أنه جعل الحروف لآدم دون الملائكة ومن المعلوم أن الذي نزل بالقرآن وغيره من كلام الله هم الملائكة وهم تلقوا الحروف عن الله قبل أن يتلقاها الأنبياء فكيف يسلبون ذلك
الثالث أن قوله جعلها سرا له كلام لا حاصل له لأن السر ما أسره الله فأخفاه عن عباده أو بعضهم أو ما تضمن ما أسره وهذه الحروف أظهر شئ لبني ادم حتى أن النطق بها أظهر صفاته
وكذلك قال الله تعالى فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون سورة الذاريات 23
وإن قيل إن الحروف تتضمن من المعاني ما أسره الله فلا ريب أنها تتضمن كل ما يعبر عنه من المعاني سرها وجهرها فالاختصاص للسر بها
قال أبو القاسم قال سهل بن عبد الله إن الحروف لسان فعل لا لسان ذات لانها فعل في مفعول قال وهذا أيضا صربح لأن الحروف مخلوقة
قلت هذا الكلام ليس له إسناد عن سهل وكلام سهل بن عبد الله وأصحابه في السنة والصفات والقرآن اشهر من ان يذكر هنا وسهل من اعظم الناس قولا بأن القرآن كله حروف ومعانيه غير مخلوقة بل صاحبه أبو الحسن بن سالم أخبر الناس بقوله قد عرف قوله وقول أصحابه في ذلك وقد ذكر أبو بكر بن اسحاق الكلاباذي في التعرف في مذاهب التصوف عن الحارث المحاسبي وأبي الحسن بن سالم أنهما كانا يقولان إن الله يتكلم بصوت ومذهب السالمية أصحاب سهل ظاهر في ذلك فلا يترك هذا الأمر المشهور المعروف الظاهر لحكاية مرسلة لا إسناد لها
ثم هذا الكلام في ظاهره من قلة المعرفة ما لا يصلح أن يضاف إلى سهل بن عبد الله لأن قوله لأنها فعل في مفعول إن أراد فعل قائم بذات الله كما يقال تكلم وخلق ورزق عند الجمهور الذين يقولون هذه أمور قائمة بذاته فقوله بعد ذلك في مفعول لا يصلح فإنه فعل قائم بذات الله ليس في مفعول
وإن أراد بها فعل منفصل عن الله فكل متصل عن الله فهو مفعول مثل قول القائل مفعول في مفعول وفعل في فعل وهذا لا يصلح أن يحتج به لأنه متى علم أنها مفعولة وأنها فعل بمعنى مفعول فسواء كانت في نظيرها أو لم تكن هي مخلوقة
وإن قيل إنه أراد فعل في الآدمي الذي هو مفعول فيقال كلاهما مفعول وأيضا فهذا إنما يدل على أن اصوات العباد ومدادهم مخلوق لا يدل على أن الحروف التي هي من كلام الله مخلوقة
قال أبو القاسم وقال الجنيد في جوابات مسائل الشاميين التوكل عمل القلب والتوحيد قول القلب
قال أبو القاسم وهذا قول أهل الأصول إن الكلام هو المعنى الذي قام بالقلب من معنى الأمر والنهي والخبر والاستخبار
قلت هذه المقالة لما أسند موضعها من كلام أبي القاسم الجنيد لم يكن فيها حجة لمطلوبه فالمذكور عن المشايخ الكبار ليس فيه صحيح صريح المطلوبه الذي يخالف به الأحاديث الصحيحة وإجماع السلف بل إما أن يفقد فيه الوصفان أو احدهما وذلك أن الجنيد رضي الله عنه ذكر أن التوحيد قول القلب فأضاف القول إلى القلب وهذا مما لا نزاع فيه أن القول والحديث ونحوهما مع التقييد يضاف إلى النفس والقلب
كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل
وقد قال تعالى إن النفس لأمارة بالسوء سورة يوسف 53 وقال ابو الدرداء ليحذر أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر وقال الحسن البصري ما زال أهل العلم يوعدون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها أسماع وأبصار فنطقت بالعلم وأورثت الحكمة
فوصف القلب والنفس بأنه يقول ويأمر ويتحدث وينطق ونحو ذلك يستعمل مع التقييد بأتفاق المسلمين لكن النزاع في شيئين
أحدهما أن الكلام على الإطلاق من غير إضافة إلى نفس وقلب أو نحو ذلك هل هو اسم لمجرد أو لمجرد الحروف أو لمجموع المعاني والحروف
هذا فيه ثلاثة أقوال فالقشيري وطائفة يقولون بالاول وطائفة أخرى من أهل الكلام والفقه والعربية تقول بالثاني وأما سلف الأمة وأئمتها فإنهم يقولون بالوسط وهو الثالث أن الكلام عند الإطلاق يتناول الحروف والمعاني جميعا
وقول النبي ﷺ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتلكم أو تعمل به يفرق بين الحديث المقيد بالنفس وبين الكلام المطلق
الثاني أن معنى الكلام الذي تطابقه العبارة هل هو من جنس العلوم والإرادات أم ليس من هذا الأحسن بل هو حقيقة أخرى وهذا فيه نزاع بين الطوائف المنتسبة إلى السنة والتي ليست منتسبة إليها ففي هؤلاء وهؤلاء من يقول بهذا وفي هؤلاء وهؤلاء من يقول بهذا
فتبين أن ما ذكره الجنيد من قول القلب ليس هو قول من يقول إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس
وأما قول أبي القاسم إن هذا قول أهل الأصول بالعموم فلا خلاف بين الناس أن أول من أحدث هذا القول في الإسلام أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري واتبعه على ذلك أبو الحسن الأشعري ومن نصر طريقتهما وكانا يخالفان المعتزلة ويوافقان أهل السنة في جمل أصول السنة ولكن لتقصيرهما في علم السنة وتسليمهما للمعتزلة أصولا فاسدة صار في مواضع من قوليهما مواضع فيها من قول المعتزلة ما خالفا به السنة وإن كانا لم يوافقا المعتزلة مطلقا
وهذه المسألة مسالة حد الكلام قد أنكرها عليهما جميع طوائف المسلمين حتى الفقهاء والأصوليون والمصنفون في اصول الفقه على مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يذكرون الكلام وأنواعه من الأمر والنهي والخبر وما فيه من العام والخاص وأن الصيغة داخلة في مسمى ذلك عند جميع فرق الأمة أصوليها وفقيهها ومحدثها وصوفيها إلا عند هؤلاء فكيف يضاف هذا القول إلى أهل الاصول عموما وإطلاقا
ثم من العجب قول ابي القاسم عن أهل الأصول هو المعنى الذي قام بالقلب من معنى الأمر والنهي والخبر والاستخبار ومعلوم أن الأمر والنهي والخبر والاستخبار أنواع الكلام والجنس ينقسم إلى أنواعه واسمه صادق على كل نوع من الانواع كما إذا قسمنا الحيوان إلى طير ودواب يعمهما ويصدق اسمه على كل منهما فيجب أن يكون حد الكلام واسمه صادقا على أنواعه من الأمر والنهي والخبر والاستخبار فإن كان الكلام ليس إلا مجرد المعنى فهذه الأنواع ليست إلا مجرد معنى فإذا قال إن الكلام هو المعنى الذي قام بالقلب من معنى الأمر والنهي والخبر والاستخبار كان قد جعل المعنى الذي للأمر غير الأمر وهذا يطابق قول اهل الجماعة لا يطابق قوله بل كان حقه أن يقول المعنى الذي قام بالقلب من الأمر والنهي لا من معنى الأمر والنهي لكنه تكلم في الأمر والنهي والخبر والاستخبار
فأما في الكلام فتكلم فيه بما تلقاه عن أولئك المتكلمة الذين أحسنوا في مواضع كثيرة وردوا بها على المعتزلة وغيرهم وأساءوا في مواضع خالفوا بها السنة وإن كانوا متأولين والله يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم سورة الحشر 10
فصل في الحديث الذي في الصحيحين عن جويرية أم المؤمنين لما خرج النبي
ص من عندها ثم رجع إليها فوجدها تسبح بحصى فقال لها ما زلت منذ اليوم قالت نعم قال النبي ﷺ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتيهن منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله مداد كلماته
فيه فوائد ترد على الجهمية والمتفلسفة
منها قوله زنة عرشه وذلك في معرض التعظيم لوزن العرش وأنه أعظم المخلوقات وزنا وذلك يدل على ثقله كما جاءت بعض الأحاديث بثقله خلافا لما يقوله من يقوله المتفلسفة إن الأفلاك وما فوقها ليس بثقيل ولا خفيف بناء على اصطلاح لهم الثقيل ما تحرك إلى السفل والخفيف ما تحرك إلى فوق وإن الأفلاك لا تهبط ولا تصعد وذلك أن الله أمسكها بقدرته كما امسك الارض في مقرها مع العلم بأن مقر الأجسام أمر عدمي ليس فيه ما يوجب اختصاص شئ به دون الآخر
ومنها قوله رضا نفسه فيه إثبات نفسه وإثبات رضاه وأن رضاه ليس هو مجرد إرادته فإنه قد قال عدد خلقه والمخلوق هو الذي أراده وشاءه فلو كان رضاه هو إرادته لكان مراده موجودا فإن مراده قد وجد قبل هذا الكلام فإنه ما شاء الله كان وهذا الكلام يقتضي أن رضى نفسه أعظم من ذلك ومن ذلك أنه جمع بين رضا نفسه ومداد كلماته فأثبت له الرضا والكلام والرضا مستلزم الإرادة وإن لم يكن هو عين الإرادة ففيه إثبات كلامه ورضاه الذي يتضمن محبته ومشيئته
وهاتان الصفتان الصفتان هما اللتان أنكرهما الجعد بن درهم أول الجهمية لما زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا إذ لا محبة له ولا رضا ولم يكلم موسى تكليما وعن ذلك نفت المعتزلة أن يكون له في نفسه إرادة أو كلام ولم يجعلوا ذلك إلا مخلوقا في غيره
وتقرب منهم طائفة من الأشعرية فأثبتت الإرادة ولم يجعلوا المحبة والرضا صفة إلا الإرادة وأثبتت الكلام ولم يجعلوه إلا معنى واحدا قائما بذاته فوافقوا أهل الإثبات في بعض الحق والجهمية في بعض الباطل
ومن ذلك أنه انتقل من صفة المخلوق إلى صفة الخالق فذكر عدد المخلوقات وذكر وزن سقفها وأعظمها كما في الحديث الصحيح قال النبي ﷺ إذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنها وسط الجنة وأعلى الجنة وسقفها عرش الرحمن
فصل يتعلق بالسماع
قال أبو القاسم القشيري في باب السماع قال الله
تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18
قال أبو القاسم اللام في قوله القول تقتضي التعميم والاستغراق والدليل عليه أنه مدحهم بأتباع الأحسن
قلت وهذا يذكره طائفة منهم أبو عبد الرحمن السلمي وغيره وهو غلط بأتفاق الأمة وأئمتها لوجوه
احدهما أن الله سبحانه وتعالى لا يأمر باستماع كل قول بإجماع المسلمين حتى يقال اللام للاستغراق والعموم بل من القول ما يحرم استماعه ومنه ما يكره كما قال النبي ﷺ من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة
وقد قال تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون سورة الأنعام 68 69
فقد أمر سبحانه بالإعراض عن كلام الخائضين في آياته ونهى عن القعود معهم فكيف يكون استماع كل قول محمودا
وقال تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيا ت الله يكفر بها ويستهزئ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم سورة النساء 140
فجعل الله المستمع لهذا الحديث مثل قائله فكيف يمدح كل مستمع كل قول
وقال تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون سورة المؤمنون 1 3
وقال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما إلى قوله وإذا مروا باللغو مروا كراما سورة الفرقان 63 72
وروى أن ابن مسعود سمع صوت لهو فأعرض عنه فقال النبي ﷺ إن كان ابن مسعود لكريما
فإذا كان الله تعالى قد مدح وأثنى علي من أعرض عن اللغو ومر به كريما لم يستمعه كيف يكون استماع كل قول مدوحا
وقد قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا سورة الإسراء 36 فقد أخبر أنه يسأل العبد عن سمعه وبصره وفؤاده ونهاه أن يقول ما ليس له به علم
وإذا كان السمع والبصر والفؤاد كل ذلك منقسم إلى ما يؤمر به وإلى ما ينهى عنه والعبد مسئول عن ذلك كله كيف يجوز أن يقال كل قول في العالم كان فالعبد محمود على استماعه هذا بمنزلة أن يقال كل مرئي في العالم فالعبد ممدوح على النظر إليه
ولهذا دخل الشيطان من هذين البابين على كثير من النساك فتوسعوا في النظر إلى الصور المنهى عن النظر إليها وفي استماع الأقوال والأصوات التي نهوا عن استماعها ولم يكتف الشيطان بذلك حتى زين لهم أن جعلوا ما نهوا عنه عبادة وقربة وطاعة فلم يحرموا ما حرم الله ورسوله ولم يدينوا دين الحق
كما حكى عن أبي سعيد الخراز أنه قال رأيت إبليس في النوم وهو يمر عني ناحية فقلت له تعال مالك فقال بقى لي فيكم لطيفة السماع وصحبة الأحداث
وأصحاب ذلك وإن كان فيهم من ولاية الله وتقواهم ومحبته والقرب إليه ما فاقوا به على من لم يساوهم في مقامهم فليسوا في ذلك بأعظم من أكابر السلف المقتتلين في الفتنة والسلف المستحلين لطائفة من الأشربة المسكرة والمستحلين لربا الفضل والمتعة والمستحلين للحشوش كما قال عبد الله بن المبارك رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه الهفوة والزلة لا يقتدى به في هفوته وزلته
والغلط يقع تارة في استحلال المحرم بالتأويل وفي ترك الواجب بالتأويل وفي جعل المحرم عبادة بالتأويل كالمقتتلين في الفتنة حيث رأوا ذلك واجبا ومستحبا وكما قال طائفة مثل عبد الله بن داود الحربي وغيره إن شرب النبيذ المختلف فيه أفضل من تركه
فالتأويل يتناول الأصناف الخمسة فيجعل الواجب مستحبا ومباحا ومكروها ومحرما ويجعل المرحم مكروها ومباحا ومستحبا وواجبا وهكذا في سائرها
ومما يعتبر به أن النساك وأهل العبادة والإرادة توسعوا في السمع والبصر وتوسع العلماء وأهل الكلام والنظر في الكلام والنظر بالقلب حتى صار لهؤلاء الكلام المحدث ولهؤلاء السماع المحدث هؤلاء في الحروف وهؤلاء في الصوت وتجد أهل السماع كثيري الإنكار على أهل الكلام كما صنف الشيخ ابو عبد الرحمن السلمي مصنفا في ذم الكلام وأهله وهما من أئمة أهل السماع ونجد أهل العلم والكلام مبالغين في ذم أهل السماع كما نجده في كلام أبي بكر بن فورك وكلام المتكلمين في ذم السماع وأهله والصوفية ما لا يحصى كثرة
وذلك أن هؤلاء فيهم انحراف يشبه انحراف اليهود أهل العلم والكلام وهؤلاء فيهم انحراف يشبه انحراف النصارى أهل العبادة والإرادة
وقد قال الله في الطائفتين وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون سورة البقرة 113
ولهذا تجد تنافرا بين الفقهاء والصوفية وبين العلماء والفقراء إمن هذا الوجه
والصواب أن يحمد من حال كل قوم ما حمده الله ورسوله كما جاء به الكتاب والسنة ويذم من حال كل قوم ما ذمه الله ورسوله كما جاء به الكتاب والسنة ويجتهد المسلم في تحقيق قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة 6 7 قال النبي ﷺ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون وقد تكلمنا على بعض ما يتعلق بهذه الأمور في غير هذا الموضع في مواضع
الوجه الثاني أن المراد بالقول في هذا الموضع القرآن كما جاء ذلك في قوله ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون سورة القصص 51 فإن القول الذي أمروا بتدبره هو الذي أمروا بأستماعه والتدبر بالنظر والاستدلال والاعتبار والاستماع فمن أمرنا بأستماع كل قول أو بأستماع القول الذي لم يشرع استماعه فهو بمنزلة من أمر بتدبر كل قول والنظر فيه أو بالتدبر للكلام الذي لم يشرع تدبره والنظر فيه فالمنحرفون في النظر والاستدلال بمثل هذه الأقوال من أهل الكلام المبتدع
وذلك أن اللام في لغة العرب هي للتعريف فتنصرف إلى المعروف عند المتكلم والمخاطب وهي تعم جميع المعروف فاللام في القول تقتضي التعميم والاستغراق لكن عموم ما عرفته وهو القول المعهود المعروف بين المخاطب والمخاطب ومعلوم ان ذلك هو القول الذي أثنى الله عليه وأمرنا بأستماعه والتدبر له واتباعه فإنه قال في أول هذه السورة تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فأعبد الله مخلصا له الدين الا لله الدين الخالص سورة الزمر 1 3 فذكر في السورة كلامه ودينه الكلم الطيب والعمل الصالح
وخير الكلام كلام الله وأصل العمل الصالح عبادة الله وحده لا شريك له كما في قوله قل الله أعبد مخلصا له ديني فأعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين إلى قوله والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوا وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم اولو الألباب سورة الزمر 14 18
ثم قال بعد ذلك أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله سورة الزمر 22 23
فأثنى على أهل السماع والوجد للحديث الذي نزله وهو أحسن الحديث ولم يثن على مطلق الحديث ومستمعه بل تضمن السياق الثناء على أهل ذكره والاستماع لحديثه كما جمع بينهما في قوله ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق سورة الحديد 16 وفي قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا سورة الأنفال 2
وقال تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول سورة الأعراف 204 205
ثم قال بعد ذلك ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون سورة الزمر 27 28 فذكر القرآن وبين أنه قدر فيه من جميع المقاييس والأمثال المضروبة لأجل التذكير فدعى هنا إلى التذكير والاعتبار بما فيه من الأمثال وذلك يتضمن النظر والاستدلال والكلام المشروع كما أنه في الآية الأولى أثنى على أهل السماع له والوجد وذلك يتضمن السماع والوجد المشروع
ثم قال بعد ذلك فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للمتكبرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون سورة الزمر 32 33
ذكر البخاري في صحيحه تفسير مجاهد وهو أصح تفسير التابعين قال والذي جاء بالصدق القرآن وصدق به المؤمن يجئ يوم القيامة يقول هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه فذكر الصدق والمصدق به مثنيا عليه وذكر الكاذب والمكذب للحق وهما نوعان من القول ملعونان هما وأهلها فكيف يكون مثنيا على من استمعها
ولا ريب أن البدعة الكلامية والسماعية المخالفة للكتاب والسنة تتضمن الكذب على الله والتكذيب بالحق كالجهمية الذين يصفون الله بخلاف ماوصف به نفسه فيفترون عليه الكذب أو يروون في ذلك آثار مضافة إلى الله أو يضربون مقاييس ويسندونها إلى العلوم الضرورية والمعقول الصحيح الذي هو حق من الله وكل ذلك كذب ويكذبون بالحق لما جاءه وهو ما ورد به الكتاب والسنة من الخبر بالحق والأمثال المضروبة له وكذلك كثير من الأشعارالتي يسمعها اهل السماع قد يتضمن من الكذب على الله والتكذيب بالحق أنواعا
ونفس الانتصار لما خالف الشريعة من السماع وغيره يتضمن الكذب على الله مثل أن يقول القائل إن الله أراد بقوله الذين يستمعون القول سورة الزمر 18 مستمع كل قول في العالم فهذا كذب على الله وإن كان قائله منا ولأنهم يكذبون بالحق المخالف لأهوائهم
ثم قال تعالى بعد ذلك إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما انت عليهم بوكيل سورة الزمر 41 فأخبر أنه أنزل القول الذي هو الكتاب بالحق وإن المهتدى لنفسه هداه وضلاله على نفسه والرسول ليس بوكيل عليهم يحصى أعمالهم ويجزيهم عليها بل إلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم
ثم قال يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ولا تقنطوا من رحمة الله إلى قوله واتبعوا احسن ما أنزل إليكم من ربكم سورة الزمر 53 55 وهذا الأحسن هنا هو الأحسن الذي في قوله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18 وفي قوله لموسى عن التوراة فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سورة الأعراف 145 كما سنذكره إن شاء الله
ثم قال وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت ابوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلا إلى قوله وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا إلى قوله وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين سورة الزمر 71 74 مع قوله وجئ بالنبيين والشهداء سورة الزمر 69
فجعل الفرقان بين أهل الجنة والنار هؤلاء الآيات التي تلتها الرسل عليهم فمن استمعها واتبعها كان من المؤمنين أهل الجنة ومن أعرض عنها كان من الكافرين أهل النار
والكتاب هو الذي جعله الله حاكما بين الناس كما قال وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه سورة البقرة
فهذا كله إذا تدبره المؤمن علم علما يقينا أن الكتاب والقول والحديث وآيات الله كل ذلك واحد والمحمودون الذين أثنى الله عليهم هم المتبعون لذلك استماعا وتدبرا وإيمانا وعملا أما مدح الاستماع لكل قول فهذا لا يقصده عاقل فضلا عن ان يفسر به كلام الله وهذا يتوكد بالوجه الثالث
وهو ان الله في كتابه إنما حمد استماع القرآن وذم المعرضين عن استماعه وجعلهم أهل الكفر والجهل الصم البكم فأما مدحه لاستماع كل قول فهذا شئ لم يذكره الله قط كما قال تعالى وإذا قرئ القرآن فآستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون سورة الأعراف 204
وقال تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا سورة الأنفال 2
وقال تعالى أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا سورة مريم 58
وقال تعالى وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق سورة المائدة 83
وقال تعالى الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا سورة الإسراء 107 109
وقال الله تعالى في ذم المعرضين عنه إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون سورة الأنفال 22 23
وقال تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون سورة البقرة 171
وقال تعالى والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا سورة الفرقان 73
وفال تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون سورة فصلت 26
وقال تعالى فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستفرة فرت من قسورة سورة المدثر 49 51
وقال تعالى أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون سورة النجم 59 61 قال غير واحد من السلف هو الغناء فقال اسمد لنا أي عن لنا فذم المعرض عما يجب من استماع المشتغل عنه باستماع الغناء كما هو فعل كثير من الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وحال كثير من المتنسكة في اعتياضهم بسماع المكاء والتصدية عن سماع قول الله تعالى
ومثل هذا قوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا سورة لقمان 6
وقال تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ثم قال وعلى أبصارهم غشاوة سورة البقرة 6 7
وقال تعالى وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون سورة فصلت 5
وقال تعالى ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم سورة محمد 16
وقال ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون سورة يونس 42
وقال ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون سورة يونس 43
وقال تعالى ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا سورة الأنعام 25
الوجه الرابع أنهم لا يستحسنون استماع كل قول منظوم ومنثور بل هم من أعظم الناس كراهة ونفرة لما لا يحبونه من الأقوال منظومها ومنثورها و نفورهم عن كثير من الأقوال أعظم من نفور المنازع لهم في سماع المكاء والتصدية عن هذا السماع وإذا لم يكن العموم مرادا بالاتفاق كان حمل الآية عليه باطلا
الوجه الخامس أنه قال فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 17 18 فمدحهم بأستماع القول واتباع أحسنه
ومعلوم أن كثيرا من القول ليس فيه حسن فضلا عن ان يكون فيه أحسن بل فيه كما قال الله تعالى ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار سورة إبراهيم 26
وقال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أوكذب بالحق لما جاءوه سورة العنكبوت 68
وقال وكذلك نجزي المفترين سورة الاعراف 152
وقال ولا يغتب بعضكم بعبضا سورة الحجرات 12
وقال تعالى ولا تنابزوا بالألقاب سورة الحجرات 11
وقال إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول سورة المجادلة 9
وقال تعالى ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا سورة النساء 81
وهو قد استدل بقوله فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18 على العموم وهو حجة على صدق ذلك كما تقدم
وقوله فيتبعون أحسنه كقوله في هذه السورة واتبعوا أحسن ما انزل إليكم من ربكم سورة الزمر 55 فهذه الكلمة مثل هذه الكلمة سواء بسواء
وهذا من معاني تشابه القرآن كما قال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى سورة الزمر 23 فاتباع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا هو اتباع أحسن القول
وبهذا أمر بني إسرائيل حيث قال وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سورة الأعراف 145
============
الاستقامة/6
ثم قال ابو القاسم وقال تعالى فهم في روضة يحبرون سورة الروم 15 جاء في التفسير أنه السماع
قلت فهذا قد ورد عن طائفة من السلف أنه السماع الحسن في الجنة وان الحور العين يغنين بأصوات لم يسمع الخلائق بأحسن منها لكن تنعيم الله تعالى لعباده بالأصوات الحسنة في الجنة واستماعها لا يقتضي أنه يشرع أو يبيح سماع كل صوت في الدنيا فقد وعد في الآخرة بأشياء حرمها في الدنيا كالخمر والحرير واواني الذهب والفضة
بل قال ﷺ من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة وقال من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وقال لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة
وهذه الأحاديث من الصحاح المشاهير المجمع على صحتها فقد أخبر أنه من استعمل هذه الامور في الدنيا من المطعوم والملبوس وغيرها لم يستعلمه في الآخرة
فلو قيل له هذا السماع الحسن الموعود به في الجنة هو لمن نزه مسامعه في الدنيا عن سماع الملاهي لكان هذا أشبه بالحق والسنة وقد ورد به الأثر يقول الله يوم القيامة أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشياطين أدخلوهم وأسمعوهم تحميدي وتمجيدي والثناء على وأخبروهم أنهم لا خوف عليهم ولاهم يحزنون
ثم قال أبو القاسم واعلم أن سماع الأشعار بالألحان الطيبة والنغم المستلذة إذا لم يعتقد المستمع محظورا ولم يسمع على مذموم في الشرع ولم ينجر في زمان هواه ولم ينخرط في سلك لهوه مباحا في الجملة ولا خلاف أن الأشعار أنشدت بين يدي النبي ﷺ وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها فإذا جاز سماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان هذا ظاهر من الأمر ثم ما يوجب للمستمع توفر الرغبة على الطاعات وتذكر ما أعد الله لعباده المتقين من الدرجات ويحمله على التحرز من الزلات ويؤدي إلى قلبه في الحال صفاء الواردات مستحب في الدين ومختار في الشرع
قال وقد جرى على لفظ الرسول ﷺ ما هو قريب من الشعر وإن لم يقصد أن يكون شعرا وذكر الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك قال كانت الأنصار يحفرون الخندق فجعلوا يقولون
... نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا ...
فأجابهم رسول الله ﷺ ... اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة ...
وقال ليس هذا اللفظ منه ﷺ على وزن الشعر
قلت تضمن هذا الكلام شيئين
أحدهما إباحة سماع الألحان والنغمات المستلذة بشرط ألا يعتقد المستمع محظورا وألا يسمع مذموما في الشرع وألا يتبع منه هواه
والثاني أنما أوجد للمستمع الرغبة في الطاعات والاحتراز من الذنوب وتذكر وعد الحق ووصول الأحوال الحسنة إلى قلبه فهو مستحب
وعلى هاتين المقدمتين بني من قال بأستحباب ذلك مثل أبي عبد الرحمن السلمى وأبي حامد وغيرهما وفي هؤلاء من قد يوجبه أحيانا إذا رأوا أنه لا يؤدي الواجب إلا به
وكذلك يفضلونه على سماع القرآن إذا رأوا أن ما يحصل بسماع الألحان أكثر مما يحصل بسماع القرآن وهم في ذلك يضاهون لمن يوجب من الكلام المحدث ما يوجبه ولمن يفضل ما فيه من العلم على ما يستفاد من القرآن والحديث
لكن في أولئك من يرى الإيمان لا يتم إلا بما ابتدعوه من الكلام وفيهم من يفكى بمخالفته او يفسق
وأهل السماع أيضا فيهم من يرى الإيمان لا يتم إلا به وفيهم من يقول في منكره الأقوال العظيمة وقد يكون يسعى في قتل منكره لكن جنسهم كان خيرا من جنس المتكلمة مما فعلوا غير ذلك من الذنوب كما يستحبون علم الكلام ويوجبونه ويذمون تاركه ويسبونه ويعاملونه من العداوة بما يعامل به الكافر وبإزاء استحباب هؤلاء أو ايجابهم أن قوما من أهل العلم يكفرونهم بأستحباب ذلك أو إيجابه ولهذا تجد في المستحبين له وفي المنكرين له من الغلو ما اوجب الافتراق والعداوة والبغضاء وأصل ذلك ترك الفريقين جميعا لما شرعه الله من السماع الشرعي الذي يحبه الله ورسوله وعباده المؤمنون
وهاتان المقدمتان كلاهما غلط مشتمل على دليل مجمل من جنس استدلالهم بما ظنوه من العموم في قوله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18 وبما وعد الله به في الآخرة من السماع الحسن
ولهذا نشأ من هاتين المقدمتين اللتين لبس فيهما الحق بالباطل قول لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة ولا أئمتها فإنه وإن نقل عن بعض أهل المدينة وغيرهم أنه سمع الغناء فلم يقل أحد منهم أنه مستحب في الدين ومختار في الشرع اصلا بل كان فاعل ذلك منهم يرى مع ذلك كراهته وأن تركه أفضل أو يرى أنه من الذنوب وغايته أن يطلب سلامته من الإثم او يراه مباحا كألتوسع في لذات المطاعم والمشارب والملابس والمساكن فأما رجاء الثواب بفعله والتقرب إلى الله فهذا لا يحفظ عن أحد من سلف الأمة وأئمتها بل المحفوظ عنهم أنهم رأوا هذا من ابتداع الزنادقة كما قال الحسن بن عبد العزيز الجروي سمعت الشافعي يقول خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن
والتغبير هو الضرب بالقضيب غبر أي أثار غبارا وهو آلة من الآلات التي تقرن بتلحين الغناء
والشافعي بكمال علمه وإيمانه علم ان هذا مما يصد القلوب عن القرآن ويعوضها به عنه كما قد وقع أن هذا إنما يقصده زندبق منافق من منافقة المشركين أو الصابئين وأهل الكتاب فإنهم هم الذين أمروا بهذا في الأصل كما قال ابن الرواندي اختلف الفقهاء في السماع فقال بعضهم هو مباح وقال بعضهم هو محرم وعندي أنه واجب وهذا مما اعتضد به أبو عبد الرحمن في مسألة السماع وهذا متهم بالزندقة
وكذلك ابن سينا في إشاراته أمر بسماع الألحان وبعشق الصور وجعل ذلك مما يزكي النفوس ويهذبها ويصفيها وهو من الصابئة الذين خلطوا بها من الحنيفة ما خلطوا وقبله الفارابي كان إماما في صناعة التصويت موسيقيا عظيما
فهذا كله يحقق قول الشافعي رضي الله عنه ونحن نتكلم على المقدمتين إن شاء الله بكلام يناسب ما كتبته هنا
فأما احتجاجه بأن النبي ﷺ سمع ما أنشد بين يديه من الأشعار ولم ينكره وأنه قال ما يشبه الشعر فيقال بل الشعر أعظم مما وصفته فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال إن من الشعر حكمة
وقال جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم
وكان ينصب لحسان منبرا لينشد الشعر الذي يهجو فيه المشركين وقال اللهم أيده بروح القدس وقال ﷺ له إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه
وقال عن عبد الله بن رواحة إن أخا لكم لا يقول الرفث
وقد استنشد الشريد بن سويد الثقفي مائة قافية من شعر أمية بن أبي الصلت وهو يقول هيه هيه
وسمع قصيدة كعب بن زهير وهذا باب واسع
وقد قال الله تعالى في كتابه بعد ان قال والشعراء يتبعهم الغاوون سورة الشعراء 224 ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون سورة الشعراء 225 227 فلم يذم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا من الشعراء المنتصرين من بعد ما ظلموا
ولهذا قال النبي ﷺ لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا فذم الممتلئ بالشعر الذي لم يستعمل بما يوجب الإيمان والعمل الصالح وذكر الله كثيرا ولم يذم الشعر مطلقا بل قد يبين معنى الحديث ما قاله الشافعي الشعر كلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه هذا قوله في الشعر مع قوله في التغبير ليبين أن إباحة أحدهما غير مستلزمة الآخر
وأما قوله فإذا جاز سماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن تسمع بالألحان الطيبة هذا ظاهر من الأمر فإن هذه حجة فاسدة جدا والظاهر إنما هو عكس ذلك فإن نفس سماع الالحان مجردا عن كلام يحتاج إلى ان تكون مباحة مع انفرادها وهذا من أكبر مواقع النزاع فإن أكثر المسلمين على خلاف ذلك ولو كان كل من الشعر أو التلحين مباحا على الانفراد لم يلزم الإباحة عند الاجتماع إلا بدليل خاص فإن التركيب له خاصة يتعين الحكم بها
وهذه الحجة بمنزلة حجة من قال إن خبر الواحد إذا لم يفد العلم عند انفراده لم يفد العلم مع نظائره ومع القرائن فجحد العلم الحاصل بالتواتر
وبمنزلة ما يذكر عن إياس بن معاوية أن رجلا قال له ما تقول في الماء قال حلال قال والتمر قال حلال قال فالنبيذ قال ماء وتمر
فقال له إياس بن معاوية أرأيت لو ضربتك بكف من تراب أكنت أقتلك قال لا قال فإن ضربتك بكف من تبن أكنت أقتلك قال لا قال فإن ضربتك بماء أكنت أقتلك قال لا قال فإن أخذت الماء والتبن والتراب فجعلتهما طينا وتركته حتى جف وضربتك به أقتلك قال نعم فقال كذلك النبيذ يقول إن القاتل هو القوة الحاصلة بالتركيب والمفسد للعقل هو القوة المسكرة الحاصلة بالتركيب
وكذلك هنا الذي يسكر النفوس ويلهيها ويصدها عن ذكر الله وعن الصلاة قد يكون في التركيب وليست الأصوات المجتمعة في استفزارها للنفوس وإزعاجها إما بنياحة وتحزين وإما بإطراب وإسكار وإما بإغضاب وحمية بمنزلة الصوت الواحد
وهذا القرآن الذي هو كلام الله وقد ندب النبي ﷺ إلى تحسين الصوت به وقال زينوا القرآن بأصواتكم
وقال لأبي موسى لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك فقال لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا
وكان عمر يقول يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون
وقال النبي ﷺ ما أذن الله لشئ كأذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن ويجهر به
وقال لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته
ومع هذا فلا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء ولا أن يقرن به من الألحان ما يقرن بالغناء من الآلات وغيرها لا عند من يقول بإباحة ذلك ولا عند من يحرمه بل المسلمون متفقون على الإنكار لأن يقرن بتحسين الصوت بالقرآن الآلات المطربة بالفم كالمزامير وباليد كالغرابيل
فلو قال قائل النبي ﷺ قد قرأ القرآن وقد استقرأه من ابن مسعود وقد استمع لقراءة أبي موسى وقال لقد أوتى مزمارا من مزامير داود فإذا قال قائل إذا جاز ذلك بغير هذه الألحان فلا بتغير الحكم بأن يسمع بالألحان كان هذا منكرا من القول وزورا بأفاق الناس
وأما المقدمة الثانية وهي قوله بعد أن أثبت الإباحة إن ما أوجب للمستمع أن يوفر الرغبة على الطاعات ويذكر ما أعد الله لعباده المتقين من الدرجات ويحمله على التحرز من الزلات ويؤدي إلى قلبه في الحال صفاء الواردات مستحب في الدين ومختار في الشرع فنقول تحقيق هذه المقدمة أن الله سبحانه يحب الرغبة فيما أمر به والحذر مما نهى عنه ويحب الإيمان بوعده ووعيده وتذكر ذلك وما يوجبه من خشيته ورجائه ومحبته والإنابة إليه ويحب الذين يحبونه فهو يحب الإيمان أصوله وفروعه والمؤمنين والسماع يحصل المحبوب وما حصل المحبوب فهو محبوب فالسماع محبوب
وهذه المقدمة مبناها على أصلين أحدهما معرفة ما يحبه الله
والثاني أن السماع يحصل محبوب الله خالصا أو راجحا
فإنه إذا حصل محبوبه ومكروهه والمكروه أغلب كان مذموما وإن تكافأ فيه المحبوب والمكروه لم يكن ولا مكروها
أما الأصل الأول وهو معرفة ما يحبه الله فهي أسهل وإن كان غلط في كثير منها كثير من الناس
وأما الأصل الثاني وهو ان السماع المحدث يحصل هذه المحبوبات فالشأن فيها ففيها زل من زل وضل من ضل ولا حول ولا قوة إلا بالله
ونحن نتكلم على ذلك بوجوه نبين بها إن شاء الله المقصود
الوجه الأول أن نقول يجب أن يعرف أن المرجع في القرب والطاعات والديانات والمستحبات إلى الشريعة ليس لأحد أن يبتدع دينا لم يأذن الله به ويقول هذا يحبه الله بل بهذه الطريق بدل دين الله وشرائعه وابتدع الشرك وما لم ينزل الله به سلطانا
وكل ما في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة وأئمة الدين ومشايخه من الحض على اتباع ما أنزل إلينا من ربنا واتباع صراطه المستقيم واتباع الكتاب واتباع الشريعة والنهي عن ضد ذلك فكله نهى عن هذا وهو ابتداع دين لم يأذن الله به سواء كان الدين فيه عبادة غير الله وعبادة الله بما لم يأمر به بل دين الحق أن نعبد الله وحده لا شريك له بما أمرنا به على ألسنة رسله كما قال الفضيل بن عياض في قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة الملك 2 قال أخلصه وأصوبه قيل يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على ألسنة
وكلام المشايخ الذين ذكرهم أبو القاسم في هذا الأصل كثير مثل ما ذكره عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه قال ربما يقع النكتة في قلبي من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة
وعن صاحبه أحمد بن أبي الحواري أنه قال من عمل بلا أتباع سنة فباطل عمله
وعن سهل بن عبد الله التستري أنه قال كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس وكل فعل يقفعله بالاقتداء فهو عذاب على النفس وعن أبي حفص النيسابوري أنه قال من لم يزن أفعاله وأحواله كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال
وعن الجنيد بن محمد أنه قال الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول ص
وعن الجنيد أيضا أنه قال من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة وعن أبي عثمان النيسابوري أنه قال من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة قال الله تعالى وإن تطيعوا تهتدوا سورة النور 54
وعن أبي حمزة البغدادي قال من علم طريق الحق تعالى سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله
وعن ابي عمرو بن نجيد قال كل حال لا يكون نتيجة علم فإن ضرره أكثر على صاحبه من نفعه وسئل عن التصوف فقال الصبر تحت الأمر والنهى
وعن أبي يعقوب النهرجورى قال أفضل الأحوال ما قارن العلم ومثل هذا كثير في كلام أئمة المشايخ وهم إنما وصوا بذلك لما يعلمونه من حال كثير من السالكين أنه يجري مع ذوقه ووجده وما يراه ويهواه غير متبع لسبيل الله التي بعث بها وهذا نوع الهوى بغير هدى من الله
والسماع المحدث يحرك الهوى ولهذا كان بعض المشايخ المصنفين في ذمه سمى كتابه الدليل الواضح في النهى عن ارتكاب الهوى الفاضح ولهذا كثيرا ما يوجد في كلام المشايخ الأمر بمتابعة العلم يعنون بذلك الشريعة كقول أبي يزيد البسطامي رحمه الله عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا أشد علي من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لتفتت واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد
وقال أبو الحسين النوري من رأيته يدعى مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربن منه
وقال أبو عثمان النيسابوري الصحبة مع الله بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع الرسول ﷺ بأتباع سنته ولزوم ظاهر العلم والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة والصحبة مع الأهل بحسن الخلق والصحبة مع الإخوان بدوام البشر ما لم يكن إثما والصحبة مع الجهالة بالدعاء لهم والرحمة عليهم
وذلك لأنه لما كان أصل الطريق هو الإرادة والقصد والعمل في ذلك فيه من الحب والوجد ما لا ينضبط فكثير ما يعمل السالك بمقتضى ما يجده في قلبه من المحبة وما يدركه ويذوقه من طعم العبادة وهذا إذا لم يكن موافقا لأمر الله ورسوله وإلا كان صاحبه في ضلال من جنس ضلال المشركين وأهل الكتاب الذين اتبعوا أهوائهم بغير هدى من الله
قال الله تعالى أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا سورة الفرقان 43
وقال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فأعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين سورة القصص 50
وقال تعالى وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين سورة الأنعام 119
وقال تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا نصير سورة البقرة 120
وقال تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل سورة المائدة 77
وكثيرا ما يبتلى من أهل السماع بشعبة من حال النصارى من الغلو في الدين واتباع أهواء قوم قد ضلوا من قبل وإن كان فيهم من فيه فضل وصلاح فهم فيما ابتدعوه من ذلك ضالون عن سبيل الله يحسبون أن هذه البدعة تهديهم إلى محبة الله وإنها لتصدهم عن سبيل الله فإنهم عشوا عن ذكر الله الذي هو كتابه عن استماعه وتدبره واتباعه
وقد قال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون سورة الزخرف 36 39
وقد قال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الأمر فآتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين سورة الجاثية 18 19 فالشريعة التي جعله عليها تتضمن ما أمر به وكل حب وذوق ووجد لا تشهد له هذه الشريعة فهو من أهواء الذين لا يعلمون فإن العلم بما يحبه الله إنما هو ما أنزله الله إلى عباده من هداه
ولهذا قال في إحدى الآيتين وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم سورة الأنعام 119 وقال في الآية الأخرى فإن لم يستجيبوا لك فآعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله سورة القصص 50
فكل من اتبع ذوقا أو وجدا بغير هدى من الله سواء كان ذلك عن حب أو بغض فليس لأحد أن يتبع ما يحبه فيأمر به ويتخذه دينا وينهى عما يبغضه ويذمه ويتخذ ذلك دينا إلا بهدى من الله وهو شريعة الله التي جعل عليها رسوله ومن اتبع ما يهواه حبا وبغضا بغير الشريعة فقد اتبع هواه بغير هدى من الله
ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شئ من الدين من أهل الأهواء ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء ويذمونهم بذلك ويأمرون بألا يغتر بهم ولو أظهروا ما أظهروه من العلم والكلام والحجاج أو العبادة والأحوال مثل المكاشفات وخرق العادات كقول يونس بن عبد الأعلى قلت للشافعي تدري يا أبا عبد الله ما كان يقول فيه صاحبنا أريد الليث بن سعد وغيره كان يقول لو رأيته يمشي على الماء لا تثق به ولا تعبأ به ولا تكلمه قال الشافعي فإنه والله ما قصر
وعن عاصم قال قال أبو العالية تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ولا تحرفوا الإسلام يمينا وشمالا وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه وإياكم وهذه الأهواء التي تلقى بين الناس العداوة والبغضاء فحدثت الحسن قال صدق ونصح قال فحدثت حفصة بنت سيرين فقالت أبا علي أنت حدثت محمدا بهذا قلت لا قالت فحدثه إذا
وقال أبي بن كعب عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما على الأرض عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت به عيناه من خشية الله فيعذبه
وما على الأرض عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فأقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهى كذلك إذ أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها ولتحط عنه خطاياه كما تحات عن تلك الشجرة ورقها وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا أو اقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم
وكذلك قال عبد الله بن مسعود الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة
وقيل لأبي بكر بن عياش يا أبا بكر من السنى قال الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشئ منها
وهذا أصل عظيم من أصول سبيل الله وطريقه يجب الاعتناء به وذلك أن كثيرا من الأفعال قد يكون مباحا في الشريعة أو مكروها أو متنازعا في إباحته وكراهته وربما كان محرما أو متنازعا في تحريمه فتستحبه طائفة من الناس يفعلونه على أنه حسن مستحب ودين وطريق يتقربون به حتى يعدون من يفعل ذلك أفضل ممن لا يفعله وربما جعلوا ذلك من لوازم طريقتهم إلى الله أو جعلوه شعار الصالحين وأولياء الله ويكون ذلك خطأ وضلالا وابتداع دين لم يأذن به الله
مثال ذلك حلق الرأس في غير الحج والعمرة لغير عذر فإن الله قد ذكر في كتابه حلق الرأس وتقصيره في النسك وذكر حلقه لعذر في قوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك سورة البقرة 196
وأما حلقه لغير ذلك فقد تنازع العلماء في إباحته وكراهته نزاعا معروفا على قولين هما روايتان عن أحمد ولا نزاع بين علماء المسلمين وأئمة الدين أن ذلك لا يشرع ولا يستحب ولا هو من سبيل الله وطريقه ولا من الزهد المشروع للمسلمين ولا مما أثنى الله به على أحد من الفقراء
ومع هذا فقد اتخذه طوائف من النساك الفقراء والصوفية دينا حتى جعلوه شعارا وعلامة على أهل الدين والنسك والخير والتوبة والسلوك إلى الله المشير إلى الفقر والصوفية حتى أن من لم يفعل ذلك يكون منقوصا عندهم خارجا عن الطريقة المفضلة المحمودة عندهم ومن فعل ذلك دخل في هديهم وطريقهم
وهذا ضلال عن طريق الله وسبيله باتفاق المسلمين واتخاذ ذلك دينا وشعارا لاهل الدين من أسباب تبديل الدين بل جعله علامة على المروق من الدين أقرب فإن الذي يكرهه وإن فعله صاحبه عادة لا عبادة يحتج بأنه من سيماء الخوارج المارقين الذين جاءت الأحاديث الصحاح عن النبي ﷺ بذمهم من غير وجه وروى عنه ﷺ سيماهم التحليق
فإذا كان هذا سيماء أولئك المارقين وفي المسند والسنن عن النبي ﷺ أنه قال من تشبه بقوم فهو منهم كان هذا على بعده من شعار أهل الدين أولى من العكس
ولهذا لما جاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله من المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وضربه ضربا عظيما كشف رأسه فوجده ذا ضفيرتين فقال لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك لأنه لو وجده محلوقا استدل بذلك على أنه من الخوارج المارقين وكان يقتله لأمر النبي ﷺ بقتالهم
وقد قال النبي ﷺ في صفتهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية
ولا ريب أن الخوارج كان فيهم من الاجتهاد في العبادة والورع ما لم يكن في الصحابة كما ذكره النبي ﷺ لكن لما كان على غير الوجه المشروع أفضى بهم إلى المروق من الدين
ولهذا قال عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة
وقد تأول فيهم على بن أبي طالب الذي قاتلهم بأمر النبي ﷺ وكان قتاله لهم من أعظم حسناته وغزواته التي يمدح بها لأن النبي ﷺ حض على قتالهم وقال لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد
وقال أينما لقيتموهم فآقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة
وفي الصحيح عن علي أيضا لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل
وكانوا يتشددون في أمر الذنوب والمعاصي حتى كفروا المسلمين وأوجبوا لهم الخلود في النار
ولا ريب أن كثيرا من النساك والعباد والزهاد قد يكون فيه شعبة من الخوارج وإن كان مخالفا لهم في شعب أخرى فلزوم زي معين من اللباس سواء كان مباحا أو كان مما يقال إنه مكروه بحيث يجعل ذلك دينا ومستحبا وشعارا لأهل الدين هو من البدع أيضا فكما أنه لا حرام إلا ما حرمه الله فلا دين إلا ما شرعه الله
الوجه الثاني ان قولهم إن هذا السماع يحصل محبوب الله وما حصل محبوبه فهو محبوب له قول باطل وكثير من هؤلاء أو أكثرهم حصل لهم الضلال والغواية من هذه الجهة فظنوا أن السماع يثير محبة الله ومحبة الله هي أصل الإيمان الذي هو عمل القلب وبكمالها يكمل وهي فيما يذكره أبو طالب وغيره نهاية المقامات وربما قال بعضهم هي المقام التي يرتقي مقدمة العامة وساقه الخاصة ويقول من يقول منهم إن السماع هو من توابع المحبة وأنهم إنما فعلوه لما يحركه من محبة الله سبحانه وتعالى إذ السماع يحرك من كل قلب ما فيه فمن كان في قلبه حب الله ورسوله حرك السماع هذا الحب وما يتبع الحب من الوجد والحلاوة وغير ذلك كما يثير من قلوب أخرى محبة الأوثان والصلبان والإخوان والخلان والأوطان والعشراء والمردان والنسوان ولهذا يذكر عن طائفة من أعيانهم سماع القصائد في باب المحبة كما فعل ابو طالب
فيقال إن ما يهيجه هذا السماع المبتدع ونحوه من الحب وحركة القلب ليس هو الذي يحبه الله ورسوله بل اشتماله على ما لا يحبه الله وعلى ما يبغضيه أكثر من اشتماله على ما يحبه ولا يبغضبه وحده عما يحبه الله ونهيه عن ذلك أعظم من تحريكه لما يحبه الله وإن كان يثير حبا وحركة ويظن أن ذلك يحبه الله وأنه مما يحبه الله فإنما ذلك من باب اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
ومما يبين ذلك أن الله سبحانه وتعالى بين في كتابه محبته وذكر موجباتهما وعلاماتها وهذا السماع يوجب مضادا لذلك منافيا له
وذلك أن الله يقول في كتابه ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165
وقال قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم سورة آل عمران 31
ويقول فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم سورة المائدة 54
فهذه ثلاثة أصول لاهل محبة الله إخلاص دينهم ومتابعة رسوله والجهاد في سبيله
فإنه اخبر عن المشركين الذين يتخذون الأنداد أنهم يحبونهم كما يحبون الله ثم قال والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165 فالمؤمنون أشد حبا لله من المشركين الذين يحبون الأنداد كما يحبون الله فمن أحب شيئا غير الله كما يحب الله فهو من المشركين لا من المؤمنين
ومحبة رسوله من محبته ولهذا قال رسول الله ﷺ في الحديث المتفق عليه في الصحيحين والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين
وفي صحيح البخاري أن عمر قال له يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شئ إلا من نفسي فقال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فأنت أحب إلى من نفسي قال فأنت الآن يا عمر
وفي الصحيحين أنه قال ثلاث من كن فيه فقد وجد حلاوة الإيمان وفي لفظ لا يجد حلاوة الإيمان إلا من كان فيه ثلاث خصال أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار
وقد قال الله تعالى قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فيتربصوا حتى يأتي الله بأمره فلم يرض منهم أن يكون حبهم لله ورسوله كحب الأهل والمال وأن يكون حب الجهاد في سبيله كحب الأهل والمال بل حتى يكون الجهاد في سبيله الذي هو تمام حبه وحب رسوله أحب إليهم من الأهل والمال
فهذا يقتضي أن يكون حبهم لله ورسوله مقدما على كل محبة ليس عندهم شئ يحبونه كحب الله بخلاف المشركين
ويقتضي الأصل الثاني وهو ان يكون الجهاد في سبيله أحب إليهم من الأهل والمال فإن ذلك هو تمام الإيمان الذي ثوابه حب الله ورسوله
كما قال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم برتابوا إيمانا لا يكون بعده ريب وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله سورة الحجرات 15
وبذلك وصف أهل المحبة في قوله يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم سورة المائدة 54 فأخبر سبحانه بذلهم للمؤمنين وعزهم على الكافرين وجهادهم في سبيله وأنهم لا يخافون لومة لائم فلا يخافون لوم الخلق لهم على ذلك
وهؤلاء هم الذين يحتملون الملام والعذل في حب الله ورسوله والجهاد في سبيله والله يحبهم وهم يحبونه ليسوا بمنزلة من يحتمل الملام والعذل في محبة ما لا يحبه الله ورسوله ولا بمنزلة الذين أظهروا من مكروهات الحق ما يلامون عليه ويسمون بالملامتية ظانين أنهم لما أظهروا ما يلومهم الخلق عليه من المنكرات مع صحتهم في الباطن كان ذلك من صدقهم وإخلاصهم وهم في ذلك إنما يتبعون الظن وما تهوى الأنفس
فإن ذلك المنكر الذي يكرهه الله ورسوله لا يكون فعله مما يحبه الله ورسوله ولا يكون من الصدق والإخلاص في حب الله ورسوله والناس يلامون عليه
وسنام ذلك الجهاد في سبيل الله فإنه أعلى ما يحبه الله ورسوله واللائمون عليه كثير إذ كثير من الناس الذين فيهم إيمان يكرهونه وهم إما مخذلون مفترون للهمة والإرادة فيه وإما مرجفون مضعفون للقوة والقدرة عليه وإن كان ذلك من النفاق
قال الله تعالى قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا سورة الأحزاب 18
وقال تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونكم فيها إلا قليلا سورة الأحزاب 60
وأما الأصل الثالث وهو متابعة السنة والشريعة النبوية قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فآتبعوني يحببكم الله سورة آل عمران 31
قال طائفة من السلف ادعى قوم على عهد النبي ﷺ أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية فجعل حب العبد لربه موجبا ومقتضيا لاتباع رسوله وجعل اتباع رسوله موجبا ومقتضيا لمحبة الرب عبده فأهل اتباع الرسول يحبهم الله ولا يكون حبا لله إلا من يكون منهم
وإذا عرفت هذه الأصول فعامة أهل السماع المحدث مقصرون في هذه الأصول الثلاثة وهم في ذلك متفاوتون تفاوتا كثيرا بحسب قوة اعتياضهم بالسماع المحدث عن السماع المشروع وما يتبع ذلك حتى آل الأمر بأخر إلى الانسلاخ من الإيمان بالكلية ومصيره منافقا محضا أو كافرا صرفا
وأما عامتهم وغالبهم الذين فيهم حب الله ورسوله وما يتبع ذلك فهم فيه مقصرون تجد فيهم من التفريط في الجهاد في سبيل الله وما يدخل فيه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتفريط في متابعة رسول الله ﷺ في شريعته وسنته وأوامره وزواجره أمرا عظيما جدا وكذلك في أمر الإخلاص لله تجد فيهم من الشرك الخفي أو الجلى أمورا كثيرة
ولهذا كان هذا السماع سماع المكاء والتصدية إنما هو في الأصل سماع المشركين كما قال تعالى وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية سورة الأنفال 35 وفيهم من اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ما ضاهوا به النصارى في كثير من ذلك حتى ان منهم من يعبد بعض البشر ويعبد قبورهم فيدعوهم ويستغيث بهم ويتوكل عليهم ويخافهم ويرجوهم إلى غير ذلك مما هو من حقوق الله وحده لا شريك له ويطيعون سادتهم وكبارهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال ويقول بعضهم في اتحاد الله ببعض مخلوقاته وحلوله فيهم شبيه ما قالته النصارى في المسيح عليه الصلاة و السلام
ولهذا يكون كثير من سماعهم الذي يحرك وجدهم ومحبتهم إنما يحرك وجدهم ومحبتهم لغير الله كالذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله
وأما الشريعة وما أمر الله به ونهى عنه وأحله وحرمه ففيهم من المخالفة لذلك بل من الاستخفاف بمن يتمسك به ما الله به عليم حتى سقط من قلبوهم تعظيم كثير من فرائض الله وتحريم كثير من محارمه فكثيرا ما يضيعون فرائضه ويستحلون محارمه ويتعدون حدوده تارة اعتقادا وتارة عملا
وكثير من خيارهم الذين هم مؤمنون يقعون في كثير من فروع ذلك وإن كانوا مستمسكين بأصول الإسلام
وأما غير هؤلاء فيصرحون بسقوط الفرائض كالصلوات الخمس وغيرها وبحل الخبائث من الخمر والفواحش او الظلم أو البغي أو غير ذلك لهم وتزول عن قلوبهم المحبة لكثير مما يحبه الله ورسوله كالمحبة التامة التي هي كمال الإيمان بل لا بد أن ينقص في قلوبهم حب ما أحبه الله ورسوله فلا يبقى للقرآن والصلاة ونحو ذلك في قلوبهم من المحبة والحلاوة والطيب وقرة العين ما هو المعروف لاهل كمال الإيمان بل قد يكرهون بعض ذلك ويستثقلونه كما هو من نعت المنافقين الذين قال الله فيهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى سورة النساء 142 وقد يهجرون القرآن الذي ما تقرب العباد إلى الله بأحب إليه منه بل قد يستثقلون سماعه وقراءته لما اعتاضوا عنه من السماع وقد يقومون ببعض هذه العبادات الشرعية صورا ورسما كما يفعله المنافقون لا محبة وحقيقة ووجدا كما يفعله المؤمنون
وأما الجهاد في سبيل الله فالغالب عليهم أنهم ابعد عنه من غيرهم حتى نجد في عوام المؤمنين من الحب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحبة والتعظيم لأمر الله والغضب والغيرة لمحارم الله وقوة المحبة والموالاة لأولياء الله وقوة البغض والعداوة لأعداء الله ما لا يوجد فيهم بل يوجد فيهم ضد ذلك
ومعلوم أن أهل الإيمان والصلاح منهم لا يفقدون هذا بالكلية لكن هذا السماع المحدث هو وتوابعه سبب ومظنة لضد الجهاد في سبيل الله حتى ان كثيرا منهم يعدون ذلك نقصا في طريق الله وعيبا ومنافيا للسلوك الكامل إلى الله
ومن السبب الذي ضل به هؤلاء وغووا ما وجدوه في كثير ممن ينتسب إلى الشريعة من الداعين إلى الجهاد من ضعف حقيقة الإيمان وسوء النيات والمقاصد وبعدهم عن النيات الخالصة لله وصلاح قلوبهم وسرائرهم وعن أن يقصدوا بالجهاد أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله كما وجدوه في كثير ممن يذم السماع المحدث من قسوة القلب والبعد عن مكارم الأخلاق وذوق حقيقة الإيمان
فهذا التفريط في حقوق الله والعدوان على حدوده الذي وجد في هؤلاء وأمثالهم ممن لا يتدين بالسماع المحدث بل يتدين ببعض هذه الأمور صار شبهة لأولئك كما أن التفريط والعدوان الموجود في أهل السماع المحدث صار شبهة لأولئك في ترك كثير مما عليه كثير منهم من حقائق الإيمان وطاعة الله ورسوله
ولهذا تفرق هؤلاء في الدين وصارت كل طائفة مبتدعة لدين لم يشرعه االله ومنكرة لما مع الطائفة الأخرى من دين الله وصار فيهم شبه الأمم قبلهم
كما قال تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأعرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة سورة المائدة 14
وقال تعالى وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ سورة البقرة 113
وقال تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض سورة البقرة 85
وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات سورة آل عمران 105
وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ سورة الأنعام 159
وأما دين الله وهداه الذي أنزل به كتابه وبعث به رسوله فهو اتباع كتابه وسنته في جميع الأمور وترك اتباع ما يخالف ذلك في جميع الأمور والإجماع على ذلك
كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتهم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون سورة آل عمران 102 107
وأما كون الشعر في نفسه لا يستمع إليه إلا إذا كان من الكلام المباح أو المستحب والشعر المقول في سماع المكاء والتصدية كثير منه أو أكثره ليس كذلك فهذا مقام آخر نبينه إن شاء الله فصار احتجاجهم بما سمعه النبي ﷺ من الشعر على استماع الغناء مردودا بهذه الوجوه الثلاث
قال أبو القاسم وقد سمع الأكابر الابيات بالألحان فمن قال بإباحته مالك بن أنس وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء فأما الحداء فإجماع منهم على إباحته
قلت هذا النقل يتضمن غلطا بإثبات باطل وترك حق وقد تبع فيه أبا عبد الرحمن على ما ذكره في مسألة السماع وذلك أن المعروف عند أئمة السلف من الصحابة والتابعين مثل عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهم وعن أئمة التابعين ذم الغناء وإنكاره
وكذلك من بعدهم من أئمة الإسلام في القرون الثلاثة حتى ذكر زكريا بن يحيى الساجي في كتابه الذي ذكر فيه إجماع أهل العلم واختلافهم فذكر أنهم متفقون على كراهته إلا رجلان إبراهيم بن سعد من أهل المدينة وعبيد بن الحسن العنبري من أهل البصرة
وأما نقلهم لإباحته عن مالك وأهل الحجاز كلهم فهذا غلط من أسوأ الغلط فإن أهل الحجاز على كراهته وذمه ومالك نفسه لم يختلف قوله وقول أصحابه في ذمه وكراهته بل هو من المبالغين في ذلك حتى صنف أصحابه كتبا مفردة في ذم الغناء والسماع وحتى سأله إسحاق بن عيسى الطباع عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال إنما يفعله عندنا الفساق
وقد ذكر محمد بن طاهر في مسألة السماع حكاية عن مالك أنه ضرب بطبل وأنشد ابياتا وهذه الحكاية مما لا يتنازع أهل المعرفة في أنها كذب على مالك
وكذلك الشافعي لم يختلف قوله في كراهته وقال في كتابه المعروف بأدب القضاة الغناء لهو مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته وقد قال عن السماع الديني المحدث خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن
نعم كان كثير من أهل المدينة يسمع الغناء وقد دخل معهم في ذلك بعض فقهائهم فأما أن يكون هذا قول اهل الحجاز كلهم أو قول مالك فهذا غلط وكان الناس يعيبون من استحل ذلك من أهل المدينة كما عابوا على غيرهم حتى كان الأوزاعي يقول من أخذ يقول أهل الكوفة في النبيذ وبقول أهل مكة في المتعة والصرف ويقول أهل المدينة في الغناء أو قال الحشوش والغناء فقد جمع الشر كله أو كلاما هذا معناه
وأما فقهاء الكوفة فمن أشد الناس تحريما للغناء ولم يتنازعوا في ذلك ولم يكونوا يعتادونه كما كان يفعله أهل المدينة بل كانوا بالنبيذ المتنازع فيه
وقد سئل ماللك عماا يترخص فيه بعض ااهل المدينة من الغناء فقال لا إنما يفعله عندنا الفساق
وقد سئل القاسم بن محمد عن الغناء فقال إذا ميز الله الحق من الباطل من أي قسم يكون الغناء
ثم قال أبو القاسم وقد وردت الأخبار واستفاضت الآثار في ذلك وروى عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له إذا أتى بك يوم القيامة ويؤتى بحسناتك وسيئاتك ففي أي الجنبين يكون سماعك فقال لا في الحسنات ولا في السيئات يعني أنه من المباحات
قلت ليس ابن جريج وأهل مكة ممن يعرف عنهم الغناء بل المشهور عنهم أنهم كانوا يعيرون من يفعل ذلك من أهل المدينة وإنما المعروف عنهم المتعة والصرف ثم هذا الأثر وأمثاله حجة على من احتج به فإنه لم يجعل منه شيئا من الحسنات ولم ينقل عن السلف أنه عد شيئا من أنواعه حسنة فقوله على ذلك لا يخالف الإجماع
ومن فعل شيئا من ذلك على انه من اللذة الباطلة التي لا مضرة فيها ولا منفعة فهذا كما يرخص للنساء في الغناء والضرب بالدف في الأفراح مثل قدوم الغائب وأيام الأعياد بل يؤمرون بذلك في العرسات كما روى اعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف وهو مع ذلك باطل كما في الحديث الذي في السنن أن امرأة نذرت أن تضرب لقدوم رسول الله ﷺ فلما قدم عمر أمرها بالسكوت وقال إن هذا رجل لا يحب الباطل
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة امرأته فإنهن من الحق
والباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة فهذا يرخص فيه للنفوس التي لا تصبر على ما ينفع وهذا الحق في القدر الذي يحتاج إليه في الأوقات التي تقتضي ذلك الأعياد والأعراس وقدوم الغائب ونحو ذلك
وهذه نفوس النساء والصبيان فهن اللواتي كن يغنين في ذلك على عهد النبي ﷺ وخلفائه ويضربن بالدف وأما الرجال فلم يكن ذلك فيهم بل كان السلف يسمون الرجل المغنى مخنثا لتشبهه بالنساء ولهذا روى اقرأوا القرآن بلحون العرب وإياكم ولحون العجم والمخانيث والنساء
ولهذا لما سئل القاسم بن محمد عن الغناء فقال للسائل با ابن أخي ارأيت إذا ميز الله يوم القيامة بين الحق والباطل ففي أيهما يجعل الغناء فقال في الباطل قال فماذا بعد الحق إلا الضلال
فكان العلم بأنه من الباطل مستقرا في نفوسهم كلهم وإن فعله بعضهم مع ذلك إذ مجرد كون الفعل باطلا إنما يقتضي عدم منفعته لا يقتضي تحريمه إلا أن يتضمن مفسدة
قال أبو القاسم وأما الشافعي رحمه الله فإنه لا يحرمه ويجعله في العوام مكروها حتى لو احترف الغناء او اتصف على الدوام بسماعه على وجه التلهي به ترد به الشهادة ويجعله مما يسقط المروءة ولا يلحقه بالمحرمات
قال وليس كلامنا في هذا النوع من السماع فإن هذه الطائفة جلت مرتبتهم عن أن يسمعوا بلهو أو يقعدوا للسماع بسهو أو يكونوا بقلوبهم متفكرين في مضمون لغو أو يستمعوا على صفة غير كفء
قلت لم يختلف قول الشافعي في كراهته والنهى عنه للعوام والخواص لكن هل هي كراهة تحريم أو تنزيه أو تفضيل بين بعض وبعض هذا مما يتنازع فيه أصحابه وهذا قوله في سماع العامة وأما السماع الديني الذي جعله أبو القاسم للخاصة فهو عند الشافعي من فعل الزنادقة كما قال خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن فعنده أن هذا السماع اعظم من ان يقال فيه مكروه أو حرام بل هو عنده مضاد للإيمان وشرع دين لم يأذن الله به ولم ينزل به سلطان
وإن كان من المشايخ الصالحين من تأول في ذلك وبتأويله واجتهاده يغفر الله له خطأه ويثيبه على ما مع التأويل من عمل صالح فذلك لا يمنع أن يقال ما في الفعل من الفساد إذ التأويل من باب المعارض في حق بعض الناس تدفع به عند العقوبة كما تدفع بالتوبة والحسنات الماحية وهذا لمن استفرغ وسعه في طلب الحق
فقول الشافعي رضي الله عنه في هؤلاء كقوله في اهل الكلام حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وقوله لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام
ومع هذا فقد ابتلى ببعض ذلك على وجه التأويل طوائف من أهل العلم والدين والتصوف والعبادة
=======
الاستقامة/7
ولهذا كان الكلام في السماع على وجهين
احدهما سماع اللعب والطرب فهذا يقال فيه مكروه أم محرم أو باطل أو مرخص في بعض أنواعه
الثاني السماع المحدث لأهل الدين والقرب فهذا يقال فيه إنه بدعة وضلالة وإنه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع السالفين جميعهم وإنما حدث في الأمة لما أحدث في الأمة لما أحدث الكلام فكثر هذا في العلماء وهذا في العباد
لهذا كان يزيد بن هارون الواسطي وهو من أتباع التابعين وأواخر القرون الثلاثة تجمتع في مجلسه الأمم العظيمة وكان أجل مشايخ الإسلام إذ ذاك فكان ينهى عن الجمهية وعن المغيرة هؤلاء أهل الكلام المخالف للكتاب والسنة وهؤلاء أهل السماع المحدث المخالف للكتاب والسنة
ولهذا لم يستطع أحد ممن يستحب السماع المحدث ويستحسنه أن يحتج لذلك بأثر عمن مضى ولا بأصل في الكتاب والسنة
قال أبو القاسم وقد روى عن ابن عمر اثار في إباحتة للسماع وكذلك عبد الله بن جعفر أبي طالب
قالت أما النقل عن ابن عمر فباطل بل المحفوظ عن أبن عمر ذمه للغناء ونهيه عنه وكذلك عن سائر أئمة الصحابة كأبن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم ممن ائتم بهم المسلمون في دينهم
وأما ما يذكر من فعل عبد الله بن جعفر في أنه كان له جارية يسمع غناءها في بيته فعبد الله بن جعفر ليس ممن يصلح أن يعارض قوله في الدين فضلا عن فعله لقول ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وجابر وأمثالهم
ومن احتج بفعل مثل عبد الله في الدين في مثل هذا لزمه أن يحتج بفعل معاوية في قتاله لعلى وبفعل ابن الزبير في قتاله في الفرقة وأمثال ذلك مما لايصلح لأهل العلم والدين أن يدخلوه في أدلة الدين والشرع لا سيما النساك والزهاد وأهل الحقائق لا يصلح لهم أن يتركوه سبيل المشهورين بالنسك والزهد بين الصحابة ويتبعوا سبيل غيرهم
وما أحسن ما قال حذيفة رضي الله عنه يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا
ثم الذي فعله عبد الله بن جعفر كان في داره لم يكن يجتمع عنده على ذلك ولا يسمعه إلا ممن ملوكته ولا يعده دينا وطاعة بل هو عنده من الباطل وهذا مثل ما يفعله بعض أهل السعة من استماع غناء جاريته في بيته ونحو ذلك فأين هذا من هذا هذا لو كان مما يصلح أن يحتج به فكيف وليس بحجة أصلا
قال وكذلك عن عمر وغيره في الحداء
قلت أما الحداء فقد ذكر الاتفاق على جوازه فلا يحتج به في
وقد ثبت أن عامر بن الأكوع كان يحدو الصحابة مع النبي ﷺ قال من السائق قالوا عامر بن الاكوع فقال يرحمه الله فقالوا يا رسول الله لولا امتعتنا به ففي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال خرجنا مع رسول الله ﷺ فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع ألا تسمعنا من هنياتك وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول ... والله لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ... فاغفر فداء لك ما اقتفينا وثبت الأقدام إن لاقينا ... وألقين سكينة علينا إنا إذا صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا ...
فقال رسول الله ﷺ من هذا السائق قالوا عامر ابن الأكوع فقال يرحمه الله فقال رجل من القوم وجبت يا نبي الله لولا أمتعنا به فذكر الحديث في استشهاده في تلك الغزوة غزوة خيبر
وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الاكوع قال لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا شديدا مع رسول الله ﷺ فارتد عليه سيفه فقتله فقال أصحاب رسول الله ﷺ في ذلك وشكوا فيه رجل مات في سلاحه قال سلمة فقفل رسول الله ﷺ من خبير فقلت يا رسول الله أئذن لي أن ارجز لك فأذن له رسول الله ﷺ فقال عمر أعلم ما تقول قال فقلت ... لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ...
فقال رسول الله ﷺ صدقت ... فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لا قينا ...
والمشركون قد بغوا علينا ...
فلما قضيت رجزي قال رسول الله ﷺ من قال هذا قلت له أخي فقال رسول الله ﷺ يرحمه الله قال فقلت يا رسول الله والله إن ناسا ليهابون الصلاة عليه يقولون رجل مات بسلاحه فقال رسول الله ﷺ كذبوا مات جاهدا مجاهدا فله أجره مرتين
وكذلك قد ثبت في الصحيح حديث أنجشة الحبشي الذي كان يحدو حتى قال النبي ﷺ رويدك أنجشة سوقك بالقوارير يعني النساء أمره بالرفق بهن لئلا تزعجهن الإبل في السير إذا اشتد سيرها وينزعجن بصوت الحادي
ففي الصحيحين عن أنس قال كان رسول الله ﷺ في بعض أسفاره وغلام أسود يقال له أنجشة يحدوا فقال رسول الله ﷺ ويحك انجشه رويدك سوقك بالقوارير قال أبو قلابة يعني النساء وأخرجاه من حديث ثابت عن أنس بنحوه
ومن حديث قتادة عن أنس قال كان للنبي ﷺ خادم يقال له أنجشة وكان حسن الصوت فقال له النبي رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير قال قتادة يعني ضعفة النساء
وفي رواية البخاري عن أبي قلابة قال كانت أم سليم في الثقل وأنجشة غلام النبي ﷺ يسوق بهن فقال النبي ﷺ عليه وسلم يا أنجش رويدك سوقك بالقوارير
وفي رواية البخاري عن ثابت عن أنس قال كان النبي ﷺ في سفر فحدا الحادي فقال له النبي ﷺ أرفق يا أنجشة ويحك بالقوارير
واحتجاجهم بإنشاد الشعر كما قال أبو القاسم وأنشد بين يدي النبي ﷺ الاشعار فلم ينه عنها وروى أنه ﷺ استنشد الأشعار
وهذا من القياس الفاسد كما تقدم
قال ومن المشهور الظاهر حديث الجاريتين وذكر حديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث فقال أبو بكر مزمور الشيطان فقال النبي ﷺ دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وعيدنا هذا اليوم
وقد تقدم أن الرخصة في الغناء في أوقات الأفراح للنساء والصبيان أمر مضت به السنة كما يرخص لهم في غير ذلك من اللعب ولكن لا يجعل الخاص عاما ولهذا لما قال أبو بكر أمزمور الشيطان في بيت رسول الله ﷺ لم ينكر النبي ﷺ هذه التسمية والصحابة لم يكونوا يفضلون شيئا من ذلك ولكن ذكر النبي ﷺ أمرا خاصا بقوله إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا
ومثل هذا قوله لعمر لو رآك سالكا فجأ لسلك فجا غير فجك لما خاف منه النساء فيما كن يفعلنه بحضرة النبي ﷺ فعلم أن هذا وإن كان من الشيطان لكن الرخصة فيه لهؤلاء لئلا يدعوهم إلى ما يفسد عليهم دينهم إذ لا يمكن صرفهم عن كل ما تتقاضاه الطبائع من الباطل
والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فهي تحصل أعظم المصلحتين بفوات أدناهما وتدفع أعظم الفسادين بأحتمال أدناهما فإذا وصف المحتمل بما فيه من الفساد مثل كونه من عمل الشيطان لم يمنع ذلك أن يكون قد وقع به ما هو أحب إلى الشيطان منه ويكون إقرارهم على ذلك من المشروع فهذا أصل ينبغي التفظن له
والشيطان يوسوس لبني آدم في أمور كثيرة من المباحات كالتخلي والنكاح وغير ذلك وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم فلا يمكن حفظ جيمع بني آدم من كل ما للشيطان فيه نصيب لكن الشارع يأمر بالتمكن من ذلك كما شرع التسمية والاستعاذة عند التخلي والنكاح وغير ذلك ولو لم يفعل الرجل ذلك لم نقل إنه يأثم بالتخلي ونكاح أمرأته ونحو ذلك
وكذلك ذكر العرس وقول النبي ﷺ إن الأنصار فيهم غزل ولو أرسلتم من يقول
أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم ...
وقد تقدم ان الخاص لا يجعل
ومدار الحجج في هذا الباب ونحوه إما على قياس فاسد وتشبيه الشئ بما ليس مثله وإما على جعل الخاص عاما وهو أيضا من القياس الفاسد وإما احتجابهم بما ليس بحجة أصلا
ثم احتج أبو القاسم بما هو من جنس القياس الفاسد فذكر حديث البراء بن عازب قال سمعت النبي ﷺ يقول حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا وحديثا عن أنس مرفوعا لكل شئ حلية وحلية القرآن الصوت
وهذا ضعيف عن النبي ﷺ من رواية عبد الله بن محرز وهو ضعيف لا يحتج به بحال
وقال دل هذا الخبر على فضيلة الصوت
قلت هذا دل على فضل الصوت الحسن بكتاب الله لم يدل على فضيلته بالغناء ومن شبه هذا بهذا فقد شبه الباطل بأعظم الحق
وقد قال الله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين سورة يس 69 فكيف نشبه ما أمر الله به من تلاوة كتابه وتحسينه بالصوت بما لم يأمر بتحسين الصوت به
هذا مثل من قال إذا أمر الله بالقتال في سبيله بالسيف والرمح والرمي دل على فضيلة الضرب والطعن ثم يحتج بذلك على الضرب والطعن والرمي في غير سبيل الله
ومثل من قال إذا أمر الله بإنفاق المال في سبيله دل على فضيلة المال ويحتج بذلك على إنفاق المال في غير سبيله
أو قال إذا أمر الله بالاستعفاف بالنكاح دل على فضيلة النساء ويحتج بذلك على فضيلة النساء ويحتج بذلك على فضيلة النكاح ويحتج بذلك على فضيلة ما لم يأذن الله به من النكاح
وكذلك كل ما يعين على طاعة الله من تفكر أو صوت أو حركة أو قوة أو مال أو أعوان أو غير ذلك فهو محمود في حال إعانته على طاعة الله ومحابه ومراضيه ولا يستدل بذلك على أنه في نفسه محمود على الإطلاق ويحتج بذلك على أنه محمود إذا استعين به على ما هو من طاعة الله ولا يحتج به على ما ليس هو من طاعة الله بل هو من البدع في الدين أو الفجور في الدنيا
ومثل هذا قوله ﷺ لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته وقال ما أذن الله لشئ كأذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به بل قوله ﷺ ليس منا من لم يتغن بالقرآن يقتضي أن التغني المشروع هو بالقرآن وأن من تغنى بغيره فهو مذموم ولا يقال هذا يدل على استحباب حسن التغني
وقوله ليس منا من لم يتغن بالقرآن إما أن يريد به الحض على أصل الفعل وهو نفس التغنى بالقرآن وإما أن يريد به مطلق التغنى
وهو على صفة الفعل والأول هو أن يكون تغنيه إذا تغنى بالقرآن لا بغيره وهذا كما وقع في قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله سورة المائدة 49 هل هو أمر بأصل الحكم أو بصفته إذا حكم
والمعنى الثاني ذم لمن تغنى بغيره مطلقا دون من ترك التغني به وبغيره
والمنعى الأول ذم لمن ترك التغنى به دون من تغنى به ومن تغنى بغيره
ثم ذكر أبو القاسم حديث ابن عاصم عن شبيب بن بشر عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ صوتان ملعونان صوت ويل عند مصيبة وصوت مزمار عند نعمة مفهوم الخطاب يقتضي إباحة غير هذا في غير هذه الأحوال وإلا لبطل التخصيص
قلت هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء كما في اللفظ المشهور عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة لهو ولعب ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ودعوى بدعوى الجاهلية
فنهى عن الصوت الذي يفعل عند النعمة كما نهى عن الصوت الذي يفعل عند المصيبة والصوت الذي عند النعمة هو صوت الغناء
وأما قوله صوت مزمار فإن نفس صوت الإنسان يسمى مزمارا كما قيل لأبي موسى لقد اوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود وكما قال أبو بكر رضي الله عنه أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ﷺ
وأما قوله مفهوم الخطاب يقتضي إباحة غير هذا جوابه من وجهين
أحدهما أن مثل اللفظ الذي ذكره لا مفهوم له عند أكثر أهل العلم والتخصيص في مثل هذا كقوله ﷺ ثلاث في امتي من أمر الجاهلية ومن قال إنه يكون له مفهوم فذلك إذا لم يكن للتخصيص سبب آخر وهذا التخصيص لكون هذه الأصوات هي التي كانت معتادة في زمنه كقوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق سورة الإسراء 31
والثاني أن اللفظ الذي ذكره الرسول يدل على مورد النزاع فإنه صوت النعمة ولو لم تكن نعمة لكان تنبيها عليه فإنه إذا نهى عن ذلك عند النعمة والإنسان معذور في ذلك كما رخص في غناء النساء في الأعراس والأعياد ونحو ذلك فلأن ينهى عن ذلك بدون ذلك بدون أولى وأحرى
والألات الملهية قد صح فيها ما رواه البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به داخلا في شرطه عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري أنه سمع النبي ﷺ يقول ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح بسارحة لهم يأتيهم لحاجتهم فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة
وقال أبو القاسم وقد روى أن رجلا أنشد بين يدي النبي ﷺ فقال ... أقبلت فلاح لها عارضان كالسبج أدبرت فقلت لها والفؤاد في وهج ... هل على ويحكما ان عشقت من حرج ...
فقال رسول الله ﷺ لا حرج إن شاء الله
قلت هذا الحديث موضوع بأتفاق أهل المعرفة بالحديث لا أصل له وليس هو في شئ من دواوين الإسلام وليس له إسناد بل هو من جنس الحديث الآخر الذي قيل فيه إن أعرابيا أتى إلى النبي ﷺ وأنشده ... قد لسعت حية الهوى كبدى فلا طبيب لها ولا راقى ... إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي
وهذا أيضا موضوع بأتفاق أهل العلم كذب مفترى
وكذلك ما يروى من أنهم تواجدوا وأنهم مزقوا الخرقة ونحو ذلك كل ذلك كذب لم يكن في القرون الثلاثة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا بالعراق ولا خراسان من يجتمع على هذا السماع المحدث فضلا عن أن يكون كان نظيره على عهد النبي ﷺ ولا كان أحد يمزق ثيابه ولا يرقص في سماع ولا شئ من ذلك أصلا بل لما حدث التغبير في أواخر المائة الثانية وكان أهله من خيار الصوفية وحدث من جهة المشرق التي يطلع منها قرن الشيطان ومنها الفتن
قال الشافعي رضي الله عنه خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن
والذين شهدوا هذا اللغو متأولين من أهل الصدق والإخلاص والصلاح غمرت حسناتهم ما كان لهم فيه وفي غيره من السيئات أو الخطأ في مواقع االأجتهاد وهذا سبيل كل صالحي هذه الأمة في خطئهم وزلاتهم
قال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 35 وذلك كالمتأولين في تناول المسكر من صالحي أهل الكوفة ومن اتبعهم على ذلك وإن كان المشروب خمرا لا يشك في ذلك من اطلع على اقوال النبي ﷺ وأقوال الصحابة وكذلك المتأولون للمتعة والصرف من اهل مكة متبعين لما كان يقوله ابن عباس وإن كان قد رجع عن ذلك أو زادوا عليه إذ لا يشك في ذلك وأنه من أنواع الربا المحرم والنكاح المحرم من اطلع على نصوص النبي ص
وكذلك المتأولون في بعض الأطعمة والحشوش من أهل المدينة وإن كان لا يشك في تحريم ذلك من اطلع على نصوص النبي ﷺ وأصحابه وكذلك ما دخل فيه من دخل من السابقين والتابعين من القتال في الفتنة والبغي بالتأويل مع ما علم في ذلك من نصوص الكتاب والسنة من ترك القتال والصلح فما تأول فيه قوم من ذوي العلم والدين من مطعوم أو مشروب او منكوح أو مملوك أو مما قد علم أن الله قد حرمه ورسوله لم يجز اتباعهم في ذلك مغفورا لهم وإن كانوا خيار المسلمين والله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان كما دل عليه الكتاب والسنة وهو سبحانه يمحو السيئات بالحسنات ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات
وبهذا يحصل الجواب عما ذكره الشيخ أبو طالب المكي في كتابه قوت القلوب حيث ذكر أنه من أنكر السماع مطلقا غير مقيد فقد أنكر على سبعين صديقا ولعل الإنكار اليوم يقع على خلق عظيم من الصديقين لكن يقال الذين أنكروا ذلك أكثر من سبعين صديقا وسبعين صديقا وسبعين صديقا وهم أعظم علما وإيمانا وأرفع درجة فليس الانتصار بطائفة من الصديقين على نظرائهم لا سيما من هو أكبر وأكبر بأدل من العكس
فإن القائل إذا قال من شرع هذا السماع المحدث وجعله مما يتقرب به فقد خالف جماهير الصديقين من هذه الامة ورد عليهم كان قوله أصح وأقوى في الحجة دع ما سوى ذلك
وهنا أصل يجب اعتماده وذلك أن الله سبحانه عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة ولم يعصم آحادها من الخطأ لا صديقا ولا غير صديق لكن إذا وقع بعضها في خطأ فلا بد أن يقيم الله فيها من يكون على الصواب في ذلك الخطأ لأن هذه الأمة شهداء على الناس وهم شهداء الله في الارض وهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فلا بد أن تأمر بكل معروف وتنهى عن كل منكر فإذا كان فيها من يأمر بمنكر متأولا فلا بد أن يكون فيها من يأمر بذلك المعروف
فأما الاحتجاج بفعل طائفة من الصديقين في مسألة نازعهم فيها أعدائهم فباطل بل لو كان المنازع لهم أقل منهم عددا وأدنى منزلة لم تكن الحجة مع أحدهما إلا بكتاب الله وسنة رسوله فإنه بذلك أمرت الامة
كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تنازعهم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر سورة النساء 59 فإذا تنازعت الأمة وولاه الأمور من الصديقين وغيرهم فعليهم جميعهم أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله
ومن المعلوم أن الصديقين الذين أباحوا بعض المسكر كانوا أسبق من هؤلاء وأكثر وأكبر وكذلك الذين استحلوا المتعة والصرف وبعض المطاعم الخبيثة والحشوش والذين استحلوا القتال في الفتنة متأولين معتقدين أنهم على الحق وغير ذلك هم أسبق من هؤلاء وأكثر وأكبر
فإذا نهى عما نهى الله عنه ورسوله لم يكن لأحد أن يقول هذا إنكار على كذا وكذا رجلا من السابقين والتابعين فإن هذا الإنكار كان من نظرائهم ومن هو فوقهم أو قريبا منهم وعند التنازع فالمرد إلى الله ورسوله
ولكن من ذهب إلى القول المرجوح ينتفع به في عذر المتأولين فإن عامة ما حرمه الله مثل قتل النفس بغير حق ومثل الزنا والخمر والميسر والأموال والاعراض قد استحل بعض أنواعه طوائف من الامة بالتأويل وفي المستحلين قوم من صالحي الأمة وأهل العلم والإيمان منهم
لكن المستحل لذلك لا يعتقد أنه من المحرمات ولا أنه داخل فيما ذمه الله ورسوله فالمقاتل في الفتنة متأولا لا يعتقد أنه قتل مؤمنا بغير حق والمبيح للمتعة والحشوش ونكاح المحلل لا يعتقد أنه أباح زنا وسفاحا والمبيح للنبيذ المتأول فيه ولبعض أنواع المعاملات الربوية وعقود المخاطرات لا يعتقد أنه أباح الخمر والميسر والربا
ولكن وقوع مثل هذا التأويل من الأئمة المتبوعين أهل العلم والإيمان صار من أسباب المحن والفتنة فإن الذين يعظمونهم قد يقتدون بهم في ذلك وقد لا يقفون عند الحد الذي انتهى إليه أولئك بل يتعدون ذلك ويزيدون زيادات لم تصدر من أولئك الأئمة السادة والذين يعلمون تحريم جنس ذلك الفعل قد يعتدون على المتأولين بنوع من الذم فيما هو مغفور لهم ويتبعهم آخرون فيزيدون في الذم ما يستحلون به من أعراض إخوانهم وغير أعراضهم ما حرمه الله ورسوله فهذا واقع كثير في موارد النزاع الذي وقع فيه خطأ من بعض الكبار
واعتبر ذلك بمسألة السماع التي تكلمنا فيها فإن الله سبحانه شرع للأمة ما أغناهم به عما لم يشرعه حيث أكمل الدين وأتم عليهم النعمة ورضى لهم الإسلام دينا وهو سماع القرآن الذي شرعه لهم في الصلاة التي هي عماد دينهم وفي غير الصلاة مجتمعين ومنفردين حتى كان أصحاب محمد إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم ان يقرأ والباقون يسمعون وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع وإنما ذكرنا هنا نكتا تتعلق بالسماع
قال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله سورة الزمر 23
وذكر سماع المؤمنين والعارفين والعالمين والنبيين فقال تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا سورة الأنفال 2
وقال تعالى إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا سورة الإسراء 108 109
وقال أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا سورة مريم 58
وقال تعالى الذين يستعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18
وقال والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا سورة الفرقان 73
وقال تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون سورة فصلت 26
وقال تعالى وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا سورة الفرقان 30
وقال تعالى إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون سورة الانفال 23
وقال فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة سورة المدثر 49 51
وقال وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا الآية سورة الإسراء 54
وقال وإن احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله سورة التوبة 6
وقال تعالى اتل ما أوحي إليك من الكتاب سورة العنكبوت 45
وقال فاقرأوا ما تيسر منه سورة المزمل 20
وقال النبي ﷺ ليس منا من لم يتغن بالقرآن وقال من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول ألم حرف ولكن أقول ألف حرف ولام حرف وميم حرف وهذا باب واسع يضيق هذا الموضع عن ذكر جزء منه
فلما انقرضت القرون الفاضلة حصل فترة في هذا السماع المشروع الذي به صلاح القلوب وكمال الدين وصار أهل التغيير فيه أحد رجلين رجل معرض عن السماع المشروع وغير المشروع ورجل احتاج إلى سماع القصائد والأبيات فأحدث سماع القصائد والأبيات كالتغير وكان الأكابر الذين حضروه لهم من التأويل ما لهم فأقام الله في الأمة من أنكر ذلك كما هو سنة الله في هذه الأمة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر
وهؤلاء المنكرون فيهم المقتصد في إنكاره ومنهم المتأول بزيادة في الإنكار غير مشروعة
كما أحدث أولئك ما ليس مشروعا وصار على تمادى الايام يزداد المحدث من السماع ويزداد التغليظ في أهل الإنكار حتى آل الأمر من أنواع البدع والضلالات والتفرق والاختلافات إلى ما هو من أعظم القبائح المنكرات التي لا يشك في عظم إثمها وتحريمها من له أدنى علم وإيمان
وأصل هذا الفساد من ذلك التأويل في مسائل الاجتهاد فمن ثبته الله بالقول الثابت أعطى كل ذي حق حقه وحفظ حدود الله فلم يتعدها ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه سورة الطلاق 1 فالشر في التفريط بترك المأمور أو العدوان بتعدي الحدود وحصلت الزيادات في جميع الأنواع المبتدعة
فإن أصل سماع القصائد كان تلحينا بإنشاد قصائد مرققة للقلوب تحرك تحريك المحبة والشوق أو الخوف والخشية أو الحزن والأسف وغير ذلك وكانوا يشترطون له المكان والإمكان والخلان فيشترطون أن يكون المجتمعون لسماعها من أهل الطريق المريدين لوجه الله والدار الآخرة وأن يكون الشعر المنشد غير متضمن لما يكره سماعه في الشريعة وقد يشترط بعضهم أن يكون القوال منهم وربما اشترط بعضهم ذلك في الشاعر الذي انشأ تلك القصائد وربما ضموا إليه آلة تقوى الصوت وهو الضرب بالقضيب على جلد مخدة أو غيرها وهو التغبير
ومن المعلوم أن استماع الأصوات يوجب حركة النفس بحسب ذلك الصوت الذي يوجب الحركة وهو يوجب الحركة
وللأصوات طبائع متنوعة تتنوع آثارها في النفس وكذلك للكلام المسموع نظمه ونثره فيجمعون بين الصوت المناسب والحروف المناسبة لهم
وهذا الأمر يفعله بنو آدم من أهل الديانات البدعية كالنصارى والصابئة وغير أهل الديانات ممن يحرك بذلك حبه وشوقه ووجده أو حزنه وأسفه أو حميته وغضبه أو غير ذلك فخلف بعد أولئك من صار يجمع عليه أخلاطا من الناس ويرون اجتماعهم لذلك شبكة تصطاد النفوس بزعمهم إلى التوبة والوصول في طريق أهل الارادة
وأحدث بعد أولئك أيضا الاستماع من المخانيث المعروفين بالغناء لأهل الفسوق والزنا وربما استمعوه من الصبيان المردان أو من النسوان الملاح كما يفعل أهل الدساكر والمواخير
وقد يجمعون في السماع أنواع الفساق والفجار وربما قصدوا التكاثر بهم والافتخار لا سيما إن كانوا من أهل الرياسة واليسار وكثيرا ما يحضر فيه أنواع المردان وقد يكون ذلك من أكبر مقاصد أهل السماع وربما ألبسوهم الثياب المصبغة الحسنة وأرقصوهم في طابق الرقص والدوران وجعلوا مشاهدتهم بل معانقتهم مطلوبا لمن يحضر من الأعيان وإذا غلبهم وجد الشيطان رفعوا الأصوات التي يبغضها الرحمن
وكذلك زادوا في الابتداع في إنشاد القصائد فكثيرا ما ينشدون أشعار الفساق والفجار وفيهم كثير ينشدون أشعار الكفار بل ينشدون ما لا يستجيزه أكثر اهل التكذيب وإنما يقوله أعظم الناس كفرا برب العالمين وأشدهم بعدا عن الله ورسوله والمؤمنين
وزادوا أيضا في الآلات التي تستثار بها الأصوات مما يصنع بالأفواه والأيدي كأبواق اليهود ونواقيس النصارى من يبلغ المنكرات كأنواع الشبابات والصفارات وأنواع الصلاصل والأوتار المصوتات ما عظمت به الفتنة حتى ربا فيها الصغير وهرم فيها الكبير وحتى اتخذوا ذلك دينا وديدنا وجعلوه من الوظائف الراتبة بالغداة والعشى كصلاة الفجر والعصر وفي الأوقات والاماكن الفاضلات واعتاضوا به عن القرآن والصلوات
وصدق فيهم قوله فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات سورة مريم 59 وصار لهم نصيب من قوله تعالى وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية سورة الأنفال 35 إذ المكاء هو الصفير ونحوه من الغناء والتصدية هي التصفيق بالأيدي فإذا كان هذا سماع المشركين الذي ذمه الله في كتابه فكيف إذا اقترن بالمكاء الصفارات المواصيل وبالتصدية مصلصلات الغرابيل وجعل ذلك طريقا ودينا يتقرب به إلى المولى الجليل
وظهر تحقيق قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل
بل أفضى الأمر إلى أن يجتمع في هذا السماع على الكفر بالرحمن والاستهزاء بالقرآن والذم للمساجد والصلوات والطعن في أهل الإيمان والقربات والاستخفاف بالأنبياء والمرسلين والتحضيض على جهاد المؤمنين ومعاونة الكفار والمنافقين واتخاذ المخلوق إلها من دون رب العالمين وشرب أبوال المستمعين وجعل ذلك من أفضل أحوال العارفين ورفع الأصوات المنكرات التي أصحابها شر من البهائم السائمات الذين قال الله في مثلهم أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا سورة الفرقان 44
وقال تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون سورة الأعراف 179 الذين يفعلون في سماعاتهم ما لا يفعله اليهود والنصارى ولهذا يتولون من يتولاهم من اليهود والنصارى والصابئة والمشركين والمجوس ويجعلونهم من إخوانهم وأصحابهم وأهل خرقتهم مع معاداتهم للأنبياء والمؤمنين
فصار السماع المحدث دائرا بين الكفر والفسوق والعصيان ولا حول ولا قوة إلا بالله وكفره من أغلظ الكفر وأشده وفسوقه من اعظم الفسوق
وذلك أن تأثير الأصوات في النفوس من أعظم التأثير يغنيها ويغذيها حتى قيل إنه لذلك سمى غناء لأنه يغني النفس
وهو يفعل في النفوس أعظم من حميا الكؤوس حتى يوجب للنفوس أحوالا عجيبة يظن أصحابها أن ذلك من جنس كرامات الأولياء وإنما هو من الأمور الطبيعية الباطلة المبعدة عن الله إذ الشياطين تمدهم في هذا السماع بأنواع الإمداد
كما قال تعالى وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون سورة الأعراف 202 وقال للشيطان واستفزز من استطعت منهم بصوتك سورة الإسراء 64 فربما يخف أحدهم حتى يرقص فوق رؤوسهم ويكون شيطانه هو المغوى لنفوسهم
ولهذا كان مرة في سماع يحضره الشيخ شبيب الشطي فبينما هم في سماع أحدهم وإذا بعفريت يرقص في الهواء على رؤوسهم فتعجبوا منه وطلب الشيخ لمريده الشيخ أبا بكر بن فينان وكان له حال ومعرفة فلما رآه صرخ فيه فوقع فما فرغوا طلب منه ان ينصفه وقال هذا سلبني حالي فقال الشيخ لم يكن له حال ولكن كان بالرحبة فحمله شيطانه إلى هنا وجعل يرقص به فلما رأيت الشيطان صرخت فيه فهرب فوقع هذا
والقصة معروفة يعرفها أصحاب الشيخ
وصار في أهل هذا السماع المحدث الذين اتخذوا دينهم لغوا ولعبا ضد ما أحبه الله وشرعه في دين الحق الذي بعث به رسوله من عامة الوجوه بل صار مشتملا على جميع ما حرمه الله ورسله
كما قال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون سورة الأعراف 33 فصار فيه من الفواحش الظاهرة والباطنة والإثم والبغي بغير الحق والإشراك بالله ما لم ينزل به سلطانا والقول على الله بغير علم ما لا يحصيه إلا الله فإنه تنوع وتعدد وتفرق أهله فيه وصاروا شيعا لكل قوم ذوق ومشروب وطريق يفارقون به غيرهم حتى في الحروف المنشدة والأصوات الملحنة والأذواق الموجودة والحركات الثائرة والقوم المجتمعين وصار من فيه من العلم والإيمان ما ينهاه عما ظهر تحريمه من أنواع الكفر والظلم والفواحش يريد أن يحد حدا للسماع المحدث يفصل به بين ما يسوغ منه وما لا يسوغ فلا يكاد ينضبط حد لا بالقول ولا بالعمل فإن قرب في الضبط والتحديد بالقول لم ينضبط له بالعمل إذ يندر وجود تلك الشروط حتى إنه اجتمع مرة ببغداد في حال عمارتها ووجود الخلافة بها أعيان الشيوخ الذين يحضرون السماع المفتون فلم يجدوا من يصلح له في بغداد وسوادها إلا نفرا إما ثلاثة وإما أربعة وإما نحو ذلك
وسبب هذا الإضراب أنه ليس من عند الله وما كان من عند غير الله وجدوا فيه اختلافا كثيرا فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون سورة الروم 30 32
ثم مع اشتماله على المحرمات كلها أو بعضها يرون أنه من أعظم القربات بل أعظمها وأجلها قدرا وأن أهله هم الصفوة أولياء الله وخيرته من خلقه ولا يرضون بمساواة السابقين الأولين من المهاجرين والانصار وسلف الأمة حتى يتفضلوا عليهم وفيهم من يساوون أنفسهم بالأنبياء والمرسلين وفيهم من يتفضل أيضا على الانبياء والمرسلين على أنواع من الكفر التي ليس هذا موضعها
وجماع الأمر انه صار فيه وفيما يتبعه في وسائل ذلك ومقاصده في موجوده ومقصوده في صفته ونتيجته ضد ما في السماع والعبادات الشرعية في وسائلها ومقاصدها موجودها ومقصودها صفتها ونتيجتها فذاك يوجب العلم والإيمان وهذا يوجب الكفر والنفاق ولهذا كان أعراب الناس أهل البوادي من العرب والترك والكرد وغيرهم أكثر استعمالا له من أهل القرى فإنهم كما قال الله تعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله سورة التوبة 97
ولهذا كان يحضره الشياطين كما أن سماع أهل الإيمان تحضره الملائكة وتنزل عليهم فيه الشياطين وتوحى إليهم كما تنزل الملائكة على المؤمنين وتقذف في قلوبهم ما امرهم الله فإن الملائكة تنزل عند سماع القرآن وعند ذكر الله
كما في الصحيح ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده
وفي الصحيح أن أسيد بن الحضير كان يقرأ سورة الكهف فرأى مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فقال النبي ﷺ تلك السكينة تنزلت لسماع القرآن
وفي الصحيح إن لله ملائكة فضلا عن كتاب الناس فإذا رأوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم الحديث بطوله
وهذا السماع المحدث تحضره الشياطين كما رأى ذلك من كشف له وكما توجد آثار الشياطين في أهله حتى أن كثيرا منهم يغلب عليه الوجد فيصعق كما يصعق المصروع ويصيح كصياحه ويجري على لسانه من الكلام ما لا يفهم معناه ولا يكون بلغته كما يجري على لسان المصروع وربما كان ذلك من شياطين قوم من الكفار الذي يكون أهل ذلك السماع مشابهين لقلوبهم كما يوجد ذلك في أقوام كثيرين كانوا يتكلمون في وجدهم واختلاطهم بلغة الترك التتر الكفار فينزل عليهم شياطينهم ويغوونهم ويبقون منافقين موالين لهم وهم يظنون أنهم من أولياء الله وإنما هم من أولياء الشيطان وحزبه
ولهذا يوجد فيه مما يوجد في الخمر من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ومن إيقاع العداوة والبغضاء حتى يقتل بعضهم بعضا فيه ولهذا يفعلونه على الوجه الذي يحبه الشيطان ويكرهه الرحمن وذلك من وجوه
أحدها أن العبادات الشرعية مثل الصلاة والصيام والحج قد شرع فيها من مجانبة جنس المباشرة المباحة في غيرها ما هو من كمالها وتمامها فقال تعالى ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد سورة البقرة 187
وقال فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر سورة البقرة 187
وقال وإن كنتم مرضى او على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا سورة النساء 43
وأعظم ذلك الحج فليس للمحرم أن يباشر فيه النساء ولا ينظر إليهم لشهوة والمعتكف قريب منه والصائم دونه والمصلى لا يصاف النساء بل يؤخرن عن صفوف الرجال ويصلين خلف الرجال كما قال النبي ﷺ خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها
وليس للمصلى في حال صلاته أن ينظر إلى ما يلهيه عن الصلاة لا نساء ولا غيرهم بل قد ثبت في الصحيح أنه إذا مر أمامه المرأة والحمار والكلب الأسود وضع صلاته وإن كان قد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يصلي وعائشة مضطجعة في قبلته بالليل في الظلمة فإذا أراد أن يسجد غمزها فاللابث غير المار ولم يكن ذلك يلهيه لأنه كان بالليل في الظلمة وكذلك مس النساء لشهوة ينقض الطهارة عند اكثر العلماء
فإذا كان هذا في النظر والمباشرة المباح في غير حال العبادة نهى الله عنه حال العبادة لما في ذلك من المباينة للعبادة والمنافاة لها فكيف بما هو حرام خارج عن العبادة كالنظر إلى البغي والمباشرة لها فكيف بالنظر إلى المردان الصباح المخانيث وغير المخانيث والمباشرة لهن ثم هذا قد يفعل لمجرد شهوة النظر فيكون قبيحا مكروها خارج العبادة فكيف في حال العبادة
وهؤلاء قد يجعلون ذلك مما لا يتم السماع إلا به بل ويتخذونه في الصلاة وغيرها من العبادات فيجعلون حضورهم في السماع والسماع من النساء والصبيان من جملة القربات والطاعات
وهذا من أعظم تبديل الدين فإن الرجل لو جعل النظر إلى امرأته في الصلاة أو الصيام أو الاعتكاف من جملة العبادة كان مبتدعا بل كان هذا كفرا فكيف إذا جعل النظر إلى المرأة الأجنبية أو الأمرد في الصلاة من جملة العبادات كما يفعله بعضهم وقد أوقد شمعة على وجه الأمرد فيستجليه في صلاته ويعد ذلك من عباداته هذا من أعظم تبديل الدين ومتابعة الشياطين
وهذا إذا كان العمل عبادة في نفسه كالصلاة والصيام فكيف إذا كان العمل بدعة عظيمة وهو سماع المكاء والتصدية وضم إليه مشاهدة الصور الجميلة وجعل سماع هذه الأصوات ورؤية هذه الصور من العبادات فهذا من جنس دين المشركين
ولقد حدثني بعض المشايخ أن بعض ملوك فارس قال لشيخ رآه قد جمع الناس على مثل هذا الاجتماع يا شيخ إن كان هذا هو طريق الجنة فأين طريق النار
الوجه الثاني أن التطريب بالآلات الملهية محرم في السماع الذي أحبه الله وشرعه وهو سماع القرآن فكيف يكون قربة في السماع الذي لم يشرعه الله وهل ضم ما يشرعه الله إلى ما ذمه يصير المجموع المعين بعضه لبعض مما أحبه الله ورضيه
الوجه الثالث كثرة أيقاد النار بالشموع والقناديل وغير ذلك مما لا يشرع في الصلاة وقراءة القرآن إذ فيه من تفريق القلوب وغير ذلك مما هو خلاف المقصود
الوجه الرابع التنوع في المطاعم والمشارب فيه وليس شأن العبادات وإنما شرع نوع ذلك عند الفراغ من العبادة وأما أن يكون هذا التنوع في المطاعم والمشارب في السماع من العبادة التي يتقرب بها الى الله فلا وأما موجبه من الحركات المختلفة والأصوات المنكرة والحركات العظيمة فهذا أجل من ان يوصف ولا يمكن رد موجبه بعد قيام المقتضى التام كما لا يمكن رد السكر عن النفس بعد شرب ما يسكر من الخمر بل إسكاره للنفوس وصده عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما في الخمر بكثير
فإن الصلاة كما ذكر الله تعالى تنهى عن الفحشاء والمنكر سورة العنكبوت 45 وهذا أمر مجرب محسوس يجد الإنسان من نفسه أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ويجد أهل السماع أن نفوسهم تميل إلى الفحشاء والمنكر ولهذا يتعاطى كل أحد من الفاحشة حتى تعاطى كثير من المتصوفة صحبة الأحداث ومشاهدتهم
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال العينان يزينان وزناهما النظر وغالب أهله يخالطون الأحداث والنسوان الأجانب ومن امتنع منهم عن ذلك لورع أو غيره فإنه إنما ينتهي عن ذلك بغير هذا السماع وأما هذا السماع فال ينهاه عن ذلك قطعا بل يدعوه إليه لا سيما النفوس التي بها رقة ورياضة وزهد فإن سماع الصوت يؤثر فيها تأثيرا عظيما وكذلك مشاهدة الصور ويكون ذلك قوتا لها وبهذا اعتاض الشيطان فيمن يفعل ذلك من المتصوفة فإنه لم يبال بعد أن أوقعهم فيما يفسد قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ألا يشتغل بجمع الأموال والسلطان اذا قد تكون فتنة أحدهم بذلك اعظم من الفتنه بالسلطان والمال فإن جنس ذلك مباح وقد يستعان به على طاعة الله وأما ما يشغل به هؤلاء أنفسهم فإنه دين فاسد منهى عنه مضرته راجحة على منفعته
الوجه الخامس تشبيه الرجال بالنساء فإن المغاني كان السلف يسمونهم مخانيث لأن الغناء من عمل النساء ولم يكن على عهد النبي ﷺ يغني في الأعراس إلا النساء كالإماء والجواري الحديثات السن فإذا تشبه بهم الرجل كان مخنثا وقد لعن رسول الله ﷺ المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وهكذا فيمن يحضرون في السماع من المردان الذين يسمونهم الشهود فيهم من التخنث بقدر ما تشبهوا بالنساء وعليهم من اللعنة بقدر ذلك
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه أمر بنفي المخنثين وقال أخرجوهم من بيوتكم فكيف نمر بقربهم ونعظمهم ونجعلهم طواغيت معظمون بالباطل الذي حرمه الله ورسوله وأمر بعقوبة أهله وإذلالهم وهذا مضاد في أمره فإن النبي ﷺ قال من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره رواه أبو داود فإذا كان هذا في الشفاعة بالكلام فكيف بالذي يعظم المتعدين لحدود الله ويعينهم على ذلك ويجعل ذلك دينا لا سيما التعظيم لما هو من جنس الفواحش فإن هذا من شأنه إذا كان مباحا ستره أو إخفاؤه وأهله لا يجوز أن يجعلوا من ولاة الأمور ولا يكون لهم نصيب من السلطان بما فيهم من نقص العقل والدين فكيف بمن هو من جنس هؤلاء ممن لعنه الله ورسوله فإن من يعظم القينات المغنيات ويجعل لهن رياسة وحكما لأجل ما يستمع منهن من الغناء وغيره عليه من لعنة الله وغضبه أعظم ممن يؤمر المرأة الحرة ويملكها وقد قال النبي ﷺ لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
فالذي يعظم المخنثين من الرجال ويجعل لهم من الرياسة والأمر على الأمر المحرم ما يجعل هو احق بلعنة الله وغضبه من أولئك فإن غناء الإماء والاستمتاع بهن من جنس المباح وما زال الإماء وغيرهن من النساء يغنين على عهد النبي ﷺ وأصحابه في الأفراح كالعرس وقدوم الغائب ونحو ذلك بخلاف من يستمعون الغناء من المردان والنساء الأجنبيات ويجتمعون معهم على الفواحش فإنما يكون ذلك من أعظم المحرمات فكيف إذا جعل ذلك من العبادات وقد كتبنا في غير هذا الموضع مما يتعلق بذلك ما لا يحتمله هذا الموضع
الوجه السادس أن رفع الأصوات في الذكر المشروع لا يجوز إلا حيث جاءت به السنة كالأذان والتلبية ونحو ذلك فالسنة للذاكرين والداعين ألا يرفعوا أصواتهم رفعا شديدا كما ثبت في الصحيح عن أبي موسى أنه قال كنا مع رسول الله ﷺ فكنا إذا علونا على شرف كبرنا فارتفعت أصواتنا فقال يا أيها الناس اربعوا على انفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعون أقرب إلى احدكم من عنق راحلته
وقد قال تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين سورة الأعراف 55 وقال عن زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا سورة مريم 3 وقال تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين سورة الأعراف 205
وفي هذه الآثار عن سلف الأمة وأئمتها ما ليس هذا موضعه كما قال الحسن البصري رفع الصوت بالدعاء بدعة وكذلك نص عليه أحمد ابن حنبل وغيره وقال قيس بن عباد وهو من كبار التابعين من أصحاب على عليه السلام روى عنه الحسن البصري قال كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند الجنائز وعند القتال
وهذه المواطن الثلاثة تطلب النفوس فيها الحركة الشديدة ورفع الصوت عند الذكر والدعاء لما فيه من الحلاوة ومحبة ذكر الله ودعائه وعند الجنائز بالحزن والبكاء وعند القتال بالغضب والحمية ومضرته أكبر من منفعته بل قد يكون ضررا محضا وإن كانت النفس تطلبه كما في حال المصائب
ولهذا قال النبي ﷺ ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية وتبرأ النبي ﷺ من الصالفة والحالقة والشاقة والصالفة التي ترفع صوتها بالمصي
وقال إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب ولكن يؤاخذ على هذا وأشار إلى لسانه أو يرحم وقال إن النائحة إذا لم تتب فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران
وهذه الأحاديث وغيرها في الصحاح ولهذا عظم نهى العلماء عما ابتدع فيها مثل الضرب بالدفوف ونحو ذلك ورأوا تقطيع الدف في الجنازة كما نص عليه أحمد وغيره بخلاف الدف في العرس فإن ذلك مشروع
============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل المقحمات هي الذنوب العظام كما قال النووي أم أنها ذنوب أرتكبت بقصد طاعة الله لكن التسرع والاندفاع دافع للخطأ من غير قصد

تعقيب علي المقحمات يتبين من تعريف المقحمات بين النووي ومعاجم اللغة العتيدة أن النووي أخطأ جدا في التعريف { المقحمات مفتوح للكتابة...