معاني كلمات القران الكريم




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بؤامج نداء الايمان

النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق/مدونة ديوان الطلاق//المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني / / /*الـذاكـر / /القرآن الكريم مع الترجمة / /القرآن الكريم مع التفسير / /القرآن الكريم مع التلاوة / / /الموسوعة الحديثية المصغرة/الموسوعة الفقهية الكبرى //برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم //برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية / /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة / /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين / /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر / /برنامج مكتبة السنة / /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية / /برنامج موسوعة شرح الحديث الشريف فتح البارى لشرح صحيح البخارى وشرح مسلم لعبد الباقى وشرح مالك للإمام اللكنوى / /خلفيات إسلامية رائعة / /مجموع فتاوى ابن تيمية / /مكتبة الإمام ابن الجوزي / /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني / /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي / /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي / /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي / /مكتبة الإمام ابن كثير / /مكتبة الإمام الذهبي / /مكتبة الإمام السيوطي / /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني / /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي / /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي / /مكتبة الشيخ حمود التويجري / /مكتبة الشيخ ربيع المدخلي / /مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ / /مكتبة الشيخ صالح الفوزان / /مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي / /مكتبة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم / /مكتبة الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان / /مكتبة الشيخ عبد المحسن العباد / /مكتبة الشيخ عطية محمد سالم / /مكتبة الشيخ محمد أمان الجامي /مكتبة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي / /مكتبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / /مكتبة الشيخ مقبل الوادعي / /موسوعة أصول الفقه / /موسوعة التاريخ الإسلامي / /موسوعة الحديث النبوي الشريف / /موسوعة السيرة النبوية / /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية / موسوعة توحيد رب العبيد / موسوعة رواة الحديث / موسوعة شروح الحديث / /موسوعة علوم الحديث / /موسوعة علوم القرآن / /موسوعة علوم اللغة / /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

الجمعة، 4 مارس 2022

إقامة الدليل على إبطال التحليل لابن تيمية من ص 1 الي ص اخر ص 5-

إقامة الدليل على إبطال التحليل
===

إقامة الدليل على إبطال التحليل/1 . 

قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد، القدوة العارف، الزاهد العابد الورع، تقي الدين شيخ الإسلام مفتي الأنام، صدر العلماء الأعلام، مفخر أهل الشام بقية السلف الكرام، ناشر السنة، قامع البدعة، أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام، العالم مجموع الفضائل شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام، العالم العلامة إمام الأئمة تقية الأمصار مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني - رحمه الله ورضي عنه آمين :

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والحمد لله الذي لا يحصي الخلق ثناء عليه كما أثنى على نفسه، لا يبلغ العارفون كنه معرفته، ولا يقدر الواصفون قدر صفته، والحمد لله الذي لا تشكر نعمته إلا بنعمته، ولا تنال كرامته إلا برحمته، فهو الأول والآخر، والظاهر، والباطن، وهو بكل شيء عليم، وهو الله الذي لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، والحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، والحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا، والحمد لله الذي بين لنا آياته ونهانا أن نتخذها هزوا، وأمرنا أن نذكر نعمته علينا وما أنزل علينا من الكتاب والحكمة يعظنا به، وأن نتقيه، وأن نعلم أنه بكل شيء عليم، فإنه من تدبر هذه الأوامر، وتبين له أن فيها جماع أمر الدين كله، وعلم أن من هو بكل شيء عليم لا يخفى عليه الذين يلحدون في آياته ولا الذين يتخذونها هزوا، ولا يخفى عليه من أظهر خلاف ما في باطنه، فإن السرائر لديه بادية، والسر عنده علانية، فله الحمد كما يحبه ويرضاه، وكما ينبغي لكريم وجهه عن جلاله، أحمده حمدا موافيا لنعمه، ومكافيا لمزيده، وأستعينه استعانة مخلص في توكله صادق في توحيده، وأستهديه إلى صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من صفوة عبيده أستغفره استغفار من يعلم أن لا ملجأ من الله إلا إليه في صدوره ووروده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مقر بأن الدين عند الله الإسلام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين وسيد الأنام: صلى الله عليه وعلى آله الصفوة الكرام، وسلم عليهم سلاما باقيا ببقاء دار السلام، أما بعد: فإن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وهدى به أمته إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولما كان العبد في كل حال مفتقرا إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو يحتاج إلى التوبة منها، وأمور هدي إلى أصلها دون تفصيلها، أو هدي إليها من وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها ليزداد هدى، وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية فيها، وأمور لم يفعلها فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية، إلى غير ذلك من أنواع الحاجات، إلى أنواع الهدايات، فرض عليه أن يسأل هذه الهداية في أفضل أحواله، وهي الصلاة مرات متعددة في اليوم والليلة، وقد بين أن أهل هذه النعمة مغايرون للمغضوب عليهم " اليهود " والضالين " النصارى "، وكان الرسول الرءوف الرحيم ﷺ يحذر أمته سلوك سبيل أهل الغضب والضلال، ويلعنهم تحذيرا للأمة على ما ارتكبوه من أنواع المحال، وينهى عن التشبه بهم في استحلال المحارم بالاحتيال لعلمه بما أوقع الله بهم على ذلك من الخزي والنكال، ولما انتهى الكلام بنا في مدارسة الفقه إلى مسائل الشروط في النكاح، وبين ما كان موثرا في العقد ملحقا له بالسفاح، وجرى من الكلام في مسألتي المتعة والتحليل ما تبين به حكمها بأرشد دليل، وظهرت الخاصة التي استحق بها المحلل لعنة الرسول ولما سماه من بين الأزواج بالتيس المستعار، وتبينت مآخذ الأئمة تأصيلا وتفصيلا على وجه الاستبصار، وظهرت المدارك والمسالك أثرا ونظرا حتى أشرق الحق وأنار، فانتبه من كان غافلا من رقدته، وشكا ما بالناس من الحاجة إلى ظهور هذا الحكم ومعرفته، ولعموم البلوى بهذه القضية الشنيعة، وغلبة الجهل بدلائل المسألة على أكثر المنتسبين إلى علم الشريعة، سأل أن أعلق في ذلك ما يكون تبصرة للمسترشد، وحجة للمستنجد، وموعظة للمتهور والمتلدد، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيي عن بينة، فأجبته إجابة المتحرج من كتمان العلم، المسئول الخائف من نقض الميثاق المأخوذ على الذين أوتوا الكتاب وخلفوا الرسول، ولم يكن من نيتي أن أشفع الكلام فيها بغيرها من المسائل بل أقتصر على ما أوجبه حق السائل، فالتمس بعض الجماعة مكررا للالتماس تقرير القاعدة التي هي لهذه المسألة أساس، وهي: " بيان حكم الاحتيال على سقوط الحقوق والواجبات " " وحل العقود " " وحل المحرمات " بإظهار صورة ليس لها حقيقة عند المحتال لكن جنسها مشروع لمن قصد به ما قصده الشارع من غير اعتلال، فاعتذرت بأن الكلام المفصل في هذا يحتاج إلى كتاب طويل، ولكن سأدرج في ضمن هذا من الكلام الجملي ما يوصل إلى معرفة التفصيل، بحيث يتبين للبيب موقع الحيل من دين الإسلام، ومتى حدثت، وكيف كان حالها عند السلف الكرام، وما بلغني من الحجة لمن صار إليها من المفتين، وذكر الأدلة الدالة فيها على الحق المبين، وذلك بكلام فيه اختصار ; إذ المقام لا يحتمل الإكثار، والله يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من العمل الصالح والقول الجميل، فإنه يقول الحق وهو يهدي السبيل، وينفعنا وسائر المسلمين بما يستعملنا به من سائر الأقوال والأفعال، ويجعله موافقا لشرعته خالصا لوجهه موصلا إلى أفضل حال، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نكاح المحلل حرام باطل لا يفيد الحل وصورته: أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره، كما ذكره الله تعالى في كتابه، وكما جاءت به سنة نبيه ﷺ وأجمعت عليه أمته، فإذا تزوجها رجل بنية أن يطلقها لتحل لزوجها الأول كان هذا النكاح حراما باطلا، سواء عزم بعد ذلك على إمساكها، أو فارقها، وسواء شرط عليه ذلك في عقد النكاح، أو شرط عليه قبل العقد، أو لم يشرط عليه لفظا بل كان ما بينهما من الخطبة وحال الرجل والمرأة والمهر نازلا بينهم منزلة اللفظ بالشروط، أو لم يكن شيء من ذلك بل أراد الرجل أن يتزوجها، ثم يطلقها لتحل للمطلق ثلاثا من غير أن تعلم المرأة ولا وليها شيئا من ذلك، سواء علم الزوج المطلق ثلاثا، أو لم يعلم، مثل أن يظن المحلل أن هذا فعل خير ومعروف مع المطلق وامرأته بإعادتها إليه لما أن الطلاق أضر بهما وبأولادهما وعشيرتهما ونحو ذلك، بل لا يحل للمطلق ثلاثا أن يتزوجها حتى ينكحها رجل مرتغبا لنفسه نكاح رغبة لا نكاح دلسة، ويدخل بها بحيث تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها، ثم بعد هذا إذا حدث بينهما فرقة بموت، وطلاق أو فسخ، جاز للأول أن يتزوجها، ولو أراد هذا المحلل أن يقيم معها بعد ذلك استأنف النكاح، فإن ما مضى عقد فاسد لا يباح المقام به معها هذا هو الذي دل عليه الكتاب، والسنة، وهو المأثور عن أصحاب رسول الله ﷺ وعامة التابعين لهم بإحسان، وعامة فقهاء الإسلام، مثل: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وهؤلاء الأربعة أركان التابعين، ومثل: أبي الشعثاء جابر بن زيد، والشعبي، وقتادة، وبكر بن عبد الله المزني، وهو مذهب مالك بن أنس، وجميع أصحابه، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، وهؤلاء الأربعة أركان تابعي التابعين، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل في فقهاء الحديث، منهم: إسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وسليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو إسحاق الجوزجاني وغيرهم، وهو قول للشافعي، وسنذكر - إن شاء الله - أقوال أصحاب رسول الله ﷺ في الأدلة .

أما أقوال التابعين والفقهاء :

فقال سعيد بن المسيب في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول، ولم يشعر بذلك زوجها الأول، ولا المرأة قال: " إن كان إنما نكحها ليحلها فلا يصلح ذلك لهما، ولا تحل " . وقال إبراهيم النخعي: " إذا هم الزوج الأول، أو المرأة، أو الزوج الأخير، بالتحليل فالنكاح فاسد " رواهما حرب الكرماني .

وعن سعيد بن المسيب، قال: " أما الناس فيقولون حتى يجامعها، وأما أنا فإني أنا أقول: إذا تزوجها تزويجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالا لها، فلا بأس أن يتزوجها الأول " رواه سعيد بن منصور .

وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها وهو لا يعلم قال: " لا يصلح ذلك إذا كان تزوجها ليحلها " . وجاء رجل إلى الحسن البصري فقال: إن رجلا من قومي طلق امرأته ثلاثا فندم وندمت، فأردت أن أنطلق فأتزوجها وأصدقها صداقا، ثم أدخل بها كما يدخل الرجل بامرأته، ثم أطلقها حتى تحل لزوجها قال: فقال له الحسن: " اتق الله يا فتى ولا تكونن مسمار نار لحدود الله " . رواهما ابن أبي شيبة، يريد الحسن أن المسمار هو الذي يثبت الشيء المسمور، فكذلك أنت تثبت تلك المرأة لزوجها وقد حرمت عليه . وعن الحسن، وإبراهيم النخعي، قالا: " إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد فسد العقد "، رواهما سعيد .

وعن عطاء بن أبي رباح في الرجل يطلق امرأته فينطلق الرجل الذي يتحزن له فيتزوجها من غير مؤامرة منه فقال: إن كان تزوجها ليحلها له لم تحل له، وإن كان تزوجها يريد إمساكها فقد أحلت له "، وعن الشعبي: أنه سئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها طلقها ثلاثا قبل ذلك قيل له: أيطلقها لترجع إلى زوجها الأول ؟ فقال: " لا حتى يحدث نفسه أنه يعمر معها وتعمر معه "، رواهما الجوزجاني هكذا لفظ هذا الأثر، وقال مالك بن أنس: " لا يحلها إلا نكاح رغبة "، فإن قصد التحليل لم تحل له، وسواء علما، أو لم يعلما لا تحل، وينفسخ نكاح من قصد إلى التحليل، ولا يقر على نكاحه قبل الدخول وبعده، وقال الأوزاعي والليث في ذلك نحو قول مالك، نقله الطحاوي وابن عبد البر وغيرهما، وكذلك قال الثوري في أحد الروايتين عنه فيما ذكره ابن عبد البر، وقال الخطابي: " إذا تزوجها وهو يريد أن يحللها لزوجها، ثم بدا له أن يمسكها لا يعجبني إلا أن يفارقها ويستأنف نكاحا جديدا " قال: " وكذلك قال أحمد بن حنبل "، وهذا الذي قاله رواه إسحاق بن منصور قال: قلت لأحمد: سئل سفيان عن رجل تزوج امرأة، وهو يريد أن يحلها لزوجها، ثم بدا له أن يمسكها، قال: " لا يعجبني إلا أن يفارقها ويستقبل نكاحا جديدا "، قال أحمد: قال إسحاق بن راهويه: كما قال: وكذلك قال الإمام أحمد فيما رواه عنه إسماعيل بن سعيد الشالنجي وهو من أجل أصحابه قال: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يتزوج المرأة، وفي نفسه أن يحللها لزوجها الأول ولم تعلم المرأة بذلك فقال: " هو محلل، وإذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون "، قال: وبه قال أبو أيوب يعني سليمان بن داود الهاشمي - وأبو خيثمة يعني - زهير بن حرب -، قال: وقال ابن أبي شيبة يعني أبا بكر بن أبي شيبة -: " لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول "، وقال الإمام أحمد في رواية أبي بكر الأثري وهو من أعيان أصحابه: " إذا تزوجها يريد التحليل، ثم طلقها بعد أن دخل بها، فرجعت إلى الأول يفرق بينهما ليس هذا نكاحا صحيحا " وقال في روايته أيضا في الذي يطلق ثلاثا: " لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا نكاح رغبة ليس فيه دلسة " وقال في رواية حنبل في الرجل يتزوج المرأة على أن يحلها لزوجها الأول: " لا تحل ولا يجوز حتى يكون نكاحا أثبت النية فيه، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق " وقال أيضا في روايته: " إذا نكحها على أن يطلقها في الحال لترجع إلى الأول يفرق بينهما، والمهر لا بد منه بما استحل من فرجها " وهذا قول عامة أصحابه، ثم أكثر محققيهم قطعوا بأن المسألة رواية واحدة، وقول واحد في المذهب، وهو الذي عليه المتقدمون منهم ومن سلك سبيلهم من المتأخرين، وهو الذي استقر عليه قول القاضي أبي يعلى في كتبه المتأخرة مثل الجامع والخلاف، ومن سلك سبيله مثل القاضي أبي الحسين، وأبي المواهب العكبري، وابن عقيل في التذكرة وغيرهم، ومنهم من جعل في المذهب خلافا، وسنذكر - إن شاء الله - أصله، وقال عبد الملك بن حبيب المالكي: " ولو تزوجها فإن أعجبته أمسكها، وإلا كان قد احتسب في تحليلها للأول لم يجز ولا يحلها ذلك لما خالط نكاحه من نية التحليل، وقياس قول أكثر أصحابنا أن هذا نكاح صحيح، لأنه إنما نوى فراقها إذا لم تعجبه وصار التحليل ضمنا، وأما من سوى من أصحابنا بين نكاح المتعة والمحلل وبين أن يقول: إن جئتني بالمهر إلى وقت كذا، وإلا فلا نكاح بيننا، فإن قولهم يوافق قول ابن حبيب، فإن هؤلاء يسوون بين أن يشرط الفرقة بتقدير عدم المهر "، وللشافعي في كتابه القديم العراقي فيما إذا تزوجها تزويجا مطلقا لم يشترط ولا اشترط عليه التحليل إلا أنه نواه وقصده، قولان: أحدهما: مثل قول مالك، والقول الثاني: إن النكاح صحيح وهو الذي ذكره في الكتاب الجديد المصري، وروي ذلك عن القاسم، وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة، وأبي الزناد حكاه ابن عبد البر عنهم، وفي القلب من حكايته هذا عن هؤلاء حزازة، فإن مالكا أعلم الناس بمذاهب المدنيين، وأتبعهم لها، ومذهبه في ذلك شدة المنع من ذلك، ثم هؤلاء من أعيان المدنيين، والمعروف عن المدنيين التغليظ في التحليل، قالوا: هو عملهم وعليه اجتماع ملئهم، وهذا القول الثاني: هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وداود بن علي الأصبهاني، وقد خرج ذلك طائفة من أصحابنا منهم: القاضي في المجرد، وابن عقيل في الفصول وغيرهما، على وجهين: أحدهما: العقد صحيح، كقول هؤلاء مع أنه مكروه، قالوا: لأن أحمد قال: أكرهه، والكراهة المطلقة منه هل تحمل على التحريم، أو التنزيه، على وجهين، وجعل الشريف أبو جعفر، وأبو الخطابي، وطائفة معهما المسألة على روايتين: إحداهما: البطلان كما نقله حنبل، وغيره، والثانية: الصحة، لأن حربا نقل عنه أنه كرهه، فظاهره الصحة مع الكراهة، ولم يذكر أبو علي بن البناء إلا هذه الرواية، وقطع عن أحمد بالكراهة مع الصحة، وهذا التخريج ضعيف على المذهب في وجهين: أحدهما: أن الكراهة التي نقلها حرب أنه قال: سئل أحمد عن الرجل يتزوج المرأة، وفي نفسه طلاقها فكرهه، وهذا ليس في نية التحليل، وإنما هو في نية الاستمتاع وبينهما فرق بين فإن المحلل لا رغبة له في النكاح أصلا، وإنما غرضه إعادتها إلى المطلق، والمستمتع له رغبة في النكاح إلى مدة، ولهذا أبيح نكاح المتعة في بعض الأوقات، ثم حرم ولم يبح التحليل قط، ولهذا قال الشيخ أبو محمد المقدسي: أما إذا نوى أن يطلقها في وقت بعينه، كالرجل يقدم البلدة فيتزوج المرأة ومن نيته أن يطلقها بعد السفر، فإن هذا جائز، واتبع ما ذكره ابن عبد البر أن هذا قول الجمهور مع قول هؤلاء بأن نية التحليل تبطل النكاح، لكن المنصوص عن الإمام أحمد كراهة هذا النكاح، وقال: هو متعة، فعلم أنها كراهة تحريم، وهذا الذي عليه، عامة أصحابه، وقال في موضع آخر: يشبه المتعة، فعلى هذا يجوز أن يريد به التنزيه دون التحريم، وممن حرمه الأوزاعي، واختلفت فيه المالكية، والذي ذكره بعضهم أنه إذا تزوج المسافر امرأة ليستمتع بها ويفارقها إذا سافر، فهو على ثلاثة أوجه، فإن شرطا ذلك كان فاسدا وهو نكاح متعة، واختلف إذا فهمت ذلك، أو لم يشترط، فقال محمد بن عبد الحكم: النكاح باطل، وروى ابن وهب عن مالك جوازه، فقال: إنما يكره التي ينكحها على أن لا يقيم وعلى ذلك يأتي، وروى عنه أشهب أنه قال: إذا أخبرها قبل أن ينكح، ثم أراد إمساكها فلا يقيم عليها ولا يمسكها وليفارقها، قال مالك: إن تزوج لعزبة، أو هوى لقضاء أربه ويفارق فلا بأس، ولا أحسب إلا أن من النساء من لو علمت ذلك لما رضيت، الثاني: أن أحمد قال في رواية عبد الله: إذا تزوجها ومن نيته أن يطلقها أكرهه هذه متعة، ونقل عنه أبو داود: إذا تزوجها على أن يحملها إلى خراسان ومن رأيه إذا حملها أن يخلي سبيلها، فقال: لا، هذا يشبه المتعة حتى يتزوجها على أنها امرأته ما حييت، وهذا يبين أن هذه كراهة تحريم، لأنه جعل هذا متعة، والمتعة حرام عنده، وكذلك قال القاضي، في خلافه: ظاهر هذا إبطال العقد، وكذلك استدرك بعض أصحابنا على أبي الخطاب يقول أحمد هذه متعة . قال: فهذا يدل على أنها كراهة تحريم، لكن قول أبي الخطاب يقوى في رواية أبي داود، فإنه قال: يشبه المتعة، والمشبه بالشيء قد ينقص عنه، لأن ظاهر الرواية المنع، لأنه قال: حتى يتزوجها على أنها امرأته ما حييت في الجملة، أما إذا نوى أن يتزوجها ليحلها، فلم يذكر عن أحمد فيه لفظ محتمل لعدم التحريم، وأما إذا نوى أن يطلقها في وقت فقد نص على التحريم في رواية، والرواية الأخرى من أصحابنا من جعلها مثل تلك الرواية، ومنهم من قال تقتضي الكراهة دون التحريم، وعلى قول الشيخ أبي محمد: لا بأس به، هذا الذي ذكرناه من اختلاف العلماء وما ذكر من الخلاف في المذهب فيما إذا قصد التحليل، ولم يشترط عليه قبل العقد ولا معه، فأما إذا تواطآ على التحليل قبل العقد وعقدا على ذلك القصد فهو كالمشروط في العقد عند كثير من هؤلاء، وهو أشبه بأصلنا إذا قلنا: إن النية المجردة لا تؤثر فإن الغالب على المذهب أن الشروط المتقدمة على العقد إذا لم تفسخ إلى حين العقد، فإنها بمنزلة المقارنة، وهو مفهوم ما خرجه أبو الخطاب وغيره، فإنه خص الخلاف إذا نوى التحليل ولم يشترطه وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وهو قول هؤلاء التابعين الذين نقل عنهم الرخصة في مجرد نية التحليل، واشترطوا مع ذلك أن لا يعلم الزوج المطلق، فروى عن القاسم وسالم: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور بذلك "، حكاه عنهما الطحاوي، وكذلك قال ربيعة، ويحيى بن سعيد: " هو مأجور " وقال أبو الزناد: " وإن لم يعلم أحد منهما فلا بأس بالنكاح وترجع إلى زوجها الأول " حكاهن ابن عبد البر، وعلى هذا فليس عن أحد من التابعين رخصة في نكاح المحلل إذا علمت به المرأة والزوج المطلق فضلا عن اشتراطه، والمشهور من مذهب الشافعي أن هذا الشرط المتقدم غير مؤثر، وكذلك ذكره القاضي في المجرد أن ذلك عندنا كنية التحليل من غير شرط وخرج فيهما وجهين، وأما إذا شرط التحليل في العقد فهو باطل، سواء قال: زوجتك إلى أن تحلها، أو: إلى أن تطأها، ونحو ذلك من ألفاظ التأجيل، أو قال: بشرط أنك إذا وطئتها، أو إذا أحللتها بانت، أو فلا نكاح بينكما، أو على أن لا نكاح بينكما إذا حللتها، ونحو ذلك من الألفاظ التي توجب ارتفاع النكاح إذا تحللت، أو قال: على أنك تطلقها إذا حللتها للمطلق أو وطئتها، وكذلك لو قال: على أن تحلها فقط، كما ذكره الخرقي وغيره، لأن الإحلال إنما يتم بالوطء، والطلاق، فإذا قيل: على أن تحلها فقط، كان المراد مجموع الأمرين، وإذا قيل: على أن تحلها، ثم تطلقها، كان الإحلال هو الوطء، وإنما ذكرنا هذا، لأن عبارات الفقهاء مختلفة في هذا الشرط، منهم من يقول: إذا شرط عليه أن يحلها، ومنهم من يقول: أن يحلها، ثم يطلقها، فمن قال الأول عنى بالإحلال الوطء والطلاق جميعا وهو أقرب إلى مدلول اللفظ كقول الخرقي، ومن قال الثاني كان الإحلال عنده الوطء ; لأنه هو الذي يفتقر فيه إلى الزوج بكل حال، فإن الفرقة قد تحصل بموت، أو طلاق ; ولأنه إذا حصل الوطء صارت المرأة بمنزلة سائر الزوجات، وارتفع تحريم الطلاق به، فهذا جعل الوطء وحده هو المحلل، وبالجملة فهذا مذهب عامة هؤلاء، وهو ظاهر مذهب الشافعي، ويروى عن أبي يوسف، ثم عامة أصحابنا قطعوا بهذا مع ذكر بعضهم للخلاف في المسألة الأولى، وللشافعي قول بصحة العقد وفساد الشرط في الصورة الثالثة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: النكاح جائز، والشرط فاسد كسائر الشروط الفاسدة عندهم، سواء قال: على أنه إذا أحلها فلا نكاح، أو قال: على أن يطلقها إذا أحلها، وروي ذلك عن الثوري، وذكر ذلك عن الأوزاعي في نكاح المحلل، وفيه نظر عنه، وعن ابن أبي ليلى في نكاح المحلل ونكاح المتعة أنه أبطل الشرط في ذلك، وأجاز النكاح، وهذا يقتضي صحة النكاح في الصور الثلاث، وهو قول زفر، وقد خرج القاضي في موضع من الخلاف، وأبو الخطاب رواية بصحة العقد وفساد الشرط، وفي الصورة الثانية والثالثة - من رواية عن الإمام أحمد في النكاح المشروط فيه الخيار، أو أنه إن جئتني بالمهر إلى وقت كذا، وإلا فلا نكاح بيننا - أن العقد صحيح والشرط باطل، ومن أصحابنا من طرد التخريج في الصور الثلاث وهو في غاية الفساد على المذهب، بل لا يجوز نسبة مثل هذا إلى الإمام أحمد، والفرق بين هذه المسألة وتلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه هنا شرط الفرقة الرافعة للعقد عينا وهناك إنما شرط الفرقة إذا لم يجئه بالمهر، أو إذا اختارها صاحب الخيار، فأين هذا من هذا ؟ والثاني: أن المقصود باشتراط المجيء بالمهر تحصيل المقصود بالعقد وفي مسألة الخيار يلزم العقد بمضي الزمان، وهنا الشرط مناف لمقصود العقد، وهو إما موجب للفرقة عينا بحيث تقع الفرقة بمضي الزمان، كنكاح المتعة، أو موجب لإيقاع الفرقة على الزوج، الثالث: أن تلك الأنكحة مقصودة يريد بها الناكح ما يراد بالمناكح، وهنا إنما المقصود تحليل المحرمة لزوجها، فالمقصود زوال النكاح لا وجوده، ثم عامة هؤلاء الذين لا يبطلون العقد يكرهون نكاح المحلل، وإن لم يبطلوه وينهون عنه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، ولم يبلغنا عن أحد خلاف ذلك فيما إذا ظهر من الزوج أنه يريد التحليل، فأما إذا أضمر ذلك، فقد حكي عن أولئك النفر من التابعين إن صحت الحكاية أنه يثاب على ذلك، وصحتها بعيدة فإن القاسم بن معن قاضي الكوفة قال: قال أبو حنيفة: لولا أن يقول الناس لقلت إنه مأجور، - يعني المحلل -، وهذه قالها القاسم في معرض التشنيع على من قالها، فإن سياق كلامه يقتضي ذلك مع أن أبا حنيفة أخبر أنه لولا أن هذا القول لا يحتمله الناس بوجه لقيل، فعلم أن مثل هذا القول، أو قريبه كان من أكبر المنكرات عند التابعين ومن بعدهم، وأنه قول محدث مخالف لما عليه الجماعة، فكيف ينسب إلى أحد من فقهاء المدينة وهم أبعد الناس عن مثل هذا، والله أعلم بحقيقة الحال ؟ وزعم داود بن علي أنه لا يبعد أن يكون مريد نكاح المطلقة ليحلها لزوجها مأجورا إذا لم يظهر ذلك باشتراطه في حين العقد، لأنه قصد إرفاق أخيه المسلم، وإدخال السرور عليه، ومن قال: إن نكاح المحلل صحيح مع الكراهة، قال: إنه يفيد الحل مع الكراهة، واختلف عن أبي حنيفة وأصحابه إذا صححوا النكاح، فمرة قالوا: لا تحل له بهذا النكاح، وإن كان صحيحا، ومرة قالوا: تحل به، هكذا حكاه الطحاوي وغيره، وذكر بعضهم أن محمد بن الحسن قال: لا تحل مع صحة النكاح، لأنه استعجل ما أخره الشرع، فجوزي بنقيض قصده، كما في منع قاتل المورث، فإذا ظهرت المقالات في مسألة التحليل، وما فيها من التفصيل، فقد تقدم أن الذي عليه الصحابة وعامة السلف التحريم مطلقا، ونحن - إن شاء الله تعالى - نذكر الأدلة على تحريم نكاح المحلل وبطلانه، سواء قصده فقط، أو قصده واتفقوا عليه قبل العقد، أو شرط مع ذلك في العقد، ونبين الدلائل على المسألة الأولى، فإن ذلك تنبيه على المسألتين الأخيرتين - إن شاء الله - على الشرط الخالي عن نية وقت العقد، وهنا طريقان: أحدهما: الإشارة إلى بطلان الحيل عموما، والثانية: الكلام في هذه المسألة خصوصا .

الوجه الثاني قوله سبحانه، لما قال المنافقون: { إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون }، وقوله سبحانه: { أبالله وآيته ورسوله كنتم تستهزئون } الآية، وقوله سبحانه: { ولا تتخذوا آيات الله هزوا }، بعد أن ذكر الطلاق والرجعة والخلع والنكاح المحلل والنكاح بعده وغير ذلك إلى غير ذلك من المواضع، دليل على أن الاستهزاء بدين الله من الكبائر - والاستهزاء هو السخرية وهو حمل الأقوال والأفعال على الهزل واللعب لا على الجد والحقيقة - فالذي يسخر بالناس هو الذي يذم صفاتهم وأفعالهم ذما يخرجها عن درجة الاعتبار كما سخروا بالمطوعين من المؤمنين في الصدقات، والذين لا يجدون إلا جهدهم بأن قالوا هذا مراء، ولقد كان الله غنيا من صاع فلان، فمن تكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق ومقاصد مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله التي تستحل بها الفروج، والعهود، والمواثيق التي بين المتعاقدين، وهو لا يريد بها حقائقها المقومة لها، ولا مقاصدها التي جعلت هذه الألفاظ محصلة لها، بل يريد أن يرتجع المرأة ليضرها، ولا حاجة له في نكاحها، أو ينكحها ليحللها، أو يخلعها ليلبسها، فهو مستهزئ بآيات الله فإن العهود والمواثيق من آيات الله، وسيأتي - إن شاء الله - تقرير ذلك في الأدلة الخاصة، فإذا كان الاستهزاء بها حراما وجب إبطاله، وإبطال التصرفات عدم ترتب أثرها عليها، فإن كان المستهزئ بها غرضه إنما يتم لصحتها وجب إبطال هذه الصحة والحكم ببطلان تلك التصرفات، وإن كان المستهزئ غرضه اللعب بها دون لزوم حكمها وجب إبطال لعبه بإلزامه أحكامه كما سيأتي - إن شاء الله - إيضاحه .

الطريق الأول: بطلان الحيل، وأدلة التحريم أن نقول: إن - الله سبحانه - حرم أشياء، إما تحريما مطلقا، كتحريم الربا، أو تحريما مقيدا إلى أن يتغير حال من الأحوال، كتحريم نكاح المطلقة ثلاثا، وكتحريم المحلوف بطلاقها عند الحنث، وأوجب أشياء إيجابا معلقا بأسباب: إما حقا لله - سبحانه -، كالزكاة، ونحوها، أو حقا للعباد كالشفعة، ثم إنه شرع أسبابا تفعل لتحصيل مقاصد، كما شرع العبادات من الأقوال والأفعال لابتغاء فضله ورضوانه، وكما شرع عقد البيع لنقل الملك بالعوض، وعقد القرض لإرفاق المقترض، وعقد النكاح للأزواج، والسكن، والألفة بين الزوجين، والخلع لحصول البينونة المتضمنة افتداء المرأة من رق بعلها، وغير ذلك، وكذلك هدى خلقه إلى أفعال تبلغهم إلى مصالح لهم كما شرع مثل ذلك، فالحيلة: أن يقصد سقوط الواجب، أو حل الحرام، بفعل لم يقصد به ما جعل ذلك الفعل له، أو ما شرع، فهو يريد تغيير الأحكام الشرعية بأسباب لم يقصد بها ما جعلت تلك الأسباب له، وهو يفعل تلك الأسباب لأجل ما هو تابع لها، لا لأجل ما هو المتبوع المقصود بها، بل يفعل السبب لما ينافي قصده من حكم السبب، فيصير بمنزلة من طلب ثمرة الفعل الشرعي ونتيجته وهو لم يأت بقوامه وحقيقته، فهذا خداع لله، واستهزاء بآيات الله، وتلاعب بحدود الله، وقد دل على تحريمه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف الصالح، وعامة دعائم الإيمان ومباني الإسلام، ودلائل ذلك لا تكاد تنضبط ولكن ننبه على بعضها، مع أن القول بإبطال مثل هذه الحيل في الجملة مأثور، عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعائشة أم المؤمنين، وأنس بن مالك، ومن التابعين، عن سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عبد الله بن عتبة وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد، وعطاء بن أبي رباح، وغيره من فقهاء المكيين، وجابر بن زيد أبي الشعثاء، والحسن البصري ومحمد بن سيرين وبكر بن عبد الله المزني وقتادة وأصحاب عبد الله بن مسعود، وإبراهيم النخعي، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان، وهو قول أيوب السختياني وعمرو بن دينار، ومالك، وأصحابه، والأوزاعي والليث بن سعد، والقاسم بن معن وسفيان الثوري وشريك بن عبد الله، وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك والفضل بن عياض، وحفص بن غياث، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وإسحاق بن راهويه، ومن لا يحصى من العلماء، وكلامهم في ذلك يطول، قال الإمام أحمد في رواية موسى بن سعيد: " لا يجوز شيء من الحيل "، وقال في رواية ابن الحكم: " إذا حلف على شيء، ثم احتال بحيلة فصار إليه فقد صار إلى ذلك بعينه "، قال أبو عبد الله: ما أخبثهم ; يعني أصحاب الحيل "، وقال: بلغني عن مالك، أو قال: قال مالك " من احتال بحيلة فهو حانث " أو كما قال، وقال في رواية إسماعيل بن سعيد وقد سأله عمن احتال في إبطال الشفعة، فقال: لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم "، وقال الميموني: قلت، لأبي عبد الله: من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها هل تجوز تلك الحيلة ؟ قال: " نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز " قلت: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا، وإذا وجدنا لهم قولا في شيء اتبعناه ؟ قال: " بلى، هكذا هو "، قلت: وليس هذا منا - نحن - حيلة، قال: " نعم " قلت: بلغني أنهم يقولون في رجل حلف على امرأته - وهي على درجة -: إن صعدت، أو نزلت فأنت طالق، قالوا: تحمل حملا فلا تنزل، قال: " هذا هو الحنث بعينه ليس هذه حيلة هذا هو الحنث "، وقالوا: حلف أن لا يطأ بساطا، قالوا: يجعل بساطين، وقالوا: حلف أن لا يدخل الدار، قالوا: يحمل، فجعل أبو عبد الله يتعجب، فبين الإمام أحمد رحمه الله أن من اتبع ما شرع له وجاء عن السلف في معاني الأسماء التي علق بها الأحكام ليس بمحتال الحيلة المذمومة، وإن سميت حيلة، فليس الكلام فيها، وغرضه بهذا الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التي شرعت لحصول ذلك المقصود وبين غيرها، كما سيأتي - إن شاء الله - بيانه، وسيأتي تشديده في سائر أنواع الحيل، واحتجاجه على ردها في أثناء الأدلة . فنقول الدليل على تحريمها، وإبطالها وجوه: الوجه الأول أنه - سبحانه وتعالى - قال في صفة أهل النفاق من مظهري الإسلام: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } إلى قوله: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون } وقال سبحانه: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } وقال في صفة المنافقين من أهل العهد: { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله } الآية، فأخبر سبحانه أن هؤلاء المخادعين مخدوعون وهم لا يشعرون بذلك، وأن الله خادع من يخادعه وأن المخدوع يكفيه الله شر من خدعه، والمخادعة هي الاحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطال خلافه لتحصيل المقصود، يقال: طريق خدع إذا كان مخالفا للقصد لا يفطن له، ويقال: غول خيدع، ويقال: للشراب الخيداع، وضب خدع، أي مراوغ، وفي المثل أخدع من ضب، وخلق خادع، وسوق خادعة أي متلونة، والحرب خدعة، وأصله الإخفاء والستر، ومنه قيل للخزانة: مخدع ومخدع، فلما كان قول القائل: آمنا بالله وباليوم الآخر إنشاء للإيمان، أو إخبارا به وحقيقته أن يكون صادقا في هذا الإنشاء والإخبار - بحيث يكون قلبه مطمئنا بذلك، وحكمه أن يعصم دمه وماله في الدنيا، وأن يكون له ما للمؤمنين - كان من قال هذه الكلمة غير مبطن لحقيقتها، بل مريدا لحكمها وثمرتها فقط، مخادعا لله ورسوله، وكان جزاؤه أن يظهر الله - سبحانه - ما يظن أنه كرامة وفيه عذاب أليم، كما أظهر للمؤمنين ما ظنوا أنه إيمان وفي ضمنه الكفر، وهكذا قول القائل: بعت، واشتريت، واقترضت، وأنكحت، ونكحت إنشاء للعقد، أو إخبارا به، فإذا لم يكن مقصوده انتقال الملك الذي وضعت له هذه الصيغة، ولا ثبوت النكاح الذي جعلت له هذه الكلمة، بل مقصوده بعض أحكامها التي قد يحصل ضمنا، وقد لا يحصل، أو قصد ما ينافي قصد العقد، أو قصده بالعقد شيء آخر خارج عن أحكام العقد، وهو أن تعود المرأة إلى زوجها المطلق بعد الطلاق، أو أن تعود السلعة إلى البائع بأكثر من ذلك من الثمن، أو أن تنحل يمين قد حلفها كان مخادعا لمباشرته للكلمات التي جعلت لها حقائق ومقاصد، وهو لا يريد مقاصدها وحقائقها، وهو ضرب من النفاق في آيات الله وحدوده، كما أن الأول نفاق في أصل الدين، يؤيد ذلك من الأثر ما روي، عن ابن عباس، أنه جاءه رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا أيحلها له رجل ؟ فقال: من يخادع الله يخدعه، رواه سعيد، وسيجيء عن ابن عباس، وأنس أن كلا منهما سئل عن العينة فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله، وما روي مرفوعا وموقوفا، عن عثمان، وابن عمر، وغيرهما أنهم قالوا: { لا نكاح إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة }، وقد قال أهل السنة: المدالسة المخادعة، وقال أيوب السختياني، وناهيك به في هؤلاء المحتالين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عيانا كان أهون علي، وقال شريك بن عبد الله القاضي في كتاب الحيل هو كتاب المخادعة، وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسول ﷺ أنهم يريدون سلمه ومقصودهم بذلك المكر به من حيث لا يشعر بأن يظهروا له أمانا، وهم يعتقدون أنه ليس بأمان فقد أبطنوا خلاف مقصود المعاهدة، كما يظهر المحلل للمسلمين والمرأة أنه إنما يريد نكاحها وأنه راغب في ذلك ومقصوده طلاقها بعد استفراشها لا ما هو مقصود النكاح، ولهذا جاءت السنة بأن كل ما فهم الكافر أنه أمان كان أمانا لئلا يكون مخدوعا، وإن لم يقصد خدعه، وروى سليم بن عامر قال: { كان معاوية يسير بأرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر إلى رسول الله ﷺ قال من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم عهدهم على سواء فبلغ ذلك معاوية فرجع، وإذا الشيخ: عمرو بن عبسة }، رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك لئلا يكون فيه خديعة بالمعاهدين إن لم يكن في ذلك مخالفة لما اقتضاه لفظ العهد فعلم أن مخالفة ما يدل عليه العقد لفظا، أو عرفا خديعة وأنه حرام، وتلخيص هذا الوجه: أن مخادعة الله حرام، والحيل مخادعة لله، بيان الأول: أن الله ذم المنافقين بقوله: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } وبقوله: { يخادعون الله والذين آمنوا } ولولا أن المخادعة حرام لم يكن المنافق مذموما بهذا الوصف وأيضا أخبر أنه خادعهم، وخدع الله العبد عقوبة له، والعقوبة لا تكون إلا على فعل محرم، أو ترك واجب، وبيان الثاني من أوجه: أحدها: أن ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين أفتوا أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعة لله، والرجوع إليهم في معاني الألفاظ متعين، سواء كانت لغوية، أو شرعية، الثاني: أن المخادعة إظهار شيء من الخير، وإبطان خلافه، كما تقدم، هذا هو حقيقة الحيل، ودليل مسألة هذا مطابقة هذا المعنى بموارد الاستعمال وشهادة الاشتقاق والتصريف له، الثالث: أن المنافق لما أظهر الإسلام، ومراده غير الإسلام سمي مخادعا لله، وكذلك المرائي، فإن النفاق والرياء من باب واحد، فإذا كان هذا الذي أظهر قولا غير معتقد لما يفهم منه، وهذا الذي أظهر فعلا غير معتقد لما شرع له مخادعا، فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين: إما إظهار فعل لغير مقصوده الذي شرع له، أو إظهار قول لغير مقصوده الذي شرع له، وإذا كان مشاركا لهما في المعنى الذي به سميا مخادعين، وجب أن يشركهما في اسم الخداع، وعلم أن الخداع اسم لعموم الحيل، لا لحصول هذا النفاق، والله أعلم .

الوجه الثالث أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم بما بلاهم به في سورة ( نون ) وهم قوم كان للمساكين حق في أموالهم إذا جذوا نهارا بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من الثمر، فأرادوا أن يجذوا ليلا ليسقط ذلك الحق، ولئلا يأتيهم مسكين فأرسل الله على جنتهم طائفا وهم نائمون، فأصبحت كالصريم عقوبة على احتيالهم لمنع الحق الذي كان للمساكين في أموالهم، فكان في ذلك عبرة لكل من احتال لمنع حق لله، أو لعباده من زكاة، أو شفعة، وقصد هؤلاء معروف كما ذكرناه، على أن في التنزيل ما يكفي في الدلالة، فإن هؤلاء لو لم يكونوا أرادوا منع واجب لم يعاقبوا بمنع التطوع، فإن الذم والعقوبة إنما يكون على فعل محرم، أو ترك واجب، وهذه خاصة الواجب والحرام التي تفصل بينهما وبين المستحب والمكروه، ثم إن كانوا عوقبوا على الاحتيال على ترك المستحب، ففيه تنبيه على العقوبة على ترك الواجب، ولا يجوز أن تكون العقوبة على ترك الاستثناء وحده، فإن هذا إنما يعاقب صاحبه بمنع الفعل، بأن يبتلى بما يشغله عنه أما عقوبته بإهلاك المال فلا، ولأن الله قال: { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة }، بعد أن قال: { ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم }، فعلم أنها عبرة لمن منع الخير، ولأن الله قص عنهم أنهم أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون فإنهم انطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، فعلم أن جميع هذه الأمور لها تأثير في العقوبة، فعلم أنها محرمة ; لأن ذكر ما لا تأثير له في الحكم مع المؤثر غير جائز، كما لو ذكر مع هذا أنهم أكلوا، أو شربوا، فإن كان هؤلاء عوقبوا على قصد منع الخير المستحب فكيف بمن قصد منع الواجب، إن كانوا إنما قصدوا منع واجب وهو الصواب، كما قررناه، فهم لم يمنعوه بعد وجوبه، لأنه لو كان قد وجب لم يكن فرق بين صرمه بالليل وصرمه بالنهار، وإنما قصدوا بالصرم ليلا الفرار مما كان للمساكين فيه من اللقاط، فعلم أن الأمر كما ذكره المفسرون من أن حق المساكين كان فيما يتساقط، ولم يكن شيئا موقتا، ووجوب هذا مشروط بسقوطه وحضور من يأخذه من المساكين، كأن الساقط عفو المال وفضله، وحضور أهل الحاجة بمنزلة السؤال، والفاقة، ومثل هذه الحال يجب فيها ما لا يجب في غيرها، كما يجب قرى الضيف، وإطعام المضطر، ونفقة الأقارب، وحمل العقل، ونحو ذلك، فيكون هذا فرارا من حق قد انعقد بسبب وجوبه قبل وقت وجوبه، فهو مثل الفرار من الزكاة قبل حلول الحول بعد ملك النصاب، والفرار من الشفعة بعد إرادة البيع قبل تمامه، والفرار من قرى الضيف قبل حضوره، ونحو ذلك، ولولا أن قصدنا هنا الإشارة فقط لبسطنا القول في ذلك .

الوجه الخامس أن النبي ﷺ قال: { إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه }، متفق عليه، وهذا الحديث أصل في إبطال الحيل، وبه احتج البخاري على ذلك، فإن من أراد أن يعامل رجلا معاملة يعطيه فيها ألفا بألف وخمسمائة إلى أجل، فأقرضه تسعمائة وباعه ثوبا بستمائة يساوي مائة، إنما نوى باقتراض التسعمائة تحصيل ما ربحه في الثوب، وإنما نوى بالستمائة التي أظهر أنها ثمن أن أكثرها ربح التسعمائة، فلا يكون له من عمله إلا ما نواه بقول النبي ﷺ وهذا مقصود فاسد غير صالح، ولا جائز ; لأن إعطاء الدراهم بدراهم أكثر منها محرم فعله وقصده، فإذا كان إنما باع الثوب بستمائة مثلا، لأن الخمسمائة ربح التسعمائة التي أعطاه إياها بدراهم فهذا مقصود محرم، فيكون مهدرا في الشرع، ولا يترتب عليه أحكام البيع الصالحة والقرض، كما أن مهاجر أم قيس إنما كان له أم قيس ليس له من أحكام الهجرة الشرعية شيء، وكذلك المحلل إنما نوى أن يطلق المرأة لتحل للأول ولم ينو أن يتخذها زوجة فلا تكون له زوجة، فلا تحل له، وإذا لم تكن له زوجة فالتحريم باق، فلا تحل للأول، وهذا ظاهر . الوجه الرابع أن الله سبحانه قال في كتابه: { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين } وقال في موضع آخر: { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت }، وقال في موضع آخر: { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون، فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين }، وقد ذكر جماعات من العلماء والفقهاء وأهل التفسير أنهم احتالوا على الصيد يوم السبت بحيلة تخيل بها في الظاهر أنهم لم يصيدوا في السبت، حتى قال أبو بكر الآجري - وقد ذكر بعض الحيل الربوية -: لقد مسخ اليهود قردة بدون هذا، وقال قبله الإمام أبو يعقوب الجوزجاني في الاستدلال على إبطال الحيل: وهل أصاب الطائفة من بني إسرائيل المسخ إلا باحتيالهم على أمر الله، بأن حظروا الحظائر على الحيتان في يوم سبتهم، فمنعوها الانتشار يومها إلى الأحد فأخذوها، وكذلك السلسلة التي كانت تأخذ بعنق الظالم فاحتال لها صاحب الدرة ; إذ صرها في قصبة، ثم دفعها بالقصبة إلى خصمه، وتقدم إلى السلسلة ليأخذها فرفعت، وقال بعض الأئمة: في هذه الآية مزجرة عظيمة للمتعاطين الحيل على المناهي الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وليس بفقيه ; إذ الفقيه من يخشى الله تعالى في الربويات والتحليل باستعارة المحلل للمطلقات والخلع لحل ما لزم من المطلقات المعلقات إلى غير ذلك من عظائم ومصائب لو اعتمد بعضها مخلوق في حق مخلوق لكان في نهاية القبح فكيف في حق من يعلم السر وأخفى، وقد ذكر القصة غير واحد من مشاهير المفسرين بمعنى متقارب، وذكرها السدي في تفسيره الذي رواه، عن أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، وغير واحد، عن ابن مسعود، وغيره من أصحاب النبي ﷺ وقال: كانت الحيتان إذا كان يوم السبت لم يبق حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الأحد لم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت، فذلك قول الله سبحانه: { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم }، وقد حرم الله سبحانه على اليهود أن تعمل شيئا يوم السبت، فاشتهى بعضهم السمك، فجعل يحتفر الحفيرة، ويجعل لها نهرا إلى البحر إذا كان يوم السبت أقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث، فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه فجعل الرجل يشوي السمك فيجد جاره ريحه، فيخبره فيصنع مثل ما صنع جاره، وقيل: كانوا ينصبون الحبائل والشصوص يوم الجمعة، ويخرجونها يوم الأحد، وهذا الوجه هو الذي ذكره القاضي أبو يعلى ففعلوا ذلك زمانا فكثرت أموالهم ولم ينزل عليهم عقوبة فقست قلوبهم وتجرءوا على الذنب، وقالوا: ما نرى السبت إلا أحل لنا، فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية ثلاثة أصناف: صنفا أمسك ونهى، وصنفا أمسك ولم ينه، وصنفا انتهك الحرمة، وتمام القصة مشهور، وقد روي عن الحسن البصري نحو من هذه القصة ذكره ابن عيينة عن رجل عن الحسن، في قول الله تعالى: { الذين اعتدوا منكم في السبت }، قال: رموها في السبت، ثم أرجئوها في الماء فاستخرجوها بعد ذلك فطبخوها فأكلوها فأكلوا - والله - أوخم أكلة أكلت أسرعت في الدنيا عقوبة وأسرعت عذابا في الآخرة، والله ما كانت لحوم تلك الحيتان بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين إلا أنه عجل لهؤلاء وأخر لهؤلاء، فقول الحسن: رموها في السبت، يعني: احتالوا على وقوعها في الماء يوم السبت، كما بين غيره أنهم حفروا لها حياضا، ثم فتحوها عشية الجمعة، أو أنه أراد أنهم رموا الحبائل يوم السبت، ثم أخروها في الماء إلى يوم الأحد، فاستخرجوها بالحيتان يوم الأحد، ولم يرد أنهم باشروا إلقاءها يوم السبت، فإنهم لو اجترءوا على ذاك لاستخرجوها إلا أن يكونوا تأولوا أن إلقاءها بأيديهم ليس بصيد، والمحرم إنما هو الصيد، فقد روي من تأويلهم ما هو أقبح من هذا ذكره محمد بن عمر العنقري في أخبار الأنبياء، قال: أنبأنا أبو بكر وأظنه الهزلي، عن عكرمة قال: أتيت ابن عباس وهو يقرأ في المصحف في سورة الأعراف ويبكي، فدنوت منه حتى أخذت بلوحي المصحف، فقلت: ما يبكيك ؟ قال: يبكيني هذه الورقات، قال: هل تعرف أيلة ؟ قلت: نعم، قال: إن الله أسكنها حيا من اليهود فابتلاهم بحيتان حرمها عليهم يوم السبت وأحلها لهم في كل يوم قال: وكان إذا كان يوم السبت خرجت إليهم، فإذا ذهب السبت غاصت في البحر حتى لا يعرض لها الطالبون، وإن القوم اجتمعوا فاختلفوا فيها، فقال فريق منهم: إنما حرمت عليكم يوم السبت أن تأكلوها، فصيدوها يوم السبت، وكلوها في سائر الأيام، وقال آخرون: بل حرمت عليكم أن تصيدوها، أو تؤذوها أو تنفروها، فلما كان يوم السبت خرجت إليهم شرعا فتفرق الناس، فقالت فرقة: لا نأخذها ولا نقربها، وقال آخرون: بل نأخذها ولا نأكلها يوم السبت، وكانوا ثلاث فرق: فرقة على إيمانهم، وفرقة على شمائلهم، وفرقة وسطهم، فقامت الفرقة اليمنى فجعلت تنهاهم وجعلت تقول: الله الله نحذركم بأس الله، وأما الفرقة اليسرى فكفت أيديها، وأمسكت ألسنتها، وأما الفرقة الوسطى فوثبت على السمك تأخذه، وذكر تمام القصة في مسخ الله إياهم قردة، فهذه الآثار دليل على أن القوم إنما اصطادوا لها محتالين مستحلين بنوع من التأويل، فكان أجودهم تأويلا الذي احتال على وقوعها في الحياض والشصوص يوم السبت من غير مباشرة منه ; إذ ذاك، وبعده من باشر إلقاءها في الماء، ثم أخرجها بعد السبت، وبعده من أخرجها من الماء ولم يأكل حتى خرج يوم السبت تأويلا منه أن المحرم هو الأكل، وكذلك صح عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: { يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم }، قال: حرمت عليهم الحيتان يوم السبت، فكانت تأتيهم يوم السبت شرعا بلاء ابتلوا به، ولا تأتيهم في غيره إلا أن يطلبوها بلاء أيضا بما كانوا يفسقون فأخذوها يوم السبت استحلالا ومعصية لله عز وجل، فقال الله: { كونوا قردة خاسئين } إلا طائفة منهم لم يعتدوا ونهوهم، فبين أنهم استحلوها وعصوا الله بذلك، ومعلوم أنهم لم يستحلوها تكذيبا لموسى عليه السلام وكفرا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال ظاهره ظاهر الاتقاء، وحقيقته حقيقة الاعتداء، ولهذا والله أعلم مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه وهو مخالف له في الحد والحقيقة، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مسخهم الله قردة يشبهونهم في بعض ظاهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقا، يقوي ذلك أن بني إسرائيل أكلوا الربا وأكلوا أموال الناس بالباطل كما قصه الله في كتابه وذلك أعظم من أكل الصيد المحرم في وقت بعينه، ألا ترى أن ذاك حرام في شريعتنا أيضا، والصيد في السبت ليس حراما علينا، ثم إن أكلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا بالمسخ، كما عوقب به مستحلو الحرام بالحيلة، وإنما عوقبوا بشيء آخر من جنس عقوبات غيرهم فيشبه - والله أعلم - أن يكون هؤلاء لما كانوا أعظم جرما، فإنهم بمنزلة المنافقين وهم لا يعترفون بالذنب، بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم - كما قال أيوب السختياني: لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون علي - كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم، فإن من أكل الربا والصيد المحرم عالما بأنه حرام، فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم وهو إيمان بالله وآياته، ويترتب على ذلك من خشية الله ورجاء مغفرته، وإمكان التوبة ما قد يفضي به إلى خير، ومن أكله مستحلا بنوع احتيال تأول فيه فهو مصر على الحرام، وقد اقترن به اعتقاده الفاسد في حل الحرام، وذلك قد يفضي به إلى شر طويل، ولهذا حذر النبي ﷺ أمته ذلك، فقال: { لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل }، ثم رأيت هذا المعنى قد ذكره بعض العلماء، وذكر أنه روي عن النبي ﷺ أنه قال: { يحشر أكلة الربا يوم القيامة في صورة الخنازير والكلاب من أجل حيلتهم على الربا كما مسخ أصحاب داود لاحتيالهم على أخذ الحيتان يوم السبت }، والله أعلم بحال هذا الحديث، ولولا أن معنى المسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال، قد جاء في أحاديث معروفة لم نذكر هذا الحديث، ولعل الحديث الذي رواه البخاري تعليقا مجزوما به عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال: حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري - والله ما كذبني - سمع النبي ﷺ أنه قال: { ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم تروح عليهم سارحة لهم يأتيهم رجل لحاجة فيقولون ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة }، ورواه البرقاني مسندا، ورواه أبو داود مختصرا، ولفظه: { ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير } - وذكر كلاما - قال: { يمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة }، إنما ذاك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة، فإنهم لو استحلوها مع اعتقاد أن الرسول حرمها كانوا كفارا، ولم يكونوا من أمته ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين لم يزالوا يفعلون هذه المعاصي، ولما قيل فيهم: يستحلون فإن المستحل للشيء هو الذي يأخذه معتقدا حله فيشبه أن يكون استحلالهم الخمر يعني به أنهم يسمونها بغير اسمها، كما جاء الحديث، فيشربون الأنبذة المحرمة ولا يسمونها خمرا، واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة وهذا لا يحرم كألحان الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال للمقاتلة، وقد سمعوا أنه يباح لبسه عند القتال عند كثير من العلماء، فقاسوا سائر أحوالهم على تلك، وهذه التأويلات الثلاثة واقعة في الطوائف الثلاثة التي قال فيها ابن المبارك: رحمه الله تعالى وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها من الله شيئا بعد أن بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وبين تحريم هذه الأشياء بيانا قاطعا للعذر هو معروف في مواضعه، ثم رأيت هذا المعنى قد جاء في هذا الحديث: رواه أبو داود أيضا وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: { ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير }، هذا لفظ ابن ماجه: وإسنادهما واحد، وسيأتي إن شاء الله ذكره في غيره، وهذا الذي ذكرناه مما نقله العلماء، وما دل عليه الكتاب والسنة من كون المعتدين في السبت اعتدوا بالاحتيال الذي تأولوه ولا أعلم شيئا يعارضه، لأن أكثر ما قد ينقل عن بعض السلف أنهم اصطادوا يوم السبت وقد ذكرنا ما نقل من أنهم اصطادوا متأولين بنوع من الحيلة وهذا النقل المفسر يبين ذلك النقل المجمل، وأيضا فإن ذلك محمول على أن كل أمر من الأمور فعلته طائفة فلا منافاة بين المنقولات، إذا عرف ذلك فقد قال الله تعالى: { فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين }، قالوا: من أمة محمد ﷺ فلا يفعلون مثل فعالهم، وقالوا: نكالا عقوبة لما قبلها وعبرة لما بعدها، كما قال في السارق: { نكالا من الله }، وإنما أراد بالنكال العبرة، لأنه قد قال: { جزاء بما كسبا }، فإذا كان الله سبحانه قد نكل بعقوبة هؤلاء سائر من بعدهم ووعظ بها المتقين، فحقيق بالمؤمن أن يحذر استحلال محارم الله تعالى، وأن يعلم أن ذلك من أشد أسباب العقوبة وذلك يقتضي أنه من أعظم الخطايا والمعاصي، ثم مما يقضي منه العجب أن هذه الحيلة التي احتالها أصحاب السبت في الصيد قد استحلها طوائف من المفتين حتى تعدى ذلك إلى بعض الحيلة، فقالوا: إن الرجل إذا نصب شبكة، أو شصا قبل أن يحرم ليقع فيه الصيد بعد إحرامه، ثم أخذه بعد حله لم يحرم ذلك، وهذه بعينها حيلة أصحاب السبت، وفي ذلك تصديق قوله - سبحانه وتعالى -: { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا }، وقول النبي ﷺ: { لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن ؟ } وهو حديث صحيح، وهذا كله إذا تأمله اللبيب علم أنه يدل على أن هذه الحيل من أعظم المحرمات في دين الله تعالى.

الوجه السابع ما روى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي ﷺ قال: { البيع والمبتاع بالخيار، حتى يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله }، رواه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حديث حسن، وقد استدل به الإمام أحمد، وقال: فيه إبطال الحيل ; فلما كان الشارع قد أثبت الخيار إلى حين التفرق الذي يفعله المتعاقدان بشؤم طباعهما حرم ﷺ أن يقصد المفارق منع الآخر من الاستقالة، وهي طلب الفسخ سواء كان العقد لازما أو جائزا ; لأنه قصد بالتفرق غير ما جعل التفرق في العرف له من إسقاط حق المسلم .

الوجه الثامن ما روى محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: { لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل }، رواه الإمام أبو عبد الله بن بطة، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن الصياح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو هذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي وغيره تارة، ويحسنه تارة، ومحمد بن مسلم المذكور مشهور ثقة ذكره الخطيب في تاريخه كذلك وسائر رجال الإسناد أشهر من أن يحتاج إلى وصفهم، وقد تقدم ما يشهد لهذا الحديث من قصة أصحاب السبت، وسنذكر إن شاء الله قصة الشحوم وهذا نص في تحريم استحلال محارم الله بالاحتيال، وإنما ذكر النبي أدنى الحيل، لأن المطلق ثلاثا مثلا قد حرمت عليه امرأته، ومن أسهل الحيل علينا أن يعطي بعض السفهاء عشرة دراهم ويستعيره لينزو عليها بخلاف الطريق الشرعي من نكاح راغب، فإن ذاك يصعب معه عودها حلالا ; إذ من الممكن أن لا يطلق بل أن يموت المطلق أولا قبله، وكذلك من أراد أن يقرض ألفا بألف وخمسمائة، فمن أدنى الحيل عليه أن يعطيه ألفا إلا درهما باسم القرض، ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة، وهكذا سائر أبواب الحيل، ثم إنه ﷺ نهانا عن التشبه باليهود، وقد كانوا احتالوا في الاصطياد يوم السبت على ما ذكرناه، فإنهم حفروا خنادق يوم الجمعة تقع الحيتان فيها يوم السبت، ثم يأخذونها يوم الأحد، وهذا عند المحتالين جائز ; لأن فعل الاصطياد لم يوجد يوم السبت، لكن عند الفقهاء هو حرام ; لأن المقصود هو الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب، أو المباشرة، ومن احتيالهم أن الله سبحانه لما حرم عليهم أكل الشحوم، تأولوا أن المراد نفس إدخاله الفم، وأن الشحم هو الجامد دون المذاب فجملوه فباعوه وأكلوا ثمنه، وقالوا: ما أكلنا الشحم، ولم ينظروا في أن الله سبحانه إذا حرم الانتفاع بشيء فلا فرق بين الانتفاع بعينه، أو ببدله إذ البدل يسد مسده ولا فرق بين حال جموده وذوبه فلو كان ثمنه حلالا لم يكن في التحريم كبير أمر وهذا هو المعول عليه .

الوجه السادس ما روى سفيان بن حسين، وسعيد بن بشير، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: { من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار }، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وسفيان بن حسين قد خرج له مسلم، وقال فيه ابن معين: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس، وليس من أكابر أصحاب الزهري، وكذلك وثقه غير واحد، وقد قال محمد بن سعيد: سفيان بن حسين ثقة يخطئ في حديثه كثيرا، وكذلك قال الإمام أحمد: ليس هو بذاك في حديثه عن الزهري، وكذلك قال ابن معين: في حديثه ضعف ما روى عن الزهري، وهذا القدر الذي قالوه، لأنه قد يروي أشياء يخالف فيها الناس في الإسناد والمتن، وهذا القدر يوجب التوقف في روايته إذا خالفه من هو أوثق منه، فأما إذا روى حديثا مستقلا وقد وافقه عليه غيره، فقد زال المحذور، وظهر أن للحديث أصلا محفوظا بمتابعة غيره له، فوجه الدلالة أن الله سبحانه حرم إخراج السبق من المتسابقين معا، لأنه قمار ; إذ كان كل منهما بين أن يأخذ من الآخر، أو يعطيه على السبق،

ولم يقصد المخرج أن يجعل للسابق جعلا على سبقه، فيكون من جنس الجعالة: فإذا أدخلا ثالثا كان لهما حال ثانية، وهو أن يعطيا جميعا الثالث، فيكون الثالث له جعل على سبقه، فيكون من جنس الجعائل حتى يكون فرسا يحصل معه مقصود انتفاء القمار بأن يكون يخاف منه أن يسبق فيأخذ السبقين جميعا، ومن جوز الحيل فإنه بين أمرين ; إما أن يجوز هذا فيكون مخالفا للرسول ﷺ في حكمه وأمره وهو من العظائم، أو لا يجوزه، فمعلوم أن قياس قوله أن يحرز هذا بطريق الأولى، فإنه لا يعتبر قصد المتعاقدين في العقود، ولا يعتبر ما يقتضيه العرف في العقود التي يقصد بها الحيل، بل يجوز أن يباع ما يساوي مائة ألف درهم مع القطع بأنما ذلك لما يقابل المائة ألف من دراهم أكثر منها أخذت باسم القرض وهي ربا، ويجوز أن ينكح الوسيطة في قومها من بعض الأراذل بعوض يبذل له في الحقيقة على ذلك، ومن المعلوم أن هذا ليس فعل من يريد النكاح .

الوجه التاسع وهو ما روى ابن عباس قال: { بلغ عمر أن فلانا باع خمرا، قال: قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله ﷺ قال: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها } متفق عليه، قال الخطابي: جملوها معناه أذابوها حتى تصير ودكا، فيزول عنها اسم الشحم، يقال: جملت الشيء وأجملته، وقال غيره: يقال جملت الشحم أجمله بالضم، والجميل الشحم المذاب، ويجمل إذا أكل الجميل، وعن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي ﷺ يقول: { إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال: لا، هو حرام ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه }، رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأصله متفق عليه، قال الإمام أحمد: في رواية صالح، وأبي الحارث هذه الحيل التي وضعها هؤلاء فلان وأصحابه عمدوا إلى الشيء فاحتالوا في نقضها، والشيء الذي قيل لهم: إنه حرام احتالوا عليه حتى أحلوه،

وقال: الرهن لا يحل أن يستعمل، ثم قالوا: نحتال له حتى يستعمل، فكيف يحل ما حرم الله تعالى، وقال ﷺ: { لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها فباعوها فأكلوا أثمانها }، فإنما أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحم، وقال: { لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له }، وكذلك قال الخطابي في هذا الحديث بيان بطلان كل حيلة يحتال بها للتوصل إلى المحرم وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه، فوجد الدلالة ما أشار إليه الإمام أحمد من أن اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها على وجه لا يقال في الظاهر إنهم انتفعوا بالشحم فجملوه، وقصدوا بذلك أن يزول عنه اسم الشحم، ثم انتفعوا بثمنه بعد ذلك لئلا يحصل الانتفاع بعين المحرم، ثم مع أنهم احتالوا حيلة خرجوا بها في زعمهم من ظاهر التحريم من هذين الوجهين لعنهم الله - سبحانه وتعالى - على لسان رسول الله ﷺ على هذا الاستحلال، نظرا إلى المقصود، فإن ما حكمه التحريم لا يختلف سواء كان جامدا، أو مائعا، وبدل الشيء يقوم مقامه ويسد مسده، فإذا حرم الله الانتفاع بشيء حرم الاعتياض عن تلك المنفعة، ولهذا ما أبيح الانتفاع به من وجه دون وجه كالخمر ونحوها، فإنه يجوز بيعها لمنفعة الظهر المباحة لا لمنفعة اللحم المحرم، وهذا معنى قوله في حديث رواه أبو داود، عن ابن عباس، أن رسول الله قال: { لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها }، فإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه المقابل لمنفعة الأكل، فأما إن كانت فيه منفعة أخرى وكان الثمن في مقابلها لم يدخل في هذا، إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقا بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون رعاية لمقصود الشيء المحرم، ومعناه وحقيقته لم يستحق اليهود اللعنة لوجهين: أحدهما: أن الشحم خرج بتجميله عن أن يكون شحما وصار ودكا، كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعا عند من يستحل ذلك، فإن من أراد أن يعطي ألفا بألف ومائة إلى أجل فأعطاه حريرة بألف ومائة مؤجلة، ثم أخذها بألف حالة، فإن معناه معنى من أعطى ألفا بألف ومائة لا فرق بينهما من حيث الحقيقة والمقصود إلا ما بين الشحم والودك، الثاني: أنهم لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بالثمن، فيلزم من راعى مجرد الألفاظ والظواهر دون المقاصد والحقائق أن لا يحرم ذلك إلا أن يكون الله - سبحانه وتعالى - حرم الثمن تحريما غير تحريم الشحم، فلما لعن النبي ﷺ اليهود على استحلالهم الأثمان مع تحريم المثمن، وإن لم ينص لهم على تحريم الثمن، علم أن الواجب النظر إلى المقصود من جهة أن تحريم العين تحريم للانتفاع بها، وذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بها أصلا، وفي أخذ بدلها أكثر الانتفاع بها، وإثبات لخاصة المال، ومقصوده فيها، وذلك مناف للتحريم وصار ذلك مثل أن يقال لرجل: لا تقرب مال اليتيم، فيبيع ويأخذ ثمنه ويقول: لم أقرب مال اليتيم، أو كرجل قيل له: لا تضرب زيدا ولا تمسه بأذى، فجعل يضرب على فروته التي قد لبسها، ويقول: لم أضربه ولم أمسه، وإنما ضربت ثوبه، ولمن يجوز الحيل في باب الأثمان من هذا الضرب فنون كثيرة يعلقون الحكم فيها بمجرد اللفظ من غير التفات إلى المقصود، فيقعون في مثل ما وقعت فيه اليهود سواء، إلا أن المنع هناك من جهة الحالف، والمنع هنا من جهة الشارع، ولولا أن الله سبحانه رحم هذه الأمة - بأن نبيها ﷺ نبههم على ما لعنت به اليهود، وكان السابقون منها فقهاء أتقياء علموا مقصود الشارع، فاستقرت الشريعة بتحريم المحرمات من الدم والميتة والخنزير والخمر وغيرها، وإن بدلت صورها، وبتحريم أثمانها - لطرق الشيطان لأهل الحيل ما طرق لهم في الأثمان ونحوها، إذ البابان باب واحد على ما لا يخفى، وأي فرق بين ما فعلته اليهود، وبين أن يريد رجل أن يهب رجلا شيئا من ماله ثوبا، أو عبدا، أو دارا، فيريد أن يقطع عنه منته، فيقول: والله لا آخذ هذا الثوب، فيباع ذلك الثوب، ويأخذ ثمنه، أو يفصل قميصا، ثم يأخذه ويقول: ما أخذت الثوب، وإنما أخذت ثمنه، أو أخذت قميصا ؟ هذا تأويل اليهود بعينه، فإن الحالف أراد منع نفسه من ذلك الشيء منعا يوجب الحنث بتقدير الفعل، والله سبحانه أراد منع عباده من ذلك المحرم منعا يوجب الحنث بتقدير الفعل، ومن تأمل أكثر الحيل وجدها عند الحقيقة تعود إلى ما يشبه هذا، ومما ذكر يتبين أن فعل أرباب الحيل من جنس فعل اليهود الذي لعنوا عليه سواء بسواء .

الوجه العاشر وهو ما روى معاوية بن صالح عن جابر بن حريث، عن مالك بن أبي مريم، قال: دخل علينا عبد الرحمن بن غنم، فتذاكرنا الطلاق، فقال: حدثني أبو مالك الأشعري، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: { ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير }، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه بهذا الإسناد، لكن لم يذكر الإمام أحمد وأبو داود من عند: " يعزف إلى آخره "، وإسناد ابن ماجه إلى معاوية بن صالح صحيح، وسائر إسناده حسن، فإن حاتم بن حريث شيخ، ومالك بن أبي مريم من قدماء الشاميين، ولهذا الحديث أصل في الصحيح، قال البخاري: قال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد عن عبد الرحمن بن يزيد عن عطية بن قيس، عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، حدثني أبو عامر وأبو مالك الأشعري، والله ما كذبني سمع النبي ﷺ يقول: { ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم تروح عليهم سارحة لهم يأتيهم رجل لحاجة فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة }، هكذا رواه البخاري تعليقا مجزوما به، وعرفه في الأحاديث المعلقة إذا قال: قال فلان كذا، فهو من الصحيح المشروط، وإنما لم يسنده، لأنه قد يكون عنده بازلا أو لا يذكر من سمعه منه مع علمه باشتهار الحديث عن ذلك الرجل، أو لغير ذلك، ولهذا نظائر في الصحيح، وإذا قال: روي عن فلان أو يذكره لم يكن من شرط كتابه لكن يكون من الحسن ونحوه، وقد رواه الإسماعيلي، والبرقاني في صحيحيهما المخرجين على الصحيح بهذا الإسناد، لكن في لفظ لهما: { تروح عليهم سارحة لهم ويأتيهم رجل لحاجة }، وفي رواية: { فيأتيهم طالب حاجة فيقولون } إلى آخره، وفي رواية: حدثني أبو عامر الأشعري، ولم يشك وهذا مع الحديث الأول يقتضي أن يكون عبد الرحمن بن غنم سمع الحديث منهما ولكل منهما لفظ، وقد روى أبو داود كلا الحديثين، لكن روى الثاني بإسناد صحيح، عن أبي مالك، أو أبي عامر، ولفظه: { ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير }، وذكر كلاما قال: { يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة }، والخز - بالخاء والزاي المعجمتين - وسواء عند أكثر أهل العلم هنا نوع من الحرير، وليس هو الخز المأذون في لبسه المنسوج من صوف وحرير، وقوله ﷺ: { ولينزلن أقوام } يعني: من هؤلاء المستحلين، والمعنى: أن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب جبل، فيواعدهم رجل إلى الغد فيبيتهم الله - سبحانه وتعالى - ليلا ويمسخ منهم آخرين قردة وخنازير، كما ذكر الضمير في حديث أبي داود حيث قال: { يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير } وكما جاء مفسرا في الحديث الأول، حيث قال: { يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير } - والخسف المذكور في هذا الحديث - والله أعلم - التبييت المذكور في الآخر، فإن التبييت هو الإتيان بالبأس في الليل كتبييت العدو، ومنه قوله - سبحانه وتعالى -: { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون } وهذا نص من رسول الله ﷺ أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها، حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر، وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو غيره، وإنما الخمر عصير العنب النيء خاصة، ومعلوم أن هذا بعينه هو تأويل طائفة من الكوفيين مع فضل بعضهم وعلمه ودينه، حتى قال قائلهم: دع الخمر يشربها الغواة فإنني رأيت أخاها قائما في مكانها فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها ولقد صدق فيما قال، فإن النبيذ إن لم يسم خمرا فإنه من جنس الخمر في المعنى، فكيف وقد ثبت أنه يسمى خمرا، وإنما أتى هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته، وهذا بعينه شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد تجميله، واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الشباك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة، حيث قالوا: ليس هذا بصيد ولا عمل في يوم السبت، وليس هذا باستباحة الشحم، بل الذي يستحل الشراب المسكر زاعما أنه ليس خمرا، مع علمه بأن معناه معنى الخمر، ومقصوده مقصود الخمر أفسد تأويلا، من جهة أن الخمر اسم لكل شراب أسكر، كما دلت عليه النصوص ومن جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياسا، فلأن كان من القياس ما هو حق، فإن قياس الخمر المنبوذة على الخمر المعصورة من القياس في معنى الأصل المسمى بانتفاء الفارق، وهو من القياس الجلي الذي لا يستراب في صحته، فإنه ليس بينهما من الفرق ما يجوز أن يتوهم أنه مؤثر في التحريم، وقد جاء هذا الحديث عن النبي ﷺ من وجوه أخرى منها ما روى النسائي بإسناد صحيح، عن شعبة سمعت أبا بكر بن حفص، قال: سمعت ابن محيسن يحدث عن رجل من أصحاب النبي ﷺ أنه قال: { يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها }، وروى ابن ماجه من حديث بلال بن يحيى العبسي، عن أبي بكر بن حفص، عن عبد الله بن محيريز، عن ثابت بن السمط، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله ﷺ: { يشرب ناس من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه }، ورواه الإمام أحمد ولفظه: { ليستحلن طائفة من أمتي الخمر } وأبو بكر بن حفص ثقة من رجال الصحيحين، وابن محيريز إمام سيد جليل أشهر من أن يثنى عليه، وروى ابن ماجه، عن ابن عباس بن الوليد الخلال، عن أبي المغيرة، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله ﷺ: { لا تذهب الليالي والأيام حتى يشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها }، وهذا إسناد صحيح متصل، فإذا كان هؤلاء، إنما شربوا الخمر استحلالا لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النيء، فمعلوم أن شبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر، فإنه قد أبيح الحرير للنساء مطلقا وللرجال في بعض الأحوال، وكذلك الغناء والدف قد أبيح للنساء في العرس ونحوه، وقد أبيح منه الحداء وغيره، وليس في هذا النوع من دلائل التحريم ما في الخمر، فظهر بهذا أن القوم الذين يخسف بهم ويمسخون إنما يفعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة فأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء، ولذلك مسخوا قردة وخنازير، كما مسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم، وخسف ببعضهم، كما خسف بقارون، لأن في الخمر والحرير والمعازف من الكبر والخيلاء ما في الزينة التي خرج فيها قارون على قومه، فلما مسخوا دين الله مسخهم الله، ولما تكبروا عن الحق أذلهم الله، وقد جاء ذكر المسخ والخسف عند هذه الأمور في عدة أحاديث منها: ما روى فرقد السبخي، عن عاصم بن عمرو البجلي، عن أبي أمامة، عن النبي ﷺ قال: { تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير، ويبعث على أحياء من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم باستحلالهم الخمور وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات } رواه الإمام أحمد، وعن عمران بن حصين أن رسول الله ﷺ قال: { في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذلك ؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور }، رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وقد روي عنه ﷺ أنه أخبر عن استحلال الربا باسم البيع، كما أخبر عن استحلال الخمر باسم آخر فجمع من المطاعم ما حرم في ذاته وما حرم للعقد المحرم، فروى الإمام أبو عبد الله بن بطة بإسناده، عن الأوزاعي، عن النبي ﷺ قال: { يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع } يعني العينة وهذا المرسل بين في تحريم هذه المعاملات التي تسمى بيعا في الظاهر وحقيقتها ومقصودها حقيقة الربا - والمرسل صالح للاعتضاد به باتفاق الفقهاء، وله من المسند ما يشهد له وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة عن النبي ﷺ وأصحابه وسنذكرها إن شاء الله تعالى - فإنه من المعلوم أن العينة عند مستحلها إنما يسميها بيعا وفي هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع، وقد روي في استحلال الفروج حديث رواه إبراهيم الحربي، بإسناده عن مكحول، عن أبي ثعلبة، عن النبي ﷺ قال: { أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض يستحل فيه الحر والحرير }، يريد استحلال الفروج من الحرام والحر - بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء المهملة - هو الفرج، ويشبه - والله أعلم - أن يكون أراد بذلك ظهور استحلال نكاح المحلل واستحلال خلع اليمين ونحو ذلك مما يوجب استحلال الفروج المحرمة، فإن الأمة لم يستحل أحد منهم الزنا الصريح، ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل، فإن هذا لم يزل موجودا في الناس، ثم لفظ الاستحلال، إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء، حلالا، والواقع كذلك، فإن هذا الملك العضوض الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في أواخر عصر التابعين، وفي تلك الأزمان صار في أول الأمر من يفتي بنكاح المحلل ونحوه، ولم يكن قبل ذلك الزمان من يفتي بذلك أصلا، يؤيد ذلك أن في حديث ابن مسعود المشهور أن رسول الله ﷺ: { لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له }، وفي لفظ رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن النبي ﷺ قال: { لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه }، قال: وقال: { ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله تعالى } فلما لعن أهل الربا والتحليل، وقال ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله كان هذا كالدليل على أن التحليل من الزنا كما أن العينة من الربا وأن استحلال هذين استحلال للربا والزنا، وأن ظهور ذلك يوجب العقوبة التي ذكر في الأحاديث الأخر، وقد جاء حديث آخر يوافق هنا، روي موقوفا على ابن عباس، ومرفوعا إلى النبي ﷺ، أنه قال: { يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها والسحت بالهدية والقتل بالرهبة والزنا بالنكاح والربا بالبيع }، وهذا الخبر صدق فإن الثلاثة المقدم ذكرها قد بينت، وأما استحلال السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم والشافع ونحوهم باسم الهدية فهو أظهر من أن يذكر، وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة وهيبة وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضا، وإذا كان النبي ﷺ قد أخبر أنه سيكون من يستحل الخمور والربا والسحت والزنا وغيرها بأسماء أخرى من النبيذ والبيع والهدية والنكاح، ومن يستحل الحرير والمعازف فمن المعلوم أن هذا بعينه هو فعل أصحاب الحيل، فإنهم يعمدون إلى الأحكام فيعلقونها بمجرد اللفظ، ويزعمون أن الذي يستحلونه ليس بداخل في لفظ الشيء المحرم، مع أن العقل يعلم أن معناه معنى الشيء المحرم، وهو المقصود به، وهذا بين في الحيل الربوية، ونكاح المحلل ونحو ذلك، فإنها تستحل باسم البيع والقرض والنكاح وهي ربا، أو سفاح في المعنى، فإن الرجل إذا قال للرجل وله عليه ألف تجعلها إلى سنة بألف، ومائتين فقال: بعني هذه السلعة بالألف التي في ذمتك، ثم ابتعها مني بألف ومائتين، فهذه صورة البيع وفي الحقيقة باعه الألف الحالة بألف ومائتين مؤجلة، فإن السلعة قد تواطئوا على عودها إلى ربها، ولم يأتيا ببيع مقصود بتة، وكذلك نكاح المحلل، وإن أتوا بلفظ الإنكاح وبالولي والشاهدين والمهر فإنهم قد تواطئوا على أن تقيم معه ليلة، أو ساعة ثم تفارقه، وأنها لا تأخذ منه شيئا، بل تعطيه، وهذا هو سفاح امرأة تستأجر رجلا ليفجر بها لحاجتها إليها، فتبديل الناس للأسماء لا يوجب تبديل الأحكام، فإنها أسماء سموها وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، كتسمية الأوثان آلهة، فإن خصائص الإلهية لما كانت معدومة فيها لم يكن لتلك التسمية حقيقة، وكذلك خصائص البيع، والنكاح، وهي الصفات والنعوت الموجودة في هذه العقود في العادة إذا كان بعضها منتفيا عن هذا العقد لم يكن بيعا ولا نكاحا، فإذا كانت صفات الخمر، والربا، والسفاح، ونحو ذلك من المحرمات موجودة في شيء كان محرما، وإن سماه الناس بغير ذلك الاسم لتغيير أتوا به في ظاهره، وإن أفرد باسم، كما أن المنافق يدخل في اسم الكافر في الحقيقة، فإن كان في بعض الأحكام في الظاهر قد يجري عليه حكم المؤمن، ومن علم ربا الجاهلية الذي نزل فيه القرآن كيف كان لم يشك في أن كثيرا من هذه المعاملات هي ربا الجاهلية، فإن الرجل كان يكون له على رجل دين من ثمن مبيع أو نحوه، فإذا حل عليه قال له: إما أن توفي، وإما أن تربي، فإن لم يوفه، وإلا زاده في المال ويزيده الغريم في الأجل، ولهذا من علم حقيقة الدين من الأئمة قطع بالتحريم فيما كان مقصوده هذا، قال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل - عن الربا الذي هو الربا نفسه الذي فيه تغليظ قال: أما البين فهو أن يكون لك دين إلى أجل فتزيد على صاحبه تحتال في ذلك لا تريد إلا الزيادة عليه والشيء مما يكال، أو يوزن يبيعه بمثله كما في حديث أبو سعيد: " أو يتيما فردا " قال: وهو في النسيئة أبين، وبالجملة من تأمل ما أخبر به النبي ﷺ ناهيا عنه مما سيكون في الأمة من استحلال المحرمات، بأن يسلبوا عنها الاسم الذي حرمت به، وما فعلته اليهود علم أن هذين من مشكاة واحدة، وأن ذلك تصديق قوله ﷺ: { لتتبعن سنن من كان قبلكم } وعلم بالضرورة أن أكثر الحيل من هذا الجنس لا سيما مع قوله ﷺ: { لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل } والله الهادي إلى الحق .

الوجه الحادي عشر ما روى ابن عمر، قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: { إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفع حتى يراجعوا دينهم } رواه الإمام أحمد في المسند، قال: أنبأنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، ورواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري، عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني، أن عطاء الخراساني حدثه، أن نافعا حدثه، عن ابن عمر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: { إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم } وهذان إسنادان حسنان، أحدهما يشد الآخر ويقويه - فأما رجال الأول فأئمة مشاهير لكن نخاف أن لا يكون الأعمش سمعه عن عطاء، فإن عطاء لم يسمعه من ابن عمر، والإسناد الثاني يبين أن للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر، فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور، وحيوة بن شريح كذلك وأفضل، وأما إسحاق بن عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة بن شريح، والليث بن سعد، ويحيى بن أيوب، وغيرهم، وقد روينا من طريق ثالث في حديث السري بن سهل الجنيد سابوري بإسناد مشهور عاليه، وحدثنا عبد الله بن رشيد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن ليث، عن عطاء، عن ابن عمر، قال: لقد أتى علينا زمان وما منا رجل يرى أنه أحق بديناره وبدرهمه من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: { إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه حتى يتوبوا ويراجعوا دينهم }، وهذا يبين أن للحديث أصلا عن عطاء، قال أهل اللغة: العينة في أصل اللغة السلف، والسلف يعم تعجيل الثمن وتعجيل المثمن، وهو الغالب هنا، يقال: اعتان الرجل وتعين إذا اشترى الشيء بنسيئة، كأنها مأخوذة من العين وهو المعجل، وصيغت على فعله، لأنها نوع من ذلك، وهو أن يكون المقصود بذل العين المعجلة للربح، وأخذها للحاجة كما قالوا في نحو ذلك: التورق إذا كان المقصود الورق، قال أبو إسحاق الجوزجاني: أنا أظن أن العينة إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق فيشتري السلعة ويبيعها بالعين الذي احتاج إليه وليست به إلى السلعة حاجة وتطلق العينة على نفس السلعة المعتانة، ومنه حديث ذكره الزبير بن بكار في النسب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أنه قال لأبيه عبد الله: اغد غدا إلى السوق فخذ لي عينة، قال: فغدا عبد الله فتعين عينة من السوق لأبيه، ثم باعها فأقام أياما ما يبيع أحد في السوق طعاما ولا زيتا غير عبد الله من تلك العينة، فلعل هذا مثل قولهم: كسرة ومنحة للمكسورة والممنوحة، والحديث يدل على أن من العينة ما هو محرم وإلا لما أدخلها في جملة ما استحقوا به العقوبة، وكذلك في الأخذ بأذناب البقر، وهو على ما قيل الدخول في الأرض الخراج بدلا عن أهل الذمة، وقد تقدم، عن الأوزاعي، عن النبي ﷺ أنه قال: { ليأتين على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع }، يعني العينة، فهذا شاهد عاضد لهذا الحديث، وكذلك ما تقدم من قوله ﷺ في الحديث: { ما ظهر في قوم الربا والزنا }، وعن أنس بن مالك أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة فقال: { إن الله لا يخدع هذا ما حرم الله ورسوله }، رواه محمد بن عبد الله الكوفي الحافظ المعروف بمطين في كتاب البيوع، والصحابة إذا قال حرم الله ورسوله، أو أمر الله ورسوله، أو أوجب الله ورسوله، أو قضى الله ورسوله ونحو هذا، فإن حكمه حكم ما لو روى لفظ رسول الله ﷺ الدال على التحريم والأمر والإيجاب والقضاء، ليس في ذلك إلا خلاف شاذ، لأن رواية الحديث بالمعنى جائزة، وهو أعلم بمعنى ما سمع فلا يقدم على أن يقول أمر، أو نهى، أو حرم إلا بعد أن يثق بذلك، واحتمال الوهم مرجوح كاحتمال غلط السمع، ونسيان القلب، وقد روى مطين أيضا، عن ابن سيرين قال: قال ابن عباس: اتقوا هذه العينة، لا بيع دراهم بدراهم وبينهما حريرة، وفي رواية، عن ابن عباس: أن رجلا باع من رجل حريرة بمائة، ثم اشتراها بخمسين، سأل ابن عباس عن ذلك، فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينها حريرة، ذكره القاضي أبو يعلى وغيره، وفي لفظ رواه أبو محمد النجشي الحافظ وغيره، عن ابن عباس أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة فقال: إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله، ذكره عنه أبو الخطاب في خلافه، والأثر المعروف عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته، أنها دخلت على عائشة هي، وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى، فقالت لها أم ولد زيد: إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسيئة واشتريته بستمائة نقدا، فقالت: أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ إلا أن يتوب بئس ما اشتريت وبئس ما شريت، رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، ورواه حرب الكرماني في حديث إسرائيل، حدثني أبو إسحاق، عن جدته العالية يعني جدة إسرائيل، قالت: دخلت على عائشة في نسوة فقالت: حاجتكن ؟ فكان أول من سألها أم محبة فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء، وأنه أراد بيعها فابتعتها بستمائة درهم نقدا، فأقبلت عليها وهي غضبى، فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب، وأفحمت صاحبتنا فلم تكلم طويلا، ثم أنه سهل عليها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ؟ فتلت عليها: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف }، فهذه أربعة أحاديث تبين أن رسول الله ﷺ حرم هذا، حديث ابن عمر الذي فيه تغليظ العينة - وقد فسرت في الحديث المرسل بأنها من الربا، وفي حديث أنس، وابن عباس بأنها أن يبيع حريرة مثلا بمائة إلى أجل، ثم يبتاعها بدون ذلك نقدا، وقالوا هو دراهم بدراهم وبينهما حريرة، وحديث أنس وابن عباس أيضا: " هذا ما حرم الله ورسوله "، والحديث المرسل الذي له ما يوافقه، أو الذي عمل به السلف حجة باتفاق الفقهاء وقد تقدم معناه من غير هذا الوجه، وحديث عائشة: " أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ إلا أن يتوب "، ومعلوم أن هذا قطع بالتحريم وتغليظ له، ولولا أن عند أم المؤمنين علما من رسول الله ﷺ لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجرئ أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد، لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة، واستحلال مثل هذا كفر، لأنه من الربا واستحلال الربا كفر، لكن عذر زيد أنه لم يعلم أن هذا محرم، ولهذا أمرت بإبلاغه فمن بلغه التحريم وتبين له ذلك، ثم أصر عليه لزمه هذا الحكم، وإن لم يكن قصدت هذا، فإنها قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فما كأنه عمل شيئا ومعلوم أن هذا لو كان مما يسوغ فيه الاجتهاد إذا لم يكن مأثما، فضلا عن أن يكون صغيرة، فضلا عن أن يكون من الكبائر، فلما قطعت بأنه من الكبائر وأمرت بإبلاغه ذلك علم أنها علمت أن هذا لا يسوغ فيه الاجتهاد، وما ذاك إلا عن علم، وإلا فالاجتهاد لا يحرم الاجتهاد، وأيضا فكون العمل يبطل الجهاد لا يعلم بالاجتهاد، ثم من هذه الآثار حجة أخرى، وهو أن هؤلاء الصحابة مثل عائشة وابن عباس وأنس أفتوا بتحريم ذلك وغلظوا فيه في أوقات مختلفة، ولم يبلغنا أن أحدا من الصحابة بل ولا من التابعين رخص في ذلك بل عامة التابعين من أهل المدينة والكوفة وغيرهم على تحريم ذلك فيكون حجة بل إجماعا، ولا يجوز أن يقال فزيد بن أرقم قد فعل هذا، لأنه لم يقل إن هذا حلال بل يجوز أن يكون فعله جريا على العادة من غير تأمل فيه، ولا نظر ولا اعتقاد، ولهذا قال بعض السلف: أضعف العلم الرواية، يعني أن يقول: رأيت فلانا يفعل كذا، ولعله قد فعله ساهيا وقال إياس بن معاوية: لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك، ولهذا لم يذكر عنه أنه أصر على ذلك بعد إنكار عائشة وكثيرا ما قد يفعل الرجل النبيل الشيء مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة، فإذا نبه انتبه، وإذا كان الفعل محتملا لهذا، ولما هو أكثر منه لم يجز أن ينسب لأجله اعتقاد حل هذا إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه لا سيما وأم ولده إنما دخلت على عائشة تستفتيها وقد رجعت عن هذا العقد إلى رأس مالها كما تقدم فعلم أنهما لم يكونا على بصيرة منه وأنه لم يتم العقد بينهما، وقول السائلة لعائشة أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ثم تلاوة عائشة عليها { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } دليل بين أن التغليظ إنما كان لأجل أنه ربا، لا لأجل جهالة الأجل، فإن هذه الآية إنما هي في التأنيب من الربا، وفي هذا دليل على بطلان العقد الأول إذا قصد التوسل به إلى الثاني وهذا هو الصحيح من مذهبنا وغيره، وما يشهد لمعنى العينة ما رواه أبو داود عن صالح بن رستم، عن شيخ من بني تميم، قال: خطبنا علي أو قال علي رضي الله عنه: { نهى رسول الله ﷺ عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك } رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور مبسوطا قال: قال علي: سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك، وقال الله تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم } ﷺ وينهد الأشرار ويستذل الأخيار ويبايع المضطرون، وقد { نهى رسول الله ﷺ عن بيع المضطر وعن بيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تطعم }، وهذا وإن كان في راويه جهالة فله شاهد من وجه آخر رواه سعيد، قال: حدثنا هشيم، عن كوثر بن حكيم، عن مكحول، قال: بلغني، عن حذيفة رضي الله عنه أنه حدث، عن رسول الله ﷺ: { أن بعد زمانكم هذا زمانا عضوضا يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك }، قال الله تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } وينهد شرار خلق الله يبايعون كل مضطر ألا إن بيع المضطر حرام، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه، وهذا الإسناد، وإن لم تجب به حجة فهو يعضد الأول مع أنه خبر صدق بل هو من دلائل النبوة فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض، لا أن يربحوا في المائة ما أحبوا فيبيعونه ثمن المائة بضعفها، أو نحو ذلك ولهذا كره العلماء أن يكون أكثر بيع الرجل أو عامته نسيئة لئلا يدخل في اسم العينة وبيع المضطر، فإن أعاد السلعة إلى البائع، أو إلى آخر يعيدها إلى البائع عن احتيال مهم وتواطؤ لفظي، أو عرفي، فهو الذي لا يشك في تحريمه، وأما إن باعها لغيره بيعا ثابتا ولم تعد إلى الأول بحال، فقد اختلف السلف في كراهته ويسمونه التورق، لأن مقصوده الورق، وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه وقال: التورق أخبث الربا، وإياس بن معاوية يرخص فيه، وعن الإمام أحمد فيه روايتان منصوصتان وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر، ولعل الحديث الذي رواه أسامة عن النبي ﷺ أنه قال: { إنما الربا في النسيئة } أخرجاه في الصحيحين، إنما هو إشارة إلى هذا أو نحوه فإن ربا النسيئة يدخل في جميع الأموال في عموم الأوقات بخلاف ربا الفضل فإنه نادر لا يكاد يفعل إلا عند صفة المالين وهذا كما يقال إنما العالم زيد ولا سيف إلا ذو الفقار يعني أنه هو الكامل في بابه وكذلك النسيئة هي أعظم الربا وكبره، يؤيد هذا المعنى ما صح عن ابن عباس أنه قال: إذا استقمت بنقد فبعت بنقد، فلا بأس، وإذا استقمت بنقد فبعته بنسيئة فلا خير فيه تلك ورق بورق - رواه سعيد وغيره - يعني إذا قومتها بنقد ثم بعتها نسيئا كان مقصود المشتري اشتراء دراهم معجلة بدراهم مؤجلة وهذا شأن المورقين فإن الرجل يأتيه فيقول أريد ألف درهم فيخرج له سلعة تساوي ألف درهم وهذا هو الاستقامة - يقول أقمت السلعة وقومتها واستقمتها بمعنى واحد وهي لغة مكية معروفة بمعنى التقويم - فإذا قومتها بألف قال اشتريتها بألف ومائتين، أو أكثر أو أقل فقول ابن عباس يوافق قول عمر بن عبد العزيز وكذلك قال محمد بن سيرين إذا أراد أن يبتاعه بنقد فليساومه بنقد، وإن كان يريد أن يبتاعه بنسأ فليساومه بنسإ كرهوا أن يساومه بنقد ثم يبيعه بنسإ لئلا يكون المقصود بيع الدراهم بالدراهم وهذا من أبين دليل على كراهتهم، لما هو أشد من ذلك، وكذلك ما قد حفظ عن ابن عمر، وابن عباس وغير واحد من السلف أنهم كرهوا بيع " ده بدوازده " ; لأن لفظه: أبيعك العشرة باثني عشر، فكرهوا هذا الكلام لمشابهته الربا، وما يجوز أن يقصد به ذلك، ما روى أبو داود في سننه عن محمد بن عمر، وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: { من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا } فإن للناس في تفسير البيعتين في بيعة تفسيرين :

أحدهما: أن يقول هو لك بنقد بكذا وبنسيئة بكذا، كما رواه سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: { نهى رسول الله ﷺ عن صفقتين في صفقة } قال سماك: الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسإ بكذا وبنقد بكذا وكذا رواه الإمام أحمد، وعلى هذا فله وجهان: أحدهما: أن يبيعه بأحدهما مبهما ويتفرقا على ذلك وهذا تفسير جماعة من أهل العلم لكنه بعيد من هذا الحديث فإنه لا مدخل للربا هنا ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بثمن مبهم، والثاني: أن يقول هي بنقد بكذا أبيعكها بنسيئة كذا كالصورة التي ذكرها ابن عباس، فيكون قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة وجعل النقد معيارا للنسيئة وهذا مطابق، لقوله ﷺ: { فله أوكسهما أو الربا }، فإن مقصوده حينئذ، هو بيع دراهم عاجلة بآجلة، فلا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين وهو مقدار القيمة العاجلة فإن أخذ الزيادة فهو مرب، التفسير الثاني: أن يبيعه الشيء بثمن على أن يشتري المشتري منه ذلك الثمن، وأولى منه أن يبيعه السلعة على أن يشتريها البائع بعد ذلك، وهذا أولى بلفظ البيعتين في بيعة، فإنه باع السلعة وابتاعها، أو باع بالثمن وباعه، وهذا صفقتان في صفقة حقيقة، وهذا بعينه هو العينة المحرمة وما أشبهها، مثل أن يبيعه نسئا، ثم يشتري بأقل منه نقدا، أو يبيعه نقدا، ثم يشتري بأكثر منه نسئا، ونحو ذلك، فيعود حاصل هاتين الصفقتين إلى أن يعطيه دراهم ويأخذ أكثر منها وسلعته عادت إليه، فلا يكون له إلا أوكس الصفقتين، وهو النقد، فإن ازداد فقد أربى ومما يؤيد أنه قصد بالحديث هذا، ونحوه أن في حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ أنه { نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع } - رواه الإمام أحمد - وكلا هذين العقدين يؤولان إلى الربا، وفي النهي عن هذا كله أوضح دلالة عن النهي عن الحيل التي هي في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا، ومما يبين أن هذا المعنى مقصود من الأحاديث، أنه في حديث ابن مسعود: { لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له } قال: { ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله }، فدل على أن الربا والزنا قرينان في الاحتيال عليهما وفي أن ذلك يوجب العقوبة كما تقدم بيانه، ومما يؤيد هذا المعنى، والمعنى المذكور في الوجه الذي قبله ما روى الشعبي، عن ابن عمر ; أن عمر قال على منبر رسول الله ﷺ: " أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل، ثلاث وددت أن رسول الله ﷺ كان عهد إلينا فيهن عهدا ينتهي إليه: الجد والكلالة، وأبواب من أبواب الربا "، رواه الجماعة إلا ابن ماجه، فإن هذا دليل على أن عمر رضي الله عنه قصد بيان الأسماء التي فيها إجمال ورأى أن منها الخمر والربا فإن منهما ما لا يستريب أحد في تسميته ربا وخمرا ومنهما ما قد يقع فيه الشبهة، وكان عنده علم، عن النبي ﷺ أن اسم الخمر يعم كل ما خامر العقل، وهي كلمة جامعة لكل شراب مسكر، وأما الربا فلم يكن يحفظ فيه لفظا جامعا فقال فيما لم يتبينه: " وأبواب من أبواب الربا "، فعلم أن كثيرا مما يحسبه الناس بيعا هو ربا فإن آية الربا من آخر القرآن نزولا، فلم يعرف جميع أبواب الربا كثير من العلماء، ولهذا قام عمر رضي الله عنه خطيبا في الناس فقال: " ألا إن آخر القرآن كان تنزيلا آية الربا، ثم توفي رسول الله ﷺ قبل أن يبين لنا - وفي لفظ قبل أن يفسرها لنا - فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم وفي لفظ آخر فدعوا الربا والريبة "، وهذا مشهور محفوظ صحيح عن عمر - أي اتقوا: ما تعلمون أنه الربا وما تستريبون فيه وهذا من فقهه رضي الله عنه، فإن الله أحل البيع وحرم الربا، فما استيقن أنه داخل في حد البيع في البيع دون الربا، أو الربا دون البيع فلا ريب فيه، وما جاز أن يكون داخلا في أحدهما دون الآخر فقد اشتبه أمره وهو الريبة، فليس هنا أصل متيقن حتى يرد إليه المشتبه لأنا قد تيقنا أن الربا محرم، وهو اسم مجمل، ومنه ما هو مستثنى من جملة ما يسمى في اللغة بيعا، واستثناء المجهول من المعلوم يوجب الجهالة في المستثنى، إلا فيما علم أنه لا ربا فيه، ويشهد لهذا حديث - لا أحفظ الآن إسناده - " { ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيهم إلا من أكل الربا فمن لا يأكل منه أصابه من غباره }، ثم وجدت إسناده روينا في مسند الإمام أحمد قال: حدثنا هشيم، عن عباد بن راشد، عن سعيد بن أبي حبرة، وحدثنا الحسن منذ نحو من أربعين، أو خمسين سنة، عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: { يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا } قال: قيل له: الناس كلهم ؟ قال: { من لم يأكل منهم ناله من غباره }، وما ذاك إلا لظهور المعاملات التي تستباح باسم البيع، أو الهبة، أو القرض، أو الإجارة، أو غير ذلك ومعناها معنى الربا، ويؤيد هذا ما أخرجاه في الصحيحين، عن مسروق، { عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات الأواخر من سورة البقرة في الربا خرج رسول الله ﷺ فتلاهن في المسجد وحرم التجارة في الخمر }، فإن تحريمه التجارة في الخمر عقيب نزول هذه الآيات، لا بد أن يكون لمناسبته بين المنزل والمحرم وهذا - والله أعلم -، لأن الخمر كانت قد حرمت قبل ذلك، وقد يتأول الناس فيها أن المحرم عينها لا ثمنها، كما تأولت اليهود في الشحوم، وقد وقع ذلك لبعض المتقدمين، فيستحلون المحارم بنوع من التأويل والربا، كذلك فإن كثيرا من الناس يتأول في استحلال كثير من المعاملات أنها بيع ليست ربا، مع أن معناها معنى الربا، فكان تحريمه للتجارة في الخمر ; إذ ذاك حسما لمادة التأويل في استحلال المحرمات، وكان هذا البيان عقيب آية الربا مناسبا، لأن الربا آخر ما حرمه الله سبحانه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم عقيبه ما دل الأمة على المنع من التأويلات التي يستباح بها الخمر، والربا والزنا وغيرها، ثم إنه أخبر في الحديث أن الذين يستحلون هذه المحارم ينحلونها أسماء غير الأسماء الحقيقية يمسخون قردة وخنازير، وكذلك عمر رضي الله عنه أمر بترك الأشربة المسكرة، كلها وبترك الريب التي لا يعلم أنها بيع حلال، بل يمكن أنها ربا، وهذا كله يدل على تشابه معاني هذه الأحاديث وتوافقها أمرا وإخبارا، وهذه الآثار كلها إذا تأملها الفقيه تبين أنها مشكاة واحدة، وعلم أن الاعتبار بحقيقة العقود ومقاصدها التي تؤول إليها والتي قصدت بها، وأن الاحتيال لا يرفع بهذه الحقيقة، وهذا بين إن شاء الله تعالى .

وبالجملة فقد نصب الشارع إلى الأحكام أسبابا يقصد بها محصول تلك الأحكام، فمن دل عليها وأمر بها من لم يتفطن لها ممن يقصد الحلال ليقصد بها المقصود الذي جعلت من أجله، فهذا معلم خير، وكذلك ما شاكل هذا وهذا هو الذي تقدم ذكره، عن الإمام أحمد في أول الكتاب لما ذكر أن حيلة المسلمين أن يتبعوا ما شرع لهم، فيسلكوا في حصول الشيء الطريق الذي يشرع لتحصيله دون ما لم يقصد الشارع به ذلك الشيء فثبت بما ذكرناه أنه لم يحك أحد من القائلين بالحيل والمنكرين لها عن أحد من الصحابة الإفتاء بشيء من هذه الحيل التي يقصد بها الاستحلال بالطرق المدلسة التي لا يقصد بها المقصود الشرعي، وهذا هو المقصود هنا، وسنطيل إن شاء الله الكلام للفرق بين الطرق المبينة والطرق المدلسة، والفرق بين مخادعة الظالم للخلاص منه ومخادعة الله سبحانه في دينه، لئلا يظن بما يحكى عنهم في أحد القسمين أنهم دخلوا في القسم الآخر ومع أنهم لم يفتوا بشيء من هذه الحيل مع قيام المقتضي لها لو كانت جائزة فقد أفتوا بتحريمها والإنكار لها في قضايا متعددة وأوقات متفرقة وأمصار متباينة يعلم مع ذلك أن إنكارها كان مشهورا بينهم، ولم يخالف هذا الإنكار أحد منهم وهذا مما يعلم به اجتماعهم على إنكارها وتحريمها وهذا أبلغ في كونها بدعة محدثة فإن أقبح البدع ما خالفت كتابا، أو سنة، أو إجماعا، الوجه الثاني: في تقرير أنها بدعة، وهو أنه لا يستريب عاقل في أن الطلاق الثلاث ما زال واقعا على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه وما زال المطلقون يندمون، ويتمنون المراجعة، ورسول الله ﷺ أنصح الناس لأمته، وكذلك أصحابه أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، فلو كان التحليل يحللها لأوشك أن يدلوا عليه ولو واحدا، فإن الدواعي إذا توافرت على طلب فعل وهو مباح فلا بد أن يوجد، فلما لم ينقل عن أحد منهم الدلالة على ذلك، بل الزجر عنه، علم أن هذا لا سبيل إليه، وهذه امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي ﷺ بعد أن تزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وطلقها قبل الوصول إليها، وجعلت تختلف إلى النبي ﷺ ثم إلى خليفته تتمنى مراجعة رفاعة وهم يزجرونها عن ذلك، وكأنها كرهت أن تتزوج غيره فلا يطلقها، وكانت راغبة في رفاعة، فلو كان التحليل ممكنا لكان أنصح الأمة لها يأمرها أن تتزوج بمحلل، فإنها لن تعدم أن تبيته عندها ليلة وتعطي شيئا، فلما لم يكن شيء من ذلك علم كل عاقل أن هذا لا سبيل إليه وسيأتي إن شاء الله ذكر قصتها، ومن لم تسعه السنة حتى تعداها إلى البدعة مرق من الدين ومن أطلق للناس ما لم يطلقه لهم رسول الله ﷺ مع وجود المقتضي للإطلاق، فقد جاء بشريعة ثانية ولم يكن متبعا للرسول، فلينظر امرؤ أين يضع قدمه، وكذلك يعلم أن القوم كانت التجارة فيهم فاشية والربح مطلوب بكل طريق، فلو كانت هذه المعاملات التي تقصد بها ما يقصد من ربح دراهم في دراهم باسم البيع جائز، ولا شك أن يفتوا بها، وكذلك الاختلاع لحل اليمين وبالجملة الأسباب المحوجة إلى هذه الحيل ما زالت موجودة، فلو كانت مشروعة لنبه الصحابة عليها فلما لم يصدر منهم إلا الإنكار بحقيقتها مع وجود الحاجة في زعم أصحابها إليها، علم قطعا أنها ليست من الدين، وهذا قاطع لا خفاء به لمن نور الله قلبه، الوجه الثالث: أن هذه الحيل، أو ما ظهر الإفتاء بها في أواخر عصر التابعين أنكر ذلك علماء ذلك الزمان، مثل أيوب السختياني ، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض، ومثل شريك بن عبد الله، والقاسم بن معن، وحفص بن غياث قضاة الكوفة، وتكلم علماء ذلك العصر مثل أيوب السختياني، وابن عون، والقاسم بن مخيمرة، والسفيانين، والحمادين، ومالك، والأوزاعي، ومن شاء الله من العلماء في الدين، وتوسعوا فيها من أهل الكوفة وغيرهم بكلام غليظ لا يقال مثله إلا عند ظهور بدعة لا تعرف دون من أفتى بما كان من الصحابة تفتي به، أو بحق منه ومعلوم أن هؤلاء، وأمثالهم هم سرج الإسلام، ومصابيح الهدى، وأعلام الدين، وهم كانوا أعلم أهل وقتهم، وأعلم ممن بعدهم بالسنة الماضية وأفقه في الدين، وأروع في المنطق، وقد كانوا يختلفون في مسائل الفقه، ويقولون باجتهاد الرأي، ولا ينكرون على من سلك هذه السبيل، فلما اشتد نكيرهم على أهل الرأي الذي استحلوا به الحيل علم أنهم علموا أن هذه بدعة محدثة، وفي كلامهم دلالات على ذلك مثل وصفهم من كان يفتي بذلك بأنه يقلب الإسلام ظهرا لبطن، ويترك الإسلام أرق من الثوب السابري، وينقض الإسلام عروة عروة إلى أمثال هذه الكلمات، وكان أعظم ما أنكروا على المتوسع في الرأي مخالفة الأحاديث والإفتاء بالحيل، ومعلوم أن أحدا من أهل الفتوى لا يخالف حديث رسول الله ﷺ عمدا، وإنما يخالفه ; لأنه لم يبلغه، أو لنسيانه إياه وذهوله عنه، أو لأنه لم يبلغه من وجه يثق به، أو لعدم تفطنه لوجه الدلالة منه، أو لقلة اعتنائه بمعرفته، أو لنوع تأويل يتأوله عليه، أو ظنه أنه منسوخ، ونحو ذلك، وما من الفقهاء أحد إلا وقد خفيت عليه بعض السنة، وإنما المنكر الذي لم يكن يعرف في الماضين الإفتاء بالحيل، وقد ذكر عن بعض أهل الرأي تصريح، أنه قال: ما نقموا علينا من أنا عمدنا إلى أشياء كان حراما عليهم فاحتلنا فيها حتى صارت حلالا، وقال آخران: إلا احتلنا للناس منذ كذا وكذا سنة احتال على هذا في قضية جرت له مع رجل ولما وضع بعض الناس كتابا في الحيل اشتد نكير السلف، لذلك قال أحمد بن زهير بن مروان كانت امرأة هاهنا تمر وأرادت أن تختلع من زوجها فأبى زوجها عليها، فقيل: لها لو ارتددت على الإسلام لبنت من زوجك، ففعلت ذلك، فذكر ذلك لعبد الله يعني ابن المبارك - وقيل له: إن هذا كتاب الحيل، فقال عبد الله: من وضع هذا الكتاب، فهو كافر، ومن سمع به فرضي به فهو كافر، ومن حمله من كورة إلى كورة فهو كافر، ومن كان عنده فرضي به فهو كافر، وقال إسحاق بن راهويه، عن شفيق بن عبد الملك إن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أمرت بالارتداد وذلك في أيام أبي غسان فذكر شيئا، ثم قال ابن المبارك وهو مغضب: " أحدثوا في الإسلام، ومن كان أمر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده، أو في بيته ليأمر به، أو هويه، ولم يأمر به فهو كافر "، ثم قال ابن المبارك: ما " أرى الشيطان كان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعا حينئذ، أو كان يحسنها ولم يجد من يمضيها حتى جاء هؤلاء "، وقال إسحاق الطالقاني قيل: يا أبا عبد الرحمن إن هذا وضعه إبليس يعني كتاب الحيل، فقال إبليس من الأبالسة وقال النضر بن شميل: في كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون، أو ثلاثون مسألة كلها كفر، وقال أبو حاتم الرازي: قال شريك يعني ابن عبد الله قاضي الكوفة الإمام المشهور - وذكر له كتاب الحيل - قال: من يخادع الله يخدعه، وقال حفص بن غياث وهو كذلك كان ينبغي أن يكتب عليه كتاب الفجور، وقال إسماعيل بن حماد قال: القاسم بن معن يعني ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قاضي الكوفة أيضا - كتابكم هذا الذي وضعتموه في الحيل كتاب الفجور، وقال سعيد بن سابور: إن الرجل لا يأتي الرجل من أصحاب الحيل فيعلمه الفجور، وقال حماد بن زيد سمعت أيوب يقول: ويلهم من يخدعون - يعني أصحاب الحيل، وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي سمعت يزيد بن هارون يقول: لقد أفتى - يعني أصحاب الحيل - في شيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان قبيحا أتاه رجل فقال: إني حلفت أن لا أطلق امرأة بوجه من الوجوه وإنهم قد بذلوا إليه مالا كثيرا قال فقبل أمها، قال يزيد بن هارون: يأمره بأن يقبل امرأة أجنبية، وقال جيش بن سندي سئل أبو عبد الله يعني الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل يشتري جارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها أيطؤها من يومه، قال: كيف يطؤها من يومه هذا وقد وطئها ذلك بالأمس هذا من طريق الحيلة وغضب وقال هذا أخبث قول، رواهن الإمام أبو بكر الخلال في العلم، عن عبد الخالق بن منصور قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: من كان كتاب الحيل ببيته يفتي به فهو كافر بما أنزل على محمد ﷺ رواه أبو عبد الله السدوسي في مناقب الإمام أحمد وذكره القاضي أبو يعلى، وقال رجل للفضيل بن عياض: يا أبا علي استفتيت رجلا في يمين حلفت بها فقال لي: إن فعلت ذلك حنثت وأنا أحتال لك حتى تفعل، ولا تحنث فقال له الفضيل: تعرف الرجل، قال قال: نعم، قال: ارجع فاستثبته فإني أحسبه شيطانا تشبه لك في صورة إنسان رواه أبو عبد الله بطة في مسألة خلع اليمين، وإنما قال هؤلاء الأئمة مثل هذا الكلام في كتاب الحيل لأن فيه الاحتيال على تأخير صوم رمضان وإسقاط الزكاة والحج، وإسقاط الشفعة وحل الربا، وإسقاط الكفارات في الصيام والإحرام والأيمان وحل السفاح وفسخ العقود وفيه الكذب وشهادة الزور، وإبطال الحقوق وغير ذلك، ومن أقبح ما فيه الاحتيال لمن أرادت فراق زوجها بأن ترتد عن الإسلام فيعرض عليها الإسلام فلا تسلم فتحبس وينفسخ النكاح ثم تعود إلى الإسلام، وإلى أشياء أخر وكثير من هذه الحيل حرام باتفاق العلماء من جميع الطوائف بل بعضها كفر كما قاله ابن المبارك وغيره ولا يجوز أن ينسب الأمر بهذه الحيل التي هي محرمة بالاتفاق، أو هي كفر إلى أحد من الأئمة ومن ينسب ذلك إلى أحد منهم فهو مخطئ في ذلك جاهل بأصول الفقهاء، وإن كانت الحيلة قد تنفذ على أصل بعضهم بحيث لا يبطلها على صاحبها فإن الأمر بالحيلة شيء وعدم إبطالها بمن يفعلها شيء آخر ولا يلزم من كون الفقيه لا يبطلها أن يبيحها فإن كثيرا من العقود يحرمها الفقيه، ثم لا يبطلها، وإن كان المرضي عندنا إبطال الحيلة وردها على صاحبها حيث أمكن ذلك .

وقد ذكرنا ما دل على تحريم الحيلة، وإبطالها، وإنما غرضنا هنا أن هذه الحيلة التي هي محرمة في نفسها لا يجوز أن ينسب إلى إمام أنه أمر بها فإن ذلك قدح في إمامته وذلك قدح في الأمة حيث ائتموا بمن لا يصلح للإمامة وفي ذلك نسبة لبعض الأئمة إلى تكفير، أو تفسيق وهذا غير جائز، ولو فرض أنه حكي عن واحد منهم الأمر ببعض هذه الحيلة المجمع على تحريمها فإما أن تكون الحكاية باطلة، أو يكون الحاكي لم يضبط الأمر فاشتبه عليه إنفاذها بإباحتها، وإن كان أمر ببعضها في بعض الأوقات فلا بد أن يكون قد تاب من ذلك ولم يصر عليه بحيث لم يمت وهو مصر على ذلك وإن لم يحمل الأمر على ذلك لزم الخروج عن إجماع الأمة والقول بفسق بعض الأئمة أو كفره وكلا هذين غير جائز هذا لعمري في الحيل التي يكون الأمر بها أمرا بمعصية أو كفرا بالاتفاق، مثل المرأة التي تريد أن تفارق زوجها فتؤمر بالردة لينفسخ النكاح وذلك أنها إن ارتدت، ففيه قولان: أحدهما: أن النكاح ينفسخ بمجرد ذلك وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في رواية، والثاني: أن النكاح يقف على انقضاء العدة فإن عادت إلى الإسلام وإلا تبينا أن الفرقة وقعت من حين الردة، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى، ثم إن المرتدة يجب قتلها عند مالك والشافعي وأحمد، إذا لم تعد إلى الإسلام، وعند الثوري وأبي حنيفة وأصحابه تضرب وتحبس، ولا تقتل فعلى هذا القول إذا ارتدت انفسخ النكاح ولا تقتل بمجرد الامتناع، ثم إنه لا خلاف بين المسلمين أنه لا يجوز الأمر ولا الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض، بل من تكلم بها فهو كافر إلا أن يكون مكرها فيتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ثم إن هذا على مذهب أبي حنيفة وأصحابه أشد، فإن لهم من الكلمات والأفعال التي يرون أنها كفر ما هو دون الأمر بالكفر، حتى إن الكافر لو قال لرجل: إني أريد أن أسلم، فقال: اصبر ساعة فقد كفروه بذلك ; لأنه أمر بالبقاء على الكفر ساعة، وإن كان له فيه غرض غير الكفر، فكيف بالأمر بإنشاء الردة التي هي أغلظ من الكفر الأصلي، فعلمت أن هؤلاء القوم الذين أفتوا بنت أبي روح بالارتداد لم يكونوا مقتدين بمذهب أحد من الأئمة، فإن هذه الحيلة لا تنفذ إلا في مذهب أبي حنيفة لكونها لا تقتل، وإن كانت قد تنفذ على قول مالك أيضا وأحمد في رواية إذا لم تظهر الحيلة، ومذهب أبي حنيفة من أشد المذاهب تغليظا لمثل هذا وهو من أبلغ المذاهب في تكفير من يأمر بالكفر، ولكن لما رأى بعض الفسقة أنها إذا ارتدت حصل غرضها على مذهب أبي حنيفة دلها على ذلك، وإن لم تكن الدلالة من المذهب، كما أن الفاجر قد يأمر الشخص بيمين فاجرة، أو شهادة زور ليحصل بها غرضه عند الحاكم، والحاكم معذور بإنفاذ ذلك، وإن كان الإذن في ذلك لا يستجيزه أحد من الفقهاء، وهذا لأن الأئمة قد انتسب إليهم في الفروع طوائف من أهل البدع والأهواء المخالفين لهم في الأصول مع براءة الأئمة من أولئك الأتباع، وهذا مشهور فكان في ذلك الوقت قد انتسب كثير من الجهمية والقدرية من المعتزلة، وغيرهم إلى مذهب أبي حنيفة في الفروع مع أنه وأصحابه كانوا من أبرإ الناس من مذاهب المعتزلة وكلامهم في ذلك مشهور، حتى قال أبو حنيفة: لعن الله عمرو بن عبيد هو فتح على الناس الكلام في هذا، وقال نوح الجامع: سألت أبا حنيفة عما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام، فقال: كلام الفلاسفة عليك بالكتاب والسنة، ودع ما أحدث فإنه بدعة، وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق، وأراد أبو يوسف إقامة الحد على بشر المريسي لما تكلم بشيء من تعطيل الصفات حتى فر منه وهرب، وقال محمد بن الحسن: أجمع علماء الشرق والغرب على الإيمان بصفات الله التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله وأنها تمر كما جاءت، وذكر كلاما فيه طول لا يحضرني هذه الساعة يرد به على الجهمية، وما زال الفقهاء من أصحابه ينابذون المعتزلة وغيرهم من أهل الأهواء، وقد كان بشر بن غياث المريسي رأس الجهمية، وأحمد بن أبي داود قاضي القضاة، ونظراؤهم من الجهمية المعتزلة وغيرهم قبلهم وبعدهم ينتسبون في الفروع إلى مذهب أبي حنيفة، وهم الذين أوقدوا نار الحرب حتى جرت في الإسلام المحنة المشهورة على تعطيل الصفات والقول بخلق القرآن، فلعل أولئك الذين أمروا بنت أبي روح بالارتداد عن الإسلام كانوا من هذا النمط، وإن كان هذا الزمان قبل زمان المحنة بقليل ومن كان له علم بأحوال بعض المترائسين بالعلم في ذلك الزمان وغيره، علم أنهم كانوا يدخلون في أشياء لا يجوز إضافتها إلى أحد من الأئمة، فتكفير السلف ينبغي أن يضاف إلى مثل هذا الضرب الذين أمروا بمثل هذه الحيل، وأما قولهم إنها فجور ونحو هذا الكلام، فهذا الكلام كان في بعض الحيل المختلف فيها مع أنا قد ذكرنا عن أئمة الكوفيين، مثل شريك بن عبد الله والقاسم بن معن، ومثل حفص بن غياث، وهؤلاء قضاة الكوفة، وحفص بعد الطبقة الأولى من أصحاب أبي حنيفة - أنهم أنكروا أصل الحيل مطلقا، وليس الغرض هنا بيان أعيان الحيل، والفرق بين ما يعذر فيه المفتي في الجملة وما لا يعذر فيه، وإنما الغرض أن يعلم أن هذه الحيل كلها محدثة في الإسلام، وأن الإفتاء بها إنما وقع متأخرا، وأن بقايا السلف أعظموا القول فيمن أفتى بها إعظامهم القول في أهل البدع ولو كان جنسها مأثورا عمن سلف لم يكن شيء من ذلك فإنهم لم يكونوا ينكرون على من أفتى باجتهاد رأيه، فما لها مساغ في الشريعة، ولا ينكرون ما فعلته الصحابة، وإنما ذكرنا مثل هذا الكلام على استكراه شديد منا لما يشبه العينة فضلا عن الوقيعة في أعراض بعض أهل العلم، ولكن وجوب النصيحة اضطرنا إلى أن ننبه على ما عيب على بعض المتقدمين من الدخول في الحيل، ونحن نرجو أن يغفر الله سبحانه لمن اجتهد فأخطأ، فإن كثيرا ممن يسمع كلمات العلماء الغليظة قد لا يعرف مخرجها، وكثيرا من الناس يروونها رواية متشف متعصب، مع أنهم دائما يفعلون في الفتيا أقبح مما عيب به من عيب مع كون أولئك كانوا أعلم وأفقه وأتقى، ولو علم السبب في ذلك الكلام وهدي رشده لكان اعتباره بمن سلف يكفه عن أن يقع في أقبح مما وقع فيه أولئك، ولكان شغله بصلاح نفسه استغفارا وشكرا شغله عن ذكر عيوب الناس على سبيل الاشتفاء والاعتصاب، وإن كثيرا ممن يخالف المشرقيين في مذهبهم، ويرى أنه أتبع للسنة والأثر، وآخذ بالحديث منهم من يتوسع في الحيل ويرق الدين وينقض عرى الإسلام، ويفعل في ذلك قريبا، أو أكثر مما يحكى عنهم حتى دب هذا الداء إلى كثير من فقهاء الطوائف، حتى إن بعض أتباع الإمام أحمد مع أنه كان من أبعد الناس عن هذه الحيل تلطخوا بها، فأدخلها بعضهم في الإيمان وذكروا طائفة من المسائل التي هي بأعيانها من أشد ما أنكره الإمام أحمد على المشرقيين، وحتى اعتقد بعضهم جواز خلع اليمين وصحة نكاح المحلل، وجواز بعض الحيل الربوبية، وحتى إن بعض الأعيان من أصحابه سوغ بعض الحيل في المعاملات، مع رده على أصحاب الحيل، وذلك في مسائل قد نص الإمام أحمد على إبطال الحيلة فيها إلى أشياء أخر، وكثر ذلك في بعض المنتسبين إلى الشافعي رضي الله عنه، وتوسع بعض أصحاب أبي حنيفة فيها توسعا تدل أصول أبي حنيفة على خلافه، وحتى إن بعض الأئمة من أصحاب مالك تزلزل فيها تزلزل من يرى أن القياس جواز بعضها، وحتى صار من يفتي بها كأنه يعلم الناس فاتحة الكتاب، أو صفة الصلاة لا يبين المستفتي أنها مكروهة بالاتفاق، وأنها محرمة عند كثير من العلماء بل أكثرهم، وعند عامة السلف رضي الله عنهم، وحتى ألقوا في نفوس كثير من العامة، أو أكثرهم أنها حلال، وأنها من دين الله سبحانه، فتجد المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام يكرهها وينفر قلبه منها، والمفتي بغير علم يقول له هذا حلال وهذا جائز، وهذا لا بأس به وهو مخطئ في هذه الأقوال باتفاق العلماء، فإن أقل درجات أكثرها الكراهة، وقد ذكرنا اتفاقهم على كراهة التحليل المتواطإ عليه، واعلم أن غاية ما يبلغك من الكلمات الشديدة في بعض الفقهاء، فإن أصل ذلك قاعدة الحيل، فإن القلوب دائما تنكرها لا سيما قلوب أهل الفقه والعلم والولاية والهداية، ويجدون ينبوعها من بعض المفتين، فيتكلمون بالإنكار عليهم، ولهذا لما كان منشأ هذه الحيل من اليهود صار الغاوي من المتفقهة متشبها بهم، وصار أهل الحيل تعلوهم الذلة والمسكنة لمشاركتهم اليهود في بعض أخلاقهم، ثم قد استطار شر هذه الحيل حتى دخلت في أكثر أبواب الدين وصارت معروفة، وردها منكرا عند كثير ممن لا يعرف أمور الإسلام وأصوله، وكلما رق دين بعض الناس واستخف بآيات الله سبحانه من الحكام والشرطيين والمفتي أحدث حيلة بعد حيلة وأكثرها مما أجمع العلماء من أهل الحديث والرأي وغيرهم على تحريمها، مثل تلقين الشرطي لمن يريد أن يملك ابنه أو غيره أن يقر بذلك إقرارا، أو يجعله بيعا، ويشهد على نفسه بنقض الثمن، وهذا حرام بالإجماع، فإنه كذب يضر الورثة، ومقصودهم أن لا يمكن فسخهم بما تفسخ به الهبات، حتى آل الأمر بهم إلى أن بعض المستهزئين بآيات الله سبحانه يكتب عنده كتب بعضها أنه ملك لابنه، وبعضها أنه ملك لهم، ويخرج كل كتاب إذا احتاج إليه، وحتى إن بعض من يتورع من الشهود يحسب أن لا مأثم عليه في الشهادة على مثل ذلك، ولا ريب أن الشهادة على ما يعلم تحريمه من عقد أو إقرار، أو حكم حرام، فإن { النبي ﷺ لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه }، ومثل ما أحدث بعض الحكام الدعوى المرموزة المسخرة، وقد بلغني أن أول من أحدثها بعض قضاة الشام قبل المائة السادسة وبعد الخامسة، فصاروا يقولون حكم بكذا، وثبت عنده كذا بمحضر من خصمين مدع، ومدعى عليه جاز حضورهما، واستماع الدعوى من أحدهما على الآخر مع القطع والعلم اليقين بأن الحاضرين لم يكونا خصمين، فإن الخصم المدعى عليه من إذا سكت لم يترك، بل يطلب منه الحق وذاك الحاضر لو لم يجب لادعى على آخر، وآخر فإنه ليس الغرض مطالبته بشيء وإنما الغرض واحد يقول بلسانه لا حق لك قبلي، أو لا أعلم صحة ما تدعيه، فتكون صورته صورة الخصم المطلوب، وكذلك المبتدئ أولا يتكلم بكلام صورته صورة الدعوى والطلب، وليس هو مدعيا على ذلك الآخر بشيء، ثم قولهم جاز استماع الدعوى من أحدهما على الآخر من أقبح القول في دين الله، أترى الله أجاز أن أستمع دعوى وأجعلها دعوى صحيحة شرعية قد علمت بالاضطرار أن قائلها لا يدعي شيئا ولا يطلب من ذلك الخصم، وإنما أتى أمره بصورة الدعوى من غير حقيقة، وأعين له من يدعي عليه من بعض الوكلاء في الخصومات والدعاوى، ولو سلكت الطريقة الشرعية لاستغني عن هذا كله، فإنه ما من باب يحتاج الناس إليه، إلا وقد فتحه الشارع لهم، ومن أقبح الأشياء احتجاج بعض أهل الشرطية على ذلك، بقول أحد الملكين عليهما السلام: { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة } - الآية وتلك ليست خصومة يترتب عليها ثبوت، أو حكم في دم، أو مال، وإنما هي مثل ضرب لتفهيم داود عليه السلام، وللحاكم وغيره أن يسمع من الخصومات المضروبة أمثالا ما شاء، أما ترتيب الحكم عليها وذكر أن أصحابها خصم محقق أجاز الشارع استماع الدعوى من أحدهما على الآخر، فهذا هو الباطل الذي لا يحل قوله، وقد حرم الله سبحانه الكذب عليه وأن يقول عليه ما لا يعلم . ومن الحيل الجديدة التي لا أعلم بين فقهاء الطوائف خلافا في تحريمها أن يريد الرجل أن يقف شيئا على نفسه وبعد موته على جهات متصلة، فيقولون للرجل: أقر أن هذا المكان الذي بيدك وقف عليك من غيرك، ويعلمونه الشروط التي يريد إنشاءها فيجعلونها إقرارا، فيعلمونه الكذب في الإقرار، ويشهدون عليه به، ويحكمون بصحته، ولا يستريب مسلم في أن هذا حرام، فإن الإقرار شهادة الإنسان على نفسه، فكيف يلقن شهادة زور، ثم إن كان وقف الإنسان على نفسه باطلا في دين الله سبحانه، فقد علمناه حقيقة الباطل ; لأن الله سبحانه قد علم أن هذا لم يكن وقفا قبل الإقرار، ولا صار وقفا بالإقرار بالكذب، فيصير المال حراما على من يتناوله إلى يوم القيامة، وإن كان وقفه صحيحا، فقد أغنى الله سبحانه عن تكلف الكذب بل لو وقفه على نفسه لكان لصحته مساغ لما فيه من الاختلاف، وأما الإقرار بوقفه من غير إنشاء متقدم، فلا يجعله وقفا بالاتفاق، إذ جعل الإقرار إقرارا حقيقيا، ولهم حيلة أخرى وهو أن الذي يريد الوقف يملكه لبعض ثقاته، ثم يقفه ذلك المملك عليه بحسب اقتراحه، وهذا لا شك في قبحه وبطلانه، فإن حد التمليك : أن يرضى المملك بنقل الملك إلى المملك بحيث يتصرف فيه بما يحب مما يجوز، وهنا قد علم الله سبحانه وخلقه من هذا أنه لم يرض أن يتصرف فيه المملك إلا بالوقف عليه خاصة على شروطه، بل قد ملكه بشرط أن يتبرع عليه به وقفا، وهذا تمليك فاسد، بل ليس هو هبة وتمليكا أصلا، فإن أقل درجات الهبة أن يتمكن الموهوب له بالانتفاع بالموهوب ولو إلى حين، وهنا لم يبح له الانتفاع بشيء منه قط ولو تصرف منه بشيء لعده غادرا ماكرا، وليس هذا بمنزلة العمرى والرقبى المشروط فيها العود إلى المعمر، فإن هناك ملكه في الجملة وشرط العود، وهنا لم يملكه شيئا قط، وإنما تكلم بلفظ التمليك غير قاصد معناه، والموهوب له يصدقه أنهما لم يقصدا حقيقة الملك، بل هو استهزاء بآيات الله سبحانه وتلاعب بحدوده، وقد كان لهم طريقان خير من هذا الخداع: أحدهما: أن يقفه على غيره ويستثني المنفعة لنفسه مدة حياته فإن هذا جائز عند فقهاء الحديث الذين يجوزون استثناء بعض منفعة المملوك مع نقل الملك فيه فيجوزون أن يبيع الرجل الشيء، أو يهبه أو يعتق العبد ويستثني بعض منفعته، ويجوزون أن يقف الشيء ويستثني منفعته مدة معلومة، أو إلى حين موته استدلالا بحديث بعير جابر، وبحديث عتق أم سلمة، سفينة، وبحديث عتق صفية رضي الله عنها وبآثار عن السلف في الوقف مع قوة هذا القول في القياس، وفي هذه المسائل كلها خلاف مشهور، ولكن أخذ الإنسان بمثل هذا مجتهدا أو مقلدا فيه على أي حال كان خيرا له من أمر يعلم أنه كذب وخداع وزور، فإن الأول قد نقل مثله عن كثير من السلف، وأما هذه الحيل فأمر محدث أجمع السلف على النهي عنها والتحذير منها، وإعظام القول بها .

فإن قيل: هذه الحيل مما اختلف فيها العلماء، فإذا قلد الإنسان من يفتي بها فله ذلك، والإنكار في مسائل الخلاف غير سائغ، لا سيما على من كان متقيدا بمذهب من يرخص فيها -، أو قد تفقه فيها ورأى الدليل يقتضي جوازها، وقد شاع العمل بها عن جماعات من الفقهاء، والقول بها معزوا إلى مذهب أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما، وما قاله مثل هؤلاء الأئمة لا ينبغي الإنكار البليغ فيه، لا سيما على من يعتقد أن الأئمة المجوزين لها أفضل من غيرهم، وقد ترجح عنده متابعة مذهبهم إما على سبيل الألف والاعتياد، أو على طريق النظر والاجتهاد، وهب هذا الاعتقاد باطلا ألستم تعرفون فضل هؤلاء الأئمة ومكانهم من العلم والفقه والتقوى وكون بعضهم أرجح من غيره، أو مساويا له أو قريبا منه ؟ فإذا قلد العامي، أو المتفقه واحدا منهم إما على القول بأن العامي لا يجب عليه الاجتهاد في أعيان المفتين، أو على القول بوجوبه إذا ترجح عنده أن من يقلل فيهما هو الأفضل، لا سيما إن كان هو المذهب الذي التزمه، فلا وجه للإنكار عليه إلا أن يقال: إن المسألة قطعية لا يسوغ فيها الاجتهاد، وهذا إن قيل كان فيه طعن على الأئمة لمخالفة القواطع وهذا قدح في إمامتهم، وحاشا الله أن يقولوا ما يتضمن مثل هذا، ثم قد يقضي ذلك إلى المقابلة بمثله، أو بأكثر منه، لا سيما ممن يحمله هوى دينه، أو دنياه على ما هو أبلغ من ذلك، وفي ذلك خروج عن الاعتصام بحبل الله سبحانه، وركوب للتفرق المنهي عنه، وإفساد ذات البين، وحينئذ فتصير مسائل الفقه من باب الأهواء وهذا غير سائغ، وقد علمتم أن السلف كانوا يختلفون في المسائل الفرعية، مع بقاء الألفة والعصمة وصلاح ذات البين، قلنا: نعوذ بالله سبحانه مما يقضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص بأحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم، أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن دين الإسلام إنما يتم بأمرين: أحدهما: معرفة فضل الأئمة وحقوقهم ومقاديرهم، وترك كل ما يجر إلى ثلمهم، والثاني: النصيحة لله سبحانه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإبانة ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى، ولا منافاة أن الله سبحانه بين القسمين لمن شرح الله صدره، وإنما يضيق عن ذلك أحد رجلين: رجل جاهل بمقاديرهم ومعاذيرهم، أو رجل جاهل بالشريعة وأصول الأحكام، وهذا المقصود يتلخص بوجوه: أحدها: أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين، واعتبر ذلك بمناظرة الإمام عبد الله بن المبارك قال: كنا بالكوفة فناظروني في ذلك يعني النبيذ المختلف فيه، فقلت لهم: تعالوا فليحتج المحتج منكم عن من يشاء من أصحاب النبي ﷺ بالرخصة، فإن لم يتبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه، فاحتجوا فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بشدة، فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح عنه أنه لم ينبذ له في الجر إلا حذرا، قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق عد إن ابن مسعود لو كان هاهنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي ﷺ وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر، أو تجر، أو تخشى، فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم: عدوا عند الاحتجاج تسمية الرجال قرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفللأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس، وجابر بن زيد وسعيد بن جبير، وعكرمة قالوا: كانوا خيارا، قلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد فقالوا: حرام، فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام، ؟، فبقوا وانقطعت حجتهم، قال ابن المبارك: ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لا يا بني لا تنشد الشعر فقلت له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقال لي: أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله، وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء، فإنه ما من أحد من أعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغ اتباعهم فيها، كما قال سبحانه: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }، قال ابن مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ﷺ وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا وقد روي عن النبي ﷺ وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله فروى كثير بن عبد الله بن عمر، وابن عوف المزني، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: { إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائر ومن هوى متبع }، وقال زياد بن حدير: قال عمر: ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وأئمة مضلون، وقال الحسن: قال أبو الدرداء: إن مما أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق، وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم - قل ما يخطيه أن يقول ذلك - الله حكم قسط هلك المرتابون، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي الأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره، قال: فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عمن قد جاء به فإن على الحق نورا، قالوا: وكيف زيغة الحكيم ؟ قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا يصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة فمن ابتغاهما وجدهما وقال سلمان الفارسي: كيف أنتم عند ثلاثة زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم تقول: نصنع مثل ما يصنع فلان وننهى عما ينهى عنه فلان إن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان، وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوه وما لم تعرفوه فكلوه إلى الله سبحانه، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، وعن ابن عباس قال: ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذاك ؟ قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله ﷺ فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع، وهذه آثار مشهورة رواها ابن عبد البر وغيره فإذا كنا قد حذرنا من زلة العالم وقيل لنا: إنها أخوف ما يخاف علينا وأمرنا مع ذلك أن لا يرجع عنه فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلد بها بل يسكت عن ذكرها إلى أن يتيقن صحتها وإلا توقف في قبولها فما أكثر ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له وكثير من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تقضي إلى ذلك لما التزمها، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، ومن علم فقه الأئمة وورعهم علم أنهم لو رأوا هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريم ما لم يقطعوا به أولا، الوجه الثاني: أن الذين أفتوا من العلماء ببعض مسائل الحيل، أو أخذ ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي ﷺ وأصحابه لرجعوا عن ذلك يقينا، فإنهم كانوا في غاية الإنصاف، فكان أحدهم يرجع عن رأيه بدون ما في هذه القاعدة، وقد صرح به غير واحد منهم، وإن كانوا كلهم مجتمعين على ذلك، قال الشافعي رضي الله عنه: إذا صح الحديث عن رسول الله ﷺ: " فاضربوا بقولي الحائط " وهذا قول لسان حال الجماعة، ومن أصولهم أن أقوال أصحاب رسول الله ﷺ المنتشرة لا تترك إلا بمثلها، وقد ذكرنا في التحليل والعينة وغيرهما من الأحاديث والآثار ما يقطع معه اللبيب أن لا حجة لأحد في مخالفتها ولم تشتمل كتب من خالفها من الأئمة عليها حتى يقال: إنهم تأولوها فعلم أنها لم تبلغهم .

الوجه الرابع عشر وهو أن الحيلة إنما تصدر من رجل كره فعل ما أمر الله سبحانه، أو ترك ما نهى الله سبحانه عنه وقد قال الله سبحانه: { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم }، وقال سبحانه: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }، وقال سبحانه: { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم، طاعة وقول معروف }، إلى غير ذلك من المواضع التي ذم الله فيها من كره ما أنزل الله من الصلاة والزكاة والجهاد وجعله من المنافقين، وقال سبحانه في المؤمنين المربين: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون }، وقال: يجب أن تتلقى أحكام الله بطيب نفس وانشراح صدر، وأن يتيقن العبد أن الله لم يأمره إلا بما في فعله صلاح، ولم ينهه إلا عما في فعله فساد سواء كان ذلك من نفس العبد بالأمر والنهي، أو من نفس الفعل، أو منهما جميعا، وأن المأمور به بمنزلة القوت الذين هو قوام العبد والمنهي عنه بمنزلة السموم التي هي هلاك البدن وسقمه، ومن يتيقن هذا لم يطلب أن يحتال على سقوط واجب في فعله صلاح له ولا على فعل محرم في تركه صلاح له أيضا، وإما تنشأ الحيل من ضعف الإيمان، فلهذا كانت من النفاق وصارت نفاقا في الشرائع كما أن النفاق الأكبر نفاق في الدين، وإذا كانت الحيلة مستلزمة لكراهة أمر الله ونهيه وذلك محرم، بل نفاق فحكم المستلزم كذلك فتكون الحيل محرمة بل نفاقا، ولو فرض أن ينشأ من الحيل تجرد في بعض حق الأشخاص عن هذا الإلزام لكان ذلك صورا قليلة، فيجب أن يتعلق الحكم بالغالب، ثم أقل ما فيها أنها مظنة لذلك والحكمة إذا كانت خفية، أو منتشرة علق الحكم بمظنتها وكراهة الأمر والنهي تخفى عن صاحبها ولا تنضبط الحيلة التي تتضمن ذلك من التي لا تتضمنه فيعلق الحكم بمظنة ذلك وهو الحيلة مطلقا -، وإنما يتم هذا الوجه والذي قبله بذكر أقسام الحيلة وهو . القسم الثالث: أن يقصد بالحيلة أخذ حق، أو دفع باطل لكن يكون الطريق في نفسه محرما مثل أن يكون له على رجل حق مجحود فيقيم شاهدين لا يعلمانه فيشهدان به فهذا محرم عظيم عند الله قبيح، لأن ذينك الرجلين شهدا بالزور حيث شهدا بما لا يعلمانه وهو حملهما على ذلك، وكذلك لو كان له عند رجل دين وله عنده وديعة فجحد الوديعة وحلف ما أودعني شيئا، أو كان له على رجل دين لا بينة به ودين آخر به بينة لكن قد أقضاه فيدعي هذا الدين ويقيم به البينة وينكر الاقتضاء ويتأول: إني إنما أستوفي ذلك الدين الأول، فهذا حرام كله، لأنها إنما يتوصل إليه بكذب منه، أو من غيره لا سيما إن حلف، والكذب حرام كله، وهذا قد يدخل فيه بعض من يفتي بالحيلة لكن الفقهاء منهم لا يحلونه .

الوجه الخامس عشر وهو أنه ليس كل ما يسمى في اللغة حيلة أو يسميه بعض الناس حيلة، أو يسمونه آلة - مثل الحيلة المحرمة - حراما فإن الله سبحانه قال في تنزيله: { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } فلو احتال المؤمن المستضعف على التخلص من بين الكفار لكان محمودا في ذلك ولو احتال مسلم على هزيمة الكافر، كما فعل نعيم بن مسعود يوم الخندق، أو على أخذ ماله منهم، كما فعل الحجاج بن علاطة وعلى قتل عدو لله ولرسوله كما فعل النفر الذين احتالوا على ابن أبي الحقيق اليهودي وعلى قتل كعب بن الأشرف إلى غير ذلك لكان محمودا أيضا، فإن النبي ﷺ قال: { الحرب خدعة }، وكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها وللناس في التلطف وحسن التحيل على حصول ما فيه رضا الله ورسوله، أو دفع ما يكيد الإسلام وأهله سعي مشكور، والحيلة مشتقة من التحول وهو النوع من الحول كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود والأكلة والشربة من الأكل والشرب ومعناها نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي هو التحول من حال إلى حال هذا مقتضاه في اللغة، ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض وبحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة فإن كان المقصود أمرا حسنا كانت حيلة حسنة، وإن كان قبيحا كانت قبيحة، ولما قال النبي ﷺ: { لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل }، صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصد بها الحيل التي يستحل بها المحارم كحيل اليهود، وكل حيلة تضمنت إسقاط حق الله، أو الآدمي، فهي تندرج فيما يستحل بها المحارم، فإن ترك الواجب من المحارم، ألا ترى أن النبي ﷺ سمى الحرب خدعة ;، ثم إن الخداع في الدين محرم بكتاب الله وسنة رسوله وقالت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات سمعت رسول الله ﷺ يقول: { ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا، أو يقول خيرا } متفق عليه وفي رواية لمسلم: " ولم يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث يعني الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها، وفي رواية له قال الزهري ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاث، وعن أسماء بنت يزيد بن سكن { أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: أيها الناس ما يحملكم على أن تتابعوا في الكذب كما يتتابع الفراش كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال رجل كذب امرأته ليرضيها ورجل كذب بين امرأين ليصلح بينهما ورجل كذب في خدعة حرب }، رواه الترمذي بنحوه ولفظه: { لا يحل الكذب إلا في ثلاث } وقال: حديث حسن، ويروى أيضا، عن ثوبان موقوفا ومرفوعا: { الكذب كله إثم إلا ما ينفع به المسلم أو دفع به عن دين }، فلم يرخص فيما تسميه الناس كذبا، وإن كان صدقا في العناية ولهذا قال النبي ﷺ: { لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات قوله لسارة أختي، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا وقوله إني سقيم } والثلاث معاريض وملاحة، فإنه قصد باللفظ ما يطابقه في عنايته لكن لما أفهم المخاطب ما لا يطابقه سمي كذبا، ثم هذا الضرب قد ضيق فيه كما ترى، يؤيد هذا التفسير ما روى مالك عن صفوان بن سليم { أن رجلا قال لرسول الله ﷺ: أكذب امرأتي ؟ فقال رسول الله ﷺ: لا خير في الكذب فقال الرجل: أعدها وأقول لها، فقال النبي ﷺ: لا جناح عليك }، وسيجيء كلام ابن عيينة في ذلك وبالجملة يجوز للإنسان أن يظهر قولا وفعلا مقصوده به مقصود صالح، وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به إذا كانت فيه مصلحة دينية مثل دفع ظلم عن نفسه، أو عن مسلم، أو دفع الكفار عن المسلمين أو الاحتيال على إبطال حيلة محرمة، أو نحو ذلك فهذه حيلة جائزة، وإنما المحرم مثل أن يقصد بالعقود الشرعية ونحوها غير ما شرعت العقود له، فيصير مخادعا لله، كما أن الأول خادع الناس ومقصوده حصول الشيء الذي حرمه الله لولا تلك الحيلة وسقوط الشيء الذي يوجبه الله تعالى لولا تلك الحيلة، كما أن الأول مقصوده إظهار دين الله ودفع معصية الله، ونظير هذا أن يتأول الحالف من يمينه إذا استحلفه الحاكم لفصل الخصومة، فإن يمينك على ما يصدقك به صاحبك، والنية للمستحلف في مثل هذا باتفاق المسلمين ولا ينفعه التأويل وفاقا، وكذلك لو تأول من غير حاجة لم يجز عند الأكثر من العلماء، بل الاحتيال في العقود أقبح من حيث إن المخادع فيها هو الله تعالى، ومن خادع الله فإنما خدع نفسه وما يشعر، ولهذا لا يبارك لأحد في حيلة استحل بها شيئا من المحرمات ويتبين الحال بذكر أقسام الحيل .

ومثال الثاني أسباب حل العقوبات من القتل والجلد والقطع فإن الدماء والمباشرة حرام حتى توجد الجنايات وهي مقصودة العدم، لأن المصلحة عدمها، ومن الثاني تحريم الخبائث حتى توجد الضرورة وتحريم نكاح الإماء اقتطاعا من حل الأكل والوطء فإنه قد ثبت في هذه أمور تقتضي عدمها إلا إذا عارضها ما هو أقوى في اقتضاء الوجود فإن الشارع لا يقصد حل العقوبات وحل الميتة ووطء الأمة بالنكاح حتى لو قال القائل: أنا أقيم بمكان لا طعام فيه لتباح لي الميتة، أو أخرج مالي وأتناول ما يثير شهوتي ليحل لي نكاح الإماء ونحو ذلك لم يبح له ذلك وكان عاصيا في هذه الأشياء ولو قال: أنا أتزوج ليحل لي الوطء، أو أذبح الشاة ليحل لي اللحم لكان قد فعل مباحا، وإن كان كل من القسمين حراما إلا عند وجود ذلك السبب .

ومن القسم الثاني أن يقول: أسافر لأقصر وأفطر، أو أعدم الماء لأتيمم، ومن الأول أن يقول: أريد الإسراع بالعمرة لأتحلل منها لتحل لي محظورات الإحرام، لأنه لما جعل التحلل وسيلة إلى فعله صار مقصوده الوجود إذا أراده، ونكاح المحلل ليس من القسم الأول لأن السبب المبيح ليس هو منصوبا لحصول هذا الحل أعني حلها للأول بل لحصول ما ينافيه بل في نكاح الأول لها بعد الطلاق الثلاث مفسدة اقتضت الحرمة فإذا نكحها زوج ثان زالت المفسدة فيعود الحل والشارع لم يشرع نكاح الثاني لأجل أن تزول المفسدة فلا يكون قاصدا لزوالها فلا يكون حلها للأول مقصودا للشارع إذا أراده المطلق ولا إذا لم يرده لكن نكاح الثاني يقتضي زوال المفسدة، إذا تبين هذا: فإذا نكحها ليحلها لم يقصد النكاح وإنما قصد أثر زوال النكاح فيكون هذا مقصوده وهذا المقصود لم يقصده الشارع ابتداء إنما أثبته عند زوال النكاح الثاني كما تقرر فلا يكون النكاح مقصودا له بل الحل للمطلق هو مقصوده وليس هذا الحل مقصود الشارع بل هو تابع للنكاح الذي يتعقبه بطلاق فلا تتفق إرادة الشارع والمحلل على واحد من الأمرين، أو نكاحه إنما أراده لأجل الحل للمطلق والشارع إنما أراد ثبوت الحل من أجل النكاح المتعقب بالطلاق فلا يكون واحد منهما مرادا لهما فيكون عبثا من جهة الشارع والعاقد، لأن الإرادة التي لا تطابق مقصود الشارع غير معتبرة . وهكذا الخلع لحل اليمين فإن الخلع إنما جعله الشارع موجبا للبينونة ليحصل مقصود المرأة من الافتداء من زوجها، وإنما يكون ذلك مقصودها إذا قصدت أن تفارقه على وجه لا يكون له عليها سبيل فإذا حصل هذا، ثم فعل المحلوف عليه وقع وليست هي زوجة فلا يحنث فكان هذا تبعا لحصول البينونة الذي هو تبع لقصد البينونة فإذا خالع امرأته ليفعل المحلوف عليه لم يكن قصدهما البينونة بل حل اليمين، وحل اليمين إنما جاء تبعا لحصول البينونة لا مقصودا به فتصير البينونة لأجل حل اليمين وحل اليمين لأجل البينونة فلا يصير واحد منهما مقصودا فلا يشرع عقد ليس بمقصود في نفسه ولا مقصودا لما هو مقصود في نفسه من الشارع والعاقد جميعا، لأنه عبث وتفاصيل هذا الكلام فيها طول لا يحتمله هذا الموضع .

القسم الرابع: أن يقصد حل ما حرمه الشارع وقد أباحه على سبيل الضمن والتبع إذا وجد بعض الأسباب أو سقوط ما أوجبه وقد أسقطه على سبيل الضمن والتبع إذا وجد بعض الأسباب فيريد المحتال أن يتعاطى ذلك السبب قاصدا به ذلك الحيلة والسقوط - وهذا حرام من وجهين كالقسم الأول من جهة أن مقصوده حل ما لم يأذن به الشارع بقصد استحلاله، أو سقوط ما لم يأذن الشارع بقصد إسقاطه، والثاني أن ذلك السبب الذي يقصد به الاستحلال لم يقصد به مقصودا يجامع حقيقته بل قصد به مقصودا ينافي حقيقته ومقصوده الأصلي، أو لم يقصد به مقصوده الأصلي بل قصد به غيره، فلا يحل بحال، ولا يصح إن كان ممن يمكن إبطاله، وهذا القسم هو الذي كثر فيه تصرف المحتالين ممن ينتسب إلى الفتوى وهو أكثر ما قصدنا الكلام فيه فإنه قد اشتبه أمره على المحتالين فقالوا: الرجل إذا قصد التحليل مثلا لم يقصد محرما فإن عودة المرأة إلى زوجها بعد زواج حلال، والنكاح الذي يتوصل به إلى ذلك حلال بخلاف الأقسام الثلاثة - وهذا جهل فإن عودة المرأة إلى زوجها إما هو حلال إذا وجد النكاح الذي هو النكاح، والنكاح إنما هو مباح إذا قصد به ما يقصد بالنكاح ، لأن حقيقة النكاح إنما يتم إذا قصد ما هو مقصوده، أو قصد نفس وجوده أو وجود بعض لوازمه وتوابعه والنكاح ليس مقصوده في الشرع ولا في العرف الطلاق الموجب لتحليل المحرمة، فإن الطلاق رفع النكاح، وإزالته وقصد إيجاد الشيء لإعدامه لغير غرض يتعلق بنفس وجوده محال فالحل يتبع الطلاق، والطلاق يتبع النكاح والنكاح يتبع حقيقته التي شرع النكاح وجعل من أجلها، فإذا وقع الأمر هكذا حصل الحل، أما إذا قصد بالنكاح التحليل صار النكاح تابعا له والشارع قد جعل الحل المطلق تابعا للطلاق الثاني بعد النكاح فيصير كل منهما فرعا للآخر وتبعا له فيصير الثاني فرع نفسه وأصل أصله بمنزلة تعليل كل واحد من الأمرين بالآخر وهذا محال، لأن كلا منهما إذا كان إنما يحصل تبعا للآخر وجب أن لا يحصل واحد منهما، وإذا كان إنما يقصد لأجل الآخر وجب أن لا يقصد واحد منهما، وإذا لم يقصد واحد منهما كان وجود ما وجد منهما عبثا والشارع لا يشرع العبث، ثم فيه إرادة وجود الشيء وعدمه، وذلك جمع بين متنافيين فلا يراد واحد منهما فيصير العقد أيضا عبثا وحقيقة الأمر على طريقة المحتالين أن تصير العقود الشرعية عبثا وهذا من أسرار قاعدة الحيل فليتفطن له، فإن قيل: المقاصد في الأقوال والأفعال هي عللها التي هي غاياتها ونهاياتها وهذه العلل التي هي الغايات هي متقدمة في العلم والقصد متأخرة في الوجود والحصول، ولهذا يقال: أول الفكرة آخر العمل وأول البغية آخر الدرك والعلل التي هي الغايات والعواقب، وإن كان وجودها بفعل الفاعل الذي هو مبدأ وجودها وسبب كونها فبتصورها وقصدها صار الفاعل فاعلا فهي المحققة لكون الفاعل فاعلا والمقومة لفعله وهي علة للفعل من هذا الوجه والفعل علة لها من جهة الوجود كالنكاح مثلا فإنه علة لحل المتعة، وحل المتعة علة له من جهة أن يقصدها فإنما حصل حل الاستمتاع بالنكاح، وإنما حصل النكاح بقصد الناكح حل الاستمتاع فحل الاستمتاع حقيقة موجبة للقصد أعني أنه بحيث يقصده المسلم، والقصد موجب للفعل والفعل موجب لوجود الحل فصارت العاقبة من حيث هي معلومة مقصودة علة ومن حيث هي موجودة معلولة، وشركها في أحد الوصفين معلول غير مقصود وفي الآخر علة في نفس الوجود، ومثال الأول " لدوا للموت وابنوا للخراب " التي تسمى لام العاقبة، ومثال الثاني قعد عن الحرب جبنا ومنع المال بخلا وسائر العلل الفاعلة، فمن هذا الوجه يقال حل المرأة لزوجها علة للنكاح ومعلول له، وهو تابع من وجه ومتبوع من آخر فكذلك حل المرأة لزوجها المطلق ثلاثا قد يكون تابعا ومتبوعا من وجهين مختلفين فحلها تابع لوجود الطلاق بعد النكاح، ومعلول له وجودا وهو متبوع، وعلة له قصدا، وإرادة قد يفعل الرجل الشيء لا لمقاصده الأصلية، بل المقاصد تابعة له ويكون ذلك حسنا كمن ينكح المرأة لمصاهرة أهلها كفعل عمر رضي الله عنه لما خطب أم كلثوم ابنة علي رضي الله عنهم أو لأن تخدمه في منزله، أو لتقوم على بنات وأخوات له كفعل جابر بن عبد الله لما عدل عن نكاح البكر إلى الثيب، وإن لم تكن هذه التوابع من اللوازم الشرعية بل من اللوازم العرفية، ثم إن كان ذلك المقصود حسنا كان الفعل حسنا وحصول الفرقة المحرمة بين الزوجين قد يكون فيها فساد لحاليهما وربما تعدى الفساد إلى أولادهما أو أقاربهما، فإن الطلاق هلاك المرأة لا سيما إن كان ممن طالت صحبتها وحمدت عشرتها، وقويت مودتها وبينهما أطفال يضيعون بالطلاق، وبها من الوجد والصبابة مثل ما به، فإن قصد تراجعهما والتسبب في ذلك عمل صالح ، فإذا قصده المحلل ولم يشعرهما لم يقصد إلا خيرا، وربما يثاب على ذلك فهذه شبهة من استحسن ذلك، قلنا: لا ننكر أن عواقب الأفعال تكون تابعة متبوعة من وجهين، ولكن إدخال نكاح المحلل ونحوه تحت هذه القاعدة غلط منكر، فإنه إنما امتنع من الوجهين اللذين نبهنا عليهما من جهة أن كل واحد من السبب والحكم إنما أريد لأجل الآخر لا لأنه في نفسه مراد، وإذا لم يكن واحد منهما مرادا في نفسه لم يكن الآخر مرادا لأجله فلا يكون واحد منهما مرادا فيصير عبثا من جهة أنه جمع بين إرادة وجود الشيء وعدمه، وهو جمع بين ضدين فلا يكون إرادة واحد منهما موجودة فيصير الفعل أيضا عبثا، بيان الوجه الأول: أن من فعل شيئا، أو أمر بشيء لأجل شيء فلا بد أن يكون الثاني مقصودا له بحيث يريد وجوده لمصلحة تتعلق بوجوده ولا يريد عدمه لكن لما كان الأول طريقا إلى حصوله أراده بالقصد الثاني، وإذا لم يكن حصوله إلا بتلك الطريق جعلها مقصودة لأجله فإذا كان قد أعدم الشيء وأزاله لم يجعل إلى وجوده طريقا محضا بحيث تكون مفضية إليه يمكن القاصد لوجوده سلوكها بل علق وجوده بوجود أمر آخر له في نفسه حقيقة ومقصوده غير وجود ذلك المعلق به لم يكن قاصدا لوجود الشيء المعلق في نفسه بالقصد الأول، بل يكون قاصدا له بالقصد الثاني كما كان في الأول قاصدا للوسيلة، ففي القسم الأول الغاية هي المقصودة للأول دون الوسيلة، وفي الثاني ليست الغاية هي المقصودة، وإنما المقصود عدمها بالكلية، أو عدمها إلى أن توجد الوسيلة ; إذ لو كانت مقصودة لنصب لها طريقا يكون وسيلة إليها تفضي إليها غالبا، إذا تبين هذا فنقول: الشارع لما حرم المطلقة ثلاثا على زوجها حتى تنكح زوجا غيره، ثم يفارقها، لم يكن مقصوده وجود الحل للزوج الأول فإنه لم ينصب شيئا يفضي إليه غالبا حيث علق وجود الحل بأن تنكح زوجا غيره، ثم يفارقها ; وهذه الغاية التي هي النكاح يوجد الطلاق معها تارة، وتارات كثيرة لا يوجد وهي نفسها توجد تارة وتارات لا توجد فيعلم أن الشارع نفى الحل إما عقوبة على الطلاق، أو امتحانا للعباد، أو لما شاء سبحانه، ولو كان مقصوده وجوده إذا أراده المكلف نصب له شيئا يفضي إليه غالبا، كما أنه لما قصد وجود الملك إذا أراده المكلف نصب له سببا يفضي إليه غالبا، كما أنه لما قصد وجود الملك إذا أراده المكلف نصب له الأسباب المفضية إليه من البيع ونحوه، ألا ترى أنه لما قصد حل البضع لما أراده العبد بعد الطلقتين البائنتين، أو بدون الطلاق جعل له سببا يفضي إليه وهو تناكح الزوجين فإنهما إذا أرادا ذلك فعلاه، وبهذا يظهر الفرق بين قوله سبحانه: { حتى تنكح زوجا غيره }، وبين قوله سبحانه: { ولا تقربوهن حتى يطهرن }، { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا }، فإنه لما قصد وجود الحل للعبد إذا أراده علقه بالتطهر الذي يتيسر غالبا وجعل التطهر طريقا موصلا إلى حصول الحل بحيث يفعل لأجله فيجب الفرق بين ما يقصد وجوده لكن بشرط وجود غيره وبين ما يقصد عدمه لكن بشرط أن لا يوجد غيره، فالأول كرجل يريد أن يكرم غيره لكن لا تسمح نفسه إلا إذا ابتدأه بذلك، والثاني كرجل يريد أن لا يكرم رجلا لكن أكرمه فاضطر إلى مكافأته فالأول يكون مصلحة لكن وجودها إنما يتم بأسباب متقدمة، والثاني يكون مفسدة لكن عند وجود أسباب تصير مصلحة فمن الأول يتلقى فقه أسباب الحكم وشروطه فإنها مقتضية ومكملة لمصلحة الحكم ومن الثاني يتلقى حكم الموانع والمعارضات التي يتغير الحكم بوجودها، ومثال الأول أسباب حل المال والوطء واللحم فإن المال والبضع واللحم حرام حتى توجد هذه الأسباب وهي مقصودة الوجود، لأنها من مصلحة الخلق .
====





إقامة الدليل على إبطال التحليل/2











والقسم الخامس: الاحتيال على أخذ بدل حقه، أو عين حقه بخيانة مثل أن مالا قد اؤتمن عليه زاعما أنه بدل حقه أو أنه يستحق هذا القدر مع عدم ظهور سبب الاستحقاق، أو إظهاره فهذا أيضا يلحق بما قبله وهو ما لا يلحق بالقسم الأول كمن يستعمل على عمل بجعل يفرض له ويكون جعل مثله أكثر من ذلك الجعل فيغل بعض مال مستعمله بناء على أنه يأخذ تمام حقه فإن هذا حرام سواء كان المستعمل السلطان المستعمل على مال الفيء والخراج والصدقات وسائر أموال بيت المال، أو الحاكم المستعمل على مال الصدقات وأموال اليتامى والأوقاف أو غيرهما كالموكلين والموصين فإنه كاذب في كونه يستحق زيادة على ما شرط عليه كما لو ظن البائع، أو المكري أنه يستحق زيادة على المسمى في العقد بناء على أنه العوض المستحق وهو جائز أيضا لو كان الاستحقاق ثابتا . وأما ما يلحق بالقسم الثالث بأن يكون الاستحقاق ثابتا كرجل له عند رجل مال فجحده إياه وعجز عن خلاص حقه، أو ظلمه السلطان مالا ونحو ذلك فهذا محتال على أخذ حقه لكن إذا احتال بأن يغل بعض ما اؤتمن عليه لم يجز، لأن الغلول والخيانة حرام مطلقا، وإن قصد به التوصل إلى حقه كما أن شهادة الزور والكذب حرام، وإن قصد به التوصل إلى حقه، ولهذا { قال بشير بن الخصاصية قلت: يا رسول الله إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه، فقال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك } بخلاف ما ليس خيانة لظهور الاستحقاق فيه والتبذل والتبسط في مال من هو عليه كأخذ الزوجة نفقتها من مال زوجها إذا منعها فإنها متمكنة من إعلان هذا الأخذ من غير ضرر، ومثل هذا لا يكون غلولا ولا خيانة وهذه المسألة فيها خلاف مشهور بخلاف التي قبلها فإنها محل وفاق وليس هذا موضع استيفاء هذه المسائل ولا هي أيضا من الحيل المحضة، بل هي بمسائل الذرائع أشبه، لكن لأجل ما فيها من التحيل ذكرناها لتمام أقسام الحيل، والمقصود الأكبر أن يميز الفقيه بين هذه الأقسام ليعرف كل مسألة من أي قسم هي فيلحقها بنظيرها فإن الكلام في أمهات المسائل من هذه الحيل مستوفى في غير هذا الموضع ولم يستوف الكلام إلا في مسألة التحليل، وقد قدمنا أن هذه الأقسام الخمسة محدثة في الإسلام مبتدعة ونبهنا هنا على سبب التحريم فيها والمقصود التمييز بينها وبين ما قد شبهت به حتى جعلت، وإياه جنسا واحدا، وقياس من قاس بعض هذه الأقسام وهو الثالث وربما قيس الثاني أيضا عليه كما قيس عليه الثاني من الخامس فإن القياس الذي يوجد فيه الوصف المشترك من غير نظر إلى ما بين الموضعين من الفرق المؤثر هو مثل قياس الذين قالوا { إنما البيع مثل الربا } نظرا إلى أن البائع يتناول بماله ليربح، وكذلك المربي، ولقد سرى هذا المعنى في نفوس طوائف حتى بلغني عن بعض المرموقين أنه كان يقول: لا أدري لم حرم الربا ويرى أن القياس تحليله، وإنما يعتقد التحريم اتباعا فقط وهذا المعنى الذي قام في نفس هذا هو الذي قام في نفوس الذين قالوا { إنما البيع مثل الربا } فليعز مثل هذا نفسه عن حقيقة الإيمان والنظر في الدين، وإن لم يكن عن هذه عزاء المصيبة، وليتأمل في قوله تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا }، فلينظر هل أصابهم هذا التخبط الذي هو كمس الشيطان بمجرد أكلهم السحت أم بقبولهم الإثم مع ذلك وهو قولهم إنما البيع مثل الربا فمن كان هذا القياس عنده متوجها، وإنما تركه سمعا وطوعا ألم يكن هذا دليلا على فساد رأيه ونقص عقله وبعده عن فقه الدين، نعم من قال هذا قال: القياس أن لا تصلح الإجارة، لأنها بيع معدوم ولم يهتد للفرق بين بيع الأعيان التي توجد وبيع المنافع التي لا يتأتى وجودها مجتمعة ولا يمكن العقد عليها إلا معدومة ولو عارضه من قال: القياس صحة بيع المعدوم قياسا على الإجارة لم يكن بين كلاميهما فرق، وكذلك يرى أن القياس أن لا تصلح الحوالة لأنها بيع دين بدين وأن لا يصح القرض في الربويات، لأنها مبادلة عين ربوية بدين من جنسها، ثم إن كان مثل هذا القياس إذا عارضه نص ظاهر أمكن تركه عند معتقد صحته لكن إذا لم ير نصا يعارضه فإنه يجر إلى أقوال عجيبة تخالف سنة لم تبلغه، أو لم يتفطن لمخالفتها، مثل قياس من قاس المعاملة بجزء من النماء على الإجارة مع الفروق المؤثرة ومخالفة السنة، وقياس من قاس القسمة على البيع وجعلها نوعا منه حتى أثبت لها خصائص البيع لما فيها من ثبوت المعاوضة والتزم أن لا يقسم الثمار خرصا كما لا تباع خرصا فخالف سنة رسول الله ﷺ في مقاسمة أهل خيبر الثمار التي كانت بينه وبينهم على النخل خرصا، وهذا باب واسع وما نحن فيه منه، لكنه أقبح وأبين من أن يخفى على فقيه، كما خفي الأول على بعض الفقهاء .

ومن هذا الباب مما قد يظن أنه من جنس الحيل التي بينا تحريمها وليس من جنسها قصة يوسف عليه السلام حين كاد الله له في أخذ أخيه كما نص ذلك سبحانه في كتابه فإن فيها ضروبا من الحيل، أحدها: قوله لفتيته: { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون } فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم وقد ذكروا في ذلك معاني منها أنه تخوف أنه لا يكون عندهم ورق يرجعون بها، ومنها أنه خشي أن يضر أخذ الثمن بهم، ومنها أنه رأى لوما إذا أخذ الثمن منهم، ومنها أنه أراهم كرمه في رد البضاعة ليكون أدعى لهم للعود، وقد قيل: إنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى الرجعة، ليؤدوها إليه، فهذا المحتال به عمل صالح، والمقصود رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله وهو مقصود صالح، وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر فيها أيضا منفعة له ولهم ولأبيهم، وتمام لما أراده الله بهم من الخير في هذا البلاء، الضرب الثاني: أنه في المرة الثانية لما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه، وهذا القدر يتضمن إيهام أن أخاه سارق، وقد ذكروا أن هذا كان بمواطأة من أخيه وبرضى منه بذلك والحق له في ذلك، وقد دل على ذلك قوله { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون }، فإن هذا يدل على أنه عرف أخاه نفسه، وقد قيل: إنه لم يصرح له أنه يوسف، وإنما أراد أنا مكان أخيك المفقود، ومن قال هذا قال إنه وضع السقاية في رحل أخيه والأخ لا يشعر، وهذا خلاف المفهوم من القرآن، وخلاف ما عليه الأكثرون وفيه ترويع لمن لم يستوجب الترويع، وأما على الأول فقال كعب الأحبار لما قال له إني أنا أخوك قال بنيامين فأنا لا أفارقك قال يوسف عليه السلام فقد علمت اغتمام والدي بي، وإذا حبستك ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا تحتمل قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك، قال فإني أدس صاعي هذا في رحلك، ثم أنادي عليك بالسرقة ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك، قال: فافعل فذلك قوله: { فلما جهزهم بجهازهم } الآية فهذا التصرف في ملك الغير بما فيه أذى له في الظاهر إنما كان بإذن المالك، ومثل هذا النوع ما ذكر أهل السير عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما هم قومه بالردة بعد رسول الله ﷺ كفهم عن ذلك وأمرهم بالتربض، وكان يأمر ابنه إذا رعى إبل الصدقة أن يبعد، فإذا جاء خاصمه بين يدي قومه وهم يضربه فيقومون فيشفعون إليه فيه، ويأمره كل ليلة أن يزداد بعدا فلما تكرر ذلك أمره ذات ليلة أن يبعد بها وجعل ينتظره بعد ما دخل الليل وهو يلوم قومه على شفاعتهم فيه ومنعهم إياه من عقوبته وهم يعتذرون عن ابنه ولا ينكرون إبطاءه حتى إذا انهار الليل ركب في طلبه فلحقه واستاق الإبل حتى قدم بها على أبي بكر رضي الله عنه فكانت صدقات طيئ مما استعان بها أبو بكر في قتال أهل الردة، وكذلك في الحديث الصحيح أن عديا قال لعمر رضي الله عنهما في بعض الأمراء: أما تعرفني يا أمير المؤمنين ؟ قال: بلى أعرفك أسلمت إذا كفروا ووفيت إذا غدروا وأقبلت إذا أدبروا وعرفت إذا أنكروا، ومثل هذا ما أذن النبي ﷺ للوفد الذين أرادوا قتل كعب بن الأشرف أن يقولوا وأذن للحجاج بن علاط عام خيبر أن يقول وهذا كله الأمر المحتال به مباح لكون الذي قد أوذي قد أذن فيه، والأمر المحتال عليه طاعة لله، أو أمر مباح، الضرب الثالث: أنه أذن مؤذن: { أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } إلى قوله: { فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين، فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين: أحدهما: أنه من باب المعاريض وأن يوسف نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه حيث غيبوه عنه بالحيلة التي احتالوها عليه وخانوه فيه والخائن يسمى سارقا وهو من الكلام المشهور حتى أن الخونة من ذوي الديوان يسمون لصوصا، الثاني: أن المنادي هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف عليه السلام، قال القاضي أبو يعلى وغيره أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصاع في رحل أخيه، ثم قال بعض الموكلين بالصيعان - وقد فقدوه ولم يدروا من أخذه منهم - أيتها العير إنكم لسارقون على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف بذلك فلم يكن قول هذا القائل كذبا كان في حقه وغالب ظنه ما هو عنده، ولعل يوسف قد قال للمنادي هؤلاء قد سرقوا، وعنى بسرقته من أبيه والمنادي فهم سرقة الصواع وهو صادق في قوله نفقد صواع الملك فإن يوسف لعله لم يطلع على أن الصواع في رحالهم ليتم الأمر فنادى إنكم لسارقون بناء على ما أخبر به يوسف، وكذلك لم يقل سرقتم صاع الملك إنما قال نفقده، لأنه لم يكن يعلم أنهم سرقوه، أو أنه اطلع على ما صنعه يوسف فاحترز في قوله فقال إنكم لسارقون ولم يذكر المفعول ليصح أن يضمر سرقتهم يوسف، ثم قال: نفقد صواع الملك وهو صادق في ذلك، وكذلك احترز يوسف في قوله: { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } ولم يقل إلا من سرق، وعلى التقدير فالكلام من أحسن المعاريض وقد قال نصر بن حاجب سئل سفيان بن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله ويحرف القول فيه ليرضيه أيأثم في ذلك ؟ قال ألم تسمع إلى قوله ليس بكاذب من أصلح بين الناس فكذب فيه فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم خير من أن يصلح بين الناس بعضهم في بعض وذلك أنه أراد به مرضاة الله وكراهة أذى المؤمن ويندم على ما كان منه ويدفع شره عن نفسه ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا لطمع شيء يصيب منهم فإنه لم يرخص في ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم، قال حذيفة إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن أتقدم على ما هو أعظم منه وكره أيضا أن يتغير قلبه عليه، قال سفيان وقال الملكان: { خصمان بغى بعضنا على بعض } أراد معنى شيء ولم يكونا خصمين فلم يصيرا بذلك كاذبين وقال إبراهيم: { إني سقيم }، وقال: { قال بل فعله كبيرهم هذا }، وقال يوسف: { إنكم لسارقون } أراد معنى أمرهم، فبين سفيان أن هذا كله من المعاريض المباحة من تسميته كذا، وإن لم يكن في الحقيقة كذبا كما تقدم التنبيه على ذلك .

والذي قيست عليه الحيل المحرمة وليس مثله نوعان: أحدهما: المعاريض وهي أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحا ويتوهم غيره أنه قصد به معنى آخر، ويكون سبب ذلك التوهم كون اللفظ مشتركا بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين، أو شرعيتين، أو لغوية مع أحدهما، أو عرفية مع شرعية فيعني أحد معنييه ويتوهم السامع أنه إنما عنى الآخر لكون دلالة الحال تقتضيه، أو لكونه لم يعرف إلا ذلك المعنى، أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا فيه معنى فيعني به معنى يحتمله باطنا فيه بأن ينوي مجاز اللفظ دون حقيقته، أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد، أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته بعرف خاص له، أو غفلة منه، أو جهل منه أو غير ذلك من الأسباب مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته، فهذا - إذا كان المقصود به دفع ضرر غير مستحق - جائز كقول الخليل ﷺ: " هذه أختي "، وقول النبي ﷺ: { نحن من ماء } وقول الصديق: رجل يهديني السبيل، وأن النبي ﷺ كان إذا أراد غزوة ورى غيرها، وكان يقول: { الحرب خدعة } وكإنشاد عبد الله بن رواحة: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا لما استقرأته امرأته القرآن حيث اتهمته بإصابة جاريته - وقد يكون واجبا إذا كان دفع ذلك الضرر واجبا ولا يندفع إلا بذلك مثل التعريض عن دم معصوم وغير ذلك، وتعريض أبي بكر الصديق رضي الله عنه قد يكون من هذا السبيل وهذا الضرب نوع من الحيل في الخطاب، لكنه يفارق الحيل المحرمة من الوجه المحتال عليه والوجه المحتال به: أما المحتال عليه هنا فهو دفع ضرر غير ضرر مستحق، فإن الجبار كان يريد أخذ امرأة إبراهيم ﷺ لو علم أنها امرأته، وهذا معصية عظيمة وهو من أعظم الضرر، وكذلك بقاء الكفار غالبين على الأرض، أو غلبتهم للمسلمين من أعظم الفساد فلو علم أولئك المستجيرون بالنبي ﷺ لترتب على علمهم شر طويل، وكذلك عامة المعاريض التي يجوز الاحتجاج بها فإن عامتها إنما جاءت حذرا من تولد شر عظيم على الأخبار - فأما إن قصد بها كتمان ما يجب من شهادة، أو إقرار، أو علم، أو صفة مبيع أو منكوحة، أو مستأجر، أو نحو ذلك فإنها حرام بنصوص الكتاب والسنة كما سيأتي إن شاء الله التنبيه على بعضه إذا ذكرت الأحاديث الموجبة للنصيحة والبيان في البيع، والمحرمة للغش والخلابة والكتمان، وإلى هذا أشار الإمام أحمد فيما رواه عنه مثنى الأنباري قال: قلت لأبي عبد الله أحمد كيف الحديث الذي جاء في المعاريض فقال: المعاريض لا تكون في الشراء والبيع، تكون في الرجل يصلح بين الناس أو نحو هذا، والضابط أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام، لأنه كتمان وتدليس ويدخل في هذا الإقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه والشهادة على الإنسان والعقود بأسرها ووصف العقود عليه والفتيا والتحديث والقضاء إلى غير ذلك، كل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب إن اضطر إلى الخطاب وأمكن التعريض فيه - كالتعريض لسائل عن معصوم يريد قتله -، وإن كان بيانه جائزا أو كتمانه جائزا، وكانت المصلحة الدينية في كتمانه كالوجه الذي يراد عزوه فالتعريض أيضا مستحب هنا، وإن كانت المصلحة الدنيوية في كتمانه، فإن كان عليه ضرر في الإظهار - والتقدير أنه مظلوم بذلك الضرر -، جاز له التعريض في اليمين وغيرها، وإن كان له غرض مباح في الكتمان ولا ضرر عليه في الإظهار فقيل له التعريض أيضا، وقيل ليس له ذلك، وقيل له التعريض في الكلام دون اليمين، وقد نص عليه أحمد في رواية أبي نصر بن أبي عصمة أظنه عن الفضل بن زياد فإن أبا نصر هذا له مسائل معروفة رواها عنه الفضل بن زياد عن أحمد قال: سألت أحمد عن الرجل يعارض في كلامه يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به، قال: إذا لم يكن يمين فلا بأس، في المعاريض مندوحة عن الكذب، وهذا إذا احتاج إلى الخطاب، فأما الابتداء بذلك فهو أشد، ومن رخص في الجواب قد لا يرخص في ابتداء الخطاب كما دل عليه حديث أم كلثوم أنه لم يرخص فيما يقول الناس إلا في ثلاث، وفي الجملة فالتعريض مضمونه أنه قال قولا فهم منه السامع خلاف ما عناه القائل إما لتقصير السامع في معرفة دلالة اللفظ، أو لتبعيد المتكلم وجه البيان، وهذا غايته أنه سبب في تجهيل المستمع باعتقاد غير مطابق، وتجهيل المستمع بالشيء إذا كان مصلحة له كان عمل خير معه، فإن من كان علمه بالشيء يحمله على أن يعصي الله سبحانه كان أن لا يعلمه خيرا له، ولا يضره مع ذلك أن يتوهمه بخلاف ما هو إذا لم يكن ذلك أمرا يطلب معرفته، إن لم يكن مصلحة له بل مصلحة للقائل كان أيضا جائزا، لأن علم السامع إذا فوت مصلحة على القائل كان له أن يسعى في عدم علمه، وإن أفضى إلى اعتقاد غير مطابق في شيء سواء عرفه، أو لم يعرفه، فالمقصود بالمعاريض فعل واجب، أو مستحب أو مباح أباح الشارع السعي في حصوله، ونصب سببا يفضي إليه أصلا وقصدا، فإن الضرر قد يشرع للإنسان أن يقصد دفعه، ويتسبب في ذلك، ولم يتضمن الشرع النهي عن دفع الضرر، فلا يقاس بهذا إذا كان المحتال عليه سقوط ما نص الشارع وجوبه وتوجه وجوبه كالزكاة والشفعة بعد انعقاد سببهما، أو حل ما قصد الشارع تحريمه وتوجه تحريمه من الزنا والمطلقة ونحو ذلك، ألا ترى أن مصلحة الوجوب هنا تفويت ومفسدة التحريم باقية والمعنى الذي لأجله أوجب الشارع موجود مع فوات الوجوب، والمعنى الذي لأجله حرم موجود مع فوات التحريم إذا قصد الاحتيال على ذلك، وهناك رفع الضرر معنى قصد الشارع حصوله للعبد وفتح له بابه، فهذا من جهة المحتال عليه، وأما من جهة المحتال به فإن المعترض إنما تكلم بحق ونطق بصدق فيما بينه الله سبحانه لا سيما إن لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه، وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في معرفة دلالة اللفظ، ومعاريض النبي ﷺ ومزاحه عامته كان من هذا النوع مثل قوله: " { نحن من ماء }، وقوله: { إنا حاملوك على ولد الناقة } { وزوجك الذي في عينه بياض }، { ولا يدخل الجنة عجوز }، وأكثر معاريض السلف كانت من هذا - ومن هذا الباب التدليس في الإسناد لكن هذا كان مكروها لتعلقه بأمر الدين وكون بيان العلم واجبا، بخلاف ما قصد به دفع ظالم أو نحو ذلك - ولم يكن في معاريضه ﷺ أن ينوي بالعام الخاص وبالحقيقة المجاز، وإن كان هذا إذا عرض به المعرض لم يخرج عن حدود الكلام، فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز والمفرد والمشترك والعام والخاص والمطلق والمقيد وغير ذلك، وتختلف دلاليته تارة بحسب اللفظ المفرد، وتارة بحسب التأليف، وكثير من وجوه اختلافه قد لا يبين بنفس اللفظ، بل يراجع فيه إلى قصد المتكلم، وقد يظهر قصده بدلالة الحال، وقد لا يظهر وإذا كان المعرض إنما يقصد باللفظ ما جعل اللفظ دلالة عليه ومبينا له في الجملة لم يشتبه هذا إن قصد بالعقد ما لم يحمل العقد مقتضيا له أصلا، فإن لفظ أنكحت وزوجت لم يضعه الشارع بنكاح المحلل قط بدليل أنه لو أظهره لم يصح، ولا يلزم من صلاح اللفظ له إخبار صلاحه له إنشاء، فإنه لو قال في المعاريض: تزوجت وعنى نكاحا فاسدا، جاز كما لو لم يبين ذلك، ولو قال في العقد: تزوجت نكاحا فاسدا لم يجز فكذلك إذا نواه، وكذلك في الربا، فإن القرض لم يشرعه الشارع إلا لمن قصد أن يسترجع مثل قرضه فقط ولم يبحه لمن أراد الاستفضال قط بدليل أنه لو صرح بذلك لم يجز، فإذا أقرضه ألفا ليبيعه ما يساوي مائة بألف أخرى أو ليحابيه المقترض في بيع، أو إجارة، أو مساقاة أو ليعيره، أو يهبه، فقد قصد بالعقد ما لم يجعل العقد مقتضيا له قط، وإذا كان المعرض قصد بالقول ما يحتمله القول أو يقتضيه والمحتال قصد بالقول ما لا يحتمله القول ولا يقتضيه فكيف يقاس أحدهما بالآخر ; وإنما نظير المحتال المنافق، فإنه قصد بكلمة الإسلام ما لا يحتمله اللفظ - فالحيلة كذب في الإنشاء كالكذب في الإخبار، والتعريض ليس كذبا من جهة العناية وحسبك أن المعرض قصد معنى حقا بنيته بلفظ يحتمله في الوضع الذي به التخاطب، والمحتال قصد معنى محرما بلفظ لا يحتمله في الوضع الذي به التعاقد، فإذا تبين الفرق من جهة القول للعرض به والمعنى الذي كان التعريض لأجله لم يصح إلحاق الحيل به، وهنا فرق ثالث، وهو أن يكون المعرض إما أن يكون أبطل بالتعريض حقا لله، أو لآدمي، فأما من جهة الله سبحانه، فلم يبطل حقا له، لأنه إذا ناجى ربه سبحانه بكلام وعنى به ما يحتمله من المعاني الحسية لم يكن ملوما في ذلك ولو كان كثير من الناس يفهمون منه خلاف ذلك، لأن الله عالم بالسرائر واللفظ مستعمل فيما هو موضوع له، وأما من جهة الآدمي فلا يجوز التعريض إلا إذا لم يتضمن إسقاط حق مسلم، فإن تضمن إسقاط حقه حرم بالإجماع، فثبت أن التعريض المباح ليس من المخادعة لله سبحانه في شيء، وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه جزاء له على ذلك - ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز مخادعة المحق، فما كان من التعريض مخالفا لظاهر اللفظ في نفسه كان قبيحا إلا عند الحاجة، وما لم يكن كذلك كان جائزا إلا عند تضمن مفسدة، والذي يدخل في الحيل إنما هو الأول، وقد ظهر الفرق من جهة أنه قصد باللفظ ما يحتمله اللفظ أيضا، وأن هذا القصد لدفع شر، والمحتال قصد باللفظ ما لا يحتمله وقصد به حصول شر، واعلم أن المعاريض كما تكون بالقول فقد تكون بالفعل وقد تكون بهما - مثال ذلك: أن يظهر المحارب أنه يريد وجها من الوجوه ويسافر إلى تلك الناحية ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكر عليه، أو يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته، ثم يعطف عليه، وهذا من معنى قوله: { الحرب خدعة } وكان النبي ﷺ إذا أراد غزوة ورى بغيرها .

وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه جائز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضاء من عليه الحق، وهذه الحجة ضعيفة فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال قد اقتص منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين قد فعلوا ذلك، نعم كان تخلفه عنده يؤذيهم من أجل تأذي أبيهم والميثاق الذي أخذه عليهم وقد استثنوا في الميثاق إلا أن يحاط بكم وقد أحيط بهم ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته فإنه كان أكرم من هذا وكان في ضمن هذا من الإيذاء لأبيه أعظم مما فيه من إيذاء إخوته وإنما هو أمر أمره الله به ليبلغ الكتاب أجله، ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف عليهما السلام كمال الجزاء وتبلغ حكمة الله التي قضاها لهم نهايتها، ولو كان يوسف قصد الاقتصاص منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإنما موضع الخلاف هل يجوز له أن يسرق، أو أن يخون سرقة أو خيانة مثلما سرقه إياه، أو خونه إياه، ولم تكن قصة يوسف من هذا الضرب، نعم لو كان يوسف أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا دلالة له في ذلك على هذا التقدير أيضا فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق أن يحبس رجل بريء ويعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جرم، وقد بينا ضعف هذا القول فيما مضى، وإن كان حقا فيوشك أن يكون الله سبحانه أمره باعتقاله وكان هذا ابتلاء من الله لهذا المعتقل، كأمر إبراهيم بذبح ابنه وتكون حكمته في حق المبتلى امتحانه وابتلاءه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه، ويكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب في احتباس، يوسف عنه .

ومن احتال بعمل هو مباح في نفسه على الوجه الذي أباحه الشارع فهذا جائز بالاتفاق، وإنما الكلام في أنه هل يباح له ما كان محرما على الإطلاق مثل الخيانة والغلول، أو يباح له فعل المباح على غير الوجه المشروع مثل الحيل الربوية ؟ يوضح ذلك: أن نفس الأحكام مثل إباحة الفعل لا يجوز أن تسمى كيدا، وإنما الكيد فعل من الله ابتداء، أو فعل من العبد يكون العبد به فاعلا، وعلى التقديرين فليس هذا من الحيل الشرعية - وهذا الذي ذكرناه في معنى الكيد إنما انضم إليه معرفة الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام، والأفعال التي فعلها الله له تيقن اللبيب أن الكيد لم يكن خارجا عن إلهام فعل كان مباحا، أو فعل من الله تم به ذلك الفعل، وأن حاجة يوسف لم تبح له فعل شيء كان حراما على الإطلاق في الجملة قيل ذلك وهذا هو المقصود والله أعلم .

النوع الثاني: مما ظن المحتالون أنه من الحيل سائر العقود الصحيحة فقالوا: البيع احتيال على حصول الملك، والنكاح احتيال على حصول حل البضع، وكذلك سائر ما يتصرف فيه الخلق وهو احتيال على طلب مصالحهم التي أباحها الله لهم - وقال قائلهم: الحيلة هي الطريق التي يتوصل بها الإنسان إلى إسقاط المآثم عن نفسه وقال آخر: هي ما يمنع الإنسان من ترك، أو فعل لولاها كان يلزمه من غير إثم، ثم قالوا: وهذا شأن سائر التصرفات المباحة، وقالوا: قد { قال رسول الله ﷺ لعامله على خيبر بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا }، فلما كان مقصوده ابتياع الجنيب بجمع أمره أن يبيع الجمع، ثم يبتاع بثمنه جنيبا فعقد العقد الأول ليتوسل به للعقد الثاني، قالوا: وهذه حيلة تضمنت حصول المقصود بعد عقدين فهي أوكد مما تضمنت حصوله بعد عقد واحد، وأشبهت العينة فإنه قصد أن يعطيه دراهم، فلم يمكن بعقد واحد فعقد عقدين بأن باع السلعة ثم ابتاعها، والحيل المعروفة لا تتم غالبا إلا بأن ينضم إلى العقد الآخر شيء آخر من عقد آخر، أو فسخ، أو نحو ذلك، والجواب عن هذا: أن تحصيل المقاصد بالطرق المشروعة إليها ليس من جنس الحيل سواء سمي حيلة، أو لم يسم، فليس النزاع في مجرد اللفظ، بل الفرق بينهما ثابت من جهة الوسيلة والمقصود اللذين هما المحتال به والمحتال عليه، وذلك أن البيع مقصوده الذي شرع البيع له أن يحصل ملك الثمن للبائع ويحصل ملك المبيع للمشتري، فيكون كل منهما ملكا لمن انتقل إليه كسائر أملاكه، وذلك في الأمر العام إنما يكون إذا قصد المشتري نفس السلعة للانتفاع بعينها، وإنفاقها، أو التجارة فيها، فإن قصد ثمنها الذي هو الدراهم، أو الدنانير ولم يكن مقصوده إلا أنه قد احتاج إلى دراهم فابتاع سلعة نسيئة ليبيعها ويستنفق ثمنها فهو التورق، وإنما يكون إذا قصد البائع نفس الثمن لينتفع به بما جعلت الأثمان له من إنفاق وتجارة ونحوهما، فإذا كان مقصود الرجل نفع الملك المباح بالبيع وما هو من توابعه وحصله بالبيع فقد قصد بالسبب ما شرعه الله سبحانه له وأتى بالسبب حقيقة، وسواء كان مقصوده يحصل بعقد أو عقود، مثل أن يكون بيده سلعة وهو يريد أن يبتاع سلعة أخرى لا تباع بسلعته لمانع شرعي، أو عرفي، أو غير ذلك، فيبيع سلعته ليملك ثمنها، والبيع لملك الثمن مقصود مشروع، ثم يبتاع بالثمن سلعة أخرى، وابتياع السلع بالأثمان مقصود مشروع، وهذه قصة بلال رضي الله عنه بخيبر سواء، فإنه إذا باع الجمع بالدراهم فقد أراد بالبيع ملك الثمن وهذا مشروع مقصود، ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبا فقد أراد بالابتياع ملك سلعة وهذا مقصود مشروع، فلما كان بائعا قصد ملك الثمن حقيقة، ولما كان مبتاعا قصد ملك السلعة حقيقة، فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه فهذا لا محذور فيه، إذ كل واحد من العقدين مقصود مشروع، ولهذا يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض ونحو ذلك، وأما إن ابتاع بالثمن ممن ابتاعه من جنس ما باعه فيخاف أن يكون العقد الأول مقصودا منهما بل قصدهما بيع السلعة الأولى بالثانية فيكون ربا، ويظهر هذا القصد بأن يكون إذا باعه التمر مثلا بدراهم لم يحرر وزنها ولا نقدها ولا قبضها فيعلم أنه لم يقصد بالعقد الأول ملك المثمن بذلك التمر ولا قصد المشتري تملك التمر بتلك الدراهم التي هي الثمن بل عقد العقد الأول على أن يعيد إليه الثمن ويأخذ التمر الآخر وهذا تواطؤ منهما حين عقده على فسخه، والعقد إذا قصد به فسخه لم يكن مقصودا، وإذا لم يكن الأول مقصودا كان وجوده كعدمه، فيكونان قد اتفقا على أن يبتاعا بالتمر تمرا، يحقق أن هذا هو العقد المقصود أنه إذا جاء بدراهم أو دنانير، أو حنطة، أو تمر، أو زبيب ليبتاع به من جنسه أكثر منه، أو أقل فإنهما غالبا يتشارطان ويتراضيان على سعر أحدهما من الآخر، ثم بعد ذلك يقول: بعتك هذه الدراهم بكذا وكذا دينارا، ثم يقول: اصرف لي بها كذا وكذا درهما لما اتفقا عليه أولا، ويقول: بعتك هذا التمر بكذا وكذا درهما، ثم يقول: بعني به كذا وكذا تمرا فيكونان قد اتفقا على الثمن المذكور صورة لا حقيقة ليس للبائع غرض في أن يملكه ولا للمشتري غرض أن يملكه وقد تعاقدا على أن يملكه البائع، ثم يعيده إلى المشتري، والعقد لا يعقد ليفسخ من غير غرض يتعلق بنفس وجوده، فإن هذا باطل كما تقدم بيانه، فأين من يبيعه بثمن ليشتري به منه إلى من يبيعه بثمن ليأخذ منه .

يوضح هذا أشياء: منها أن الرجل إذا أراد أن يشتري من رجل سلعة بثمن آخر من غير جنسها فإنهما في العرف لا يحتاجان أن يعاقداه على الأول، بثمن يميزه، ثم يبتاعا به، وإنما يقومان السلعتين ليعرفا مقدارهما، ولو قال له بعتها بكذا وكذا، أو ابتعت مثلا هذه بهذا الثمن لعد هذا لاعبا عابثا قائلا ما لا حقيقة له ولا فائدة فيه، بخلاف ما لو كان الشراء من غيره فإنه يبيعه بثمن يملكه حقيقة، ثم يبتاع به من الآخر فكذلك إذا أراد أن يبتاع منه بالثمن من جنسها كيف يأمره الشارع بشيء ليس فيه فائدة ؟ ومنها أنه لو كان هذا مشروعا لم يكن في تحريم الربا حكمة إلا تضييع الزمان، وإتعاب النفس بلا فائدة، فإنه لا يشاء أن يبتاع ربويا بأكثر منه من جنسه إلا قال بعتك هذا بكذا وابتعت منك هذا بهذا الثمن، فلا يعجز أحد عن استحلال ربا حرمه الله سبحانه قط، فإن الربا في البيع نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة، فأما ربا الفضل فيمكنه في كل مال ربوي أن يقول بعتك هذا المال بكذا ويسمي ما شاء، ثم يقول ابتعت هذا المال الذي هو من جنسه، وأما ربا النسيئة فيمكنه أن يقول بعتك هذه الحريرة بألف درهم، أو عشرين صاعا إلى سنة وابتعتها منك بتسعمائة حالة، أو خمسة عشر صاعا، أو نحو ذلك، ويمكنه ربا القرض فلا يشاء مرب إلا أقرضه، ثم حاباه في بيع أو إجارة، أو مساقاة، أو أهدى له، أو نفعه، ويحصل مقصودهما من الزيادة في القرض، فيا سبحان الله العظيم أيعود الربا الذي قد عظم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله، ولعن أهل الكتاب بأخذه، ولعن آكله وموكله وشاهديه وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها ويستهزئ بها ؟ أم يستحسن مؤمن أن ينسب نبيا من الأنبياء فضلا عن سيد المرسلين، بل أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرم هذه المحارم العظيمة، ثم يبيحها بضرب من العبث والهزل الذي لم يقصد ولم يكن له حقيقة وليس فيه مقصود المتعاقدين قط، ولقد بلغني أن بعض المربين من الصيارف قد جعل عنده خرزة ذهب فكل من جاء يريد أن يبيعه فضة بأقل منها لكونها مكسورة، أو من نقد غير نافق ونحو ذلك قال له الصيرفي: بعني هذه الفضة بهذه الخرزة، ثم يقول ابتعت هذه الخرزة بهذه الفضة، أفيستجيز رشيد أن يقول: إن الذي حرم بيع الفضة بالفضة متفاضلا أحل تحصيل الفضة بالفضة متفاضلا على هذا الوجه، وهو الذي يقول في محلل القمار ما يقول، ويقول في محلل النكاح ما يقول ؟ وكذلك بلغني أن من الباعة من قد أعد بزا لتحليل الربا، فإذا جاء الرجل إلى من يريد أن يأخذ منه ألفا بألف ومائتين ذهبا إلى ذلك المحلل فاشترى ذلك المعطي منه ذلك البز، ثم يعيده للآخر، ثم يبيعه الآخذ إلى صاحبه، وقد عرف الرجل بذلك بحيث إن البز الذي يحلل به الربا لا يكاد يبيعه البيع ألبتة .

وهذا الذي ذكرناه بين يعلم من سياق الكلام ومن حال يوسف وقد دل عليه قوله سبحانه: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم } فإن الكيد عند أهل اللغة نحو من وقد نسبه الله سبحانه إلى يوسف كما نسبه إلى نفسه في قوله: { إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا } وكما دل عليه قوله سبحانه: { أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون } ومثل ذلك قوله سبحانه: { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }، وقوله سبحانه في قصة صالح: { وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا بالله } إلى قوله: { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم }: الآية، ثم إن بعض الناس يقول إنما سمى الله سبحانه فعله بالماكرين والكائدين والمستهزئين مكرا وكيدا واستهزاء مع أنه حسن وفعلهم قبيح لمشاكلته له في الصورة ووقوعه جزاء له كما في قوله: { وجزاء سيئة سيئة مثلها } سمى الثاني سيئة وهو بحق لمقابلته للسيئة، وقال: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } سمى الأول عقوبة، وإن لم يكن عن الأولين عقوبة لمقابلته للفعل الثاني وجعلوا هذا نوعا من المجاز - وقال آخرون وهو أصوب بل تسميته مكرا وكيدا واستهزاء وسيئة وعقوبة على بابه فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي وكذلك الكيد، فإن كان ذلك الغير يستحق ذلك الشر كان مكرا حسنا، وإلا كان مكرا سيئا، بل إن كان ذلك الشر الواصل حقا لمظلوم كان ذلك المكر واجبا في الشرع على الخلق وواجبا من الله بحكم الوعد إن لم يعف المستحق والله سبحانه إنما يمكر ويستهزئ بمن يستوجب ذلك فيأخذه من حيث لا يحتسب كما فعل ذلك الظالم بالمؤمنين، والسيئة ما تسوء صاحبها، وإن كان مستحقا لها والعقوبة ما عوقب به المرء من شر، وإذا تبين ذلك: فيوسف الصديق عليه السلام كان قد كيد غير مرة، أولها: أن إخوته كادوا له كيدا حيث احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه كما دل عليه قوله: { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا }، ثم إن امرأة العزيز كادت له بأن أظهرت أنه راودها عن نفسها وكانت هي المراودة كما دل عليه قوله: { فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم }، ثم كاد له النسوة حتى استجار بالله في قوله: { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم } حتى إنه عليه السلام قال لما جاءه رسول الملك يستخرجه من السجن: { قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم }، فكاد الله ليوسف بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره، وكيد الله سبحانه وتعالى لا يخرج عن نوعين: أحدهما: هو الأغلب أن يفعل سبحانه فعلا خارجا عن قدرة العبد الذي كاد له فيكون الفعل قدرا محضا ليس هو من باب الشرع كما كاد الذين كفروا بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات، وكذلك كانت قصة يوسف فإن يوسف أكثر ما قدر أن يفعل أن ألقى الصواع في رحل أخيه وأذن المؤذن بسرقتهم فلما أنكروا { قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين } أي جزاء السارق { قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } أي جزاؤه نفس نفس السارق يستعبده المسروق إما مطلقا أو إلى مدة وهذه كانت شريعة آل يعقوب، وقوله من وجد في رحله فيه وجهان: أحدهما :

أنه هو خبر المبتدإ وقوله بعد ذلك فهو جزاؤه جملة ثانية مؤكدة للأولى، والتقدير في جزاء هذا الفعل نفس من وجد في رحله فإن ذلك هو الجزاء في ديننا كذلك يجزي الظالمين، والثاني: أن قوله { من وجد في رحله فهو جزاؤه } جملة شرطية هي خبر المبتدإ والتقدير جزاء السارق هو أنه من وجد الصاع في رحله كان هو الجزاء كما تقول جزاء السرقة ممن سرق قطع يده -، وإنما احتمل الوجهين لأن الجزاء قد يراد به نفس الحكم باستحقاق العقوبة وقد يراد به نفس العقوبة وقد يراد به نفس الألم الواصل إلى المعاقب فكلما تكلموا بهذا الكلام كان إلهام الله لهم هذا كيدا ليوسف خارجا عن قدرته، إذ قد كان يمكنهم أن يقولوا الإجزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب حكم السارق وقد كان يوسف عليه السلام عادلا لا يمكنه أن يأخذهم بغير حجة أو يقولون جزاؤه أن يفعل به ما تفعلون بالسراق في دينكم وقد كان من دين ملك مصر فيما ذكره المفسرون أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرتين ولو قالوا ذلك لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزمه غيرهم ولهذا قال سبحانه: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } أي ما كان يمكنه أخذه في دين ملك مصر لأن دينه لم يكن فيه طريق إلى أخذه - إلا أن يشاء الله - استثناء منقطع أي لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر، أو يكون متصلا بأن يهيئ الله سبحانه سببا آخر بطريق يؤخذ به في دين الملك من الأسباب التي كان الرجل في دين الملك يعتقل بها، فإذا كان المراد بالكيد فعلا من الله سبحانه بأن ييسر لعبده المؤمن المظلوم المتوكل عليه أمورا يحصل بها مقصوده بالانتقام من الظالم وغير ذلك فإن هذا خارج عن الحيل الفقهية، فإنا إنما تكلمنا في حيل يفعلها العبد لا فيما يفعله الله سبحانه، بل في قصة يوسف تنبيه على أن من كاد كيدا محرما فإن الله يكيده وهذه سنة الله في مرتكب الحيل المحرمة فإنه لا يبارك له في هذه الحيل كما هو الواقع، وفيها تنبيه على أن المؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة، وعلى هذا فقوله بعد ذلك: { نرفع درجات من نشاء } قالوا بالعلم، وفيه تنبيه على أن الخفي الذي يتوصل به المقاصد الحسنة مما يرفع الله به الدرجات، وفيه دليل على أن يوسف كان منه فعل فيكون بهذا العلم هو ما اهتدى به يوسف إلى أمر توكل في إتمامه على الله فإن اهتداءه لإلقاء الصاع واسترجاعهم نوع فعل منه لكن ليس هذا وحده هو الحيلة، والحيل الفقهية بها وحدها يتم غرض المحتال لو كانت حلالا، النوع الثاني: من كيده لعبده هو أن يلهمه سبحانه أمرا مباحا، أو مستحبا، أو واجبا يوصله به إلى المقصود الحسن فيكون هذا على إلهامه ليوسف أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا، وقد دل على ذلك قوله: { نرفع درجات من نشاء } فإن فيه تنبيها على أن العلم الدقيق الموصل إلى المقصود الشرعي صفة مدح كما أن العلم الذي يخصم به المبطل صفة مدح، حيث قال في قصة إبراهيم: { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء }، وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع لكن لا يجوز أن يراد به الكيد الذي تستحل به المحرمات، أو تسقط به الواجبات فإن هذا كيد لله، والله هو المكيد في مثل هذا فمحال أن يشرع الله أن يكاد دينه، وأيضا فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعي، ومحال أن يشرع الله لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له، وأيضا فإن الأمر المشروع هو عام لا يخص به شخص دون شخص فإن الشيء إذا كان مباحا لشخص كان مباحا لكل من كان على مثل حاله - فإذن من احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص، بتلك الحيلة لا يفهمها ولا يعلمها، لأن الفقهاء كلهم يشركونه في فهمها والناس كلهم يساوونه في عملها، وإنما فضيلة الفقيه إذا حدثت حادثة أن يتفطن لاندراج هذه الحادثة تحت الحكم العام الذي يعلمه هو وغيره، أو يمكنهم معرفته بأدلته العامة نصا أيضا واستنباطا فأما الحكم فمتقرر قبل تلك الحادثة فإذن احتياج الناس إلى الحيل لا يجدد أحكاما شرعية لم تكن مشروعة قبل ذلك بل الأحكام مستقرة وجدت تلك الحاجة، أو لم توجد، فإن كان الشارع قد جعل الحكم يتغير بتغير تلك الحاجة كان حكما عاما وجدت حاجة ذلك الشخص المعين، أو لم توجد، وإن لم يكن جعل لتلك الحاجة تأثيرا في الحكم فالحكم واحد سواء وجدت تلك الحاجة مطلقا، أو لم توجد، والله سبحانه إنما كاد ليوسف كيدا جزاء منه على صبره، وإحسانه وذكره في معرض المنة عليه فلو لم يكن ليوسف عليه السلام اختصاص بذلك الكيد لم يكن في مجرد عمل الإنسان أمر مباح له ولغيره منة عليه في مثل هذا المقام فعلم أن المنة كانت عليه في أن ألهم العمل بما كان مباحا قبل ذلك فإنه قد يلهم العبد ما لا يلهمه غيره، ولهذا قال بعض المفسرين في قوله تعالى { كدنا } صنعنا، وبعضهم قال ألهمنا يوسف . واعلم أن أكثر حيل الربا أغلظ في بابها من التحليل في بابه، ولهذا حرمها، أو بعضها من لم يحرم التحليل، لأن القصد في البيع معتبر عند العامة فلا يصح بيع الهازل، بخلاف نكاحه، ولأن الاحتيال في الربا غالبا إنما يتم في المواطأة اللفظية أو العرفية، ولا يفتقر عقد الربا إلى شهادة، ولكن يتعاقدان، ثم يشهدان له في ذمته دينا، ولهذا إنما لعن شاهداه إذا علما به، والتحليل لا يمكن إظهاره وقت العقد لكون الشهادة شرطا فيه، والشروط المتقدمة مؤثرة عند عامة السلف، وإن نقل عن بعضهم أن مجرد النية لا يؤثر، وجماع هذا أنه إذا اشترى منه ربويا وهو يريد أن يشتري بثمنه منه من جنسه، فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظا، أو يكون العرف قد جرى بذلك، وإما أن لا يكون كذلك، فإن كان كذلك فهو عقد باطل، لأن ملك الثمن غير مقصود، فلا قوله أولا بعتك هذا بألف مثلا صحيح، ولا قوله ثانيا ابتعت هذا بألف، فإنه لم يقصد أولا ملك الألف، ولم يقصد ثانيا التمليك بها، ولم يقصد الآخر تمليك الألف أولا ولا ملكها ثانيا، بل القصد تمليك التمر بالتمر مثلا إن لم تجر بينهما مواطأة، لكن قد علم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه فهو كذلك، لأن علمه بذلك يمنع كلا منهما أن يقصد الثمن في العقدين بل علمه به ضرب من المواطأة العرفية، وإن كان قصد البائع الشراء منه ولم يعلم المشتري فهنا قال الإمام أحمد لو باع من رجل دنانير بدنانير لم يجز أن يشتري بالدراهم منه ذهبا إلا أن يمضي ليبتاع بالورق من غيره ذهبا فلا يستقيم فيجوز أن يرجع إلى الذي ابتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبا، وكذلك كره منك أن تصرف دراهمك من رجل بدنانير، ثم تبتاع منه بتلك الدنانير دراهم غير دراهمك وغير عيونها في الوقت، أو بعد يوم، أو يومين، قال ابن القاسم: فإن طال الزمان وصح أمرها فلا بأس به، فالذي ذكره الإمام أحمد، لأنه من قصد الشراء منه بتلك الدنانير لم يقصد تمليك الثمن، ولهذا لا يحتاط في النقد والوزن فمتى بدا له بعد القبض والمفارقة أن يشتري منه بأن يطلب من غيره فلا يجد لم يكن في العقد الأول خلل، ثم إن المتقدمين من أصحابه حملوا هذا المنع على التحريم، وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما: إذا لم يكن عن حيلة ومواطأة لم يحرم، وقد أومأ إليه أحمد فيما رواه عنه الكرماني، قال قلت لأحمد: رجل اشترى من رجل ذهبا ثم باعه منه ؟ قال: يبيعه من غيره أعجب إلي، وذكر ابن عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى، وقد نقل عن ابن سيرين أنه كان يكره للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير، ثم يشتري منه بالدراهم دنانير، وفي رواية عنه قال: إن بعضهم ليفعل ما هو أقبح من الصرف، وهذا إخبار عما كانت الصحابة عليه فإن ابن سيرين من أكابر التابعين فلا ينقل الكراهة المطلقة إلا عن الصحابة .

وهذه المسألة عكس مسائل العينة وهي في ربا الفضل كمسائل العينة في ربا النساء، لأن هذا يبيع بالثمن، ثم يعيده إليه ويأخذ به، ومثلها في ربا النساء أن يبيع ربويا بنسيئة، ثم يشتري بثمنه ما لا يباع به نسيئة - وهذه المسألة مما عدها من الربا الفقهاء السبعة وأكثر العلماء مثل مالك وأحمد وغيرهما، وأظنه مأثورا عن ابن عمر وغيره ففي هذين الموضعين قد عاد الثمن إلى المشتري وأفضى إلى ربا الفضل، أو ربا النساء، وفي مسائل العينة قد عاد المبيع إلى البائع وأفضى إلى ربا الفضل والنساء جميعا، ثم إن كان في الموضعين لم يقصد الثمن ولا المبيع، وإنما جعل وصلة إلى الربا فهذا لا ريب في تحريمه، والعقد الأول هنا باطل فلا يوقف فيه عند من يبطل الحيل، وكلام أحمد وغيره من العلماء في ذلك كثير، وقد صرح به القاضي في مسألة العينة في غير موضع وغيره من العلماء، وإن كان أبو الخطاب وغيره قد جعل في صحته وجهين، فإن الأول هو الصواب، وإنما تردد من تردد من أصحابنا في العقد الأول في مسألة العينة، لأن هذه المسألة إنما ينصب الخلاف فيها في العقد الثاني بناء على أن الأول صحيح، وعلى هذا التقرير فليست من مسائل الحيل، وإنما هي من مسائل الذرائع، ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم عند أبي حنيفة وأصحابه، وهو كون الثمن إذا لم يستوف لم يتم العقد الأول، فيصير الثاني مبنيا عليه، وهذا تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع أيضا، فصار لها ثلاثة مآخذ، فلما لم يمتحض تحريمها على قاعدة الحيل توقف في العقد الأول من توقف، والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطيت حكم الحيل، وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران، هذا إذا لم يقصد العقد الأول، وإن كان العقد الأول مقصودا حقيقة فهو صحيح، لكن ما دام الثمن في ذمة المشتري لم يجز أن يشتري منه البيع بأقل منه من جنسه، ولا يجوز أن يبتاع منه الثمن ربويا، لا يباع بالأول نسئا، لأن أحكام العقد الأول لا تستوفى إلا بالتقابض، فمتى لم يحصل التقابض كان ذريعة إلى الربا، وإن تقابضا وكان العقد مقصودا فله أن يشتري منه كما يشتري من غيره، وإذا كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصودة المشروعة التي لا خداع فيها ولا تحريم لم يصح أن يلحق فيها صورة عقد لم يقصد حقيقته من ملك الثمن والمثمن، وإنما قصد به استحلال ما حرمه الله من الربا وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: { بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا } فليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه: أحدها: أن النبي ﷺ أمره أن يبيع سلعته الأولى، ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى، ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح، ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب، ونحن نقول كل بيع صحيح فإنه يفيد الملك ولا يكون ربا، لكن الشأن في بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة والتابعين على أن ظاهرها، وإن كان بيعا فإنها ربا وهي بيع فاسد، ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل في الحديث، ولو اختلف رجلان في بيع هل هو صحيح، أو فاسد، وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح، فمتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث، فتبين أنه لا حجة فيه على صحة صورة النزاع ألبتة، والنكتة أن يقال: الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ونحن لا نسلم أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على الاشتراء بالثمن من المشتري شيئا من جنس الثمن الربوي بيع صحيح، وإنما البيع الصحيح الاشتراء من غيره، أو الاشتراء منه بعد بيعه بيعا مقصودا ثابتا لم يقصد به الشراء منه، الوجه الثاني: أن الحديث ليس فيه عموم، لأنه قال: { وابتع بالدراهم جنيبا } والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرا بشيء من قيودها، لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد وقدر المشترك ليس هو ما يتميز به كل واحد من الأفراد عن الآخر ولا هو ملتزما له فلا يكون الأمر بالمشترك أمرا بالمميز بحال، نعم مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاما لها على سبيل البدل، لكن ذلك لا يقتضي العموم للأفراد على سبيل الجمع وهو المطلوب، فقوله مع هذا: الثبوت لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد، أو عمر ولا بكذا، أو كذا ولا بهذا السوق، أو هذه، فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممثلا من جهة وجدد تلك الحقيقة لا من جهة وجود تلك القيود، وهذا الأمر لا خلاف فيه، لكن بعض الناس يعتقد أن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة، وهذا خطأ، إذا تبين ذلك: فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاع من المشتري، ولا أمره أن يبتاع من غيره فالحديث لا يدل لفظه على شيء من ذلك بعينه، ولا على جميع ذلك مطابقة ولا تضامنا ولا التزاما، كما لا يدل على بيعه وقبض الثمن، أو ترك قبضه وبيعه بثمن المثل أو دون ثمن المثل وبنقد البلد، أو غير نقد البلد وبثمن حال، أو مؤجل، فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلا لكن اللفظ لا يمنع الإجزاء إذا أتى بها، وإنما استفيد عدم الامتثال إذا بيع بدون ثمن المثل أو بغير نقد البلد، أو بثمن مؤجل، والأمر بقبض الثمن من العرف الذي يثبت البيع المطلق، وكذلك أيضا ليس فيه أنه يبيعه من المشتري على أن يشتري بالثمن منه ولا غير ذلك، وإنما يستفاد ذلك من دلالة أخرى منفصلة فيما أباحته الشريعة جاز فعله وما لا فلا، وبهذا يظهر الجواب عن قول من يقول لو كان الابتياع من المشتري حراما لنهى عنه، فإن مقصوده ﷺ إنما كان بيان الطريق التي بها يحصل شراء التمر الجيد لمن عنده رديء، وهو أن يبيع الرديء بثمن، ثم يبتاع بالثمن جيدا، ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه، لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة، أو لأن المخاطب يفهم البيع الصحيح فلا يحتاج إلى بيان فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص كما لا يحتج به على نفي سائر الشروط، وما هذا إلا بمثابة قوله تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود }، فإن المقصود بيان حل الأكل في هذا الوقت فمن احتج به على حد نوع المأكولات، أو صفة من صفات الأكل كان مبطلا، إذ لا عموم في اللفظ لذلك كما ذكرناه سواء وليس الغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يقال: هذه الصورة غالبة فكان ينبغي التحذير منها كما حذر السلف مثل ذلك في الصرف، لأن سعر الدراهم والدنانير في الغالب معروف، والغالب أن من يريد أن يبيع نقدا ليشتري نقدا آخر إذا باعه للصيرفي بذهب ابتاع بالذهب منه النقد الآخر ولهذا حذروا منه، وأما التمر والبر ونحوهما من العروض فإن من يقصد بيعه لا يقصد به مشتريا مخصوصا، بل يعرضه على أهل السوق عامة، أو يضعه حيث يقصدونه، أو ينادي عليه، فإذا باعه الواحد منهم فقد تكون عنده السلعة التي يريدها وقد لا تكون، ومثل هذا إذا قال الرجل لوكيله: بع هذه الثياب الكتان واشتر لنا بالثمن ثياب قطن، أو بع هذه الحنطة العتيقة واشتر لنا بالثمن جديدة لا يكاد يخطر بباله الاشتراء من ذلك المشتري بل يشتري من حيث وجد غرضه عند غيره أغلب من وجوده عنده، فالغرض في بيع العروض أو ابتياعها لا يغلب وجوده عند واحد بخلاف الأثمان، وإذا كانت هذه صورة قليلة لم يجب التحذير منها إذا لم يكن اللفظ متناولا لها كما لو يحذر من سائر العقود الفاسدة، ولهذا إنما يتكلم الفقهاء في المنع من الشراء من المشتري في الصرف، لأنه في الغالب، بخلاف العروض، وثبت أن الحديث ليس له إشعار بالابتياع من المشتري ألبتة، الوجه الثالث: أن قوله ﷺ: { بع الجمع بالدراهم } إنما يفهم منه البيع المقصود الخالي عن شرط يمنع كونه مقصودا بخلاف البيع الذي لا يقصد، والدليل عليه أنه لو قال: بعت هذا الثوب، أو بع هذا الثوب لم يفهم منه بيع المكره ولا بيع الهازل، وإنما يفهم منه البيع الذي قصد به نقل الملك، فإذا جاء إلى تمار فقال: أريد أن أشتري منك بالتمر الرديء تمرا جيدا فيشتريه منه بكذا درهما ويعني بالدراهم كذا تمرا جيدا لم يكن قصده ملك الثمن الذي هو الدراهم ألبتة، وإنما القصد بيع تمر بتمر فلا يدخل في الحديث، وتقرير هذا الكلام قد مضى، يبين هذا: أن مثل هذين قد يتراضيان أولا عن بيع التمر بالتمر ثم يجعلان الدراهم محللا، وتقريره أن الوكيل في البيع مأمور بالانتقاد والاتزان والقبض مع القرينة ونحو ذلك من مقاصد العقد، وإذا كان المقصود رد الثمن إليه لم يحرر النقد والوزن والقبض، ومثل هذا في الإطلاق لا يسمى بيعا، ولو قال الناس: فلان باع داره لم يفهم منه إلا صورة لا حقيقة لها فلا تدخل هذه الصورة في لفظ البيع لانتفاء مسمى البيع المطلق، الوجه الرابع: أن النبي ﷺ نهى عن بيعتين في بيعة، ومتى تواطأ على أن يبيعه بالثمن، ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة فلا يكون داخلا في الحديث، يبين ذلك أنه ﷺ قال بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا، وهذا يقتضي بيعا ينشئه ويبتديه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقنا على العقدين معا فلا يكون داخلا في حديث الأمر بل في حديث النهي، وتأتي إن شاء الله تعالى تقرير أن الشروط المؤثرة في العقود لا فرق بين مقارنها ومتقدمها، الوجه الخامس: أنه لو فرض أن في الحديث عموما لفظيا فهو مخصوص بصور لا تعد ولا تحصى، فإن كل بيع فاسد لا يدخلها فيه فيضعف دلالته ويخص منه الصور التي ذكرناها بالأدلة المتقدمة التي هي نصوص في بطلان الحيل وهي من الصور المكثورة فإخراجها من العموم من أسهل الأشياء، وانظر قوله ﷺ: { لعن الله المحلل والمحلل له } فإنه عام عموما لفظيا ومعنويا، لم يثبت أنه خص منه شيء، ولم يعارضه نص آخر، فأيما أول بالتخصيص هو أو قوله: { بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا }، مع أنه ليس بعام لفظا ولا معنى، بل هو مطلق، وقد خرج منه صور كثيرة فتخرج منه هذه الصورة بنصوص وآثار وقياس دل على ذلك، أعني صورة الابتياع من المشترى منه، فهذه الأقسام السبعة التي قسمناها ما تسمى حيلة إليها إذا تأملها اللبيب علم الفرق بين هذين الآخرين وبين الأقسام الخمسة، وقد تضمن هذا التقسيم الدلالة على بطلان الخمسة والفرق بينها وبين الآخرين والله أعلم . الوجه السابع عشر أن النبي ﷺ أخبر: { أن أول ما يفقد من الدين الأمانة، وآخر ما يفقد منه الصلاة }، وحدث عن رفع الأمانة من القلوب الحديث المشهور وقال: { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم } فذكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة، ثم ذكر أن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن، وهذه أحاديث صحيحة مشهورة، ومعلوم أن العمل بالحيل يفتح باب الخيانة والكذب، فإن كثيرا من الحيل لا يتم إلا أن يتفق الرجلان على عقد يظهرانه ومقصودهما أمر آخر، كما ذكرنا في التمليك للوقف، وكما في الحيل الربوية، وحيل المناكح، وذلك الذي اتفقا عليه إن لزم الوفاء به كان العقد فاسدا، وإن لم يلزم فقد جوزت الخيانة والكذب في المعاملات، ولهذا لا يطمئن القلب إلى من يستحل الحيل خوفا من مكره، وإظهاره ما يبطن خلافه وفي الصحيحين، عن النبي ﷺ أنه قال: { المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم }، والمحتال غير مأمون، وفي حديث ابن عمر { أن النبي ﷺ قال لعبد الله بن عمر: كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم واختلفوا فصاروا هكذا وشبك بين أصابعه قال: فكيف أفعل يا رسول الله ؟ قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر وتقبل على خاصتك وتدعهم وعوامهم }، وهو حديث صحيح وهو في بعض نسخ البخاري، والحيل توجب مرج العهود والأمانات وهو قلقها واضطرابها، فإن الرجل إذا سوغ له من يعاهد عهدا، ثم لا يفي به، أو أن يؤمن على شيء فيأخذ بعضه بنوع تأويل ارتفعت الثقة به وأمثاله، ولم يؤمن في كثير من الأشياء أن يكون كذلك، ومن تأمل حيل أهل الديوان وولاة الأمور التي استحلوا بها المحارم، ودخلوا بها في الغلول والخيانة، ولم يبق لهم معها عهد ولا أمانة علم يقينا أن الاحتيال والتأويلات أوجب عظم ذلك، وعلم خروج أهل الحيل من قوله: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون }، وقوله: { يوفون بالنذر } ومخالفتهم لقوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }، وقوله: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها }، وقوله تعالى: { أوفوا بالعقود }، وقوله ﷺ: { أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك } رواه أبو داود وغيره ودخولهم في قوله تعالى: { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ودخولهم في قوله ﷺ: { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر } وقوله ﷺ: { ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته فيقال هذه غدرة فلان } متفق عليهما، وهذا الوجه مما أشار إليه الإمام أحمد رضي الله عنه قال: عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان يبطلون الأيمان بالحيل وقال الله تعالى: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } وقال تعالى: { يوفون بالنذر } وكان ابن عيينة يشتد عليه أمرهم وأمر هذه الحيل، واستقصاء هذا يطول، وإنما القصد التنبيه - وتمام هذا في : الوجه الثامن عشر وهو أن الله سبحانه أوجب في المعاملات خاصة وفي الدين عامة النصيحة والبيان، وحرم الخلابة والغش والكتمان، ففي الصحيحين عن جرير قال: { بايعت رسول الله ﷺ على النصح لكل مسلم، فكان من نصحه أنه اشترى من رجل دابة، ثم زاده أضعاف ثمنه لما رأى أنه يساوي ذلك وأن صاحبه مسترسل }، وعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: { الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم }، رواه مسلم وغيره وعن أبي هريرة رضي الله عنه { أن رسول الله ﷺ مر برجل يبيع طعاما فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول فقال: من غشنا فليس منا } رواه مسلم وغيره، وروى الإمام أحمد مثله من حديث أبي بردة بن نيار، فإذا كانت النصيحة لكل مسلم واجبة وغشه حراما، فمعلوم أن المحتال ليس بناصح للمحتال عليه بل هو غاش له، بل الحيلة أكبر من ترك النصح وأقبح من الغش، وهذا بين يظهر مثله في الحيل التي تبطل الحقوق التي ثبتت، أو تمنع الحقوق أن تثبت، أو توجب عليه شيئا لم يكن ليجب، وعن حكيم بن حزام قال: { قال رسول الله ﷺ: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما } متفق عليه، فالصدق يعم الصدق فيما يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل، والبيان يعم بيان صفات المبيع ومنافعه، وكذلك الكذب والكتمان، وإذا كان الصدق والبيان واجبين في المعاملة موجبين للبركة، والكذب والكتمان محرمين ماحقين للبركة فمعلوم أن كثيرا من الحيل أو أكثرها لا يتم إلا بوقوع الكذب، أو الكتمان أو تجويزه، وأنها مع وجوب الصدق، أو وقوعه لا تتم، مثال ذلك إذا احتال على أن يبيعه سلعة بألف، ثم يشتريها منه بأكثر نسيئة، أو يبيعها بألف ومائة نسيئة ثم يشتريها بألف نقدا، فإن وجب على كل واحد منهما أن يصدق الآخر، كان الوفاء بهذا واجبا، فيلزم فساد العقد بالاتفاق، لأن مثل هذا الشرط إذا قدر أنه لازم في العقد أبطل العقد بالإجماع، وإن جوز للرجل أن يخلف ما اتفقا عليه، فقد جوز للرجل أن يكذب صاحبه وهو ركوب لما حرمه الرسول ﷺ، والدليل على أن هذا نوع من الكذب قوله تعالى : { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون }، وإنما كذبهم إخلاف قولهم: { لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين }، وكذلك لو كان في عزم أحدهما أن لا يفي للآخر بما تواطآ عليه، فإن جاز كتم هذا وترك بيانه فهو مخالفة للحديث، وإن وجب إظهاره لم تتم الحيلة فإن الآخر لم يرض إلا إذا غلب على ظنه أن الآخر يفي له، ثم في الحديث دلالة على تحريم التدليس والغش وكتمان العيوب في البيوع كما روى عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: { المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له } رواه ابن ماجه بإسناد رجاله ثقات على شرط البخاري إلى ابن شماسة وابن شماسة قد وثقوه وخرج له مسلم، وقال البخاري في صحيحه قال عقبة بن عامر: { لا يحل لمسلم أن يبيع سلعة يعلم أن بها داء إلا أخبره }، وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله ﷺ: { لا يحل لأحد أن يبيع شيئا إلا بين ما فيه ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه } رواه الإمام أحمد ولابن ماجه: { من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت من الله ولم تزل الملائكة تلعنه }، وعن عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العداء بن خالد بن هوذة ألا أقرئك كتابا كتبه لي رسول الله ﷺ ؟ قال قلت: بلى فأخرج لي كتابا: { هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله ﷺ اشترى منه عبدا، أو أمة بيع المسلم للمسلم لا داء ولا غائلة ولا خبثة } رواه النسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب، وذكره البخاري تعليقا بلفظ:، ويذكر عن العداء بن خالد وقال في الحيل { وقال النبي ﷺ: بيع المسلم لا داء ولا غائلة ولا خبثة }، وقوله ﷺ: " بيع المسلم " دليل على أنه موجب العقد المطلق، وأن اشتراطه بيان لموجب العقد وتوكيد له، فهذا النبي ﷺ قد بين أن مجرد سكوت أحد المتبايعين عن إظهار ما لو علمه الآخر لم يبايعه من العيوب وغيرها إثم عظيم وحرم هذا الكتمان وجعله موجبا لمقت الله سبحانه، وإن كان الساكت لم يتكلم ولم يصف ولم يشترط، إنما ذاك، لأن ظاهر الأمر الصحة والسلامة فيبني الآخر الأمر على ما يظنه من الظاهر الذي لم يصفه الآخر بلسانه وذلك نوع من الغرور له والتدليس عليه، ومعلوم أن الغرور بالكلام والوصف إثم فإذا غره بأن يظهر له أمرا ثم لا يفعله معه فإن ذلك أعظم في الغرور والتدليس، وأين الساكت من الناطق،، فيجب أن يكون أعظم إثما، وأبلغ من ذلك أن يريد الرجل أن ينشئ عقد بيع، أو هبة، أو غير ذلك فيؤمر بإقرار ولا يبين له حكم الإقرار فيقر إقرارا يلزم بموجبه ويكون موجبه مخالفا لمقصوده من البيع والهبة، أو يأمره بتسمية كثيرة على الثمن في البيع لإسقاط الشفعة، ثم يصادق على نصفه بدينار ونحوه ولا يبين له ما يلزمه بهذا من وجوب رد الثمن الأول إذا فسخ البيع بعيب ونحوه فأين هذا الغرور والتدليس من مجرد السكوت عن بيان حال السلعة ؟

الوجه السادس عشر أن الحيل مع أنها محدثة كما تقدم فإنها أحدثت بالرأي، وإنما أحدثها من كان الغالب عليهم اتباع الرأي فما ورد في الحديث والأثر من ذم الرأي وأهله فإنما يتناول الحيل فإنها رأي محض ليس فيه أثر عن الصحابة ولا له نظير من الحيل ثبت بأصل فيقاس عليه بمثله، والحكم إذا ثبت بأصل ولا نظير كان رأيا محضا باطلا، يحقق هذا: أنها إنما نشأت ممن كان من المفتين قد غلب بفسق الرأي وتصريفه وكان تلقيهم للأحكام من جهة أغلب من تلقيها من جهة الآثار، ثم هذا الرأي لمن تأمله أكثر ما فيه من فساد إنما هو من جهة الحيل التي دققت الدين وجراه على اعتداء الحدود واستحلال المحارم، وإن كان في هذا الرأي أيضا تشديد ما سهلته السنة، وهذا مثل ما روى عبد الله بن عمرو وقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: { إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون فيضلون ويضلون }، رواه البخاري بهذا اللفظ والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما لكن اللفظ المشهور: { فأفتوا بغير علم } إلى أحاديث أخر مثل حديث: يروى عن عيسى بن يونس عن جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك قال قال رسول الله ﷺ: { تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فئة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال } - وهذا الحديث مشهور عن نعيم بن حماد المروزي وهو ثقة إمام إلا أنه قد نقل عن ابن معين أنه قال هذا حديث باطل ليس له أصل شبه فيه على نعيم ونقل هذا عن غير ابن معين، ومع هذا فقد نقل عن جماعة آخرين عن عيسى بن يونس وبعض الناس يقول: سرقوه من نعيم ولا حجة لمن يقول ذلك في بعض الناس، وممن رواه عن عيسى أيضا سويد بن سعيد وكان أحمد يثني عليه وكذا يثني لوالديه عليه ورواه عنه مسلم وغيره وقد أنكر عليه ابن معين بتفرده بحديث، ثم وجدوا له أصلا عند غيره قال أبو أحمد بن عدي قال جعفر الفريابي وقفت سويدا على هذا الحديث بعد أن حدثني به ودار بيني وبينه كلام كثير وهذا إنما يعرف بنعيم بن حماد رواه عن عيسى بن يونس فتكلم الناس فيه بجرأة ورواه رجل من أهل خراسان يقال له الحكم بن المبارك، ويقال: إنه لا بأس به، ثم سرقه منه قوم ضعفاء فهذا القدر الذي ذكر لا يوجب تركه قدحا في الحديث إذا رواه عدة من الثقات وروته طائفة عن نعيم عن عيسى وطائفة عنه عن ابن المبارك عن عيسى وهذا القدر قد يحتج به من لا يرى الحديث محفوظا وقد يجيب عنه من يحتج له بأن هذا من إتقان نعيم فإنه كان قد سمعه من ابن المبارك، ثم سمعه من عيسى فرغبته في علو الإسناد بتحمله على الرواية عن عيسى ورغبته في التحمل بابن المبارك تحمله على الرواية عنه وفي الجملة فإسناده في الظاهر جيد إلا أن يكون قد اطلع فيه على علة خفية ومعناه شبيه بالواقع، فإن فتوى من مفت في الحلال والحرام برأي يخالف السنة أضر عليهم من أهل الأهواء، وقد ذكر هذا المعنى الإمام أحمد وغيره، فإن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت، وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة بخلاف الفتيا فإن أدلتها من السنة قد لا يعرفها إلا الأفراد ولا يميز ضعيفها في الغالب إلا الخاصة، وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير، وقد جاء مثل معناه محفوظا من حديث المجالد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال: { ليس عام إلا الذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم }، وهذا الذي في حديث ابن مسعود وهو بعينه الذي في حديث النبي ﷺ حيث قال: { ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون }، وفي ذم الرأي آثار مشهورة عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وكذلك عن التابعين بعدهم بإحسان، فيها بيان أن الأخذ بالرأي يحلل الحرام ويحرم الحلال، ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأي لم يقصد بها اجتهاد الرأي على الأصول من الكتاب والسنة والإجماع في حادثة لم توجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع ممن يعرف الأشباه والنظائر، وفقه معاني الأحكام فيقيس قياس تشبيه وتمثيل، أو قياس تعليل وتأصيل قياسا لم يعارضه ما هو أولى منه، فإن أدلة جواز هذا المفتي لغيره والعامل لنفسه ووجوبه على الحاكم والإمام أشهر من أن تذكر هنا، وليس في هذا القياس تحليل لما حرمه الله سبحانه، ولا تحريم لما حلله الله، وإنما القياس والرأي الذي يهدم الإسلام ويحلل الحرام ويحرم الحلال ما عارض الكتاب والسنة، أو ما كان عليه سلف الأمة، أو معاني ذلك المعتبرة، ثم مخالفته لهذه الأصول على قسمين: أحدهما: أن يخالف أصلا مخالفة ظاهرة بدون أصل آخر، فهذا لا يقع من مفت إلا إذا كان الأصل مما لم يبلغه علمه كما هو الواقع من كثير من الأئمة لم يبلغهم بعض السنن فخالفوها خطأ، وأما الأصول المشهورة فلا يخالفها مسلم خلافا ظاهرا من غير معارضة بأصل آخر فضلا عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا، الثاني: أن يخالف الأصل بنوع تأويل وهو فيه مخطئ، بأن يضع الاسم على غير موضعه، أو على بعض موضعه، ويراعي فيه مجرد اللفظ دون اعتبار المقصود لمعنى أو غير ذلك، والحيل تندرج في هذا النوع على ما لا يخفى، والدليل على أن هذا القسم مراد من هذه الأحاديث أشياء، منها أن تحليل الشيء إذا كان مشهورا فحرمه بغير تأويل، أو كان التحريم مشهورا فحلله بغير تأويل كان ذلك كفرا وعنادا، ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأسا قط إلا أن تكون قد كفرت، والأمة لا تكفر قط، وإذا بعث الله ريحا تقبض أرواح المؤمنين لم يبق حينئذ من يسأل عن حلال وحرام، وإذا كان التحريم، أو التحليل غير مشهور فخالفه مخالف لم يبلغه فمثل هذا لم يزل موجودا من لدن زمن أصحاب النبي ﷺ ثم هذا إنما يكون في آحاد المسائل فلا تضل الأمة ولا ينهدم الإسلام، ولا يقال لمثل هذا: إنه محدث عند قبض العلماء وذهاب الأخيار والصالحين، فظهر أن المراد استحلال المحرمات الظاهرة بنوع تأويل وهذا بين في الحيل، فإن تحريم السفاح، والربا، والمعلق طلاقها الثلاث - بصفة إذا وجدت -، وتحريم الخمر، وغير ذلك، هو من الأحكام الظاهرة التي لا يجوز أن يخفى على الأمة تحريمها في الجملة، وإنما يضل من يفتي بالرأي ويضل، ويحل الحرام، ويحرم الحلال ويهدم الإسلام إذا احتال على حلها بحيل وسماها نكاحا وبيعا وخلعا وقاس ذلك على النكاح المقصود والبيع المقصود والخلع المقصود فيبقى مع من يستفتيه صورة الإسلام وأسماء آياته دون معانيه وحقائقه وهذا هو الضال، لأن الضال الذي يحسب أنه على حق وهو على باطل كالنصارى وهو هدم للإسلام، ومما يبين ذلك أن من أكثر أهل الأمصار قياسا وفقها أهل الكوفة حتى كان يقال: فقه كوفي وعبادة بصرية، وكان عظم علمهم مأخوذا عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وكان أصحاب عبد الله وأصحاب عمر وأصحاب علي من العلم والفقه بمكان الذي لا يخفى، ثم قد كان أفقههم في زمانه إبراهيم النخعي كان فيهم بمنزلة سعيد بن المسيب في أهل المدينة، وكان يقول: " إني لأسمع الحديث الواحد فأقيس به مائة حديث " ولم يكن يخرج عن قول عبد الله وأصحابه، وكان الشعبي أعلم بالآثار منه، وأهل المدينة أعلم بالسنة منهم، وقد يوجد لقدماء الكوفيين أقاويل متعددة فيها مخالفة لسنة لم تبلغهم، ولم يكونوا مع ذلك مطعونا فيهم، ولا كانوا مذمومين بل لهم من الإسلام مكان لا يخفى على من علم سيرة السلف، وذلك، لأن مثل هذا قد وجد لأصحاب رسول الله ﷺ لأن الإحاطة بالسنة كالمتعذر على الواحد، أو النفر من العلماء، ومن خالف ما لم يبلغه فهو معذور، ولم يكونوا مع هذا يقولون بالحيل ولا يفتون بها بل المشهور عنهم ردها والإنكار لها، واعتبر ذلك بمسألة التحليل، فإن السنة المشهورة في لعن المحلل والمحلل له، وإن كانت قد خرجت من الحرمين ومصر والعراق فإن أشهر حديث فيها مخرجه من أهل الكوفة عن عبد الله بن مسعود وأصحابه، وفقيه القوم إبراهيم قد قدمنا عنه أنه كان يقول: إذا نوى أحد الثلاثة التحليل فهو نكاح فاسد الأول والثاني، وهذا القول أشد من قول المدنيين فمن يكون هذا قوله هل يمكن أن يعتقد صحة الحيل وجوازها، وكذلك أقوالهم في الحيل الربوية تدل على قوة رد القوم للحيل، فإن حديث عائشة في مسألة العينة مخرجه من عندهم، وقولهم فيها معروف وقال إبراهيم في الرجل يقرض الرجل دراهم فيرد عليه أجود من دراهمه: لا بأس بذلك ما لم يكن شرط، أو نية، وكان الأسود بن يزيد إذا خرج عطاؤه دفعه إلى رجل فقال: اذهب فبعه بدنانير، ثم بع الدنانير من رجل آخر ولا تبعها من الذي اشتريت منه، وقال حماد بن أبي سليم إذا بعت الدنانير بالدراهم غير مخادعة ولا مدالسة فإن شئت اشتريتها منه، فهؤلاء سرج أهل الكوفة وأئمتهم، وهذه أقوالهم، ولقد تتبعنا هذا الباب فلم نظفر لأحد من أهل الكوفة المتقدمين بل ولا لأحد من أئمة سائر أهل الأمصار من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة من الصحابة والتابعين في مسائل الحيل إلا النهي عنها والتغليظ فيها، فلما حدث من بعض مفتيهم القول بالحيل والدلالة عليها انطلقت الألسنة بالذم لمن أحدث ذلك وظهر تأويل الآثار في هذا الضرب، ومما يدل على هذا: ما ذكره الإمام إسحاق بن راهويه ذكر حديث عبد الله بن مسعود: { كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويجري الناس عليها فيتخذونها سنة } قال إسحاق قال ابن مهدي ونظراؤه من أهل العلم: إن هذه الفتنة لفتنة يعني أهل هذا الرأي لا شك في ذلك، لأنه لم يكن فيما مضى فتنة جرى الناس عليها فاتخذوها سنة حتى ربا الصغير وهرم الكبير إلا فتنة هؤلاء، وهي علامتهم إذا كثر القراء وقل العلماء وتفقه لغير الدين، وقوله: { أحلوا الحرام وحرموا الحلال } مطابق للواقع، فإن الاحتيال على إسقاط الحقوق مثل حق الشفيع وحق الرجل في امرأته، وغير ذلك إذا احتيل عليها حرمت على الرجل ما أحل الله له، وكثير من الرأي ضيق ما وسعته السنة فاحتاج صاحبه إلى أن يحتال للتوسعة، مثل انتفاع المرتهن بالظهر والدار إذا أنفق بقدر ما انتفع، ومثل باب المساقاة والمزارعة فإن من اعتقد تحريم هذا خالف السنة الثابتة، وما كان عليه الخلفاء الراشدون وغيرهم، وما عليه عمل المسلمين من عهد نبيهم إلى يومهم اضطره الحال إلى نوع من الحيل يستحل بها ذلك، ثم إنه لو لم يكن بها سنة لكان إلحاقها بالمضاربة لأنها بها أشبه وأولى من إلحاقها بالإجارة لأنها منها أبعد، ومما يبين ذلك، أن الرأي كان واقعا عندهم على ما يتضمن الحيل: أن بشر بن السري وهو من العلماء الثقات المتقدمين أدرك العصر الذي اشتهر فيه الرأي وهو ممن أخذ عنه الإمام أحمد وطبقته قال: " نظرت في العلم فإذا هو الحديث والرأي فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين، وذكر الموت وذكر ربوبية الرب وجلاله وعظمته وذكر الجنة والنار والحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام وجماع الخير، ونظرت في الرأي فإذا فيه المكر والخديعة والتشاح واستقصاء الحق والمماكسة في الدين واستعمال الحيل والبعث على قطع الأرحام والتجرؤ على الحرام "، وروي مثل هذا الكلام عن يونس بن أسلم، وقال أبو داود سمعت أحمد وذكر الحيل من أصحاب الرأي فقالوا: يحتالون لنقض سنة رسول الله ﷺ مثل هذا كثير في كلام أهل ذلك العصر فعلم أن الرأي المذموم يندرج فيه الحيل وهو المطلوب .

الوجه التاسع عشر ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي قال: { استعمل نبي الله ﷺ رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي إلي إلى أن قال فقام رسول الله ﷺ على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا لكم وهذا هدية أهديت لي هلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتي هديته إن كان صادقا والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة فلا أعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر - ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه يقول - اللهم هل بلغت } فوجه الدلالة أن الهدية هي عطية يبتغي بها وجه المعطي وكرامته فلم ينظر النبي ﷺ إلى ظاهر الإعطاء قولا وفعلا ولكن نظر إلى قصد المعطين ونياتهم التي تعلم بدلالة الحال فإن كان الرجل بحيث لو نزع عن تلك الولاية أهدي له تلك الهدية لم تكن الولاية هي الداعية للناس إلى عطيته وإلا فالمقصود بالعطية إنما هي ولايته إما ليكرمهم فيها أو ليخفف عنهم أو يقدمهم على غيرهم أو نحو ذلك مما يقصدون به الانتفاع بولايته أو نفعه لأجل ولايته، والولاية حق لأهل الصدقات فما أخذ من المال بسببها كان حقا لهم سواء كان واجبا على المعطي أو غير واجب، كما لو تبرع أحدهم بزيادة على الواجب قدرا أو صفة وذلك العمل الذي يعمله الساعي صار لأهل الصدقات إما بالجعل الذي يجعل له أو بكونه قد تبرع به لهم، فكل ما حصل من المال بسببه فهو لهم، إذا علم ذلك فنقول: هذه الهدية لم يشترط فيها أن تكون لأهل الصدقات لا شرطا مقترنا بالعقد ولا متقدما عليه، ومع هذا فلما كانت دلالة الحال تقتضي أن القصد بها ذلك كانت تلك هي الحقيقة التي اعتبرها النبي ﷺ فكان هذا أصلا في اعتبار المقاصد ودلالات الحال في العقود فمن أقرض رجلا ألفا وباعه ثوبا يساوي درهما بخمسمائة علم أن تلك الألف إنما أقرضت لأجل تلك الزيادة في ثمن الثوب، وإلا فكان الثوب يترك في بيت صاحبه ثم ينظر المقترض أكان يقرض تلك الألف أم لا، وكذلك بايعه ليترك القرض ثم ينظر هل يبتاع ثوبه بخمسمائة أم لا، فإذا كان هذا إنما زاد في العوض لأجل القرض صار ذلك العوض داخلا في بدل القرض فصار قد اقترض ألفا بألف وخمسمائة إلا قيمة الثوب هذا حقيقة العقد ومقصوده، وكذلك من اقترض ألفا وارتهن بها عقارا أذن له المقترض في الانتفاع به أو أكراه إياه أو ساقاه أو زارعه عليه بعشر عشر عوض المثل فإنما تبرع له وحاباه في هذه العقود من البيع والإجارة والمساقاة والمزارعة لأجل القرض، كما أن أرباب الأموال إنما يهدون للساعي لأجل ولايته عليهم إما ليراعيهم ببدل مال هو لأهل الصدقات أو منفعة قد دخل مع الإمام الذي ولاه على أن تكون لأهل الصدقات، ومن ملك المبدل منه ملك مبدله، والعبرة بالمبادلة الحقيقية لا الصورية كما دل عليه الحديث، وإما لنحو ذلك من المقاصد، وهذا الكلام الحكيم الذي ذكره النبي ﷺ أصل في كل من أخذ شيئا أو أعطاه تبرعا لشخص أو معاوضة لشيء في الظاهر وهو في القصد والحقيقة لغيره فإنه يقال هلا ترك ذلك الشيء الذي هو المقصود ثم نظر هل يكون ذلك الأمر إن كان صادقا فيقال في جميع العقود الربوية إذا كانت خداعا مثل ذلك كما ذكرناه وهذا أصل لكل من بذل لجهة لولا هي لم يبذله فإنه يجعل تلك الجهة هي المقصودة بذلك البذل فيكون المال لرب تلك الجهة إن حلالا فحلال وإلا كانت حراما وسائر الحقوق قياس على المال، يوضح هذا: أن المحاباة في البيع والكراء ونحوهما تبرع محض بدليل أنه يحسب في مرض الموت من الثلث ويبطل مع الوارث، ويمنع منه الوكيل والوصي والمكاتب، وكل من منع من التبرع، وأما القرض ونحوه فظاهر أنه تبرع فإذا كان أحد الرجلين قد حابى الآخر في عقد من هذه العقود لأجل قرض أو عقد آخر ولاية كان ذلك أو تبرعا بذلك السبب كالسلف الذي مع البيع سواء وكالهدية التي مع العمل سواء ونظير حديث ابن اللتبية وهو .

ومن هذا الباب: نهيه ﷺ عن التصرية وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: { لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر } رواه الجماعة ورواه ابن عمر وغيره، ومعلوم أن التصرية مجرد فعل يغتر به المشتري ثم قد حرمه رسول الله ﷺ وأوجب الخيار عند ظهور الحال فكيف بالغرور بالأقوال ؟ ولهذا كان أكثر الذين يقولون بالحيل لا يقولون بهذا الحديث ; لأن الخيار هنا زعموا ليس لوجود عيب، ولا لفوات صفة وهو جار على قياس المحتالين، لكن الحيل باطلة ; لأن إظهار الصفات بالأفعال كإظهارها بالأقوال، بل مجرد ظهورها كمجرد ظهور السلامة من العيوب، وقد حكي عن بعض المحتالين أنه كان إذا استوصف السلعة عرض في كلامه مثل أن يقال له كيف الجمل يقول احمل ما شئت وينوي على الحيل ويقال له كم تحلب فيقول في أي إناء شئت فيقول كيف سيره فيقول الريح لا تلحق فإذا قبض المشتري ذلك فلا يجد شيئا من ذلك رجع إليه فيقول ما وجدت فيما بعتني شيئا من تلك الأوصاف فيقول ما كذبتك، وقد ذكرت هذه الحكاية عن بعض التابعين وأدخلها في كلامه من احتج للحيل، والأشبه أنها كذب أو كان قصده المزاح معه لا حقيقة البيع، وإلا فمن عمل مثل هذا فقد قدح في ديانته، فإن هذا أعظم في الغرر من التصرية، فإن القول المفهم أعظم من مجرد ظهور حال لم يصفها ولا يليق مثل هذا بذي مروءة فضلا عن ذي ديانة، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه { نهى عن النجش } وذلك لما فيه من الغرر للمشتري وخديعته، { ونهى عن تلقي السلع } وذلك لما فيه من تغرير البائع أو ضرر المشتري، ونهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه، أو يبيع على بيع أخيه، أو يخطب على خطبة أخيه، أو تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها أو نهى أن يبيع حاضر لباد وقال: { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض }، وهذا كله دليل على وجوب مراعاة حق المسلم وترك إضراره بكل إلا أن يصدر منه أذى، وعلى المنع من نيل الغرض بخديعة المسلم، وكثير من الحيل يناقض هذا، ولهذا كثير من القائلين بالحيل لا يمنعون بيع الحاضر للبادي، ولا تلقي السلع، طردا لقياسهم، ومن أخذ بالسنة منهم في مثل هذا أخذ بها على مضض ; لأنها على خلاف قياسه، ومخالفة القياس للسنة دليل على أنه قياس فاسد، ولما كانت هذه الخصال مثل التلقي والنجش والتصرية من جنس واحد وهو الخلابة جمعها النبي ﷺ في حديث أبي هريرة وغيره، وجاء عنه أنه بين تحريم الخلابة مطلقا فروى الإمام أحمد في المسند قال حدثنا وكيع قال حدثنا المسعودي عن جابر عن أبي الضحى عن مسروق عن { عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق قال: بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم }، وهذا نص في تحريم جميع أنواع الخلابة في البيع وغيره - والخلابة الخديعة ويقال الخديعة باللسان وفي المثل إذا لم تغلب فاخلب أي فاخدع ورجل خلاب أي خداع - وامرأة خلبة أي خداعة والبرق الخلب والسحاب الخلب الذي لا غيث معه كأنه يخدع من يراه - وفي الصحيحين عن ابن عمر قال { ذكر رجل لرسول الله ﷺ أنه يخدع في البيع فقال رسول الله ﷺ: من بايعت فقل لا خلابة } وهذا الشرط منه موافق لموجب العقد، وإنما أمره النبي ﷺ باشتراطه العداء عليه أن البيع بيع المسلم للمسلم لا داء ولا غائلة ولا خبثة، يبين ذلك أنه قال في حديث ابن مسعود: { لا تحل الخلابة لمسلم }، ولأنه لو لم يرد الخلابة التي هي الخديعة المحرمة لم يكن هذا الشرط معروفا بل يكون شرط شيئا لا حد له في الشرع، ولأنه ذكر للنبي ﷺ أن يخدع والخديعة حرام، ولأنه قد روى سعيد بن منصور حدثنا سفيان حدثنا شبيب بن غرقد { أن رسول الله ﷺ قال لغلامين شابين: تبايعا وقولا لا خلابة }، وقال حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم مولى صخر بن رهم العدوي قال: قال رسول الله ﷺ: { تبايعوا وقولوا لا خلابة } فهذا مرسل من وجهين مختلفين ولا دلائل على صدقه فثبت أن مثل هذا الشرط مشروع مطلقا ولو كان يخالف مطلق النقد لم يؤمر باشتراطه كل واحد كالتأجيل في الثمن واشتراطه الرهن، والكفيل، وصفات زائدة في العقود عليه، ويؤيد ذلك: ما رواه الدارقطني وغيره عن أبي أمامة عن النبي ﷺ أنه قال: { غبن المسترسل ربا } وحديث التلقي يوافق هذا الحديث، فإذا كان الله تعالى قد حرم الخلابة وهي الخديعة فمعلوم أنه لا فرق بين الخلابة في البيع وفي غيره ; لأن الحديث إن عم ذلك لفظا ومعنى فلا كلام، إن كان إنما قصد به الخلابة في البيع فالخلابة في سائر العقود والأقوال وفي الأفعال بمنزلة الخلابة في البيع ليس بينهما فرق مؤثر في اعتبار الشارع وهذا القياس في معنى الأصل، بل الخلابة في غير البيع قد تكون أعظم فيكون من باب التشبيه وقياس الأولى، وإذا كان كذلك فالحيل خلابة إما مع الخلق أو مع الخالق، مثل ما يحكى عن بعض أهل الحيل أنه اشترى من أعرابي ماء بثمن غال ثم أراد أن يسترجع الثمن وكان معه سويق ملتوت بزيت فقال له أتريد أن أطعمك سويقا ؟ قال: نعم فأطعمه فعطش الأعرابي عطشا شديدا وطلب أن يسقيه تبرعا أو معاوضا فامتنع إلا بثمن جميع الماء فأعطاه جميع الثمن بشربة واحدة، ومعلوم أن إطعامه ذلك السويق مظهر أنه محسن إليه وهو يقصد الإساءة إليه من أقبح الخلابات ثم امتناعه من سقيه إلا بأكثر من ثمن المثل حرام، ولا يقال إن الأعرابي أساء إليه بمنعه الماء إلا بثمن كثير ; لأن ذلك إن كان جائزا لم تجز معاقبته عليه، وإن كان يجب عليه أن يسقيه مجانا أو بثمن المثل فكذلك يجب على الثاني أن يسقيه ولم يفعل، ولو أنه استرجع الثمن ورد عليه سائر الماء أو ترك له من الثمن مقدار ثمن الشربة التي شربها هو لكان، أما أن يأخذ ماء إلا شربة واحدة ويأخذ الثمن كله بصورة يظهر له فيها أنه محسن وقصده ذلك فهذا هو الخلابة البينة، وبالجملة فباضطرار يعلم أن كثيرا من الحيل أو أكثرها أو عامتها من الخلابة وهي حرام كما تقدم، وعن { عبد الله بن عمرو قال كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل ومنا من هو في جشره إذ نادى منادي رسول الله ﷺ الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله ﷺ فقال: إنه لم يكن قبلي نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتن يرقق بعضها بعضا تجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليعطه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر } رواه مسلم وغيره، فهذه الوظائف الثلاث التي جمعها في هذا الحديث من قواعد الإسلام، وكثيرا ما يذكرها رسول الله ﷺ مثل قوله في حديث أبي هريرة: { إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم }، ومثل قوله في حديث زيد بن ثابت: { ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين } وذلك أن الاجتماع والإتلاف اللذين في هذين الحديثين لا يتم إلا بالمعنى الذي وصى به في حديث عبد الله بن عمر وهو قوله: { وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه } وهذا القدر واجب ; لأنه قرنه بالإيمان وبالطاعة للإمام في سياق ما ينجي من النار ويوجب الجنة وهذا إنما يقال في الواجبات ; لأن المستحب لا يتوقف عليه ذلك ولا يستقل بذلك، ولهذا غاية الأحاديث التي يسأل فيها النبي ﷺ عما يدخل الجنة وينجي من النار إنما يذكر الواجبات، وإذا كان كذلك فمعلوم أن المحتال لم يأت إلى الناس ما يجب أن يؤتى إليه بل لو علم أن أحدا يحتال عليه لكرهه أو كره ذلك منه وربما اتخذه عدوا أعني الكراهة الطبيعية إن كان قد يحب ذلك من جهة ما له فيه من المثوبة فإن هذه المحبة ليست المحبة المذكورة في الحديث وإلا لكان من أحب إيمانه أنه يؤذى فيصبر على الأذى مأمورا بأن يؤذي الناس وهذا ظاهر، ونحو من هذا ما روى أنس عن النبي ﷺ أنه قال: { والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } متفق عليه، وبالجملة فالحيل تنافي ما ينبني عليه أمر الدين من التحابب والتناصح والائتلاف والأخوة في الدين، ويقتضي التباغض والتقاطع والتدابر هذا في الحيل على الخلق، والحيل على الخالق أولى فإن الله سبحانه وتعالى أحق أن يستحي منه من الناس والله سبحانه الموفق لما يحبه ويرضاه . الوجه العشرون ما روى ابن ماجه عن { يحيى بن إسحاق الهنائي قال سألت أنس بن مالك الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه فقال قال رسول الله ﷺ: إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك } هكذا رواه ابن ماجه، من حديث إسماعيل بن عياش، عن عقبة بن حميد الضبي، عن يحيى، لكن ليس هذا يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي صاحب القراءة العربية وإنما هو والله أعلم يحيى بن يزيد الهنائي فلعل كنية أبيه أبو إسحاق وكلاهما ثقة الأول من رجال الصحيحين والثاني من رجال مسلم وعتبة بن حميد معروف بالرواية عن الهنائي قال فيه أبو حاتم هو صالح الحديث وأبو حاتم من أشد المزكين شرطا في التعديل، وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال هو ضعيف ليس بالقوي لكن هذه العبارة يقصد بها أنه ممن ليس يصحح حديثه بل هو ممن يحسن حديثه، وقد كانوا يسمون حديث مثل هذا ضعيفا ويحتجون به ; لأنه حسن إذ لم يكن الحديث إذ ذاك مقسوما إلا إلى صحيح وضعيف، وفي مثله يقول الإمام أحمد الحديث الضعيف خير من القياس يعني الذي لم يقو قوة الصحيح مع أن مخرجه حسن، إسماعيل بن عياش حافظ ثقة في حديثه عن الشاميين وغيرهم وإنما ضعف حديثه عن الحجازيين وليس هذا عن الحجازيين فثبت أنه حديث حسن لكن في حديثه عن غيرهم نظرا وهذا الرجل بصري الأصل وروى هذا الحديث سعيد في سننه عن إسماعيل بن عياش لكن قال عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي وكذلك رواه البخاري في تاريخه عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي عن أنس عن النبي ﷺ قال: { إذا أقرض أحدكم فلا يأخذ هدية } وأظن هذا هو ذاك انقلب اسمه، وروى البخاري في صحيحه عن أبي بردة بن أبي موسى قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي إنك بأرض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا، وروى سعيد في سننه هذا المعنى عن أبي بن كعب، وجاء عن عبد الله بن مسعود أيضا، وعن عبد الله بن عمر أنه أتاه رجل فقال إني أقرضت رجلا بغير معرفة فأهدى إلي هدية جزلة قال رد إليه هديته أو احبسها له، وعن سالم بن أبي الجعد قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إني أقرضت رجلا يبيع السمك عشرين درهما فأهدى إلي سمكة قومتها بثلاثة عشر درهما فقال خذ منه سبعة دراهم رواهما سعيد، وعن ابن عباس قال إذا أسلفت رجلا سلفا فلا تأخذ منه هدية ولا عارية ركوب دابة رواه حرب الكرماني، فنهى النبي ﷺ وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء ; لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء وإن كان لم يشرط ذلك ولم يتكلم به فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة وألف مؤخرة وهذا ربا، ولهذا جاز أن يزيد عند الوفاء ويهدي له بعد ذلك لزوال معنى الربا، ومن لم ينظر إلى المقاصد في العقود أجاز مثل ذلك وخالف بذلك سنة رسول الله ﷺ وهذا أمر بين وقد صح عنه ﷺ من حديث عبد الله بن عمرو وغيره أنه قال: { لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك } رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه، وما ذاك والله أعلم إلا أنه إذا باعه شيئا وأقرضه فإنه يزيد في الثمن لأجل القرض فيصير القرض بزيادة وذلك ربا، فمن تدبر هذا علم أن كل معاملة كان مقصود صاحبها أن يقرض قرضا بربح واحتال على ذلك بأن اشترى من المقترض سلعة بمائة حالة ثم باعه إياها بمائة وعشرين إلى أجل، أو باعه سلعة بمائة وعشرين إلى أجل ثم ابتاعها بمائة حالة، أو باعه سلعة تساوي عشرة بخمسين، وأقرضه مع ذلك خمسين، أو واطأ مخادعا ثالثا على أن يشتري منه سلعة بمائة ثم يبيعها المشتري للمقترض بمائة وعشرين ثم يعود المشتري المقترض فيبيعها للأول بمائة إلا درهمين وما أشبه هذه العقود يقال فيها ما قاله النبي: { أفلا أفردت أحد العقدين عن الآخر ثم نظرت } هل كنت مبتاعها أو بايعه بهذا الثمن أم لا فإذا كنت إنما نقصت هذا وزدت هذا لأجل هذا كان له قسط من العوض، وإذا كان كذلك فهو ربا، وكذلك الحيل المبطلة للشفعة والمسقطة للميراث والمحلل للمطلقة ثلاثا واليمين المعقودة ونحوهما، وفيما يشبه هذا ما رواه أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس { أن النبي ﷺ نهى عن طعام المتباريين } وهما الرجلان يقصد كل واحد منهما مباراة الآخر ومباهاته في التبرعات والتعويضات كالرجلين يصنع كل واحد منهما دعوة يفتخر بها على الآخر، أو يرخص في بيع السلعة ليضر الآخر ليمنع الناس عن الشراء منه، ولهذا كره الإمام أحمد الشراء من الطباخين ونحوهما يتباريان في البيع، ومعلوم أن الإطعام والبيع حلال، لكن لما قصد به إضرار الغير صار الضرر كالمشروط فيه المعارض به، وإذا لم يبدل المال إلا لضرر بالغير غير مستحق صار ذلك المال حراما، ومن تأمل حديث ابن اللتبية وحديث أنس وحديث عبد الله بن عمرو، وحديث ابن عباس وما في معناهما من آثار الصحابة التي لم يختلفوا فيها علم ضرورة أن السنة وإجماع التابعين دليل على أن التبرعات من الهبات والمحابيات ونحوهما إذا كانت بسبب قرض أو ولاية أو نحوهما كان القرض بسبب المحاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة أو مضاربة أو نحو ذلك عوضا في ذلك القرض، والولاية بمنزلة المشروط فيه، وهذا يجتث قاعدة الحيل الربوية والرشوية، ويدل على حيل السفاح وغيره من الأمور، فإذا كان إنما يفعل الشيء لأجل كذا كان المقصود بمنزلة المنطوق الظاهر، فإذا كان حلالا كان حلالا وإلا فهو حرام، وهذا لما تقدم من أن الله سبحانه إنما أباح تعاطي الأسباب لمن يقصد بها الصلاح، فقال في الرجعة: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } وقال في المطلقة: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } وقال: { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } وقال في الوصية: { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار } فأباح الوصية إذا لم يكن فيها ضرار للورثة قصدا أو فعلا كما قال في الآية الأخرى: { فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه } وقال: { وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله } وقال: { ولا تمنن تستكثر } وهو أن تهدي ليهدى إليك أكثر مما أهديت، فإن هذا دليل على أن صور العقود غير كافية في حلها وحصول أحكامها إلا إذا لم يقصد بها قصدا فاسدا، وكل ما لو شرطه في العقد كان عوضا فاسدا فقصده فاسد ; لأنه لو كان صالحا لم يحرم اشتراطه لما روي عن النبي ﷺ أنه قال: { المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا } رواه أبو داود فإذا كان العوض المشروط باطلا علمنا أنه يحل حراما أو يحرم حلالا فيكون فاسدا فتكون النية أيضا فاسدة فلا يجوز العقد بهذه النية، الوجه الحادي والعشرون: إن أصحاب رسول الله ﷺ أجمعوا على تحريم هذه الحيل وإبطالها، وإجماعهم حجة قاطعة يجب اتباعها بل هي أوكد الحجج وهي مقدمة على غيرها، وليس هذا موضع تقرير ذلك، فإن هذا الأصل مقرر في موضعه، وليس فيه بين الفقهاء بل ولا بين سائر المؤمنين الذين هم المؤمنون خلاف، وإنما خالف فينا بعض أهل البدع المكفرين ببدعتهم أو المفسقين بها بل من كان يضم إلى بدعته من الكبائر ما بعضه يوجب الفسوق، ومتى ثبت اتفاق الصحابة على تحريمها وإبطالها فهو الغاية في الدلالة، وبيان ذلك: إنا سنذكر إن شاء الله عن عمر أنه خطب الناس على منبر رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار وقال ( لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما )، ويذكر عن عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس، وغيرهم أنهم نهوا عن التحليل وبينوا أنها لا تحل به لا للأول ولا للثاني، وأنهم قصدوا بذلك كل ما قصد به التحليل، وإن لم يشرط في العقد ولا قبله، وهذه أقوال نقلت في أوقات مختلفة وأماكن متعددة وقضايا متفرقة وفيها ما سمعه الخلق الكثير من أفاضل الصحابة وسايرها بحيث توجب العادة انتشاره وشياعه، أو لم ينكر هذه الأقوال أحد منهم مع تطاول الأزمنة وزوال الأسباب التي قد يظن أن السكوت كان لأجلها، وأيضا قد تقدم عن غير واحد منهم من أعيانهم مثل أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس أنهم نهوا المقرض أن يقبل هدية المقترض إلا إذا كافأه عليها أو حسبها من دينه وأنهم جعلوا قبولها ربا، وهذه الأقوال أيضا وقعت في أزمنة متفرقة، في قضايا متعددة، والعادة توجب أن يشتهر بينهم جنس هذه المقالة، وإن لم يشهر واحد منهم بعينه لا سيما وهؤلاء المسلمون هم أعيان المفتين الذين كانت تضبط أقوالهم وتحكى إلى غيرهم وكانت نفوس الباقين مشرئبة إلى ما يقول هؤلاء ومع ذلك فلم ينقل أن أحدا منهم خالف هؤلاء مع تباعد الأوقات وزوال أسباب الصمات، وأيضا فقد قدمنا عن عائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك في مسألة العينة ما أوجب فيها تغليط التحريم وفساد العقد، وفي الفتاوى وقعت في أزمنة وبلدان ولم يقابلها أحد برد ولا مخالفة مع أنها لو كانت باطلة لكان السكوت عنها من العظائم لما فيها من المبالغة العظيمة في تحريم الحلال، وبينا أن زيد بن أرقم لم يخالف هذا وأن عقده لم يتم، وإذا كانت هذه أقوالهم في الإهداء إلى المقرض من غير مواطأة ولا عرف فكيف بالمواطأة على المحاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة ؟ أو بالمواطأة على هبة أو عارية ونحو ذلك من التبرعات ؟ ثم إذا كان هذا قولهم في التحليل والإهداء للمقرض والعينة فكيف في إسقاط الزكاة والشفعة وتأخير الصوم عن وقته وإخراج الأبضاع والأموال عن ملك أصحابها وتصحيح العقود الفاسدة ؟ وأيضا فإن عمر وعثمان وعليا وأبي بن كعب وسائر البدريين وغيرهم اتفقوا على أن المبتوتة في مرض الموت ترث، قاله عمر في قصة غيلان بن سلمة لما طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه ؟ فقال له عمر لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثن نساءك ثم لأمرت بقبرك فليرجمن كما رجم قبر أبي رغال، وقال الباقون في قصة تماضر بنت الأصبغ لما طلقها عبد الرحمن بن عوف والقصة مشهورة، ولا نعلم أحدا منهم أنكر هذا الوفاق ولا خالفه، ولا يعترض على ذلك بأن ابن الزبير قال لو كنت أنا لم أورث تماضر بنت الأصبغ لوجهين، أحدهما: أنه قد قيل إنها هي سألته الطلاق، وبهذا اعتذر من اعتذر عن عبد الرحمن في طلاقها، وقيل إن العدة كانت قد انقضت، ومثل هاتين المسألتين قد اختلف فيها القائلون بتوريث المبتوتة، فإنهم اختلفوا هل ترث مع مطلق الطلاق، أو مع طلاق يتهم فيه بأنه قصد الفرار من إرثها ؟ وهل ترث في حال العدة فقط، أو إلى أن تتزوج ؟ أو ترث وإن تزوجت ؟ وإذا كان كذلك فكلام ابن الزبير يجوز أن يكون بتا على أحد هذين المأخذين وكذلك كلام غيره إن نقل في ذلك شيء، وهذا لا يمنع اتفاقهم على أصل القاعدة، ثم لو فرض في توريث المبتوتة خلاف محقق بين الصحابة، فلعل ذلك ; لأن هذه الحيلة وهي الطلاق واقعة ; لأن الطلاق لا يمكن إبطاله، وإذا صح تبعه سائر أحكامه، فلا يلزم من الخلاف في مثل هذا الخلاف فيما يمكن إبطاله من البيع والهبة والنكاح، ولا يلزم من إنفاذ هذه الحيلة إحلالها وإجازتها، وهذا كله يبين لك أنه لم ينقل خلاف في جواز شيء من الحيل، ولا في صحة ما يمكن إبطاله إما في جميع الأحكام أو في بعضها، الثاني: أنا لو فرضنا أن ابن الزبير ثبت عنه أن المبتوتة في المرض لا ترث مطلقا لم يخرق هذا الإجماع المتقدم، فإن ابن الزبير لم يكن من أهل الاجتهاد في خلافة عمر وعثمان، ولم يكن إذ ذاك ممن يستفتى بل قد جاء عنه ما يدل على أنه في خلافة علي أو معاوية لم يكن قد صار بعد من أهل الفتوى، وهو مع هذا لم يخالف في هذه المسألة في تلك الأعصار، وإنما ظهر منه هذا القول في إمارته بعد إمرة معاوية، وقد انقرض عصر أولئك السابقين مثل عمر وعثمان وعلي وأبي وغيرهم، ومتى انقرض عصر أهل الاجتهاد المجمعين من غير خلاف ظاهر لم يعتد بما يظهر بعد ذلك من خلاف غيرهم بالاتفاق، وإنما اختلف الناس في انقراض العصر هل هو شرط في انعقاد الإجماع بحيث لو خالف واحد منهم بعد اتفاقهم هل يعتد بخلافه ؟ وإذا قلنا يعتد بخلافه فلو صار واحد منهم من الطبقة الثانية مجتهدا قبل انقضاء عصرهم فخالف هل يعتد بخلافه ؟ هذا مما اختلف فيه، فأما المخالف من غيرهم بعد موتهم فلا يعتد به وفاقا، وكذلك لا يعتد بمن صار مجتهدا بعد الاتفاق قبل انقراض عصرهم على الصحيح، وإذا ثبت بما ذكرنا وما لم نذكره من أقوال أصحاب رسول الله ﷺ في هذه المسائل من مسائل الحيل واتفاقهم عليها فهو دليل على قولهم فيما هو أعظم من هذه الحيل وذلك بموجب القطع بأنهم كانوا يحرمون هذه الحيل ويبطلونها ومن كان له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائل الفقه، ثم أنصف لم يتمار أن تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس والعمل بظاهر الخطاب، ثم إن ذلك الإجماع قد اعتقد صحته عامة الخلق القائلون بالإجماع السكوتي وهم الجمهور، والمنكرون له بناء على أن هذه القواعد لا يجوز ترك إنكار الباطل منها، وأنه لا يمكن في الواقع معرفة الإجماع والاحتجاج به إلا بهذا الطريق والأدلة الموجبة لاتباع الإجماع إن لم تتناول مثل هذه الصورة وإلا كانت باطلة وهذا إن شاء الله بين، وإنما ذهل عنه في هذا الأصل من ذهل لعدم تتبع مقالتهم في أفراد هذا الأصل، كما قد يقع من بعض الأئمة قول هو في نفس الأمر مخالف لنصوص ثابتة عن رسول الله ﷺ ; فإن معذرته في ترك هذا الاجتماع كمعذرته في ترك ذلك النص، فأما إذا جمعت وفهمت ولم ينقل ما يخالفها لم يسترب أحد في ذلك، فإذا انضم إلى ذلك أن عامة التابعين موافقون على هذا فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل، وكذلك أصحاب عبد الله بن مسعود وأصحاب أصحابه من أهل الكوفة، وكذلك أبو الشعثاء والحسن وابن سيرين وغيرهم من أهل البصرة وكذلك أصحاب ابن عباس من أهل مكة وغيرهم، ولولا أن التابعين كانوا منتشرين انتشارا يصعب معه دعوى الإحاطة بمقالاتهم لقيل إن التابعين أيضا اتفقوا على تحريم كل حيلة تواطأ عليها الرجل مع غيره وإبطالها أيضا، ويكفي أن مقالاتهم في ذلك مشهورة من غير أن يعرف عن واحد منهم في ذلك خلاف، وهذا المسلك إذا تأمله اللبيب أوجب قطعه بتحريم جنس هذه الحيل وبإبطالها أيضا بحسب الإمكان فإنا لا نعلم في طريق الأحكام وأدلتها دليلا أقوى من هذا في مثل هذه المسائل، فإنه يتضمن أن كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها أن عصرهم انتشر وانصرم ورقعة الإسلام متسعة وقد دخل الناس في دين الله أفواجا، وقد اتسعت الدنيا على أهل الإسلام اتساعا عظيما وتوسع فيها من توسع حتى كثر من كان يتعدى الحدود وكان المقتضي لوقوع هذه الحيل موجودا قويا كثيرا ثم لم ينقل أن أحدا منهم أفتى بحله منها أو أمر بها أو دل عليها بل يزجر عنها وينهى، وذلك يوجب القطع بأنه لو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها بعضهم ولاختلفوا فيها كما اختلفوا فيما لا ينحصر من مسائل الأحكام مثل مسائل الفرائض والطلاق وغيرها، وهذا بخلاف العمل بالقياس والظاهر، والخبر المنفرد، فإنه قد نقل عن بعضهم ما يوهم الاختلاف في ذلك وإن كان في الحقيقة ليس اختلافا، وكذلك في آحاد مسائل الفروع فإنه أكثر ما يوجد فيها من نقل الإجماع هو دون ما وجد في هذا الأصل، وهذا الأصل لم يختلف كلامهم فيه بل دلت أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم على الاتفاق فيه مع كثرة الدلائل على هذا الاتفاق، والله سبحانه أعلم، الوجه الثاني والعشرون: إن الله سبحانه إنما أوجب الواجبات وحرم المحرمات لما تضمن ذلك من المصالح لخلقه ودفع المفاسد عنهم، ولأن يبتليهم بأن يميز من يطيعه ممن يعصيه، فإذا احتال المرء على حل المحرم أو سقوط الواجب بأن يعمل عملا لو عمل على وجهه المقصود به لزال ذلك التحريم أو سقط ذلك الواجب ضمنا وتبعا لا أصلا وقصدا ويكون إنما عمله ليغير ذلك الحكم أصلا وقصدا فقد سعى في دين الله بالفساد من وجهين، أحدهما: أن الأمر المحتال عليه بطل ما فيه من حكمة الشارع نقص حكمه، والثاني: أن الأمر المحتال به لم يكن له حقيقة ولا كان مقصودا بحيث يكون ذلك محصلا لحكمة الشارع فيه ومقصوده فصار مفسدا بسعيه في حصول المحتال عليه إذا كان حقيقة المحرم ومعناه موجودا فيه وإن خالفه في الصورة، ولم يكن مصلحا بالأمر المحتال به إذ لم يكن له حقيقة عنده ولا مقصودة، وبهذا يظهر الفرق بين ذلك وبين الأمور المشروعة إذا أتيت على وجوهها فإن الله حرم مال المسلم ثم أباحه له بالبيع المقصود فإذا ابتاعه بيعا مقصودا لم يأت بصورة المحرم ولا بمعناه والسبب الذي استباحه به أتى به صورة ومعنى كما شرعه الشارع، وإيضاح ذلك: أن الله سبحانه إنما حرم الربا والزنا وتوابعهما من العقود التي تفضي إلى ذلك لما في ذلك من الفساد والابتلاء والامتحان، وأباح البيع والنكاح ; لأن ذلك مصلحة محضة، ومعلوم أنه لا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق في الحقيقة وإلا لكان البيع مثل الربا، والفرق في الصورة دون الحقيقة غير مؤثر ; لأن الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والأفعال، فإن الألفاظ إذا اختلفت عبارتها والمعنى واحد كان حكمها واحدا ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفا، وكذلك الأعمال لو اختلفت صورها واتفقت مقاصدها كان حكمها واحدا في حصول الثواب في الآخرة والأحكام في الدنيا، ألا ترى أن البيع والهبة والقرض لما كان المقصود بها الملك البتات كانت مستوية في حصول هذا المقصود والصوم والصلاة والحج لما كانت مستوية في ابتغاء فضل الله ورضوانه استوت في تحصيل هذا المقصد، وإن كان لأحد العملين خاصة ليس للآخر ولو اتفقت صورها واختلفت مقاصدها كالرجلين يتكلمان بكلمة الإيمان أحدهما يبتغي بها حقيقة الإيمان والتصديق وطلب ما عند الله والآخر يبتغي بها حقن دمه وماله، والرجلين يهاجران إلى رسوله والآخر ليتزوج امرأة لكانت تلك الأعمال مفترقة عند الله وفي الحكم الذي بين العبد وبين الله وكذلك فيما بين العباد إذا ظهر لهم المقصد، ومن تأمل الشريعة علم بالاضطرار صحة هذا فالأمر المحتال به صورته صورة الحلال، ولكن ليس حقيقته ومقصوده ذلك، فيجب أن لا يكون بمنزلته فلا يكون حلالا فلا يترتب عليه أحكام الحلال فيقع باطلا من هذا الوجه، والأمر المحتال عليه حقيقته حقيقة الأمر الحرام لكن ليست صورته صورته فيجب أن يشارك الحرام لموافقته له في الحقيقة وإن خالفه في الصورة - والله أعلم .

وقد دخل في القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة فهي لا تمشي غالبا إلا عند من يقول إن الفرقة تتنجز بنفس الردة أو يقول بأنها لا تقتل فالواجب في مثل هذه الحيلة أن لا ينفسخ بها النكاح، إذا ثبت عند القاضي أنها إنما ارتدت لذلك لم يفرق بينهما وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل غير مرتدة من جهة فساد النكاح، حتى لو فرض أنها توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق الميراث لكن لا يجوز له وطؤها في حال الردة، فإن الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو مكنت من وطئها أو أحرمت، لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم أقرت أنها إنما ارتدت لفسخ النكاح لم يقبل هذا، لا سيما إذا كان قد يجعل هذا ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة بأن تلقن إني إنما ارتددت للفسخ ; ولأنها متهمة في ذلك ; ولأن الأصل أنها مرتدة في جميع الأحكام .

نبهنا على هذا القدر من إبطال الحيل، والكلام في التفاصيل ليس هذا موضعه وربما جاء شيء منه على خلاف قياس التصرفات المباحة كما قيل لشريح إنك قد أحدثت في القضاء، قال: أحدثوا فأحدثنا، وهذا القدر أنموذج منه يستدل به على غيره، والكلام في إبطال الحيل باب واسع يحتمل كتابا كبيرا يبين فيه أنواعها وأدلة كل نوع ويستوفي ما في ذلك من الأدلة والأحكام، ولم يكن قصدنا الأول هنا إلا التنبيه على إبطالها بإشارة تمهد القاعدة لمسألة التحليل، وقد استدل عليه البخاري وغيره بقوله ﷺ: { لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة }، فإن هذا النهي يعم ما قبل الحلول وبعده وبقوله ﷺ في الطاعون: { وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه } فإذا كان قد نهى عن الفرار من قدر الله سبحانه إذا نزل بالعبد رضاء بقضاء الله سبحانه وتسليما لحكمه فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد ؟، وبأنه ﷺ نهى عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، فعلم أن الشيء الذي هو نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرما، وقد تقدم أن من جملة ما استدل به أحمد على إبطال الحيل لعنه المحلل والمحلل له وهو من أقوى الأدلة على بطلان الحيل عموما، كما أن إبطال الحيل يدل عليه لكن لم نذكره هاهنا في أدلة الحيل ; لأن القصد أن يستدل ببطلان الحيل على بطلان التحليل بغير أدلة التحليل الخاصة، فلو استدللنا هنا على بطلان الحيل بما دل على بطلان التحليل، ثم استدللنا ببطلان الحيل على بطلان التحليل لكان تطويلا وتكريرا وحشوا - والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، فإن قيل: فهذا الذي ذكرتموه من الأدلة على بطلان الحيل معارض بما يدل على جوازها وهو قوله سبحانه: { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد } فقد أذن الله سبحانه لنبيه أيوب عليه السلام أن يتحلل من يمينه بالضرب بالضغث وقد كان في ظاهر الأمر عليه أن يضرب ضربات متفرقة وهذا نوع من الحيلة فنحن نقيس سائر الباب على هذا، قلنا: أولا: ليس هذا مما نحن فيه فإن الفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا عند الإطلاق على قولين، أحدهما: قول من يقول موجبها الضرب مجموعا أو مفرقا، ثم منهم من يشترط مع الجميع الوصول إلى المضروب، فعلى هذا تكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق، وليس هذا بحيلة إنما الحيلة أن يصرف اللفظ عن موجبه عند الإطلاق، والثاني: أن موجبه الضرب المفرق فإذا كان هذا موجب شرعنا لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا بخلافه، وقلنا: ثانيا: من تأمل الآية علم أن هذه الفتيا خاصة الحكم فإنها لو كانت عامة في حق كل أحد لم يخفف على نبي كريم موجب يمينه ولم يكن في اقتصاصها علينا كبير عبرة، فإنما يقص ما خرج عن نظائره ليعتبر به، أما ما كان مقتضى العبارة والقياس فلا يقص ; ولأنه قد قال عقيب هذه الفتيا { إنا وجدناه صابرا } وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل كما في نظائره، فعلم أن الله إنما أفتاه بهذا جزاء له على صبره تخفيفا عنه ورحمة به ; لأن هذا هو موجب هذه اليمين، وقلنا: ثالثا: معلوم أن الله سبحانه إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث كما أخبر الله سبحانه، وكما قد نقل أهل التفسير أنه كان قد حلف لئن شفاه الله سبحانه ليضربنها مائة سوط لما تمثل لها الشيطان وأمرها بنوع من الشرك لم تفطن له لتأمر به أيوب، وهذا يدل على أن كفارة الأيمان لم تكن مشروعة في تلك الشريعة بل ليس في اليمين إلا البر أو الحنث كما هو في النذر نذر التبرر في شريعتنا، وكما قالت عائشة رضي الله عنها كان أبو بكر لا يحنث في يمينه حتى أنزل الله كفارة اليمين فعلم أنها لم تكن مشروعة في أول الإسلام، وإذا كان كذلك فصار كأنه قد نذر ضربها، وهو نذر لا يجب الوفاء به لما فيه من الضرر عليها، ولا يغبن عنه كفارة يمين ; لأن تكفير النذر فرع تكفير اليمين، فإذا لم يكن هذا مشروعا فذاك أولى، والواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع، فإذا كان الضرر الواجب بالشرع في الحد يجب تفريقه إذا كان المضروب صحيحا ويضرب بعثكول النخل ونحوه إذا كان مريضا مأيوسا منه عند الجماعة، أو مريضا على الإطلاق عند بعضهم كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله ﷺ جاز أن يقام الواجب بالنذر مقام ذلك، وقد كانت امرأة أيوب امرأة ضعيفة وكريمة على ربها فخفف عنها الواجب بالنذر بجمع الضربات كما يخفف عن المريض ونحوه، ألا ترى أن السنة قد جاءت فيمن نذر الصدقة بجميع ماله أنه يجزيه الثلث، أقام في النذر الثلث مقام الجميع كما أقيم مقامه في الوصية وغيرها لما في إخراج الجميع من الضرر وجاءت السنة فيمن نذرت الحج ماشية أن تركب وتهدي، إقامة لترك بعض الواجب بالنذر مقام ترك بعض الواجب بالشرع من المناسك، وأفتى ابن عباس وغيره فيمن نذر ذبح ابنه بشاة، إقامة لذبح الشاة مقام ذبح الابن كما شرع ذلك للخليل عليه السلام وأفتى أيضا فيمن نذر أن يطوف على أربع بأن يطوف أسبوعين إقامة لأحد الأسبوعين مقام طواف اليدين، وهذا كثير فكانت قصة أيوب - والله أعلم - من هذا الباب، وغير مستكثر في واجبات الشريعة أن يخفف الله الشيء عند المشقة بفعل ما يشبهه من بعض الوجوه كما في الإبدال وغيرها، لكن مثل هذا لا يحتاج إليه في شريعتنا ; لأن رجلا لو حلف أن يضرب امرأته أمكنه أن يكفر يمينه من غير احتياج إلى تخفيف الضرب، ولو نذر ذلك فأقصى ما عليه كفارة يمين عند الإمام أحمد وغيره ممن يقول بكفارة اليمين في نذر المعصية والمباح أو يقال لا شيء عليه بالكلية، وهذا معنى حسن لمن تأمله، ومما يوضح ذلك أن المطلق من كلام الآدميين محمول على ما فسر به المطلق من كلام الشارع خصوصا في الأيمان فإن الرجوع فيها إلى عرف الخطاب شرعا أو عادة أولى من الرجوع فيها إلى موجب اللفظ في أصل اللغة، ثم إن الله سبحانه لما قال: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } فهم المسلمون من ذلك أن الزاني والقاذف إذا كان صحيحا لم يجز ضربه إلا مفرقا، وإن كان مريضا مأيوسا من برئه ضرب بعثكول النخل ونحوه، وإن كان مرجو البرء فهل يؤخر إقامة الحد عليه أو يقام، على الخلاف المشهور، فكيف يقال إن الحالف ليضربن يكون موجب يمينه الضرب المجموع مع صحة المضروب وجلده ؟ هذا خلاف القاعدة، فعلم أن قصة أيوب كان فيها معنى يوجب جواز الجمع، وإن كان ذلك ليس موجب الإطلاق وهو المقصود، وإنما ذكرنا هذا المختصر ; لأن عمدة المحتالين ما تأولوا عليه هذه الآية ولا يخفى فساد تأويلهم لمن تأمل، فإن قيل: فقد روى أبو سعيد الخدري قال { جاء بلال إلى النبي ﷺ بتمر برني فقال له النبي ﷺ: من أين هذا ؟ فقال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي ﷺ، فقال له النبي ﷺ - عند ذلك - أوه عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بيع آخر ثم اشتر به } متفق عليه، وفي رواية البخاري، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: { أن رسول الله ﷺ استعمل رجلا على خيبر فأتاه بتمر جنيب فقال له أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا } وقال في الميزان مثل ذلك، وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد: { بعه بسلعة ثم ابتع بسلعتك أي التمر شئت } فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم ثم يبتاع بالدراهم تمرا أقل منه ولكنه أطيب وإن كان بيع التمر بالتمر متفاضلا لا يجوز، وهذا ضرب من الحيلة، قلنا: ليس هذا من الحيلة المحرمة في شيء، وقد استوفينا الكلام على الفرق بين هذا وبين الحيل في الوجه الخامس عشر الذي فيه أقسام الحيل، وبيان أن قوله ﷺ { بع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا } لم يأمره أن يبتاع بها من المشتري منه، وإنما أمره ببيع مطلق وشراء مطلق، والبيع المطلق هو البيع البتات الذي ليس فيه مشارطة ومواطأة على عود السلعة إلى البائع ولا على إعادة الثمن إلى المشتري بعقد آخر، وهذا بيع مقصود وشراء مقصود، ولو باع من الرجل بيعا بتاتا ليس فيه مواطأة لفظية ولا عرفية على الشراء منه ولا قصد لذلك ثم ابتاع منه لجاز ذلك، بخلاف ما إذا كان القصد أن يشتري منه ابتداء وقد عرف ذلك بلفظ أو عرف فهناك لا يكون الأول بيعا ولا الثاني شراء منه ; لأنه ليس ببتات فلا يدخل في الحديث، وإذا كان قصده الشراء منه من غير مواطأة ففيه خلاف تقدم ذكره، وذكرنا أنهما إذا اتفقا على أن يشتري منه ثم يبيعه فهذا بيعتان في بيعة وقد صح عن النبي ﷺ النهي عنه، وذكرنا أن النبي ﷺ إنما أمره ببيع مطلق وذلك إنما يفيد البيع الشرعي فحيث وقع فيه ما يفسده لم يدخل في هذا، وبينا أن العقود متى قصد بها ما شرعت له لم تكن حيلة قال الميموني قلت لأبي عبد الله من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها هل تجوز تلك الحيلة ؟ قال نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز قلت أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا وإذا وجدنا لهم قولا في شيء اتبعناه ؟ قال: بلى هكذا هو قلت وليس هذا منا نحن بحيلة ؟ قال نعم ; فبين أحمد أن اتباع الطريق الجائزة المشروعة ليس هو من الحيلة المنهي عنها ولا يسمى حيلة على الإطلاق وإن سمي في اللغة حيلة، وقد تقدم ذكر أقسام الحيل وأحكامها في الوجه الخامس عشر، وذكرنا أن كل تصرف يقصد به العاقد مقصوده الشرعي فهو جائز وله أن يتوسل به إلى أمر آخر مباح، بخلاف من قصد ما ينافي المقصود الشرعي، والله سبحانه أعلم، فإن قيل: الاحتيال أمر باطن في القلب ونحن قد أمرنا أن نقبل من الناس علانيتهم ولم نؤمر أن ننقب عن قلوبهم ولا نشق بطونهم، فمتى رأينا عقد بيع أو نكاح أو خلع أو هبة حكمنا بصحته بناء على الظاهر والله يتولى سرائرهم، قلنا: الجواب من وجهين، أحدهما: أن الخلق أمروا أن يقبل بعضهم من بعض ما يظهره دون الالتفاف إلى باطن لا سبيل إلى معرفته، وأما معاملة العبد ربه فإن مبناها على المقاصد والنيات والسرائر وإنما الأعمال بالنيات، فمن أظهر قولا سديدا ولم يكن قد قصد به حقيقته كان آثما عاصيا لربه وإن قبل الناس منه الظاهر، كالمنافق الذي يقبل المسلمون منه علانيته وهو عند الله في الدرك الأسفل من النار، فكذلك هؤلاء المخادعون بعقود ظاهرها حسن وباطنها قبيح هم منافقون بذلك فهم آثمون عاصون فيما بينهم وبين الله، وإن كانت الأحكام الدنيوية إنما تجري على الظاهر ونحن قصدنا أن نبين أن الحيلة محرمة عند الله وفيما بين العبد وبين ربه وإن كان الناس لا يعلمون أن صاحبها فعل محرما وهذا بين، الثاني: أنا إنما نقبل من الرجل ظاهره وعلانيته إذا لم يظهر لنا أن باطنه مخالف لظاهره، فأما إذا أظهر ذلك رتبنا الحكم على ذلك فكنا حاكمين أيضا بالظاهر الدال على الباطن لا بمجرد باطن، فإنا إذا رأينا تيسا من التيوس معروفا بكثرة التحليل وهو من سقاط الناس دينا وخلقا ودنيا قد زوج فتاة الحي التي ينتخب لها الأكفاء بصداق أقل من ثلاثة دراهم أو بصداق يبلغ ألوفا مؤلفة لا يصدق مثلها قريبا منه ثم عجل لها بالطلاق أو بالخلع وربما انضم إلى ذلك استعطاف قلبه والإحسان إليه علم قطعا وجود التحليل، ومن شك في ذلك فهو مصاب في عقله، وكذلك مثل هذا في البيع وغيره، وأقل ما يجب على من تبين له ذلك أن لا يعين عليه وأن يعظ فاعله وينهاه عن التحليل ويستفسره عن جلية الحال، فإن قيل: الاحتيال سعي في استحلال الشيء بطريق مباح، وهذا جائز، فإن البيع احتيال على حل البيع والنكاح احتيال على البضع، وهكذا جميع الأسباب فإنها حيل على حل ما كان حراما قبلها، وهذا جائز، نعم من احتال على تناول الحرام بغير سبب مبيح فهذا هو الحرام بلا ريب، ونحن إنما نحتال عليه بسبب مبيح، قيل: قد تقدم الجواب عن هذا مستوفى لما ذكرنا أقسام الحيل في الوجه الخامس عشر، وذكرنا أن هذا مثل قياس الذين قالوا، إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا، وذلك أن الله سبحانه جعل بعض الأسباب طريقا إلى ملك الأموال والأبضاع وغير ذلك، كما جعل البيع طريقا إلى ملك المال، والنكاح طريقا إلى ملك البضع، ومن أراد أن يستبيح الشيء بطريقه الذي شرع له لم يكن محتالا فليس هذا من الحيلة في شيء، إنما الحيلة أن يباشر السبب لا يقصد به ما جعل ذلك السبب له إنما يقصد به استحلال أمر آخر لم يشرع ذلك السبب له من غير قصد منه للسبب المبيح لذلك الأمر الآخر إما بأن لا يكون إلى حل ذلك المحرم طريق أو لا يكون الطريق مما يمكنه قصده بوجه من الوجوه، كمن يريد استحلال معنى الربا بصور القرض والبيع وإعادة المرأة إلى المطلق بالتحليل، وهذا معنى قوله ﷺ { فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل } فأين من قصد بالعقود استحلال ما جعلت العقود موجبة له إلى من لا يقصد مقصود العقود ولا له رغبة في موجبها ومقتضاها وإنما يريد أن يأتي بصورها ليستحل ما حرمه الله من الأشياء التي لم يأذن الله في قصد استحلالها ؟، وقد تقدم إيضاح هذا في ذكر أقسام الحيل . وحيث كان الموجود في الخارج هو المقصود من ملك المثل المعقولة المطلقة، كما يقال فعلت ما كان في نفسي وحصل الأمر الذي كان في ذهني ونحو ذلك، ثم ذلك المعين الذي يؤدي به الواجب قد يقدر المكلف على غيره، وقد لا يقدر فالأول: مثل أن يقدر على عتق عدة رقاب كل واحدة بدلا عن الأخرى، وكما يقدر المتوضئ على الصلاة بهذا الوضوء وبوضوء آخر، ويقدر المأموم على الصلاة خلف هذا الإمام وخلف إمام آخر، فيكون انتقاله من معين إلى معين مفوضا إلى اختياره، لا بمعنى أنه لم ينه عن واحد من المعينين، وبهذا يظهر الفرق بين الواجب المخير فيه بين أنواع كالكفارة وبين الواجب إذا تعين بالأداء، فإن انتقاله في وجوب التخيير من نوع إلى نوع هو بحكم الإذن الشرعي، فإن الخطاب الشرعي سمى كل واحد من النوعين، وانتقاله في كل واجب من عين إلى عين هو بحكم المشيئة التي لا نهي فيها، وفرق بين ما أذن فيه وبين ما لم ينه عنه، والثاني: مثل أن لا يكون عند المكلف، ولا يمكنه أن يحصل إلا هذه الرقبة المعينة، وبمنزلة ما لو حضر وقت الصلاة ولا طهور إلا ماء في محل، فهنا يتعين عليه فعل ذلك المعين، لا ; لأن الشارع أوجب ذلك المعين، فإن الشارع لم يوجب إلا رقبة مطلقة وماء مطلقا لكن ; لأن المكلف لا يقدر على الامتثال إلا بهذا المعين فصار يقينه لعجز العبد عن غيره، لا لاقتضاء الشارع له، فلو كانت الرقبة كافرة، أو الماء نجسا وهو لم يعلم، لم يتأدى به الواجب ; لأن الشارع ما أمره بذلك المعين قط، ولا هو متضمن لما أمر به، ولكن ما أمره بغيره من الرقاب والمياه في ذلك الوقت لعجزه عن غيره ولا أمره به أيضا ; لأنه لا يتأدى به المأمور به، وإنما كان مأمورا في الباطن، بالانتقال إلى البدل الذي هو التراب أو الصيام، لكن لم يعلم أنه منهي عنه فلم يؤاخذ به، فإذا قال صاحب هذا الاعتقاد المعين: بأن هذا طهور أتى من الشارع مأمورا به أو ليس بمأمور به ولا بد من أحد الأمرين، قلنا: أما في الظاهر فعليك أن تفعله وأنت مأمور به أيضا، بناء على أن ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأما في الباطن فقد لا يكون مأمورا به، فإن قال: أنا مكلف بالباطن، قلنا: إن أردت بالتكليف أنك تذم وتعاقب على مخالفة الباطن فلست بمكلف به، وإن أردت أن ما في الباطن هو المطلوب منك وتركه يقتضي ذمك وعقابك، ولكن انتفاء مقتضاه لوجود عذرك وهو عدم العلم، فنعم أنت مكلف به، وعاد الأمر إلى ما ذكرناه من انتفاء اللوم ; لانتفاء شرطه لا لعدم مقتضيه، وأن الخلاف يعود إلى اعتبار عقلي وإطلاق لفظي، فيجوز أن ذلك الماء النجس الذي ليس عنده إلا هو وهو لا يعلم بنجاسته ليس مأمورا به في الحقيقة لوجهين، أحدهما: أنه لا يتأدى به الواجب في الباطن فلا يكون واجبا في الباطن، الثاني: أنه وإن تأدى به فوجوب التعين من باب وجوب ما لا يتم الواجب إلا به، ولوازم الواجب ومقدماته ليست في الحقيقة واجبة وجوبا شرعيا مقصودا للأمر، فإن الأمر لا يطلبها ولا يقصدها بحال، وقد لا يشعر بها إذا كان من المخلوقين والمأمور لا يعاقب على تركها، فإنما يعاقب على ترك صوم النهار لا على ترك إمساك طرفيه، ومن كان بينه وبين مكة مسافة بعيدة فإنه يعاقب على ترك الحج، كما يعاقب ذو المسافة القريبة أو أقل، ولا يعاقب أكثر بناء على أنه ترك قطع تلك المسافة البعيدة التي هي أكثر بناء على أن الواجب عليه أكثر، نعم يثاب أكثر وقد يثاب ثواب الواجب، لكن الوجوب العقلي الضروري، فينبغي أن يفرق بين الوجوب الشرعي الأمري القصدي، وبين الوجوب العقلي الوجودي القدري . فإن المسببات يجب وجودها عند وجود أسبابها، بمعنى أن الله يحدثها حينئذ ويشاء وجودها لا بمعنى أنه أمر بها شرعا ودينا، ولا ينازع أحد في أن الأمر بالأسباب الموجبة كالقتل، ليس أمرا بمسبباتها الذي هو الإزهاق، وكذلك الأسباب لا بد منها في وجود المسببات، بمعنى أن الله لا يحدث المسببات ويشاؤها إلا بوجود الأسباب، لا بمعنى أن الله أمر بالأسباب شرعا ودينا، فما لا يتم الواجب إلا به مما هو سابق له أو هو لازم لوجوده، إذا لم يكن للشارع فيه طلب شرعي فإنه يجب وجوده وجوبا عقليا إذا امتثل العبد الأمر الشرعي، وهنا قد تنازع العلماء في أن هذا السبب الذي لا بد منه هل هو مأمور به أمرا شرعيا ومن أصحابنا وغيرهم من يقول بذلك، وقد يقال هذا واجب بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، وأنت إذا حققت علمت أن هذا من نمط الذي قبله، فإن الله يثيب العبد على ما أحدثه الله من فعله الواجب، كالداعي إلى الهدى فإن له أجر من استجاب له إلى يوم القيامة، وكالولد الصالح فإن دعاءه مضاف إلى أبيه، وإن كان فعل أبيه إنما هو الإيلاج الذي قد يكون واجبا، ومع هذا فلو ترك الواجب لم يعاقب على انتفاء الآثار واللوازم، كذلك الله يثيبه على فعل أسباب العمل الواجب ومقدماته، كالسير إلى المسجد وإلى البيت والعدو ونحو ذلك، وإذا تركها لم يعاقبه إلا على ترك الجمعة والجماعة والحج والجهاد، فافهم مثل هذا في الواجب إذا لم يقدر على أدائه إلا بهذا المعين، فإن ذلك التعيين إذا فعله أثابه عليه، ولو تركه لم يعاقبه على ترك ذلك المعين، وإنما يعاقبه على ترك الواجب المطلق، بحيث تكون عقوبته وعقوبة من ترك الواجب مع قدرته عليه عدة أعيان مما سواه، أو يكون هذا أقل في الأمر الغالب، وإذا أردت عبارة لا ينازعك فيها جمهور الفقهاء، فقل هذا النجس ليس مأمورا به في الباطن، وهذا المعين ليس عينه مقصودة الأمر، ولا هذا النجس مشتملا على مقصود الأمر، فتبين بذلك أن هذا الذي لم يجد إلا ماء وكان في الباطن نجسا، إذا قيل: إنه مأمور باستعماله، فمعناه أنه مأمور في الظاهر دون الحقيقة باستعماله كالأمر بما لا يتم الواجب إلا به، فإذا قلت: إنه مأمور به بمجموع هذين الاعتبارين، فلا نزاع معك، وإذا قلت ليس بمأمور لانتفاء أحد هذين القيدين، فقد أصبت الغرض، وعلى هذا يخرج الحكم بشهادة من اعتقد الحاكم عدله، فإن الله أمره أن يحكم للمدعي إذا جاءه بذوي عدل، ثم لا طريق له إلى تأدية هذا الواجب إلا باعتقاده فيهما العدل، فتعين هذا الاعتقاد المخطئ في الباطن، كتعين ذلك الماء النجس في الباطن إذ الاعتقاد هو الذي يمكن من الحكم بالعدل، كما أن المعين هو الذي يمكن من وجود المطلق، وقد تتعدد الاعتقادات كما تتعين الأعيان، فإذا لم يكن عنده إلا اعتقاد العدل فيهما فالشارع ما أمره في الحقيقة باستعمال هذا الاعتقاد المخطئ قط ولا أمر باعتقاد عدل هذا الشخص ولا عدل غيره أمرا مقصودا قط، ولكن الواجب عليه من الحكم بذوي عدل لا يتأدى إلا باعتقاد، فصار وجوب اتباع الاعتقاد كوجوب إعتاق معين ما، ثم إذا لم يكن عنده إلا اعتقاد عدل هذا الشاهد، كما لو لم يكن عنده إلا هذا الماء وهذه الرقبة ثم خطأه في هذا الاعتقاد المعين الذي به يؤدي الواجب عيب في هذا المعين كالعيب في الماء والرقبة، فالتحقيق هو أن يقال ليس مأمورا أن يحكم بهذا الاعتقاد في الحقيقة الباطنة ولا هو مأمور بشيء من الاعتقادات المعينة أمرا مقصودا، نعم هو مأمور أمرا لزوميا باعتقاد عدل من ظهر عدله، ومأمور ظاهرا أمرا مقصودا بالحكم بمن اعتقد عدله، وهذا بعينه يقال في المعين فإن الله لم يأمره بهذا الاعتقاد المخطئ، وإنما أمره أن يتبع ما أنزل إليه من ربه، ثم لم يكن له طريق إلى معرفة ما أنزل الله من الكتاب والحكمة إلا بما قد نصبه من الأدلة، فصار وجوب اتباع الأدلة على المنزل من الأخبار، ولدلالة اللفظية والعقلية ; لأنه طريق إلى معرفة المنزل من باب ما لا يتم الواجب إلا به، فإذا كان هذا المخبر مخطئا أو هذه الدلالة مخلفة في الباطن لم يكن مأمورا بعينها في الباطن قط، وإنما هو مأمور بعينها في الظاهر أمرا لزوميا من باب الأمر بما لا يتم الواجب إلا به، ولهذا اختلف الأصحاب وغيرهم، هل يقال للمخطئ أنه مخطئ في الحكم كما هو مخطئ في الباطن، أو يقال هو مصيب في الحكم، وإن كان قد خرج بعض الأصحاب رواية بأن كل مجتهد مصيب فهذا ضعيف تخريجا ودليلا، ومنشأ ترددهم أن وجوب اعتقاده لما اقتضاه اجتهاده هو من باب ما لا يتم الواجب إلا به ; لأن الواجب هو اتباع حكم الله، ولا سبيل إليه إلا باتباع ما أمكنه من الدليل واتباع دليله اعتقاد موجبه فمن قال إنه مصيب في الحكم، فهو بمنزلة من يقول أن الحاكم إذا حكم بشهادة من يعتقده عدلا فقد فعل ما أمر به ظاهرا، ومن قال: ليس بمصيب في الحكم قال ; لأن وجوب اتباع هذا الدليل المعين هو للوجوب اللزومي العقلي دون الوجوب الشرعي المقصود، وإلا فالوجوب الشرعي هو اتباع حكم الله، ولهذا كان أحمد وغيره يفرق بين أن يكون أتى من جهة عجزه أو من جهة الخلاف دليله، فإن من حدث بحديث أفتى به تارة يكون المحدث له عدلا حافظا ظاهرا وباطنا، لكنه أخطأ في هذا الحديث، أو الحديث منسوخ فهنا لم يؤت من جهة نظره بل دليله أخلف، وتارة يعتقد هو أن المحدث ثقة، ولا يكون ثقة فهنا اعتقاده خطأ، لكونه دليلا غير مطابق، وإن كان معذورا فيه لدليل اقتضى ثقته، فإن خطأ هذا الدليل كخطإ الأول في الحكم، فالأول: حكم بدليل هو عند الله دليل المجتهد، لكن الله سلب دلالته في هذه القضية المعينة، ولم يظهر هذا على العلم السالب، وهذا كالتمسك بشريعة قد نسخت لم يعلم بنسخها، والثاني حكم بما اعتقد دليلا ولم يكن دليلا، بل قام عنده ما ظن كونه دليلا، كما لو كان اللفظ معرفا باللام فاعتقدها لتعريف الجنس فجعله عاما، وكانت لتعريف العهد، أو كان معنى اللفظ في لغته غير معناه في لغة الرسول وهو لا يعرف له معنى إلا ما في لغته، فهذا حكم بما لم يكن دليلا أصلا، لكنه اعتقد دلالته فالأول حكم بمقتضى عارضه مانع لم يعلمه، والثاني: بما ليس بمقتضى لاعتقاده أنه مقتضى، والأول في اتباعه للدليل، كالمستفتي في اتباعه قول من هو مفت ظاهرا وباطنا إذا كان قد أخطأ ولم يعلم المستفتي بذلك، فهذا الثاني أخطأ في اجتهاده وفي اعتقاده، والأول أصاب في اجتهاده لكنه أخطأ في اعتقاده، وكلاهما مصيب في اعتقاده، وإذا عرفت هذه الدرجات الثلاث للمجتهد: أولاها: اقتصاره بحكم الله، الثانية: اجتهاده وهو استنطاق الأدلة بمنزلة استماع الحاكم بشهادة الشهود فتارة يعتقد المجروح عدلا فيكون قد أخطأ في اجتهاده، وتارة يكون العدل قد أخطأ فيكون دليله قد أخطأ لا هو، الثالثة: اعتقاده وهو اعتقاد ما نطقت به الأدلة لحكم الحاكم بما شهدت به الشهود، ولهذا إذا تبين كفر الشهود كان الضمان على الحاكم، ولو تبين غلطهم برجوعهم مثلا، كان الضمان عليهم، وإذا كان الدليل صحيحا والشاهد عدلا كان مأمورا في الظاهر أن يحكم بعينه في هذه الحال، وأما إذا كان الدليل فاسدا والشاهد فاسقا وهو يعتقده صحيحا عدلا فلم يؤمر به، ولكن لما اعتقد أنه مأمور به لم يؤاخذ كمن رأى من عليه علامة الكفر فقتله فكان مسلما، قال الإمام أحمد من رواية محمد بن الحكم، وقد سأله عن الرواية عن رسول الله ﷺ إذا اختلفت فأخذ الرجل بأحد الحديثين فقال إذا أخذ الرجل بحديث صحيح عن رسول الله ﷺ وأخذ آخر بحديث ضده صحيح عن رسول الله ﷺ، فقال: الحق عند الله واحد، وعلى الرجل أن يجتهد ويأخذ أحد الحديثين، ولا يقول لمن خالفه أنه مخطئ إذا أخذ عن رسول الله ﷺ، وأن الحق فيما أخذت به أنا وهذا باطل، ولكن إذا كانت الرواية عن رسول الله ﷺ صحيحة، فأخذ بها رجل وأخذ آخر عن رسول الله ﷺ واحتج بالشيء الضعيف، كان الحق فيما أخذ به الذي احتج بالحديث الصحيح، وقد أخطأ الآخر في التأويل، مثل لا يقتل مؤمن بكافر، واحتج بحديث السلماني، قال فهذا عندي مخطئ والحق مع من ذهب إلى حديث رسول الله ﷺ { لا يقتل مؤمن بكافر }، وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى حاكم آخر رد ; لأنه لم يذهب إلى حديث رسول الله ﷺ الصحيح، وإذا روي عن رسول الله ﷺ حديث، واحتج به رجل أو حاكم عن أصحاب رسول الله ﷺ كان قد أخطأ التأويل، وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى حاكم آخر رد إلى حكم رسول الله ﷺ .

وقد اختلف الناس من أصحابنا وغيرهم في المجتهد المخطئ هل يعطى أجرا واحدا على اجتهاده واستدلاله أو على مجرد قصده الحكم، وأصل هذا الاختلاف أنه هل يمكن أن يكون الاستدلال صحيحا ولا يصيب الحق، وما قدمناه يبين لك أنه تارة يكون مخطئا في اجتهاده وتارة لا يكون مخطئا في اجتهاده: بل دليله يكون مخطئا لا خلافه فيثاب تارة على الأمرين وتارة على أحدهما، كذلك يكون الحق سواء فيكون تحقيقه الأمر على ما قدمناه: أن المجتهد إن استدل بدليل صحيح وكان مخالفا فهو مأمور بأن يتبعه ; واتباعه له صواب ; واعتقاد موجبه في هذه الحال لازم من اتباعه ; وهو لم يؤمر بهذا اللازم ; لكنه لازم من المأمور به ويعود الأمر إلى ما لا يتم الواجب إلا به، هل هو مأمور به أمرا شرعيا أو عقليا ; ويعود أيضا إلى أنه مأمور بذلك في الظاهر دون الباطن وهذا كله إنما يتوجه في الواجب إذا تعين وأما ما وجب مطلقا، وينادي بأعيان متعددة أو أبيح فالقول في إباحته كالقول في إيجاب هذا سواء وفي خلافهما يدخل العفو، فيقال هذا الذي اعتقد أنه فعل الواجب أو المباح كلاهما يعفى عنه، وليس هو في نفس الأمر فاعلا لواجب ولا لمباح وإنما يتلخص هذا الأصل الذي اضطرب فيه الناس قديما وحديثا، واضطرابهم فيه تارة يعود إلى إطلاق لفظي وتارة إلى ملاحظة عقلية كما ذكرناه في تخصيص العلة، وتارة يعود إلى أمر حقيقي وإلى حكم شرعي بأن نتكلم على مقاماته مقاما مقاما كلاما ملخصا . والمقام الأول: هل لله في كل حادثة تنزل حكم معين في نفس الأمر بمنزلة ما لله قبلة معينة هي الكعبة، وهي مطلوب المجتهدين عند الاشتباه، فالذي عليه السلف وجمهور الفقهاء وأكثر المتكلمين أو كثير منهم: أن لله في كل حادثة حكما معينا إما الوجوب أو التحريم أو الإباحة مثلا، أو عدم الوجوب والتحريم فيما قد سميناه عفوا ; لكن أكثر أصحاب أبي حنيفة وبعض المعتزلة يسمون هذا الأشبه ولا يسمونه حكما، وهم يقولون: ما حكم الله به، لكن لو حكم لما حكم إلا به، فهو عندهم في نفس الأمر حكم بالقوة، وحدث بعد المائة الثالثة فرقة من أهل الكلام زعموا أن ليس عند الله حق معين هو مطلوب المستدلين إلا فيما فيه دليل قطعي يتمكن المجتهد من معرفته، فأما ما فيه دليل قطعي، لا يتمكن من معرفته أو ليس فيه إلا أدلة ظنية، فحكم الله على كل مجتهد ما ظنه وترتب الحكم على الظن كترتب اللذة على الشهوة، فكما أن كل عبد يلتذ بدرك ما نشتهيه، وتختلف اللذات باختلاف الشهوات، كذلك كل مجتهد حكمه ما ظنه وتختلف الأحكام ظاهرا وباطنا باختلاف الظنون، وزعموا أن ليس على الظنون أدلة كأدلة العلوم، وإنما تختلف أحوال الناس وعاداتهم وطباعهم، وهذا قول خبيث يكاد فساده يعلم بالاضطرار عقلا وشرعا، وقوله ﷺ { فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم }، وقوله لسعد { لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة }، وقول سليمان اللهم أسألك حكما يوافق حكمك كله يدل على فساد هذا القول مع كثرة الأدلة السمعية والعقلية على فساده .

المقام الثاني: أن الله نصب على ذلك الحكم المعين دليلا، فالذي عليه العامة أن الله نصب عليه دليلا ; لأن الله لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وقد أخبر الله أن في كتابه تفصيل كل شيء، وأخبر أن الدين قد كمل، ولا يكون هذا إلا بالأدلة المنصوبة لبيان حكمه ; ولأنه لو لم يكن عليه دليل للزم أن الأمة تجمع على الخطإ إن لم يحكم به، أو أن يحكم به تخمينا والقائلون بالأشبه أو بعضهم يقولون لا يجب أن يكون عليه دليل ; لأن عندهم ليس يحكم بالفعل حتى يجب نصب الدليل عليه، وقد حكي هذا عن بعض الفقهاء مبهما ويتوجه على قول من يجوز انعقاد الإجماع تخمينا واتفاقا .

المقام الخامس: أن هذه الأدلة هل يفيد مدلولها لكل من نظر فيها نظرا صحيحا، من الناس من يطلق ذلك فيها، ومنهم من يفرق بين القطعي والظني، وهذا يوافق من هذا الوجه قول من يقول إن الظنية ليست أدلة حقيقة، والصواب أن حصول الاعتقاد بالنظر في هذه الأدلة يختلف باختلاف العقول من ذكاء وصفاء وزكاة وعدم موانع، والعلم الحاصل عقبيها مرتب على شيئين، على ما فيها من أدلة، وعلى ما في النظر من الاستدلال، وهذه القوة المستدلة تختلف كما تختلف قوى الأبدان، فرب دليل إذا نظر فيه ذو العقل الثاقب أفاده اليقين، وذو العقل الذي دونه قد لا يمكن أن يفهمه، فضلا عن أن يفيده يقينا، واعتبر هذا بالحساب والهندسة فإن قضاياها يقينية، وأنت تعلم أن في بني آدم من لا يمكنه فهم ذلك، فعدم معرفة مدلول ذلك الدليل بأن يكون لعجز العقل وقصوره في نفس الخلقة وتارة لعدم تمرنه واعتياده للنظر في مثل ذلك كما أن عجز البدن عن الحمل قد يكون لضعف الخلقة، وقد يكون لعدم الإدمان والصنعة، وتارة قد يمكنه الإدراك بعد مشقة شديدة يسقط معها التكليف، كما يسقط القيام في الصلاة عن المريض، وتارة يمكنه بعد مشقة لا يسقط معها التكليف، كما لا يسقط الجهاد بالخوف على النفس وتارة يمكن ذلك بلا مشقة لكن تزاحمت على القلب واجبات فلم يتفرغ لهذا أو قصر زمانه عن النظر في هذا، وتارة يكون حصول ما يضاد ذلك الاعتقاد في القلب يمنع من استيفاء النظر، وقد يكون الشيء نظيرا لكنه غامض، وقد يكون ظاهرا لكن ليس بقاطع، وفي هذا المقام يقع التفاوت بالفهم، فقد يتفطن أحد المجتهدين لدلالة لو لحظها الآخر لأفادته اليقين، لكنها لم تخطر بباله، فإذا عدم وصول العلم بالحقيقة إلى المجتهد تارة يكون من جهة عدم البلاغ، وتارة يكون من جهة عدم الفهم، وكل من هذين قد يكون لعجز وقد يكون لمشقة، فيفوت شرط الإدراك، وقد يكون لشاغل أو مانع فينافي الإدراك، وإذا كان العلم لا بد له من سببين سبب منفصل وهو الدليل وسبب متصل وهو العلم بالدليل، والقوة التي بها يفهم الدليل، والنظر الموصل إلى الفهم، ثم هذه الأشياء قد تحصل لبعض الناس في أقل من لحظ الطرف وقد يقع في قلب المؤمن الشيء ثم يطلب دليلا يوافق ما في قلبه ليتبعه، ومبادئ هذه العلوم أمور إلهية خارجة عن قدرة العبد { يختص برحمته من يشاء }، ففي هذا الموضع الذي يكون الدليل منصوبا لكن لم يستدرك به المكلف لقصور أو تقصير يعذر فيه لعجز أو مشقة أو شغل ونحو ذلك اتفق من قال المصيب واحد على أن الباقين لم يصيبوا الحق الذي عند الله، وإطلاق لفظ أخطأ هنا أظهر، وقول من قال إنه مخطئ في الاجتهاد هنا أكثر، بل غالب اختلافهم في هذا المقام لقلة القسم الأول بعد انتشار النصوص .

المقام السابع: إذا كانت الحجة الشرعية لا معارض لها أصلا لكنها مخلفة فهل يكون الحكم بها خطأ في الباطن، وهذا إنما يكون في أعيان الأحكام لا في أنواعها، كما لو حكم بشاهدين عدلين باطنا وظاهرا لكن كانا مخطئين في الشهادة كالشاهدين اللذين قطع علي رضي الله عنه السارق بشهادتهما ثم رجعا عن الشهادة وقالا أخطأنا يا أمير المؤمنين فهنا قال ابن عقيل وغيره، لا يكون هذا خطأ بحال وإن كان قد سلم المال إلى مستحقه في الباطن، ولم يدخل هذا في عموم قوله إذا اجتهد الحاكم فأخطأ وإنما أدخل فيه من أخطأ الحكم النوعي، وقال غيره من أصحابنا وغيرهم: بل هو من أنواع الخطإ المغفور، وهذا شبيه بالتمسك بالمنسوخ قبل البلاغ أو بالدلالة المعارضة قبل بلوغ المعارض، وفي مثل هذا يقول إن الله لم يأمر الحاكم بقبول هذين المعينين، وإنما أمره بقبول شهادة كل عدل فدخلا في العموم، والله سبحانه لم يرد شهادة باللفظ العام هذا المعين، لكنه يعذر الحاكم حيث لم يكن له دليل يعلم به عدم إرادة هذا المعين، فيكون مأمورا به في الظاهر دون الباطن كما تقدم، فما من صورة تفرض إلا وتخرج على هذا الأصل، وهذا أمر لا بد من اعتباره، فإن من الأصول المكررة أن الحاكم لو حكم بنص عام، كان عاجزا عن درك مخصصه ثم ظهر المخصص بعد ذلك نقض حكمه، وكذلك لو فرض الإدراك مبعدا، وهذا { أبو السنابل أفتى سبيعة الأسلمية بأن تعتد أبعد الأجلين لما توفي عنها زوجها استعمالا لآسى الموت والحمل، فقال النبي ﷺ: كذب أبو السنابل }، ولا يقال إنه كان مما لا يسوغ فيه الاجتهاد لظهوره ; لأن عليا وابن عباس وهما ممن لا يشك في وفور فهمهما ودينهما قد أفتيا بمثل ذلك، وقول النبي ﷺ كذب يستعمل بمعنى أخطأ، فعلم إطلاق الخطإ على من اجتهد متمسكا بظاهر خطاب إلا أن يقال أبو السنابل لم يكن يجوز له الاجتهاد إما لقصوره أو لتقصيره، حيث اجتهد مع قرب النبي ﷺ، فهذا مما اختلف فيه بجملة كون المجتهد معذورا إما لعجزه عن سماع الخطاب، أو عن فهمه، أو مشقة أحد هذين أو لعدم تيسير الله أسباب ذلك، أو لعارض آخر لا يمنع أن لا يكون غير عالم بالحق الباطن، ولا يوجب أن ذلك الفعل الذي فعله أوجبه الله بعينه أو أباحه بعينه، بل أوجب أمرا مطلقا أو أباح أمرا مطلقا، والمجتهد معذور باعتقاد أن هذا المعين داخل في العموم، فإذا منشأ الخطإ إدخال المعين في المطلق والعام على وجه قد لا يكون للمجتهد مندوحة عنه، وغاية ما يؤول إليه الإلزام أن يقال إنه مأمور في الباطن بما لا يطيقه، وهذا سهل هنا، فإن الذي يقول إنه لا يأمر الله العبد بما يعجز عنه إذا شاءه وأما أمره بما لا يشاءه، إلا أن يشاء الله، فهذا حق، وإذا كان أمره بما مشيئته معلقة بمشيئة غيره، فكذلك يأمره بما معرفته متعلقة بسبب من غيره، إذ العلم واقع في القلب قبل الإرادة، ثم من هذه المعارف ما يعذر فيها المخطئ، ومنها ما لا يعذر، وهذا فصل معترض اقتضاه الكلام لتعلق أبواب الخطإ بعضها ببعض، إذا ثبتت هذه الأصول فهذا المشتري والمستنكح مفعوله عما فعله من وطء وانتفاع، وهذا الوطء والانتفاع عفو في حقه، لا حلال حلا شرعيا ولا حرام تحريما شرعيا، وهكذا كل مخطئ، ولكن هو في عدم الذم والعقاب يجري مجرى المباح الشرعي، وإن كان يختلف في بعض الأحكام ويختلفان أيضا في أن رفع أحدهما نسخ له لا يثبت إلا بما يثبت به النسخ ورفع الآخر ابتداء تحريم أو إيجاب ثبت بما يثبت به الأحكام المبتدأة، وأن يضمن رفع الاستصحاب العقلي، وهذا حرمنا بسنة رسول الله ﷺ أشياء ليست في القرآن، كما عهده إلينا ﷺ ولم يكن هذا نسخا لقوله: { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } الآية إذ هذه نفت تحريم ما سوى المستثنى ولم تثبت حل ما سوى المستثنى، وبين نفي التحريم وإثبات الحل مرتبة العفو ورفع العفو ليس بنسخ، ولهذا قال في سورة المائدة: { اليوم أحل لكم الطيبات } والمائدة نزلت بعد الأنعام بسنين، فلو كانت آية الأنعام تضمنت ما سوى المستثنى ما قيد الحل بقوله { اليوم أحل لكم الطيبات }، ومن فهم هذا استراح من اضطراب الناس في هذا المقام، مثل كون آية الأنعام واردة على سبب فتكون مختصة به أو معرضة للتخصيص، ومثل كونها منسوخة نسخا شرعيا بالأحاديث بناء على جواز نسخ القرآن بالخبر المتلقى بالقبول أو الصحيح مطلقا، ولقد نزل هنا مستدلا ومستشكلا، ومن اعتقد أن آية الأنعام من آخر القرآن نزولا، وإذا ظهر أن العقد على غير محل لم يعلم به المشتري والمستنكح باطلا باطنا غير مقيد للحل باطلا، وأن الانتفاع الحاصل بسببه ليس هو حلالا في الحقيقة، وإنما هو عفا الله عنه، فما دام مستصحبا لعدم العلم، فحكمه ما ذكرت، فإن علم حقيقة الأمر فحكمه معروف إن كان نكاحا فرق بينهما ويثبت فيه حكم العقد الفاسد، والوطء فيه موجب للعدة والمهر والنسب وإدراء الحد، ولم يثبت به إرث ولا جواز استدامة وهل تثبت به حرمة المصاهرة، ويقع فيه الطلاق أو تجب فيه عدة الوفاة ويوجب الإحداد - فيه خلاف وتفصيل، على مذهب الإمام أحمد وغيره، وأما في البيع ففيه خلاف وتفصيل على مذهب الإمام أحمد وغيره ليس هذا موضعه .
===





إقامة الدليل على إبطال التحليل/3









إذا عرف هذا فمسألة التحليل من هذا القسم فإن قصد التحليل إنما حرم لحق الله سبحانه بحيث لو علمت المرأة أو وليها بقصد التحليل لم تجز مناكحة بخلاف المعينة والمعيب، فإن ذلك لو ظهر لجاز العقد معه، لكن الخلل هنا لم يقع في أهلية العاقد، ولا في محلية المعقود عليه، وإنما وقع في نفس العقد بمنزلة الشرط الذي يعلم أحدهما بإفساده للعقد دون الآخر، نعم الجهل هناك هو بالحكم الشرعي النوعي، والجهل هنا هو بوصف العقد المعين، وهذا الوصف يترتب عليه الحكم الشرعي فهو بمنزلة عدم علمه بصفة المعقود عليه، وكلاهما سواء هنا، وإن كان قد يفرق بينهما بعض الفقهاء في بعض المواضع، كرواية عن الإمام أحمد وغيره في الفرق بين أن لا تعلم المعتقة قد أعتقت وبين أن تعلم أنها قد أعتقت، ولا تعلم أن للمعتقة الخيار وإذا كان التحريم لحق الله سبحانه، فالعقد باطل كما وصفته لك، والوطء والاستمتاع حرام على الزوج في مثل هذا وفاقا وهل هو حرام على المرأة في الباطن أو ليس بحرام على قولين أرجحهما الأول، وإن كان الخلاف لا يعود إلى أمر عملي، وفعلها في الظاهر هل هو حلال أو عفو على قولين أيضا. أرجحهما الثاني، فقد وقع الاتفاق على أن المرأة لا تؤاخذ وأشبه شيء بهذا الخلل الحاصل في العقد، ما لو كان الخلل حاصلا في المعقود عليه، كما لو أحرم الرجل وتزوجت به وهي لا تعلم إحرامه، بأن يعقد العقد وكيله في غيبته، أو تتزوجه ويكون تحته أربع أو تحته أختها أو خالتها أو عمتها وهي لا تعلم ; أو تتزوجه وهو مرتد أو منافق، لا تعلم دينه إلى غير ذلك من الصور، التي يكون محرما عليها بصفة عارضة فيه، لا تعلم بها، ثم قد تزول تلك الصفة ; وقد لا تزول، وأن يشارطوا لها في العقد شرطا مبطلا له، وهي لا تعلم كتوقيت النكاح ونحوه، لا سيما إذا كانت مجبرة إذ لا فرق بين أن يكون الغرور من الزوج فقط أو منه ومن الولي، ولا فرق بين أن يكون الغرر لها وحدها أو لها وللولي، إذ الضرر الحاصل عليها بفساد العقد أكثر من الضرر الحاصل على الولي، وإذا تأملت حقيقة التأمل وجدت الشريعة جاءت بأن لا ضرر على المغرور ألبتة، فإنها لا تأثم بما فعلته ويحل لها ما انتفعت به من نفقة، وتستحق المهر لا سيما إذا أوجبا المسمى، كظاهر مذهب أحمد الموافق لمذهب مالك، وكما ورد به حديث سليمان بن موسى، عن عروة عن عائشة مرفوعا: { فلها ما أعطاها بما استحل من فرجها } في قصة المزوجة بلا ولي، وكما قضت به الصحابة ثم استمر بها عدم العلم بقصده لم يكن فرق بينهما وبين غير المغرورة ما دامت غير عالمة، وأي وقت علمت كان علمها بمنزلة تطليق موجب لمفارقته، ومعلوم أن فرقته قد تحصل بموت أو طلاق، نعم لا تحل للأول بمنزلة التي ما تزوجت بل بمنزلة التي مات زوجها أو التي طلقها قبل أن تخاف عليه الموت، فما من ضرر يقدر عليها إلا ومثله ثابت في النكاح الصحيح، ومثل هذا لا يعد ضررا، وإن عد فهو مما حكم به أعدل الحاكمين، وليس هو بمحذور يخاف وقوعه في الأحكام الشرعية، وإذا استبان هذا ظهر الجواب عن قوله إنما نحكم بفساد العقد، إذا كان التحريم ثابتا من الطرفين فإنه يقال أتريد به التحريم، وإن كان في الباطن فقط أو التحريم الظاهر إن أردت به الأول فلا نسلم أن التحريم هنا هو على الزوج وحده، بل هو ثابت على كل منهما، لكن انتفى حكمه في حق المرأة لفوات المشروط، فإن المرأة لو علمت بهذا القصد لحرم العقد عليها، وهذا هو التحريم الباطن، وإذا كان كذلك فقد فسد العقد في الباطن لوجود التحريم في الباطن من الطرفين، وفسد في الظاهر في حق الزوج لوجود التحريم في حق الزوج ظاهرا، فترتب على كل تحريم من الفساد ما يناسبه في محله ظاهرا أو باطنا من الطرفين أو أحدهما وإن أردت به التحريم الظاهر أو الظاهر والباطن، من الطرفين فلا نسلم أن هذا هو الشرط في الفساد، بل قد دللنا على أن هذا لا يشترط بما ذكرناه من الفساد في صور انفراد أحدهما بالعلم بالتحريم، وإن كان الآخر لا يأثم ولو سلم على سبيل التقدير أن هذا العقد صحيح ; فيقال له هل هو صحيح من الطرفين أو من جانب الزوجة فقط، أما الأول فممنوع وكذلك إن قاسه على صورة المصراة فلا نسلم أن انتفاع البائع بجميع الثمن في صورة التصرية والتدليس حلال، ولا يلزم من ملك المشتري المبيع ملك البائع العوض، إذا كان ظالما كما نقوله نحن وأكثر الفقهاء في مسألة الحيلولة، إذا حال بينه وبين ملكه فإن المظلوم المغصوب منه له أن يطالبه بالبدل وينتفع به حلالا، والغاصب الظالم لا يملك العين المغصوبة، ولا يحل له الانتفاع بها ونظائرها كثيرة وإذا لم يقم دليل على صحة العقد من الطرفين فلا نسلم أن النكاح المبيح لعودها إلى الأول هو ما كان صحيحا من أحد الطرفين دون الآخر، لكن يلزم على هذا المنع أنه لو نكح معيبة مدلسة للعيب ولم يعلم بالعيب حتى طلقها، أو نكح المعيب صحيحة مدلسا لعيب ولم تعلم بعيبه حتى طلقها أنها لا تحل للمطلق ثلاثا بهذا النكاح، وفيه نظر وقد يقال: هذا قوي على أصلنا، فإنا نقول لو وطئها وطئا محرما بحيض أو إحرام أو صيام لم يبحها للأول في المنصوص من المذهب، فإذا اعتبرنا حل الوطء فهذه العادة لا يحل لها الاستمتاع لكن يفرق بين الصورتين بأن التحريم في مسألة الوطء لحق الله سبحانه فأشبه ما لو كان العقد محرما لحق الله، وفي مسألة تدليس العيب التحريم لحق الآدمي، فأشبه ما لو وطئها في حالة مرض شديد، وإذا لم يصح هذا الجواب فيكفي الجواب الأول، وأما إذا باع سلعة لمن نيته أن يعصى بها، والبائع لا يعلم النية فما دام عدم هذا العلم مستصحبا فلا إشكال، وإذا علم البائع بعد العقد بقصد المشتري فمن الذي سلم أن البائع لا يجب عليه في هذه الحال استرجاع المبيع ورد الثمن، لو ثبت أن هذا القصد كان موجودا وقت العقد، ولو سلمت هذه الصورة أو سلم أن نية المشتري إذا تغيرت لم تحتج إلى استئناف عقد، فالفرق ما سننبه عليه إن شاء الله تعالى، مع أن هذا القصد لم يناف نفس العقد . فإن قصد التحليل قصد لرفع العقد وذلك مناف له، وهنا القصد قصد الانتفاع بالمبيع، وهذا القصد مستلزم لبقاء العقد لا لفسخه فهو كما لو تزوج المرأة بنية يأتيها في المحل المكروه، لكنه قصد أن يفعل في ملكه محرما، فالبائع إذا علم ذلك لم يحل له الإعانة على المعصية بالبيع، أما إذا لم يعلم فالبائع بائع غيره بيعا ثابتا، وذلك الغير اشترى شراء ثابتا ولا يحرم على الرجل أن يعين غيره على ما لا يعلمه معصية، وقصده لم يناف العقد ولا موجبه، وإنما كان حراما تحريما لا يختص بالعقد، فإنه لو أراد الرجل أن يعصي الله بما قد ملكه قبل ذلك، لوجب منعه عن ذلك وحرمت إعانته، فالبائع إذا علم بعد ذلك بنيته كان عليه أن يكفه عن المعصية بحسب الإمكان ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وفي الجملة هذه المسألة فيها نظر فيجاب عنها بالجواب المركب، وهو إن كانت مثل مسألتنا التزمنا التسوية بينهما، وإن لم تكن مثلها لم يصح القياس عليها، وأما ما ذكروه من أن عمر رضي الله عنه سوغ الإمساك بمثل هذا العقد، فسنذكر إن شاء الله حديث عمر ونتكلم عليه، وإن كان عمر قال هذا، فلن يقتضي كون معقد يصح إذا زالت النية الفاسدة ; لأنه إن كان صحيحا مع وجودها كما قد ذهب طوائف من الفقهاء إلى أن الشرط الفاسد الملحق بالعقد إذا حذف بعده صح العقد، وهذا مما يسوغ فيه الخلاف، وقد ذهب غيره من الصحابة إلى ما عليه الأكثرون من أنه لا بد من استئناف عقد وهذا في الجملة محل اجتهاد .

وأما صحة عقد المحلل بكل حال فلم ينقل لا عن عمر ولا عن غيره من الصحابة فيما علمناه بعد البحث التام، فإن قيل: فقد سماه محللا والمحلل هنا الذي يجعل الشيء حلالا كما في نظائره مثل محسن ومقبح ومعلم ومذكر وغير ذلك، فيكون محللا ملعونا والآخر محللا له ملعونا، قلنا: هذا سؤال لا يحل إيراده، أترى رسول الله ﷺ { يلعن من جاء إلى شيء محرم فصار بفعله حلالا عند الله } كلا ولما، كيف وهو ﷺ يقول { إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على المسلمين من أجل مسألته }، { وما خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه }، فإن هذا بمن يحمده ويدعو له أولى منه بمن يلعنه ويذمه، ثم هو فاسد من وجوه، أحدها: أنه لو أريد بالمحلل من جعل الشيء حلالا في الحقيقة لكان كل من نكح المطلقة ثلاثا محللا ولما كان ملعونا وهذا باطل بالضرورة الثاني: أن فعله إذا كان محرما لأجل اللعنة عليه دل ذلك على أن النكاح فاسد، وامتنع أن يصير الفرج المحرم حلالا بالنكاح المحرم، فإن المسلمين أجمعوا على أنها لا تباح إلا بنكاح صحيح إلا أن بعضهم قال تباح بنكاح يعتقد صحته وإن كان فاسدا في الشرع، والجمهور على أنه لا بد أن يكون صحيحا في الشرع ; لأن الله سبحانه أطلق النكاح في القرآن، والنكاح المطلق هو الصحيح، وهذا هو الصواب على ما هو مقرر في موضعه، وأجمعوا فيما نعلم على أن الأنكحة المحرمة فاسدة، ولم يقل أحد من الفقهاء المعتبرين علمناه أن هذا النكاح أو غيره حرام وهو مع ذلك صحيح، وإن كانوا قد اختلفوا في بعض التصرفات المحرمة، هل تكون صحيحة، والذي عليه عوام أهل العلم أن التحريم يقتضي الفساد، وذلك ; لأن الفروج محظورة قبل العقد، فلا تباح إلا بما أباحها الله سبحانه من النكاح أو الملك، كما أن اللحوم قبل التذكية حرام فلا تباح إلا بما أباحه الله من التذكية، وهذا بين، الثالث: أنه قد لعن المحلل له وهو لم يصدر منه فعل، فلو كانت قد حلت له وقد نكح امرأة حلالا له لم يجز لعنه على ذلك، الرابع: إن هذا الحديث يدل على أن التحليل حرام بل من الكبائر وجعل الحرام حلالا إذا صار حلالا عند الله ليس بحرام، وهو حسن مستحب، الخامس: أن الحديث نص في أن فعل المحلل حرام وعودها للمحلل له بهذا السبب حرام، فيجب النهي عن ذلك والكف عنه، ويكون من أذن فيه أو فعله عاصيا لله ورسوله، وهذا القدر يكفي هنا، فإنه من المعلوم أن من يعتقد حلها بهذا التحليل لا يرى واحدا من الأمرين حراما بل يبيح نفس ما حرمه الله ورسوله، ويستحل ذلك وأما تسميته وجعله محللا، فلأنه قصد التحليل ونواه ولم يقصد حقيقة النكاح، مع أن الحل لا يحصل بهذه النية، ولأنه حلل الحرام أي جعله يستحل كما يستحل الحلال، ومن أباح المحرمات وحللها بقوله أو فعله يقال محلل للحرام، وذلك ; لأن التحليل والتحريم في الحقيقة هو إلى الله، وإنما يضاف على وجه الحمد إلى من فعل سببا يجعل الشارع الشيء به حلالا أو محرما، لكن لما كان التحريم جعل الشيء محرما أي محظورا، والتحليل جعله محللا أي مطلقا، كان كل من أطلق الشيء وأباحه بحيث يطاع في ذلك يسمى محللا ومنه قوله سبحانه: { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } لما أطلقوه لمن أطاعهم تارة وحظروه عليه أخرى كانوا محلين مجرمين، وكذلك قوله سبحانه: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } لما منع نفسه من الأمة أو العسل باليمين بالله أو بالحرام صار ذلك تحريما، وكذلك قوله سبحانه: { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } وقوله سبحانه { وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا }، وقول النبي ﷺ فيما يؤثر عن ربه: { إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم } وقوله ﷺ لعدي بن حاتم في قوله { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال: { أما إنهم ما عبدوهم ولكنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال }، وقوله ﷺ: { لا تركبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل }، وقول ابن مسعود { يتلونه حق تلاوته } يحرمون حرامه ويحلون حلاله }، وهذا باب واسع فلما كان هذا الرجل قصد أن يحلها للأول، وقد يجعلها في ظن من أطاعه حلالا وهي حرام يسمى محللا ; لذلك يبين ذلك أن لعنته ﷺ للمحلل دليل على أن الحل إذا ثبت لم يطلق على صاحبه محلل، وإلا فيكون كل ناكح للمطلقة ثلاثا محللا، وإن نكاح رغبة فيدخل في اللعنة وهذا باطل قطعا، فعلم أن المحلل اسم لمن قصد التحليل وجعلها حلالا وليست بحلال ; لأنه حلل ما حرم الله بتدليسه وتلبيسه وقصد أن يحلها، فليس له أن يتزوجها قاصدا للتحليل، وأصل هذا أن المحلل والمحرم هو من جعل الشيء حلالا وحراما، إما في ذاته أو في الاعتقاد، ثم إنه يقال للرجل أحل الشيء إذا أطلقه لمن يطيعه، وحرمه إذا منع من يطيعه منه، كما يقال فلان يزكي فلانا ويعدله ويصدقه ويكذبه إذا كان يجعله كذلك في الاعتقاد، سواء كان في الحقيقة كذلك أو لم يكن .

المسلك الثاني: ما روى أبو إسحاق الجوزجاني ثنا ابن مريم، أنبأنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: { سئل رسول الله ﷺ عن المحلل، فقال: لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق العسيلة } ورواه ابن شاهين في غرائب السنن، والدلسة من التدليس، وهو الكتمان والتغطية للعيوب، والمدالسة المخادعة، يقال فلان لا يدالسك، أي لا يخادعك، ولا يخفي عليك الشيء فكأنه يأتيك في الظلام، والدلس بالتحريك الظلمة، وذلك لا من قصد التحليل فقد دلس مقصوده الذي يبطل العقد، وكتم النية الردية بمنزلة المخادع المدالس الذي يكتم الشر ويظهر الخير، وإسناد هذا الحديث جيد إلا إبراهيم بن إسماعيل فإنه قد اختلف فيه فقال يحيى بن معين في رواية الدارمي هو صالح، وقال الإمام أحمد في رواية أبي طالب هو ثقة، من أهل الذمة، وقال محمد بن سعد كان مصليا عابدا صام ستين سنة، وقال ابن معين في رواية الدوري ليس بشيء، وقال البخاري منكر الحديث، وقال النسائي ضعيف، وقال أبو أحمد بن عدي هو صالح في باب الرواية، ونكتب حديثه على ضعفه، وهذا الذي قاله ابن عدي عدل من القول فإن في الرجل ضعفا لا محالة، وضعفه إنما هو من جهة الحفظ وعدم الإتقان لا من جهة التهمة، وله عدة أحاديث بهذا الإسناد، روى منها الترمذي وابن ماجه، فمثل هذا يكتب حديثه للاعتبار به، وقد جاء حديث مرسل يوافق هذا، قال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا حميد بن عبد الرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار أنه سئل عن رجل طلق امرأته ; فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه، ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحللها له، فقال: لا، ثم ذكر أن النبي ﷺ سئل عن مثل ذلك، فقال: { لا حتى ينكحها مرتغبا لنفسه حتى يتزوجها مرتغبا لنفسه فإذا فعل ذلك لم تحل له حتى تذوق العسيلة }، وهذا المرسل حجة ; لأن الذي أرسله احتج به، ولولا ثبوته عنده لما جاز أن يحتج به من غير أن يسنده، وإذا كان التابعي قد قال إن هذا الحديث ثبت عندي كفى ذلك ; لأنه أكثر ما يكون قد سمعه من بعض التابعين، عن صحابي أو عن تابعي آخر عن صحابي، وفي مثل ذلك يسهل العلم بثقة الراوي، وموسى بن أبي الفرات، هذا ثقة ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه، وروى عن يحيى بن معين أنه قال هو ثقة، وذكر عن أبيه أبي حاتم أنه قال هو ثقة، وناهيك بمن يوثقه هذان مع صعوبة تزكيتهما، ولا أعلم أحدا أخرجه وأما ابن أبي شيبة وحميد بن عبد الرحمن الذي روى عنه ويعرف بالراوي من مشاهير العلماء الثقات وابن أبي شيبة أحد الأئمة فهذا المرسل حجة جيدة في المسألة، ثم الحديثان إذا كان فيهما ضعف قليل مثل أن يكون ضعفهما إنما هو من جهة سوء الحفظ ونحو ذلك، إذا كانا من طريقين مختلفين عضد أحدهما الآخر، فكان في ذلك دليل على أن للحديث أصلا محفوظا عن النبي ﷺ، يؤيد ذلك هنا: أن عمر أكثر علمه من جهة أصحاب ابن عباس، وذلك المسند عن ابن عباس، فيوشك أن يكون للحديث أصل عن ابن عباس، وأن يكون ابن أبي حبيبة حفظ هذا الحديث عن داود بن الحصين كما رواه عمر مرسلا، لا سيما وقول ابن عباس وفتياه توافق هذا، وقد روي عن نافع عن ابن عمر أن رجلا قال له امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم، قال: لا إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها، قال وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله سفاحا، لعن الله المحلل والمحلل له، ذكره أبو إسحاق التغلبي والإمام أبو محمد المقدسي بمعنى واحد واللفظ فيه اختلاف، وهذا الحديث أيضا نص في المسألة لكن لم أقف على إسناده ثم وقفت على إسناده، رواه وكيع بن الجراح عن أبي غسان المدني عن عمر بن نافع عن أبيه أن رجلا سأل ابن عمر عمن طلق امرأته ثلاثا فتزوجها هذا السائل عن غيره مؤامرة منه أتحل لمطلقها، قال ابن عمر لا إلا نكاح رغبة كنا نعده سفاحا على عهد رسول الله ﷺ، وهذا الإسناد جيد، رجاله مشاهير ثقات وهو نص في أن التحليل المكتوم كانوا يعدونه على عهد رسول الله ﷺ سفاحا .

ويقال لمن قصد التحليل محلل فصار المحلل يقال لأربعة أقسام، أحدها: لمن أثبت الحل الشرعي حقيقة أو إظهارا كما قال سبحانه: { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }، والثاني: لمن اعتقد ذلك كما يقال فلان يحلل المتعة ويحلل نكاح الخامسة في عدة الرابعة، والثالث: لمن أطلق ذلك لمن أطاعه وكما يقال السلطان قد حرم الفلوس وأحلها، والرابع: لمن قصد ذلك وإن لم يحصل له فكل من أثبت المصدر الثلاثي في الوجودي العيني أو العلمي على وجه من الوجوه جاز أن ينسب إليه، ومعلوم أن النبي ﷺ لم يقصد الأول ولا الثاني، فثبت أنه قصد الثالث والرابع، وهو المقصود نعم تسمية الفرس مع الفرسين محللا هو من القسم الأول، فإن قيل: نحمل هذا الحديث على شرط التحليل في نفس العقد، وهذا وإن كان فيه تخصيص، فالموجب له أن الشروط المؤثرة في العقد ما قارنته دون ما تقدمته كما في الشروط المؤثرة في البيع، أو يحمل على من أظهر التحليل دون من نواه ; لأن العقود إنما يعتبر فيها ظاهرها دون باطنها، وإلا لكان فيه ضرر على العاقد الآخر، فإنه لا اطلاع له على نية الآخر ; ولأن النكاح يفتقر إلى الشهادة فلو كانت النية مؤثرة فيه لم تنفع الشهادة، إذا كان قصد الرغبة شرطا في صحة النكاح وهو غير معلوم ; ولأنه لو اشترى شيئا بنية أن لا يبيعه ولا يهبه صح ذلك، ولو شرط ذلك فيه كان فاسدا، فعلم أن النية ليست كالشرط، هذا إن سلمنا أن لفظ التحليل يعم المشروط في العقد وغيره، وإلا فقد يقال إن المحلل إنما هو من شرط التحليل في العقد، فأما من نواه فليس هو محللا أصلا فلا يدخل في عموم اللفظ، وحينئذ فلا يكون هذا تخصيصا ودليل هذا أن المؤثر في العقد اسما وحكما ما قارنه وهو الذي يختلف الإسلام باختلافه، فأما مجرد الباطن فلا يوجب تغيير الاسم ثم لا بد من الدليل على أن القاصد للتحليل من غير شرط محلل حتى يدخل في الحديث وإلا فالأصل عدم دخوله، قلنا الكلام في مقامين: أحدهما: أن اسم المحلل يعم القاصد والشارط في العقد، وقبله بمعنى أن لفظ المحلل يقع على هذا كله، والثاني: أنه يجب إجراء الحديث على عمومه، وأن عمومه مراد، أما المقام الأول: فالدليل عليه من وجوه: أحدها: أن السلف كانوا يسمون القاصد للتحليل محللا، وإن لم يشرطه، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فإن لم يكن المحلل عاما لكل من قصد التحليل محللا وإن لم يشرطه، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فإن لم يكن المحلل عاما لكل من قصد التحليل، وإلا كان إطلاقه على غير الشارط بطريق الاشتراك أو المجاز، وهذا لا يجوز المصير إليه إلا لموجب ولا موجب مثل ما سيأتي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن المحلل والمحلل له قال: لا يزالان زانيين، وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم الله سبحانه أنهما أرادا أن يحللاها، ومعلوم أنه إنما سئل عمن يقصد التحليل، وإن لم يشرط، فإنه أجاب عن ذلك وقد سمي محللا، وفي لفظ عنه: إذا علم الله أنهما محللان لا يزالان زانيين، فأطلق على القاصد اسم المحلل، وفي رواية عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها فقال: " لعن الله المحلل والمحلل له هما زانيان " فسئل عمن قصد التحليل فأجاب بلعنة المحلل والمحلل له، فعلم دخول القاصد في المحلل وإلا لم يكن قد أجاب وهذا موجود في كلام غير واحد كما قدمنا في ألفاظ السلف في أول المسألة، وكما سيأتي إن شاء الله من ألفاظ الصحابة فإنه من تأملها علم بالاضطرار أنهم كانوا يسمون القاصد للتحلل محللا، ويدخل عندهم في الاسم إذ كان هو الذي يسمونه محللا لعدم الشارط في العقد عندهم أو لقلته، الثاني: أنه قد قال أهل اللغة منهم الجوهري المحلل في النكاح الذي يتزوج المطلقة ثلاثا حتى تحل للزوج الأول، فجعلوا كل من تزوجها لتحل للأول محللا في اللغة، الثالث: استعمال الخاصة والعامة إلى اليوم فإنهم يسمون كل من تزوج المرأة ليحلها محللا وإن لم يشرط التحليل في العقد، والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها، وإن لم يثبت أن اسم المحلل كان مقصورا في لغة من كان على عهد رسول الله ﷺ، على الشارط في العقد وإلا لم يحكم بأنه من الأسماء المنقولة أو المغيرة، فكيف وقد ثبت عن أهل عصره أنهم كانوا يسمون من قصد التحليل محللا، وإن لم يشرطه، وكذلك نقل أهل اللغة وكذلك هو في عرف الفقهاء فإن منهم من يقول نكاح المحلل باطل، ومنهم من يقول نكاح المحلل باطل إذا شرط التحليل في العقد، ومنهم من يقول هو صحيح، وهذا اتفاق منهم على أن المحلل ينقسم إلى قاصد وإلى شارط، وليس تصحيح بعضهم لنكاح القاصد مانعا من أن يسميه محللا كما أن من صحح نكاح الشارط فإنه يسميه أيضا محللا إذ الفقهاء إنما اختلفوا في حكم النكاح، لا في اسمه فثبت بالنقل واستعمال الخاص والعام أن هذا يسمى محللا، الرابع: أن المحلل اسم لمن حلل الشيء الحرام فإنه اسم فاعل لمن أحل المرأة وحللها، إذا جعلها حلالا، وهذا المعنى يشمل كل من تزوجها ليحلها فإنا قد قدمنا أنه لم يعن به من جعلها حلالا في حكم الله في الباطن، وإنما أريد به من قصد التحليل وأراده وهذا المعنى بالمريد أخص منه بالشارط، وإن أريد به من جعلها حلالا عند الناس وليست حلالا عند الله، فهذا أيضا في القاصد أظهر منه في الشارط إذ الشارط قد أظهر المفسد للعقد فلا يحصل الحل لا في الظاهر ولا في الباطن بخلاف الكاتم للقصد فعلم أن إظهار التحليل أو اشتراطه لا تأثير له في استحقاق اسم المحلل في نفس الأمر إذا كان قد قصد التحليل وأراده، الخامس: أنه لا ريب أن من قصد التحليل يسمى محللا، إذا باشر سببه، كما يسمى من حرم طعامه وشرابه محرما لقصد التحريم ومباشرة سببه، ومن أظهر التحليل في العقد يسمى محللا لاشتراطه إياه وإذا كان قياس التصريف والأصول الكلية للغة العربية، توجب تسمية كل منهما محللا، لم يجز سلب أحدهما اسم التحليل، بل يكون اللفظ شاملا لهما، واعلم أنا سنبين من وجوه أن الحديث قصد به وعنى به من قصد التحليل وإن لم يشرطه، وإذا ثبت أنه مراد لرسول الله ﷺ ثبت أن اللفظ أيضا يشمله، فإنا كما نستدل بشمول اللفظ له على إرادته نستدل أيضا بإرادته على شمول اللفظ له، وهذا هو المقام الثاني فنقول: الدليل على أن الحديث عنى به كل محلل أظهر التحليل أو أضمره، وأنه لا يجوز قصره على من شرط التحليل وحده وجوه عشرة: أحدها: أن الحديث أدنى أحواله أن يشمل التحليل المشروط والمقصود فإن لفظ التحليل قد بينا أن المراد به جعل المرأة حلالا، أي قصد أن تكون حلالا، وهذا يدخل فيه من قصد ولم يشرط ولا موجب لتخصيصه، وسنتكلم إن شاء الله على ما ذكروه مخصصا، بل الأدلة على عموم الحكم تعضد هذا العموم، يوضح ذلك أن الإسلام إذا تناول صورا كثيرة موجودة وأراد المتكلم بعضها دون بعض فلا بد أن ينصب دليلا يبين خروج ما لم يرده، فلما لم يذكر في شيء من الحديث لعن الله المحلل الذي يظهر التحليل، أو الذي يشترط التحليل أو الذي يكتم التحليل، ولم يجئ في شيء من النصوص ما يخالف هذا القول كان العمل به متعينا، وعلم أن الشارع قصد مفهومه ومعناه، الثاني: أنه ﷺ لو قصد التحليل المشروط في العقد خاصة أو التحليل الذي تواطئوا عليه دون المقصود، للعن الزوجة والولي كما لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، ولعن في الخمر عاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها وآكل ثمنها وشاربها وساقيها، بل كانت المرأة أحق باللعن من الزوجين ; لأنها شاركت كلا منهما فيما يفعله، فصار إثمها بمنزلة إثمهما جميعا، وإذا كان يلعن الشاهد والكاتب فالولي والعاقد أولى، فلما خص باللعنة الزوجين علم أنه عنى التحليل المقصود المكتوم عن المرأة ووليها، وهو ما كان يفعله الصديق مع صديقه عند الطلاق من تزوجه بالمطلقة ليحلها له وهما قد علما ذلك، والمرأة وأهلها لا يعلمون ذلك، الوجه الثالث: أنه لعن شاهدي الربا وكاتبه وقد تقدم هذا الحديث أنه لعن شاهدي الربا وكاتبه إذا علموا به ولعن المحلل والمحلل له، مع أن الشاهدين في النكاح أوكد، فلو كان التحليل ظاهرا للعن الشاهدين، فعلم أنه تحليل لم يعلم به، وأن المحلل لم يكن يظهر تحليله لأحد، الوجه الرابع: أن التحليل المشروط في العقد لا يتم بين المسلمين لا سيما على عهد رسول الله ﷺ وأصحابه، فإنه حينئذ يشهد به الشهود فيظهر للناس فينكرون ذلك ويحولون بين الرجل وبين هذا النكاح، كما لو أراد أن يتزوج بامرأة يقول هي أخته أو بنته أو ربيبته فإنه متى أراد أن ينكح نكاحا فاسدا وأظهر فساده لم يتم له ذلك، فلما لعن المحلل زجرا عن ذلك علم أنه من الأمور التي تخفى على العامة كالسرقة والزنا وغير ذلك، يبين ذلك: أن النبي ﷺ لم ينقل عنه أنه لعن من نكح نكاحا محرما إلا المحلل والمحلل له، مع أن سائر الأنكحة المحرمة مثل نكاح ذوات المحارم ونحوهن مثل نكاح المحلل وأغلظ، وذلك والله أعلم ; لأن القصد بإظهار اللعن بيان العقوبة لتنزجر النفوس بذلك، وسائر الأنكحة المحرمة لا يتمكن مريدها من فعلها ; لأن شاهدي العقد والولي وغيرهم يطلعون على السبب المحرم، فلا يمكنونه بخلاف المحلل فإن السبب المحرم في حقه باطن، ثم تلك المناكح قد ظهر تحريمها فلا يشتبه حالها، بخلاف نكاح المحلل فإنه قد يشتبه حاله على كثير من الناس ; لأن صورته صورة النكاح الصحيح، وهذا يبين أنه إنما قصد باللعنة من أسر التحليل، ثم يكون هذا تنبيها على من أظهره، فإن قيل: فقد لعن آكل الربا وموكله ولعن بائع الخمر ومبتاعها، قيل: البيع لا يفتقر إلى إشهاد وإعلان فتقع هذه العقود من غير ظهور بين المسلمين، كما تقع الفاحشة والسرقة، ولهذا لعن الشاهدين إذا علما أنه ربا، فإنهما قد يستشهدان على دين مؤجل ولا يشعران أنه ربا، ولا يتم مقصود المربي غالبا إلا بالإشهاد على الدين، ولهذا لم يذكر في بيع الخمر الشاهدين ; لأن بيعها لا يكون غالبا إلى أجل، يحقق هذا أنه لم يلعن من عقد بيعا محرما إلا في الخمر والربا ; لأن شاهدي النوعين هما اللذان يقع فيهما الاحتيال والتأويل بأن يبيع الرجل عصيره لمن يتخذه خمرا، متأولا أنى لم أبع الخمر، وبأن يربي بصورة البيع متأولا أنى بائع لا مرب، وهما اللذان يقع الشر فيهما أكثر من غيرهما، فظهر أنه ﷺ إنما لعن العقود ثلاثة أصناف، صنف التحليل وصنف الربا وصنف الخمر، وهذه الثلاثة هي التي تقدم البيان بأن سيكون في هذه الأمة من يستحلها، بالتأويل الفاسد، وتسميتها بغير أسمائها فخصها باللعنة ; لأن أصحابها غير عارفين بأنها معاص ; ولأن معصيتهم تبطل غالبا، فلا تتمكن الأمة من تغييرها ; ولأن هذه المعاصي يجتمع فيها الداعي الطبيعي إلى المال والوطء والشرب، مع تزيين الشيطان أنها ليست بحرام، فيكون ذلك سببا لكثرتها، ولأنه قد علم ﷺ أنه سيكون من يفعلها فتقدم بلعنته زجرا عن ذلك، بخلاف بيع الميتة ونكاح الأم ونحو ذلك من المحرمات، وهذا كله إذا تأمله اللبيب علم أنه قصد لعنة من أبطن التحليل، وإن كان من أظهره يدخل في ذلك بطريق التنبيه وبطريق العموم، الوجه الخامس: أن التحليل أكثر ما يكون برغبة من الزوج المطلق ثلاثا فحينئذ فإما أن يسر ذلك إلى المحلل أو يشرطه عليه، ثم يعقد النكاح مطلقا، وكذلك إن كان باتفاق من المرأة، فالاشتراط في العقد نادر جدا، لا سيما اللفظ الذي يعتبره هذا السائل، وهو أن يقول زوجتك إلى أن تحلها أو على أنك إذا وطئتها فلا نكاح بينكما، أو على أنك إذا وطئتها طلقتها، فإن العقد بمثل هذا اللفظ إما نادر أو معدوم في جميع الأزمان، واللفظ العام الشامل لصور كثيرة تعم بها البلوى لا يجوز قصره على الصور القليلة دون الكثيرة، فإن هذا نوع من العي واللبس وكلام الشارع منزه عنه، وكما قالوا في قوله { أيما امرأة نكحت نفسها بدون إذن وليها فنكاحها باطل } فإن حمل هذا اللفظ على المكاتبة ممتنع بلا ريب عند كل ذي لب، ومن عرف عقود المسلمين، كيف كانت إن هذه الصيغة المذكورة للتحليل مثل قوله زوجتك على أنك تطلقها إذا أحللتها، أو على أنك إذا وطئتها فلا نكاح بينكما، لم تكن تعقد بها العقود، علم أن التحليل الملعون فاعله هو ما كان واقعا من قصد التحليل وإرادته، الوجه السادس: أن المحلل اسم مشتق من التحليل، وليس المعنى أنه أثبت الحل حقيقة، فإن هذا لا يعلن بالاتفاق، وإلا للعن كل من تزوج المطلقة ثلاثا، ثم طلقها فعلم أن المعنى به أنه أراد التحليل وسعى فيه، والحكم إذا علق باسم مشتق من معنى كان ما منه الاشتقاق علة فيكون الموجب للعنة أنه قصد الحل للأول، وسعى فيه، فتكون اللعنة عامة لذلك عموما معنويا، ومثل هذا العموم لا يجوز تخصيصه إلا لوجود مانع ولا مانع من عمومه، فلا يجوز تخصيصه بحال، يبين هذا أنا لو قصرناه على التحليل المشروط في العقد لم تكن العلة هي التحليل ولا شيئا من لوازم التحليل، بل العلة توقيت النكاح أو شرط الفرقة فيه بالعقد، وهذا المعنى ليس من لوازم قصد التحليل فكيف تعلق الحكم باسم مشتق مناسب ثم لا تجعل العلة ذلك المعنى المشتق منه، ولا شيئا من لوازمه، بل شيئا قد يوجب في بعض أفراده، لقد كان الواجب أن يقال لو أريد ذلك المعنى لعن الله من شرط التحليل في العقد، وهذا بين إن شاء الله تعالى، الوجه السابع: أنه لو كان التحليل هو المشروط في العقد فقط، لكان إنما لعن ; لأنه بمنزلة نكاح المتعة من حيث إنه نكاح مؤقت أو مشروط فيه زواله، أو الفرقة، وحينئذ فكان يجب أن يباح لما كانت المتعة مباحة، وأن يكون في التحريم بمنزلة المتعة، ولما { لعن النبي ﷺ المحلل والمحلل له }، ولم يذكر عنه لعن المستمتع، ولم ينقل عنه أنه أبيح التحليل في الإسلام قط، بل هذا ابن عباس وهو ممن يرى إباحة المتعة ويفتي بها، ويروي عن النبي ﷺ أنه لعن المحلل والمحلل له، ويلعن هو من فعل ذلك، ويفتي بتحريمه ويقول إن التحليل المكتوم مخادعة لله، وأنه من يخادع الله يخدعه، علم أن التحليل حرم لقدر زائد على المتعة، وما ذاك إلا ; لأن المستمتع له رغبة في المرأة، وقصد إن كانت إلى أجل، والمحلل لا رغبة له في النكاح أصلا، وإنما هو كما جاء في الحديث بمنزلة التيس المستعار، فإن صاحب الماشية يستعير التيس لا لأجل الملك والقنية، ولكن لينزيه على غنمه، فكذلك المحلل لا رغبة للمرأة ووليها في مصاهرته ومناكحته واتخاذه ختنا، وإنما يستعيرونه لينزونه على فتاتهم، وإذا كان كذلك فهذا المعنى موجود سواء شرط في العقد أو لم يشرط، الوجه الثامن: أنه قرنه بالواشمة والمستوشمة والواصلة والموصولة، فلا بد من قدر مشترك بينهما وذلك هو التدليس والتلبيس، فإن هذه تظهر من الخلقة ما ليس لها، وكذلك المحلل يظهر من الرغبة ما ليس له، وكذلك قرنه بآكل الربا وموكله لوجهين، أحدهما: أن كلاهما يستحل بالتدليس والمخادعة، والثاني: أن هذا استحلال للربا، وهذا للزنا والزنا والربا فساد الأنساب والأموال، وقد جاء في حديث ابن مسعود المتقدم فيما مضى وهو راوي الحديث { ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم العقاب }، وإذا كان الجامع بينهما التدليس والمخادعة فمعلوم أن هذا في التحليل المكتوم أبين منه في التحليل المشروط في العقد، الوجه التاسع: أنا سنذكر إن شاء الله تعالى عن النبي ﷺ ما روي عنه من النص في التحليل المقصود، وأن أصحابه بينوا أن من التحليل المقصود ما قصد بالعقد سواء شرط أو لم يشرط، وهم أعلم بمقصوده وأعرف بمراده ; لأنهم أعلم بمفهوم الخطاب اللغوي، وبأسباب الحكم الشرعي وبدلالات حال النبي ﷺ وهؤلاء منهم من روى حديث التحليل، مثل علي وابن عباس وابن عمر، ومعلوم أن الصحابي إذا روى الحديث وفسره بما يوافق الظاهر ولا يخالفه، كان الرجوع إلى تفسيره واجبا مانعا من التأويل، ولم يرو عنه الحديث مسندا فقد سماه محللا، وقد ثبت بما سيأتي إن شاء الله من حديث عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم، أنهم كانوا يفهمون من إطلاق نكاح المحلل ما قصد به التحليل، وإنما نهى هؤلاء عنه استدلالا بنهي النبي ﷺ على نكاح المحلل، فعلم أنهم فهموا ذلك منه، الوجه العاشر: أنه لو كان التحليل ينقسم إلى حلال وحرام وصحيح وفاسد، مع أن النبي ﷺ قد نهى عن ذلك في أحاديث متفرقة بألفاظ مختلفة، وكذلك أصحابه في أوقات متباينة وأحوال مختلفة، منها ما هو نص في التحليل المقصود ومنها ما هو كالنص، فلو كان كثير من التحليل بل أكثره مباحا كما يقوله المنازع، لكان الذي تقتضيه العادة المطردة فضلا عما أوجب الله من بيان الحق أن يبين ذلك ولو واحد منهم في بعض الأوقات، فلما لم يفصلوا ولم يبينوا كان هذا مما يوجب القطع، أن هذا التفصيلي لا حقيقة له عندهم، وأن جنس التحليل حرام فيما عناه النبي ﷺ وفيما فهموه، وهذا يوجب اليقين التام بعد استقراء الآثار وتأملها، فإن قيل: تسميته تيسا مستعارا دليل على مشارطته على التحليل ; لأن غيره إنما يكون استعارة إذا اتفقنا جميعا على التحليل، وهذا لا يكون في النية المجردة، قلنا: المستعير له هو المطلق، فإن المطلق كان يجيء إلى بعض الناس فيطلب منه أن يحلل له المرأة، فيكون هذا بمنزلة التيس الذي استعير لينزو على الشاة ; لأن المطلق الأول هو الذي له غرض في مراجعة المرأة فهو بمنزلة صاحب الشاة الذي له غرض في إنزاء التيس على شاته، فينبغي منه الوطء كما ينبغي من التيس النزو، فإذا كانت العادة أن المستعير له إنما هو المطلق لم يلزم من ذلك أن تكون المرأة قد شارطته، فإن المرأة مشبهة بالشاة والشاة لا تستعير، وإنما يستعار لها، ولهذا لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له، وهما المستعير والمستعار، فعلم أن هذه الاستعارة إنما صدرت منهما والله أعلم . المسلك الثالث: أن التحليل لو كان جائزا لكان النبي ﷺ يدل عليه من طلق ثلاثا، فإنه كان أرحم الناس بأمته وأحبهم لمياسير الأمور، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وقد جاءته امرأة رفاعة القرظي مرة بعد مرة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره، وهو يروى من حرصها على العود إلى زوجها ما يرق القلب لحالها ويوجب إعانتها على مراجعة الأول إن كانت ممكنة، ومعلوم أن التحليل إذا لم يكن حراما فلا يحصى من يتزوجها فيبيت عندها ليلة ثم يفارقها، ولو أنه من قد كان يستمتع، وقد كان يمكن النبي ﷺ أن يقول لبعض المسلمين حلل هذه لزوجها، فلما لم يأمر هو ولا أحد من خلفائه بشيء من ذلك مع مسيس الحاجة إليه علم أن هذا لا سبيل إليه، وأن من أمر به فقد تقدم بين يدي الله ورسوله، ولم تسمه السنة حتى تعدها إلى بدعة زينها الشيطان لمن أطاعه، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، ومن تأمل هذا المسلك وعلم كثرة وقوع الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه، وأنهم لم يأذنوا لأحد في تحليل، علم قطعا أنه ليس من الدين، فإن المقتضي للفعل إذا كان قديما قويا وجب وجوده، إلا أن يمنع منه مانع، فلما لم يوجد التحليل مع قوة مقتضيه علم أن في الدين ما يمنع منه .

المسلك السابع قوله سبحانه وتعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } قال هذا بعد أن قال سبحانه: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } فأذن الله سبحانه في فديتها إن خيف أن لا يقيما حدود الله لأن النكاح له حدود وهو ما أوجب الله لكل من الزوجين على الآخر، فإذا خيف أن يكون في اجتماعهما تعد لحدود الله، كان افتداؤها منه جائزا، ثم ذكر الطلقة الثالثة ثم ذكر أنها إذا نكحت زوجا غيره ثم طلقها فلها أن تراجع زوجها الأول، إن ظنا أن يقيما حدود الله، فإنما أباح معاودتها له إذا ظنا إقامة حدود الله، كما أنه إنما أباح افتداءها منه إذا خافا أن لا يقيما حدود الله، لأن المشروط هنا الفداء، ويكفي في إباحة الفرقة خوف الذنب في المقام والمشروط هنا النكاح، ولا بد في المجامعة من ظن الطاعة، وإنما شرط هذا الشرط لأنه قد أخبر عنهما أنهما كانا يخافان أن لا يقيما حدود الله، فلا بد مع ذلك من النظر إلى تلك الحال، هل تبدلت أو هي باقية بخلاف الزوج المبتدإ، فإن ظن إقامة حدود الله موجودة لأنه لم يكن هناك حال تخالف هذا، ونظير هذا قوله سبحانه: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } ; لأن الطلاق غالبا إنما يكون عن شر فإذا ارتجعا مريدا للشر بها لم يجز ذلك، بل يكون تسريحها هو الواجب، لكن قال هناك أحق بردهن فجعل الرد إلى الزوج خاصة ; لأن الكلام في الرجعية، وقال هنا أن يتراجعا فجعل التراجع إلى الزوجين جميعا ; لأن الكلام في المطلقة ثلاثا وهي لا تحل بعد الزوج الثاني إلا بعقد جديد موقوف على رضاها وكان في هذا دليل على أن هذه المرة الواحدة اجتمع فيها طلقتان وفدية وطلقة ثالثة، كما قال ابن عباس وغيره، فإذا تبين أن الله سبحانه، إنما أباح النكاح الذي قد يخاف فيه من ضرر لمن ظن أنه يقيم حدود الله فيه علم أن النكاح المباح هو النكاح الذي يحتاج فيه إلى إقامة حدود الله في المعاشرة، ونكاح المحلل ليس هو من هذا، فإنه إذا كان من نيته أن يطلقها عقيب وطئها فليس هناك عشرة يحتاج معها إلى إقامة حدود الله، فلا يكون هذا الظن شرطا فيه وهو خلاف القرآن، ويظهر ذلك بما لو أراد المطلق الأول أن يحلها للمطلق الثاني، فإن الله سبحانه إنما أباح لهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله، ونكاح المحلل لا يحتاج صاحبه أن يظن ذلك، فإن قال قائل بل اشترط ذلك في نكاح المحلل، قيل له إذا قال لك المحلل أنا من نيتي أن أطأها الساعة وأطلقها عقيب ذلك وكذلك هي من نيتها ذلك فهل يباح لنا ذلك، مع إن أقمنا لم نظن أنا نقيم حدود الله، فإن قال نعم خالف كتاب الله، وإن قال لا بطل مذهبه وترك أصله، يبين ذلك أن غالب المحللين أعني الرجل المحلل والمرأة لا يظنان أنهما يقيمان حدود الله ; لأن كل واحد منهما لا رغبة له في صاحبه، وإنما تزوجه ليفارقه ومن كانت هذه نيته كيف يظن أن يقيم حدود الله معه، لا سيما إذا تشارطا على ذلك، ولا يجوز أن يقال المعتبر في نكاح المحلل أن يظن إقامة حدود الله في الساعة التي يعاشرها فيها فقط ; لأنه من المعلوم أن حسن العشرة ساعة ويوما لا يعدمه أحد من الناس في الأمر العام، فإن كان هذا هو المشروط فهذا حاصل لكل أحد فلا حاجة إلى اشتراطه، وهذا بين إن شاء الله تعالى، وقد روي عن مجاهد في قوله { إن ظنا أن يقيما حدود الله } قال إن علما أن نكاحهما على غير دلسة وأراد بالدلسة التحليل، ومعنى كلامه والله أعلم إن علم المطلق الأول والزوجة أن النكاح الثاني كان على غير دلسة، فحينئذ إذا تزوجها يكون بحيث يظن أن يقيم حدود الله من الطلاق الأول والنكاح الذي بعده ثم الطلاق والنكاح أيضا، أما إذا تزوجها نكاح دلسة وطلقها ثم تراجعا لم يكونا قد ظنا أن يقيما حدود الله التي هي تحريمها أولا ثم حلها للثاني ثم حلها للأول، فعلى هذا تكون الآية عامة في ظن صحة النكاح وظن حسن العشرة، وأحد الظنين لأجل الماضي والحاضر، والآخر متعلق بالمستقبل، ولهذا والله أعلم لم يجعل الظن علما هنا، فلم يرفع الفعل حتى تكون أن الخفيفة من الثقيلة الدالة على أن الظن يقين، بل نصب بأن الخفيفة لنعلم أنه على بابه، ولأن كون الزوج الثاني لم يكن محللا قد لا يتيقن، وإنما يعلم بغالب الظن، وعلى هذا ففي الآية حجة ثابتة من هذا الوجه .

المسلك الثامن قوله سبحانه وتعالى: { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا }، وقد روى ابن ماجه وابن بطة بإسناد جيد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: { ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك } وفي لفظ لابن ماجه { خلعتك راجعتك } وقد روي مرسلا عن أبي بردة، فوجه الدلالة أن الله سبحانه حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها بأن يطلقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة، ثم يرتجعها ثم يطلقها قبل جماع أو بعده، ويمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يرتجعها ثم يطلقها، فتصير العدة تسعة أشهر وهكذا، فسره عامة العلماء من الصحابة والتابعين، وجاء فيه حديث مسند، ومعلوم أن هذا الفعل لو وقع اتفاقا من غير قصد منه بأن يرتجعها راغبا فيه ثم يبدو له فيطلقها ثم يبدو له فيرتجعها راغبا ثم يبدو له فيطلقها لم يحرم ذلك عليه، لكن لما فعله لا للرغبة لكن لمقصود آخر وهو أن يطلقها بعد ذلك ليطيل

العدة عليها حرم ذلك عليه، وتطويل العدة هنا لم يحرم ; لأنه في نفسه ضرر، فإنه لو كان كذلك لحرم وإن لم يقصد الضرر كالطلاق في الحيض أو بعد الوطء قبل استبانة الحمل، وإنما حرم لأنه قصد الضرر، فالضرر هنا إنما حصل بأن قصد بالعقد فرقة توجب ضررا لو حصل بغير قصد إليه لم يكن سببه حراما، كما أن المحلل قصد بالعقد فرقة توجب تحليلا لو حصل بغير قصد لم يكن سببه حراما، فإما أن يكون القصد لغير مقصود العقد محرما للعقد أو لا يكون، فإن لم يكن محرما للعقد والفعل المقصود هنا وهو الطلاق الموجب للعدة ليس محرما في نفسه، فيجب أن يكون صحيحا على أصل من يعتبر ذلك، وهو خلاف القرآن، وإن كان محرما للعقد فيجب أن يكون نكاح المحلل باطلا، وذلك أن الطلاق المنضم إلى النكاح المتقدم يوجب العدة المحرمة لنكاحها، ويوجب حلها للزوج الأول، فلا فرق بين أن يقصد النكاح وجود تحريم شرع ضمنا، أو وجود تحليل شرع ضمنا، فإنه ما شرع الله من التحريم أو التحليل ضمنا وتبعا لا أصلا وقصدا، ومتى أراده الإنسان أصلا وقصدا فقد ضاد الله في حكمه، يوضح ذلك: أن الطلاق سبب لوجود العدة، وإذا وقع كانت العدة عبادة لله تثاب المرأة عليها إذا قصدت ذلك، كما أن الطلاق الثاني سبب يحل المطلقة، والرجعة مقصودها المقام مع الزوجة لا فراقها، كما أن النكاح مقصوده ذلك، ولكن في العدة ضرر بالمرأة يحتمل من الشارع إيجاب ما يتضمنه، ولا يحتمل من العبد قصد حصوله، وكذلك من طلاق الزوج الثاني حل لمحرم، وزوال ذلك التحريم يتضمن زوال المصلحة الحاصلة في ذلك التحريم، فإنه لولا ما في تحريمها على المطلق من المصلحة لما شرعه الله، وزوال هذه المصلحة يحتمل من الشارع إثبات ما يتضمنه، ولا يحتمل من العبد قصد حصوله، ولا فرق في الحقيقة بين قصد تحليل ما لم يشرع تحليله مقصودا، وبين قصد تحريم ما لم يشرع تحريمه مقصودا والله أعلم، وهذا الوجه قد تقدم التنبيه عليه في قاعدة الحيل، وإنما ذكرناه هنا لخصوصه في النكاح والرجعة .

المسلك التاسع قوله سبحانه: { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } ومن آيات الله شرائع دينه في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ; لأنها الطريق التي يحل بها الحرام من الفروج أو يحرم بها الحلال، وهي من دين الله الذي شرعه لعباده، وكل ما دل على أحكام الله فهو من آياته، والعقود دلائل على الأحكام الحاصلة بها، وذكره هذه الآية بعد أن أباح أشياء من هذه العقود وحرم أشياء دليل على أنها من الآيات، وإلا لم يكن ذكرها عقيب ذلك مناسبا، وعن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي أنه قال: { ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك } رواه ابن ماجه وابن بطة وفي لفظ له: { خلعتك راجعتك طلقتك راجعتك }، وهذا دليل على أنها من آياته، وإذا كانت من آياته فاتخاذها هزوا فعلها مع عدم اعتقاد حقائقها التي شرعت هذه الأسباب لها، كما أن استهزاء المنافقين أنهم { إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون }، فيأتون بكلمة الإيمان غير معتقدين حقيقتها بل مظهرين خلاف ما يبطنون، فكل من أتى بالرجعة غير قاصد بها مقصود النكاح بل الضرار أو نحوه، أو أتى بالنكاح غير قاصد به مقصود النكاح بل التحليل ونحوه، فقد اتخذ آيات الله هزوا، حيث تكلم بكلمة العقد وهو غير معتقد للحقيقة التي توجبها هذه الكلمة من مقصود النكاح، كالمنافق في أصل الحديث سواء فذاك نفاق في أصل الدين وهذا نفاق في شرائعه فإن قول الإنسان آمنا كقوله تزوجت هو إخبار عما في باطنه من الاعتقاد المتضمن للتصديق والإرادة من وجه، وهو إنشاء العقد للإيمان، وعقد النكاح من حيث هو يبتدئ الدخول في ذلك من وجه، فإذا لم يكن صادقا في الإخبار عما في باطنه من الاعتقاد، إذ لا تصديق معه ولا إرادة له ولا هو داخل من حقيقة الإيمان والنكاح، بل إنما تكلم بكلمة ذلك لحصول بعض الأحكام التي هي من توابع ذلك، فليس هو صادقا في هذه الكلمة لا من حيث هي إنشاء ولا من حيث هي إخبار، وذكره في هذه الآية بعد قوله سبحانه: { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } دليل على أن إمساكهن ضرارا من اتخاذ آيات الله هزوا، وما ذاك إلا لأن الممسك تكلم بالرجعة وهو غير معتقد لمقصود النكاح بل إنما نكح ليطلق، والطلاق ليس هو المقصود بالنكاح ولا من المقصود به، وإذا ثبت أن التحليل من اتخاذ آيات الله هزوا ثبت أنه حرام ثم يلزم من تحريمه فساده بإبطال مقصود المحلل من ثبوت نكاحه ثم نكاح المطلق، وهذا الوجه قد تقدم ذكره بطريق العموم، في القاعدة الأولى في الاستدلال بآيات الاستهزاء، في تقرير أن المقاصد معتبرة في العقود، وإنما ذكر هنا لأن الكتاب والسنة دلا على النهي عن الاستهزاء في النكاح بخصوصه، فلذلك ذكر في الأدلة العامة والخاصة، ثم لما دلت هذه الآية على إبطال الاستهزاء بآيات الله، وكان ذلك يدخل في الهازل والمحلل بطل على كل منهما مقصوده، ومقصود الهازل أن لا ينعقد النكاح، فصحح عقده، ومقصود المحلل هو التحليل فلا يحصل والله أعلم .

المسلك العاشر أنه قصد بالعقد غير ما شرع له العقد، فيجب أن لا يصح وذلك ; لأن الله سبحانه شرع العقود أسبابا إلى حصول أحكام مقصودة، فشرع البيع سببا لملك الأموال بطريق المعاوضة، والهبة سببا لملك المال تبرعا، والنكاح سببا لملك البضع، والخلع سببا لحصول البينونة، فحقيقة البيع والهبة ومقصودهما المقوم لهما الذي لا قوام لهما بدونه انتقال الملك من مالك إلى مالك على وجه مخصوص، وملك المال هو القدرة على التصرف فيه بجميع الطرق المشروعة، وحقيقة النكاح ومقصوده حصول السكن والازدواج بين الزوجين لمنفعة المتعة وتوابعها ونحو ذلك، وحقيقة الخلع ومقصوده حصول البينونة بين الزوجين وأن تملك المرأة نفسها، فإذا تكلم بالكلمات التي هي صورة هذه العقود غير معتقد لمقاصدها وحقائقها بحيث يعلم من نفسه أنه إذا ثبت حقيقة العقد لم يرض لذلك لم يصح العقد لوجهين: أحدهما: أن الله سبحانه اعتبر الرضا في البيع، فهو في النكاح أعظم اعتبارا، والرضا بالشيء إرادة له ورغبة فيه، فمن لم يكن مريدا ولا راغبا في مقصود العقد لم يكن راضيا به، فلا عقد له، الثاني: أن عقد المكروه لا يصح مع أنه قد تكلم بالعقد، وما ذاك إلا ; لأنه قصد بلفظ العقد دفع الضرر عن نفسه، لا موجب ذلك اللفظ، كما قصد الناطق بكلمة الكفر مكرها دفع العذاب عن نفسه لا حقيقة الكفر، وكذلك المخادع مثل المحلل ونحوه قصد بلفظ العقد رفع التحريم بأن يطلقها، لا موجب ذلك اللفظ فهو كنطق المنافق بكلمة الإيمان، كما أن الأول كنطق المكره بها فكلاهما لم يثبت في حقه حكم هذا القول ; لأنه قصد به غير موجبه، بل إما بعض توابع موجبه أو غير ذلك، لكن المكره معذور ; لأنه محمول عليه بسبب من خارج، والمخادع غير معذور إذ هو محمول عليه بسبب من نفسه، ونكتة هذا: أن مقصود النيات معتبرة في العقود، كاعتبارها في العبادات، فإن الأعمال بالنيات، فكل من قصد بالعقد غير المقصود الذي شرع له ذلك العقد بل قصد به سببا آخر أراد أن يتوسل بالعقد إليه، فهو مخادع، بمنزلة المرائي الذي يقصد بالعبادات عصمة دمه وماله لا حقيقة العبادة، وإن كان هذا مقصودا تابعا لكنه ليس هو المقصود الأصلي، وقد تقدم تقرير هذا الوجه في الأدلة العامة لكن ما كان من تلك الأدلة لا يمس بخصوصه مسألة التحليل لم نذكره وما دل عليها خصوصا كما دل على قاعدة الحيل عموما ذكرنا ; لأن تلقي الحكم من دليل يقتضيه بعينه أقوى من تلقيه من دليل عام . فإن قيل: فلو أظهر المحلل فيما بعد العقد بنيته في العقد فما الحكم ؟، قلنا: إن صدقته المرأة والزوج المطلق ثلاثا ثبت هذا المحكم في حق من صدقه فينفسخ نكاح المرأة وتحرم على المطلق ثلاثا مراجعتها، ثم إن كان هذا قبل الدخول فلا صداق للمرأة إذا كانت مصدقة، وإن كان بعده فلها المهر الواجب في النكاح الفاسد، وإن لم تصدقه المرأة والمطلق لم يثبت حكم التحليل في حقها، لكن إن كان هذا الإقرار قبل مفارقتها انفسخ النكاح، ووجب نصف الصداق قبل الدخول وجميعه بعده، وإن كان بعد المفارقة فإن صدقته المرأة وحدها لم يجز أن تعود إلى الأول، لاعترافها بأنها محرمة، هذا إن كانت ممن لها إقرار، وإن صدقه المطلق ثلاثا وحده لم يؤثر في سقوط حق المرأة، ولزمه ذلك في حق نفسه، ولم يجز أن يتزوجها لاعترافه بأنها حرام عليه، وأيهما غلب على ظنه صدق الزوج المحلل فيما ذكره من نيته فعليه فيما بينه وبين الله أن يبني على ذلك، لكن في القضاء لا يؤخذ إلا بإقراره، ونظير هذا أن يتزوج المرأة المطلقة ثلاثا رجل ثم يعترف أنها أخته من الرضاعة، فإن هذا بمنزلة نية التحليل ; لأنه فساد انفرد بعمله، فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما روى أبو حفص بن شاهين في غرائب السنن بإسناده، عن موسى بن مطين، عن أبيه عن بعض أصحاب النبي ﷺ { أن فلانا تزوج فلانة ولا نراه إلا يريد أن يحلها لزوجها، فقال رسول الله ﷺ: أشهد على النكاح، قالوا: نعم قال: ومهر، قالوا: نعم، قال: ودخل، يعني الجماع، قالوا: نعم، قال: ذهب الخداع، } فوجه الدليل أنه لم يعرف حال الرجل ولم يقل إن نويت كذا فالنكاح باطل، مع أنهم قالوا ما نراه يريد إلا ذلك، والبحث عن مثل هذه الحال واجب احتياطا للبضع، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وإذا لم يبحث علم أن الأمر مطلق وأن الحكم لا يختلف، قال بعض المنازعين وهذا مقطوع في الاستدلال، قلت: هذا حديث باطل لا أصل له عن رسول الله ﷺ وموسى بن مطين متروك ساقط يروي المناكير عن المشاهير لا يحل الاستدلال بشيء من روايته، قال فيه يحيى بن معين كذاب، وقال أبو حاتم الرازي متروك الحديث ذاهب الحديث، وقال أبو زرعة متروك الحديث، وقال عبد الرحمن بن الحكم ترك الناس حديثه، وهذا وإن كان معروفا عند العلماء فإنما ذكرناه ; لأن بعض المجازفين فيما ليس لهم به علم من مصنفي المجادلين، قال موسى هذا من الثقات العدول لما قيل إنه يروي المناكير عن المشاهير، فأراد الدفع بما اتفق من غير مراقبة منه فيما يقول، ثم إن أصحابنا تكلموا على تقدير صحته فإن كان ذلك ضربا عن التكلف، فإن مثل هذه العبارة يظهر عليها من التناقض ما لا يجوز نسبته إلى النبي ﷺ، بل هو دليل على أنه موضوع، وذلك لأن قوله ذهب الخداع دليل على أن الخداع في العقود حرام وأن العقد إذا كان خداعا لم يحل، وإلا لما فرق بين ذهابه وثبوته، ومعلوم أن العقد الفاسد الذي يعقد بغير شهود ولا إعلان ونحو ذلك مردود، فلا يحصل به مقصود المحلل ولا غيره حتى يحصل به الخداع، وإنما يخادع المخادع بأن يظهر ما ينفق في الظاهر، فإذا كان مع فساد العقد في الظاهر لا خداع ومع صحته في الظاهر لا خداع، فلم يبق للخداع موضع ; لأنه إما صحيح في الظاهر أو فاسد، فكان هذا الكلام بعينه دليلا على أن مثل هذا العقد حلال حرام وهذا تناقض، وإنما أحسب الذي وضعه والله أعلم قد بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، أن التحليل خداع فإن أراد أن يضع حديثا يبين أن العقد إذا روعيت شروطه الظاهرة فقط ذهب خداعه فيكون خداعه إذا لم يراع وذلك أيضا لا خداع فيه، إنما الخداع فيما خالف ظاهره، فلجهله بمعنى الخداع ركب مثل هذا الكلام عن النبي ﷺ ثم إن هذا الحديث لو كان له أصل لكان حجة ; لأن التحليل محرم مبطل للعقد ; لأنهم قالوا: إن فلانا تزوج فلانة ولا نراه إلا أن يريد أن يحلها لزوجها، فعلم أنهم كان قد استقر عندهم أن إرادة التحليل مما ينكر على الرجل لكنهم لم يجزموا بأنه أراد التحليل بل ظنوه ظنا، والظن أكذب الحديث، ثم لو لم تكن الإرادة مؤثرة في العقد لقال النبي ﷺ وإذا أراد تحليلها أي إنكار في هذا كما قالوا تزوجها يريد أن يستمتع بها، أو يريد أنها أعجبته إن أمسكها وإن كرهها فارقها، أو نكحها يريد أن تربي أولاده كما قال جابر رضي الله عنه، ونحو ذلك من المقاصد التي لا تحب فإن جواب هذا أنه كان يقول وإذا فعل هذا فأي منكر في هذا فلما لم يقل علم أن ذاك مؤثر، لكن إنما أنكر عليهم قولهم ولا نراه إلا يريد أن يحلها لزوجها قال الأصل في أقوال المسلمين وأعمالهم الصحة، فلا يظن بهم خلاف ذلك إلا لإمارة ظاهرة، ولم يذكروا ما يدل على ذلك، ثم لو ظننا ذلك فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم، كما أنه لما كان يستأذن في قتل بعض من يظن به النفاق، يقول أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فيقولون نعم فيقول أليس يصلي فيقولون نعم فيقول: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم، كذلك إذا رأينا عقدا معقودا بشرائطه المعتبرة، لم يكن لنا أن نقول هذا باطل ; لأن صاحبه أراد كذا وكذا، لكن يقال على العموم من أراد التحليل فهو ملعون ونكاحه باطل، فإذا ظهر أنه قصد ذلك رتب عليه حكمه في الظاهر، وأما قول المنازع أنه لم يبحث عن نية الرجل فنقول، قد كان تقدم منه ﷺ لعنه المحلل والمحلل له والنهي عن الخداع، وفهموا مقصوده بذلك فلم يجب عليه بعد هذا أن يقول لكل من تزوج مطلقة غيره، إن كنت نويت كما أنه لما بين سوء حال المنافقين لم يجب عليه كلما أسلم رجل أن يقول له هل أنت مؤمن أو منافق، وصاحب العقد لم يظهر لهم أنه أراد الإحلال وإنما ظنوه ظنا، بل لما فهموا من النبي ﷺ أن مريد الإحلال مخادع، وظنوا بذلك الرجل أنه أراده من غير دلالة أنكروا عليه فأنكر عليهم، هذا إن كان لذلك أصل، ثم إنه ﷺ ذكر أمارات تدل على عدم الخداع وهو المهر وما معه ولأن المحلل يأخذ في العادة ولا يعطي، وإلا فتسمية المهر ليست شرطا في صحة النكاح، حتى يترتب عدم الخداع عليها، فلما ذكرت دل ذلك على أنه يستدل بها على انتفاء الخداع فصار سوء الظن ممنوعا منه، وبالجملة فالحديث لا أصل له ولو كان له أصل فهو إلى أن يكون حجة على إبطال التحليل أقرب منه إلى أن يكون حجة على صحته والله سبحانه أعلم، فإن قيل هذا تصرف صدر من أهله في محله فيجب أن يكون صحيحا ; لأن السبب هو الإيجاب والقبول، وهما ثابتان، وأهلية المتصرف ومحلية الزوجين ثابتة لم يبق إلا القصد المقرون بالعقد، وذلك لا تأثير له في إبطال الأسباب الظاهرة لوجوه: أحدها: أنه إنما نوى الطلاق وهو مملوك له بالشرع فأشبه ما لو نوى المشتري إخراج المبيع عن ملكه، وذلك لأن السبب مقتض لتأبيد الملك والنية لا تغير موجبات السبب حتى يقال إن النية توجب توقيت العقد، وليس هي منافية لموجب العقد فإن له أن يطلق ولو نوى هو بالمبيع إتلافه أو إحراقه أو إغراقه لم يقدح في صحة البيع، فنية الطلاق أولى، وبهذا اعترضوا على قولنا إنه قصد إزالة الملك . إذا قال: بعت أو اشتريت وقصده فسخ العقد في مدة الخيار أو تواطآ على التقابل وعقدا فهل هناك تبايع حقيقي، ونظير التحليل أن يحلف الرجل أنه لا بد أن يبيع عبده، ثم يبيعه من رجل بنية أن يفسخ العقد في مدة أحد الخيارات، فمن الذي سلم أن هذا باع عبده قط، وإنما هذا تصور بصورة البائع وكذلك لو حلف ليهبن ماله ووهبه لابنه بنية أن يرتجعه، ولما قال سبحانه: { وأقرضوا الله قرضا حسنا }، و { أنفقوا مما رزقناكم } لو أعطى ابنه مظهرا أنه مقرض منفق ومن نيته الارتجاع، فهل يستحسن مؤمن هذا أن يدخل هذا في اسم المقرض المنفق، وكذلك لما قال { وآتوا الزكاة } فلو آتاها الفقير قد واطأه على أن يعيدها إليه فهل يكون هذا مؤتيا للزكاة، وبالجملة كل عقد أمكنه رفع من بيع أو إجارة أو هبة أو نكاح أو وكالة أو شركة أظهر عقده ومقصوده رفعه بعد العقد، وليس غرضه العقد ولا شيئا من أحكامه، وإنما غرضه رفعه بعد وقوعه فهذا يشبه التحليل، وإن لم يمكن الفسخ إلا برضى المتعاقدين فتواطؤهما على التفاسخ قبل التعاقد من هذا الباب فإن هذا القصد والمواطأة تمنع أن يكون المقصود بالعقد مقتضاه ويقتضي أن يكون المقصود نقيض مقتضاه، وإذا قصد المتكلم إنشاء أو إخبارا أو أمرا بالكلام نقيض موجبه ومقتضاه، كان الكلام نافيا لذلك المعنى وذلك القصد ومضادا له من هذه الجهة، ومما يوضح هذا: أن الطلاق وفسخ العقود هو تصرف نفس الملك، وموجب العقد برفعه وإزالته ليس هو تصرفا في المملوك بالعقد بإتلافه وإهلاكه، بخلاف أكل الطعام وإعتاق العبد المشترى وإحراقه وإغراقه فإنه تصرف في الشيء المملوك لا بإتلاف، وفرق بين إزالة الملك مع بقاء محل الملك ومورده الذي كان مملوكا، وبين إتلاف نفس محل التصرف ومورده، الذي هو محل الملك، وإن كان المملوك قد يسمى ملكا تسمية للمفعول باسم المصدر، فأين إتلاف نفس التصرف بفسخ العقد إلى إتلاف محل التصرف بالانتفاع به أو بغيره، فتدبر هذا فإن به يظهر فساد قول من قال النية لا تغير موجب السبب، وكيف لا تؤثر فيه وهي منافية لموجب السبب ; لأن مقتضاه ثبوت الملك المؤيد للانتفاع بالمعقود عليه، ومقتضاها رفع هذا المقتضى ليتبين لك الفرق بين النية المتعلقة بالسبب والنية المتعلقة بمحل السبب، وبه يظهر الفرق بين هذا وبين أن ينوي بالبيع إتلاف المبيع، فإن هذا نية لإتلاف المعقود عليه لا نية لرفع العقد، ومثل هذه النية لا تتأتى في النكاح، فإن الزوج لا يمكنه إتلاف البضع ولا المعارضة عليه ولا يمكنه في الجملة أن ينتفع به إلا بنفسه، فلا يتصرف فيه ببيع ولا هبة ولا إجارة ولا إعارة ولا نكاح ولا إتلاف، وإذا أراد إخراجه عنه لم يكن له طريق مشروع لإزالة الملك بإبطال النكاح، وأما البيع فلإخراج المبيع عن نفسه طرق، فإذا قصد أن يزيل المبيع عن ملكه بإعتاق أو إحراق أو إغراق ونحو ذلك، وكان مباحا مثل إيقاد الشمع وإلقاء المتاع في البحر ليخفف السفينة ونحو ذلك، فإن هذا قصد بالعقد الانتفاع بالمعقود عليه، فإن المقصود بالمال الانتفاع به والأعيان إنما ينتفع بذواتها إذا أتلفت، ولهذا يصح أن يبذل المال ليحصل له الملك ليتلفه هذا الإتلاف، ولا يجوز أن يبذل الصداق ليعقد البيع ليفسخ، فإن هذا يبذل العوض لبقاء الأمر على ما كان، وهذا حاصل بدون العوض ولم يبذله لشيء من مقاصد الملك وفوائد المعقود عليه، والعقد إنما يقصد لأجل المعقود عليه، فإذا لم يكن في المعقود عليه غرض لم يكن في العقد غرض أصلا فلم يكن عقدا، وإنما هو صورة عقد لا حقيقة، وإيضاح هذا أن نية الطلاق هو قصد رد المعقود عليه إلى مالكه، وكذلك سائر الفسوخ، وهذا القدر هو الذي ينافي قصد العقد، أما قصد إخراجه مطلقا فإنه لا يتأتى في النكاح وهو في البيع لا ينافي العقد كما تقدم، وأما الجواب عن الوجه الثاني فنقول: قوله القصد لا يقدح في اقتضاء السبب حكمه دعوى مجردة، فلا نسلم أن مجرد اللفظ سبب ولا نعلم أن القصد لا يقدح فيه، وإنما السبب لفظ قصده المتكلم ابتداء ولم يقصد به ما ينافي حكمه، أو لفظ قصد به المتكلم معناه حقيقة أو حكما، وقد قدمت في الوجه الثاني عشر من إبطال الحيل ما يدل على اعتبار المقصود في العقود، وبينا أن قصد ما ينافي موجب العقد في الشرع يمنع حله وصحته، فإن عدم قصد العقد إن كان على وجه الإكراه عذر الإنسان فيه، فلم يصح، وإن كان على وجه الهزل واللعب فيما لا يجوز فيه الهزل واللعب لم يلتفت الشرع إلى هزله ولعبه، وأفسد هذا الوصف المنهي عنه وألزمه الحكم عقوبة له مع كونه لم يقصد ما ينافي العقد وإنما ترك قصد العقد في كلام لا يصلح تجريده عن حكمه، وبينا الفرق بين المحتال مثل المحلل ونحوه، وبين الهازل من جهة السنة وآثار الصحابة، ومن جهة أن هذا لو لفظ بما نواه بطل تصرفه، وهذا لو لفظ به لم يبطل، ومن جهة أن هذا أطلق اللفظ عاريا عن نية لموجبه أو بخلاف موجبهما، وهذا قيد اللفظ بنية تخالف موجبه، ولهذا سمي الأول لاعبا وهازلا لكون اللفظ ليس من شأنه أن يطلق ويعرى عن قصد معنى، حتى يصير كالرجل الهزيل، بل يوعي معنى يصير به حقا وجدا، وسمي الثاني مخادعا مدالسا من جهة أنه أوعى اللفظ معنى غير معناه الذي جعله الشارع حقيقته ومعناه، وذكرنا أن الأول لما أطلق اللفظ وهو لفظ لا يجوز في الشرع أعراه عن معنى جعل الشارع له المعنى الذي يستحقه، والثاني: لما أثبت فيه ما يناقض المعنى الشرعي لم يمكن الجمع بين النقيضين، فبطل حكمه وذكرنا أن صحة نكاح الهازل حجة في إبطال نكاح المحلل من جهة أن كلا منهما منهي عن اتخاذ آيات الله هزوا، وعن التلاعب بحدوده، فإذا فعل ذلك بطل هذا التلاعب، وبطلان التلاعب في حق الهازل تصحيح العقد، فإن موجب تلاعبه فساده، وبطلان التلاعب في حق المحلل إفساد العقد، فإن موجب تلاعبه صحته، وذكرنا أن الهازل نقص العقد فكمله الشارع تحقيقا للعقد وتحصيلا لفائدته، فإن هذا التكميل مزيل لذلك الهزل وجاعله جدا، وأن المحلل زاد في العقد ما أوجب نفي أصله ولو أبطل الشارع تلك الزيادة لم يفد فإنها مقصودة له، والقصد لم يرتفع كما أمكن رفع الهزل بجعل الأمر جدا، وهذه فروق نبهنا عليها هنا، وإن كان فيما تقدم كفاية عن هذا، وأما المسائل التي ذكرها مثل شراء العصير فجوابها من وجهين: أحدهما: أنه هناك قصد التصرف في المعقود عليه، وهذا لا ينافي العقد، وهنا قصد رفع العقد وهذا ينافيه، ألا ترى أن قصده لاتخاذ العصير خمرا لا يفارق قصده أن يتخذه خلا من جهة العقد وموجباته، وإنما يفارقه من جهة أن هذا حلال وهذا حرام، وهذا فرق يتعلق بحكم الشرع لا بالعقد من حيث حقيقته، ونحن لم نقل إن الطلاق محرم وأنه أبطل العقد من جهة كونه محرما، وإنما نافاه من جهة أن قصده بالعقد إزالته وإعدامه يناقض العقد حتى يصير صورة عقد لا حقيقة عقد، الوجه الثاني: أن الحكم في هذه المسائل كلها ممنوع، فإن اشتراءه بهذه النية حرام باطل، ثم إن علم البائع بذلك كان بيعه حراما باطلا في حقه أيضا، وقد تقدم ذكر ذلك والدلالة عليه، وذكرنا { لعن النبي ﷺ عاصر الخمر }، وحديثا آخر ورد فيمن حبس العنب أيام القطاف، ليبيعه لمن يتخذه خمرا بالوعيد الشديد، وهذا الوعيد لا يكون إلا لفعل محرم، وذكرنا أن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا بيع العصير لمن يخمره بيعا للخمر، وهو نهي يتعلق بتصرف العاقد في المعقود عليه، فهو كنهي المسلم عن هبة المصحف لكافر، وبيع العبد المسلم لكافر ونحو ذلك، فيكون باطلا، وقد تقدم ذكر ذلك في الوجه الثاني عشر، وإن لم يعلم البائع بقصد المشتري كان البيع بالنسبة إلى البائع حلالا وبالنسبة إلى المشتري حراما، لكن هنا فروع يخالف حكمها حكم غيرها، مثل أن يتوب المشتري بعد ذلك فهل يجوز له التصرف في المشترى بدون تجديد عقد مع إمكانه وهو نظير إسلام الكافر هل يجوز له مع ذلك التصرف في المصحف الموهوب، ونظير إسلام سيد العبد فإنا إنما منعنا من ثبوت يد الكافر على المصحف والمسلم لمقارنته اعتقاد الكفر له، كما أنا منعنا من ثبوت يد المصر على ما يستعين به على المعصية لمقارنة اعتقاد المعصية له، وليس غرضنا هنا الكلام في هذا، وإنما الغرض بيان منع هذه الأحكام ونظيره من النكاح أن يتزوج امرأة ليطأها في الدبر أو ليكريها لزنا ونحو ذلك، فهذا مثل اشتراء العصير ليتخذه خمرا وبيع الأمة ليكرهها على البغاء، فلا يجوز للولي تزويجها ممن يعلم أن هذا قصده، ولا يصح النكاح حتى قد نص أصحابنا ومنهم أبو علي بن أبي موسى على أنه لو تزوجها نكاحا صحيحا ثم وطئها في الدبر فإنه ينهى عن ذلك، فإن لم ينته فرق بينهما، وهذا جيد فإن هذا الفعل حرام، فمتى توافق الزوجان عليه أو أكرهها عليه، ولم يمكن منعه إلا بالتفريق بينهما تعين التفريق طريقا لإزالة هذا المنكر، وقد زعم بعض أهل الجدل المصنفين في خلاف الفقهاء لما ذكر عن الإمام أحمد أنه لا يجوز ولا ينعقد بيع العصير ممن يتخذه خمرا، قال: لا أظنه ينتهي إلى حد يقوى ولا يجوز بيع العبد ممن يتلوط، ولا بيع الأمة ولا تزويج المرأة ممن يطأها في الموضع المكروه، ثم قال ولا خلاف أنه يجوز بيع الأخشاب لمن يعمل آلات الملاهي، وهذا الذي قاله هذا المجادل كله جهل وغلط وتخليط، فإن الحكم في هذه المسائل كلها واحد، وقد نص أصحاب الإمام أحمد على أنه لا يجوز بيع الأمرد ممن يعلم أنه يفسق به، ولا بيع المغنية ممن يعلم أنه يتصرف فيها بما لا يحل، ونص الإمام أحمد على أنه لا يجوز بيع الآنية من الأقداح ونحوها ممن لا يعلم أنه يشرب فيها المسكر، ولا بيع المشمومات من الرياحين، ونحوها ممن يعلم أنه يشرب عليها، وكذلك مذهبه في بيع الخشب ممن يتخذها آلات اللهو وسائر هذا الباب جار عنده على القياس، حتى أنه قد نص أيضا على أنه لا يجوز بيع العنب والعصير والدادي ونحو ذلك ممن يستعين على النبيذ المحرم المختلف فيه، فإن الرجل لا يجوز له أن يعين أحدا على معصية الله، وإن كان المعان لا يعتقدها معصية، كإعانة الكافرين على الخمر والخنزير، وجاء مثل قوله في هذا الأصل عن غير واحد من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم، هذا إذا كان التحريم لحق الله سبحانه، وأما إذا تزوجها ليضارها فلا يحل له ذلك أيضا كما إذا اشترى من رجل شيئا ليضاره بمطل الثمن، فإن علمت هي بذلك فقد رضيت بإسقاط حقها، وإن لم تعلم لم يمكن إبطال العقد مطلقا ; لأن النهي عن العقد إذا كان لإضرار أحد المتعاقدين بالحرام لم يقع باطلا كبيع المصراة، وتلق الركبان وبيع المعيب المدلس عيبه ; لأن النهي هنا إنما هو أحدهما لا كلاهما، فلو أبطلنا العقد في حقهما جميعا لكان فيه إبطال لعقد من لم ينه، ولكان فيه إضرار لمن أبطل العقد لرفع ضرره، وهذا تعليق على الوصف ضد مقتضاه ; لأن قصد رفع ضرره قد جعل موجبا لضرره، لكن يمكن أن يقال إن العقد باطل بالنسبة إلى المضار دون الآخر، كما يقال في مواضع كثيرة مثل الصلح على الإنكار إذا كان أحدهما ظالما، وشراء المعتق المجحود عتقه إذا لم يعلم المشتري، ومثل دفع الرشوة إلى ظالم ليكف ظلمه، ومثل إعطاء بعض المؤلفة قلوبهم، ونظائره كثيرة، فيكون نكاح الزوج باطلا بالنسبة إليه بمعنى أن استمتاعه بها حرام، وبيع المدلس بالنسبة إلى البائع باطل، بمعنى أنه لم يملك الثمن، فهذا قد يقال مثله، وليس الغرض هنا بيان هذه المسائل، وإنما الغرض بيان أنها غير واردة على ما ذكرنا، وأما إذا تزوجها ليضار بها امرأة أخرى ; أو ليتعاونا على سحر أو غير ذلك من المحرمات، ولم يكن مقصودهما النكاح، وإنما الغرض التوصل به إلى ذلك المحرم، فمن الذي سلم صحة هذا النكاح ؟، فإن من قال: إن بيع الخبز واللحم ممن يعلم أنه يجمع عليه الفساق للشرب والزنا باطل، وبيع الأقداح لمن يشرب فيها المسكر باطل، وبيع السلاح ممن يقتل به معصوما باطل، كيف لا يقول إن تزويج المرأة لمن يضر بها امرأة مسلمة ضررا محرما مثل أن يضربها باطل، وإن أورد ما إذا لم يقصد الاستمتاع بها وإنما قصد مجرد إيذاء الزوجة الأولى بالغيرة فهذا نظير مسألتنا ; لأن هذا الأذى ليس بمحرم الجنس فلم يتزوجها لفعل محرم في نفسه ثم هو لا يمكن إلا مع بقاء النكاح، فكأنه قصد بالنكاح بعض توابعه التي لا تحصل إلا مع وجوده، وهي مما لا يحل قصده وإن جاز وجوده شرعا بطريق الضمن، فهنا المحرم مجرد القصد فلا يشبه نكاح المحلل ; لأن المقصود هناك رفع النكاح وهنا بقاؤه، لكن يشبهه من حيث إن المقصود هناك فعل هو محرم بطريق القصد مباح بطريق التبع، وكذلك هنا المقصود غيرة الزوجة وهو محرم بطريق القصد مباح بطريق التبع، وصحة هذا النكاح فيها نظر، فإن ما كان التحريم فيه لحق آدمي يختلف أصحابنا في فساده، كما اختلفوا في الذبح بآلة مغصوبة، وفي فساد العقود التي تحرم من الطرفين بحق آدمي مثل بيعه على بيع أخيه، وسومه على سومه، ونكاحه إذا خطب على خطبته، فإن فيه خلافا معروفا، ومن قال بالصحة اعتذر بأن المحرم ليس هو نفس العقد، وإنما هو متقدم عليه، وفرق بعضهم بأن المنع هنا لحق آدمي، فإن سلم صحة الفرق بين هذه الصورة وبين نكاح المحلل ونحوه لم يصح قياسه عليها ولا نقض دليلنا بها، وإن لم نسلم صحة الفرق سوينا بين جميع الصور في البطلان، فيمنع الحكم في هذه المسائل، وكذلك كلما يرد عليك من هذه المسائل المختلف فيها فإن الجواب على سبيل الإجمال، أنه إنما يكون بين المسألتين فرق صحيح أو لا يكون، فإن كان بينهما فرق لم يصح النقض ولا القياس، وإن لم يكن بينهما فرق فالحكم في الجميع سواء، نعم لو أوردت صور قد ثبتت الصحة فيها بنص أو إجماع، وليس بينهما فرق، لكان ذلك متوجها وليس إلى هذا سبيل، ولا تعبأ بما يفرض من المسائل ويدعي الصحة فيها بمجرد التهويل، أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك، وقائل ذلك لا يعلم أحدا قال فيها بالصحة فضلا عن نفي الخلاف فيها، وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يعذر المخالف فيها، وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد، من ادعى الإجماع فهو كاذب، فإنما هذه دعوى بشر وابن علية يريدون أن يبطلوا السنن بذلك يعني الإمام أحمد رضي الله عنه أن المتكلمين في الفقه من أهل الكلام إذا ناظرتهم بالسنن والآثار قالوا هذا خلاف الإجماع، وذلك القول الذي يخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن فقهاء المدينة وفقهاء الكوفة مثلا، فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالآراء، حتى كان بعضهم ترد عليه الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام والآثار، فلا يجد معتصما إلا أن يقول هذا لم يقل به أحد من العلماء، وهو لا يعرفه إلا أن أبا حنيفة ومالكا وأصحابهما لم يقولوا بذلك ولو كان له علم لرأى من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك خلقا كثيرا ; وإنما ذكرنا ذلك على سبيل المثال، وإلا فمن تتبع وجد في مناظرات الشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه وغيرهم لأهل عصرهم من هذا الضرب كثيرا، ولهذا كانوا يسمون هؤلاء وأمثالهم فقهاء الحديث، ومن تأمل ما ترد به السنن في غالب الأمر وجدها أصولا قد تلقيت بحسن الظن من المتبوعين، وبنيت على قواعد مغروضة إما ممنوعة أو مسلمة مع نوع فرق، ولم يعتصم المثبت لها في إثباته بكثير حجة أكثر من نوع رأي أو أثر ضعيف، فيصير مثبتا للفرع بالفرع من غير رد إلى أصل معتمد من كتاب أو سنة أو أثر وهذا عام في أصول الدين وفروعه، ويجعل هذه في مقابلة الأصول الثابتة بالكتاب والسنة، فإذا حقق الأمر فيها على المستمسك بها لم يكن في يده إلا التعجب ممن يخالفها، وهو لا يعلم لمن يقول بها من الحجة أكثر من مرونة عليها مع حظ من رأى .

ومسألة بيع العصير ممن يتخذه خمرا من بابه الذي زعم هذا المجادل أن لا خلاف في بعضها: وعامة السلف على المنع منها، وقد تقدم ذكر ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر في العنب والعصير بالتحريم، وقال البخاري في بيع السلاح في الفتنة كره عمران بن حصين بيعه في الفتنة، والكراهة المطلقة في لسان المتقدمين لا يكاد يراد بها إلا التحريم، ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف في ذلك إلا ما روى أبو بكر بن أبي موسى عن أبيه عن أبي موسى الأشعري أنه كان يبيع العصير، وهذه حكاية حال يحتمل أنه كان يبيعه ممن يتخذه خلا أو ربا أو يشربه عصيرا أو نحو ذلك، وأما التابعون فقد منع بيع العصير ممن يتخذه خمرا عطاء بن أبي رباح وطاوس ومحمد بن سيرين، وهو قول وكيع بن الجراح وإسحاق بن راهويه وسليمان بن داود الهاشمي وأبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأبي إسحاق الجوزجاني وغيرهم، ومنع مالك بن أنس من بيع الكفار ما يتقوون به من كراع وسروج وحرثي وغيره، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، ذكرهما في الحاوي، وجرى التصريح عن السلف بتحريم هذا البيع وبفساده أيضا وهو مذهب أهل الحجاز وأهل الشام وفقهاء الحديث تبعا للسلف، فروى ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب عن سعيد عن مجاهد أن رجلا قال لابن عباس إن لي كروما فأعصرها خمرا فأعتق من ثمنها الرقاب، وأحمل على جياد الخيل في سبيل الله، وأتصدق على الفقراء والمساكين، فقال له ابن عباس: فسق إن أنفقت وفسق إن تركت، فرجع الرجل فعقر كل شجرة عنب كان يملكها وروى عبد الملك بن حبيب في الواضحة عن شراحيل بن بكير أنه سأل ابن عمر عن بيع العصير فقال: لا يصلح، فقال: إن عصرته ثم شربته مكاني قال: فلا بأس، قال: فما بال بيعه حرام وشربه حلال ؟ فقال له ابن عمر، ما أدري أجئت تستفتيني أم جئت تماريني، قال ابن حبيب: نهي عن بيعه ; لأنه يصرف إلى الخمر إلا أن يكون يسيرا، وبكون مبتاعه مأمونا يعلم أنه إنما يشتريه ليشربه عصيرا كما هو فلا بأس به، وكذلك بيع الكرم إذا خيف أن يكون مشتريه إنما يشتريه لعصره خمرا فلا يحل بيعه منه، وكذلك إذا كان مشتريه مسلما يخالف أن يستحل ذلك، فأما إن كان نصرانيا أو يهوديا فلا يحل بيعه منه على حال ; لأن شأنهم عصير الخمر وبيعها، قد كره ذلك ابن عمر وابن عباس وعطاء والأوزاعي ومالك وغير واحد وضرب الأوزاعي، لذلك مثلا كمن باع سلاحا ممن يعلم أنه يقتل به مسلما، قال وكره مالك أن يبيع الرجل العسل أو التمر أو الزبيب أو القمح ممن يعمل ذلك شرابا مسكرا وكره طعام عاصر الخمر وبائعها وكره مبايعته ومخالطته في ماله إذا كان مسلما وكره أيضا أن يكري الرجل لبيته أو حانوته ممن يبيع فيها الخمر مسلما كان أو نصرانيا، قال ابن حبيب: وقد نهى ابن عمر أن يكري الرجل بيته أو حانوته ممن يبيع فيها الخمر، حدثنيه عبد الله بن صالح عن الليث عن نافع قال ابن حبيب، ومن فعل ما نهى عنه بأن باع كرمه ممن يعصره خمرا أو أكرى داره أو حانوته ممن يبيع فيها الخمر تصدق بجميع الثمن، وكذلك قال مالك: فهذا ابن عباس يبين أن إمساك هذا الثمن فسوق، وأن إنفاقه فسق، وهذا من أبين ما يكون في فساد العقد، فإنه لو كان صحيحا لكان الثمن حلالا فإنا لا نعني بفساد العقد في حق البائع إلا أنه لم يملك الثمن الذي أخذه، ولا يحل له الانتفاع به بل يجب عليه أن يتصدق به إذا تعذر رده على مالكه، كما يتصدق بكل مال حرام لم يعرف مالكه، وهذا مذهب مالك الذي ذكره ابن حبيب وعليه دل حديث ابن عمر، حيث بين أن هذا البيع حرام ولا نعلم عن أحد من المتقدمين خلاف ذلك، وإنما نعرف الرخصة في بيع العصير لمن يخمره عمن بعد التابعين مثل سفيان الثوري وأبي حنيفة، وقد روي عن إبراهيم أنه قال لا بأس ببيع العصير وهذا مطلق فيحتمل أنه أراد إذا لم يعلم بحال المشتري ويحتمل العموم، فكيف يجوز بعد هذا أن يدعي عدم الخلاف في شيء من هذا النوع ؟، ولو قيل لقائل ذلك انقل لنا عن واحد من المتقدمين الرخصة في ذلك لا بأس، فنسأل الله سبحانه الهدى والسداد بفضله ومنه، وأما قوله في الفرق بين الإكراه وبين هذا أن الرضا معتبر في صحة العقود فنقول وهل الرضا المتعلق بفعل الراضي نفسه إلا نوع من الإرادة والقصد، أو صفة مستلزمة للإرادة والقصد، فإذا كان النوع أو الملزوم شرطا فالجنس واللازم شرط بالضرورة، فإن وجود النوع بدون الجنس أو الملزوم بدون اللازم محال، فكيف يصح الفرق مع وجود هذا الجمع ؟ نعم قد يقول المنازع إنما اشترط هذا للقدر من القصد فقط، فنقول إنما اشترطه لعدم قصد الإنسان في العقد، وأنه إلزام ما لم يرده وإنما تكلم بلفظه فقط لقصد آخر يدفع عن نفسه به ضررا لا يجوز، فنقول هذا موجود في المحلل وغيره من المحتالين، فإن تصحيح عقد لم يرده وإنما تكلم بلفظه فقط لقصد آخر يستحل به محرما لا يجوز، وقد بينا اعتبار المقصود في العقود فيما مضى، وأما ذكر الشروط المقترنة في العقد فلا تعلق لها بما نحن فيه، لكن إنما تورد فيما إذا توافقا على التحليل قبل العقد، كما هو واقع كثيرا، فإن هذا أقبح من مجرد القصد، وحكم هذا حكم المشروط في العقد، وقد بينا ضعف الفرق بين المقترن والمتقدم فيما مضى، وأما الوجه الثالث: فنقول النية إنما تعمل في اللفظ المحتمل لمعنيين صحيحين دون ما لا يحتمل إلا معنى واحدا صحيحا، فإن النية الباطنة لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة، فليس في هذا الكلام أكثر من مجرد حكاية المذهب، وحسبه من الجواب لا تسلم فإن الدعوى المجردة يكفيها المنع المجرد، ثم نقول أتقول إنها لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة ظاهرا، أم لا تؤثر فيها ظاهرا ولا باطنا ؟، الأول مسلم ولا يضرنا ذلك، فإنا لم ندع أن مجرد النية تبطل حكم اللفظ ظاهرا، وإنما قلنا العقد في الباطن باطل في حق المحلل، وإن كان حلالا بالنسبة إلى المرأة إذا لم تعلم بالتحليل فيأثم بوطئها وبإعادتها إلى الأول، وهي لا تأثم بتمكينه كمن تزوج أخته من الرضاعة وهي لا تعلم، وإن قال إن النية الباطنة لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة بحال، فينتقض عليه بصرائح الطلاق والعتاق ونحوها، إذا صرفها بنيته إلى ما يحتمله اللفظ، فإن ذلك يؤثر في الباطن، فكذلك لفظ نكحت يحتمل نكاح التحليل وقد نواه فينصرف اللفظ إليه ; لأن اللفظ إما أن يكون مشتركا أو متواطئا، وإما أن يكون أحد المعنيين فيه ظاهرا والآخر باطنا، وإما أن يكون نصا لا يحتمل غير المعنى الواحد، فأما المشترك فتؤثر النية فيه كما في الكنايات، وكذلك المتواطئ كقوله اشتريت فإنه مطلق تقيده النية له أو لموكله، وأما النص فلا تعمل النية في خلاف معناه، وأما الظاهر فما أعلم أحدا خالف في أن النية تؤثر فيه في الجملة، واللفظ الصريح يشتمل النص والظاهر، فقوله إن اللفظ هنا صريح فلا تعمل النية فيه منقوض بما شاء الله من الصور، بل هذه القاعدة من أقوى الأدلة على المسألة فإن لفظ الإنكاح والتزويج ظاهر في النكاح الصحيح الشرعي، وهو محتمل للأنكحة الفاسدة مثل نكاح المحلل ونكاح الشغار ونكاح المتعة وغير ذلك، فإذا قال نكحت ونوى نكاح المحلل فقد قصد باللفظ ما يحتمله، ثم من نوى ما يخالف الظاهر إن كان المنوي له دين في الباطن إذا أمكن وفي قبوله في الحكم خلاف مشهور، إذا كان الاحتمال قريبا من الظاهر وإن كان الذي نواه عليه فإنه يقبل ظاهرا وباطنا كما لو قال أنت طالق إن قمت، ثم قال سبق لساني بالشرط ولم أرده، أو قال والله لا أنكح فلانة ونكحها نكاحا فاسدا، وقال نويت الصحيح والفاسد، فإذا كان الزوج قد نوى التحليل علمت نيته في الباطن في جانبه خاصة، فإذا ادعى أنه نوى ذلك قبل فيما عليه من إفساد النكاح في حقه ثم هذا قياس بجميع ألفاظ العقود المفردة والمقترنة من الأيمان والنذور والطلاق والعتاق والظهار والإيلاء والوقف والبيع والهبة والنكاح، فكيف يقال بعد هذا إن النية الباطنة لا أثر لها في مقتضيات الأسباب الظاهرة، ولو قال زوجتك بنتي بألف درهم، لكان هذا اللفظ صريحا في نقد البلد الغالب، فلو قال الزوج نويت النقد الفلاني وهو خير من نقد البلد أو دونه قبل منه إن صدق الآخر عليه، وبالجملة فهذا السؤال دليل قوي في أصل المسألة وهو أن يقال نوى باللفظ معنى محتملا يخالف ظاهره فوجب أن يلزمه ما نواه فيما بينه وبين الله، كما لو نوى ذلك بسائر ألفاظ العقود، أو يقول كما لو نوى ذلك بألفاظ الأيمان والنذور والطلاق والعتق، وبهذه الأصول يظهر الفرق أيضا بين طلاق الهازل والطلاق الذي نوى به خلاف ظاهره، فإنه إذا هزل بالطلاق أو العتق ونحوهما وقع، ولو نوى به خلاف ظاهره دين فيما بينه وبين الله تعالى بلا تردد وقبل في الحكم إذا كان ذلك أشد عليه بلا تردد أيضا، فكذلك النكاح إذا هزل به وقع، وإذا نوى بالعقد خلاف ظاهره عمل فيما بينه وبين الله تعالى بلا تردد وقبل في الحكم إذا كان ذلك أشد عليه بلا تردد أيضا، فكذلك النكاح إذا هزل به وقع، وإذا نوى بالعقد خلاف ظاهره عمل فيما بينه وبين الله تعالى بما نوى وقبل ما نواه في الحكم في جهته ; لأن الإقرار بفساد النكاح مقبول منه فيما يخصه، ومن النقوض الموجهة على هذه الدعوى الباطلة، وهي قوله النية الباطنة لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة، أن كلمة الإسلام مقتضاها سعادة الدنيا والآخرة، ثم إذا نوى ما يخالفها أثر ذلك في إبطال مقتضاها، في الباطن ومن ذلك عقود الهازل، فإن أكثرها أو عامتها عند المخالف باطلة لعدم قصدها، فقد أثرت النية الباطنة في مقتضيات الأسباب الظاهرة، ولنا أن ننقض عليه بصور وإن كنا لا نعتقدها فإن حاصل ذلك أنك إذا لم تعتقد صحة دليلك فكيف تلزمه غيرك إذا كان هو أيضا لا يعتقد صحته، ولهذا قالوا ليس للمناظر أن يلزم صاحبه ما لا يعتقده هو إلا النقض ; لأن ما سوى النقض استدلال، وليس للإنسان أن يستدل بما لا يعتقد صحته، والنقض ليس استدلالا، لكن إذا انقضت العلة على أصل المستدل فقد اتفقا على فسادها، أما المستدل فبصورة النقض وأما الآخر فمحل النزاع ; لأنهما اتفقا على تخلف الحكم عن هذه العلة، فالمستدل يقول تخلف الحكم عنها في صورة النقض، والآخر يقول تخلف الحكم عنها في الفرع الذي هو محمل النزاع، وإذا كان الحكم متخلفا عنها وفاقا كانت منتقضة وفاقا، وتخليص ذلك أن المستدل ليس له أن يستدل إلا بما هو دليل عنده، فإذا استدل بما هو دليل عند مناظره دونه كان حاصله إظهار مناقضة المناظر لإثبات مذهب نفسه، وهذا ليس استدلالا وإنما هو اعتراض في المعنى، فأما المعترض فاعتراضه إن كان منعا فليس هو إلزاما، وإن كان معارضة فيجوز له أن يعارض بما هو دليل عند المستدل وليس دليلا عنده إذا كان هو لا يعتقد صحة دليل المستدل كما ذكرنا في النقض عليه، وإن كان هو أيضا يعتقد صحة دليل المستدل، وقد عارضه بما هو دليل عند المستدل دونه فحاصله يرفع إلى مناقضة المستدل، وفي الحقيقة فكلاهما مخصوم، أما المستدل فاستدل بدليل معترض عن مرجح، وأما المعترض فترك العمل بالدليل السالم عن المعارض المقاوم، ومن ذلك صور الوكالة فإن قوله اشتريت مقتضاه الاشتراء له لا يحتاج في ثبوته إلى نية، ثم إذا نوى الشراء لموكله أو لشريكه صح ذلك بالاتفاق، وكذلك لو نواه لغير موكله على خلاف مشهور، وقول المعترض إن قوله اشتريت متردد بين الاشتراء له ولموكله غلط، بل هو ظاهر في الشراء له محتمل للشراء لموكله، وربما قد ينازعنا فيما إذا كانت الوكالة في شراء شيء معين لظهور الشراء للموكل، في مثل هذه الصورة، فننقل الكلام إلى شراء الولي مثل وصي اليتيم وناظر الوقف وشراء الابن، فإنه لا خلاف أن مطلق هذا العقد يقتضي الشراء لنفس المشتري ظاهرا وباطنا، والنية الباطنة تعمل في مقتضى هذا السبب الظاهر، ولا يدعي أحد أن اللفظ هنا متردد بين الشراء لنفسه أو لموليه، بل مقتضى اللفظ هنا الشراء لنفسه، كما أن مقتضى لفظ النكاح هو النكاح الصحيح الشرعي، ثم هنا إذا نوى الشرى لموليه أثرت النية في مقتضى السبب الظاهر، فكذلك هناك وليس بينهما من الفرق أكثر من أن المنوي هناك جائز وهنا غير جائز ; لأنه هناك نوى أن يشتري بطريق الولاية وهنا نوى أن يكون محللا وهذا الفرق لا يقدح في كون النية تؤثر في مقتضى الأسباب الظاهرة، بل هو دليل على أنها مؤثرة بحسبها إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا، وهذا الفرق لم يجز إلا من خصوص المنوي، وهذا لا بد منه فإن النيات وإن اشتركت في كونها نية فلا بد أن تفترق في متعلقاتها، إذا تبين هذا: فقوله النية إنما تؤثر في اللفظ المحتمل إن عنى به الاحتمال المساوي لصاحبه، فليس احتمال لفظ العقد للمولي والموكل مساويا، فلا يصح كلامه، وإن عنى به مطلق الاحتمال المساوي أو المرجوح، فهذا لا يخرج اللفظ عن أن يكون صريحا كسائر الألفاظ الظاهرة، وحينئذ فيكون قد نفى ما أثبته ; لأنها تعمل في كل لفظ محتمل، ونفي عملها في الظواهر وهي محتملة وهو كلام متهافت، وإن عنى بالصريح النص فهو خلاف كلام العلماء، فإن صرائح الطلاق وغيره ظواهر فيه تحتمل غيره ليست نصوصا ثم مع هذا لا ينفعه هذا الكلام، فإن لفظ النكاح يجوز أن يراد به النكاح الفاسد، ولهذا يقال نكاح صحيح وفاسد، ويقال نكاح المحلل، وهذا الاستعمال وإن سلم أنه مجاز فإنه يخرج اللفظ عن أن يكون نصا إلى أن يكون ظاهرا وهو مدخل للفظ النكاح في اللفظ المحتمل بالتفسير الذي نتكلم على تقريره، وإذا لم يكن النكاح داخلا في القسم الثاني أعني الصريح بل في الأول ; صار الكلام حجة عليه لا له، وكذلك هو فإن المعترض بهذه الأسئلة رد بها كلام من احتج من الفقهاء على أن للنية تأثيرا في العقود كعقد التوكيل ونحوه، فزعم أنها تؤثر في المحتمل دون الصريح، وأن الوكالة من المحتمل والنكاح من الصريح، وقد تبين لك أنهما من جنس واحد، فأي تفسير فسر المحتمل والصريح دخل فيه القسمان جميعا، وهذا توكيد للحجة، وأما الوجه الرابع فجوابه: أن النية ليست بمنزلة الشرط مطلقا، وقوله إذا لم يكن بمنزلة الشرط مطلقا فلا تأثير لها غير مسلم ولا دليل عليه، بل النية في الجملة تنقسم إلى مؤثر في العقد إلى غير مؤثر، كما أن الشروط تنقسم إلى مؤثر وغير مؤثر فإذا كان الشرط ينافي موجب العقد كاشتراط عدم الصداق كان باطلا، وإذا لم ينافه كاشتراط مصلحة العقد أو العاقد لم يكن باطلا، وكذلك النية إذا كانت منافية لموجب العقد أو لمقتضى الشرع كانت مؤثرة، وإذا لم تكن منافية لم تؤثر فمن نوى بالشرى القنية أو التجارة لم يخرج بهذه النية عن مقتضى البيع، بخلاف من أوجب ذلك بالشرط على المشتري ; أما من قصد أن يعقد ليفسخ لا لغرض في المعقود عليه أو قصد منفعة محرمة بالمعقود عليه فهذا قصد ما ينافي العقد والشرع، فكذلك أثر في العقد وقد تؤثر النية حيث لا يؤثر الشرط، فإنه لو قصد التدليس على المشتري أو المستنكح أو المنكوحة كان ذلك حراما مثبتا لخيار الفسخ أو مبطلا للعقد، ولو شرط ذلك لكان العقد صحيحا لازما، فظهر أن القصد يؤثر حيث لا يؤثر الشرط، كما أن الشرط يؤثر حيث لا يؤثر القصد، وقد يؤثران جميعا إذا كل منهما مخالف للآخر في وحده وحقيقته، وإنما غلط هنا من ظن أن المؤثر هو الشرط أو ما يقوم مقامه، وليس الأمر كذلك والله أعلم، وأما الوجه الخامس: فقد اعترف المعترض بفساده وقال نحن لا ندعي أن النكاح صحيح باطنا وظاهرا وهو كما قال فإنا نقول بموجب الحديث فنحكم بالظاهر، فلا نحكم في عقد أنه عقد تحليل، حتى يثبت ذلك إما بإقرار الزوج، أو ببينة تشهد على تواطئها قبل العقد، أو تشهد بعرف جار بصورة التحليل، فإن العرف المطرد على حال جار مجرى الشرط بالمقال، لكنا وإن لم نحكم إلا بالظاهر فلا يجوز لنا أن نعامل الله تعالى إلا بالبينات الصحيحة فإن الأعمال بالنيات، فلا يجوز أن ننوي بالشيء ما حرمه الله سبحانه، وعلينا أن ننهى الناس عما نهاهم الله عنه ورسوله ﷺ من النيات الباطنة، وإن لم نعتقد أنها فيهم، كما ننهاهم عن سائر ما حرمه الله سبحانه، وأن لا نكتم ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب الذي تضمن طاعة الرسول، ﷺ واتباع سبيل السابقين الأولين، وعلينا أن لا نعين أحدا بنوع من أنواع الإعانة على عقب يغلب على الظن أنه تحليل، وإن لم نحكم بأنه تحليل، كما لا يجوز أن نعين أحدا على عمل يغلب على الظن أنه يتوصل به إلى قتل معصوم أو وطء محرم، وينبغي الاحتراز من الإعانة على ما يخاف أن يكون تحليلا وإن لم يغلب على القلب، وبالجملة فالغرض هنا بيان تحريم التحليل وفساد عقد المحلل في الباطن، وأما ترتيب الحكم عليه في الظاهر فسيأتي إن شاء الله تعالى وهذا بين إن شاء الله تعالى . فصل فأما إن نوى التحليل من لا فرقة بيده مثل أن ينوي الفرقة الزوج المطلق ثلاثا أو تنويها المرأة فقط أعنى إذا نوت أن الزوج يطلقها، فقد قال حرب الكرماني: سئل أحمد عن التحليل إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل، فقال أحمد: كان الحسن وإبراهيم والتابعون يشددون في ذلك، وقال أحمد الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: { أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة }، يقول أحمد إنها كانت همت بالتحليل ونية المرأة ليس بشيء، إنما قال النبي ﷺ: { لعن الله المحلل والمحلل له }، وليس نية المرأة بشيء فقد نص الإمام أحمد على أن نية المرأة لا تؤثر وكذلك قال أصحابه، وكذلك قال مالك لا يجوز أن يتزوجها ليحلها علمت هي أو زوجها الأول أو لم يعلما، وإن اعتقدت المرأة على التحليل وسألته لما دخل الطلاق أو خالعته بمال جاز، قال مالك: لا يضر الزوج ما نوت الزوجة ; لأن الطلاق بيده دونها قال أصحابه المعنى المؤثر في إفساد النكاح مختص به الزوج الثاني، سواء فيه واطأهما أو أحدهما أو تفرد بذلك ونوى الإحلال والطلاق أخذ عليه أجرا أم لم يأخذ، فإذا لم يواطئ الزوج الثاني ولا نوى فهو نكاح رغبة ويحلها، وإن كان الزوج الأول والمرأة قد تواطآ على ذلك أو دسا إليه أن يتزوجها أو بذلا له مالا كل ذلك غير مؤثر، سواء علم بالطلاق الأول أم لا، وقال الحسن والنخعي وغيرهما: إذا هم أحد الثلاثة فهو نكاح محلل، ويروى ذلك عن ابن المسيب ولفظ إبراهيم النخعي إذا كانت نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الثاني أو المرأة أنه محلل فنكاح هذا الأخير باطل ولا تحل للأول، ووجه هذا أن المرأة إذا نكحت الرجل وليست هي راغبة فيه فليست هي ناكحة كما تقدم، بل هي مستهزئة بآيات الله متلاعبة بحدود الله، وهي خادعة للرجل ماكرة به، وهي إن لم تملك الانفراد بالفرقة فإنها تنوي التسبب فيه على وجه تحصل به غالبا بأن تنوي الاختلاع منه وإظهار الزهد فيه وكراهته وبغضه، وذلك مما يبعثه على خلعها أو طلاقها، ويقتضيه في الغالب، ثم إن انضم إلى ذلك أن تنوي النشوز عنه، وفعل ما يكره لها، وترك ما ينبغي لها، فهذا أمر محرم وهو موجب للفرقة في العادة، فأشبه ما لو نوت ما يوجب الفرقة شرعا، وإن لم تنو فعل محرم ولا ترك واجب، فهي ليست مريدة له، ومثل هذه في مظنة أن لا تقيم حدود الله معه، ولا يلتئم مقصود النكاح بينهما، فيفضي إلى الفرقة غالبا، وأيضا فإن النكاح عقد يوجب المودة بين الزوجين والرحمة كما ذكره الله سبحانه في كتابه، ومقصوده السكن والازدواج، ومتى كانت المرأة من حين العقد تكره المقام معه وتود فرقته لم يكن النكاح معقودا على وجه يحصل به مقصوده، وأيضا فإن الله سبحانه قال { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } فلم يبح إلا نكاحا يظن فيه أن يقيم حدود الله ومثل هذه المرأة لا تظن أن تقيم حدود الله ; لأن كراهيتها له تمنع هذا الظن، ولأن المرأة تستوفي منافع الزوج بالنكاح كما يستوفي الرجل منافعها، وإذا كانت إنما تزوجت لتفارقه وتعود إلى الأول لا لتقيم معه لم تكن قاصدة للنكاح ولا مريدة له، فلا يصلح هذا النكاح على قاعدة إبطال الحيل، وأما نية المطلق ثلاثا فيشبه والله أعلم أن يكون هؤلاء التابعون إنما قالوا إنه يكون النكاح بها تحليلا، إذا كان هو الذي يسعى في النكاح، فأراد بذلك أن تختلع المرأة بعد ذلك من زوجها، فإن هذا حرام لما أنه خدع رجلا مسلما، وهو قد سعى في عقد يريد إفساده على صاحبه، أو يشبه ما لو كان قد زوجها من عبده، يريد أن يملكها إياه، وهي لم تشعر بذلك، ثم يحتمل أنهم أرادوا أن النكاح باطل في حق الأول، بمعنى أنها لا تحل أن تعود إلى الأول بمثل هذا النكاح ; لأنه قصد تعجيل ما أجله الله فيعاقب بنقيض قصده، وقد يشبه هذا ما لو تسبب رجل في الفرقة بين رجل وامرأته ليطلقها، إما بأن يخببها عليه حتى تبغضه وتختلع منه، أو يشينها عنده ببهتان أو غيره حتى يطلقها، أو أن يقتله ونحو ذلك، فيقال: إن الفرقة واقعة ولا تحل لذلك المفرق بينهما كما لو طلقها في مرض موته، أو فعل الوارث بامرأة موروثة ما يفسخ نكاحه، وليس له زوجة غيرها، فإن ذلك لا يسقط حقها من الميراث، ولا يبيح للورثة أخذه، وهذا كما يقوله في إحدى الروايتين أن الرجل إذا استام على سوم أخيه أو ابتاع على بيع أخيه أو خطب على خطبة أخيه أن عقده باطل، فإذا كان صاحب هذا القول يبطل عقد من زاحم غيره قبل أن يعقد فلأن يبطل عقد من تسبب في فسخ عقد الأول أولى، وكذلك الزوج المطلق ثلاثا، متى نوى التحليل، أو سعى فيه لم تحل له المرأة بذلك، وهذا قالوا إذا كانت نية أحد الثلاثة أنه محلل، فنكاح هذا الأخير باطل، ولا تحل للأول، وهذا إنما يقال فيمن له فعل في النكاح الثاني، أما إذا لم يوجد من المطلق الأول فعل أصلا وقد تناكح الزوجان نكاح رغبة من كل منهما والأول يجب أن يطلقها هذا فطلقها أو مات عنها فهذا أقصى ما يقال إنه متمن محب وليس بناو فإن نية المرء إنما تتعلق بفعله، وما تعلق بفعل غيره فهو أمنية، وأيضا فإن المطلق الأول كان يحرم عليه التصريح والتعريض بخطبتها في عدتها منه، وذلك بعد عدتها منه أشد وأشد فيكونون قد حرموها على الأول ; لأنه خطبها أو تشوق إليها في وقت لا يحل له ذلك، وهذا يوجبه قول من حكينا قوله في أول المسألة إذا لم يعلم الزوجان حلت، والله أعلم، ووجه ما ذهب إليه مالك وأحمد ما استدل به أبو عبد الله أحمد رحمة الله عليه، من أن النبي ﷺ { لعن المحلل والمحلل له }، فلو كان التحليل يحصل بنية الزوج تارة وبنية الزوجة أخرى للعنها النبي ﷺ أيضا، وكان ذلك أبلغ من لعنة أكل الربا، وموكله، فلما لم يذكرها في اللعنة علم أن التحليل الذي يكون بالنية إنما يلعن فيه الزوج فقط، ولا يجوز أن يقال لفظ المحلل يعم الرجل والمرأة، فإنها حللت نفسها بهذا النكاح ; لأنه قد قال { ألا أنبئكم بالتيس المستعار، وقال هو المحلل }، وهذه صفة الرجل خاصة، ثم لو عمهما اللفظ فإنما ذاك على سبيل التغليب لاجتماع المذكر والمؤنث، فلا بد أن يكون تحليل الرجل موجودا حتى تدخل معه المرأة بطريق التبع، أما إذا نوت هي وهو لم ينو شيئا فليس هو بمحلل أصلا، فلا يجوز أن تدخل المرأة وحدها في لفظ المذكر، إلا أن يقال قد اجتمعا في إرادة المتكلم لهما، وإن لم يجتمعا في عين هذا النكاح، فإن من قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث مجتمعين ومفترقين أتى بلفظ المذكر أيضا، فهذا يمنع الاستدلال من هذا الوجه، وأيضا فالمحلل هو الذي يفعل ما تصير به المرأة حلالا في الظاهر، وهي ليست حلالا في الحقيقة، وهذا صفة من يمكنه رفع العقد والمرأة وحدها ليست كذلك، واستدل الإمام أبو عبد الله أحمد رضي الله عنه أيضا بحديث تميمة بنت وهب امرأة رفاعة القرظي، ففي الصحيحين من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قال { جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي ﷺ فقالت: إن رفاعة طلقني فأبت طلاقي، وفي رواية ثلاث تطليقات، وإني تزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، وفي رواية وما معه إلا مثل هذه الهدبة أشارت لهدبة أخذتها من جلبابها فتبسم رسول الله ﷺ وقال: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك، وأبو بكر جالس عنده وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له، فقال: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله ﷺ وما يزيد رسول الله ﷺ على التبسم }، فوجه الدلالة أن النبي ﷺ بين أنها مع إرادتها أن ترجع إلى الزوج الأول لا يحل له حتى يجامعها، فعلم أنه إذا جامعها حلت للأول، ولو كانت إرادتها تحليلا مفسدا للنكاح أو محرما للعود إلى الأول لم تحل له، سواء جامعها أو لم يجامعها، فإن قيل لعلها إنما أرادت الرجوع إلى الأول بعد حل عقدة النكاح، وذلك لا يؤثر في فساد العقد كما لو تزوجها مرتغبا ثم بدا له أن يطلقها لتراجع الأول، كما أراد سعيد بن الربيع أن يطلق امرأته ليتزوجها عبد الرحمن بن عوف يقوي ذلك أنها ذكرت إنما معه مثل هدبة الثوب، تريد به أنه لا يتمكن من جماعها فأحبت طلاقه لذلك، ثم أرادت الرجوع إلى الأول، ثم الأصل عدم الإرادة وقت العقد فلا بد له من دليل قلنا الجواب أوجه: أحدها: أن النبي ﷺ لما جوز لها مراجعة الأول إذا جامعها الثاني بعد أن يتبين له رغبتها في الأول، ولم يفعل بين أن تكون هذه الإرادة حدثت بعد العقد أو كانت موجودة قبله، دل على أن الحل يعم الصورتين، فإن ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال بمنزلة العموم في المقال، حتى لو كان احتمال تجدد الإرادة هو الراجح لكان الإطلاق يعم القسمين إذا كان الاحتمال الآخر ظاهرا، والأمر هنا كذلك، فإن المرأة التي ألفت زوجا ثم طلقها قد يبقى في نفسها منه في كثير من الأحوال، والنساء في الغالب يبغضن الطلاق ويحببن العود إلى الأول أكثر مما يحببن معاشرة غيره، الجواب الثاني: أن هذه المرأة كانت راغبة في زوجها الأول بخصوصه ولم يكن لها رغبة في غيره من الأزواج، ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها { قالت: طلق رجل امرأته فتزوجت زوجا غيره فطلقها، وكان معه مثل هدبة الثوب فلم تصل معه إلى أي شيء تريده فلم يلبث أن طلقها، فأتت النبي ﷺ فقالت يا رسول الله إن زوجي طلقني وإني تزوجت زوجا غيره فدخل بي فلم يكن معه إلا مثل الهدبة، فلم يقربني إلا هنة واحدة لم يصل منه إلي شيء، فأحل لزوجي الأول ؟ فقال رسول الله لا تحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك وتذوقي عسيلته }، متفق عليه، وكذلك في حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها { أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجها رجل ثم طلقها، فسئل رسول الله ﷺ عن ذلك فقال لا حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول }، وروى مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير { أن رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله ﷺ ثلاثا، فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فأعرض عنها فلم يستطع أن يغشاها ففارقها، فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فنهاه عن تزويجها، وقال لا يحل لك حتى تذوق العسيلة }، وذكر عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة الحديث، وزاد { فقعدت ثم جاءته فأخبرته أن قد مسها فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول، وقال: اللهم إن كان إنما بها أن يجعلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحه مرة أخرى }، ثم أتت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما فمنعاها، فهذا يبين أنها استفتت النبي ﷺ بعد أن طلقها رفاعة، لا طلبا لفرقته بل طلبا لمراجعة الأول، وأخبرت بصفة إفضائه ليفتيها النبي ﷺ هل حلت للأول أم لا فلما أفتاها أنها لا تحل إلا بعد الوطء قعدت ثم أخبرته أنه كان قد مسها فعلم النبي ﷺ أنها كاذبة، وإنما حملها على الكذب أنها لما أخبرت أولا بحقيقة الأمر لم تحل، فأخبرت أنه قد مسها فمنعها النبي ﷺ من الرجوع إلى الأول ; لأنها أخبرت أولا بأنه لم يواقعها ثم أخبرت بخلافه فلم يقبل رجوعها عن الإقرار، وقال اللهم إن كان ما بها إلا أن تجعلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحه مرة أخرى دعاء عليها عقوبة على كذبها بنقيض قصدها لئلا يتسرع الناس في الكذب الذي يستحلون به الحرام . ثم إنها أتت في خلافة الشيخين وهذا كله أبين دليل على أنها إنما كانت رغبتها في رفاعة لا في غيره، وإلا ففي الأزواج كثرة فهذا الإلحاح في نكاحه وتأيمها عليه عسى أن تمكن من نكاحه ومراجعة ولاة الأمر فيه دون غيره والدخول في التزوير مع أن النكاح بغيره ممكن لا يكون إلا عن محبته منها له دون غيره، وهذه الإرادة والرغبة لم تتحد بإعراض عبد الرحمن عنها، فإن إعراض عبد الرحمن عنها أكثر ما يوجب إرادتها للنكاح ممن كان، أما من هذا الرجل بعينه فإنما ذاك لسبب يختص به، وهذا لم يحدث بعد النكاح بسبب يقتضيه، فعلم أنه كان متقدما ; لأن الأصل عدم ما يحدث، ثم هذه المحبة منها له إنما سببها معرفتها به حال النكاح، وإلا فبعد الطلاق ليس هناك ما يوجب المحبة، نعم قد يهيج الشوق عند المنع منه، لكن ذلك مستند إلى محبة متقدمة، ولا يقال تزوجت بغيره لعلها تسلو فلما لم يعفها، هاج الحب ; لأنه لو كان كذلك لتزوجت بآخر وآخر لعله يعفها وتسلى به، فلما لم تتزوج إلا بعبد الرحمن، علم أنها كانت مريدة لأن يحللها للأول، عسى أن ترجع إليه، ولم تتزوج بغيره خشية أن يمسكها بالكلية ولا يكون فيه سبب تطلب به فراقه، الوجه الثالث: أنه قد روي أنها استفتت النبي ﷺ أيضا قبل الطلاق، فروى البخاري عن عكرمة عن مولى ابن عباس، { أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فأتت عائشة وعليها خمار أخضر، فشكت إليها خضرة بجلدها فلما جاء رسول الله ﷺ والنساء ينصر بعضهن بعضا، قالت عائشة ما رأيت ما تلقى المؤمنات لجلدها أشد خضرة من ثوبها، قال وسمع أنها قد أتت رسول الله ﷺ فجاء ومعه ابنان من غيرها، فقالت والله ما لي إليه من ذنب إلا أن ما به ليس بأغنى عني من هذه وأخذت هدبة من ثوبها، فقال: كذبت والله يا رسول الله إني لأنفضها نفض الأديم ولكنها ناشز تريد رفاعة، فقال رسول الله: فإن كان ذلك لم تحلين له، ولم تصلحين له، حتى يذوق عسيلتك، قال وأبصر معه ابنين له، فقال أبنوك هؤلاء، قال نعم، قال: هذا الذي تزعمين فوالله لهم أشبه به من الغراب بالغراب }، قال أبو بكر البرقاني: هكذا رواه البخاري مرسلا عن بندار، وكذلك رواه حماد بن زيد ووهب عن أيوب مرسلا، وقد أسنده سويد بن سعيد عن عبد الوهاب الثقفي فقال فيه عن ابن عباس أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، وذكر الحديث وقد رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد جيد عن عبد الله بن العباس { قال جاءت الغميصاء أو الرميصاء إلى رسول الله ﷺ تشكو زوجها، وتزعم أنه لا يصل إليها، فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها فزعم أنها كاذبة ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله ﷺ: ليس لك ذلك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره } ففي حديث ابن عباس وأخيه { أنها شكت زوجها قبل أن يطلقها، وزعمت أنه لم يصل إليها وطلبت فرقته لذلك، فكذبها وأخبر أنه إنما بها مراجعة الأول وأنها ناشز غير مطيعة، فقال رسول الله ﷺ فإن كان كذلك لم تحلين للأول حتى يذوق عسيلتك، يريد والله أعلم أني قادر على وطئها وجماعها وأن أنفضها نفض الأديم لكنها ناشز لا تمكنني، فإنها تريد رفاعة، فلذلك قال رسول الله ﷺ لا تحلين له حتى تذوقي عسيلته، فطلقها ولم تذق العسيلة } أو أنها لما ادعت عدم الوطء كانت معترفة بأنها لم تحل للأول فلم تجعل حلالا بدعوى الزوج أنه وطئها إذا كانت هي معترفة بما يوجب التحريم، لكن حديث مالك عن ولد عبد الرحمن يدل على أنه كان معرضا عنها، وحديث ابن عباس يقتضي دعواه إما التمكين من وطئها أو فعل الوطء فعلى حديث ابن عباس يكون قد جاءت النبي ﷺ قبل الطلاق ثم جاءته بعده، وعبد الرحمن إما أنه كان معترضا عنها كما أخبرت أو كانت ناشزا عنه كما أخبر، وبكل حال فهذا يدل على الرغبة التامة في مراجعة الأول فإنها تكون قد جاءت إلى النبي ﷺ قبل الطلاق وبعده مرتين أو أكثر، ثم جاءت الخليفتين ومن يصدر عنها مثل هذه الأحوال يغلب على الظن حرصها على مراجعتها حين العقد، فأقل ما قد كان ينبغي لو كان مؤثرا أن يقال لها إن كنت وقت العقد كنت مريدة له لم يجز أن ترجعي إليه بحال، فلما لم يفصل النبي ﷺ مع ظهور هذا القرار علم أن الحكم لا يختلف، وأيضا فإنها وإن كانت تحب مراجعة الأول، فالمرء لا يلام على الحب والبغض، وإنما عليها أن تتقي الله سبحانه في زوجها وتحسن معاشرته وتبذل حقه غير متبرمة ولا كارهة، فإذا نوت هذا وقت العقد فقد نوت ما يجب عليها . فإذا نوت فعل ما لا يحل مما لا يوجب طلاقها فسيأتي ذكر هذا، وأما اختلاع المرأة وانتزاعها من بعلها فقد نهى عنه النبي ﷺ ونحن وإن قلنا نية المرأة أو المطلق لا تؤثر: فلا يحل لواحد منهما أن يفعل ما حرمه الشارع من إفساد حال المرأة على زوجها ونحو ذلك، وليس لها أن تتزوج به إلا إذا كانت تظن أن تقيم حدود الله سبحانه معه، وتعتقد أنه إن شاء أمسك وإن شاء طلق، وأنه إذا لم يطلق أطاعته ولم تنشز عنه .

المرتبة الرابعة: أن تتسبب إلى فرقته بمعصية مثل أن تنشز عليه أو تسيء العشرة بإظهار الكراهة في بذل حقوقه، أو غير ذلك مما يتضمن ترك واجب أو فعل محرم، مثل طول اللسان ونحوه فإن هذا لا ريب أنه من أعظم المحرمات، وكل ما دل على تحريم النشوز وعلى وجوب حقوق الرجل، فإنه يدل على تحريم هذا ; وهذا حرام من ثلاثة أوجه من جهة أنه في نفسه محرم ; ومن جهة أنها تقصد به أن تزيل ملكه عنها بفعل هو فيه مكره إذا طلق أو خلع مفاديا من شرها ; والاحتيال على إبطال الحقوق الثابتة حرام بالاتفاق، وإنما اختلف في إبطال ما انعقد سببه ولم يجب كحق الشفعة ; وإن كان الصواب أنه لا يحل الاحتيال على إبطال حق مسلم بحال، ومن جهة أن مقصودها أن تتزوج غيره لا مجرد التخلص منه، وقريب من هذا أن تظهر معصية تنفره عنها ليطلقها، مثل أن تريه أنها تتبرج للرجال الأجانب ; ويكونوا في الباطن ذوي محارمها فيحمله ذلك على أن يطلقها ; فإن هذا الفعل حرام في نفسه ; إذ لا يحل للمرأة أن تري زوجها أنها فاجرة ; كما لا يحل لها أن تفجر ; فإن هذا أشد إيذاء له من نشوزها عنه ; فهذا أشد تحريما وأظهر إبطالا للعقد الثاني من خطبة الرجل على خطبة أخيه، وهذا نظير أن يخبب الرجل على امرأته ليتزوجها فإن السعي في التفريق بين الزوجين من أعظم المحرمات ; بل هو فعل هاروت وماروت وفعل الشيطان المحظي عند إبليس ; كما جاء به الحديث الصحيح، ولا ريب أنه لا يحل له تزوجها ; ثم بطلان عقد الثاني هنا أقوى من بطلانه في المسألة الأولى، وأقوى من بطلان بيعه على بيع أخيه وشرائه على شرائه، فإن فسخ العقد الأول هنا حصل بفعل مباح في الأول لو تجرد عن قصد مزاحمة المسلم، وهنا فيه قصد المزاحمة، وإن الفعل في نفسه محرم ومع هذا فقد صحح بعض أصحابنا العقد الثاني، وإنما صار في صحة مثل هذا خلاف ; لأن التحريم لحق آدمي، ولأن المحرم متقدم على العقد الثاني، والاعتقاد أن التحريم هنا لا لمعنى في العقد الثاني ولكن لشيء خارج عنه ; وقد تقدم التنبيه على هذا ; لكن إن تزوجت بنية أن تفعل هذا بأن تنوي أنها تخلع منه فإن لم تطلق وإلا نشزت عنه، وأن تحتال عليه لتطلق " فهذا العقد الأول أيضا حرام ; وإذا كان من تزوج بصداق ينوي أن لا يؤديه زانيا أو من أدان دينا ينوي أن لا يقضيه سارقا فمن تزوجت تنوي أن لا تقيم حقوق الزوج أولى أن تكون عاصية، فإنها مع أنها قصدت أن لا تفي بموجب العقد قد قصدت أن تفارقه لتتزوج غيره، فصارت قاصدة لعدم هذا العقد ولوجود غيره بفعل محرم، وتحريم هذا لا ريب فيه، وقد قال الله تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } وهذه تنوي أن لا تقيم حدود الله فهي أبلغ من التي لا تظن إقامة حدود الله، وهذا مثل أن يبيع سلعة وبنيته أن لا يسلمها إلى المشتري أو يؤجر دارا بنية أن يمنع المستأجر من سكناها، بل هو أبلغ من ذلك لأنها تقصد بمنع الحقوق حمله على الفرقة، فتقصد منع حقوق العقد، وإزالة الملك، ومثل هذا العقد يطلق أصحابنا وغيرهم صحته ; لأن العاقد الآخر لم يفعل محرما، ففي الحكم ببطلان العقد ضرر عليه، والإبطال إنما كان لحقه فلا يزال عنه ضرر قليل بضرر كثير، وليس العقد حراما من الطرفين حتى يحكم بفساده، ومتى حكم بالصحة من أحد الطرفين حكم بحل ما يأخذه صاحبه ذلك السوء فيحكم بوجوب عوضه عليه، وإلا كان آكلا له بالباطل، ومتى قيل بوجوب العوض عليه، فإنما يجب للآخر الخادع فصار كأنه قصد أخذ مال الغير بغير عوض، فأوجب الله عليه العوض الأول بغير اختياره، ولزم من هذا استحقاقه لذلك المال بغير اختيار، فصحة العقد توجب الاستحقاق من الطرفين، وحد الانتقاع مشروط ببذل العوض فإن منعت المرأة ما يجب عليها لم يكن لها حق على الزوج ومن أصحابنا من يقول بفساد مثل هذا العقد حتى قالوا مثل ذلك في النجش، وتلقي الركبان والمتوجه أن يقال يحرم عليه الانتفاع بما حصل له في هذا العقد مع حل الانتفاع للآخر، كما تقول في الرجل يحول بين الرجل وبين ماله فعليه بدله ينتفع به مالك المال حلالا مع أن الحائل لا يحل له الانتفاع بما في يديه من المال الذي حال بين مالكه وبينه، فكان العقد صحيحا بالنسبة إلى أحدهما فاسدا بالنسبة إلى الآخر، ومعنى التصحيح ما حصل العوض المقصود به وهذا مما يمكن تنويعه، وقريب من هذا أن تخدعه بأن تستحلفه يمينا بالطلاق، ثم تحثه فيها بأن تقول أقاربي يريدون أن أذهب إليهم وأنا أكره ذلك، فاحلف على أن لا أخرج إليهم بالطلاق الثلاث، فيحلف ثم تذهب إليهم ونحو ذلك، فهذا أيضا لا ريب في تحريمه فإن هذه عصته بأن فعلت ما نهاها عنه من الخروج ونحوه، وخدعته بأن احتالت على أن طلق، ومثل هذه الحيلة حرام بالاتفاق وهذه مثل ما قبلها . المرتبة الخامسة: أن تفعل هي ما يوجب فرقتها مثل أن ترتد أو ترضع امرأة صغيرة حتى تصير من أمهات النساء، أو تباشر أباه أو ابنه، وقد قدمنا أن مثل هذه المرتدة لا ينبغي أن ينفسخ نكاحها، فأما الإرضاع والمباشرة فينفسخ بهما النكاح فهذا أيضا تحريمه مقطوع به، وهذا قد أزيل نكاحه بغير فعل منه، كما صرف الخاطب بغير فعل منه، ثم إزالة النكاح الذي قد حصل ليس مثل منع المنتظر، فإذا كانت قد قصدت هذا حين العقد فقد تعددت المحرمات، وفساد العقد الثاني هذا أظهر من فساد عقد الخاطب الثاني بكثير، وفساد العقد الأول هنا محتمل، فإن هذه بمنزلة المحلل حيث نوت أن تفعل ما يوجب الفرقة، كما نوى الرجل الفرقة ولا فرق بين نية الفرقة ونية سبب الفرقة، فإن نية المرأة والمطلق بيع الزوج العبد لها لما كان سببا للفرقة كان بمنزلة نية الزوج وحده الفرقة، لكن يقال إنها قد لا تتمكن من الإرضاع والمباشرة، كتمكن الزوج من الطلاق، وتمكن المطلق من بيع العبد، وأيضا فإن المنوي هنا فعل محرم في نفسه، فقد لا يفعله بخلاف ما كان مباح الأصل، وأيضا فإن المرأة لم يجعل الشرع إليها هذا الفسخ مباشرة ولا سببا، فنيتها أن تفعله مثل مخادعة أحد المتعاقدين للآخر، وذلك لا يقدح في صحة العقد بالنسبة إلى الزوج بخلاف نية الزوج للفسخ فإن الشارع ملكه إياه فإذا نواه خرج العقد عن أن يكون مقصودا، وكذلك إذا نواه السيد والزوجة، فإنهما يملكان الفرقة شرعا بنقل الملك في الزوج، فإذا قصد ذلك خرج العقد عن أن يكون مقصودا ممن يملك رفعه شرعا، لا سيما والسيد بمنزلة الزوج في النكاح، والسيد والعبد في النكاح بمنزلة الزوج الحر، فهو يملك العقد بمواطأة المرأة، فنيته للفسخ كنية الزوج، إذ النكاح لا يصح إلا بإذن الزوج، ولم يوجد للزوج إذن رغبة، والمرأة لا تحتاج إلى رغبتها إذا رضيت بالعقد، كما تقدم ; لأنها إذا ملكت استوى الحال في رغبتها وعدم رغبتها، وبالحملة فهذه قصدت الفسخ بفعل محرم، فالواجب أن تلحق بالتي قبلها، إذ لا فرق بين أن يكون الفعل المحرم يوجب الفسخ مباشرة أو بطريق التسبب المفضي إليه غالبا، أو السبب المغلب بالمباشرة .

المرتبة السادسة: أن تقصد وقت العقد الفرقة بسبب تملكه بغير رضا الزوج، ومثل أن تتزوج بفقير تنوي طلب فرقته بعد الدخول بها، فإنها تملك ذلك في إحدى الروايتين عن أحمد وغيره، فإنها إذا رضيت بمعسر ثم سخطته ففي ثبوت الفسخ قولان معروفان، فهذه إلى المحلل أقرب من التي قبلها، إذ السبب هنا مملوك لها شرعا، كطلاق المحلل وبيع الزوج العبد بخلاف ما لو قالت لم أعلم أنه معسر، أو لم أعلم أنه ناقص عني ليس بكفء، أو لم أعلم أنه معيب فإن هذا يثبت لها الفسخ، لكن إذا نوت ذلك فقد نوت الكذب فتصير من جنس التي قبلها إذا نوت الإرضاع أو المباشرة، وهذا أقوى من حيث إن هذا الكذب ممكن فإنه من الأقوال ليس من الأفعال، وإنما يفارق المحلل في جواز التوبة، ومسألة المعسر محتمل فيها تجرد اليسار فليس المنوي هنا مقطوعا بإمكانه كنية الطلاق والبيع، وهذا القدر ليس بمؤثر فإنه قد لا يمكن أن يبيعها العبد أيضا بأن يحدث له عتق أو يموت المطلق أو يرجع السيد عن هذه النية، ومسألة التزويج بمعسر ونحوه شبيهة بمسألة العبد، فإن الفرقة قد نواها من يملكها، ومتى نواها من يملكها فلا فرق بين أن يكون هو الزوج أو السيد أو الزوجة وحدها أو الزوجة وأجنبي، كما لو كانت المطلقة أمة فاتفقت هي وسيدها أن يزوجها بعبد ثم يعتقها، فإنهما قد اتفقا على فرقة لا يملكها الزوج، مثل مسألة بيعها الزوج العبد، وسائر المسائل التي قصدت الفرقة بسبب محرم مثل دعوى عدم العلم بالعسرة، أو النقص أو العيب أيضا قريبة من هذا، ومتى تزوجت على هذا الوجه وفارقت فهي كالرجل المحلل وأسوأ، فلا يحل لكن لو أقامت عند الزوج فهل يحتاج إلى استئناف عقد كما في الرجل المحلل، ولو علم الرجل أن هذا كان من نيتها وهي مقيمة عليه، فهل يسعه المقام معها هذا فيه نظر، فإن المرأة في النكاح مملوكة والزوج هو المالك، وإن كان كل من الزوجين عاقدا ومعقودا عليه، لكن الغالب على الزوج أنه مالك والغالب على المرأة أنها مملوكة، ونية الإنسان قد لا تؤثر في إبطال ملك غيره، كما يؤثر في إبطال ملكه، وإن كان متمكنا من ذلك بطريق محرم، فالرجل إذا نوى التحليل فقد قصد ما ينافي الملك فلم يثبت الملك له فانتفت سائر الأحكام تبعا، وإذا نوت المرأة أن تأتي بالفرقة فقد نوى هو للملك وهي قد ملكته نفسها في الظاهر، والملك يحصل له إذا قصده حقيقة مع وجود السبب ظاهرا، لكن نيتها تؤثر في جانبها خاصة فلا يحصل لها بهذا النكاح حلها للأول حيث لم تقصد أن تنكح، وإنما قصدت أن تنكح، والقرآن قد علق الحل بأن تنكح زوجا غيره، وقد تقدم أن قوله: { حتى تنكح زوجا غيره }، يقتضي أن يكون هناك نكاح حقيقة من جهتها لزوج هو زوج حقيقة، فإذا كان محللا لم يكن زوجا بل تيسا مستعارا، وإذا كانت قد نوت أن تفعل ما يرفع النكاح لم تكن ناكحة حقيقة، وهذه المسائل المتعلقة بهذا النوع من الأحكام دقيقة المسلك وتحريرها يستمد من تحقيق اقتضاء النهي، والفساد وإمكان فساد العقد من وجه دون وجه، ويكون الكلام في هذا لا يخص مسألة التحليل لم يحسن بسط القول فيه، وهذه المراتب التي ذكرناها في نية المرأة لا بد من ملاحظتها، ولا تحسبن أن كلام أحمد وغيره من الأئمة أن نية المرأة ليست بشيء يعم ما إذا نوت أن تفارق بطريق تملكه، فإنهم عللوا ذلك بأنها لا تملك الفرقة وهذه العلة منتفية في هذه الصورة، ثم إنهم قالوا إن نية المرأة ليست بشيء، فأما إذا نوت وعملت ما نوت فلم ينفوا تأثير العمل مع النية، على أن النية المطلقة إنما تتعلق بما يملكه الناوي، فعلم أنهم أرادوا بالنية أن تتزوج بالأول، ولا ريب أنها إذا نوت أن تتزوج بالأول لم يؤثر ذلك شيئا كما تقرر فإن هذه النية لا تتعلق بنكاح الثاني، ولم يكن اللفظ يقتضي ذلك فإن العرف قد دل على أن نية المرأة عند الإطلاق هي نية مراجعة الأول إذا أمكنت، فأما إذا نوت فعلا محرما أو خديعة أو مكرا وفعلت ذلك فهذا نوع آخر، وبهذا التقسيم يظهر حقيقة الحال في هذا الباب، ويظهر الجواب عما ذكرناه من جانب من اعتبر نية المرأة مطلقا، والمسألة تحتمل أكثر من هذا، ولكن هذا الذي تيسر الآن، وهو آخر ما يسره الله تعالى في مسألة التحليل، وهي كانت المقصودة أولا بالكلام، ثم لما كان الكلام فيها مبنيا على قاعدة الحيل، والتمس بعض الأصحاب مزيد بيان فيها ذكرنا فيها ما يسره الله تعالى على سبيل الاختصار بحسب ما يحتمله هذا الموضع، وإلا فالحيل يحتاج استيفاء الكلام فيها إلى أن يفرد كل مسألة بنظر خاص، ويذكر حكم الحيلة فيها، وطرق إبطالها إذا وقعت، وهذا يحتمل عدة أسفار، والله سبحانه وتعالى يجعل ذلك خالصا لوجهه وموافقا لمحبته ومرضاته آمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل . كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة قال شيخنا الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ تسليما، أما بعد: فإنه في آخر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبعمائة، جاء أميران رسولان من عند الملإ المجتمعين من الأمراء والقضاة ومن معهم، وذكرا رسالة من عند الأمراء، مضمونها طلب الحضور ومخاطبة القضاة لتخرج وتنفصل القضية، وأن المطلوب خروجك، وأن يكون الكلام مختصرا ونحو ذلك، فقلت سلم على الأمراء وقل لهم لكم سنة وقبل السنة مدة أخرى تسمعون كلام الخصوم الليل والنهار وإلى الساعة لم تسمعوا مني كلمة واحدة، وهذا من أعظم الظلم، فلو كان الخصم يهوديا أو نصرانيا أو عدوا آخر للإسلام ولدولتكم لما جاز أن تحكموا عليه حتى تسمعوا كلامه، وأنتم قد سمعتم كلام الخصوم وحدهم في مجالس كثيرة، فاسمعوا كلامي وحدي في مجلس واحد، وبعد ذلك نجتمع ونتخاطب بحضوركم، فإن هذا من أقل العدل الذي أمر الله به في قوله: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا }، فطلب الرسولان أن أكتب ذلك في ورقة فكتبته فذهبا ثم عادا، وقالا: المطلوب حضورك لتخاطبك القضاة بكلمتين وتنفصل وكان في أوائل النصف من الشهر المذكور جاءنا هذان الرسولان بورقة كتبها لهم المحكم من القضاة، وهي طويلة طلبت منهم نسخا فلم من أنه على العرش حقيقة ولا تشبيه، قلت: في خطي وخاطبني بخطاب فيه طول قد ذكر في غير هذا الموضع، فندموا على كتابة تلك الورقة وكتبوا هذه، فقلت: أنا لا أحضر إلى من يحكم في بحكم الجاهلية وبغير ما أنزل الله ويفعل بي ما لا تستحله اليهود ولا النصارى، كما فعلتم في المجلس الأول، وقلت للرسول: قد كان ذلك بحضوركم أتريدون أن تمكروا بي كما مكروا في العام الماضي، هذا لا أجيب إليه، ولكن من زعم أني قلت قولا باطلا فليكتب خطه بما أنكره من كلامي ويذكر حجته، وأنا أكتب جوابي مع كلامه، ويعرض كلامي وكلامه على علماء الشرق والغرب، فقد قلت هذا بالشام وأنا قائله هنا، وهذه عقيدتي التي بحثت بالشام بحضرة قضاتها ومشايخها وعلمائها، وقد أرسل إليكم نائبكم النسخة التي قرئت وأخبركم بصورة ما جرى، وإن كان قد وقع من التقصير في حقي، والعدوان والإغضاء عن الخصوم ما قد علمه الله والمسلمون، فانظروا النسخة التي عندكم، وكان قد حضر عندي نسخة أخرى بها فقلت: خذ هذه النسخة فهذا اعتقادي فمن أنكر منه شيئا فليكتب ما ينكره وحجته لأكتب جوابي، فأخذا العقيدة وذهبا ثم عادا ومعهما ورقة لم يذكر فيها شيء من الاعتراض على كلامي بل قد أنشئوا فيها كلاما طلبوه وذكر الرسول أنهم كتبوا ورقة ثم قطعوها ثم كتبوا هذه، ولفظها: " الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز وأن لا يقول إن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته، وأنه سبحانه لا يشار إليه بالأصابع إشارة حسية، ونطلب منه أن لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد، ولا في الفتاوى المتعلقة بها، فلما أراني الورقة كتبت جوابها فيها مرتجلا مع استعجال الرسول، أما قول القائل: " الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز " فليس في كلامي إثبات لهذا اللفظ ; لأن إطلاق هذا اللفظ نفيا وإثباتا بدعة، وأنا لا أقول إلا ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة، فإن أراد قائل هذا القول، أنه ليس فوق السماوات رب ولا فوق العرش إله وأن محمدا ﷺ لم يعرج به إلى ربه، وما فوق العالم إلا العدم المحض فهذا باطل مخالف لإجماع الأمة وأئمتها، وإن أراد بذلك أن الله لا تحيط به مخلوقاته، ولا يكون في جوف الموجودات فهذا مذكور مصرح به في كلامي، فأي فائدة في تجديده ؟ وأما قول القائل: " لا يقول: إن كلام الله حرف وصوت قائم به بل هو معنى قائم بذاته " فليس في كلامي هذا أيضا ولا قلته قط، بل قول القائل: إن القرآن حرف والصوت قائم به، بدعة، وقوله: إنه معنى قائم بذاته بدعة لم يقله أحد من السلف لا هذا ولا هذا، وأنا ليس في كلامي شيء من البدع، بل في كلامي ما أجمع عليه السلف: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، أما قول القائل: " إنه لا يشار إليه بالأصابع إشارة حسية " فليس هذا اللفظ في كلامي بل في كلامي إنكار ما ابتدعه المبتدعون من الألفاظ النافية، مثل قولهم: إنه لا يشار إليه، فإن هذا النفي أيضا بدعة، فإن أراد القائل أنه لا يشار إليه أنه ليس محصورا في المخلوقات أو غير ذلك من المعاني الصحيحة، فهذا حق، وإن أراد أن من دعا الله لا يرفع إليه يديه، فهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي ﷺ وما فطر الله عليه عباده من رفع الأيدي إلى الله في الدعاء وقد قال النبي ﷺ: { إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما إليه صفرا } وإذا سمى المسمي ذلك إشارة حسية، وقال: إنه لا يجوز، لم يقبل منه .

وأما قول القائل: " أن لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العامة " فما فاتحت عاميا في شيء من ذلك قط، وأما الجواب: بما بعث الله به رسوله المسترشد المستهدي فقد قال النبي ﷺ: { من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار }، وقد قال تعالى: { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } الآية، فلا يؤمر العالم بما يوجب لعنة الله عليه، فأخذا الجواب وذهبا فأطالا الغيبة، ثم رجعا ولم يأتيا بكلام محصل إلا طلب الحضور، فأغلظت لهم في الجواب وقلت لهم بصوت رفيع: يا مبدلين يا مرتدين عن الشريعة يا زنادقة، وكلاما آخر كثيرا، ثم قمت وطلبت فتح الباب والعود إلى مكاني، وقد كتبت هنا بعض ما يتعلق بهذه المحنة التي طلبوها مني في هذا اليوم، وبينت بعض ما فيها من تبديل الدين، وإتباع غير سبيل المؤمنين، لما في ذلك من المنفعة للمسلمين، وذلك من وجوه كثيرة نكتب منها ما يسره الله تعالى، الوجه الأول: أن هذا الكلام فيه أمر بهذا الكلام المبتدع الذي لم يؤثر عن الله ولا عن أحد من رسله ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها بل هو من ابتداع بعض المتكلمين الجهمية الذي وصف ربه فيه بما وصفه، ونهى فيه عن كلام الله وكلام رسوله الذي وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، أن يفتى به أو يكتب به أو يبلغ لعموم الأمة، وهذا نهي عن القرآن والشريعة والسنة والمعروف والهدى والرشاد وطاعة الله ورسوله وعن ما تنزلت به الملائكة من عند الله على أنبيائه، وأمر بالنفاق والحديث المفترى من دون الله والبدعة والمنكر والضلال والغي وطاعة أولياء من دون الله، واتباع لما تنزلت به الشياطين، وهذا من أعظم تبديل دين الرحمن بدين الشيطان واتخاذ أنداد من دون الله قال الله تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقال تعالى: { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض }، الآية، وهذا الكلام نهي فيه عن سبيل المؤمنين وأمر بسبيل المنافقين وقال تعالى: { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون }، - إلى قوله - { ولكن الشياطين كفروا } فذم سبحانه من كان من أهل الكتاب نبذ كتاب الله وراء ظهره واتبع ما تقوله الشياطين، ومن أمر بهذا الكلام، فقد أمر بنبذ كتاب الله وراء الظهر حيث أمر بترك التعرض لما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، وذلك آيات الصفات وأحاديث الصفات، فأمر بأن لا يفتى بها، ولا يكتب بها، ولا تبلغ لعموم الأمة، وهذا من أعظم الإعراض عنها والنبذ لها وراء الظهر، وأمر - مع ذلك - باعتقاد هذه الكلمات المتضمنة لمخالفة ما جاءت به الرسل، كما سنبينه إن شاء الله تعالى وقد قال تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن }، { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } الآية، فبين سبحانه وتعالى أن للأنبياء عدوا من شياطين الإنس والجن يعلم بعضهم بعضا بالقول المزخرف غرورا، وأخبر أن الشياطين توحي إلى أوليائها بمجادلة المؤمنين فالكلام الذي يخالف ما جاءت به الرسل، هو من وحي الشياطين وتلاوتهم، فمن أعرض عن كتاب الله واتباعه، فقد نبذ كتاب الله وراء ظهره واتبع ما تتلوه شياطين الإنس والجن، الوجه الثاني: أن قول القائل: نطلب منه أن لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها، يتضمن إبطال أعظم أصول الدين ودعائمه التوحيد، فإن من أعظم آيات الصفات آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، و { قل هو الله أحد } التي تعدل ثلث القرآن، كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي ﷺ وكذلك فاتحة الكتاب التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، كما ثبت ذلك في الصحيح أيضا، وهي أم القرآن التي لا تجزئ الصلاة إلا بها فإن قوله: { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين }، كل ذلك من آيات الصفات باتفاق المسلمين، و { قل هو الله أحد } قد ثبت في الصحيحين عن عائشة { أن رسول الله ﷺ بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب { قل هو الله أحد } فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله ﷺ - فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أقرأ بها، فقال رسول الله ﷺ: أخبروه أن الله يحبه }، وهذا يقتضي أن ما كان صفة لله من الآيات فإنه يستحب قراءته، والله يحب ذلك، ويحب من يحب ذلك، ولا خلاف بين المسلمين في استحباب قراءة آيات في الصفات للصلاة الجهرية التي يسمعها العامي وغيره، بل بسم الله الرحمن الرحيم من آيات الصفات وكذلك أول سورة الحديد إلى قوله: { والله بما تعملون بصير } هي من آيات الصفات، وكذلك آخر سورة الحشر هي من أعظم آيات الصفات بل جميع أسماء الله الحسنى هي مما وصف به نفسه كقوله: الغفور الرحيم، العزيز الحكيم، العليم القدير ; العلي العظيم الكبير المتعال، العزيز القوي، الرزاق ذو القوة المتين، الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد، وما أخبر الله بعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وعفوه ومغفرته ورضاه وسخطه ومحبته وبغضه وسمعه وبصره وعلوه وكبريائه وعظمته وغير ذلك من آيات الصفات، فهل يأمر من آمن بالله ورسوله بأن يعرض عن هذا كله، وأن لا يبلغ المؤمنين من أمة محمد ﷺ هذه الآيات ونحوها من الأحاديث، وأن لا يكتب بكلام الله وكلام رسوله الذي هو آيات الصفات وأحاديثها إلى البلاد ولا يفتي في ذلك ولاية، وقد قال الله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } وأسوأ أحوال العامة أن يكونوا أميين فهل يجوز أن ينهى أن يتلى على الأميين آيات الله، أو عن أن يعلم الكتاب والحكمة ومعلوم أن جميع من أرسل إليه الرسول من العرب كانوا قبل معرفة الرسالة أجهل من عامة المؤمنين اليوم، فهل كان النبي ﷺ ممنوعا من تلاوة ذلك عليهم وتعليمهم إياه، أو مأمورا به أو ليس هذا من أعظم الصد عن سبيل الله ؟ وقد قال الله تعالى: { قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن } الآية، وقال: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا } أوليس هذا نوعا من الأمر بهجر القرآن والحديث وترك استماعه وقد قال تعالى: { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } الآية، وقال تعالى: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } وقال تعالى: { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا } وقال تعالى: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } فهلا قال فاستمعوا له لا لأعظم ما فيه وهو ما وصفت به نفسي فلا تستمعوه أو لا تسمعوه لعامتكم، وقال تعالى: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا }، وقال تعالى: { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب }، وقال تعالى: { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } الآية، وقال تعالى: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } الآية، وقال تعالى: { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا }، وقال تعالى: { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } إلى قوله: { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا }، الوجه الثالث: أن أعظم ما يحذره المنازع من آيات الصفات ما يزعم أن ظاهرها كفر وتجسيم كقوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون }، وقوله تعالى { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان }،: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين }، وقوله تعالى: { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وقال تعالى: { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني } وقال تعالى: { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا }، { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } الآية، فهل سمع أن أحدا ممن يؤمن بالله ورسوله منع أن يقرأ هذه وتتلى على العامة وهل ذلك إلا بمنزلة من منع من سائر الآيات التي يزعم أن ظاهرها كفر وتجسيم وخبر يخالف رأيه كقوله: { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }، وقوله: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } وقوله: { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه }، وقوله: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء }، وقوله تعالى: { فعال لما يريد }، وقوله: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها }، وقوله: { من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون } وقوله: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } وكذلك آيات الوعد والوعيد وأحاديث الوعد والوعيد هل يترك تبليغها لمخالفتها له، أو الوعيدية أو المرجئة، وآيات التنزيه والتقديس كقوله: { لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد }، وقوله: { هل تعلم له سميا } وقوله: { فكبكبوا فيها هم والغاوون } إلى قوله: { إذ نسويكم برب العالمين }، وقوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }، وقوله: { فلا تجعلوا لله أندادا }، ونحو ذلك هل يترك تلاوتها وتبليغها لمخالفتها لرأي أهل التشبيه والتمثيل ؟، ، الوجه الرابع: أن كتب الصحاح والسنن والمسانيد هي المشتملة على أحاديث الصفات، بل قد بوب فيها أبواب مثل كتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية " الذي هو آخر كتاب صحيح البخاري ومثل كتاب الرد على الجهمية في سنن أبي داود وكتاب النعوت " في سنن النسائي فإن هذه مفردة لجمع أحاديث الصفات وكذلك قد تضمن " كتاب السنة " من سنن ابن ماجه ما تضمنه وكذلك تضمن صحيح مسلم، وجامع الترمذي، وموطأ مالك، ومسند الشافعي، ومسند أحمد بن حنبل، ومسند موسى بن قرة الزبيدي، ومسند أبي داود الطيالسي، ومسند ابن وهب، ومسند أحمد بن منيع، ومسند مسدد، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند محمد بن أبي عمر العدني، ومسند أبي بكر بن أبي شيبة، ومسند بقي بن مخلد، ومسند الحميدي، ومسند الدارمي، ومسند عبد بن حميد، ومسند أبي يعلى الموصلي، ومسند الحسن بن سفيان، ومسند أبي بكر البزار، ومعجم البغوي ، والطبراني، وصحيح أبي حاتم بن حبان، وصحيح الحاكم، وصحيح الإسماعيلي، والبرقاني، وأبي نعيم، والجوزقي، وغير ذلك من المصنفات الأمهات التي لا يحصيها إلا الله: دع ما قبل ذلك من مصنفات حماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وجامع الثوري، وجامع ابن عيينة، ومصنفات وكيع، وهشيم، وعبد الرزاق، وما لا يحصيه إلا الله، فهل امتنع الأئمة من قراءة هذه الأحاديث على عامة المؤمنين، أو منعوا من ذلك، أم ما زالت هذه الكتب يحضر قراءتها ألوف مؤلفة من عوام المؤمنين قديما وحديثا، وأيضا فهذه الأحاديث لما حدث بها الصحابة والتابعون ومن اتبعهم من المخالفين، هل كانوا يخفونها عن عموم المؤمنين ويتكاتمونها ويوصون بكتمانها، أم كانوا يحدثون بها كما كانوا يحدثون بسائر سنن رسول الله ﷺ وإن نقل عن بعضهم أنه امتنع من رواية بعضها في بعض الأوقات فهذا كما قد كان هذا يمتنع عن رواية بعض أحاديث في الفقه والأحكام وبعض أحاديث القدر والأسماء والأحكام والوعيد وغير ذلك في بعض الأوقات ليس ذلك عنده مخصوصا بهذا الباب، وهذا كان يفعله بعضهم ويخالفه فيه غيره، وذلك لأنه قد يرى أن روايتها تضر بعض الناس في بعض الأوقات، ويرى الآخر أن ذلك لا يضر بل ينفع، فكان هذا مما قد يتنازعون فيه في بعض الأوقات، فأما المنع من تبليغ عموم أحاديث الصفات لعموم الأمة، فهذا ما ذهب إليه من يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنما هذا ونحوه رأي الخارجين المارقين من شريعة الإسلام، كالرافضة والجهمية والحرورية ونحوهم وهو عادة أهل الأهواء ثم الأحاديث التي يتنازع العلماء في روايتها، أو العمل بها ليس لأحد المتنازعين أن يكره الآخر على قوله بغير حجة من الكتاب والسنة باتفاق المسلمين، لأن الله تعالى يقول: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }، الوجه الخامس: أنه إذا قدر في ذلك نزاع فقد قال الله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }، فأمر الله الأمة عند التنازع بالرد إليه وإلى رسوله ووصف المعرضين عن ذلك بالنفاق والكفر، فقال تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } إلى قوله: { بليغا } فوصف سبحانه من دعي إلى الكتاب والسنة، فأعرض عن ذلك بالنفاق، وإن زعم أنه يريد التوفيق بذلك بين الدلائل العقلية والنقلية أو نحو ذلك، وأنه يريد إحسان العلم أو العمل، وقال تعالى: { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } الآية وقال تعالى: { يوم تقلب وجوههم في النار } إلى قوله: { والعنهم لعنا كبيرا }، الوجه السادس: أن الله تعالى يقول في كتابه: { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب } الآية، ويقول في كتابه: { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } وقال تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } الآية فمن أمر بكتم ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله فقد كتم ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب، وهذا مما ذم الله به علماء اليهود، وهو من صفات الزائغين من المنتسبين إلى العلم من هذه الأمة، وقال النبي ﷺ: { من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار }، وقد قال تعالى: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله }، الوجه السابع: أن من أمر بكتمان ما بعث الله به رسوله من القرآن والحديث كالآيات والأحاديث التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله، وأمر مع ذلك بوصف الله بصفات أحدثها المبتدعون، تحتمل الحق والباطل، أو تجمع حقا وباطلا، وزعم أن ذلك هو الحق الذي يجب اعتقاده، وهو أصل الدين، وهو الإيمان الذي أمر الله به رسوله، فهذا مضاهاة لما ذم الله به من حال أهل الكتاب حيث قال: { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم }، وقال: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } إلى قوله: { مما يكسبون }، فإن هؤلاء كتبوا هذه المقالات التي ابتدعوها، وقالوا للعامة هذا أمر الله الذي أمركم به، وهذا كذب وافتراء على الله، فإذا جمعوا إلى ذلك كتمان ما أنزل الله من الكتاب والحكمة، فقد ضاهوا أهل الكتاب في لبس الحق بالباطل وكتمان الحق قال تعالى: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } إلى قوله { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون }، وقال تعالى: { وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون }، الوجه الثامن: أن هذا خلاف إجماع سلف الأمة وأئمتها، فإنهم أجمعوا في هذا الباب وفي غيره على وجوب إتباع الكتاب والسنة، وذم ما أحدثه أهل الكلام من الجهمية ونحوهم، مثل ما رواه أبو القاسم اللالكائي في أصول السنة، عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله ﷺ في صفة الرب عز وجل، من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي ﷺ - وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه قد وصفه بصفة لا شيء، الوجه التاسع: فقد ذكر محمد بن الحسن الإجماع على وجوب الإفتاء في باب الصفات بما في الكتاب والسنة، دون قول جهم المتضمن للنفي، فمن قال لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد، ولا في الفتاوى المتعلقة بها، بل يعتقد ما ذكره من النفي، فقد خالف هذا الإجماع، ومن أقل ما قيل فيهم قول الشافعي رضي الله عنه حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام .

وذلك يتضح بالوجه الثامن: وهو أن الاعتقاد الذي يجب على المؤمنين خاصتهم وعامتهم ويعاقب تاركوه هو ما بينه النبي ﷺ - فأخبره به وأمر بالإيمان به إذ أصول الإيمان التي يجب اعتقادها على المكلفين وتكون فارقة بين أهل الجنة والنار والسعداء والأشقياء، هي من أعظم ما يجب على الرسول بيانه وتبليغه، ليس حكم هذه كحكم آحاد الحوادث التي لم تحدث في زمانه حتى شاع الكلام فيها باجتهاد الرأي إذ الاعتقاد في أصول الدين للأمور الخبرية الثابتة التي لا تتجدد أحكامها، مثل أسماء الله وصفاته نفيا وإثباتا ليست مما يحدث سبب العلم به أو سبب وجوبه، بل العلم بها ووجوب ذلك ما يشترك فيه الأولون والآخرون، والأولون أحق بذلك من الآخرين لقربهم من ينبوع الهدى، ومشكاة النور الإلهي، فإن أحق الناس بالهدى، هم الذين باشرهم الرسول بالخطاب من خواص أصحابه وعامتهم، وهذه العقائد الأصولية من أعظم الهدى، فهم بها أحق، فإذا كان وجوب ذلك منتفيا فيما جاء به الرسول من الكتاب والسنة، وفيما اتفق عليه سلف الأمة، كان عدم وجوبه معلوم علما ويقينيا، وكانت غايته أن يكون مما يقال باجتهاد الرأي، وحينئذ فنقول إن هذه الأقوال التي تسمى العقليات، غايتها أن يجهد فيها أصحابها عقولهم وآراءهم، والقول باجتهاد الرأي وإن اعتقد صاحبه أنه عقلي مقطوع به لا يحتمل النقيض، فإنه قد يكون غير مقطوع به، وإن اعتقد هو أنه مقطوع به، فإن هذا من أكثر ما يوجد بينهم من أقوال يقول أصحابها إنه مقطوع بها في العقل، وتكون بخلاف ذلك، حتى إن الواحد منهم هو الذي يقول في القول إنه مقطوع به، ويقول فيه تارة أخرى إنه باطل، وإذا لم يكن مقطوعا به فقد يكون مظنونا غير معلوم الصحة والفساد، وقد يكون خطأ معلوم الفساد أو مظنونه، وقد يكون مشكوكا فيه، فعامة هذه الأقوال المتنازع فيها التي يقول قائلها إنها مقطوع بها تعتورها هذه الاحتمالات، وعدم القطع بها بل ظنها والشك فيها وظن نقيضها والقطع بنقيضها، ثم غاية ما يقدر أن تكون صوابا معلوما أنها صواب عند صاحبها، فليس كل ما كان كذلك يجب على جميع المؤمنين اعتقاده، إذ طرق العلم بذلك قد تكون خفية مشتبهة، فلا يجب التكليف بموجبها لجميع المؤمنين، ولو كانت عقلية ظاهرة معلومة بأدنى نظر لم يجب في كل ما كان كذلك أن يكون اعتقاده واجبا على كل المؤمنين، مثل كثير من مسائل الحساب والطب والهيئة وغير ذلك، فهذه ثلاث مقدمات عظيمة: أحدها: أنه ليس ما اعتقد قائله أنه حق مقطوع به معلوم بالعقل أو بالشرع يكون كذلك، والثانية: أنه ليس ما علم الواحد أنه حق مقطوع به عنده، يجب اعتقاده على جميع الناس، الثالث: أنه ليس ما كان معلوما مقطوعا به بأدنى نظر يجب اعتقاده، وإذا كان كذلك فغاية ما يبين من يوجب هذه المقالات أنها حق مقطوع به عقلي معلوم بأدنى نظر وإذا كان مع هذا لا يجب اعتقاد ذلك على المكلفين حتى يعلم وجوب ذلك بالأدلة الشرعية التي يعلم بها الوجوب، لم يكن له أن يوجب على الناس هذا الاعتقاد، ويعاقب تاركيه، حتى يبين أن الشارع أوجب ذلك على الناس على هذا الوجه، وهذا مما لم يذكروه ولا سبيل إليه، فكيف والأمر بالعكس عند من يبين أن ما قالوه خطأ، مخالف للعقل الصريح، وللنقل الصحيح، معلوم الفساد بضرورة العقل ونظره مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وأن الشارع أخبر بنقيضه، وأوجب اعتقاد ضده، الوجه التاسع: أنه لا ريب أن من لقي الله بالإيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملا، مقرا بما بلغه من تفصيل الجملة، غير جاحد لشيء من تفاصيلها، أنه يكون بذلك من المؤمنين إذ الإيمان بكل فرد فرد من تفصيل ما أخبر به الرسول وأمر به غير مقدور للعباد، إذ لا يوجد أحد إلا وقد خفي عليه بعض ما قاله الرسول، ولهذا يسع الإنسان في مقالات كثيرة لا يقر فيها بأحد النقيضين لا ينفيها ولا يثبتها، إذا لم يبلغه أن الرسول نفاها أو أثبتها، ويسع الإنسان السكوت عن النقيضين في أقوال كثيرة إذا لم يقم دليل شرعي بوجوب قول أحدهما، أما إذا كان أحد القولين هو الذي قاله الرسول دون الآخر، فهنا يكون السكوت عن ذلك وكتمانه من باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب ومن باب كتمان شهادة العبد من الله، وفي كتمان العلم النبوي من الذم واللعنة لكاتمه ما يضيق عنه هذا الموضع، وكذلك إذا كان أحد القولين متضمنا لنقيض ما أخبر به الرسول ﷺ - والآخر لا يتضمن مناقضة الرسول، لم يجز السكوت عنهما جميعا بل يجب نفي القول المتضمن لمناقضة الرسول ﷺ - ولهذا أنكر الأئمة على الواقفة في مواضع كثيرة حين تنازع الناس، فقال قوم بموجب السنة وقال قوم بخلاف السنة، وتوقف قوم فأنكروا على الواقفة، كالواقفة الذين قالوا لا نقول القرآن مخلوق ولا نقول إنه غير مخلوق، هذا مع أن كثيرا من الواقفة يكون في الباطن مضمرا للقول المخالف للسنة ولكن يظهر الوقف نفاقا ومصانعة فمثل هذا موجود، وأما القول الذي لا يوجد في كلام الله ورسوله لا منصوصا ولا مستنبطا، بل يوجد في الكتاب والسنة مما يناقضه ما لا يحصيه إلا الله، فكيف يجب على المؤمنين عامة أو خاصة اعتقاده، ويجعل ذلك محنة لهم، ومن المعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة، ولا في كلام أحد من سلف الأمة، ما يدل نصا ولا استنباطا على أن الله ليس فوق العرش، وأنه ليس فوق المخلوقات، وأنه ما فوق العالم رب يعبد، ولا على العرش إله يدعى ويقصد، وما هناك إلا العدم المحض وسواء سمي ثبوت هذا المعنى قولا بالجهة والتحيز، أو لم يسم، فتنوع العبارات لا يضر إذا عرف المعنى المقصود، وإذا كان هذا المعنى ليس مما جاء به الرسول، كان الإعراض عنه ولو كان حقا جائزا، بحيث لو لم يعتقد الرجل فيه نفيا ولا إثباتا لم يؤمر بأحدهما، وقد بسطنا الكلام فيما يذكر لهذا القول من الدلائل السمعية والعقلية في مواضع منها الكلام على ما ذكره أبو عبد الله الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس، وكتابه نهاية العقول في دراية الأصول، وغير ذلك إذا كان قد جمع في ذلك غاية ما يقوله الأولون والآخرون من حجج الثقات الذين يقولون إن الله ليس في جهة ولا حيز فليس هذا على العرش ولا فوق العالم، الوجه العاشر: أن قولهم: " الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز "، لا يخلو إما أن يتضمن هذا نفي كون الله على العرش وكونه فوق العالم، بحيث يقال إنه ما فوق العالم رب ولا إله، أو ما هناك شيء موجود وما هناك إلا العدم الذي ليس بشيء، أو لا يتضمن هذا الكلام نفي ذلك، فإن كان هذا الكلام لم يتضمن نفي ذلك، كان النزاع لفظيا وأنا ليس في شيء من كلامي قط إثبات الجهة والتحيز لله مطلقا، حتى يقال نطلب منه نفي ما قاله أو أطلقه من اللفظ، بل كلامي ألفاظ القرآن والحديث، وألفاظ سلف الأمة، ومن نقل مذاهبهم أو التعبير عن ذلك، تارة بالمعنى المطابق الذي يعلم المستمع أنه موافق لمعناهم وما يذكر من الألفاظ المجملة فإني أبينه وأفصله ; لأن أهل الأهواء، كما قال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولت غير تأويله، قال: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجتمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين فقد أخبر أن أهل البدع والأهواء، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس، بما يشبهون عليهم وذلك مثل قولهم ليس بمتحيز ولا في جهة ولا كذا ولا كذا فإن هذه ألفاظ مجملة متشابهة، يمكن تفسيرها بوجه حق ويمكن تفسيرها بوجه باطل، فالمطلقون لها يوهمون عامة المسلمين أن مقصودهم تنزيه الله عن أن يكون محصورا في بعض المخلوقات، ويفترون الكذب على أهل الإثبات أنهم يقولون ذلك، كقول بعض قضاتهم لبعض الأمراء إنهم يقولون إن الله في هذه الزاوية، وقول آخر من طواغيتهم إنهم يقولون، إن الله في حشو السماوات، ولهذا سموا حشوية إلى أمثال هذه الأكاذيب التي يفترونها على أهل الإثبات، ثم يأتون بلفظ مجمل متشابه يصلح لنفي هذا المعنى الباطل ولنفي ما هو حق فيطلقونه فيخدعون بذلك جهال الناس، فإذا وقع الاستفصال والاستفسار، انكشفت الأسرار، وتبين الليل من النهار، وتميز أهل الإيمان واليقين من أهل النفاق المدلسين، الذين لبسوا الحق بالباطل، وكتموا الحق وهم يعلمون، فالمقصود أن قائل هذا القول إن لم يرد به نفي علو الله على عرشه وأنه فوق خلقه، لم ينازع في المعنى الذي أراده، لكن لفظه ليس بدال على ذلك، بل هو مفهم أو موهم لنفي ذلك، فعليه أن يقول: لست أقصد بنفي الجهة والتحيز نفي أن يكون الله فوق عرشه وفوق خلقه، وحينئذ فيوافقه أهل الإثبات على نفي الجهة والتحيز بهذا التفسير بعد استفصاله وتقييد كلامه بما يزيل الالتباس، وأما إن تضمن هذا الكلام أن الله ليس على العرش ولا فوق العالم، فليصرح بذلك تصريحا بينا حتى يفهم المؤمنون قوله وكلامه ويعلموا مقصوده ومرامه، فإذا كشف للمسلمين حقيقة هذا القول، وأن مضمونه أنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن الملائكة لا تعرج إلى الله ولا تصعد إليه، ولا تنزل من عنده، وأن عيسى لم يرفع إليه، ومحمد لم يعرج به إليه، وأن العباد لا يتوجهون بقلوبهم إلى إله هناك يدعونه ويقصدونه، ولا يرفعون أيديهم في دعائهم إليه فحينئذ ينكشف للناس حقيقة هذا الكلام ويظهر الضوء من الظلام، ومن المعلوم أن قائل ذلك لا يجترئ أن يقوله في ملأ من المؤمنين، وإنما يقوله بين إخوانه من المنافقين، الذين إذا اجتمعوا يتناجون، وإذا افترقوا يتهاجون، وهم وإن زعموا أنهم أهل المعرفة المحققين، فقد شابهوا من سبق إخوانهم المنافقين، قال الله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } إلى قوله: { ويمدهم في طغيانهم يعمهون }، وقال تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } إلى قوله: { يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا }، ولا ريب أن كثيرا من هؤلاء قد لا يعلم أنه منافق، بل يكون معه أصل الإيمان، لكن يلتبس عليه أمر المنافقين حتى يصير لهم من السماعين، قال تعالى: { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } ومن المعلوم أن كلام أهل الإفك في عائشة كان مبدؤه من المنافقين وتلطخ به طائفة من المؤمنين، وهكذا كثير من البدع كالرفض والتجهم مبدؤها من المنافقين، وتلوث ببعضها كثير من المؤمنين لكن كان فيهم من نقض الإيمان بقدر ما شاركوا فيه أهل النفاق والبهتان، الوجه الحادي عشر: أنهم إذا بينوا مقصودهم كما يصرح به أئمتهم وطواغيتهم، من أنه ليس فوق العرش رب، ولا فوق العالم موجود فضلا عن أن يكون فوقه واجب الوجود، فيقال لهم: هذا معلوم الفساد بالضرورة بالفطرة العقلية وبالأدلة النظرية العقلية، وبالضرورة الإيمانية السمعية الشرعية، وبالنقول المتواترة المعنوية عن خير البرية، وبدلالة القرآن على ذلك في آيات تبلغ مئين، وبالأحاديث المتلقات بالقبول من علماء الأمة في جميع القرون، وبما اتفق عليه سلف الأمة وأهل الهدى من أئمتها، وبما اتفق عليه الأمم بجبلتها وفطرتها، وما يذكر في خلاف ذلك من الشبهة التي يقال إنها براهين عقلية، أو دلائل سمعية، فقد تكلمنا عليها بالاستقصاء، حتى تبين أنها من القول الهراء فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، ولولا أن المقصود هنا التنبيه على مجامع الضلال فيما أوجبوا اعتقاده، لبسطنا القول هنا وبينا سداده، لكن قد أحلنا على ما هو موجود مكتوب أيضا فاكتسبناه في هذا الزمان، والحمد لله ولي الإحسان، الوجه الثاني عشر: أن لفظ الجهة عند من قاله، إما أن يكون معناه وجوديا أو عدميا، فإن كان معناه وجوديا فنفي الجهة عن الله نفي عن أن يكون الله في شيء موجود، وليس شيء موجود سوى الله إلا العالم، فهذا أحد القسمين الذين ذكرناهما في جوابهم، وهو أن يراد أنه ليس محصورا في المخلوقات داخلا في المصنوعات هذا أحد أقوال الجهمية الذين يقولون: إنه ليس على العرش، ونفيه مصرح به في كلامنا، وإن كان معناه عدميا كان المعنى أن الله لا يكون حيث لا موجود غيره، وهو ما فوق العالم فإن كون الموجود في العدم ليس معناه أن العدم يحويه أو يحيط به، إذ العدم ليس بشيء أصلا حتى يوصف بأنه يحيط أو يحاط به، بل المعنى بذلك، أن يكون الموجود بحيث لا موجود غيره، وأن يكون القائم بنفسه بحيث لا قائم بنفسه غيره، فإن الموجود نوعان قائم بنفسه وقائم بغيره، فالقائم بغيره من الصفات والأعراض يكون بحيث يكون غيره، فإن الصفات والأعراض تقوم بالمحل الواحد، وأما القائم بنفسه فلا يكون حيث يكون آخر قائما بنفسه بل يجب أن يكون مباينا لغيره، فيكون حيث لا موجود غيره، أو حيث لا قائم بنفسه غيره، وهو المعنى بكون الله على العرش وفوق العالم، وإذا كان هذا المعقول من الجهة العدمية فأكثر عقلاء بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين والمجوس والصابئين، على أن نفي هذا عن الموجود واجبه وممكنه معلوم الفساد بالضرورة العقلية، وهو أنه يعلم بالضرورة العقلية أنه يمتنع وجود موجود قائم بنفسه حيث يكون موجودا آخر قائما بنفسه، أو أن يكون إلا حيث لا يكون موجود آخر قائما بنفسه، وأن كل موجود فإما أن يكون مباينا لغيره منفصلا عنه، فيكون في الجهة العدمية، وإما أن يكون محايثا له داخلا فيه، فيكون في الجهة الوجودية، ووجود موجود لا في جهة وجودية ولا جهة عدمية ممتنع عندهم في صريح العقل، ثم إن قول هؤلاء موافق لما عليه بنو آدم من الفطرة موافق لما جاء به الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وبالجملة فالنزاع في ذلك ظاهر مشهور، وإذا كان كذلك لم يكن نفي ذلك بالهين حتى يدعي دعوى مجردة بلا دليل سمعي ولا عقلي ثم يوجب اعتقاد ذلك ويعاقب تاركه، ومن الناس من قد يعني بالجهة ما ليس مغايرا لذي الجهة، فيكون كونه في جهة بحيث يتوجه إليه أو يشار إليه، ولا يعني الجهة موجودا منفصلا عنه، ولا يعني عدميا وهؤلاء قد يقولون الجهة من الأمور الإضافية، فكون الشيء في الجهة معناه أنه مباين لغيره، وكل موجود قائم بنفسه، فإنه مباين لغيره، وقد يقولون كونه في الجهة معناه أنه متميز بذاته محقق الوجود وإن لم يقدر موجود سواه وهؤلاء يقولون هو في الجهة قبل وجود العالم، والأولون يقولون لا تعقل الجهة إلا بعد وجود العالم، وأصل ذلك أن هؤلاء يقولون: إن مسمى الجهة نوعان إضافي منتقل وثابت لازم، فأما الأول: فهي الجهات الست للحيوان، أمامه وهو ما يؤمه، وخلفه وهو ما يخلفه ويمينه، ويساره وفوقه، وتحته وهو ما يحاذي ذلك، وهذه الجهات ليست جهات لمعنى يقوم بها، ولا ذلك صفة لازمة لها، بل تصير اليمين يسارا واليسار يمينا والعلو سفلا والسفل علوا، يتحرك الحيوان من غير تغير في الجهات، وأما الثاني، فهو جهتا العالم وهي العلو والسفل، فليس للعالم إلا جهتان، إحداهما العلو وهو جهة السماوات وما فوقها، وجهة السفل وهو جهة الأرض وما تحتها وفي جوفها، وعلى هذا المعنى فكل ما كان خارج العالم مباينا للعالم فهو فوقه وهو في الجهة العليا، فالباري تعالى إما أن يكون مباينا للعالم منفصلا عنه، أو لا يكون مباينا له منفصلا عنه، فإن كان الأول، كان خارجا عنه عاليا عليه بالجهة العليا، وإن كان الثاني، كان حالا في العالم قائما به محمولا فيه، قال هؤلاء: وهذا كله معلوم بالفطرة العقلية، فالباري قبل أن يخلق العالم كان هو وحده سبحانه لا شريك له، ولما خلق الخلق فإنه لم يخلقه في ذاته، فيكون هو محلا للمخلوقات، ولا جعل ذاته فيه، فيكون مفتقرا محمولا قائما بالمصنوعات، بل خلقه بائنا عنه فيكون فوقه وهو جهة العلو، وقد بسطنا كلام هؤلاء وخصومهم في الحكومة العادلة فيما ذكره الرازي في تأسيسه من المجادلة، وإذا كان كذلك فالداعي للناس إلى اعتقاد نفي الجهة إما أن يدخل معهم في هذه الدقائق ويكشف هذه الحقائق، وإما أن يعرض عن هذا ويقف عند الجمل التي عليها المؤمنون، فإما أن يدعو إلى قول لا يبين حقيقته وأقسامه، ولا يبين حجته التي تصحح مرامه، ولا يكون القول موجودا في كتاب الله وسنة رسوله، وكلام أئمة الإسلام، فهذا غاية ما يكون من الجهل والضلال والظلم في الكلام .
===4-===


الوجه الثالث عشر: أن قولهم ينفي التحيز لفظ مجمل، فإن التحيز المعروف في اللغة، هو أن يكون الشيء بحيث يحوزه ويحيط به موجود غيره، كما قال تعالى: { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } فإن التحيز مأخوذ من حازه يحوزه، فهذا المعنى هو أحد المعنيين اللذين ذكرناهما بقولنا: إن أراد أنه لا تحيط به المخلوقات ولا يكون في جوف الموجودات، فهذا مذكور مصرح به في كلامي، فأي فائدة في تحديده، وأما التحيز الذي يعنيه المتكلمون فأعم من هذا فإنهم يقولون العالم كله متحيز، وإن لم يكن في شيء آخر موجود، إذ كل موجود سوى الله فإنه من العالم وقد يفرقون بين الحيز والمكان، فيقولون الحيز: تقدير المكان، وكل قائم بنفسه مباين لغيره بالجهة فإنه متحيز عندهم وإن لم يكن في شيء موجود، ولهذا يقول بعضهم: التحيز من لوازم الجسم، ويقول بعضهم: هو من لوازم القيام بالنفس كالتميز والمباينة، وعلى هذا التفسير فالحيز إما وجودي، وإما عدمي، فإن كان عدميا فالقول فيه كالقول في معنى الجهة العدمية، وإن كان وجوديا فإما أن يراد به ما ليس خارجا ، أو ما هو خارجا عنه فالأول مثل حدود المتحيز وجوانبه فلا يكون الحيز شيئا خارجا على المتحيز على هذا التفسير، وإما أن يعنى به شيء موجود منفصل عن المتحيز خارج عنه، فهذا هو التفسير الأول وليس غير الله إلا العالم، فمن قال إنه في حيز موجود منفصل عنه، فقد قال إنه في العالم أو بعضه وهذا مما قد صرحنا بنفيه، وإذا كان كذلك فلا بد من تفصيل المقال ليزول هذا الإبهام والإجمال، الوجه الرابع عشر: وأما قولهم: ولا يقول: إن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته، فقد قلت في الجواب المختصر البديهي ليس في كلامي هذا أيضا ولا قلته قط، بل قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم به بدعة، لم يقل أحد من السلف لا هذا ولا هذا، وأنا ليس في كلامي شيء من البدع، بل في كلامي ما أجمع عليه السلف، أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وذلك أني قد أجبت في مسألة القرآن والحرف والصوت، وما وقع في ذلك من النزاع والاضطراب في جواب الفتيا الدمشقية وفصلت القول فيها وفي مسألة العرش وبينته، وكذلك في جواب الفتيا المصرية، قد بينته وفصلته في هذا وفي هذا، وأزلت ما وقع فيه أكثر الناس من الاختلاف والشقاق الذي خرجوا به عن السنة والجماعة، إلى البدعة والافتراق، وبسطت ذلك بسطا متوسطا في جواب الاستفتاء الذي ورد به قاضي جيلان لما وقع بينهم من الفتنة في كلام الآدميين، وأظهروا من البدعة والغلو في الإثبات، ونفي الخلق عن كثير من المخلوقات ما هو من أعظم الجهالات والضلالات، وقد كتبت جملا من الكلام في ذلك في جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية، وفي فتاوى أخر ومواضع أخر، قال مسألة القرآن وقع فيها بين السلف والخلف من الاضطراب والنزاع ما لم يقع نظيره في مسألة العلو والارتفاع، إذ لم يكن على عهد السلف من يبوح بإنكار ذلك ونفيه كما كان على عهدهم ممن أباح بإظهار القول بخلق القرآن، ولا اجترأت الجهمية إذ ذاك على دعاء الناس إلى نفي علو الله على عرشه، بل ولا أظهرت ذلك كما اجترءوا على دعاء الناس إلى القول بخلق القرآن، وامتحانهم على ذلك، وعقوبة من لم يجبهم بالحبس، والضرب، والقتل وقطع الرزق، والعزل عن الولايات، ومنع قبول الشهادة، وترك افتدائهم من أسر العدو، إلى غير ذلك من العقوبات التي إنما تصلح لمن خرج عن الإسلام وبدلوا بذلك الدين نحو تبديل كثير من المرتدين، فأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فجاهدوا في الله حق جهاده، متبعين سبيل الصديق وإخوانه الذين جاهدوا المرتدين بعد موت رسول الله ﷺ حتى وسم المسلمون بالإمامة وبأنه الصديق الثاني من كان أحق بهذا التحقيق عند فتور الواني فإن أولئك الجهمية جعلوا المؤمنين كفارا مرتدين، وجعلوا ما هو من الكفر والتكذيب للرسول إيمانا وعلما، ولبسوا على الأئمة والأمة الحق بالباطل، وكانت فتنتهم في الدين أعظم ضررا من فتنة الخوارج المارقين، فإن أولئك وإن كفروا المؤمنين واستحلوا دماءهم وأموالهم، ولم تكن فتنتهم الجحود لكلام رب العالمين وأسمائه وصفاته وما هو عليه في حقيقة ذاته، بل كانت فيما دون ذلك من الخروج عن السنة المشروعة، وإن كان أهل المقالات قد نقلوا أن قول الخوارج في التوحيد هو قول الجهمية المعتزلة، فهذا سر للجهمية لكن يشبه - والله أعلم - أن يكون ذلك قد قاله من بقايا الخوارج من كان موجودا حين حدوث مقالة جهم في أوائل المائة الثانية فأما قبل ذلك فلم يكن حدث في الإسلام قول جهم في نفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وإنكار أن يكون الله على العرش ونحو ذلك، فلا يصح إضافة هذا القول إلى أحد من المسلمين قبل المائة الثانية، لا من الخوارج، ولا من غيرهم، فإنه لم يكن في الإسلام إذ ذاك من يتكلم بشيء من هذه السلوب الجهمية، ولا نقل أحد عن الخوارج المعروفين إذ ذاك ولا عن غيرهم شيئا من هذه المقالات الجهمية ومن أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم، قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين، فإنهم يناظرونهم ويحاجونهم بغير الحق والعدل، لينصروا الإسلام زعموا بذلك، فيسقط عليهم أولئك لما فيهم من الجهل والظلم ويحاجونهم بممانعات ومعارضات ; فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول والظلم والعدوان لإخوانهم المؤمنين بما استظهر عليهم أولئك المشركون فصار قولهم مشتملا على إيمان وكفر وهدى وضلال، ورشد وغي، وجمع بين النقيضين وصاروا مخالفين للكفار والمؤمنين كالذي يقاتلون الكفار والمؤمنين ومثلهم في ذلك مثل من فرط في طاعة الله وطاعة رسوله من ملوك النواحي والأطراف، حتى يسلط عليهم العدو تحقيقا لقوله: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا }، يقاتلون العدو قتالا مشتملا على معصية الله من الغدر والمثلة والغلول والعدوان، حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم المؤمنين، والاستيلاء على نفوسهم وأموالهم وبلادهم، وصاروا يقاتلون إخوانهم المؤمنين بنوع مما كانوا يقاتلون به المشركين وربما رأوا قتال المسلمين آكد وبهذا وصف النبي ﷺ - الخوارج حيث قال: { يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان } وهذا موجود في سيرة كثير من ملوك الأعاجم وغيرهم، وكثير من أهل البدع وأهل الفجور فحال أهل الأيدي والقتال، يشبه حال أهل الألسنة والجدال، وهكذا ذكر العلماء مبدأ حال جهم، فقال الإمام أحمد فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية قال أحمد: وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله: أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله تبارك وتعالى فلقي ناسا من المشركين يقال لهم السمنية، فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم: نعم فقالوا له: فهل رأيت إلهك ؟ قال لا فقالوا له هل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة ؟ قال: لا قالوا: فوجدت له حسا ؟ قال: لا قالوا: فوجدت له مجسا ؟ قال: لا قالوا فما يدريك أنه إله ؟ قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما، ثم إنه استدرك حجة من جنس حجة الزنادقة من النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى هي من روح الله من ذات الله وإذا أراد الله أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان بعض خلقه فيأمر بما شاء وينهى عن ما شاء وهو روح غائب عن الأبصار، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحا ؟ فقال: نعم قال فهل رأيت روحك ؟ قال لا، قال: فسمعت كلامه قال لا: قال فوجدت له حسا ؟ قال لا، قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان قال ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله { ليس كمثله شيء } . { وهو الله في السموات وفي الأرض }، { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار }، فبنى أصل كلامه كله على هؤلاء الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله ﷺ - وعزم أن من وصف من الله شيئا مما وصف الله به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا، وكان من المشبهة، وأضل بشرا كثيرا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجهمية، وهكذا وصف العلماء حال جهم كما قال أبو عبد الله محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري في كتاب السنة والجماعة من تأليفه، ما جاء في بدو الجهمية والسمنية وكيف كان شأنهم وكفرهم بآيات الله عن حفص بن عبد الرحمن البجلي قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن أيوب بن أبي تميمة قال: ما أعلم أحدا من أهل الصلاح أكذب على كتاب الله من السمنية، قال: وهو عندنا كما قال لا أعلم أن أحدا أجهل ولا أحق قولا منهم، لا يتعلقون من كتاب الله بشيء ولا يحتجون إنما هو حب وبغض، ومن أحب دخل الجنة ومن أبغض دخل النار، وصارت طائفة جهمية لم تكن على عهد رسول الله ﷺ - ولا على عهد الصحابة، وإنما هو رأي محدث ويرون أن أول من تكلم جهم بن صفوان، وكان جهم فيما بلغنا لا يعرف بفقه ولا ورع ولا صلاح، أعطي لسانا منكرا، فكان يجادل ويقول برأيه، يجادل السمنية وهم شبه المجوس يعتقدون الأصنام، فكلمهم فأخرجوه حتى ترك الصلاة أربعين يوما لا يعرف ربه وكلامهم يدعو إلى الزندقة، وكلامهم وضعناه لغير واحد من أهل اللغة والبصر، فمالوا آخر أمرهم إلى الزندقة، والرجل إذا رسخ في كلامهم ترك الصلاة واتبع الشهوات وكان أبو الجوزاء صاحب جهم، وكان أقوى في أمرهم من جهم فيما بلغنا، وكان يسكن الغاريات، وأخبرنا أناس من أهلها من صالحيهم أنه ترك الصلاة وشرب الخمر، واتبع الشهوات، وأفسد عالما من الناس فنعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، ما أعلم ممن تكلم في الإسلام قوما أخبث من كلامهم، القرآن كله نقض على كلامهم، وبلغنا أن منهم من يقول إن ما يفسد علينا كلامنا القرآن ويكسره، لا يرون أن في السماء ساكنا، وذكر طوفا من كلامهم ثم قال: قال علي سمعت عبد الله يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وقال في شعر له: ولا أقول بقول الجهم إن له قولا يضارع قول الشرك أحيانا ثم قال حدثنا عبيد الله - يعني ابن واصل - حدثنا عبد الله بن محمد شيخ من أهل بغداد - حدثنا ابن صالح قال: لقيت جهما فقلت: نطق الله ؟ قال: لا، قلت: فهو ينطق ؟ قال: لا قلت: فمن يقول يوم القيامة: { لمن الملك اليوم } ومن يرد عليه: { لله الواحد القهار }، قال: إنهم زادوا في القرآن ونقصوا منه، وروى أبو داود والخلال وغيرهما عن ابن شوذب: ترك جهم الصلاة أربعين يوما وكان فيمن خرج مع الحارث بن سريج، وعن مروان بن معاوية الفزاري وذكر جهما فقال: قبح الله جهما حدثني ابن عم لي أنه شك في الله أربعين صباحا، وذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال عن يحيى بن أيوب، قال: كنا يوما عند مروان بن معاوية الفزاري فسأله رجل عن حديث الرؤية فلم يحدثه به، قال: إن لم تحدثني به فأنت جهمي، فقال مروان: أتقول لي جهمي وجهم مكث أربعين ليلة لا يعرف ربه، قال البخاري وقال ضمرة بن شوذب: ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك، فخاصمه بعض السمنية فشك، فأقام أربعين يوما لا يصلي، قال ضمرة: وقد رآه ابن شوذب، قال البخاري وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: كلام جهم صفة بلا معنى، وبناء بلا أساس، ولم يعد قط من أهل العلم، وروى أبو داود الخلال عن إبراهيم بن طهمان قال: ما ذكرته ولا ذكر عندي إلا دعوت الله عليه ; ما أعظم ما أورث أهل القبلة من منطقه هذا العظيم يعني جهما، وعن يحيى بن شبل قال: كنت جالسا مع مقاتل بن سليمان وعبد الله بن كثير، إذ جاء شاب فقال: ما تقولون في قوله: { كل شيء هالك إلا وجهه }، فقال مقاتل هذا جهمي، ثم قال: ويحك إن جهما والله ما حج هذا البيت قط ولا جالس العلماء، إنما كان رجلا أعطي لسانا، هذا وقد ذكر البخاري قال: وقال ابن مقاتل: سمعت ابن المبارك يقول: من قال إني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك قال: وقال أيضا: ولا أقول بقول الجهم إن له قولا يضارع قول الشرك أحيانا ولا أقول تخلى من بريته رب العباد وولى الأمر شيطانا ما قال فرعون هذا في تجبره فرعون موسى ولا فرعون هامانا قال البخاري وقال ابن المبارك: لا تقول كما قالت الجهمية، إنه في الأرض ههنا بل على العرش استوى، وقيل له: كيف نعرف ربنا، قال: فوق سماواته على عرشه، وقال الرجل منهم أبطنك خال منه ؟ فبهت الآخر، وقال: من قال لا إله إلا هو مخلوق فهو كافر، وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، قال البخاري: وقال سعيد بن عامر: الجهمية شر قولا من اليهود والنصارى قد اجتمعت اليهود والنصارى وأهل الأديان على أن الله تعالى على العرش، وقالوا هم ليس على العرش، وروى البخاري عن وكيع بن الجراح، أنه قال: لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق، فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل، فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من مبدإ حال جهم إمام هؤلاء المتكلمين النفاة يبين ما ذكرته فإنه لما ناظر من ناظره من المشركين السمنية من الهند، وجحدوا الإله لكون الجهم لم يدركه بشيء من حواسه، لا ببصره، ولا بسمعه، ولا بشمه ولا بذوقه ولا بحسه، كان مضمون هذا الكلام أن كل ما لا يحسه الإنسان بحواسه الخمس فإنه ينكره ولا يقربه، فأجابهم الجهم أنه قد يكون في الموجود ما لا يمكن إحساسه بشيء من هذه الحواس، وهي الروح التي في العبد، وزعم أنها لا تختص بشيء من الأمكنة، وهذا الذي قاله هو قول الصابئة الفلاسفة المشائين، وقد قال البخاري: قال قتيبة يعني ابن سعيد: بلغني أن جهما كان يأخذ هذا الكلام من الجعد بن درهم، وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا القاسم بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب، عن أبيه، عن جده، قال: شهدت خالد بن عبد الله القشيري بواسط يوم أضحى، قال: ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما سبحانه وتعالى عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه، وهذا الجعد قد ذكروا أنه كان من أهل حران وهو معلم مروان بن محمد، ولهذا يقال له الجعدي، وكان حران إذ ذاك دار الصابئة الفلاسفة الباقين على ملة سلفهم أعداء إبراهيم الخليل، فإن إبراهيم الخليل كان منهم ودعاهم إلى الحنفية وكان من قصة ما ذكره الله في كتابه، والحجة التي ذكرها مشركو الهند باطلة والجواب الذي أجاب به مبتدعة الصابئين ومن اتبعهم من مبتدعة هذه الأمة باطل وذلك أن قول القائل ما لا يحس به العبد لا يقر به أو ينكره أو أن يريد به أن كل أحد من العباد لا يقر إلا بما أحسه هو بشيء من حواسه الخمس أو يريد به أنه لا يقر العبد إلا بما أحس به العباد في الجملة، أو بما يمكن الإحساس به في الجملة فإن كان أرادوا الأول، وهو الذي حكاه عنهم طائفة من أهل المقالات، حيث ذكروا عن السمنية أنهم ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات فينكرون المتواترات والمجربات والضروريات العقلية وغير ذلك إلا أن هذه الحكاية لا تصح على إطلاقها عن جمع من العقلاء في مدينة أو قرية، وما ذكره من مناظرة الجهم لهم يدل على إقرارهم بغير ذلك وذلك أن حياة بني آدم وعيشهم في الدنيا لا يتم إلا بمعاونة بعضهم لبعض في الأقوال أخبارها وغير أخبارها وفي الأعمال أيضا فالرجل منهم لا بد أن يقر أنه مولود، وأن له أبا وطئ أمه، وأما ولدته وهو لم يحس بشيء من ذلك من حواسه الخمس، بل أخبر بذلك ووجد في قلبه ميلا إلى ما أخبر به، وكذلك علمه بسائر أقاربه من الأعمام والأخوال والأجداد وغير ذلك، وليس في بني آدم أمة تنكر الإقرار بهذا وكذلك لا ينكر أحد من بني آدم أنه ولد صغيرا وأنه ربي بالتغذية والحضانة ونحو ذلك حتى كبر وهو إذا كبر لم يذكر إحساسه بذلك قبل تمييزه، بل لا ينكر طائفة من بني آدم أمورهم الباطنة مثل جوع أحدهم وشبعه ولذته وألمه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وغير ذلك مما لم يشعر به بحواسه الخمس الظاهرة بل يعلمون أن غيرهم من بني آدم يصيبهم ذلك، وذلك ما لم يشعروا به بالحواس الخمس الظاهرة وكذلك ليس في بني آدم من لا يقر بما كان في غير مدينتهم من المدائن والسير والمتاجر وغير ذلك مما هم متفقون على الإقرار به وهم مضطرون إلى ذلك وكذا لا ينكرون أن الدور التي سكنوها قد بناها البناءون، والطبيخ الذي يأكلونه طبخه الطباخون والثياب المنسوجة التي يلبسونها نسجها النساجون، وإن كان ما يقرون به من ذلك لم يحسه أحدهم بشيء من حواسه الخمس وهذا باب واسع فمن قال إن أمة من الأمم تنكر هذه الأمور، فقد قال الباطل . قال وسمعت عبد الله بن أحمد قال ذكر أبو بكر الأعين قال سئل أحمد بن حنبل عن تفسير قوله، القرآن كلام الله منه خرج وإليه يعود فقال أحمد منه خرج هو المتكلم به وإليه يعود قال الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه، عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال أدركت الناس منذ سبعين سنة أدركت أصحاب النبي ﷺ فمن دونهم يقولون الله خالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله منه خرج وإليه يعود قال الخلال حدثني عبد الله بن أحمد، حدثني محمد بن إسحاق الصغاني، حدثني أبو حاتم الطويل، قال قال وكيع: من قال إن كلام الله ليس منه فقد كفر، ومن قال إن شيئا منه مخلوق فقد كفر -، وروى أبو القاسم اللالكائي قال ذكر أحمد بن فرح الضرير، وحدثني علي بن الحسين الهاشمي حدثنا عمي قال سمعت وكيع بن الجراح يقول من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئا من الله مخلوق فقلت يا أبا سفيان من أين قلت هذا ؟ قال: لأن الله يقول { ولكن حق القول مني } ولا يكون شيء من الله مخلوقا، قال اللالكائي وكذلك فسره أحمد بن حنبل ونعيم بن حماد والحسن بن الصباح البزار، وعبد العزيز بن يحيى الكناني فهذا لفظ وكيع بن الجراح الذي سماه زرقان وهو لفظ سائر الأئمة الذين حرف محمد بن شجاع قولهم فإن قولهم كلام الله من الله يريدون به شيئين: أحدهما: أنه صفة من صفاته والصفة مما تدخل في مسمى اسمه وهذا كما قال الإمام أحمد فالعلم من الله وله وعلم الله منه وكقوله وقول غيره من الأئمة ما وصف الله من نفسه وسمى من نفسه ولا ريب أن هذا يقال في سائر الصفات كالقدرة والحياة والسمع والبصر وغير ذلك فإن هذه الصفات كلها من الله أي مما تدخل في مسمى اسمه، والثاني: يريدون بقولهم كلام الله منه أي خرج منه وتكلم به كقوله تعالى: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } وذلك كقوله: { ولكن حق القول مني }، وقوله: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وهذا اللفظ والمعنى مما استفاضت به الآثار كما قد تقدم رواية عن ابن عباس أنه كان في جنازة فلما وضع الميت في اللحد قام رجل وقال اللهم رب القرآن اغفر له فوثب إليه ابن عباس فقال مه القرآن منه، وفي الرواية الأخرى فقال ابن عباس: القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود، وقد رواه الطبراني في كتاب السنة أيضا حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور الجوهري حدثنا عاصم بن علي حدثنا أبي عن عمران بن حدير عن عكرمة قال كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللهم رب القرآن أوسع عليه مدخله اللهم رب القرآن اغفر له فالتفت إليه ابن عباس فقال: مه القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود وقال الخلال حدثني المروذي في الكتاب الذي عرضه على أحمد بن حنبل، قال وقد أخبرني شيخ أنه سمع ابن عيينة يقول القرآن خرج من الله قال وحدثنا أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل، حدثنا ابن مهدي، عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله: " إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه " يعني القرآن قال وحدثنا عباس الوراق وغيره عن أبي النضر هاشم بن القاسم حدثنا بكر بن حنيس عن ليث بن أبي سليم عن زيد بن أرطاة عن أبي أمامة قال قال رسول الله: { ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه } يعني القرآن الحديث، قلت: والأول المرسل أثبت من هذا، وقد رواهما الترمذي فقال: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا أبو النضر، حدثنا بكر بن خنيس، عن ليث بن أبي سليم، عن زيد بن أرطاة، عن أبي أمامة قال: قال النبي ﷺ { ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه }، قال أبو النضر يعني القرآن، قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك وتركه في آخر أمره وقد روي هذا الحديث عن زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير، عن النبي ﷺ - مرسلا، حدثنا بذلك إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية عن العلاء بن الحارث عن زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير قال قال النبي ﷺ: { إنكم لن ترجعوا إلى الله بأفضل مما خرج منه يعني القرآن }، وروى أبو القاسم اللالكائي حديث عمرو بن دينار المتقدم وذكره من طريق محمد بن جرير الطبري حدثنا محمد بن أبي منصور الأيلي، حدثنا الحكم بن محمد أبو مروان الأيلي، حدثنا ابن أبي عيينة سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، قال اللالكائي روى عبد العزيز بن منيب المروذي عن ابن عيينة بهذا اللفظ، قال ورواه عبد الرحمن بن أبي حاتم عن محمد بن عمار بن حريث، حدثنا أبو مروان الطبري بمكة وكان فاضلا حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت شيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق، قال محمد بن عمار وأن شيخته أصحاب رسول الله ﷺ ابن عباس وجابر، وذكر جماعة، قال ورواه محمد بن مقاتل المروذي سمعت أبا وهب وكان من ساكني مكة وكان رجل صدق عن ابن عيينة بهذا اللفظ، وكذلك رواه يزيد بن وهب عن سفيان ومحمد بن عبد الله بن مسرة عن سفيان بهذا اللفظ، قلت: وكذلك رواه البخاري عن الحكم بهذا اللفظ لكنه اقتصر به على سفيان، فقال حدثني الحكم بن محمد الطبري كتبت عنه بمكة، حدثنا سفيان بن عيينة قال: أدركت شيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار يقولون القرآن كلام الله وليس بمخلوق ولم يروه اللالكائي هكذا عن غير البخاري وإسحاق بن راهويه قد أثبت اللفظين جميعا عن ابن عيينة عن عمرو مكتمل الإسناد والمتن وإنما سمى والله أعلم زرقان وكيعا لأنه كان من أعلم الأئمة بكفر الجهمية وباطن قولهم وكان من أعظمهم ذما لهم وتنفيرا عنهم، فبلغ الجهمية من ذمه لهم ما لم يبلغهم من ذم غيره إذ هم من أجهل الناس بالآثار النبوية وكلام السلف والأئمة كما يشهد بذلك كتبهم، ومحمد بن شجاع هذا مجروح متهم في روايته وترجمته في كتب الجرح والتعديل ترجمة معروفة وتجريح حكام الجرح والتعديل له مشهور، قال البخاري في كتاب خلق الأفعال، حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الله، حدثني محمد بن قدامة اللال الأنصاري قال سمعت وكيعا يقول لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل، قال البخاري وقال وكيع الرافضة شر من القدرية والحرورية شر منهما والجهمية شر هذه الأصناف قال الله تعالى: { وكلم الله موسى تكليما } ويقولون لم يكلم ويقولون الإيمان بالقلب، قال البخاري: وقال وكيع احذروا هؤلاء المرجئة وهؤلاء الجهمية والجهمية كفار والمريسي جهمي وعلمتم كيف كفروا قالوا تكفيك المعرفة وهذا كفر، والمرجئة يقولون الإيمان قول بلا فعل وهذا بدعة، فمن قال القرآن مخلوق فهو كافر بما أنزل على محمد ﷺ يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، قال: وقال وكيع على المريسي لعنه الله يهودي هو أو نصراني، فقال له رجل كان أبوه أو جده يهوديا أو نصرانيا قال وكيع وعلى أصحابه لعنة الله القرآن كلام الله، وضرب وكيع إحدى يديه على الأخرى فقال هو ببغداد يقال له المريسي يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه .

قال البخاري: وسئل عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع فقال لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرضى أو عدل فصل خلفه، فقلت: فالجهمية قال لا، هذه من المقاتل هؤلاء لا يصلى خلفهم ولا يناكحون وعليهم التوبة، وسئل حفص بن غياث فقال فيهم ما قال ابن إدريس قيل فالجهمية قال لا أعرفهم قيل له: قوم يقولون القرآن مخلوق، قال: لا جزاك الله خيرا أوردت على قلبي شيئا لم يسمع به قط، قلت فإنهم يقولونه، قال: هؤلاء لا يناكحون ولا تجوز شهادتهم، وسئل ابن عيينة، فقال نحو ذلك، قال: فأتيت وكيعا فوجدته من أعلمهم بهم فقال: يكفرون من وجه كذا ويكفرون من وجه كذا حتى أكفرهم كذا وكذا وجها، قلت: وهكذا رأيت الجاحظ قد شنع على حماد بن سلمة، ومعاذ بن معاذ قاضي البصرة بما لم يشنع به على غيرهما لأن حمادا كان معتنيا بجمع أحاديث الصفات وإظهارها، ومعاذ لما تولى القضاء رد شهادة الجهمية والقدرية فلم يقبل شهادة المعتزلة، ورفعوا عليه إلى الرشيد فلما اجتمع به حمده على ذلك وعظمه فلأجل معاداتهم لمثل هؤلاء الذين هم أئمة في السنة يشنعون عليهم بما إذا حقق لم يوجد مقتضيا لذم .

وأما ما حكاه الأشعري عن محمد بن شجاع أن فرقة قالت إن القرآن هو الخالق، وفرقة قالت هو بعضه، فقد ذكر الخلال في كتاب السنة ترجمة محمد بن شجاع وسبب أمر أحمد أهل السنة بهجره، فروى الخلال من مسائل أبي الحارث قال: قلت لأبي عبد الله قال لي ابن الثلاج سمعت رجلا يقول القرآن هو الله، فقال لي عمه إنا بتنا عند أحمد بن نصر وكان ابن الثلاج معنا وكان عباس الأعور فتلا ابن عباس هذه الآية: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله } قال: إلى كتاب الله فهو يتأول عليه هذا قلت له إنا قلنا لابن الثلاج يقول إن لله علما قال أنا لا أقول إن لله علما، فقال أبو عبد الله استغفر الله، وقلت له إني سمعته يقول كلام الله غير الله، فقال دعه يقول ما شاء كما يقول لي قال ابن الثلاج وشكاني، قلت: فقد تبين بهذا أصل حكايته وهو أن ذكر أن الرد إلى الله هو الرد إلى القرآن فنقل عنه أن القرآن هو الله، ولعله كان من مقصود ذاك أن يستدل على أن القرآن صفة الله وأن الرد إليه، هو الرد إلى الله نفسه لأنه هو كلامه القائم به كما أن الرد إلى الرسول هو الرد إلى كلامه الذي قام به، وأنه لو كان القرآن إنما هو قائم ببعض الأجسام المخلوقة، لكان الرد إليه ردا إلى ذلك الجسم المخلوق لا إلى الله تعالى، فنقل عنه أنه جعل القرآن هو الخالق وهذا ابن الثلاج كان من أصحاب بشر المريسي فأظهر التوبة من ذلك، وأظهر الوقف في لفظ المخلوق دون لفظ المحدث كما حكاه الأشعري عنه ومقصوده مقصود من يقول هو مخلوق، وعرف الأئمة حقيقة حاله فلم يقبل الإمام أحمد وسائر أهل السنة هذه التوبة لأنها توبة غير صحيحة، حتى كان يعادي أهل السنة ويكذب عليهم حتى كذب على الإمام أحمد غير مرة، وقد ذكر قصته أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الخرقي خليفة المروذي والد أبي القاسم صاحب المختصر في الفقه في قصص الذين أمر أحمد بهجرانهم، ومسألته للمروذي عنهم واحدا واحدا وأخبار المروذي له بما كان عنده في ذلك ونقل الخلال أخباره في كتاب السنة ما يوضح الأمر، فقال أخبرني الحسين بن عبد الله قال سألت أبا بكر المروذي عن قصة ابن الثلاج، فقال: قال لي أبو عبد الله جاءني هارون الحمال فقال إن ابن الثلاج تاب عن صحبة المريسي فأجيء به إليك قال، قلت لا ما أريد أن يراه أحد على بابي، قال أحب أن أجيء به بين المغرب والعشاء، فلم يزل يطلب إلي قال قلت هو ذا يقول أجب فأي شيء أقول لك، قال: فجاء به فقلت له اذهب حتى تصح توبتك وأظهرها ثم رجع قال فبلغنا أنه أظهر الوقف، قال أبو بكر المروذي فمضيت ومعي نفسان من أصحابنا، فقلت له: قد بلغني عنك شيء ولم أصدق به، قال: وما هو ؟ قلت: نقف في القرآن، فقال: أنا أقول كلام الله فجعل يحتج بيحيى بن آدم وغيره أنهم وقفوا، فقلت له: هذا من الكتاب الذي أوصى لكم به عبيد بن نعيم، فقال: لا تذكر الناس، فقلت له: أليس أجمع المسلمون جميعا أنه من حلف بمخلوق أنه لا كفارة عليه ؟ قال: نعم، قلت فمن حلف بالقرآن أليس قد أوجبوا عليه كفارة لأنه حلف بغير مخلوق ؟ فقال: هذا متاع أصحاب الكلام، ثم قال إنما أقول كلام الله كما أقول أسماء الله فإنه من الله، ثم قال وأي شيء قام به أحمد بن حنبل، ثم قال علموكم الكلام وأومأ إلى ناحية الكرخ يريد أبا ثور وغيره، فقمنا من عنده فما كلمناه حتى مات، وروى الخلال من وجهين عن زياد بن أيوب قال قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، وعلماء الواقفة جهمية ؟ قال: نعم مثل ابن الثلاج وأصحابه الذين يجادلون، قلت: ولو فرض أن بعض أهل الإثبات أطلق القول بأن القرآن أو غيره من الصفات بعضه فهذا إما أن ينكر لأن يقال الصفة القائمة بالموصوف كالعلم والكلام لا يقال هي بعضه أو لأن الرب تبارك وتعالى لا يقال: إن له بعضا كما للأجسام بعض، فإن كان الإنكار لأجل الأول فأهل الكلام متنازعون في صفات الجسم، هل يقال إنها بعض الجسم أو يقال هي غيره أو لا يقال هي غيره فذكر الأشعري عن ضرار بن عمرو أنه قال الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والرقة أبعاض الأجسام وأنها متجاورة، قال وحكي عنه مثل ذلك في الاستطاعة والحياة، وزعم أن الحركات والسكون وسائر الأفعال التي تكون من الأجسام أعراض لا أجسام، وحكي عنه في التأليف أنه كان يثبته بعض الجسم فأما غيره ممن كان ينافي قوله في الأجسام فإنه كان يثبت التأليف والاجتماع والافتراق، والاستطاعة غير الأجسام وقطع عنه الأشعري في موضع أنه كان يزعم أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل وأنها بعض المستطيع، وأن الإنسان أعراض مجتمعة، وكذلك الجسم أعراض مجتمعة من لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ومحبة وغير ذلك وأن الأعراض قد يجوز أن تنقلب أجساما، ووافقه على ذلك حفص الفرد وغيره وأن الإنسان قد يفعل الطول والعرض والعمق وأن ذلك أبعاض الجسم، قال: وقال الأصم وهو عبد الرحمن بن كيسان الأصم أستاذ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر قال الأشعري فقال الأصم لا أثبت إلا الجسم الطويل العريض العميق ولم يثبت حركة غير الجسم ولا يثبت سكونا غيره ولا قياما غيره ولا قعودا غيره ولا اجتماعا غيره ولا حركة ولا سكونا ولا لونا ولا صوتا ولا طعما غيره ولا رائحة، قال الأشعري فأما بعض أهل النظر ممن يزعم أن الأصم قد علم الحركات والسكون والألوان ضرورة وإن لم يعلم أنها غير الجسم فإنه يحكي عنه أنه كان لا يثبت الحركة والسكون وسائر الأفعال وغير الجسم، ولا يحكي عنه أنه كان لا يثبت حركة ولا سكونا ولا قياما ولا قعودا ولا اجتماعا ولا افتراقا على وجه من الوجوه وكذلك يقول في سائر الأعراض، قلت: هذا القول الثاني أنها ثابتة لكن ليست غير الجسم هو الذي قد يقوله بعض العقلاء، فأما نفي وجودها فهو سفسطة من جنس نفي الجسم، وهذا القول هو قول غير هذا مثل هشام بن الحكم وغيره، قال الأشعري وقال هشام بن الحكم الحركات وسائر الأفعال من القيام والقعود والإرادة والكراهة والطاعة والمعصية وسائر ما يثبت المثبتون أعراضا أنها صفات الأجسام لا هي الأجسام ولا غيرها إنها ليست بأجسام فيقع عليها التغاير، قال وقد حكي هذا عن بعض المتقدمين، وأنه كان يقول كما حكينا عن هشام وأنه لم يكن يثبت أعراضا غير الأجسام وحكي عن هشام أنه كان لا يزعم أن صفات الإنسان أشياء لأن الأشياء هي الأجسام عنده، وكان يزعم أنها معان وليست بأشياء، قلت: وهشام يقول ذلك أيضا في صفات الله أنها ليست هو ولا غيره وطرد القول في جميع الصفات ودفع بذلك ما كانت المعتزلة تورده على الصفاتية من التناقض، قال: وقال قائلون منهم أبو الهذيل وهشام وبشر بن المعتمر، وجعفر بن حرب، والإسكافي وغيرهم، الحركات والسكون والقيام والقعود والاجتماع والافتراق والطول والعرض والألوان والطعوم والروائح والأصوات والكلام والسكوت والطاعة والمعصية والكفر والإيمان وسائر أفعال الإنسان والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة أعراض غير الأجسام قال: وحكى زرقان عن جهم بن صفوان أنه كان يزعم أن الحركة جسم ومحال أن تكون غير الجسم لأن غير الجسم هو الله تعالى ولا يكون شيء يشبهه، قال وكان إبراهيم النظام فيما حكي عنه يزعم أن الطول هو الطويل وأن العرض هو العريض وكان يثبت الألوان والطعوم والروائح والأصوات والآلام والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أجساما لطافا ويزعم أن حيز اللون هو حيز الطعم والرائحة وأن الأجسام اللطاف قد تحل في حيز واحد وكان لا يثبت عرضا إلا الحركة فقط، قال: وكان عباد بن سليمان يثبت الأعراض غير الأجسام فإذا قيل له تقول الحركة غير المتحرك والأسود غير السواد امتنع من ذلك، وقال: قولي في الجسم متحرك إخبار عن جسم وحركة فلا يجوز أن أقول الحركة غير المتحرك قال: وقال قائلون من أصحاب الطبائع، أن الأجسام كلها من أربعة طبائع حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وأن الطبائع الأربعة أجسام ولم يثبتوا شيئا إلا هذه الطبائع الأربعة وأنكروا الحركات، وزعموا أن الألوان والطعوم والروائح هي الطبائع الأربع، وقال قائلون منهم أن الأجسام من أربعة طبائع وأثبتوا الحركات ولم يثبتوا عرضا غيرها ويثبتون الألوان والروائح من هذه الطبائع، وقال قائلون: الأجسام من أربعة طبائع، روح سائحة فيها وأنهم لا يعقلون جسما إلا هذه الخمسة الأشياء وأثبتوا الحركات أعراضا، قال: وقال قائلون بإبطال الأعراض والحركات والسكون وأثبتوا السواد وهو الشيء الأسود لا غيره، وكذلك البياض وسائر الألوان، وكذلك الحلاوة والحموضة وسائر الطعوم، وكذلك قولهم في الروائح والحرارة أنها الشيء الحار، وكذلك قولهم في الرطوبة والبرودة واليبوسة، وكذلك قولهم في الحياة أنها هي الحي وهؤلاء منهم من يثبت حركة الجسم وفعله غيره، ومنهم من لا يثبت عرضا غير الجسم على وجه من الوجوه، قلت: هذا القول في صفات المخلوقين يضاهي قول شيخ المعتزلة أبي الهذيل في صفات الله قال الأشعري: قال شيخهم أبو الهذيل العلاف، أن علم الباري تعالى هو هو، وكذلك قدرته وسمعه وبصره وحكمته، وكذلك كان قوله في سائر صفات ذاته وكان يزعم إذا زعم أن الباري عالم فقد أثبت علما هو الله ونفى عن الله جهلا ودل على معلوم كان أو يكون، وإذا قال إن الباري قادر فقد أثبت قدرة هي الله تعالى ونفى عن الله عجزا ودل على مقدور كان أو يكون، وكذلك كان قوله في سائر صفات الذات على هذا التثبيت وكان إذا قيل له حدثنا عن علم الله الذي هو الله أتزعم أنه قدرته أبى ذلك، وإذا قيل له فهو غير قدرته أنكر ذلك وهذا نظير ما أنكره من قول مخالفيه أن علم الله لا يقال هو الله ولا يقال غيره، وكان إذا قيل له فقل إن الله علم ناقض ولم يقل إنه علم الله هو الله، قال وكان يسأل فيمن يزعم أن طول الشيء هو هو: وكذلك عرضه فيقول إن طوله هو عرضه، قال وهذا راجع عليه في قوله إن علم الله هو الله وإن قدرته هي هو لأنه إذا كان علمه هو هو وقدرته هي هو فواجب أن يكون علمه هو قدرته والإلزام التناقض، قال: وهذا أخذه أبو الهذيل عن أرسطاطاليس وذلك أن أرسطاطاليس قال في بعض كتبه إن الباري علم كله قدرة كله حياة كله سمع كله بصر كله فحسن اللفظ عند نفسه وقال علمه هو هو، قلت: هو قول أرسطو وأصحابه أن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد وكذلك العناية، قلت: فهذه نقول أهل الكلام بعضهم عن بعض أنهم يجعلون الصفة هي الموصوف الخالق والمخلوق فهو لا يناسب قولهم إن الكلام هو المتكلم، وأما أهل السنة والإثبات فقد ظهر كذب النقل عنهم، وأما إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف أو أنها ليست غيره فقد قال ذلك طوائف من أئمة أهل الكلام وفرسانهم، وإذا حقق الأمر في كثير من هذه المنازعات لم يجد العاقل السليم العقل ما يخالف ضرورة العقل لغير غرض، بل كثير من المنازعات يكون لفظيا أو اعتباريا فمن قال إن الأعراض بعض الجسم أو أنها ليست غيره، ومن قال إنها غيره يعود النزاع بين محققيهم إلى لفظ واعتبار واختلاف اصطلاح في مسمى بعض وغيره كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ويسمى أيضا تخليص التلبيس من كتاب التأسيس الذي وضعه أبو عبد الله الرازي في نفي الصفات الخبرية، وبين ذلك على أن ثبوتها يستلزم افتقار الرب تعالى إلى غيره وتركيبه من الأبعاض، وبينا ما في ذلك من الألفاظ المشتركة الجملة فهذا إن كان أحد أطلق لفظ البعض على الذات وغيره من الصفات وقال إنه بعض الله وأنكر ذلك عليه لأن الصفة ليست غير الموصوف مطلقا وإن كان الإنكار لأنه لا يقال في صفات الله لفظ البعض، فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم ذاكرين وآثرين، قال أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة: حدثنا حفص بن عمرو حدثنا عمرو بن عثمان الكلابي حدثنا موسى بن أعين عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال: إذا أراد الله أن يخوف عباده أبدى عن بعضه للأرض فعند ذلك تزلزلت وإذا أراد الله أن يدمدم على قوم تجلى لها عز وجل . طائفة قالت كلام الله ليس إلا مجرد معنى قائم بالنفس وحروف القرآن ليست من كلام الله ولا تكلم الله بها ولا يتكلم الله بحرف ولا صوت، و " الم " و " طس " و " ن " وغير ذلك ليست من كلام الله الذي تكلم هو به، ولكن خلقها ثم منهم من قال خلقها في الهواء ومنهم من قال خلقها مكتوبة في اللوح المحفوظ ومنهم من قال جبريل هو الذي أحدثها وصنفها بأقدار الله له على ذلك، ومنهم من زعم أن محمدا هو الذي أحدثها وصنفها بأقدار الله له على ذلك، وهؤلاء وافقوا الجهمية في نفيهم عن الله من الكلام ما نفته الجهمية، وفي أنهم جعلوا هذا مخلوقا كما جعلته الجهمية مخلوقا، لكن فارقوهم في أنهم أثبتوا معنى القرآن غير مخلوق، وقالوا إن كلام الله اسم لما يقوم به ويتصف به، لا لما يخلقه في غيره، وأطلقوا القول بأن القرآن غير مخلوق، وإن كانوا لا يريدون جميع المعنى الذي أراده السلف والأئمة والعامة بل بعضه، كما أن الجهمية تطلق القول بأن القول كلام الله ولا يعنون به المعنى الذي يعنيه السلف والأئمة والعامة ولكن هؤلاء منعوا أن تكون هذه الحروف من كلام الله والجهمية المحضة سموها كلام الله، لكن قالوا هي مع ذلك مخلوقة، وأولئك لا يجعلون ما يسمونه كلام الله مخلوقا، ومنهم من يقول يسمى كلام الله أيضا على سبيل الاشتراك، وأكثرهم يقولون نسميها بذلك مجازا، وأيضا فجعلت هذه الطائفة معنى واحدا قائما بذات الرب هو أمر ونهي وخبر واستخبار وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ما تكلم الله به وهو معنى آية الكرسي وآية الدين وجمهور عقلاء بني آدم يقولون إن فساد هذا معلوم بضرورة العقل وفطرة بني آدم وهؤلاء عندهم أن الملائكة تعبر عن المعنى القائم بذات الله وأن الله نفسه لا يعبر بنفسه عن نفسه وذلك يشبه من بعض الوجوه الأخرى الأخرس الذي يقوم بنفسه معان فيعبر غيره عنه بعبارته وهم في ذلك مشاركون للجهمية الذين جعلوا غير الله يعبر عنه من غير أن يكون الله يتكلم لكن هؤلاء يقولون قام بنفسه معنى فتجعله كالأخرس والجهمية تجعله بمنزلة الصنم الذي لا يقوم به معنى ولا لفظ . الكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال الله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وإن موسى عليه السلام سأل الله الرؤية في الدنيا وإن الله تجلى للجبل فجعله دكا فأعلمهم بذلك لأنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر، والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وحلوه ومره وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وما أصابهم لم يكن ليخطئهم والإسلام أن يشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث والإسلام عندهم غير الإيمان ويقرون بأن الله مقلب القلوب يقرون بشفاعة رسول الله ﷺ وأنها لأهل الكبائر من أمته وبعذاب القبر وأن الحشر حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق والمحاسبة من الله للعباد حق والوقوف بين يدي الله حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق ويقولون أسماء الله هي الله ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله ينزلهم حيث شاء ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوما من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله ﷺ وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله ﷺ، ولا يقولون كيف ولا لم لأن ذلك بدعة ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشر وإن كان مريدا له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا رضي الله تعالى عنهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي ﷺ ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله ﷺ وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر كما جاء الحديث عن رسول الله ﷺ ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال الله: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال { وجاء ربك والملك صفا صفا } وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }، ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في الحضر والسفر ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث نبيه ﷺ إلى آخر عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك، ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لا يخرجوا عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتنة ويصدقوا بخروج الدجال وأن عيسى ابن مريم يقتله ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر كما قال الله وأن السحر كائن موجود في الدنيا ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم ومواراتهم ويقرون بأن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالا كانت أو حراما وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تنسخ القرآن وأن الأطفال أمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون وأن الأمور بيد الله تعالى، ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله تعالى به والانتهاء عما نهى الله عنه وإخلاص العمل والنصيحة للمسلمين ويدينون بعبادة الله تعالى في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والمعصية والفخر والكبر والازدراء على الناس والعجب ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية ونفقة المأكل والمشرب، وقال فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير .

قال: فأما أصحاب عبد الله بن سعيد فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الباري لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا عزيزا عظيما جليلا كبيرا كريما مريدا متكلما جوادا ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى وقال ويقولون أسماء الله تعالى وصفاته لا يقال هي غيره ولا يقال إن علمه غيره، كما قالت الجهمية ولا يقال إن علمه هو هو كما قال بعض المعتزلة وكذلك قولهم في سائر الصفات فذكر الأشعري أن أصحاب ابن كلاب يقولون بأكثر قول أهل الحديث وأن لهم زيادة أخرى وذلك دليل على أنهم ينقصون عن أقوالهم فأما قول ابن كلاب في القرآن فلم يذكره الأشعري إلا عنه وحده وجعل له ترجمة فقال: وهذا قول عبد الله بن كلاب، قال عبد الله بن كلاب إن الله لم يزل متكلما وإن كلام الله صفة له قائمة به وإنه قديم بكلامه وإن كلامه قائم به كما إن العلم قائم به والقدرة قائمة به وهو قديم بعلمه وقدرته وإن الكلام ليس بحرف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير وإنه معنى واحد بالله تعالى وإن الرسم هو الحروف المتغايرة وهو قراءة القارئ وإنه خطأ أن يقال كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره وإن العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير كما إن ذكرنا لله يختلف ويتغاير والمذكور لا يختلف ولا يتغاير وإنما سمي كلام الله عربيا لأن الرسم الذي هو العبارة عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيا لعلة وكذلك سمي عبرانيا وكذلك سمي أمرا لعلة وسمي نهيا لعلة وخبر العلة ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمى كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي بها سمي كلامه أمرا وكذلك القول في تسميته نهيا وخبرا وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرا وكذلك لم يزل ناهيا، فهذه حكاية الأشعري عن ابن كلاب أنه يقول إن الله لم يزل متكلما وإن كلامه صفة له قائم به كعلمه وقدرته وكذلك سائر الصفات التي يثبتها لله تعالى هي عنده قديمة قائمة بالله غير متعلقة بمشيئته وقدرته، وأما الجهمية المحضة من المعتزلة وغيرهم فعندهم لا يقوم به شيء من هذه الصفات ولا غيرها بل كل ما يضاف إليه فإنما يعود معناه إلى أمر مخلوق منفصل عنه كما قالوه في الكلام، ولما قال أولئك لهؤلاء إن الحروف لا تكون إلا متعاقبة ولا بد لها من مخارج وكلاهما يمنع قدمها قال لهم هؤلاء هذا بعينه وارد في المعنى فإن المعاني مطابقة للحروف في الترتيب وهي مفتقرة إلى محل كافتقار الحروف فما قيل في أحدهما قيل في الآخر، ولما زعم أولئك أن الكلام كله هو معنى واحد قال هؤلاء إن جاز أن يعقل أن المعاني المتنوعة تعود إلى حرف واحد جاز أن يعقل أن الحروف المتنوعة تعود إلى حرف واحد وقالوا لهم أيضا الترتيب نوعان ترتيب ذاتي وترتيب وجودي فالأول كترتيب العلم على الحياة والمعلول على العلة التامة وهؤلاء الذين فسروا قولهم بأنه غير مخلوق بأنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته سواء قالوا إنه معنى أو هو حروف أو هو معنى وحرف، يقولون إن المخلوق هو المحدث وهو ما يحدثه الله تعالى منفصلا عنه وإنه ما ثم إلا قديم أو مخلوق وما كان قديما فإنه لازم لذات الله تعالى لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولا يكون فعلا له وما كان محدثا فهو المخلوق المنفصل عن الله تعالى وهو المتعلق بمشيئته وقدرته ولا يقوم عندهم بذات الله فعل ولا كلام ولا إرادة ولا غير ذلك مما يتعلق بمشيئته وقدرته ويقولون لا تحل الحوادث بذاته ولا يجوز عليه الحركة ولا فعل حادث ولا غير ذلك وهؤلاء يتأولون كل ما ورد في الكتاب والسنة مما يخالف ذلك وهو كثير جدا كقوله { ثم استوى على العرش } ثم استولى إلى السماء، وكما وصف به نفسه من المجيء والإتيان والنزول وغضبه يوم القيامة ورضاه على أهل الجنة وتكليمه لموسى ولعباده يوم القيامة وتكلمه بالوحي إذا تكلم به فسمعته الملائكة، وهؤلاء جميعا يحتجون على قدم القرآن بحجتهم المشهورة التي هي أصل المذهب التي احتج بها الأشعري وأصحابه والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وأبو الحسن بن الزاغوني وغيرهم وهي التي تقدم ذكرها في بيان أصل الطائفة الأولى عن أبي المعالي لأنه اعتقد أنه صاغها على وجه يدفع بها بعض الأسئلة وقد ذكرنا ذلك ونبين أنه بناها على امتناع حلول الحوادث به ونحن نذكر هاهنا كما ذكرها هؤلاء فإن هذا مشهور في كلامهم كلهم وقد اعترف أصحاب الأشعري أن هذه الطريقة هي عمدته وعمدة غيره من أئمتهم كالقاضي أبي بكر وأبي إسحاق وابن فورك وأبي منصور على قدم الكلام قال لو كان كلام الباري حادثا لم يخل من أن يقوم بذات الباري تعالى فيكون محلا للحوادث بمثابة الجواهر أو يحدث لا في محل وذلك محال لأنه يؤدي إلى إبطال التفرقة بين ما يقوم بنفسه وبين ما لا يقوم بنفسه على أن نفس المحل نفى اختصاصه إذ ليس اختصاصه به سبحانه أولى من اختصاصه بغيره وإن حدث في محل آخر وقام به كان كلاما لذلك المحل وكان المحل به متكلما آمرا ناهيا لأن كل قائم بمحل اختص به اختصاصا يجب أن يضاف إليه عند العبارة بأخص أوصافه يشتق له أو للجملة التي المحل منها وصف منه إما من أخص وصفه أو أعم أوصافه أو من معناه أو يصح إضافته إليه بأخص وصفه فإذا لم يكن ذلك بطل أن يخلق كلامه في محل وإذا بطلت هذه الأقسام بطل كونه حادثا، وقال طائفة منهم القاضيان أبو علي بن وأبو يعلى وابن عقيل وأبو الحسن الزاغوني وهذا لفظه ولكن نقول لم يزل الله قادرا عالما مالكا لا متى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال { ذرني ومن خلقت وحيدا } وقد كان الله سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد، وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات وهذا ذكر اختلاف الناس في الأسماء والصفات الحمد لله بصرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة المتحيرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وإنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له ولا عز له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله التي يوصف بها نفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا قدير وعبروا عنه بأن قالوا عين لم يزل لم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من ذلك، وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الإيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أنه لا يقال إن الباري عالم قادر سميع بصير حكيم جليل في حقيقة القياس قال لأني لو قلت إنه عالم في حقيقة القياس لكان لا عالم إلا هو وكان يقول القديم لم يزل في حقيقة القياس لأن القياس ينعكس لأن القديم لم يزل ومن لم يزل فقديم فلو كان الباري عالما في حقيقة القياس لكان لا عالم إلا هو قال وقد اختلفوا فيما بينهم اختلافا تشتت فيه أهواؤهم واضطربت فيه أقاويلهم ثم ساق اختلافهم، وكذلك قال: في الإبانة فصل وزعمت الجهمية أن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر له وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا لا علم لله ولا قدرة له فقد قالوا إنه ليس بعالم ; ولا قادر ووجب ذلك عليهم وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم إن الله ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسمع، ومقصودنا التنبيه على أنه من المستقر في المعقول والمسموع ما تقدم ذكرنا له مع أن الحي العالم القادر المتكلم المريد لا بد أن تقوم به الحياة والعلم والقدرة والكلام والإرادة وإن ما قام به ذلك استحق أن يوصف بأنه حي عالم قادر متكلم مريد فهذه أربعة أمور ثبوت حكم الصفة لمحلها وانتفاؤه عن غير محلها وثبوت الاسم المشتق من اسمها لمحلها وانتفاء الاسم عن غير محلها والجهمية من المعتزلة وغيرهم خالفوا ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: زعمهم أن الله حي عليم قدير من غير أن تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة فأثبتوا الأسماء والأحكام مع نفي الصفات، الثاني: أبعد من ذلك من وجه أنهم قالوا هو متكلم بكلام يقوم بغيره وليس الجسم الذي قام به الكلام متكلما به فأثبتوا الاسم والحكم بدون الصفة ونفوا الاسم والحكم عن موضع الصفة لكنهم لم يجعلوا متكلما إلا من له كلام وجعلوا هناك عالما قادرا من لا علم له ولا قدرة، الثالث: أبعد من ذلك من وجه آخر وهو ما قالوه في الإرادة تارة ينفونها وتارة يقولون هو مريد بإرادة لا في محل فأثبتوا الاسم والحكم بدون الصفة وجعلوا الصفة تقوم بغير محل وكل هذه الأمور الثلاثة مما يعلم ببداية العقل وبما فطر الله عليه العباد بالعلوم الضرورية أن ذلك باطل وهو من النفاق لكنهم احتجوا في ذلك بحجة ألزمها لهم الكلابية والأشعرية ومن وافقهم وهو الصفات الفعلية مثل كونه خالقا رازقا عادلا محييا مميتا وتسمى صفة التكوين وتسمى الخالق وتسمى صفة الفعل وتسمى التأثير فقالوا هو خالق فاعل مكون عادل من غير أن يقوم به خلق ولا تكوين ولا فعل ولا تأثير ولا عدل فكذلك المتكلم والمريد وقالوا إن الخلق هو نفس المخلوق واتبعهم على ذلك الكلابية والأشعرية فصار للأولين عليهم حجة بذلك وإنما قرن هؤلاء بين الأمرين لأنهم قالوا إن قلنا إن التكوين قديم لزم قدم المكونات والمخلوقات كلها وهذا معلوم الفساد بالحس وإن قلنا إنه محدث لزم قيام الحوادث به، وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام من الرادين على المعتزلة من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيطردون ما ذكر من الأدلة ويقولون لا يكون فاعلا إلا بفعل يقوم بذاته وتكوين يقوم بذاته والخلق الذي يقوم بذاته غير الخلق الذي هو المخلوق وهذا هو ذكره الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك في كتبهم كما ذكره فقهاء الحنفية كالطحاوي وأبي منصور الماتريدي وغيرهم وكما ذكره البغوي في شرح السنة وكما ذكره أصحاب أحمد كأبي إسحاق وأبي بكر عبد العزيز والقاضي وغيرهم لكن القاضي ذكر في الخلق هل هو المخلوق أو غيره قولين ولكن استقر قوله على أن الخلق غير المخلوق وإن خالفهم ابن عقيل وكما ذكره أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي في كتاب اعتقاد الصوفية وكما ذكر أئمة الحديث والسنة قال البخاري في آخر الصحيح في كتاب الرد على الجهمية والزنادقة باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض ونحوها من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون ولا ريب أن هذا القول الذي عليه أهل السنة والجماعة هو الحق .

فإن ما ذكر من الحجة أن العالم القادر المتكلم المريد لا يكون إلا بأن يقوم به العلم والقدرة والكلام والإرادة هو بعينه يقال في الخالق والفاعل فإنه من المعلوم ببداية العقول وضرورتها أن الصانع الفاعل لا يكون صانعا فاعلا إلا أن يقوم به ما يكون به فاعلا صانعا ولا يسمى الفاعل فاعلا كالضارب والقاتل والمحسن والمطعم وغير ذلك إلا إذا قام به الفعل الذي يستحق به الاسم ولكن الجهمية نفت هذا كله وفروخهم وافقتهم في البعض دون البعض وأما أهل الإثبات فباقون على الفطرة كما وردت به الشريعة وكما جاء به الكتاب والسنة فإن الله وصف نفسه في غير موضع بأفعاله كما وصف نفسه بالعلم والقدرة والكلام ومن ذلك المجيء والإتيان والنزول والاستواء ونحو ذلك من أفعاله ولكن هنا أخبر بأفعاله وهناك ذكر أسماءه المتضمنة للأفعال ولم يفرق السلف والأئمة بين أسماء الأفعال وأسماء الكلام كما في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلا سأل ابن عباس قال إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي فذكر مسائله ومنها قال وقوله: { وكان الله غفورا رحيما } { وكان الله عزيزا حكيما } { وكان الله سميعا بصيرا } فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس: وقوله { وكان الله غفورا رحيما } سمى نفسه ذلك وذلك قوله أي لم أزل كذلك هذا لفظ البخاري بتمامه واختصر الحديث ورواه البرقاني من طريق شيخ البخاري بتمامه فقال ابن عباس فأما قوله { وكان الله غفورا رحيما } و { إن الله عزيز حكيم } { وكان الله سميعا بصيرا } فإن الله جعل نفسه ذلك وسمى نفسه ذلك ولم ينحله أحد غيره وكان الله أي لم يزل كذلك هذا لفظ الحميدي صاحب الجمع ورواه البيهقي عن البرقاني من حديث محمد إبراهيم البوشنجي عن يوسف بن عدي شيخ البخاري قال إن الله سمى نفسه ذلك ولم ينحله غيره فذلك قوله وكان الله أي لم يزل كذلك ورواه البيهقي من رواية ابن يعقوب بن سفيان عن يوسف ولفظ السائل فكأنه كان ثم مضى ولفظ ابن عباس فإن الله سمى نفسه ذلك ولم يجعله غيره فذلك قوله وكان الله أي لم يزل يقال جعلت زيدا عالما إذ جعلته في نفسك وجعلته عالما إذا جعلته في نفسي أي اعتقدته عالما كما قال تعالى { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } أي اعتقدوهم { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } أي في نفوسكم بما عقدتموه من اليمين، فقوله جعل نفسه ذلك وسمى نفسه ذلك يخرج على الثاني أي هو الذي حكم بذلك وأخبر بثبوته له وسمى به نفسه لم ينحله ذلك أحد غيره، وقوله: وكان أي لم يزل كذلك والمعنى أنه أخبر أن هذا أمر لم يزل عليه وهو الذي حكم به لنفسه وسمى به نفسه لم يكن الخلق هم الذين حكموا بذلك له وسموه بذلك فأراد بذلك أنه لو كان ذلك مستفادا من نحلة الخلق له لكان محدثا له بحدوث الخلق فأما إذا كان هو الذي سمى نفسه وجعل نفسه كذلك فهو سبحانه لم يزل ولا يزال كذلك فلهذا أخبر بأنه كان كذلك ولهذا اتبع أئمة السنة ذلك كقول أحمد في رواية حنبل لم يزل الله عالما متكلما غفورا وقال في الرد على الجهمية لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف ولهذا احتج الإمام أحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بأن النبي ﷺ استعاذ بكلمات الله في غير حديث فقال: { أعوذ بكلمات الله التامة }، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال { كان النبي يعوذ الحسن والحسين أعيذكما بكلمات الله التامة } وذكر الحديث وفي صحيح مسلم عن خولة بنت حكيم أن النبي ﷺ قال: { لو أن أحدكم إذا نزل منزلا قال أعوذ بكلمات الله التامات } وذكر الحديث وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: { من قال حين يمسي أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق }، وذكر الحديث وذلك في أحاديث أخر قال أحمد وغيره ولا يجوز أن يقال أعيذك بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالملائكة أو بالعرش أو بالأرض أو بشيء مما خلق الله ولا يعوذ إلا بالله أو بكلماته وقد ذكر الاحتجاج بهذا البيهقي في كتاب الأسماء والصفات لكن نقل احتجاج أحمد على غير وجهه وعورض بمعارضة فلم يجب عنها ثم قال البيهقي ولا يصح أن يستعيذ من مخلوق بمخلوق فدل على أنه استعاذ بصفة من صفات ذاته وهي غير مخلوقة كما أمره الله أنه يستعيذ بذاته وذاته غير مخلوقة ثم قال وبلغني عن أحمد بن حنبل أنه كان يستدل بذلك على أن القرآن غير مخلوق قال وذلك أنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص، قلت: احتجاج أحمد هو من الوجه الذي تقدم كما حكينا لفظ المروذي في كتابه الذي عرضه على أحمد والمقصود هنا ثم الكلام على قول الطائفة الثانية الذين قالوا إن القرآن هو الحروف والأصوات دون المعاني ثم إن قولهم هذا متناقض في نفسه فإن الحروف والأصوات التي سمعها موسى عبرية والتي ذكرها الله عنه في القرآن عربية فلو لم يكن الكلام إلا مجرد الحروف والأصوات لم يكن بين الكلام الذي سمعه موسى والذي ذكره الله أنه سمعه قدر مشترك أصله بل كان يكون الإخبار بأنه سمع هذه الأصوات التي لم يسمعها كذب وكذلك سائر من حكى الله في القرآن أنه قال من الأمم المتقدمة الذين تكلموا بغير العربية فإنما تكلموا بلغتهم وقد حكى الله ذلك باللغة التي أنزل بها القرآن وهي العربية وكلام الله صدق فلو كان قولهم مجرد الحروف والأصوات والحروف والأصوات التي قالوها ليست مثل هذه لم تكن الحكاية عنهم مطلقا بل كلامهم كان حروفا ومعاني فحكى الله عنهم ذلك بلغة أخرى والحروف تابعة للمعاني والمعاني هي المقصود الأعظم، كما يترجم كلام سائر المتكلمين وهؤلاء المثبتة الذين وافقوا أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ووافقوا المعتزلة على أن الكلام ليس هو إلا مجرد الحروف والأصوات يقولون إن كلام الله القائم به ليس هو إلا مجرد الحروف والأصوات وهذا هو الذي بينته أيضا في جواب المحنة وبينت أن هذا لم يقله أحد من السلف ولا قالوا أيضا إنه معنى قائم بذاته بل كلاهما بدعة وأن ليس في كلامي شيء من البدع ثم منهم من يقول هو مع ذلك قديم غير حادث لموافقتهم الطائفة الأولى على أن معنى قول السلف إن القرآن كلام الله غير مخلوق، إنه صفة قديمة قائمة بذاته لا يتعلق بمشيئته واختياره قط ومنهم من لا يقول ذلك بل يقول هو وإن كان مجرد الحروف والأصوات وهو قائم به فإنه يتعلق بمشيئته واختياره وإنه إذا شاء تكلم بذلك وإذا شاء سكت وإن كان لم يزل كذلك، وظن الموافقون للسلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق من القائلين بأن الكلام ليس إلا معنى في النفس وكثير من القائلين بأنه ليس إلا الحروف والأصوات أن معنى قول السلف القرآن كلام الله غير مخلوق أنه صفة قديمة قائمة بذاته لا يتعلق بمشيئته واختياره وإرادته وقدرته، وهذا اعتقدوه في جميع الأمور المضافة إلى الله أنها إما أن تكون مخلوقة منفصلة عن الله تعالى وإما أن تكون قديمة غير متعلقة بمشيئته وقدرته وإرادته ومنعوا أن يقال إنه يتكلم إذا شاء أو إنه لم يزل متكلما إذا شاء أو إنه قادر على الكلام أو التكلم أو إنه يستطيع أن يتكلم بشيء أو إنه إن شاء تكلم وإن شاء سكت أو إنه يقدر على الكلام والسكوت كما يمتنع أن يقال إنه يحيا إذا شاء أو إنه يقدر على أن يحيا وعلى أن لا يحيا إن الحياة صفة لازمة لذاته يمتنع أن يكون إلا حيا قيوما سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا فاعتقد هؤلاء في الكلام والإرادة والمحبة والبغض والرضاء والسخط والإتيان والمجيء والاستواء على العرش والفرح والضحك مثل الحياة، وأول من أظهر هذا القول من الموافقين لأهل السنة في الأصول الكبار هو عبد الله بن سعيد بن كلاب وهذا مقتضى ما ذكره الأشعري في المقالات فإنه لم يذكر ذلك عن أحد قبله بل ذكر عن بعض المرجئة أنه يقول بقوله وذكر عن بعض الزيدية ما يحتمل أن يكون موافقا لبعض قوله وذكر أبو الحسن في كتاب المقالات قول أهل الحديث والسنة فقال هل هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة، جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله ﷺ لا يريدون من ذلك شيئا والله تعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال { الرحمن على العرش استوى } وأن له يدين بلا كيف كما قال { خلقت بيدي } وكما قال { بل يداه مبسوطتان } وأن له عينين بلا كيف كما قال { تجري بأعيننا } وأن له وجها كما قال { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علما كما قال: { أنزله بعلمه } وكما قال: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله }، ولما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون وقالوا إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله أو أن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله وأقروا أنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد يخلقها الله تعالى وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وأن الله وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ولطف بالمؤمنين وأصلحهم وهداهم ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين، كما علم وأخذلهم ولم يصلحهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق .

قال والطريق الثاني المعقول وفيه أدلة نذكر منها الجلي من معتمداتها فمن ذلك تقول لو كان كلام الله مخلوقا لم يخل أن يكون مخلوقا في محل أو لا في محل فإن كان في محل فلا يخلو أن يكون محله ذات الباري سبحانه أو ذاتا غير ذاته مخلوقة ومحال أن يكون خلقه الله في ذاته لأن ذلك يوجب كون ذاته تعالى محلا للحوادث وهذا محال اتفقت الأئمة قاطبة على إحالته ومحال أن يكون في محل هو ذات غير ذاته تعالى لأن ذلك يوجب أن يكون كلاما لتلك الذات ولا يكون كلاما لله تعالى ولأنه لو جاز أن يكون كلاما لله تعالى يقال له كلامه وصفته لجاز أن يقال مثل ذلك في سائر الصفات مثل الكون واللون والحركة والسكون والإرادة إلى غير ذلك من الصفات وهذا مما اتفقنا على بطلانه، ومحال أن يكون خلقه لا في محل من جهة أن الكلام صفة والصفات لا بد لها من محل تقوم به ولو جاز أن يقال كلام الله لا في محل لجاز أن يقال إرادة وحركة وشهوة وفعل ولون لا في محل وهذا مما يعلم إحالته قطعا وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أنه غير مخلوق ثم قال قالوا قد وصف الباري بأشياء حدثت في غيره ألا نرى أنا نصفه بأنه محسن بإحسان أحدثه في حق عباده ونصفه بأنه كاتب لوجود كتابه أحدثها في اللوح المحفوظ فما كان يمتنع أن يكون ههنا مثله قلنا الإحسان صفة قائمة بنفس المحسن وليس توقف وصفه بهذه الصفة على وجود الإحسان منه وإذا ظهر إحسانه على خلقه كان ذلك أثر وصفه بالإحسان لأن ما فعله هو صفته وجرى ذلك مجرى وصفه بأنه صانع فإنه يوصف بذلك لأنه عالم بحقيقة المصنوع لا أن الصفة هي المصنوع وكذلك القول في وصفه بأنه كاتب لأن الكتابة تجري مجرى الصنعة في أنها نوع من أنواع العلوم بكيفيات المنفعل في إيجاد فعله وذلك أمر غير المصنوع وهذا بين واضح، قلت هذا الالتزام بالمحسن والكاتب والعادل والخالق ونحو ذلك هو إلزام مشهور المعتزلة على قول أهل الإثبات، باطنه أن المتكلم لا بد أن يقوم به الكلام فألزموهم أسماء الأفعال وهذا السؤال هو الذي ضعضع هذه الحجة عند أبي المعالي الجويني والرازي وغيرهم لما ألزمهم المعتزلة بذلك ولهذا عدل عنها أبو المعالي إلى أن قال قد حصل الاتفاق على أنه سبحانه متكلم بكلامه وأنه لا بد من ضرب من الاختصاص في إضافة الكلام إليه ثم الاختصاص: إما اختصاص قيام، وإما أن يكون اختصاص فعل بفاعل، والثاني باطل لأنه لا فرق بين خلق الأجسام وأنواع الأعراض وبين خلق الكلام في أنه لا يرجع إلى القديم سبحانه صفة حقيقة من جميع ما خلقه قلت فهو في هذا لم يلتزم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لئلا ترد عليه المعارضات لكن قال يزول الاختصاص وهذا الذي ذكره في الحقيقة يستلزم لذلك وملزوم له فإن الكلام له اختصاص، فإن لم يكن بفاعله كان بمحله والمعارضات واردة لا محالة وأجاب غيره عن اسم العادل والمحسن ونحوهما بأن قالوا العادل من تمام الأسماء عندنا لأنه فاعل العدل وإنما يشترط قيام العدل بالعادل منا لا من حيث كان فاعلا للعدل، بل لخصوص وصف ذلك الفعل فإن العدل قد يكون حركة أو سكونا أو نحوهما، فمن ذلك الوجه يجب قيامه به وكل معنى له ضد فشرط قيامه بالموصوف به والذي يسمى عدلا فينا من الأفعال فله ضد وهو الجور، فمن ذلك يجب قيامه بالفاعل منا قلت هذه فروق لا حقيقة لها عند التأمل فإن قيام الكلام بالمتكلم كقيام الفعل بالفاعل سواء لا فرق بينهما لا في المشاهد ولا في اللغة والاشتقاق ولا في القياس العقلي ولهذا عدل الرازي عن تقرير الطريقة المشهورة من أن المتكلم من قام به الكلام إذا كانت تحتاج إلى هذه المقدمة وإلى نفي جواز كونه محلا للحوادث وأثبت ذلك بطريقة في غاية الضعف وهي الإجماع الجدلي المركب والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد لهم في مسائل الصفات والقدر فجعلوه موصوفا بمفعولاته القائمة بغيره حتى قالوا من فعل الظلم فهو ظالم ومن فعل السفه فهو سفيه ومن فعل الكذب فهو كاذب ونحو ذلك وكل هذا باطل بل الموصوف بهذه الأسماء من قامت به هذه الأفعال لا من جهلها فعلا لغيره أو قائمة بغيره، والأشعرية عجزوا عن مناظرتهم في هذا المقام في مسألة القرآن ومسائل القدر بكونهم سلموا له أن الرب لا تقوم به صفة فعلية فلا يقوم به عدل ولا إحسان ولا تأثير أصلا فلزمهم أن يقولوا هو موصوف بمفعولاته فلا يجب أن يكون القرآن قائما به ويكون مسمى بأسماء القبائح التي خلقها لكن أبو محمد بن كلاب يقول لم يزل كريما جوادا فهذا قد يجيب عن صفة الإحسان وحدها بذلك وأما سائر أهل الإثبات من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيقولون إن الرب تقوم به الأفعال فيتصف به طردا لما ذكر في الكلام وأن الفاعل من قام به الفعل فالعادل والمحسن من قام به العدل والإحسان كما أشرنا إلى هذا فيما تقدم وبهذا أجاب القاضي وابن الحسن وابن الزاغوني وغيرهم فجواب هؤلاء المعتزلة جيد لكن تنازع هؤلاء هل ما يقوم به يمتنع تعلقه بمشيئته وقدرته ؟ فالقاضي وابن الزاغوني وغيرهم مشوا على أصلهم في امتناع قيام الحوادث به ولكن تفسيرهم للصانع والكاتب بالعالم ليس بمستقيم على هذا الأصل فإنه إذا جاز أن تفسر الأفعال بالعلم قيل مثل ذلك في الجميع فبطل الأصل بل الكتابة والصنعة فعل يقوم به وإن استلزم العلم وهل يجب أن يكون قديما لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو يجوز أن يكون من ذلك ما يتعلق بمشيئته وقدرته على القولين في الكلام والأفعال وقد ظن من ذكر من هؤلاء كأبي علي وأبي الحسن بن الزاغوني أن الأمة قاطبة اتفقت على أنه لا تقوم به الحوادث وجعلوا ذلك الأصل الذي اعتمدوه وهذا مبلغهم من العلم وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدعاة في الكلام ونحوه وما أكثرها فمن تدبرها وجد عامة المقالات الفاسدة يبنونها على مقدمات لا تثبت إلا بإجماع مدعى أو قياس وكلاهما عند التحقيق يكون باطلا، ومن العجب أن بعض متكلمة أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم يدعون مثل هذا الإجماع مع النصوص الكثيرة عن أصحابهم بنقيض ذلك بل عن إمامهم وغيره من الأئمة حتى في لفظ الحركة والانتقال بينهم في ذلك نزاع مشهور وقد أثبت ذلك طوائف مثل ابن حامد وغيره وقد ذكر إجماع أهل السنة على ذلك حرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من علماء السنة المشهورين فليتدبر العاقل ما وقع في هذه الأصول من الاضطراب وليحمد الله على الهداية وليقل { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } . ولكن نعرف أن هذه الحجة تبين فساد قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون خلق الله كلامه في محل فما ذكروه يبين فساد هذا القول الذي اتفقت سلف الأمة وأئمتها على ضلالة قائله بل ذلك عند من يعرف ما جاء به الرسول معلوم الفساد بالإضرار من دين الإسلام ولكن هذا يسلم ويطرد لمن جعل الأفعال قائمة به وجعل صفة التكوين قائمة به، ولهذا انتقضت على الأشعرية دون الجمهور ويبين أن كلام الله قائم به وهذا حق وأما كونه لا يتكلم إذا شاء ولا يقدر أن يتكلم بما شاء فهذا لا يصح إلا بما ابتدعته الجهمية من قولهم لا يتحرك ولا تحل به الحوادث وبذلك نفوا أن يكون استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا وأن يجيء يوم القيامة وغير ذلك مما وصف به نفسه في الكتاب والسنة وأما قول هؤلاء لو خلقه في نفسه لكانت ذاته محلا للحوادث فالذين يقولون إنه يتكلم إذا شاء لا يقولون إنه يخلق في نفسه شيئا إذ الخلق هو فعل أيضا قائم به عندهم بمشيئته فلا يكون للخلق خلق آخر وإلا لزم الدور والتسلسل ولهذا لم يقل أحد ممن قال بذلك إن كلامه مخلوق بل كل من قال إن كلامه مخلوق فإنما مراده أنه يخلقه منفصلا عنه والسلف علموا أن هذا مرادهم فجعلوا يبينون فساد ذلك كقول مالك وأحمد وغيرهما كلام الله من الله ولا يكون من الله شيء مخلوق وقولهم كلام الله من الله ليس ببائن عنه وقول أحمد لمن سأله أليس كلامك منك قال بلى فكلام الله من الله ومثل هذا كثير في كلامهم فلو أن المحتج قال اتفق المسلمون على أنه لا يخلق في ذاته شيئا لكان هذا كلاما صحيحا فإن أحدا لم يطلق عليه أنه يخلق في نفسه شيئا فيما أعلم بخلاف اللفظ الذي ادعاه فإن النزاع فيه من أشهر الأمور والذين أثبتوا ذلك أكثر من الذين نفوه من أهل الحديث وأهل الكلام جميعا، ولكن اتفاق الأمة فيما أعلم أنه لا يخلق في نفسه شيئا يبطل مذهب المعتزلة ولا يدل على أنه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولعل هذه حجة عبد العزيز الكناني ولهذا النزاع العظيم بين الذين يقولون هو مخلوق أو محدث بمعنى أنه أحدثه في غيره والذين يقولون هو قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته إذا تدبره اللبيب وجد أن كل طائفة إنما تقيم الحجج على إبطال قول خصمها لا على صحة قولها أما الذين ينفون الخلق عنهم فأدلتهم عامتها مبنية على أنه لا بد من قيام الكلام به وأنه يمتنع أن يكون متكلما بكلام لا يقوم إلا بغيره وهذا أصل صحيح وهو من أصول السلف الذي بينوا به فساد قول الجهمية وأما الذين قالوا مخلوق فليس لهم حجة إلا ما يتضمن أنه متعلق بمشيئته وقدرته وأن ذلك يمنع كونه قديما وذلك كقوله { إنا أرسلنا نوحا } { وأوحينا إلى إبراهيم } و { أهلكنا القرون } لا يكون إلا بعد وجود المخبر عنه وإلا كان كذبا لأنه إخبار عن الماضي، وكذلك إخباره عن أقوال الأمم المتقدمة ومخاطبة بعضهم بعضا بقوله قالوا وقالوا كذلك فهذا لا يكون إلا بعد وجود المخبر عنه وقولهم إنه موصوف بأنه مجعول عربيا وإنه أحكمت آياته ثم فصلت وهذا إخبار بفعل منه تعلق به وذلك يوجب تعلقه بمشيئته وقدرته وقد نص أحمد على أن الجعل فعل من الله غير الخلق كما تقدم ذكر لفظه وقد حققوا ذلك بأن الله ذكر أنه جعله عربيا على وجه الامتنان علينا به والامتنان إنما يكون بفعله المتعلق بمشيئته وقدرته لا بالأمور اللازمة لذاته ومن خالف ذلك أجابوا بجواب ضعيف كقول ابن الزاغوني جعلناه أي أظهرناه وأنزلناه فيقال لهم يكفي في ذلك أن يقال أنزلناه قرآنا عربيا فإنه عندكم لا يقدر على أن ينزله ويظهره غير عربي ولا يمكن ذلك فإذا كان ذلك ممتنعا لذاته كيف يمتن بترك فعله وإنما الممكن أن ينزله أو لا ينزله أما أن ينزله عربيا وغير عربي فهذا ممتنع عندهم، وقد قال تعالى: { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته } فعلم أن جعله عجميا كان ممكنا وعندهم ذلك غير ممكن وهذا أيضا حجة على من جعل العبارة مخلوقة منفصلة عن الله لأنه جعل القرآن نفسه عربيا وعجميا وعندهم لا يكون ذلك إلا في العبارة المخلوقة لا في نفس القرآن الذي هو غير مخلوق وعندهم المعنى الذي عبارته عربية هو الذي عبارته سريانية وعبرانية فإن جاز أن يقال هو عربي لكون عبارته كذلك كان كلام الله هو عربي عجمي سرياني عبراني لأن الموصوف بذلك عندهم شيء واحد .

وكتاب الله يدل على أن كلامه يقدر أن يجعله عربيا وأن يجعله عجميا وهو متكلم به ليس مخلوقا منفصلا عنه وأما أئمة أهل الحديث والفقهاء والصوفية وطوائف أهل الكلام الذين خالفوا المعتزلة قديما من المرجئة والشيعة ثم الكرامية وغيرهم فيخالفون في ذلك ويجعلون هذه الأفعال القائمة بذاته متعلقة بمشيئته وقدرته وأصحاب الإمام أحمد قد تنازعوا في ذلك كما تنازع غيرهم وذكر أبو بكر عبد العزيز عنهم في المقنع قولين، وحكى الحارث المحاسبي القولين عن أهل السنة ولكن المنصوص الصريح عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة يوافق هذا القول كما ذكرناه من كلامه في الرد على الجهمية فإن بأولا لما قال إن الله لم يتكلم ولا يتكلم فنفى المستقبل كما نفى الماضي قال أحمد فكيف يصنعون بحديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله ﷺ { ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان } ثم قال أحمد والخوارج إذا شهدت على الكافرين فقالوا لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء أتراها نطقت بجوف وشفتين وفم ولسان ولكن الله أنطقها كما شاء فكذلك تكلم الله كيف شاء من غير أن نقول جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان فذكر أن الله يتكلم كيف يشاء، ومن يقول بالأول يقول إن تكلمه لا يتعلق بالمشيئة إذ لا يتعلق بالمشيئة عندهم إلا المحدث الذي هو مخلوق منفصل ثم قال أحمد { وحديث الزهري قال لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما تطيق بذلك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت قال فلما رجع موسى إلى قومه قالوا صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبه قال أسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها } فكأنه مثله فقوله إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان أي لغة ولي قوة الألسن كلها أي اللغات كلها وأنا أقوى من ذلك فيه بيان أن الكلام يكون بقوة الله وقدرته وأنه يقدر أن يتكلم بكلام أقوى من كلام وهذا صريح في قول هؤلاء كما هو صريح في أنه كلمه بصوت وكان يمكنه أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت وبدون ذلك الصوت وكذلك قول أحمد وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة يا عيسى وقلنا فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } فإنه دليل على أنه سألهم عن تكليمه في المستقبل حيث أنكروا أن يكون منه تكليم في المستقبل ثم لما قالوا إنما يكون شيئا فيعبر عن الله قال قلنا قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تكلم ولا تحرك ولا تزول من مكان، فقد حكى عنهم منكرا عليهم نفيهم عن الله تعالى أن يتكلم أو يتحرك أو يزول من مكان إلى مكان ثم إنه قال فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق فقلنا كذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تبارك وتعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله تعالى قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله جل ثناؤه عن هذه الصفة بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق فعلم ولا نقول إن الله قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة فهذا من كلامه يبين أن أولئك الذين قالوا كلامه مخلوق أرادوا أنه لم يكن متكلما حتى خلق الكلام إذ هذا معنى قولهم قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق إذ المخلوق هو القائم ببعض الأجسام فعندهم تكلمه مثل بعض الأعيان المخلوقة ولهذا يمتنع عندهم أن يكون قبل ذلك متكلما، فرد أحمد هذا بأن هذا تشبيه بالإنسان الذي كان عاجزا عن التكلم لصغره حتى خلق الله له كلاما فمن مر عليه وقت وهو غير موصوف فيه بأنه متكلم إذا شاء مقتدر على الكلام كان ناقصا ففي ذلك كفر بجحد كمال الرب وصفته وتشبيهه له بالإنسان العاجز ولهذا قال بل نقول لم يزل متكلما إذا شاء فجمع بين الأمرين بين كونه لم يزل متكلما وبين كون ذلك متعلقا بمشيئته وأنه لا يجوز نفي التكلم عنه إلا أن يخلق التكلم كما لا يجوز نفي العلم والقدرة والنور وهذا هو الكمال في الكلام أن يتكلم المتكلم إذا شاء فأما العاجز عن الكلام فهو ناقص قبيح وأما الذي يلزمه الكلام ولا يتعلق بمشيئته واختياره فإنه يكون أيضا عاجزا ناقصا كالذي يصوت بغير اختياره كالأصوات الدائمة التي تلزم الجمادات بغير اختيارها مثل النواعير، ولما أقام الحجة بتكليم الله تعالى موسى وأنه تكلم ويتكلم وأن ذلك ممكن من غير حاجة إلى جوف وفم وشفتين ولسان إذا كان من المخلوقات ويتكلم وينطقها الله تعالى بدون حاجة إلى ذلك فالخالق سبحانه أولى بالغناء من المخلوق إذ كل ما ثبت للمخلوق من صفة كمال كالغناء فالله تعالى أولى به فالله أحق بالاستغناء عن ما استغنت عنه المخلوقات في كلامها، ذكر أن الجهمي لما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره قلنا غيره مخلوق، قال نعم قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون فأحمد رحمه الله تعالى لم ينكر عليه إطلاق الغير على القرآن حتى استفسره ما أراد به إذ لفظ الغير مجمل يراد به الذي يفارق الآخر، وهو قولهم إنه مخلوق، ويراد به ما لا يكون هو إياه، وهذا يبين أن إطلاق القول على الصفة بأنها هي الموصوف أو غيره، كلام مجمل يقبل بوجه ويرد بوجه، فمتى أريد بالغير المباينة للرب كان المعنى فاسدا وإنما ذكر هذا لأن أهل البدع، كما وصفهم به يتمسكون بالمتشابه من الكلام ولفظ الغير من المتشابه فإذا قال هو غيره فقيل له نعم، لأنه ليس هو إياه، قال وما كان غير الله فهو مخلوق وغير في هذا الموضع الثاني إنما يصح إذا أريد بها ما كان بائنا عن الله تعالى فهو مخلوق فيستعمل لفظ الغير في إحدى المقدمتين بمعنى وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر لما فيها من الإجمال والاشتراك فلهذا استفسره الإمام أحمد فلما فسر مراده قال فهذا هو القول الأول متى قلت هو مخلوق فقد قلت بأنه خلق شيئا فعبر عنه وأنه لا تكلم ولا يتكلم ثم احتج عليهم بما دل عليه القرآن من تكلمه في الآخرة وخطابه للرسل فلما أقروا بنفي التكلم عنه أزلا وأبدا ولم يفسروا ذلك إلا بخلق الكلام في غيره قال قد أعظمتم الفرية على الله حين زعمتم أن الله تعالى لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تكلم ولا تحرك ولا تزول من مكان إلى مكان، وهذه الحجة من باب قياس الأولى وهي من جنس الأمثال التي ضربها الله في كتابه فإن الله تعالى عاب الأصنام بأنها لا ترجع قولا وأنها لا تملك ضرا ولا نفعا وهذا من المعلوم ببداية العقول أن كون الشيء لا يقدر على التكلم صفة نقص وأن المتكلم أكمل من العاجز عن الكلام وكلما تنزه المخلوق عنه من صفة نقص فالله تعالى أحق بتنزيهه عنه وكلما ثبت لشيء من صفة كمال فالله تعالى أحق باتصافه بذلك فالله أحق بتنزيهه عن كونه لا يتكلم من الأحياء الآدميين وأحق بالكلام منهم وهو سبحانه منزه عن مماثلة الناقصين المعدوم والموات وأما قول أحمد فلما ظهرت عليه الحجة قال إنه قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق فقلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله جل ثناؤه عن هذه الصفة بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه قد كان ولا يتكلم حتى خلق ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة، فهذا يدل على أن هذا القول أراد به بأولا أنه قد يتكلم بعد أن لم يكن متكلما بكلام مخلوق يخلقه لنفسه في ذاته أو يخلقه قائما بنفسه ليكون هذا القول غير الأول الذي قال إنه يخلق شيئا فيعبر عن الله وقال إنكم شبهتموه بالأصنام التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان ثم انتقل الجهمي عن ذلك القول إلى هذا القول وقال أحمد في الجواب فقلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه إلى آخر كلامه ففي هذا كله دليل على أنه أنكر عليهم كونه كان لا يتكلم حتى خلق لنفسه كلاما في نفسه فصار حينئذ متكلما بعد أن لم يكن متكلما وبين أن ذلك يستلزم أنه كان ناقصا فصار كاملا لأن عدم التكلم صفة نقص وهذا هو الكفر فإن وصف الله بالنقص كفر وفيه تشبيه له بمن كان ناقصا عاجزا عن الكلام حتى خلق له الكلام، ولهذا قال: بل نقول إنه لم يزل متكلما إذا شاء فبين أن كونه موصوفا بالتكلم إذا شاء أمر لم يزل لا يجوز أن يكون ذلك محدثا لأنه يستلزم كماله بعد نقصه وفيه تشبيه له بالآدميين كما أن منع تكلمه بالكلية تشبيه له بالجمادات من الأصنام التي تعبد من دون الله تعالى وغيره ثم إنه بين أن ثبوت هذه الصفة له فيما لم يزل كثبوت العلم والقدرة والنور والعظمة لم يزل موصوفا بها لا يقال إنه كان بدون هذه الصفات حتى أحدثها لأن ذلك يستلزم أنه كان ناقصا فكمل بعد نقصه سبحانه وتعالى عن ذلك، ولهذا كان كلام أحمد وغيره من الأئمة مع الجهمية في هذه المسألة فيه بيان الفصل بين كلام الله تعالى وقوله وبين خلقه وأن هذا ليس هذا ويذكرون هذا الفرق في المواضع التي أخبر الله ورسوله بأنه تكلم بالوحي وأنه إذا تكلم بالوحي كان هذا من أعظم الحجج لهم فإن من يقول القرآن مخلوق يقول إن الله خلقه منفصلا عنه كسائر المخلوقات وليس يعود إليه من خلقه حكم من الأحكام أصلا بل ذلك بمنزلة خلق السماء والأرض وكلام الذراع المسموم ونطق الأيدي والأرجل وغير ذلك مما خلقه الله تعالى من الموصوفات والأفعال والصفات ومما يعلم بالاضطرار أن ما كان كذلك فلا بد أن يصفه الله تعالى بالخلق كما وصف غيره من المخلوقات ولا يجوز أيضا أن يضاف إلى الله تعالى إضافة اختصاص يتميز بها عن غيره من المخلوقات إذ لا اختصاص له أصلا فلا يكون كلاما لله تعالى ولا قولا أصلا والقرآن كله يثبت له صفة الاختصاص بالقول والكلام ولم يثبت قط له الصفة المشتركة بينه وبين سائر المخلوقات من صفة الخلق فالقرآن دل على الفرق بين القول والمقول وبين المخلوق والمفعول، قال الإمام أحمد وقد ذكر الله تعالى كلامه في غير موضع من القرآن فسماه كلاما ولم يسمه خلقا قال: { فتلقى آدم من ربه كلمات }، وقال: { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } وقال: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال: { اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } وقال: { وكلم الله موسى تكليما } وقال: { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته } فأخبر الله عز وجل أن النبي ﷺ كان يؤمن بالله وبكلام الله وقال: { يريدون أن يبدلوا كلام الله }، وقال: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي }، وقال: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ولم يقل حتى يسمع خلق الله فهذا المنصوص بلسان عربي مبين لا يحتاج إلى تفسير هو بين والحمد لله، قلت وقد تضمن هذا أن الله إذا سماه كلاما في مواضع كثيرة ولم يسمه خلقا ومن المعلوم المستقر في الفطر أن الكلام هو ما تكلم به المتكلم لا يكون منفصلا ولهذا قال فهذا المنصوص بلسان عربي مبين لا يحتاج إلى تفسير هو بين يعني أن بيان الله مما ذكره من كلامه وأن كلامه هو بين لكل أحد ليس من الخفي ولا من المتشابه الذي يحتاج إلى تفسير الجهمي الذي يجعله مخلوقا منفصلا عنه كسائر المخلوقات، حرف هذا الكلم عن مواضعه وألحد في آيات الله تحريفا وإلحادا يعلمه كل ذي فطرة سليمة ولهذا تجد ذوي الفطر السليمة إذا ذكر لهم هذا المذهب يقولون هذا يقول إن القرآن ليس كلام الله حتى إنهم يقولون ذلك عمن يقول حروف القرآن مخلوقة هذا يقول القرآن ليس كلام الله لا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق لما استقر في فطرهم أن ما يكون مخلوقا منفصلا عن الله لا يكون كلام الله فمن قال إن الله لم يتكلم بحروف القرآن بل جعله خالقا لها في جسم من الأجسام فهو عندهم يقول إن القرآن ليس بكلام الله سواء جعل تلك الحروف هي القرآن أو ادعى أن ثم معنى قديما هو كلام الله دون سائر الحروف فإن المستقر في فطر الناس الذي تلقته الأمة خلفا عن سلف عن نبيها أن القرآن جميعه كلام الله وكلهم فهم هذا المعنى المنصوص بلسان عربي مبين كما ذكر أحمد أنه تكلم به لا أنه خلقه في بعض المخلوقات، ثم ذكر أحمد ما أمر الله به من القول وما نهى عنه من القول وأنه لم يذكر في المأمور به قولوا عن القرآن إنه مخلوق ولا في المنهي عنه لا تقولوا إنه كلامي قال أحمد وقد سألت الجهمية أليس إنما قال الله جل ثناؤه: { قولوا آمنا بالله } { وقولوا للناس حسنا } { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } { وقولوا قولا سديدا } { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } وقال: { وقل الحق من ربكم } وقال: { وقل سلام } ولم نسمع الله يقول قولوا إن كلامي خلق وقال: { ولا تقولوا ثلاثة انتهوا } وقال: { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا }، وقال: { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } وقال: { ولا تقف ما ليس لك به علم } { ولا تدع مع الله إلها آخر } وقال: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق }، { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } { ولا تمش في الأرض مرحا } ومثله في القرآن كثير، فهذا ما نهى الله عنه ولم يقل لنا لا تقولوا إن القرآن كلامي، قلت: وهذه حجة قوية وذلك أن القرآن لو كان كما يزعمه الجهمي مخلوقا منفصلا كالسماء والأرض وكلام الذارع والأيدي والأرجل لكان معرفة ذلك واجبا لا سيما وعند الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن معرفة ذلك من أصول الإيمان الذي لا يتم إلا به وقد يقولون إن معرفة ذلك واجبة قبل معرفة الرسالة وأن معرفة الرسالة لا تتم إلا بتنزيه الله عن كلام يقوم به لأن الكلام لا يقوم إلا بجسم متحيز ونفي ذلك عندهم واجب قبل الإقرار بالرسول فإن الجسم يستلزم أن يكون محدثا مخلوقا يجوز عليه الحاجة وذلك يمنع ما بنوا عليه العلم بصدق الرسول وقد صرحوا بذلك في كتبهم فإذا كان الأمر كذلك كان بيان ذلك من الواجبات فإذا لم يأمر الله به قط مع حاجة المكلفين إليه ومع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز علم أنه ليس مأمورا به ولا واجبا وذلك يبطل قولهم وأيضا فلم ينه العباد عن أن يسموه كلامه مع العلم بأن هذه التسمية ظاهرة في أنه هو المتكلم به ليس هو الذي خلقه في جسم غيره والجهمي وإن زعم أن الكلام يقال لمن فعله بغيره كما مثله من تكلم الجني على لسان المصروع فهو لا ينازع في أن غالب الناس لا يفهمون من الكلام إلا ما يقوم بالمتكلم بل لا يعرفون كلاما منفصلا عن متكلمه قط وأمر الجني فيه من الإشكال والنزاع بل بطلان قول المستدل به مما يمنع أن يكون ذلك ظاهرا لعموم الناس، وإذا كان كذلك وكان الواجب على قول الجهمي ما نهى الناس عن أن يقولوا القرآن كلام الله حتى لا يقولوا بالباطل وأما البيان بأن قولهم كلام الله أن الله خلق ذلك الكلام في جسم غيره كما ذكره الجهمية من أنه خلق شيئا فعبر عنه فلما لم يؤمروا بهذا ولم ينهوا عن ذلك مع الحاجة إلى هذا الأمر والنهي على زعم الجهمي علم أن قوله المستلزم لازم للأمر والنهي الذي لم يقع من الشارع باطل ولهذا كان أحمد يقول لهم فيما يقوله في المناظرة الخطابية كيف أقول ما لم يقل أي هذا القول لم يقله أحد قبلنا ولو كان من الدين لكان قوله فعدم قول أولئك له يدل على أنه ليس من الدين وكذلك احتجاج أبي عبد الرحمن الأدرمي وهو الشيخ الأدنى الذي قدمه ابن أبي داود على الواثق فناظره أمامه كما حكاه ابنه المهتدي وقطعه الأدنى في المناظرة والقصة مشهورة وقال لابن أبي داود يا أحمد أرأيت مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها هل هي داخلة في عقد الدين لا يتم الدين إلا بها وهل علمها رسول الله وهل أمر بها وهل وسعه ووسع خلفاءه السكوت عنها فكانت هذه الحجج كلها تبين أن هذا القول لو كان من الدين لوجب بيانه وعدم ذلك مع قيام المقتضى له دليل على أنه ليس من الدين وإذا لم يكن من الدين كان باطلا لأن الدين لا بد فيه من أحد الأمرين إما أن يكون الله تعالى تكلم بالقرآن وبسائر كلامه وإما أن يكون خلقه في غيره لا يحتمل الأمر وجها ثالثا فإذا بطل أن يكون خلقه في غيره من الدين تعين أن يكون القول الآخر من الدين وهو أنه هو المتكلم به فمنه بدأ ومنه يعود ومنه حق القول ومن لدنه نزل ولو كان مخلوقا في جسم غيره لكان بمثابة ما يخلقه في الأيدي والأرجل والذراع والصخر وغير ذلك من الأجسام فإنه وإن كان منه أي من خلقه فليس من لدنه ولا هو قولا منه ولا بدأ منه، قال الإمام أحمد وقد سمت الملائكة كلام الله كلاما ولم تسمه خلقا في قوله تعالى { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق }، وذلك أن الملائكة لم يسمعوا صوت الوحي بين عيسى ومحمد ﷺ وبينها ستمائة سنة فلما أوحى الله جل ثناؤه إلى محمد ﷺ سمع الملائكة صوت الوحي كوقع الحديد على الصفاء وظنوا أنه أمر من أمر الساعة ففزعوا وخروا لوجوههم سجدا فذلك قوله عز وجل { حتى إذا فزع عن قلوبهم } يقول حتى إذا تجلى الفزع عن قلوبهم رفع الملائكة رءوسهم فسأل بعضهم بعضا فقالوا ماذا قال ربكم ولم يقولوا ماذا خلق ربكم فهذا بيان لمن أراد الله هداه، قلت: احتج أحمد بما سمعته الملائكة من الوحي إذا تكلم الله به كما قد جاءت بذلك الآثار المتعددة وسمعوا صوت الوحي فقالوا ماذا قال ربكم ولم يقولوا ماذا خلق ربكم فبين أن تكلم الله بالوحي الذي سمعوا صوته هو قوله ليس هو خلقه ومثل هذه العبارة ذكر البخاري الإمام صاحب الصحيح إما تلقيا له عن أحمد أو غيره أو موافقة اتفاقية وقد ذكر ذلك في كتاب الصحيح وفي كتاب خلق الأفعال فقال في الصحيح في آخره في كتاب الرد على الجهمية باب قول الله { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير }، ولم يقل ماذا خلق لكم وقال { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }، قال وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق من ربكم ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق، قال: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنس سمعت النبي ﷺ { يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان } ثم قال حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي ﷺ قال { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان } قال وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا فإن مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، وقد بسطت القول في جنس هذه المسائل ببيان ما كان عليه سلف الأمة الذي اتفق عليه العقل والسمع وبيان ما يدخل في هذا الباب من الاشتراك والاشتباه والغلط في مواضع متعددة ولكن نذكر منها جملة مختصرة بحسب حال السائل بعد الجواب بالجمل الثابتة بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله والتفصيل المختصر أن نقول: من اعتقد أن المداد الذي في المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية فهو ضال مخطئ مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأولين وسائر علماء الإسلام ولم يقل أحد قط من علماء المسلمين أن ذلك قديم

لا من أصحاب الإمام أحمد ولا من غيرهم ومن نقل قدم ذلك عن أحد من علماء أصحاب الإمام أحمد فهو مخطئ في النقل أو متعمد للكذب بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه تبديع من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق كما جهموا من قال اللفظ بالقرآن مخلوق، وقد صنف أبو بكر المروذي أخص أصحاب الإمام أحمد به في ذلك رسالة كبيرة مبسوطة ونقلها عنه أبو بكر الخلال في كتاب السنة الذي جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من أئمة المسلمين في أبواب الاعتقاد وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القول بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق معارضة لمن قال لفظي بالقرآن مخلوق فبلغ ذلك الإمام أحمد فأنكر ذلك إنكارا شديدا وبدع من قاله وأخبر أن أحدا من العلماء لم يقل ذلك فكيف بمن يزعم أن صوت العبد قديم، وأقبح من ذلك من يحكي عن بعض العلماء أن المداد الذي في المصحف قديم وجميع أئمة أصحاب الإمام وغيرهم أنكروا ذلك وما علمت أن عالما يقول ذلك إلا ما يبلغنا عن بعض الجهال وقد ميز الله في كتابه بين الكلام والمداد فقال تعالى: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } فهذا خطأ من هذا الجانب وكذلك من زعم أن القرآن محفوظ في الصدور كما أن الله معلوم بالقلوب وأنه متلو بالألسن كما أن الله مذكور بالألسن وأنه مكتوب في المصحف كما أن الله مكتوب وجعل ثبوت القرآن في الصدور والألسنة والمصاحف مثل ثبوت ذات الله تعالى في هذه المواضع فهذا أيضا مخطئ في ذلك فإن الفرق بين ثبوت الأعيان في المصحف وبين ثبوت الكلام فيها بين واضح فإن الموجودات لها أربع مراتب: مرتبة في الأعيان ومرتبة في الأذهان ومرتبة في اللسان ومرتبة في البنان فالعلم يطابق العين واللفظ يطابق العلم والخط يطابق اللفظ، فإذا قيل إن العين في الكتاب كما في قوله { وكل شيء فعلوه في الزبر } فقد علم أن الذي في الزبر إنما هو الخط المطابق للعلم فبين الأعيان وبين المصحف مرتبتان وهي اللفظ والخط وأما الكلام نفسه فليس بينه وبين الصحيفة مرتبة بل نفس الكلام يجعل في الكتاب وإن كان بين الحرف الملفوظ والحرف المكتوب فرق من وجه آخر إلا إذا أريد أن الذي في المصحف هو ذكره والخبر عنه مثل قوله تعالى { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك } إلى قوله: { وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } فالذي في زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد ﷺ فإن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله ﷺ ولكن في زبر الأولين ذكر القرآن وخبره كما فيها ذكر محمد ﷺ وخبره كما أن أفعال العباد في الزبر كما قال تعالى: { وكل شيء فعلوه في الزبر } فيجب الفرق بين كون هذه الأشياء في الزبر وبين كون الكلام نفسه في الزبر كما قال تعالى: { إنه لقرءان كريم في كتاب مكنون } وقال تعالى: { يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة } فمن قال إن المداد قديم فقد أخطأ، ومن قال ليس في المصحف كلام الله وإنما فيه المداد الذي هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ بل القرآن في المصحف كما أن سائر الكلام في الورق كما عليه الأمة مجمعة وكما هو في فطر المسلمين فإن كل مرتبة لها حكم يخصها وليس وجود الكلام في الكتاب كوجود الصفة بالموصوف مثل وجود العلم والحياة في محلهما حتى يقال إن صفة الله حلت بغيره أو فارقته ولا وجوده فيه كالدليل المحض مثل وجود العالم الدال على الباري تعالى حتى يقال ليس فيه إلا ما هو علامة على كلام الله عز وجل بل هو قسم آخر، ومن لم يعط كل مرتبة مما يستعمل فيها أداة الظرف حقها فيفرق بين وجود الجسم في الحيز وفي المكان ووجود العرض للجسم ووجود الصورة بالمرآة ويفرق بين رؤية الشيء بالعين يقظة وبين رؤيته بالقلب يقظة ومناما ونحو ذلك وإلا اضطربت عليه الأمور وكذلك سؤال السائل عما في المصحف هل هو حادث أو قديم سؤال مجمل فإن لفظ القديم أولا ليس مأثورا عن السلف وإنما الذي اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق وهو كلام الله حيث تلي وحيث كتب وهو قرآن واحد وكلام واحد وإن تنوعت الصور التي يتلى فيها ويكتب من أصوات العباد ومدادهم الكلام كلام من قاله مبتدئا لا كلام من بلغه مؤديا فإذا سمعنا محدثا يحدث بقول النبي ﷺ { إنما الأعمال بالنيات } قلنا هذا كلام رسول الله ﷺ لفظه ومعناه مع علمنا أن الصوت صوت المبلغ لا صوت رسول الله ﷺ وهكذا كل من بلغ كلام غيره من نظم ونثر، ونحن إذا قلنا هذا كلام الله لما نسمعه من القارئ ونرى في المصحف فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو مع قطع النظر عما اقترن به البلاغ من صوت المبلغ ومداد الكاتب فمن قال صوت القارئ ومداد الكاتب كلام الله الذي ليس بمخلوق فقد أخطأ وهذا الفرق الذي بينه الإمام أحمد لمن سأله، وقد قرأ { قل هو الله أحد } فقال هذا كلام الله غير مخلوق فقال نعم فنقل السائل عنه أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فدعا به وزبره زبرا شديدا وطلب عقوبته وتعزيره وقال أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق فقال لا ولكن قلت لي لما قرأت { قل هو الله أحد } هذا كلام الله غير مخلوق قال فلم تنقل عني ما لم أقله ؟ فبين الإمام أحمد أن القائل إذا قال لما سمعه من المبلغين المؤدين هذا كلام الله فالإشارة إلى حقيقته التي تكلم الله بها وإن كنا إنما سمعناها ببلاغ المبلغ وحركته وصوته فإذا أشار إلى شيء من صفات المخلوق لفظه أو صوته أو فعله وقال هذا غير مخلوق فقد ضل وأخطأ فالواجب أن يقال القرآن كلام الله غير مخلوق فالقرآن في المصاحف كما أن سائر الكلام في المصحف ولا يقال إن شيئا من المداد والورق غير مخلوق بل كل ورق ومداد في العالم فهو مخلوق ويقال أيضا القرآن الذي في المصحف كلام الله غير مخلوق والقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق .

ويتبين هذا بالجواب عن المسألة الثانية وهو قوله إن كلام الله هل هو حرف وصوت أم لا فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفيا وإثباتا خطأ وهي من البدع المولدة الحادثة بعد المائة الثالثة، لما قال قوم من متكلمة الصفاتية إن كلام الله الذي أنزله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والقرآن والذي لم ينزله والكلمات التي كون بها الكائنات والكلمات المشتملة على أمره وخبره ليس إلا مجرد معنى واحد هو صفة واحدة، قامت بالله إن عبر عنها بالعبرانية كانت التوراة وإن عبر عنها بالعربية كان القرآن وإن الأمر والنهي والخبر صفات لها لا أقسام لها وأن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله ولم يتكلم بها وليست من كلامه إذ كلامه لا يكون بحرف وصوت، عارضهم آخرون من المثبتة فقالوا: بل القرآن هو الحروف والأصوات وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد، وبالأصوات أصوات العباد وهذا لم يقله عالم، والصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم اتباع النصوص الثابتة ؟ وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاما لغيره ولكن أنزله على رسله وليس القرآن اسما لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد بل مجموعهما، وأن الله تعالى متكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد لا صوت القارئ ولا غيره، وأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه ولا صوت الرب يشبه صوت العبد فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته، وقد كتبت في الجواب المبسوط المستوفي مراتب مذاهب أهل الأرض في ذلك، وأن المتفلسفة تزعم أن كلام الله ليس له وجود إلا في نفوس الأنبياء تفاض عليهم المعاني من العقل الفعال فيصير في نفوسهم حروفا، كما أن ملائكة الله عندهم ما يحدث في نفوس الأنبياء من الصور النورانية، وهذا من جنس قول فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة: ( إن هذا إلا قول البشر )، فحقيقة قولهم إن القرآن تصنيف الرسول الكريم لكنه كلام شريف صادر عن نفس صافية، وهؤلاء هم الصابئة فتقربت منهم الجهمية فقالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قام به كلام وإنما كلامه ما يخلقه في الهواء أو غيره، فأخذ ببعض ذلك قوم من متكلمة الصفاتية فقالوا: بل نصفه وهو المعنى كلام الله ونصفه وهو الحروف ليس كلام الله بل هو خلق من خلقه وقد تنازع الصفاتية القائلون بأن القرآن غير مخلوق هل يقال إنه قديم لم يزل ولم يتعلق بمشيئته، أم يقال يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء على قولين مشهورين في ذلك ذكرهما الحارث المحاسبي عن أهل السنة وذكرهما أبو بكر عبد العزيز عن أهل السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، وكذلك النزاع بين أهل الحديث الصوفية وفرق الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية بل وبين فرق المتكلمين والفلاسفة في جنس هذا الباب وليس هذا موضعا لبسط ذلك هذا لفظ الجواب في الفتيا المصرية، قلت: وأما سؤال السائل عن قوله عز وجل: { الرحمن على العرش استوى } فهو حق كما أخبر الله به وأهل السنة متفقون على ما قاله ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس وغيرهما من الأئمة إن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيف بدعة، فمن زعم أن الله مفتقر إلى عرش يقله أو أنه محصور في سماء تظله، أو أنه محصور في شيء من مخلوقاته، أو أنه يحيط به جهة من جهات مصنوعاته فهو مخطئ ضال، ومن قال إنه ليس على العرش رب ولا فوق السموات خالق بل ما هنالك إلا العدم المحض والنفي الصرف فهو معطل جاحد لرب العالمين مضاه لفرعون الذي قال { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } بل أهل السنة والحديث وسلف الأمة متفقون على أنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمة السنة بل على ذلك جميع المؤمنين من الأولين والآخرين وأهل السنة، وسلف الأمة متفقون على أن من تأول استوى بمعنى استولى أو بمعنى آخر ينفي أن يكون الله فوق سمواته فهو جهمي ضال، قلت: وأما سؤاله عن إجراء القرآن على ظاهره فإنه إذا آمن بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تكييف فقد اتبع سبيل المؤمنين، ولفظ الظاهر في عرف المستأخرين قد صار فيه اشتراك فإن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو من خصائص المخلوقين حتى يشبه الله بخلقه فهذا ضلال، بل يجب القطع بأن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء يعني أن موعود الله في الجنة من الذهب والحرير والخمر واللبن تخالف حقائقه حقائق هذه الأمور الموجودة في الدنيا فالله تعالى أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما لا يدركه العباد ليس حقيقته كحقيقة شيء منها وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو الظاهر في عرف سلف الأمة بحيث لا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يلحد في أسماء الله تعالى ولا يفسر القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة، بل يجري ذلك على ما اقتضته النصوص وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة، فهذا مصيب في ذلك وهو الحق وهذا جملة لا يسع هذا الموضع تفصيلها، وقلت في جواب الفتيا الدمشقية وقد سئلت فيها عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن حرف وصوت، وأن (الرحمن على العرش استوى } على ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس من ظاهره، هل يحنث هذا أم لا، فقلت في الجواب إن كان مقصود هذا الحالف أن أصوات العباد بالقرآن والمداد الذي يكتب به حروف القرآن قديمة أزلية، فقد حنث في يمينه، وما علمت أحدا من الناس يقول ذلك، وإن كان قد يكره تجريد الكلام في المداد الذي في المصحف وفي صوت العبد لئلا يتذرع بذلك إلى القول بخلق القرآن، ومن الناس من تكلم في صوت العبد وإن كنا نعلم أن الذي نقرؤه هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، وأن الذي بين اللوحين هو كلام الله حقيقة، ولكن ما علمت أحدا حكم على مجموع المداد المكتوب به وصوت العبد بالقرآن بأنه قديم، ولكن الذين في قلوبهم زيغ من أهل الأهواء لا يفهمون من كلام الله وكلام رسوله وكلام السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان في باب صفات الله تعالى إلا المعاني التي تليق بالخلق لا بالخالق، ثم يريدون تحريف الكلم عن مواضعه في كلام الله وكلام رسوله إذا وجدوا ذلك فيهما، وإن وجدوه في كلام التابعين للسلف افتروا الكذب عليهم ونقلوا عنهم بحسب الفهم الباطل الذي فهموه، أو زادوا عليهم في الألفاظ أو غيروها قدرا ووصفا،

كما نسمع من ألسنتهم ونرى في كتبهم، ثم بعض من يحسن الظن بهؤلاء النقلة قد يحكي هذا المذهب عمن حكوه عنهم ويذم ويحنث مع من لا وجود له وذمه واقع على موصوف غير موجود، نظير ما وصف الله تعالى عن رسوله - ﷺ حيث قال: { ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش يشتمون مذمما وأنا محمد ﷺ }، وهذا نظير ما تحكي الرافضة عن أهل السنة من أهل الحديث والفقه والعبادة والمعرفة أنهم ناصبة وتحكي القدرية عنهم: أنهم مجبرة، وتحكي الجهمية عنهم أنهم مشبهة وتحكي من خالف الحديث ونابذ أهله عنهم: أنهم نابتة وحشوية وغثا وغثر، إلى غير ذلك من الأسماء المكذوبة، ومن تأمل كتب المتكلمين الذين يخالفون هذا القول وجدهم لا يبحثون في الغالب أو في الجميع إلا مع هذا القول الذي ما علمنا لقائله وجودا وإن كان مقصود الحالف أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على محمد - ﷺ هو هذه المائة والأربع عشرة سورة حروفها ومعانيها، وأن القرآن ليس هو الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف، بل هو مجموع الحروف والمعاني، وأن تلاوتنا للحروف وتصورنا للمعاني لا يخرج المعاني، والحروف عن أن تكون موجودة قبل وجودنا، فهذا مذهب المسلمين ولا حنث عليه، وكذلك إن كان مقصوده أن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم هو كلام الله سبحانه حقيقة لا مجازا وأنه لا يجوز نفي كونه كلام الله إذ الكلام يضاف حقيقة لمن قاله متصفا به مبتدأ وإن كان قد قاله غيره مبلغا مؤديا وهو كلام لمن اتصف به مبتدأ لا لمن بلغه مرويا فإنا باضطرار نعلم من دين رسول الله ﷺ - ودين سلف الأمة أن قائلا لو قال إن هذه الحروف حروف القرآن ما هي من القرآن وإنما القرآن اسم لمجرد المعاني لأنكروا ذلك عليه غاية الإنكار، وكان عندهم بمنزلة من يقول إن جسد رسول الله ﷺ - ما هو داخل في اسم رسول الله ﷺ وإنما هو اسم للروح دون الجسد، أو يقول إن الصلاة ليست اسما لحركات القلب والبدن وإنما هي اسم لأعمال القلب فقط، ولذلك ذكر الشهرستاني، وهو من أخبر الناس بالملل والنحل والمقالات في نهاية الأقدام، أن القول بحدوث حروف القرآن قول محدث، وأن مذهب سلف الأمة نفي الخلق عنها، وهو من أعيان الطائفة القائلة بحدوثها ولا يحسب اللبيب أن في العقل وفي السمع ما يخالف ذلك، بل من تبحر في المعقولات ووقف على أسرارها علم قطعا أن ليس في العقل الصريح الذي لا يكذب قط ما يخالف مذهب السلف وأهل الحديث، بل يخالف ما قد يتوهمه المنازعون لهم بظلمة قلوبهم وأهواء نفوسهم أو ما قد يفترونه عليهم لعدم التقوى وقلة الدين، ولو فرض على سبيل التقدير أن العقل الصريح الذي لا يكذب يناقض بعض الأخبار للزم أحد الأمرين إما تكذيب الناقل أو تأويل المنقول، لكن ولله الحمد هذا لم يقع ولا ينبغي أن يقع قط فإن حفظ الله تعالى لما أنزله من الكتاب والحكمة يأبى ذلك، نعم يوجد مثل هذا في أحاديث وضعتها الزنادقة ليشينوا بها أهل الحديث كحديث عرق الخيل والجمل الأورق وغير ذلك مما يعلم العلماء بالحديث أنه كذب، ومما يوضح هذا ما قد استفاض عن علماء الإسلام مثل الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والحميدي وغيرهم من إنكارهم على من زعم أن لفظ القرآن مخلوق، والآثار بذلك مشهورة في كتاب ابن أبي حاتم وكتاب اللالكائي تلميذ أبي حامد الإسفراييني وكتاب الطبراني وكتاب شيخ الإسلام وغيرهم ممن يطول ذكره وليس هذا موضع التقرير بالأدلة والأسئلة والأجوبة وكذلك إن كان مقصود الحالف بذكر الصوت التصديق بالآثار عن النبي ﷺ وصحابته وتابعيهم التي وافقت القرآن وتلقاها السلف بالقبول مثل ما أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ: { يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار }، وما استشهد به البخاري أيضا في هذا الباب من: { أن الله ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب } ومثل: { إن الله إذا تكلم بالوحي القرآن أو غيره سمع أهل السموات صوته }، وفي قول ابن عباس سمعوا صوت الجبار وأن الله كلم موسى بصوت إلى غير ذلك من الآثار التي قالها إما ذاكرا وإما آثرا مثل عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن أنس وجابر بن عبد الله ومسروق أحد أعيان كبار التابعين وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء السبعة، وعكرمة مولى ابن عباس، والزهري وابن المبارك وأحمد بن حنبل ومن لا يحصى كثرة ولا ينقل عن أحد من علماء الإسلام قبل المائة الثانية أنه أنكر ذلك ولا قال خلافه، بل كانت الآثار مشهورة بينهم متداولة في كل عصر ومصر، بل أنكر ذلك شخص في زمن الإمام أحمد وهو أول الأزمنة التي نبغت فيها البدع بإنكار ذلك على الخصوص، وإلا فقبله قد نبغ من أنكر ذلك وغيره، فهجر أهل الإسلام من أنكر ذلك وصار بين المسلمين كالجمل الأجرب، فإن أراد الحالف ما هو المنقول عن السلف نقلا صحيحا فلا حنث عليه، قلت: وأما حلفه أن الرحمن على العرش استوى، على ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس، من ظاهره فلفظة الظاهر قد صارت مشتركة فإن الظاهر في الفطر السليمة واللسان العربي والدين القيم ولسان السلف غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين، فإن أراد الحالف بالظاهر شيئا من المعاني التي هي من خصائص المحدثين، أو ما يقتضي نوع نقص بأن يتوهم أن الاستواء مثل استواء الأجسام على الأجسام، أو كاستواء الأرواح إن كانت عنده لا تدخل في أمم الأجسام فقد حنث في ذلك وكذب، وما أعلم أحدا يقول ذلك إلا ما يروى عن مثل داود الجواربي البصري ومقاتل بن سليمان الخراساني وهشام بن الحكم الرافضي ونحوهم إن صح النقل عنهم، فإنه يجب القطع بأن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في نفسه ولا في صفاته ولا في أفعاله وأن مباينته للمخلوقين وتنزهه عن مشاركتهم أكبر وأعظم مما يعرفه العارفون من خليقته ويصفه الواصفون، وأن كل صفة تستلزم حدوثه أو نقصا غير الحدوث فيجب نفيها عنه، ومن حكى عن أحد من أهل السنة، أنه قاس صفاته بصفات خلقه فهو إما كاذب أو مخطئ، وإن أراد الحالف بالظاهر ما هو الظاهر في فطر المسلمين قبل ظهور الأهواء وتشتت الآراء، وهو الظاهر الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى كما أن هذا هو الظاهر في سائر ما يطلق عليه سبحانه من أسمائه وصفاته، كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والمحبة والغضب والرضى، و { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } و { ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا } إلى غير ذلك، فإن ظاهر هذه الألفاظ إذا أطلقت علينا أن تكون أعراضا وأجساما لأن ذواتنا كذلك وليس ظاهرها إذا أطلقت على الله سبحانه وتعالى إلا ما يليق بجلاله ويناسب نفسه، فكما أن لفظ ذات ووجود وحقيقة يطلق على الله وعلى عباده وهو على ظاهره في الإطلاقين مع القطع بأنه ليس ظاهره في حق الله تعالى مساويا لظاهره في حقنا ولا مشاركا له فيما يوجب نقصا وحدوثا سواء جعلت هذه الألفاظ متواطئة أو مشتركة أو مشككة، كذلك قوله: { أنزله بعلمه } و { إن الله هو الرزاق ذو القوة } { لما خلقت بيدي } { الرحمن على العرش استوى } الباب في الجميع واحد، وكان قدماء الجهمية ينكرون جميع الصفات التي هي فينا أعراض كالعلم والقدرة وأجسام كالوجه واليد، وحدثاؤهم أقروا بكثير من الصفات كالعلم والقدرة وأنكروا بعضها والصفات التي هي فينا أجسام هي فينا أعراض، ومنهم من أقر ببعض الصفات التي هي فينا أجسام كاليد وأما السلفية فعلى ما حكاه الخطابي وأبو بكر الخطيب وغيرهما قالوا: مذهب السلف إجراء آيات الصفات وأحاديث الصفات على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها فلا نقول إن معنى اليد القدرة ولا إن معنى السمع العلم وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فقد أخبرك الخطابي والخطيب وهما إمامان من أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - متفق على علمهما بالنقل وعلم الخطابي بالمعاني أن مذهب السلف إجراؤها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها، والله تعالى يعلم أني قد بالغت في البحث عن مذاهب السلف فما علمت أحدا منهم خالف ذلك، ومن قال من المتأخرين إن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد، فيجب لمن أحسن به الظن أن يعرف أن معنى قوله الظاهر الذي يليق بالمخلوق لا بالخالق ولا شك أن هذا غير مراد، ومن قال إنه مراد فهو بعد قيام الحجة عليه كافر، فهنا بحثان لفظي ومعنوي أما المعنوي فالأقسام ثلاثة في قوله { الرحمن على العرش استوى } ونحوه أن يقال استواء كاستواء مخلوق أو يفسر باستواء يستلزم حدوثا أو نقصا فهذا هو الذي يحكى عن الضلال المشبهة والمجسمة وهو باطل قطعا بالقرآن وبالعقل وإما أن يقال ما ثم استواء حقيقي أصلا ولا على العرش إله ولا فوق السموات رب فهذا هو مذهب الجهمية الضالة المعطلة وهو باطل قطعا بما علم بالاضطرار من دين الإسلام لمن أمعن النظر في العلوم النبوية وبما فطر الله عليه خليقته من الإقرار بأنه فوق خلقه كإقرارهم بأنه ربهم، قال ابن قتيبة: ما زالت الأمم عربها وعجمها في جاهليتها وإسلامها معترفة بأن الله في السماء، أي على السماء أو يقال بل استوى سبحانه على العرش على الوجه الذي يليق بجلاله ويناسب كبرياءه وأنه فوق سمواته وأنه على عرشه بائن من خلقه مع أنه سبحانه هو حامل للعرش ولحملة العرش، وأن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، كما قالت أم سلمة وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس، فهذا مذهب المسلمين وهو الظاهر من لفظ استوى عند عامة المسلمين الباقين على الفطرة السالمة التي لم تنحرف إلى تعطيل ولا إلى تمثيل، وهذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطي المتفق على إمامته وجلالته وفضله، وهو من أتباع التابعين حيث قال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي، فإن الذي أقره الله تعالى في فطر عباده وجبلهم عليه أن ربهم فوق سمواته كما أنشد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه النبي ﷺ فأقره النبي ﷺ: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وقد قال عبد الله بن المبارك الذي أجمعت فرق الأمة على إمامته وجلالته حتى قيل إنه أمير المؤمنين في كل شيء، وقيل ما أخرجت خراسان مثل ابن المبارك وقد أخذ عن عامة علماء وقته مثل الثوري ومالك وأبي حنيفة والأوزاعي وطبقتهم حين قيل له بماذا تعرف ربنا، قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب إمام الأئمة وهو ممن يفرح أصحاب الشافعي بما ينصره من مذهبه، ويكاد يقال ليس فيهم أعلم بذلك منه، من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الملة ولا أهل الذمة، وكان ماله فيئا، وقال مالك بن أنس الإمام فيما رواه عنه عبد الله بن نافع وهو مشهور عنه: الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان، وقال الإمام أحمد بن حنبل مثل ما قال مالك وما قال ابن المبارك، والآثار عن النبي ﷺ وأصحابه وسائر علماء الأمة بذلك متوافرة عند من تتبعها، قد جمع العلماء فيها مصنفات صغارا وكبارا، ومن تتبع الآثار علم أيضا قطعا أنه لا يمكن أن ينقل عن أحد منهم حرف واحد يناقض ذلك، بل كلهم مجمعون على كلمة واحدة وعقيدة واحدة يصدق بعضهم بعضا، وإن كان بعضهم أعلم من بعض كما أنهم متفقون على الإقرار بنبوة محمد ﷺ وإن كان فيهم من هو أعلم بخصائص النبوة ومزاياها وحقوقها وموجباتها وحقيقتها وصفاتها ثم ليس أحد منهم قال يوما من الدهر ظاهر هذا غير مراد، ولا قال هذه الآية أو هذا الحديث مصروف عن ظاهره، مع أنهم قد قالوا مثل ذلك في آيات الأحكام المصروفة عن عمومها وظهورها، وتكلموا فيما يستشكل مما قد يتوهم أنه متناقض، وهذا مشهور لمن تأمله وهذه الصفات أطلقوها بسلامة وطهارة وصفاء لم يشربوه بكدر ولا غش، ولو لم يكن هذا هو الظاهر عند المسلمين لكان رسول الله ﷺ - ثم سلف الأمة قالوا للأمة الظاهر الذي تفهمونه غير مراد، أو لكان أحد من المسلمين استشكل هذه الآية وغيرها، فإن كان بعض المتأخرين قد زاغ قلبه حتى صار يظهر له من الآية معنى فاسد مما يقتضي حدوثا أو نقصا، فلا شك أن الظاهر لهذا الواقع غير مراد، وإذا رأينا رجلا يفهم من الآية هذا الظاهر الفاسد قررنا عنده أولا أن هذا المعنى ليس مفهوما من ظاهر الآية، ثم قررنا عنده ثانيا أنه في نفسه معنى فاسد حتى لو فرض أنه ظاهر الآية، وإن كان هذا فرض ما لا حقيقة له لوجب صرف الآية عن ظاهرها كسائر الظواهر التي عارضها ما أوجب أن المراد بها غير الظاهر . الأصل التاسع في كونه تعالى متكلما وفيه أربعة فصول: الفصل الأول في البحث عن محل النزاع أجمع المسلمون على أن الله تعالى متكلم لكن المعتزلة زعموا أن المعنى بكونه متكلما أنه خلق هذه الحروف والأصوات في جسم، ونحن نزعم أن كلام الله تعالى صفة حقيقية مغايرة لهذه الحروف والأصوات، وأن ذاته تعالى موصوفة بتلك الصفة، واعلم أن التحقيق أنه لا نزاع بيننا وبينهم في كونه متكلما بالمعنى الذي ذكروه، لأن النزاع بيننا وبينهم إما في المعنى وإما في اللفظ، أما في المعنى فإما أن يقع في الصحة أو في الوقوع، أما النزاع في الصحة، فذلك غير ممكن لأنا توافقنا جميعا على أنه تعالى يصح منه إيجاد الحروف والأصوات، أما في الوقوع فذلك عندنا غير ممكن، لأنه تعالى موجد لجميع أفعال العباد، ومنها هذه الحروف والأصوات، فكيف يمكننا إنكار كونه موجدا لها على مذهبهم وهم يثبتون ذلك بالسمع، ومعلوم أن الجزم بوقوع الجائزات التي لا تكون محسوسة لا يستفاد إلا من السمع، فإذا كان المعنى بكونه متكلما عندهم أنه خلق هذه الحروف والأصوات ولم يثبتوا له من كونه تعالى خالقا صفة أو حالة وحكما أزيد من كونه خالقا لها، فقد تعين أنه يمكن منازعتهم في ذلك، ثبت أنه لا نزاع بيننا وبينهم من جهة المعنى في كونه متكلما بالتفسير الذي قالوه، وأما النزاع من جهة اللفظ فهو أن يقال لا نسلم أن لفظة المتكلم في اللغة موضوعة لموجد الكلام، والناس قد أطنبوا من الجانبين في هذا المقام وليس ذلك مما يستحق الإطناب لأنه بحث لغوي وينبغي أن يرجع فيه إلى الأدباء وليس هذا من المباحث العقلية في شيء، وأقوى ما تمسك به أصحابنا في هذه المسألة اللفظية أمور أربعة: أولها: إن أهل اللغة متى سمعوا من إنسان كلاما سموه متكلما، مع أنهم لا يعلمون كونه فاعلا لذلك الكلام ولو كان المتكلم هو الفاعل للكلام لما أطلقوا اسم المتكلم عليه إلا بعد العلم بكونه فاعلا، وثانيها: إن الاستقرار لما دل على أن الأسود هو الموصوف بالسواد، وكذلك الأبيض والعالم والقادر وجب أن يكون المتكلم في اللغة هو من قام به الكلام، وثالثها: إن الله تعالى خلق الكلام في السماء والأرض حين قال: { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } ثم إنه أضاف ذلك القول إليهما، وأيضا فلو كان ذلك كلام الله تعالى لزم أن يكون الله تعالى متكلما بقوله: { أتينا طائعين } وذلك باطل وخطأ، ورابعها: إنه تعالى خلق الكلام في الذراع التي أكلها النبي ﷺ قالت لا تأكل مني فإني مسمومة، وذلك باطل وأقوى ما تمسك به المعتزلة أن العرب يقولون: تكلم الجني على لسان المصروع فأضافوا الكلام القائم بالمصروع إلى الجني لاعتقادهم كون الجني فاعلا له فلولا اعتقادهم أن المتكلم هو الفاعل للكلام وإلا لما صح ذلك، والجواب عنه يحتمل أن يكون ذلك مجازا وإن كان حقيقة فربما كان مرادهم أن ذلك الكلام هو كلام الجني حال كونه قريبا من لسان المصروع فهذا القدر كاف في البحث اللغوي الخالي عن الفوائد العقلية فهذا هو البحث عن كونه تعالى متكلما على مذهب المعتزلة، فأما على مذهبنا فنحن نثبت لله تعالى كلاما مغايرا لهذه الحروف والأصوات وندعي قدم ذلك الكلام وللمعتزلة فيه ثلاث مقامات: الأول: مطالبتهم إيانا بإفادة تصور ماهية هذا الكلام، الثاني: المطالبة بإقامة الدلالة على اتصافه تعالى بها، الثالث: المطالبة بإقامة الدلالة على كونه قديما فثبت أن الخلاف بيننا وبينهم ليس في كيفية الصفة فقط، بل في وجه تصور ماهيتها أولا ثم في إثبات قدمها وهذا القدر لا بد من معرفته لكل من أراد أن يكون كلامه في هذه المسألة ملخصا، ونحن بعون الله تعالى نذكر دلالة وافية بالأمور الثلاثة ثم قال في الأصل العاشر الذي هو في الكلام على بقية الصفات في القسم الثالث منه، الفصل الثالث: في بيان أن كلام الله واحد المشهور اتفاق الأصحاب على ذلك وقد نقل أبو القاسم الإسفراييني منا عن بعض قدماء أصحابنا أنهم أثبتوا لله خمس كلمات، الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء، قال واعلم أن هذه المسألة إما أن يتكلم فيها مع القول بنفي الحال أو مع القول بإثباته، فإن كان الأول ضعفت المسألة جدا، لأن وجود كل شيء عين حقيقته فإذا كانت حقيقة الطلب مخالفة لحقيقة الخبر كان وجود الطلب مخالفا لوجود الخبر أيضا إذ لو اتحدا في الوجود مع اختلافهما في الحقيقة كان الوجود غير الحقيقة، وذلك يقتضي إثبات الأحوال لا يقال لا نسلم أن يكون الكلام خبرا وطلبا حقائق مختلفة، بل حقيقة الكلام هو الخبر ألا ترى أن من طلب من غيره فعلا أو تركا فقد أخبر ذلك الغير بأنه لو لم يفعله لعاقبه أو بأنه يجب على العاقل الإحلال ومن استفهم فقد أخبر أنه يطلب منه الإفهام وإذا صار الكلام كله خبرا زال الإشكال، لأنا نقول ليس هذا شيء لأنه حقيقة الطلب مغايرة لحقيقة حكم الذهن بنسبة أمر إلى أمر وتلك المغايرة معلومة بالضرورة ولهذا يتطرق التصديق والتكذيب إلى أحدهما دون الآخر قال وإن تكلمنا على القول بالحال فيجب أن ينظر في أن الحقائق الكثيرة هل يجوز أن تتصف بوجود واحد أم لا، فإن قلنا بجواز ذلك فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة وإلا بطل القول بذلك، وأنا إلى الآن لم يتضح لي فيه دليل لا نفيا ولا إثباتا والذي يقال في امتناعه أنا لو قدرنا شيئا واحدا له يكون له حقيقتان فإذا طرأ عليهما ما يضاد إحدى الحقيقتين لزم أن نقدم تلك الصفة من أحد الوجهين ولا نقدم من الوجه الآخر، قال وهذا ليس بشيء لأنا حكينا عن المعتزلة استدلالهم بمثل هذا الكلام على أن صفات الأجناس لا تقع بالفاعل، ثم زيفنا ذلك من وجوه عديدة وتلك الوجوه بأسرها عائدة هاهنا فهذا هو الكلام على من استدل على امتناع أن يكون الكلام الواحد أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا معا، وأما الذي يدل على أن الأمر كذلك فلا يمكن أن نعول فيه على الإجماع من الحكاية التي ذكرها أبو إسحاق الإسفراييني ولم نجد لهم نصا ولا يمكن أن يقال فيه دلالة عقلية فبقيت المسألة بلا دليل وإنما قال لا يمكن التعويل فيها على الإجماع، لأن الذي اعتمد عليه في أن علم الله واحد ما نقله عن القاضي أبي بكر أنه عول فيها على الإجماع، فقال القائل قائلان، قائل يقول: الله عالم بالعلم قادر بالقدرة، وقائل يقول: الله ليس بعالم بالعلم ولا قادرا بالقدرة وكل من قال بالقول الأول قال إنه عالم بعلم واحد قادر بقدرة واحدة فلو قلنا إنه عالم بعلمين أو أكثر كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وهو باطل، وقد ذكر عن أبي سهل الصعلوكي أنه قال إنه عالم بعلوم غير متناهية لكن قال هو مسبوق بهذا الإجماع، قلت وهذا الكلام فيه أمور يتبين بها من الهدى لمن يهديه الله ما ينتفع به، أحدها: إنه لم يعتمد في كون كلام الله قديما على حجة عقلية ولا على كتاب ولا سنة ولا كلام أحد من السلف والأئمة، بل ادعى فيها الإجماع قال لأن الأمة في هذه المسألة على قولين منهم من نفى كون الله موصوفا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى، ومنهم من أثبت ذلك، وكل من أثبته موصوفا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة، فلو أثبتنا كونه موصوفا بهذه الصفات ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات، كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع يقال له ليس كل من أثبت اتصافه وأنه يقوم به معنى الأمر والنهي والخبر يقول بقدمه، بل كثير من هؤلاء لا يقول بقدمه فمن أهل الكلام كالشيعة والكرامية وغيرهم وأما من أهل الحديث والفقهاء فطوائف كثيرة وهذا مشهور في الكتب الحديثية والكلامية وليس له أن يقول هؤلاء يقولون إنه يقوم به حروف ليست قديمة لكن لا يقولون إنه يقوم به معان ليست قديمة لأن أقوالهم المنقولة تنطق بالأمرين جميعا، الوجه الثاني: إن أحدا من السلف والأئمة لم يقل إن القرآن قديم وأنه لا يتعلق بمشيئة وقدرته، ولكن اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق والمخلوق عندهم ما خلقه الله من الأعيان والصفات القائمة بها، والذين قالوا هو مخلوق قالوا إنه خلقه في جسم كما نقله عنهم فقال السلف: إن ذلك يستلزم أن لا يكون الله متكلما وأن الكلام كلام ذلك الجسم المخلوق، فتكون الشجرة هي القائلة لموسى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } ولهذا صرحوا بخطإ من يقول إن ذلك مخلوق لأن عندهم أنه من المعلوم بالفطرة شرعا وعقلا ولغة أن المتكلم بهذا هو الذي يقوم به، وربما قد يقولون إنه لم يكن متكلما حتى خلق الكلام فصار متكلما بعد أن كان عاجزا عن الكلام، فتوهم هؤلاء أن السلف عنوا بقولهم القرآن كلام الله غير مخلوق أنه معنى واحد قديم كتوهم من توهم من المعتزلة والرافضة أنهم عنوا به أنه غير مفتر مكذوب كما ذكره هو في هذه المسألة، فقال الحجة الرابعة لهم من السمعيات ما روى أبو الحسين البصري في الغرر عن النبي ﷺ أنه قال: { ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي }، وروى عنه عليه السلام أنه كان يقول في دعائه: { يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم } قال ولا يقال هذا معارض بمبالغة السلف من الامتناع عن القول بخلق القرآن لأنا نقول بحمل ذلك على الامتناع من إطلاق هذا اللفظ لأن لفظ الخلق قد يستعمل في الافتراء ضرورة التوفيق بين الروايات، قلت: وجواب هذه الحجة سهل فإنه لا خلاف بين أهل العلم بالحديث أن هذين الحديثين كذب على رسول الله ﷺ وأهل الحديث يعلمون أن ذلك مفترى عليه بالضرورة، كما يعلمون ذلك في أشياء كثيرة من الموضوعات عليه، ويكفي أن نقل ذلك عن رسول الله ﷺ لا يوجد في شيء من كتب الحديث ولا في شيء من كتب المسلمين أصلا بإسناد معروف، بل الذي رووه في كتب أهل الحديث بالإسناد المعروف عن ابن عباس أنه أنكر على من قال ذلك فروي من غير وجه عن عمران بن بشهر عن عكرمة قال صليت مع ابن عباس على رجل فلما دفن قام رجل فقال يا رب القرآن اغفر له فوثب إليه ابن عباس فقال مه إن القرآن منه وفي رواية القرآن كلام الله ليس بمربوب منه خرج وإليه يعود فهذا الأثر المأثور عن ابن عباس هو ضد ما رووه، وأما ما رووه فلا يؤثر لا عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الصحابة ولا التابعين أصلا وكذلك الحديث الآخر وهو قوله { ما خلق الله من سماء ولا أرض } فإن هذا لا يؤثر عن النبي أصلا ولكن يؤثر عن ابن مسعود نفسه وقد ثبت عن ابن مسعود بنقل العدول أنه قال من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع، وقد اتفق المسلمون على أن الكفارة لا تجب بما يخلقه في الأجسام، فعلم أن القرآن كان عند ابن مسعود صفة لله لا مخلوقا له وأن معنى ذلك الأثر أنه ليس في الموجودات المخلوقة ما هو أفضل من آية الكرسي لأنها هي مخلوقة كما يقال الله أكبر من كل شيء وإن كان ذلك الكبير مخلوقا والله تعالى ليس بمخلوق، وبذلك فسر الأئمة قول ابن مسعود، ذكر الخلال في كتاب السنة عن سفيان بن عيينة أنه ذكر هذا الحديث الذي يروى { ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جبل أعظم من آية الكرسي } قال ابن عيينة هو هكذا { ما خلق الله من شيء إلا وآية الكرسي أعظم مما خلق).

الوجه الثالث والعشرون: أن يقال لا ريب أن النفس الذي هو القلب يوصف بالنطق والقول كما يوصف بذلك اللسان وإن كان القول والنطق عند الإطلاق يتناول مجموع الأمرين ولهذا كان من جعل النطق والقول هو لما في اللسان فقط بمنزلة من جعله لما في القلب فقط ومن جعل اللفظ مشتركا بينهما فقد جمع البعيدين بل أثبت النقيضين فإنه يجعل اللفظ الشامل لهما مانعا من كل منهما فإنه إذا قال أريد به هذا وحده أو هذا وحده مع أن اللفظ أريد به كلاهما كان نافيا لكل منهما في حال إثبات اللفظ له وإنما اللفظ المطلق من القول والنطق والكلام ونحو ذلك يتناولهما جميعا كما أن لفظ الإنسان يتناول الروح والبدن جميعا وإن كان أحدهما قد يسمى بالاسم مفردا ومن لم يسلك هذا المسلك وإلا انهالت عليه الحجج لما نفاه من الحق فإن دلالة الأدلة الشرعية واللغوية والعرفية على شمول الاسم لهما وعلى تسمية أحدهما به أكثر من أن تحصر لكن هذا النطق والكلام الذي هو معنى الخبر القائم بالنفس هل هو شيء مخالف للعلم يمكن أن يكون ضدا له أو هو هو أو هو مستلزم له فدعوى إمكان مضادته للعلم مما يحس الإنسان بنفسه خلافه ودعوى مغايرته للعلم أيضا فإن الإنسان لا يحس من نفسه بنسبتين جازمتين كل منهما بتناول المفردين إحداهما علم والأخرى غير علم ولهذا لم يتنازع في ذلك لا المسلمون ولا من قبلهم من الأمم حتى أهل المنطق الذين يثبتون نطق النفس ويسمونها النفس الناطقة هم عند التحقيق يردون ذلك إلى العلم والتمييز ولهذا لما أراد حاذق الأشعرية المستأخرين أبو الحسن الآمدي أن يحد العلم بعد أن تعقب حدود الناس بالإبطال ورد قول من زعم أنه غني عن الحد أو أنه يعرف بالتقسيم والتمثيل قال هو صفة جازمة قائمة بالنفس يوجب لمن قام به تمييزا ومعلوم أنه إن كان في النفس معنى للخبر غير العلم فهذا الحد منطبق عليه ولهذا لما قسم الأولون والآخرون العلم إلى تصور وتصديق وجعلوا التصور هو العلم بالمفردات الذي هو مجرد تصورها والتصديق العلم بالمركبات الخبرية من النفي والإثبات فسموا العلم بذلك تصديقا وجعلوا نفس العلم هو نفس التصديق ولو كان في النفس تصديق لتلك القضايا الخبرية ليس هو العلم لوجب الفرق بين العلم بها وتصديقها ولا ريب أن هذا العلم والتصديق قد يعتقده الإنسان فيعقله ويضبطه ويلتزم موجبه وقد لا يعتقده ولا يعقله ولا يضبطه ولا يلتزم موجبه فالأول هو المؤمن والثاني هو الكافر، إذا كان ذلك فيما جاءت به الرسل عن الله فليس كل من علم شيئا عقله واعتقده أي ضبطه وأمسكه والتزم موجبه كما أنه ليس كل من اعتقد شيئا كان عالما به فلفظ العقد والاعتقاد شبيه بلفظ العقل والاعتقال ومعنى كل منهما يجامع العلم تارة ويفارقه أخرى فمن هنا قد يتوهم أن في النفس خبرا غير العلم ولفظ العقد والعقل لما كان جاريا على من يمسك العلم فيعيه ويحفظه تارة ويعمل بموجبه كان مشعرا بأنه يوصف بذلك تارة وبضده تارة وهو الخروج عن العلم وعن موجبه وقد يستعمل اللفظ فيمن يمسك بما ليس بعلم، ومن هذين الوجهين امتنع أن يوصف الله بالاعتقاد فإنه سبحانه عالم لا يجوز أن يفارقه علمه ولا يعتقد ما ليس بعلم فوصفه به يدل على جواز وصفه بضد العلم، ولفظ الفقه ولفظ الفهم كلاهما يستلزم علما مسبوقا بعدمه وهذا في حق الله ممتنع .

الوجه السابع والثلاثون: أن يقال المانع من ذلك إما قدمه أو شيء آخر وأنت لم تذكر شيئا آخر والقدم لا دليل لك عليه كما سبق بإيمانه من أنهم لم يقيموا حجة على كونه قديما كالعلم من كل وجه، الوجه الثامن والثلاثون: أنه هب أنه قديم فكونه قديما لا يوجب أن يكون صفة واحدة فإنك تقول إن صفات الرب من العلم والقدرة والسمع والبصر والحياة وغير ذلك قديمة، ولم يكن قدمها موجبا لأن تكون هذه الصفة هي هذه الصفة فمن أين أوجب قدم الأمر أن يكون هو غير النهي، وأن يكون النهي عين الخبر وهلا قلت في أنواع الكلام ما قلته في الصفات كما قاله بعض أصحابك، الوجه التاسع والثلاثون: أن المحققين من أصحابك يعلمون أنه لا دليل على نفي سوى ما علموه من الصفات فإنه لم يقم على النفي دليل شرعي ولا عقلي فالنفي بلا دليل قول بلا علم، وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الدليل عندنا لا يوجب انتفاء المطلوب الذي يطلب العلم به والدليل عليه، وهذا من أظهر البديهات، وإذا كان كذلك فمن أين لك أن الكلام لا يكون صفات كثيرة ولم أوجبت أن يكون واحدا أو معدودا بعدد معين، فإن ما ذكرت من قدمه لا يمنع تعدده إذ الصفات عندك متعددة وقديمة، والمعلوم أن القديم هو إله واحد، أما أنه ليس له صفة قديمة فهذا باطل بالضرورة لامتناع وجود موجود لا صفة له كما هو مقدر في غير هذا الموضع وهم يسلمون ذلك وإن لم يسلموا بطل قولهم في مسألة الكلام بالكلية، الوجه الأربعون: إن قولك يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا يقال لك الدليل على قدمه لا يوجب كونه معنى واحدا كما تقدم وإذا لم يوجب كونه معنى واحدا لم يوجب أن يكون الأمر هو النهي وهو الخبر وهو الاستخبار وقولك بعد هذا بالدليل المانع من كونه متغايرا مختلفا يقال لك إذا لم تقم الدليل على أن هذا هو هذا بل علم أن هذا ليس هو هذا فيقال فيه ما يقال في السمع والبصر وإن اشتركا في مسمى الإدراك فليس أحدهما هو الآخر ثم هل يقال أحدهما غير الآخر أو يخالف له أو يقال ليس بغير له ولا مخالف له أو لا يقال لا هذا ولا هذا أو يقال هذا باعتبار وهذا باعتبار وهذا باعتبار هذه منازعات لفظية بين الناس وكل قول يختاره فريق والمنازعات في الألفاظ التي لم ترد بها الشريعة لا حاجة بنا إليها بل المقصود المعنى نعم إذا كان اللفظ شرعيا كنا مأمورين بحفظ حده كما قال تعالى: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } وإذا كان الأمر كذلك علم أن قولك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا دعوى مجردة لا حقيقة لها، الوجه الحادي والأربعون: إن قولك على خلاف كلام المحدثين يقال لك كونه على خلاف كلام المحدثين لا يسوغ ما يعلم بالعقل امتناعه كاجتماع النقيضين وكون الواحد الذي لا تغاير فيه ولا اختلاف حقائق مختلفة معلوم الفساد ببديهة العقل وكون صفة الله على خلاف صفة المخلوقين لا يسوغ هذا الممتنع .

الوجه الثاني والأربعون: إن قولك على خلاف كلام المحدثين إن عنيت به أن حقيقة كلام الله ليست كحقيقة كلام المخلوقين كما أنه هو كذلك وسائر صفاته كذلك فهذا حق لكن لا يفيدك فإن كونه كذلك لا يوجب أن يثبت ما يعلم بالعقل انتفاؤه فإن ما يعلم بالعقل انتفاؤه لا يثبت شاهدا ولا غائبا وكون الواحد الذي لا تغاير فيه ولا اختلاف هو حقائق مختلفة معلوم الفساد بالعقل فلا يثبت لله ولا لغيره وإن عنيت بقولك على خلاف كلام المحدثين شيئا غير ذلك وهو أن كونه معنى قائما بالنفس أو كونه ليس بحرف ولا صوت هو مخالف في ذلك لكلام المحدثين فليس الأمر عندك كذلك فإن القديم والمحدث يشتركان في هذا الوصف عندك وإن عنيت أنه واحد وكلام المخلوقين ليس بواحد فيقال هذا هو محل النزاع فما الدليل على أنه مخالف لكلام المحدثين من هذا الوجه يقرر ذلك .

الوجه الثالث والأربعون وهو أن الكلام والعلم والقدرة وسائر الصفات يجمع هؤلاء وغيرهم بينها وبين الصفات المخلوقة من وجه ويفرقون بينها من وجه كما يجمع بين الوجود القديم الواجب القائم بنفسه الخالق وبين الوجود الممكن المخلوق من وجه ويفرق بينهما من وجه ولهذا يجمعون بين الشاهد والغائب بالحد والدليل والعلة والشرط فيقولون حد العالم من قام به العلم والحقائق لا تختلف شاهدا ولا غائبا والعلم والقدرة مشروطان بالحياة في الشاهد والغائب والأحكام دليل على العلم في الشاهد والغائب ويقول من يثبت الأحوال منهم العلم موجب لكون العالم عالما وذلك لا يختلف في الشاهد والغائب وإذا كان الأمر كذلك فمخالفة كلامه لكلام المخلوقين من وجه لا يقتضي أن يكون واحدا إن لم يتبين أن تلك المخالفة موجبة لوحدته وأنت لم تذكر ذلك ولا سبيل إليه أكثر مما ذكرت إنك قسته على المتكلم فقلت يجب أن يكون واحدا لأن المتكلم واحد وسنتكلم على ذلك .

الوجه الرابع والأربعون: إنك اعتمدت في كون الكلام معنى واحدا قديما على قياسه على المتكلم فلما قيل لك كيف يعقل كلام واحد يجمع أوصافا مختلفة حتى يكون أمرا ونهيا، خبرا واستخبارا، وعدا ووعيدا قلت يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا على خلاف كلام المحدثين كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات وإن كان لا يعقل متكلم هو شيء واحد لا ينقسم ولا يتجزأ في المحدثات فقولك كما يعقل متكلم هو شيء واحد وإن كان لا يعقل متكلم هو شيء واحد في المحدثات أي كما يعقل هذا في الموصوف فليعقل في صفته ذلك فيقال لك لا يخلو إما أن يكون الدليل الحق قد دل على هذه الوحدة التي أثبتها للمتكلم أو لم يدل عليها فإن لم يدل عليها كنت قائسا لدعوى على دعوى بلا حجة وكانت المطالبة لك واحدة فصارت اثنتين وإن دل عليها فيقال لك وحدة الموصوف علمت بذلك الدليل الدال عليها فمن أين يجب إذا علم أن الموصوف واحد أن يكون كلامه معنى واحدا، مع أن هذا الموصوف الواحد موصوف عندك وعند عامة المثبتة بصفات متعددة، فلم يلزم من وحدته في نفسه وحدة صفته فلم لزم من وحدته وحدة كلامه بلا حجة، الوجه الخامس والأربعون: إن ما ذكرته في هذا الجواب إما أن تذكره لإثبات كون الكلام معنى واحدا أو لإمكان أن المعنى الواحد يكون حقائق مختلفة قياسا على الموصوف فإن كان لإثبات الأول فليس ذلك بحجة أصلا إذ مجرد كون الموصوف واحدا لا يفيد أن تكون صفته معنى واحدا وهذا معلوم بالضرورة والاتفاق وهو يسلم ذلك وأيضا فإن هذه الحقيقة لا تفيد إمكان ذلك كما سنبينه فإن من لا يفيد ثبوت ذلك ووجوده أولى وأحرى وإن كان ذكره لبيان إمكان ذلك فيقال لك ليس كلما أمكن في الموصوف أمكن في الصفة ولا كلما يمتنع في الصفة يمتنع في الموصوف وهذا معلوم فإن لم يبين أنه يلزم من كون الموصوف واحدا بهذه الوحدة التي أثبتها أن تكون صفته يمكن فيها ما أثبته لم يكن ما ذكرته كلاما مفيدا ولا قولا سديدا .

الوجه السابع والأربعون: أن يقال كون الشيء الواحد ليس بذي أبعاض إما أن يكون معقولا أو لا يكون فإن لم يكن معقولا بطل كلامك وإن كان معقولا لزم أن يعقل صفة ليست بذات أبعاض فإن ما لا يتبعض يقوم به ما لا يتبعض وإما أن يعقل شيء واحد هو بعينه حقائق مختلفة لأنه عقل شيء واحد لا يتبعض فهذا لا يلزم وغاية ما يقوله أن يقول الأمر والنهي والخبر إما أن تكون أقسام الكلام وأبعاضه أو لا تكون فإذا لم تكن أقسامه وأبعاضه صح مذهبنا ونحن غرضنا أن نثبت أنها ليست أقسامه وأبعاضه لأن الموصوف ليس بمتبعض ولا منقسم فيكون صفة ليست متبعضة ولا منقسمة فيقال له لم تقم حجة على أنها ليست أبعاضه وأقسامه وغاية ما ذكرت إنما يفيد إنه إذا كان الموصوف غير متبعض عقل في صفته أنها غير متبعضة ولم يتبين أن هذا يفيد مطلوبك وهو لا يفيده لأنه لم يثبت أنه واحد، وليس تبعض الكلام كتبعض الموصوف كما سنبينه إن شاء الله ثم إن تبعض الصفة إنما يراد به تعددها وهذا ممكن عندك فهذه ثلاثة أوجه نبهنا عليها وهي مبسوطة في سائر الوجوه .

====5-======





الوجه الثامن والأربعون: إن كون القديم عندهم ليس بمنقسم ولا متبعض معناه أنه شيء واحد في الخارج ليس بذي أبعاض وليس بمنقسم قسمة الكل إلى أجزائه كانقسام الإنسان إلى أبعاضه وأعضائه وإن كان هو سبحانه أيضا ليس بجنس كلي ينقسم إلى أنواعه ومعنى كون الكلام ليس بمنقسم يراد به شيئان أحدهما أنه ليس بذي أجزاء وأبعاض، والثاني أنه ليس من الكليات التي تنقسم إلى أنواعها وأشخاصها كانقسام جنس الإنسان إلى أنواعه وانقسام جنس الموجود إلى القديم والمحدث وكذلك جنس العلم والكلام وغيرهما إلى القديم والمحدث وهذه القسمة والتبعيض ليس هذه بوجه من الوجوه في العالم فإن هذا نفي للقسمة عن شيء واحد موجود في الخارج وذاك نفي للقسمة عن كلي لا يوجد في الخارج كليا بحال فإنه ليس في الخارج إنسان كلي ينقسم، ولا وجود كل ينقسم، ولا علم أو كلام كلي ينقسم، ومن المعلوم أنه لم يقصد نفي هذا وإن قصد نفيه فهذا مما لا ينازعه فيه عاقل لا في كلام المخلوق ولا في كلام الخالق فليس في الوجود الخارجي كلام كلي هو بعينه ينقسم إلى أمر ونهي بل إن كان أمرا لم يكن نهيا وإن كان نهيا لم يكن أمرا ولهذا يجب

في الكلي المقسوم أن يقال اسمه على أنواعه وأقسامه فيسمى كل واحد من أفراد الإنسان إنسانا وكل واحد من آحاد الكلام كلاما وكل واحد من آحاد العلوم أنه علم وهذا الفرق هو الفرق الذي يذكره الناس لمتعلم العربية في أول التعليم فيقولون من قال الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف فإنه يريد قسمة الكل إلى أجزائه وأبعاضه، وأما من أراد تقسيم الجنس فإنه يقول الكلمة تنقسم إلى اسم وفعل وحرف فإن الجنس إذا قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه أو النوع إذا قسم إلى أشخاصه كان اسم المقسوم صادقا على الأنواع والأشخاص، وإلا فليست بأقسام له وسواء أراد ذلك أو لم يرده فأي نوعي القسمة أراد فإن في كل واحد من نوعيها لا يكون هذا القسم هو هذا القسم فلا يقول أحد إن الكلام الكلي المنقسم إلى أمر ونهي الأمر فيه هو النهي ولا أن الكلام الموجود المعين المنقسم إلى أبعاضه كالأمر والنهي أو الاسم والفعل والحرف يكون الأمر فيه هو النهي والاسم فيه هو الحرف فإنهم اختاروه من القسمين كان قولهم مخالفا للبديهة المتفق عليها بين العقلاء .

الوجه التاسع والأربعون: إن حقيقة قولهم نفي القسمين جميعا عن كلام الله فإن المعقول في الكلام سواء قدر كليا أو موجودا معينا أن منه ما هو أمر ومنه ما هو خبر فإذا أريد قسمة الكل قبل الكلام والقول ينقسم إلى الأمر والنهي فيكون الأمر موجودا والنهي موجودا وكلاهما يقال له كلام ويقال له قول وأما كلام هو بعينه موجود في الخارج وهو بعينه أمر ونهي فهذا لا يكون وإذا أريد قسمة الكلي قيل هذا الكلام الموجود منه ما هو أمر ومنه ما هو نهي وهم يقولون كلام الله ليس بعضه أمرا وبعضه نهيا ولا بعضه خبرا فإن ذلك يقتضي ثبوت الأبعاض له ولا بعض له ولا هو أيضا كليا ينقسم إلى الأمر والنهي فإن ذلك يقتضي أن يكون الأمر غير النهي بل هو عندهم معنى واحد موجود في الموصوف هو الأمر والنهي والخبر، وأما الموصوف فإن ظهور انتفاء القسمة الأولى عنه لا يحتاج إلى بيان فإنه ليس وجودا كليا ينقسم إلى القديم والمحدث والواجب والممكن والخالق والمخلوق فإن هذا قول بعدمه إذ الكلي لا وجود له في الخارج وقول مع ذلك بأنه يكون خالقا ويكون مخلوقا وقديما ومحدثا أي بعض أنواعه هو الخالق وبعض أنواعه المخلوق ومعلوم أن الذي هو كذلك ليس هو الخالق القديم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، نعم الزنادقة الإلحادية يقولون إن الرب هو الوجود وهم على قولين أحدهما أنه هو الوجود المطلق الذي لا يتعين وهذا قول القونوي فعلى هذا القول ينقسم إلى حيوان ونبات وأرواح وأجسام لكن لا ينقسم إلى واجب وممكن وخالق ومخلوق بل الوجود الكلي المطلق هو الواجب الخالق وهذا قول بتعطيل الصانع وجحوده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ولا يقول عاقل إنه الوجود المطلق الثابت للواجب المتميز بنفسه عن الممكن فإن هذا إنما قاله لكونه لا يثبت الواجب متميزا عن الممكن بنفسه فإذا لزمه ثبوت واجب متميز لزم تناقضه ومع هذا فهم من أكثر الخلق تناقضا وهم مخلطون تخليطا عظيما مع اشتراكهم فيما هم فيه من أظلم الخلق من الشرك بالله والتعطيل فلا يبعد على بعضهم أن يقول ذلك لا سيما إذا فرقوا بين تجلية الذاتي وتجلية الأسماء فقد يقولون التجلي الذاتي هو الواجب والأسمائي هو الممكن ويقولون هو الوجود المطلق المقول على الواجب والممكن والقول الثاني يقولون هو نفس الوجود وأن الموجودات أبعاضه وأجزاؤه لا أنواعه، وهؤلاء جعلوه موجودا لكن جعلوه هو المخلوقات بعينها والأولون لم يجعلوه موجودا في الخارج لكن جعلوه المطلق الذي يوجد في الخارج معينا لا مطلقا، ثم مع ذلك هل للممكنات أعيان ثابتة في العدم سوى وجوده أم هو عين الممكنات على قولين والأول قول صاحب الفصوص منهم والثاني قول أتباعه كالقونوي والتلمساني وغيرهما، لكن قول هؤلاء وإن أضل طوائف من أذكياء الناس وعبادهم ووقع تعظيمهم في نفوس طوائف كثيرة من العلماء والعباد والملوك تقليدا وتعظيما لقولهم من غير فهم لقولهم فكل مسلم بل كل عاقل إذا فهم قولهم حقيقة علم أن القوم جاحدون للصانع مكذبون بالرسل والشرائع مفسدون للعقل والدين وليس الغرض هذا الكلام فيهم فإن الأشعرية لا تقول بهذا وحاشاها من هذا، بل هم من أعظم الناس تكفيرا ومحاربة لمن هو أمثل من هؤلاء وإنما هؤلاء من جنس القرامطة والباطنية ومن قال من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن الفلاسفة ليس بمنقسم فإن هذا المعنى هو أظهر فسادا عندهم من أن يكون هو مرادهم بل يريدون أنه موجود في الخارج متميز بنفسه وأنه مع ذلك ليس له أجزاء وأبعاض وقد يقول نفاة الصفات من الفلاسفة وغيرهم كابن سينا وغيره إن واجب الوجود ليس له أجزاء لا أجزاء حد ولا أجزاء كم، ومراده بذلك أنه ليس له صفة كالعلم والقدرة ولا بعض كالجسم، وهو يقول إنه موجود متميز عن الممكنات ولكن يقول هو وغيره من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية فيه ما يوجب أن يلزمهم قول أولئك الاتحادية فإنه يقول هو الوجود المطلق ويصفه بالصفات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم كالوجود المطلق الكلي الذي لا وجود له في الخارج لكن لازم قول الناس ليس هو نفس قولهم الذي قصدوه، وتحقيق الأمر أن هؤلاء يجمعون بين إثبات الباري ونفيه وبين الإقرار به وإنكاره ولا يقرون بأنه وجود المخلوقات وأما أولئك الاتحادية فمع تناقضهم صرحوا بأنه وجود المخلوقات، والمقصود هنا أن الباري تعالى وإن كانت هذه القسمة والتبعيض منتفية عنه فقولهم إنه واحد ليس بذي أبعاض معناه عندهم أنه واحد متميز عن غيره موجود لا بعض له وإذا كان كذلك ومن أصلهم أن كلام الله شيء موجود قائم بالمتكلم لا يتبعض ولا ينقسم أي ليس منه ما هو أمر ومنه ما هو نهي ومنه ما هو خبر بحيث يكون ليس هذا هو هذا بل الذي هو الأمر هو النهي وهو الخبر والباري عندهم شيء واحد أي ليس بجسم ذي أبعاض وأحد هذين النوعين ليس من جنس الآخر لأنه إنما يصلح أن يستدل بنفي هذا التبعيض أن لو كان بعض الكلام يقوم ببعض وبعضه يقوم ببعض آخر فيقال يلزم من نفي تبعض الموصوف نفي تبعض الصفة القائمة به بل إذا قيل إن الكلام حقائق فكل حقيقة تقوم بالموصوف قياما مطلقا كما تقوم به الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك قياما مطلقا لكان هذا معقولا مقبولا، فعلم أنه وإن عقل متكلم واحد ليس بذي أبعاض وأجزاء فإنه لا يلزم أن يعقل كلام هو معنى واحد هو الأمر والنهي وأن هذا شيء غير هذا .

الوجه الخمسون: إن ما ذكره من كون الموصوف شيئا واحدا ليس بذي أبعاض يصلح أن يحتج به على إمكان أن تكون صفته واحدة ليست بذات أبعاض ولا أجزاء فإذا قام به علم أو علوم أو قدرة أو قدر أو كلام أو كلمات أو غير ذلك قيل في كل صفة تقوم به أنها ليست ذات أجزاء وأبعاض فإذا قام به أوامر وأخبار كان كل أمر وكل خبر غير متبعض ولا متجزئ أما أنه يصلح أن يحتج به أن هذه الصفة هي هذه الصفة مثل أن يقال إن الأمر هو الخبر والسمع هو البصر فهذا باطل ثم يقال، الوجه الحادي والخمسون: إن وحدته إما أن تصحح هذا بأن يقال هذه الصفة هي هذه الصفة أو لا تصحح ذلك فإن صححته صح أن يقال السمع هو البصر وهما جميعا العلم وهو القدرة وهي الحياة وإن لم يصح ذلك لم يصح أن يقال الأمر بالصلاة هو الأمر بالزكاة فضلا عن أن يقال الأمر بالصلاة هو الخبر عن سجود الملائكة لآدم .

الوجه الثاني والخمسون: أن يقال ما تعني بقولك كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات أتعني بذلك أنه لا يتفرق ولا ينفصل منه شيء عن شيء بل هو صمد سبحانه وتعالى أم تعني به أنه لا يتميز منه في العلم شيء من شيء فإن عنيت الأول فهو حق لكن لا يفيدك ذلك فإن هذا لا يستلزم أن لا يكون له كلام متعدد وإن عنيت الثاني قيل لك لا ريب أنك تسلم أنه يمكن العلم ببعض صفاته دون بعض كما تعلم قدرته ولا تعلم علمه وتعلم وجوده ولا تعلم وجوبه ولا ريب أن المعلوم هو هذا الذي ليس بمعلوم فهذا إقرار منك بثبوت التبعض والمتجزئ بهذا الاعتبار ثم العلم إن لم يكن مطابقا للمعلوم كان جهلا فلا بد أن تكون هذه الحقائق متميزة في ذواتها وهذا صريح فيما أنكرته ولا بد لكل موجود من مثل هذا فإنه ما من موجود إلا ويمكن أن يعلم منه شيء دون شيء وذلك يستلزم ثبوت حقائق ليست هذه هي هذه وهذا لازم لكل أحد حتى نفاة الصفات يقرون بثبوت المعاني التي هي هذه وإذا كان التبعيض هذا الاعتبار ثابتا لم يمكنك إنكار التبعيض مطلقا بل علم بالضرورة والاتفاق أن منه شيئا ليس هو الشيء الآخر أما الصفاتية فيقرون بذلك لفظا ومعنى وهو الحق والكلابية والأشعرية منهم، وأما نفاة الصفات فإنهم أيضا مضطرون إلى الإقرار بذلك فإن أخذوا يقولون بل هذا هو هذا كما يقوله المتفلسفة في العاقل والمعقول والعقل وفي الوجود والوجوب وكما يقوله المعتزلة وكما يقوله أبو الهذيل إن العلم والقدرة هو الله ونحو ذلك فمن المعلوم أن فساد هذا من أظهر البديهيات في العقول ثم إذا التزموا ذلك كان لكل من نازع أن يقول فيما أنكروه كما قالوه فيما أقروا به فيقول المجسم أنا أقول إن هذا الجانب هو هذا الجانب كما يقوله من يقول مثل ذلك في الجوهر الفرد ويقول الصفاتية كلهم نحن نقول العلم هو القدرة والقدرة هي السمع والبصر ويقول الأشعرية للمعتزلة نحن نقول الأمر هو النهي ويقول القائلون بالحروف والصوت نحن نقول الباء هي السين وأمثال ذلك كثير وإن قالوا بل لا نقول في هذين إن أحدهما هو الآخر ولا غيره أو هما متغايران باعتبار دون اعتبار أو نحو ذلك كان القول فيما نوزعوا فيه من التبعيض نظير القول فيما أقروا به وهذا كلام متين لا انفصال عنه بحال وقد بسطناه في الكلام على تأسيس الرازي .

الوجه الثالث والخمسون: قوله كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض والذي أوجب كونه ذلك قدمه، يقال لكن من أين في قدمه أن يكون كذلك وأنت لم تذكر ذلك وقد تكلمنا في تخليص التلبيس على جميع ما احتجوا به في هذا الباب وبينا لكل من له أدنى فهم أن جميع حججهم داحضة وتكلمنا على طريقهم المشهور الذي أثبتوا به حدوث الأجسام وبينا اتفاق السلف على فسادها فإنها فاسدة في العقل أيضا، الوجه الرابع والخمسون: إن حجتهم على إنكار تكلم الله بالحروف ينقض ما احتجوا به على هذا الكلام النفساني فيلزمهم أحد الأمرين إما إنكار ما أثبتوه من الكلام النفساني أو الإقرار بما أنكروه من التكلم بالحروف قال القاضي أبو بكر الباقلاني، في كتاب النقض وهو في أربعين سفرا وقد تكلم في مسألة القرآن في ثلاث مجلدات وتكلم على القائلين بقدم الحروف وقال من زعم أن السين من بسم بعد الباء والميم بعد السين والسين الواقعة بعد الباء لا أول له فقد خرج عن المعقول إلى أجحد الضرورة فإن من اعترف بوقوع شيء بعد شيء فقد اعترف بأوليته، فإن ادعى أنه لا أول لما له أول سقطت مكالمته وأما من زعم أن الرب سبحانه تكلم بالحروف دفعة واحدة من غير ترتيب ولا تعاقب فيها فيقال لهم الحروف أصوات مختلفة لا شك في اختلافها وقد اعترف خصوصا باختلافها وزعموا أن لله ضروبا من الكلام متغايرة مختلفة على اختلاف اللغات والمقاصد في العبارات وكل صوتين مختلفين من الأصوات متضادان يستحيل اجتماعهما في المحل الواحد وقتا واحدا كما يستحيل اجتماع كل مختلفين من الألوان والذي يوضح ذلك ويكشفه أنا كما نعلم استحالة قيام السواد والبياض بمحل واحد جميعا، فكذلك نعلم استحالة صوت خفيض وصوت جهوري بمحل واحد في وقت واحد جميعا، وهذا واضح لا خفاء فيه والمختلف من الأصوات يتضاد كما أن المختلف من الألوان يتضاد والرب سبحانه واحد ومتصف بالوحدانية متقدس عن التجزؤ والتبعض والتعدد والتركيب والتألف، وإذا تقرر ما قلناه استحال قيام أصوات متضادة بذات موصوفة بحقيقة الوحدانية، وهذا ما لا مخلص لهم منه، فإن تعسف من المقلدين متعسف وأثبت الرب سبحانه جسما مركبا من أبعاض متألفا من جوارح نقلنا الكلام معه إلى إبطال التجسيم وإيضاح تقدس الرب عن التبعيض والتأليف والتركيب، فيقال له هذا بعينه وأرد عليك فيما أثبته من المعاني، وهو المعنى القائم بالذات، فإن الذي نعلمه بالضرورة في الحروف نعلم نظيره بالضرورة في المعاني، فالمتكلم منا إذا تكلم ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظا ومعنى قبل الثاني، فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف، فيقال من اعترف بأن معنى اسم الرحمن الرحيم بعد معنى بسم الله، وادعى أن هذا المعنى لا أول له، فقد خرج عن المعقول إلى جحد الضرورة، وإن زعم أن الرب تكلم بمعاني الحروف دفعة واحدة من غير تعاقب ولا ترتيب، قيل له معاني الحروف حقائق مختلفة، لا شك في اختلافها، فإن المعنى القائم بنفس المتكلم المفهوم من { الحمد لله رب العالمين }، ليس هو المعنى القائم بالنفس المفهوم من { تبت يدا أبي لهب }، ولا شك في أن المعنى في صيغ الأمر ليس هو المعنى في صيغ الإخبار، فإما أن يسلم هذا أو يمنع فإن سلم كما سلم بعضهم أن الكلام خمس حقائق تكلم معه حينئذ وإن لم يسلم قيل له العلم باختلاف هذه المعاني ضروري بديهي ليس هو بدون العلم بتعاقب الحروف والمعاني، ولا بدون العلم باختلاف الأصوات بل أصوات المصوت الواحد أقرب تشابها من المعاني القائمة بنفسه وهذا الأمر محسوس، ومن أنكره سقطت مكالمته أبلغ مما تسقط مكالمة ذاك، وحينئذ فيقال له هذه المعاني المختلفة متضادة في حقنا فإنا نجد من نفوسنا أنها عند تصور معاني كلام لا يمكنها أن تتصور معاني كل كلام، كما نجد من نفوسنا أنا عند التكلم بصوت لا يمكننا أن نتكلم بصوت آخر، فإن كان هذا الامتناع لذات المعنيين والصورتين امتنع أن يقوم ذلك بمحل واحد وإن كان لعجزنا عن ذلك كما نعجز عن استحضار علوم كثيرة لم يجب أن يكون ذلك ممتنعا في حق الله ولا ممتنعا أن يخلق الله فيما شاء من المخلوقات معاني كثيرة مختلفة وأصواتا كثيرة مختلفة، قوله وكل صوتين مختلفين من الأصوات متضادان يستحيل اجتماعهما في المحل الواحد وقتا واحدا، فيقال له أما الذي نجده فإنا لا يمكننا أن نجمع بين صورتين في محل واحد وقتا واحدا سواء كانا مختلفين أو متماثلين، فليس الامتناع في ذلك لأجل اختلاف الأصوات، وكذلك لا يمكننا أن نستحضر في قلوبنا المعاني الكثيرة في الوقت الواحد في الزمن الواحد سواء كانت مختلفة أو متماثلة وإن قدرنا أن نجمع من المعاني في قلوبنا ما لا نقدر على أن نجمع لفظه من الأصوات، فلا ريب أن القلب أوسع من الجسد لكن لا بد أن يجد كل أحد نفسه يمتنع أن يجتمع فيها معان كثيرة في وقت واحد، كما يمتنع أن يجمع بين صورتين في محل واحد وقياس الأصوات بالمعاني وهي مطابقة لها وقوالب لها أجود من قياسها بالألوان وما ألزموه في المعاني من أنها معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر ليس في مخالفته لبديهة العقول بدون أن يقال يكون حرف واحد هو الباء والسين وإذا لم يقل هذا وهو نظيره فلا ريب أن أقول بجواز اجتماعهما في المحل الواحد أقرب إلى المعقول من كون الأمر هو النهي وهما الخبر فالقول باجتماع الصفتين المتضادتين في محل واحد أقرب من القول بأن إحداهما الأخرى، ومن قال الكلام هو الأمر والنهي والخبر، وأنها كلها مجتمعة قائمة بمحل واحد فكيف يمتنع أن يقول باجتماع حروفها في محل واحد ; ومما يؤيد هذا أنه على أصل القاضي أبي بكر وهو فحل الطائفة أن النسخ رفع الحكم بعينه وهذا اختيار الغزالي، وهو قول ابن عقيل وغيره من المحققين فيكون سبحانه قد أمر بشيء ونهى عن نفس ما أمر به كما في قصة الذبيح، والأمر بالشيء مضاد للنهي عنه في فطر العقول أعظم من مضادة السواد للبياض فإذا كانوا يلتزمون مثل ذلك حتى يجعلون الضدين شيئا واحدا كيف يمنعون اجتماع حرفين أو صوتين وذلك أقرب إلى المعقول، وهذا الكلام لازم لجماعتهم فإنهم حكوا عن القائلين بقدم الحروف والأصوات، هل هي ; متعاقبة أو يتكلم بها دفعة واحدة قولين، كما قال أبو المعالي فيما ذكره أبو عبد الله القرطبي: إن كلام الله منزه عن الأصوات .

الوجه الخامس والخمسون: إن هؤلاء المنبتين للحروف القديمة قالوا ما هو أقرب إلى المعقول من قول أهل المعنى الواحد القديم الذي هو الأمر والخبر فقالوا الترتيب والتعاقب نوعان ترتيب وجودي زماني كترتيب الابن على الأب واليوم على الأمس، ولا ريب أن هذا يمتنع في القديم الأزلي، والثاني: ترتيب ذاتي حقيقي ليس بزماني كترتيب الصفات على الذات، والعلم على الحياة والمعلول على علته المقارنة له إذا قدر ذلك فإنا نعقل هنا ترتيبات وتقدما وتأخرا بالذات دون الوجود والزمان، وهذا كما لو فرض مصحف كتب آخره قبل أوله، فإنه يعلم أن أول السورة متقدم على آخرها بالذات، وإن كان قد كتب بعده قالوا والكلام حروفه ومعانيه مترتب في حق الله بهذا الاعتبار لا بالترتيب الزماني، كما يوجد في قراءة القارئين من ترتيب المعاني والألفاظ جميعا في الزمان، وهذا الترتيب لا ينافي قدمه ولا ريب أن ما في هذا من إثبات تعدد المعاني لتعدد الحروف والحكم عليهما بحكم واحد وإثبات القدم على هذا الوجه أقرب إلى المعقول من جعل الحقائق المختلفة معنى واحدا ثم التفريق بين المعنى والحروف بالتحكيم، فإن هذا فيه جمع بين المختلفين بجعلهما شيئا واحدا وتفريق بين الشيئين فيما اشتركا فيه، الوجه السادس والخمسون: أن نقول قولكم يستحيل اجتماع الصوتين في المحل الواحد وأثبتم ذلك شاهدا وغائبا، ومن المعلوم أن وحدة الباري عندكم لا تناسب وحدة غيره، وليس ذلك عندكم كوحدة الأجسام، وليس عندكم في الشاهد ما هو واحد من كل وجه إلا الجوهر الفرد عند من يقول به فقولكم بعد هذا يستحيل اجتماع الصوتين المختلفين في المحل الواحد وقتا واحدا كما يستحيل اجتماع اللونين مع أنه لا واحد يفرض ذلك فيه شاهدا إلا الجسم، وذلك مستلزم لكون الجسم واحدا فيقال هب أن الجسم لا يقبل اجتماع صوتين مختلفين، كما لا يقبل معنى واحدا يكون أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا، فهلا قلتم إن الواحد الذي ليس بجسم يمكن اجتماع أصوات فيه كما قلتم إنه يقوم به معنى واحد هو حقائق مختلفة، فلما قيل لكم كيف يعقل هذا قلتم يعقل ذلك بالدليل الواجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض، ومعلوم أن الأدلة الدالة على قدم الكلام عند التحقيق لا تفرق بين المعاني والحروف وإنما فرقتم لمعارض، أخرج الحروف عن ذلك وهو ما اعتقدتموه من وجوب حدوثها كما ذكرتم هنا، وهذا الدليل يلزم أقوى منه في المعاني، فلو قلتم نعقل حروفا مجتمعة أو أصوات مجتمعة في محل واحد بالدليل الدال على ذلك إذ كان ذلك الواحد ليس بذي أبعاض حتى يكون القائم بهذا البعض مغايرا للقائم بالبعض الآخر، وإذا لم تجب المغايرة فيما قام به لم يمتنع أن يقوم به الصوت الذي هو بالنسبة إلى غيره أصوات إذ الاختلاف فرع للتغاير، فما لا تغاير فيه يمتنع الاختلاف فيه، فإذا كان ما يقوم به لا يغاير فأن لا يختلف أولى وأحرى ففرض قيام صوتين مختلفين به والحال هذه يمتنع على ما أصلتموه .

الوجه السابع والخمسون: إن اجتماع العلم بالشيء والرؤية في محل واحد في وقت واحد ممتنع في حقنا، وكذلك العلم به وسمعه، ومع هذا فقد أثبتم الباري يعلم الموجودات ويراها، والعلم والرؤية قائمان بمحل واحد عندكم، وأيضا فعند الأشعري والقاضي وسائر أئمتهم أو الوجه واليدين والصفات قائمة بذات الله التي لا تنقسم كقيام العلم والسمع والبصر والقدرة، ومن المعلوم أن قيام القدرة واليدين في محل واحد ممتنع عندنا، بل عندنا أن اليدين محل القدرة، فإذا أثبتم يدا ووجها وصفتموهما بذلك فما المانع من ثبوت حروف وأصوات ويمكنكم أن تقولوا أنها ليست من جنس هذه الأعراض القائمة بالمخلوقين فلا يجب أن يحكم فيها بحكمها، الوجه الثامن والخمسون: إن قوله الرب واحد ومتصف بالوحدانية متقدس عن التجزؤ والتبعيض والتعدد والتركيب والتأليف يستحيل قيام أصوات متضادة بذات موصوفة بحقيقة الوحدانية، يقال له هذا يلزمك في سائر الصفات فإن الذات التي لا يتميز في العلم منها شيء من شيء يمتنع أن يقوم بها صفات كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر، إذ ذلك يوجب من التعدد والتركيب والتأليف والتجزؤ والتبعيض نطير ما نفاه وهو من حجة نفاة الصفات عليه، ولما قال له مخالفة لا نعقل الحياة والعلم والقدرة يقوم إلا بجسم، ولا يعقل اليد والوجه إلا بعضا من جسم قال لا يجب، هذا كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن يكون الغائب كذلك فألزم مخالفة إثباته لحي عالم قادر في متصف بهذه الوحدة التي وافق خصمه عليها ومعلوم أن هذا كله في مخالفة صريح العقل سواه فكونه لا يتميز منه شيء من شيء يأبى أن يكون حيا عالما قادرا إذ هذه الأشياء مستلزمة لمعان يتميز بعضها عن بعض بل يأبى ثبوت موجود مطلقا سواء كان قديما أو حادثا إذ لا بد للموجود من أمور متميزة فيه وذلك مستلزم لثبوت ما نفاه، فهذا التوحيد الذي ابتدعوه هو التعطيل المحض وهو تشبيه الباري بالمعدومات .

قال أبو المعالي في إرشاده القول في وحدانية الباري، فصل في حقيقة الواحد قال أصحابنا الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم أو لا يصح انقسامه قال القاضي أبو بكر ولو قلت الواحد هو الشيء كان كافيا هو لم يكن فيه تركيب وفي قول القائل الشيء الذي لا ينقسم نوع تركيب، قال أبو المعالي يقال للقاضي التركيب المحدود هو أن يأتي إلحاد بوصف زائد يستغني عنه وقد لا يفهم من الشيء المطلق ما يفهم من المقيد فليس يفهم من الشيء ما يفهم من الواحد الذي لا ينقسم فإن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء والمقصود من التحديد الإيضاح أجاب القاضي بأن قال كلامنا في الحقائق والشيء المطلق هو الواحد الذي لا ينقسم، يقال قد ذكرنا أن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء فهما أمران متلازمان لا بد من التعريض لهما كما قلنا في الغيرين كل موجودين يجوز مفارقة أحدهما الآخر بوجه ثم قال أصحابنا إذا سئلنا عن الواحد فنقول هذه اللفظة ترددت بين معان فقد يراد بها الشيء الذي لا يقبل وجوده القسمة وقد يطلق والمراد به نفي الإشكال والنظائر عنه وقد يطلق والمراد به أنه لا ملجأ ولا ملاذ سواه وهذه المعاني متحققة في وصف القديم سبحانه وقال أبو بكر بن فورك أنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له قال شارح الإرشاد أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني وحكى عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال الواحد هو الذي لا يقبل الرفع والوضع يعني الفصل والوصل أشار إلى وحدة الإله فإن الجوهر واحد لا ينقسم ولكن يقبل النهاية، الإله سبحانه واحد على الحقيقة فلا يقبل فصلا ولا وصلا ونحن قد أقمنا الدلالة في مسألة نفي التجسيم على نفي الأقسام وأقمنا الدلالة على نفي المثل وبقي علينا للدلالة على نفي الشريك قلت أما نفي المثل عن الله ونفي الشريك فثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة لكن قد يدخل طوائف من المتكلمين في ذلك ما لم يدل عليه الكتاب والسنة بل ينفيانه وأما المعنى الذي ذكروه بنفي الانقسام فيلزم على قولهم أن لا يكون شيء قط من المخلوقات يقال إنه واحد إلا الجوهر الفرد وعند بعضهم لا يقال ذلك للجوهر الفرد مع أن أبا المعالي هو من الشاكين في ثبوت الجوهر الفرد فإذا لا يصح أن يقال لشيء من الموجودات إنه واحد وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها وإجماع أهل اللغة والعقل وإذ قيل الواحد هو الشيء كما قاله القاضي أبو بكر فلا يكون قد خلق شيئا لأنه لم يخلق واحدا على التفسير الذي فسروه ولا يستحق على قوله أن يسمي أحد من الملائكة والإنس والجن شيئا ثم إنهم يسمون ; أهل الكلام الموحدين ويسمون ما كان السلف يسمونه الكلام علم التوحيد حتى قال أبو المعالي في أول إرشاده بعد أن زعم أنه أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال من البلوغ أو الحلم شرعا القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم، قال والنظر في اصطلاح الموحدين هو الفكر الذي يطلب من قام به علما أو غلبة ظن وأيضا فإن اسم الواحد أو الأحد قد جعلوا لله فيه شريكا آخر لموجودات وهو الجوهر الفرد وجعلت المتفلسفة له في ذلك شركاء العقول والنفوس كالنفس الإنسانية، وهذا الذي ذكرنا من أن عمدة أصحابه في مسألة القرآن ونحوها من المسائل أنه لا يجوز أن يكون محلا للحوادث هو مما لا ريب فيه من يعرف أصول الكلام واعتبر ذلك بما ذكره أفضل متأخريهم أبو المعالي الجويني في إرشاده الذي التزم أن يذكر فيه قواطع الأدلة، فإنه قال فصل الباري تعالى متكلم آمر ناه مخبر واعد متوعد وقد قدمنا في خلل إثبات أحكام الصفات المعنوية أن الطريق إلى إثبات العلم بكون الرب تعالى متكلما عند أستاذنا نفى النقائص إلى السمع وتوجيهنا على أنفسنا السؤال عما ثبت بالسمع قال فإذا صح كون الباري متكلما فقد آن أن نتكلم في صفة كلامه فاعلموا أوقيتم البدع أن مذهب أهل الحق أن الباري تعالى متكلم بكلام أزلي لا مفتتح لوجوده وأطبق المنتمون إلى الإسلام على إثبات الكلام ولم يصر منهم صائر إلى نفيه ولم ينتحل أحد منهم في كونه متكلما نحلة نفاة الصفات في كونه عالما قادرا حيا ثم ذهبت المعتزلة والخوارج والزيدية والإمامية ومن عداهم من أهل الأهواء إلى أن كلام الباري تعالى عن قول الزائغين حادث مستفتح الوجود وصار صائرون من هؤلاء إلى الامتناع من تسميته مخلوقا مع القطع بحدوثه لما في لفظ المخلوق من إيهام الخلق إذ الكلام المختلق هو الذي يبديه المتكلم تخرصا من غير أصل وأطلق معظم المعتزلة لفظ المخلوق على كلام الله وذهبت الكرامية إلى أن الكلام قديم والقول حادث غير محدث والقرآن قول الله وليس بكلام الله وكلام الله تعالى القدرة على التكلم وقوله حادث قائم بذاته تعالى على قول المبطلين وهو غير قائل بالقول الذي قام به بل هو قائل بالقابلية وكل مفتتح وجوده قائم بالرب فهو حادث بالقدرة غير محدث وكل محدث مباين للذات فهو محدث بقوله كن لا بالقدرة في هذيان طويل لا يسع هذا المعتقد استقصاؤه وغرضنا من إيضاح الحق والرد على منكريه لا يتبين إلا بعد عقد فصول في ماهية الكلام وحقيقته شاهدا حتى إذا وضحت الأغراض منها انعطفنا بعدها إلى مقصدنا وقد التزمنا التمسك بالقواطع في هذا المعتقد على صغر حجمه وآثرنا إجراءه على خلاف ما صادفنا من معتقدات الأئمة وهذا الشرط يلزمنا ظرافا من البسط في مسألة الكلام وها نحن خائضون فيه ثم تكلم في حد الكلام ثم تكلم في أن المتكلم من قام به الكلام لا من فعله ثم بنى على ذلك أنه لا بد أن يكون الكلام قائما به ثم قال وإذا تقرر ذلك ترتب عليه استحالة كونه حادا لقيام الدليل على استحالة قبوله للحوادث ولا يبقى بعد هذه الأقسام إلا مذهب أهل الحق في وصف الباري تعالى بكونه متكلما بكلام قديم أزلي فقد بين أن ذلك مبني على أنه يستحيل قيام الحوادث به وكان قد ذكر هذه المسألة قبل ذلك فقال .

الوجه التاسع والخمسون: قولك لأنه مقدس عن التجزؤ والتبعيض والتعدد والتركيب والتأليف، يقال هذه ألفاظ مجملة فإن أردت المعنى المعروف في اللغة لهذه الألفاظ مثل أن تريد أنه لا ينفصل بعضه عن بعض ولا يتجزأ فيفارق جزء منه جزءا كما هو المعقول من التجزؤ ولا يتعدد فيكون إلهين أو ربين أو خالقين ولم يركب فيؤلف فيجمع بين أبعاضه كما في قوله: { في أي صورة ما شاء ركبك } أو ما يشبه هذه الأمور، فهذا كله ينافي صمدانيته ولكن لا ينافي قيام ما يثبته من الأصوات كما لا ينافي قيام سائر الصفات وإن أردت بهذه الألفاظ أنه لا يتميز منه شيء من شيء فهذا باطل بالضرورة وباطل باتفاق العقلاء وهو لازم لمن نفاه لزوما لا محيد عنه وقد بسطنا هذا بسطا مستوفيا في كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعتهم الكلامية، وأما قوله فإن تعسف من المقلدين متعسف وأثبت الرب تعالى جسما مركبا من أبعاض متآلفا من جوارح نقلنا الكلام معه إلى إبطال الجسم وإيضاح تقدس الرب عن التبعيض والتأليف والتركيب فيقال له الكلام في وصف الله بالجسم نفيا وإثباتا بدعة لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن الله ليس بجسم كما لم يقولوا أن الله جسم بل من أطلق أحد اللفظين استفصل عما أراد بذلك فإن في لفظ الجسم بين الناطقين به نزاعا كثيرا فإن أراد تنزيهه عن معنى يجب تنزيه عنه مثل أن ينزهه عن مماثلة المخلوقات فهذا حق، ولا ريب أن من جعل الرب جسما من جنس المخلوقات فهو من أعظم المبتدعة ضلالا دع من يقول منهم أنه لحم ودم ونحو ذلك من الضلالات المنقولة عنهم وإن أراد نفي ما ثبت بالنصوص وحقيقة العقل أيضا مما وصف الله ورسوله منه وله فهذا حق وإن سمي ذلك تجسيما أو قيل إن هذه الصفات لا تكون إلا لجسم فما ثبت بالكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة هو حق وإذا لزم من ذلك أن يكون هو الذي يعنيه بعض المتكلمين بلفظ الجسم فلازم الحق حق كيف والمثبتة تقول إن ثبوت هذا معلوم بضرورة العقل ونظره وهكذا مثبت لفظ الجسم إن أراد بإثباته ما جاءت به النصوص صوبنا معناه ومنعناه عن الألفاظ المبتدعة المجملة وإن أراد بلفظ الجسم ما يجب تنزيه الرب عنه من مماثلة المخلوقات رددنا ذلك عليه وبينا ضلاله وإفكه وأما قوله نقلنا الكلام معه إلى إبطال التجسيم فقد ذكرنا أدلة النافين والمثبتين مستوفاة في

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية وتبين لكل من له أدنى فهم أن ما ذكره هؤلاء من أدلة النفي كلها حجج داحضة وأن جانب المثبتة أقوى وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع، قال أبو عمر بن عبد البر الذي أقول إنه إذا نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وسائر المهاجرين والأنصار وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين وأعلام النبوة ودلائل الرسالة لا من قبل حركة ولا سكون ولا من باب الكل والبعض ولا من باب كان ويكون ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبا وفي الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازما ما أضاعوه ولو أضاعوا الواجب لما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم ولو كان من علمهم مشهورا ومن أخلاقهم معروفا لاستفاض عنهم وشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات، الوجه الستون: إن قوله والرب واحد ومتصف بالوحدانية ومتقدس عن التجزؤ والتبعيض وقول ابن فورك لأن الرب متكلم واحد ونحو ذلك من أقوالهم التي يصفون فيها الرب بأنه واحد ويشعرون الناس أنهم بذلك موحدون وأن من خالفهم في ذلك فقد خالفهم في التوحيد وهي من أعظم أصول أهل الشرك والإلحاد التي أفسدوا بها التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وإن كان هذا الأصل المحدث قد زين لهؤلاء ولغيرهم من أهل القبلة المسلمين وظنوا أنهم بذلك محسنون حتى سموا أنفسهم بذلك موحدين دون غيرهم ممن هو أحق بتوحيد الله منهم وحتى كفروا وعادوا المسلمين أهل التوحيد حقا وكانوا على الأمة أضر من الخوارج المارقين الذي يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وهؤلاء الكلابية والأشعرية إنما أخذوه عن المعتزلة الجهمية ولم يوافقوهم عليه كله بل وافقوهم في بعض دون بعض وهذا هو أصل جهم الذي أسس عليه ضلالاته وهؤلاء يفسرون التوحيد واسم الله الواحد في أصول دينهم بثلاثة معان وليس في شيء منها التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ثم يختلفون في تحقيق تلك المعاني اختلافا عظيما فيقولون في اسم الله الواحد الأحد له ثلاثة معان إحداها: الذي لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد ولا يتركب وربما قال بعضهم هذا تفسير اسم الأحد وهذه الوحدانية التي ذكروها هنا .

فصل مما يخالف الجوهر فيه حكم الإله قبول الأعراض وصحة الاتصاف بالحوادث والرب سبحانه وتعالى متقدس عن قبول الحوادث قال وذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تقوم بذات الإله تعالى عن قولهم ثم زعموا أنه لا يتصف بما يقوم به من الحوادث قال وصاروا إلى جهالة لم يسبقوا إليها فقالوا القول الحادث يقوم بذات الرب سبحانه وتعالى وهو غير قائل به وإنما هو قائل بالقابلية وحقيقة أصولهم أن أسماء الرب لا يجوز أن تتجدد وكذلك وصفوه بكونه تعالى خالقا في الأزل فلم يتحاشوا من قيام الحوادث به وتنكبوا إثبات وصف جديد له ذكرا وقولا قال والدليل على بطلان ما قالوه أنه لو قبل الحوادث لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض وما لم يخل من الحوادث لم يسبقها وينساق ذلك إلى الحكم بحدوث الصانع، قال ولا يستقيم هذا الدليل على أصول المعتزلة مع مصيرهم إلى تجويز خلو الجوهر عن الأعراض على تفصيل لهم أشرنا إليه وإثباتهم أحكاما متجددة لذات الرب تعالى من الإرادات الحادثة القائمة لا بمحال على زعمهم وبصدهم أيضا عن طرد الدليل في هذه المسألة أنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام الذات من غير أن يدل على الحدوث لم يبعد مثل ذلك في اعتوار نفس الأعراض على الذات قال وتقول الكرامية مصيركم إلى إثبات قول حادث مع نفيكم اتصاف الرب به تناقض إذ لو جاز قيام معنى بمحل غائب من غير أن يتصف المحل بحكمه لجاز شاهدا قيام أقوال وعلوم وإرادات بمحال من غير أن تتصف المحال بأحكام مركبة على المعاني وذلك يخلط الحقائق ويجر إلى الجهالات ثم نقول لهم إذا جوزتم قيام ضروب من الحوادث بذاته فما المانع من تجويز قيام أكوان حادثة بذاته على التعاقب وكذلك سبيل الإلزام فيما يوافقوننا على استحالة قيامه به من الحوادث ومما يلزمهم تجويز قيام قدرة حادثة وعلم حادث بذاته على حسب أصلهم في القول والإرادة الحادثتين ولا يجدون بين ما جوزوه وامتنعوا منه فصلا ونقول أيضا إذا وصفتم الباري تعالى بكونه متحيزا وكل متحيز وحجم جرم فلا يتقرر في المعقول خلو الأجرام عن الأكوان فما المانع من تجويز قيام الأكوان بذات الرب ولا محيص لهم عن شيء مما ألزموه، قلت هذه جملة كلامه في هذه المسألة بألفاظه ومدلوله على ثلاثة أشياء: أحدها: إنه لو قبلها لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث والثاني :

إنه لو قبلها لاتصف بها، والثالث: أنه إذا قبل بعضها فيجب أن يقبل غيره، وهم لا يقولون به وهاتان الحجتان الثانيتان جدليتان فإن كونه متصفا بالأفعال التي تقوم به أو غير متصف إلا بالصفات اللازمة له نزاع لفظي وكذلك كون المنازع جوز قيام البعض دون البعض فإنه إما أن يبين فرقا بين الممنوع والمجوز أو لا يبين فرقا فإن بين فرقا ثبت الفرق وإن لم يبين فرقا فقد يكون عجزا منه وإن قدر أنه لا فرق في نفس الأمر فيلزم أحد الأمرين لا بعينه إما جواز الجميع وإما المنع من الجميع وذلك لا يقتضي ثبوت أحدهما وهو الامتناع إلا بدليل وهو لم يذكر دليلا على ذلك فلم يذكر في المسألة حجة إلا ما ذكره من قوله لو قبلها لم يخل منها وهذه حجة أحال فيها على ما ذكره قبل ذلك فإنه لو قبل الحوادث لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض وهذا الذي أحال عليه هو ما ذكره في مسألة حدوث الأجسام فإنه ذكر الطريقة المشهورة الكلامية المبنية على أربعة أصول قال وأما الأصل الثالث فهو يبين، استحالة تعري الجواهر عن الأعراض، فالذي صار إليه أهل الحق أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضداده إن كانت له أضداد فإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين فإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه قال وجوزت الملحدة خلو الجواهر عن جميع الأعراض والجواهر في اصطلاحهم تسمى الهيولى والمادة والأعراض تسمى الصور وجوز الصالحي الخلو عن جملة الأعراض ابتداء ومنع البصريون من المعتزلة العرو عن الأكوان وجوزوا العرو عما عداها وقال الكعبي ومتوعه يجوز الخلو عما سوى الأكوان ويمتنع الخلو عن الأكوان قال وكل مخالف لنا وافقنا على امتناع العرو عن الأعراض بعد قبول الجواهر فيفرض الكلام مع الملحدة في الأكوان فإن القول فيها يستند إلى الضرورة فإنا ببديهة المعقول نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير مماسة ولا متباينة ومما يوضح ذلك أنها إذا اجتمعت فيما لا يزال فلا يتقرر في العقل اجتماعها إلا عن افتراق سابق إذا قدر لها الوجود قبل الاجتماع، وكذلك إذا طرأ الافتراق عليها اضطررنا إلى العلم بأن الافتراق مسبوق باجتماع وغرضنا في روم إثبات حدوث العالم يتضح بالأكوان وإن حاولنا ردا على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكا بنكتتين إحداهما الاستشهاد بالإجماع على امتناع العرو عن الأعراض بعد الاتصاف بها فنقول كل عرض باق فإنه ينتهي عن محله بطريان ضده والضد إنما يطرأ في حال عدم المنتفي به على زعمهم فإذا انتفى البياض فهلا جاز أن لا يحدث بعد انتفائه لون إن كان يجوز تقدير الخلو عن الألوان ابتداء وتطرد هذه الطريقة في أجناس الأعراض ونقول أيضا الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى أنها لو قامت به لم يخل عنها وذلك يقضي بحدوثه فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن حوادث مع قبوله لها صحة وجوازا فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري تعالى للحوادث، قلت فهذا جملة كلامه في هذا الأصل ولم يذكر فيه حجة أصلا على المطلوب بل فيه إحالة فإنه ذكر خمسة أقوال: أحدها: القول الذي عليه أصحابه أن الجوهر لا يجوز أن يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن أضدادها بل لا بد أن يقوم به من كل جنس عرض واحد سواء كان له ضد أو لم يكن له وإن كان كثير من الناس يقول إن هذا مخالف للحس كدعوى الطعم والريح للهواء والماء والنار، والقول الثاني: في مقابلة هذا وهو جواز خلوه عن كل عرض، والثالث: الخلو عن جميعها في الابتداء دون الدوام، والرابع: أنه يمتنع خلوه عن الأكوان ويجوز خلوه عما سواها وهو قول بصري المعتزلة، والخامس: امتناع خلوها عن الأكوان دون ما سواها وهو قول البغدادي الكعبي وأتباعه وهم أغلظ بدعة من البصريين ثم إنه لم يقم دليلا إلا على الأكوان فإنه ذكر أنه يعلم بالضرورة أن ما قبل الاجتماع والافتراق لم يعقل إلا مجتمعا أو متفرقا وذكر أن مقصوده في حدوث العالم يتم بالأكوان وهذا إنما هو رد على من يجوز خلوها عن الأكوان وقد ذكر عن البصريين أنهم لا يخالفونه في ذلك فاحتج عليهم بحجتين إلزاميتين ليس فيهما حجة علمية إحداهما ما سلموه من امتناع الخلو بعد قيام العرض وسوى بين الحالين وقال إذا جاز أن يخلو قبل قيام العرض عن الضدين جاز بعد ذلك فيقال له إن كانت هذه التسوية باطلة ثبت الفرق وبطل قولك وإن كانت التسوية صحيحة لزم أحد الأمرين إما جواز الخلو قبل وبعد أو امتناع الخلو قبل وبعد لا يلزم أحدهما بعينه وموافقة المنازع لك على امتناع الخلو بعد لا يفيدك أنت علما إذا لم يكن لك ولا له حجة على ذلك فلا بد من حجة يعلم بها امتناع الخلو فيما بعد حتى يلحق به ما قبل وليس معك في ذلك إجماع معصوم من الخطإ إذ ذاك إجماع المؤمنين، وطائفة المتكلمين لا يمتنع أن يتفقوا على خطأ إذا أكثر الأمة يخطئهم كلهم في كثير من كلامهم على أن الخلاف في هذه المسألة لا يمكن دعوى عدمه على أنه ليس غرضنا الكلام معه في ذلك وإنما الغرض قوله في النكتة الثانية الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى أنها لو قامت به لم يخل عنها وذلك يقضي بحدوثه فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن الحوادث مع قبوله لها صحة وجوازا فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري للحوادث، فيقال لك: أنت قد ذكرت أيضا فيما تقدم أن المعتزلة لا يستقيم على أصولهم الاحتجاج على أن الحوادث لا تقوم بذات الباري مع تجويزهم خلو الجواهر عن الأعراض ومع قضائهم بتجدد أحكام الرب تبارك وتعالى وأما أنت وأصحابك فلم تذكروا حجة على أنه يمتنع خلو الجواهر عن كل جنس من أجناس الأعراض ولا أقمتم حجة على أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده ولا أقمتم حجة على استحالة قيام الحوادث به بل أنت في مسألة الحوادث جعلت الدليل القاطع الذي تحتج به في أصول الدين الذي ذكرت أنه ليس في بابه مثله هو قولك أنه لو قبل الحوادث لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض وما لم يخل من الحوادث لم يسبقها وينساق ذلك إلى الحكم بحدوث الصانع فيقال له قولك لما سبق تقريره إحالة على ما مضى وأنت لم تقرر فيما مضى أن ما قبل الشيء لم يخل منه ولا قررت أن كل جوهر قبل عرضا يستحيل خلوه عنه ولا قررت أيضا استحالة تعري الجواهر عن جميع الأعراض إذ هذا يحتاج إلى مقدمتين إحداهما إمكان قيام كل جنس من الأعراض بكل جوهر، الثانية أن القابل لشيء لا يخلو منه ومن ضده وأنت لم تذكر حجة على شيء من ذلك غاية ما ذكرت أنك أثبت الأكوان التي هي الاجتماع والافتراق فقط وأنك ادعيت تناقض المعتزلة حيث فرقوا بين ما قبل الاتصاف وبعده وحيث إنهم إذا جوزوا خلو الجوهر عن بعض الحوادث مع قبوله بطل الاستدلال على امتناع قيام الحوادث بذات الله وأنه لا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري للحوادث فكان هذا الكلام مع ما فيه من ذكر تناقض المعتزلة وأنه لا حجة لهم على امتناع قيام الحوادث بالرب فيه أيضا أنه لا حجة على امتناع ذلك إلا هذه الحجة وهو أنه لو قبل الجوهر العرض لم يخل منه ثم هذه الدعوى لم تذكر أنت أيضا عليها حجة أصلا فقد أقررت بأن قول أصحابك وقول المعتزلة بأنه تعالى منزه عن قبول الحوادث قول بلا حجة أصلا فأين الدليل الذي ذكرتموه في ذلك فضلا عن أن يكون قاطعا وهذا إذا تدبره العاقل تبين له أن القوم يقولون على الله ما لا يعلمون ويقولون على الله غير الحق يقوله المشركون وأهل الكتاب، فإن قلت: قد قررنا ذلك في الأكوان كالاجتماع والافتراق فيقال هذا حق، فإن ما كان قابلا أن يكون مجتمعا وأن يكون مفترقا لكن هذا لا عموم فيه في جميع الصفات والأعراض وغايته أن يثبت نظيره في الرب فيقول إذا كانت ذاته قابلة للاجتماع أو الافتراق لم يكن إلا مجتمعا أو مفترقا فالمنازع لك إن لم يسلم قبوله لهذين لم يلزم أن لا يسلم قبوله لغيرهما من الصفات والأفعال كما تقوله أنت وإن سلم ذلك وقال إنه أحد صمد والصمد أصله المجتمع الذي لا جوف له فإنه يقول اجتماعه كعلمه وقدرته وهو من الصفات اللازمة له التي لا يجوز عدمها وليس من الحوادث فصفات الجوهر المخلوقة تقبل الزوال إذ يمتنع عليها البقاء بخلاف صفات الله الواجبة له كما أن ذوات الجوهر المخلوقة تقبل العدم والرب سبحانه واجب الوجود بنفسه يمتنع عليه العدم وبهذا يظهر أنه لم يذكر دليلا على حدوث الجواهر أيضا كما لم يذكر دليلا على امتناع قيام الحوادث بالرب فإن دليله مبني على أربع مقدمات ثبوت الأعراض وثبوت أنها جميعا حادثة وأن الجوهر لا يخلو منها وأنه يمتنع حوادث لا أول لها وهو لم يثبت من الأعراض اللازمة للجواهر إلا الأكوان ( الاجتماع والافتراق ) وهو لم يثبت حدوثها إلا بقبولها العدم فما لم يثبت عدمه لم يعلم حدوثه ولم يثبت جواز تفرق كل الأجسام مع أن الحجة المذكورة في أن ما ثبت عدمه امتنع قدمه فيها كلام ليس هذا موضعه، والمقصود هنا الكلام في مسألة حلول الحوادث التي جعلتها الجهمية من المعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم أصلا عظيما في تعطيل ما جاء في الكتاب والسنة من ذلك كقوله { ثم استوى على العرش } { ثم استوى إلى السماء } وغير ذلك ثم إنه سبحانه يقبل أن يفعل بعد إن لم يكن فاعلا والقول بأن فاعلا يفعل وحاله قبل الفعل وبعد سواء ولم يقم به فعل نفسه هو في المعقول أبعد من كون الساكن الذي سكونه قديم يمتنع أن يتحرك لأن السكون القديم يمتنع عدمه ولو عرض على العقل الصحيح جواز أن يبدع أشياء من غير أن يكون له في نفسه فعل أصلا وجواز أن يفعل ويكون فعله في نفسه بعد أن كان تاركا لكان الثاني أقرب إلى عقل كل أحد من الأول فإن هذا الثاني معقول والأول غير معقول، وبهذا استطالت عليهم الدهرية من الفلاسفة ونحوهم فإنهم ادعوا حدوث الجواهر والأجسام ومضمون عموم كلامهم يقتضي أنهم ادعوا حدوث كل موجود لكن لم يقصدوا ذلك وإنما هو لازم لهم ومعلوم أن هذا باطل والدهرية ادعوا قدم السموات ولا شك أن هذا كفر باطل أيضا لكن صار كل من الفريقين يعارض الآخر بحجج تبطل حجج نفسه لأن كلا من القولين باطل فتكون حجتهم باطلة فيمكن إبطالها، ولهذا كان غالب أئمتهم يقولون بتكافؤ الأدلة في هذه المسألة ونحوها ويصيرون فيها إلى الوقف والحيرة، ثم هم مع ذلك قد يعتقدون أن الإسلام لا يتم إلا بما ادعوه من القول بهذا الحدوث فيكون ذلك سببا لنفاقهم وزندقتهم وذلك باطل ليس هذا من أصل الإسلام في شيء واعتبر ذلك بابن الراوندي الذي يقال إنه أحد شيوخ الأشعري وقد فرح أصحاب الأشعري بموافقته وموافقة أبي عيسى الوراق لهم على إثبات كلام النفس ومع هذا فله كتاب مشهور سماه ( كتاب التاج ) في قدم العالم، وذكر الأشعري أنه في كتابه الكبير وهو ( مفصول ) ذكر علل الملحدين والدهريين مما احتجوا به في قدم العالم وتكلم عليها وأنه استوفى ما ذكره ابن الراوندي في كتابه المعروف بكتاب التاج وهو الذي نصر فيه القول بقدم العالم وقد قيل إن الأشعري في آخر عمره أقر بتكافؤ الأدلة واعتبر ذلك بالرازي فإنه في هذه وهي مسألة حدوث الأجسام يذكر أدلة الطائفتين ويصرح في آخر كتبه وآخر عمره وهو كتاب المطالب العالية بتكافؤ الأدلة وأن المسألة من محارات العقول ولهذا كان الغالب على أتباعهم الشك والارتياب في الإسلام كما حدثني ممن حدثه ابن بادة أنه دخل على الخسروشاهي وهو أحد تلامذة ابن الخطيب الذي قدم إلى الشام ومصر وأخذه الملك الناصر صاحب الكرك إلى عنده وكان يقرأ عليه حتى قيل إنه حصل له اضطراب في الإيمان من جهته وجهة أمثاله، قال: دخلت عليه بدمشق فقال لي يا فلان ما تعتقد، قلت: أعتقد ما يعتقده المسلمون قال وأنت جازم بذلك وصدرك منشرح له قلت نعم قال فبكى بكاء عظيما أظنه قال لكنني والله ما أدري ما أعتقد لكنني والله ما أدري ما أعتقد لكنني والله ما أدري ما أعتقد، وحدثني الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد القوي عن مؤذن الكرك قال صعدت ليلة بوقت فسبحت في المنارة ثم نزلت والخسر وشاهي ساهر مع السلطان يتحدثان فقال إلى الساعة أنت تسبح في المنارة فقلت نعم فقال بت تناجي الرحمن وبت أناجي الشيطان وأيضا فما ذكره أن المعتزلة تصدهم عن طرد الدليل في هذه المسألة أنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن يدل على الحدوث لم يبعد مثل ذلك في اعتوار الأعراض على الذات يلزمه مثله في تجدد حكم السمع والبصر فإنه إنما يتعلق بالموجود دون المعدوم وإما أن يكون الرب بعد أن خلق الموجودات كحاله قبل وجودها في السمع والبصر أو لا يكون فإن كان حاله قبل كحاله بعد أو هو قبل لم يكن يسمع شيئا ولا يراه فكذلك بعد لاستواء الحالين، فإن قيل إن بعد ذلك خلاف حاله قبل فهذا قول بتجدد الأحوال والحوادث ولا حيلة في ذلك ولا يمكن أن يقال في ذلك ما قيل في العلم لأن العلم يتعلق بالمعدوم فأمكن المفرق أن يقول حاله قبل وجود المعلوم وبعده سواء، وقد ذكر هذا الإلزام أبو عبد الله الرازي والتزم قول الكرامية بعد أن أجاب بجواب ليس بذاك فإن المخالف احتج عليه بأن السمع والبصر يمتنع أن يكون قديما لأن الإدراك لا بد له من متعلق وهو لا يتعلق بالمعدوم فيمتنع ثبوت السمع والبصر للعالم قبل وجوده إذ هم لا يثبتون أمرا في ذات الله به يسمع ويبصر بل السمع والبصر نفس الإدراك عندهم ويمتنع أن يكون حادثا لأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث ويلزم أن يتغير وكلاهما محال وقال في الجواب لم لا يجوز أن يكون الله سميعا بصيرا بسمع قديم وبصر قديم ويكون السمع والبصر يقتضيان التعلق بالمرئي والمسموع بشرط حضورهما ووجودهما قال وهذا هو المعنى بقول أصحابنا في السمع والبصر إنه صفة متهيئة لدرك ما عرض عليه فإن قال قائل فحينئذ يلزم تجدد التعلقات قلنا وأي بأس بذلك إذا لم يثبت أن التعلقات أمور وجودية في الأعيان فهذا هو تقرير المذهب ثم لإن سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يكون محدثا في ذاته على ما هو مذهب الكرامية وقوله يلزم أن يكون محلا للحوادث قلنا إن عنيتم حدوث هذه الصفات في ذاته تعالى بعد أن لم تكن حادثة فيها فهذا هو المذهب فلم قلتم إنه محال، وإن عنيتم شيئا آخر فبينوه لنتكلم عليه، وهذا هو الجواب عن قوله يلزم وجود التغير في ذات الله، قلت: وقد اعترف في هذا الموضع بضعف الجواب الأول، وذلك أن قول القائل صفة متهيئة لدرك ما عرض عليه وضده نفي السمع والبصر هو الإدراك، فما الفرق بين الصفة وبين هذا المدرك، ثم عند وجود هذا الدرك هل يكون سامعا مبصرا لما لم يكن قبل ذلك سامعا له مبصرا أم لا يكون، فإن لم يكن كذلك لزم نفي أن يسمع ويبصر، وإن كان سمع ورأى ما لم يكن سمعه ورآه، فمن المعلوم بالاضطرار أن هذا أمر وجودي قائم بذات السامع الرائي، وأنه ليس أمرا عدميا ولا واسطة بين الوجود والعدم ولو كان عدميا لكان سلبه وجوديا إذا قيل لم يسمع ولم يبصر، وإن كان سلبه وجوديا لامتنع وصف المعدوم به، فإن المعدوم لا يوصف بوجود ومذاهب هؤلاء إنما تشكل على الناس لاشتراك اللفظ، فإن السمع والبصر يطلق بمعنى ما به يسمع ويبصر، وليس الله عندهم سميعا بصيرا بهذا الاعتبار، وإن كان أهل الإثبات يقولون بذلك، وإنما هو عندهم مجرد الإدراك فقط، فكيف يقال كان ثابتا في العدم غير متعلق وأنه لا يتعلق إلا بالموجود وأن تعلقه بالموجود عدم محض هذه أقوال معلومة الفساد بالضرورة، وقد بسطنا الكلام في مسألة الأفعال الاختيارية بسطا عظيما في غير هذا الموضع الوجه الحادي والستون: إن القرآن قد نطق بأن لله كلمات في غير موضع من كتابه كقوله: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } وقوله: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله }، وقال: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا }، وقال: { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته }، وقال تعالى: { يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين }، وقال تعالى: { ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور }، وقال: { وصدقت بكلمات ربها وكتبه }، وكذلك تواتر عن النبي ﷺ الاستعاذة بكلمات الله التامات، وهذا وأمثاله صريح في تعدد كلماته فكيف يقال ليس كلامه إلا معنى واحدا لا عدد فيه أصلا، وهذا قد أوردوه وذكروا جوابهم عنه فقال القرطبي فيما ذكره من كلام ابن فورك فإن قيل هذا الذي قلتم يوجب أن تكون التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وسائر كتب الله شيئا واحدا والرب تعالى قد أثبت لنفسه كلمات وقال: { ما نفدت كلمات الله } وقال: { وتمت كلمة ربك } وقال: { وصدقت بكلمات ربها وكتبه }، قلنا: إن الرب سبحانه أثبت لنفسه كلمات وأنزل الكتب كذلك وسمى نفسه بأسماء كثيرة وأثبتها في التنزيل فقال: { ولله الأسماء الحسنى } وقال رسول الله ﷺ { لله تسعة وتسعون اسما } أفتقولون بتعدد المسمى لتعديد الأسامي، أو تقولون الأسماء تدل على مسمى واحد بنعوت الجلال، فإن قلت التسميات تتعدد والمسمى واحد، فكذلك نقول في الكلام إنه واحد لا يشبه كلام المخلوقات ولا هو بلغة من اللغات ولا يوصف بأنه عربي أو فارسي أو عبراني لكن العبارات عنه تكثر وتختلف، فإذا قرئ كلام الله بلغة العرب سمي قرآنا، وإذا قرئ بلغة العبرانية أو الفارسية سمي توراة وإنجيلا كذلك الرب سبحانه يوصف بالعربية ( الله الرحمن الرحيم وبالفارسية خداي بزرك وبالتركية سركوي ) ونحو ذلك وهو سبحانه واحد والتسمية الدالة عليه تكثر، وكذلك هو سبحانه معبود في السماء ومعبود في الأرض بعبادات وقصود متباينة، وكذلك هو سبحانه مذكور الذاكرين بأذكار مختلفة، وكذلك الكلام يكتب ويقرأ ويفسر بقراءات مختلفة وأذكار متفاوتة وكتابة متباينة وقوله: { ما نفدت كلمات الله } قد قيل: إنما سمي كلامه كلمات لما فيه من فوائد الكلمات ولأنه ينوب منابها فجازت العبارة عنه بصيغة الجمع تعظيما وفي قريب من هذا المعنى قول الحق: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وكذلك قوله: { وإنا لنحن نحيي ونميت } وكذلك قوله: { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله } لأنه مناب أمة وكذلك قوله: { ونضع الموازين القسط } والمراد ميزان واحد وقيل ما تقدمت العبارات والدلالات التي تدل على مفهومات معاني كلامه: قلت: فهذا ما ذكروه ومن تدبر ذلك علم أنه من أبطل القول وأفسد القياس، فإنهم أوردوا سؤالين: أحدهما: أن هذا يوجب أن تكون التوراة والإنجيل وسائر كتب الله شيئا واحدا، والثاني: أن الرب أثبت لنفسه كلمات، ثم جعل الجواب عن الأول: إن هذا مثل أسماء الله الحسنى هي متعددة ومتنوعة باللغات، والمسمى واحد، فكذلك هذه الكتب مع تعددها وتنوعها هي عبارة عن معنى واحد، ومن المعلوم أن هذا باطل في الأصل المقيس عليه وفي الفرع، أما في الأصل فلأن أسماء الله الحسنى ليست مترادفة بحيث يكون معنى كل اسم هو معنى الاسم الآخر ولا هي أيضا متباينة التباين في المسمى وفي صفته، بل هي من جهة دلالتها على المسمى كالمترادفة ومن جهة دلالتها على صفاته كالمتباينة، وهذا القسم كثير ومنه أسماء النبي ﷺ وأسماء القرآن وغير ذلك، وبعض الناس يجعل هذا قسما من المترادف وبعضهم يجعله من المتباين قسما ثالثا قد يسميه المتكافئ، والمقصود فهم المعنى، فإذا قيل الرحمن الرحيم وقيل العليم القدير وقيل السميع البصير: فالأول يدل على المسمى بصفة الرحمة، والثاني يدل عليه بصفة العلم، والثالث بصفة القدرة، والرابع بصفة السمع، والخامس بصفة البصر وهذه الصفات ليس أحدها هو الآخر، وهذا مما لا ينازع فيه هؤلاء ولا غيرهم فصفات كل اسم يدل من صفات الرب على ما لم يدل عليه الآخر مع اتفاقها في الدلالة على المسمى نعم وقد يدل الاسم على معنى الآخر بطريق اللزوم فإنه يدل على الذات والذات تستلزم جميع الصفات لكن دلالة اللزوم ليست هي دلالة الاسم اللغوية واللزوم أيضا يحتاج إلى أن تعرف تلك الصفات من غير الاسم هو الدال عليها وإذا كان كذلك فتعدد أسماء الله تعالى لم يقتض تعدد المسمى ولكن اقتضى تعدد صفاته التي دلت عليها تلك الأسماء، وهؤلاء ينازعون في تعدد الصفات في الجملة ومحققوهم لا يقولون إنها محصورة بعدد بل يقولون هذا الذي علمناه وقد يكون له من الصفات ما لا نعلمه، وإذا كانت معاني الأسماء متعددة وإن كان المسمى واحدا لم يكن هذا نظيرا لما ادعاه من تكثر العبارات مع اتحاد المعنى المعبر عنه، وأما اختلاف الأسماء بالعربية وغيرها من الألسن فهذا على وجهين تارة تكون تلك الأسماء العجمية تدل على صفات ليست هي الصفة التي تدل عليها الاسم العربي فيكون بمنزلة الأسماء الحسنى بالعربية وتارة يكون معناها معنى الاسم العربي فيكون هذا كالأسماء المترادفة، ولولا تنوع معاني الأسماء لم يكن لبعضها على بعض مزية ولا كان في اختصاص بعض الناس بعلم بعضها فضيلة ولا كان الدعاء ببعضها أوكد من الدعاء ببعض، وقد قال النبي ﷺ في الحديث المشهور الذي رواه أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: { ما أصاب عبدا قط هم ولا غم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهن، قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن } وكذلك قوله في حديث { لقد دعا الله باسمه الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى } وقوله { أسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير الأكبر } وقوله في حديث { اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين )

الوجه الثاني والستون: إن أسماء الله الحسنى مع أنها تدل على ذاته الموصوفة بصفات متعددة فليس دلالة الكتب المنزلة من السماء على كلامه كدلالة أسمائه على نفسه المقدسة فإن الاسمين يشتركان في المسمى وينفرد كل منهما بالصفة التي اختص بالدلالة عليها، وأما الكلام المنزل فكل من الكلامين له معنى يختص به لا يشاركه الآخر في شيء من معناه كما يشارك الاسم الاسم في مسماه، فإن آية الكرسي مثلا وقل هو الله أحد ونحوهما دالة على المعنى القائم بالنفس المتعلق بصفات الله تعالى، وسورة الدين وسورة { تبت يدا أبي لهب } وغيرهما لهما معان أخر في ذم بعض المخلوقين والأمر ببعض الأفعال، وليس ذم هذا المخلوق والخبر عنه هو مدح الله والثناء عليه ولا معنى هذا هو معنى هذا ولا بينهما قدر مشترك في الخارج أصلا كما بين الاسمين إذ مسماهما واحد موجود، وأما معنى هاتين الآيتين فليس هو واحدا أصلا بل هذا المعنى ليس هو هذا المعنى بوجه من الوجوه، نعم يشتركان في كون كل منهما كلاما للمتكلم وهذا كاشتراك الحياتين في أن هذه حياة وهذه حياة، واشتراك الموجودين في أن هذا وجود وهذا وجود وهذا الاشتراك لا يقتضي أن أحدهما هو الآخر في الخارج أصلا، فكذلك معاني هذه العبارات لا تقتضي أن إحداها هي الأخرى في الخارج أصلا وهذا معلوم بالفطرة البديهية وفهمه سهل على من تدبره ومن جحد هذا كان من أظهر الجاحدين للمعارف الفطرية الضرورية وإن سقطت مكالمة أحد لسفسطته فهذا أحق من هؤلاء بهذا ويتضح ذلك بالذي بعده وهو :

وكان المقصود هنا أولا الكلام في اسم الله الواحد وأن له ثلاثة معان: أحدها: إنه الذي لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد ولا يتركب وربما قال بعضهم هذا تفسير الاسم الواحد، وهذه الوحدانية هي التي ذكروها هنا إذ ليس مرادهم بأنه لا ينقسم ولا يتبعض أنه لا ينفصل بعضه عن بعض، وأنه لا يكون إلهين اثنين ونحو ذلك مما يقول نحوا منه النصارى والمشركون، فإن هذا مما لا ينازعهم فيه المسلمون وهو حق لا ريب فيه وكذلك كان علماء السلف ينفون التبعيض عن الله بهذا المعنى، وإنما مرادهم بذلك أنه لا يشهد ولا يرى منه شيء دون شيء ولا يدرك منه شيء دون شيء ولا يعلم منه شيء دون شيء ولا يمكن أن يشار منه إلى شيء دون شيء بحيث إنه ليس له في نفسه حقيقة عندهم قائمة بنفسها يمكنه هو أن يشير منها إلى شيء دون شيء أو يرى عباده منها شيئا دون شيء بحيث إذا تجلى لعباده يريهم من نفسه المقدسة ما شاء فإن ذلك غير ممكن عندهم ولا يتصور عندهم أن يكون العباد محجوبين عنه بحجاب منفصل عنهم يمنع أبصارهم عن رؤيته، فإن الحجاب لا يحجب إلا ما هو جسم منقسم ولا يتصور عندهم أن الله يكشف عن وجهه الحجاب ليراه المؤمنون ولا أن يكون على وجهه حجاب أصلا ولا أن يكون بحيث يلقاه العبد أو يصل إليه أو يدنو منه أو يقر إليه في الحقيقة، فهذا ونحوه هو المراد عندهم بكونه لا ينقسم ويسمون ذلك نفي التجسيم إذ كل ما ثبت له ذلك كان جسما منقسما مركبا والباري منزه عندهم عن هذه المعاني، والمعنى الثاني: من معاني الواحد عندهم هو الذي لا شبيه له وهذه الكلمة أقرب إلى الإسلام لكن أجملوها فجعلوا نفي الصفات أو بعضها داخلا في نفي التشبيه واضطربوا في ذلك على درجات لا تنضبط، والمعتزلة تزعم أن نفي العلم والقدرة وغير ذلك من التوحيد ونفي التجسيم والتشبيه والصفاتية تقول ليس ذلك من التوحيد ونفي التجسيم والتشبيه، ثم هؤلاء مضطربون فيما ينفونه من ذلك لكن وافقوا أولئك على أن ما نفوه من التشبيه وما نفوه من المعنى الذي سموه تجسيما وهو التوحيد الذي لا يتم الدين إلا به وهو أصل الدين عندهم وكل من سمع ما جاءت به الرسل يعلم بالاضطرار أن هذه الأمور ليست مما بعث الله به رسوله ولم يكن الرسول يعلم أمته هذه الأمور ولا كان أصحاب رسول الله ﷺ فكيف يكون هذا التوحيد الذي هو أصل الدين لم يدع إليه رسول الله ﷺ والصحابة والتابعون بل يعلم بالاضطرار أن الذي جاء به الرسول من الكتاب والسنة يخالف هذا المعنى الذي سماه هؤلاء الجهمية توحيدا ولهذا ما زال سلف الأمة وأئمتها ينكرون ذلك، كما روى الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي في ذم الكلام، قال سمعت عبد الرحمن جابرا السلمي، قال سمعت محمد بن عقيل بن الأزهر الفقيه يقول جاء رجل إلى المزني فسأله عن شيء من الكلام، فقال إني أكره هذا بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي، ولقد سمعت الشافعي يقول سئل مالك عن الكلام في التوحيد قال مالك محال أن يظن بالنبي ﷺ أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد بالتوحيد ما قاله النبي ﷺ { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله } فما عصم به الدم والمال فهو حقيقة التوحيد ذلك ما قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب ذم الكلام والشيخ أبو الحسن الكرخي في كتاب الفصول في الأصول، وروى أيضا أبو عبد الرحمن السلمي ومن طريقه شيخ الإسلام حدثنا محمد بن محمود الفقيه بمرو حدثنا محمد بن عمير حدثنا أبو يحيى زكريا بن أيوب العلاف النجيبي بمصر حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا أشهب بن عبد العزيز سمعت مالك بن أنس يقول إياكم والبدع قيل يا أبا عبد الله وما البدع، قال أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ورويا أيضا ما ذكره أيضا الشيخ أبو عبد الرحمن حدثنا محمد بن جعفر بن مطر سمعت شكرا سمعت أبا سعيد البصري سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول دخلت على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن فقال لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرا فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ولو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل على باطل، وهذا صريح في رد الكلام والتوحيد الذي كان تقوله المعتزلة والجهمية وليس له أصل عن الصحابة والتابعين بخلاف ما روي من الآثار الصحيحة في الصفات والتوحيد عن الصحابة والتابعين فإن ذلك لم ينكروه إنما أنكروا الكلام والتوحيد المبتدع في أسماء الله وصفاته وكلامه، وقال أبو عبد الرحمن حدثنا أبو القاسم بن مستويه حدثنا حامد بن رستم حدثنا الحسين بن مطيع حدثنا إبراهيم بن رستم عن نوح الجامع قال قلت لأبي حنيفة ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام، فقال مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة، وقال حدثنا عبد الله بن أحمد بن سعيد البخاري سمعت سعيد بن الأحنف سمعت الفتح بن علوان سمعت أحمد بن الحجاج سمعت محمد بن الحسين صاحب أبي حنيفة يقول: قال أبو حنيفة لعن الله عمرو بن عبيد فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام، وكان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام، وقال شيخ الإسلام أبو الفضل الحادودي أنبأ إبراهيم بن محمد حدثنا زكريا بن يحيى سمعت محمد بن إسماعيل يقول سمعت الحسين بن علي الكرابيسي يقول شهدت الشافعي ودخل عليه بشر المريسي فقال لبشر أخبرني عما تدعو إليه أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال فقال بشر إلا أنه لا يسعنا خلافه، فقال الشافعي أقررت على نفسك بالخطإ فأين أنت من الكلام في الفقه والأخبار يواليك الناس عليه وتترك هذا لنا نتهمه فيه فلما خرج بشر قال الشافعي لا يفلح، وروى شيخ الإسلام عن المزني وعن الربيع قال المزني سمعت الشافعي يقول للربيع يا ربيع اقبل مني ثلاثة أشياء: لا تخوض في أصحاب رسول الله ﷺ فإن خصمك النبي ﷺ يوم القيامة ولا تشتغل بالكلام فإني قد اطلعت من أهل الكلام عن التعطيل، زاد المزني ولا تشتغل بالنجوم فإنه يجر إلى التعطيل، وهذا التوحيد الذي يذكره هؤلاء مأخوذ من قول بشر المريسي وذويه: وهذا التوحيد الذي ذكروه هو التعطيل بعينه فإنه لا يصلح أن يكون إلا صفة للمعدوم، وقال أبو عبد الرحمن السلمي أيضا رأيت بخط أبي عمرو بن مطر يقول سئل ابن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات فقال بدعة ابتدعوها، ولم يكن أئمة المسلمين وأرباب المذاهب وأئمة الدين مثل مالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى وابن المبارك ومحمد بن يحيى وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف يتكلمون في ذلك بل كانوا ينهون عن الخوض فيه ويدلون أصحابهم على الكتاب والسنة فإياك والخوض فيه والنظر في كتبهم بحال، قلت: وقول ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة الكلام في الأسماء والصفات هو نظير ما نهى عنه مالك من الكلام في الأسماء والصفات وهو هذا التوحيد الذي ابتدعته الجهمية وأتباعها فإن ابن خزيمة له كتاب مشهور في التوحيد يذكر فيه صفات الله التي نطق بها كتابه وسنة رسوله، قال عبد الرحمن سمعت أبي يقول قلت لأبي العباس بن سريج ما التوحيد قال توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي ﷺ بإنكار ذلك، وهذا موافق لما تقدم فبين أن الخوض في الجسم والعرض ونفي ذلك وجعل ذلك من التوحيد هو قول أهل الباطل فكيف بمن جعله أصل الدين كما قال شيخ الإسلام سمعت أحمد بن الحسن، أنبأنا الأشعث يقول قال رجل لبشر بن أحمد أبي سهل الإسفراييني إنما أتعلم الكلام لأعرف به الدين فغضب وسمعته قال أو كان السلف من علمائنا كفارا وقال أبو عمر بن عبد البر الذي أقول أنه إذا نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين وبأعلام النبوة ودلائل الرسالة لا من قبل حركة ولا سكون ولا من باب البعض والكل ولا من باب كان ويكون ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبا في الجسم ونفيه وفي التشبيه ونفيه لازما ما أضاعوه وما أضاعوا الواجب لما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم ولو كان ذلك من علمهم مشهورا ومن أخلاقهم معروفا لاستفاض عنهم واشتهروا بالقرآن والروايات، فذكر أبو عمر أن ما يدخله هؤلاء في أصول الدين والتوحيد من الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه والاستدلال بالحركة والسكون لو كان من الدين لما أضاعه خيار هذه الأمة فعلم أنه ليس من الدين وكلام علماء الملة في هذا الباب يطول وإنما الغرض التنبيه على أن ما سماه هؤلاء توحيدا وجعلوه هو نفي التجسيم والتشبيه إنما هو شيء ابتدعوه لم يبعث الله به رسله ولا أنزل به كتبه وقد اعترف بذلك حذاقهم كما ذكره أبو حامد الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين ووافقه فيه أبو الفرج بن الجوزي في كتاب منهاج القاصدين لما ذكر الأسماء التي عرف مسمياتها فذكر العلم والفقه والتوحيد قال، ولهذا لما كان أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبو الحسن الأشعري وأبو العباس القلانسي ممن أخذ أصل الكلام في التوحيد عن المعتزلة وخالفوهم في بعض دون بعض يقع في كلامهم من هذا التوحيد المبتدع المخالف للتوحيد المنزل من عند الله ما يقع كان الناس ينبهون على ذلك حتى ذكر شيخ الإسلام قال سمعت عدنان بن عبدة النميري يقول سمعت أبا عمر البسطامي يقول كان أبو الحسن الأشعري أولا ينتحل الاعتزال ثم رجع فتكلم عليهم وإنما مذهبه التعطيل إلا أنه رجع من التصريح إلى التمويه، وقال الشيخ أبو نصر السجزي في رسالته إلى أهل اليمن ولقد حكى لي محمد بن عبد الله المالكي المغربي وكان فقيها صالحا عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذه خلف المعلم وكان من فقهاء المالكيين أنه قال الأشعري أقام أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول، قال أبو نصر هذا كلام خبير بمذهب الأشعري وعورته ولهذا قال محمد بن خويز منداد إمام المالكية في وقته في العراق في الكلام الذي ذكره عنه أبو عمر بن عبد البر قال أهل البدع والأهواء عند مالك وأصحابه الذين ترد شهادتهم هم أهل الكلام قال فكل متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه وكل متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء أشعريا كان أو غير أشعري، والمعنى الثالث: من معاني التوحيد عند هؤلاء الأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره هو أنه سبحانه لا شريك له في الملك بل هو رب كل شيء وهذا معنى صحيح وهو حق وهو أجود ما اعتصموا به من الإسلام في أصولهم حيث اعترفوا فيها بأن الله خالق كل شيء ومربيه ومدبره والمعتزلة وغيرهم يخالفون في ذلك حيث يجعلون بعض المخلوقات لم يخلقها الله ولم يحدثها لكن مع هذا قد ردوا قولهم ببدع غلوا فيها وأنكروا ما خلقه الله من الأسباب وأنكروا ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله يخلق الأشياء بعضها ببعض وغير ذلك مما ليس هذا موضعه فهذه المعاني الثلاثة هي التي يقولون أنها معنى اسم الله الواحد وهي التوحيد وفيها من البدع التي خولف بها الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ما قد نبهنا على بعضه، وأما التوحيد الذي ذكره الله في كتابه وأنزل به كتبه وبعث به رسله واتفق عليه المسلمون من كل ملة فهو كما قال الأئمة شهادة أن لا إله إلا الله وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما بين ذلك بقوله: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم }، فأخبر أن الإله إله واحد لا يجوز أن يتخذ إله غيره فلا يعبد إلا إياه كما قال في السورة الأخرى: { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } وكما قال: { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا }، إلى قوله: { فتلقى في جهنم ملوما مدحورا }، وكما قال: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وكما قال: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر }، والشرك الذي ذكره الله في كتابه إنما هو عبادة غيره من المخلوقات كعبادة الملائكة أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء أو تماثيلهم أو قبورهم أو غيرهم من الآدميين ونحو ذلك مما هو كثير في هؤلاء الجهمية ونحوهم ممن يزعم أنه محق في التوحيد وهو من أعظم الناس إشراكا وقال تعالى: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون }

. وقال: { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون، ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } وقال تعالى: { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون }، وقال تعالى: { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } وقال تعالى: { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق }، وقال تعالى: { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون } وقال تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }، قال ابن عباس وعطاء وعكرمة ومجاهد يسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره ويشركون به ويقولون له ولد وثالث ثلاثة فكان الكفار يقرون بتوحيد الربوبية وهو نهاية ما يثبته هؤلاء المتكلمون إذا سلموا من البدع فيه وكانوا مع هذا مشركين لأنهم كانوا يعبدون غير الله وقال تعالى: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }، وقال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }، وقال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة }، فبين سبحانه أنه بهذا التوحيد بعث جميع الرسل وأنه بعث إلى كل أمة رسولا به وهذا هو الإسلام الذي لا يقبل الله من الأولين ولا من الآخرين دينا غيره قال تعالى: { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون، قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } فدين الله أن يدينه العباد ويدينون له فيعبدونه وحده ويطيعونه وذلك هو الإسلام له فمن ابتغى غير هذا دينا فلن يقبل منه وكذلك قال في الآية الأخرى: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام } فذكر أن الدين عند الله الإسلام بعد إخباره بشهادته وشهادة الملائكة وأولي العلم أنه لا إله إلا هو، والإله هو المستحق للعبادة فأما من اعتقد في الله أنه رب كل شيء وخالقه وهو مع هذا يعبد غيره فإنه مشرك بربه متخذ من دونه إلها آخر فليست الإلهية هو الخلق أو القدرة على الخلق أو القدم كما يفسرها هؤلاء المبتدعون في التوحيد من أهل الكلام إذ المشركون الذين شهد الله ورسوله بأنهم مشركون من العرب وغيرهم لم يكونوا يشكون في أن الله خالق كل شيء وربه فلو كان هذا هو الإلهية لكانوا قائلين إنه لا إله إلا هو فهذا موضع عظيم جدا ينبغي معرفته لما قد لبس على طوائف من الناس أصل الإسلام حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركا وأدخلوا في التوحيد والإسلام أمورا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أمورا عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله فأكثر هؤلاء المتكلمين لا يجعلون التوحيد إلا ما يتعلق بالقول والرأي واعتقاد ذلك دون ما يتعلق بالعمل والإرادة واعتقاد ذلك بل التوحيد الذي لا بد منه لا يكون إلا بتوحيد الإرادة والقصد وهو توحيد العبادة وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله أن يقصد الله بالعبادة ويريده بذلك دون ما سواه وهذا هو الإسلام فإن الإسلام يتضمن أصلين: أحدهما: الاستسلام لله والثاني: أن يكون ذلك له سالما فلا يشركه أحد في الإسلام له وهذا هو الاستسلام لله دون ما سواه وسورة { قل يا أيها الكافرون } تفسر ذلك ولا ريب أن العمل ومقصده مسبوق بالعلم فلا بد أن يعلم ويشهد أن لا إله إلا الله وأما التوحيد القولي الذي هو الخبر عن الله ففي سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن وفيها اسمه الأحد الصمد وكل من هذين الاسمين يدل على نقيض مذهب هؤلاء الجهمية كما بيناه في موضعه وعبادة الله وحده يدخل فيها كمال المحبة لله وحده وكمال الخوف منه وحده والرجاء له والتوكل عليه وحده والتوكل عليه كما يبين القرآن ذلك في غير موضع فكل ذلك من أصول التوحيد الذي أوجب الله على عباده وبذلك يكون الدين كله لله كما أمر الله رسله والمؤمنين بالقتال إلى هذه الغاية حيث يقول: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله (

الوجه الثالث والستون: وهو قولهم: كذلك نقول في الكلام إنه واحد لا يشبه كلام المخلوقات ولا هو بلغة من اللغات ولا يوصف بأنه عربي أو فارسي أو عبراني لكن العبارات عنه تكثر وتختلف فإذا قرئ كلام الله بلغة العرب سمي قرآنا وإذا قرئ بلغة العبرانية أو السريانية سمي توراة أو إنجيلا فإن هذا الكلام من أفسد ما يعلم فبديهة العقل فساده، وهو كفر إذا فهمه الإنسان وأصر عليه فقد أصر على الكفر وذلك أن القرآن يقرأ بالعربية وقد يترجم بحسب الإمكان بالعبرانية أو الفارسية أو غيرهما من الألسن ومع هذا إذا ترجم بالعبرانية لم يكن هو التوراة ولا مثل التوراة ولا معانيه مثل معاني التوراة وكذلك التوراة تقرأ بالعبرية وتترجم بالعربية والسريانية ومع هذا فليست مثل القرآن ولا معانيها مثل معاني القرآن وكذلك الإنجيل من المعلوم أنه يقرأ بعدة ألسن وهو في ذلك معانيه ليست معاني التوراة والقرآن، فهل يقول من له عقل أو دين إن كلام الله مطلقا إذا قرئ بالعربية كان هو القرآن، أو ليس يلزم صاحب هذا أن تكون التوراة والإنجيل إذا فسرا بالعربية كانا هذا القرآن الذي أنزل على محمد، بل هذه الأحاديث الإلهية التي يرويها الرسول ﷺ عن ربه تعالى مثل قوله: { يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة } وقوله: { يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني } ونحو ذلك فهذا كلام عربي مأثور عن الله ومع هذا فليس قرآنا ولا مثل القرآن لا لفظا ولا معنى، فكيف يقال في التوراة والإنجيل إذا قرئا بالعربية كان قرآنا، وكذلك القرآن إذا ترجم بالعبرية أو السريانية هل يقول من له عقل أو له دين إن ذلك هو التوراة والإنجيل المنزل على موسى وعيسى عليهما السلام، وهل يقول عاقل إن كلام الله المنزل بالألسنة المختلفة معناه شيء واحد كالكلام الذي يترجم بألسنة متعددة، العلم بفساد هذا من أوضح العلوم البديهية العقلية وقائل هذا لو تدبر ما قال لعلم أن المجانين، لا يقولون هذا، ومن المعلوم لكل أحد أن الكلام إذا ترجم كما ترجمت العرب كلام الأوائل من الفرس واليونان والهند وغيرهم فتلك المعاني هي المعاني وهي باقية لم تختلف بكونها عربية أو فارسية أو رومية أو هندية، وكذلك لما ترجموا ما ترجموه من كلام الأنبياء قبلنا وأممهم فتلك المعاني هي هي سواء كانت بالعربية أو الفارسية، وقد أخبر الله في كتابه عما قالته الأمم قبلنا من الأنبياء وأممهم وهم إنما قالوه بألسنتهم وقصه الله علينا باللسان العربي، وتلك المعاني هي هي لم يكن كونها حقا أو باطلا أو إيمانا أو كفرا أو رشدا أو غيا من جهة اختلاف الألسنة بل لأن تلك المعاني هي في نفسها حقائق متنوعة مختلفة أعظم من اختلاف الألسنة واللغات بكثير كثير، وأين اختلاف المعاني من اختلاف الألفاظ وإنما ذلك بمنزلة: اختلاف صور بني آدم وألسنتهم بالنسبة إلى اختلاف قلوبهم وعلومهم وقصودهم، ومن المعلوم أن اختلاف قلوبهم وعلمها وإرادتها أعظم بكثير من اختلاف صورهم وألوانهم ولغاتهم حتى قد ثبت في الحديث المتفق عليه في الصحيحين، أن النبي ﷺ { قال لأبي ذر عن رجلين يا أبا ذر هذا خير من ملء الأرض مثل هذا }، فجعل أحدهما خيرا من ملء الأرض من جنس الآخر وذلك لاختلاف قلوبهم، فاختلاف الصور لا يبلغ قريبا من ذلك، وهكذا كلام الله الذي أنزله على موسى وهو التوراة، والذي أنزله على محمد ﷺ وهو القرآن لم تكن مغايرة بعضه بعضا بمجرد اختلاف الألسنة بحيث إذا ترجم كل واحد بلغة الآخر صار مثله أو صار هو إياه كما قاله هؤلاء الملحدون في أسماء الله وآياته، مع الترجمة يكون لكل منهما معاني ليست هي معاني الآخر ولا مثلها بل التفاوت الذي بين معاني هذه الكتب أعظم من التفاوت الذي بين ألفاظها واللسان العبري قريب من اللسان العربي ومع هذا فمعاني القرآن فوق معاني التوراة بأمر عظيم، ثم المسيح إنما كان لسانه عبريا وإنما بعده ترجم الإنجيل بالسريانية أفنرى الإنجيل الذي أنزله الله عليه بالعبرية هو التوراة الذي أنزلت على موسى، بل يجب أن يعلم أصلان عظيمان، أحدهما: أن القرآن له بهذا اللفظ والنظم العربي اختصاص لا يمكن أن يماثله في ذلك شيء أصلا، أعني خاصة في اللفظ وخاصة فيما دل عليه من المعنى، ولهذا لو فسر القرآن ولو ترجم فالتفسير والترجمة قد يأتي بأصل المعنى أو يقربه وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلا ولهذا كان أئمة الدين على أنه لا يجوز أن يقرأ بغير العربية لا مع القدرة عليها ولا مع العجز عنها لأن ذلك يخرجه عن أن يكون هو القرآن المنزل، ولكن يجوز ترجمته كما يجوز تفسيره وإن لم تجز قراءته بألفاظ التفسير وهي إليه أقرب من ألفاظ الترجمة بلغة أخرى، الأصل الثاني: إنه إذا ترجم أو قرئ بالترجمة فله معنى يختص به لا يماثله فيه كلام أصلا ومعناه أشد مباينة لسائر معاني الكلام من مباينة لفظه ونظمه لسائر اللفظ والنظم والإعجاز في معناه أعظم بكثير كثير من الإعجاز في لفظه، وقوله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } يتناول ذلك كله، فكيف يقال الكلام المقروء بالعربية والسريانية من التوراة والإنجيل والمترجم بالفارسية والتركية من ذلك هو الكلام المقروء بالعربية الذي هو القرآن مع أنا بالبديهة نعلم أنه ليس مثله لا في لفظ ولا معنى فضلا عن أن يكون هو إياه وهل يقول من له عقل أو دين يفهم ما يقول أن هذه الكتب والكلام المنزل هي في الدلالة على معناها كدلالة أسماء الله عليه، أم يعلم كل أحد أن أسماء الله مع تنوع ما دلت عليه من الصفات والمسمى واحد وأما الكلام فيكون معنى هذا الكلام ليس هو معنى الآخر، وينبغي أن يعلم أنه ليس مقصودنا عموم النفي بل مقصودنا نفي العموم فإنا لا ننكر أن الكلامين قد يتفقان في المعنى، وقد ينزل الله سبحانه على نبي بلغة المعنى الذي أنزله على الآخر فيكون المعنى واحدا واللفظ مختلفا، وهذا كثير جدا فإنا نحن لم ننكر أن معاني الألفاظ تتفق، لكن المنكر أن يقال جميع معاني ألفاظ الكتب متفقة وهي معنى واحد وأن معنى ما أنزل على هذا النبي هو بعينه ذلك المعنى وأن جميع ألفاظ القرآن معناها واحد ومعنى سورة الدين هو معنى آية الكرسي وأن معنى { قل هو الله أحد } معنى { تبت يدا أبي لهب } ومعنى المعوذتين وهذا لو عرض على من له أدنى تمييز من الصبيان لعلم ببديهة عقله أنه من أعظم الباطل، فتدبر كيف ضلوا في زعمهم أن معناه واحد لاتحاد المسمى، ثم ضلوا أعظم ضلال في أن كلام الله أنزله معناه معنى واحد وإنما تختلف أسماؤه لاختلاف الألسنة، وشبهوه بالأسماء فلو كان الكلام معنى واحدا وله صفات متعددة لكانوا قد ضلوا من وجه، ولكن معنى قل هو الله أحد ليس هو معنى { تبت يدا أبي لهب } بوجه من الوجوه فلا يصح أن يقال ذلك مثل الرحمن الرحيم السميع العليم، إذ المدلول هنا واحد في نفسه وله صفات والمدلول هنا في إحدى السورتين ليس هو المدلول في السورة الأخرى بوجه من الوجوه، وأما تشبيههم ذلك بكون الله معبودا بعبادات متنوعة فهو أوضح من أن يحتاج إلى الفرق فلهذا لم نحتج إلى الكلام عليه، إذ تشبيه ذلك بأسماء الله تعالى أقوى اشتباها وقد ظهر ما فيه، فكيف بتشبيه كتب الله المنزلة بالنسبة إلى ما ادعوه من المعنى الواحد بعبادة العابدين بالنسبة إلى الله تعالى، وبهذا يتبين لك أن من قال منهم إن القرآن محفوظ بالقلوب حقيقة مقروء بالألسنة حقيقة مكتوب في المصاحف حقيقة كما أن الله معلوم بالقلوب مذكور بالألسنة مكتوب في المصاحف حقيقة، فهو يقصد هذا التلبيس من جعل الكتب المنزلة وسائر كلام الله بالنسبة إلى ما ادعوه من ذلك المعنى النفساني كسائر أسماء الله بالنسبة إلى نفسه، وقد تبين لك أن هذا من أفسد القياس فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرا من عباده وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا، وبهذا وأمثاله تعلم أن القائلين بخلق القرآن وإن كانوا أخبث قولا من هؤلاء من جهات مثل نفيهم أن يقوم بالله كلام فهؤلاء أخبث منهم من جهات أخر مثل منعهم أن يكون كلام الله ما هو كلامه وجعلهم كلام الله شيئا لا حقيقة له وغير ذلك .

الوجه السابع والستون: إنه قد احتج بعض متأخريهم على إمكان أن يكون كلامه واحدا بما ذكره الملقب عندهم بالإمام فخر الدين أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي فقال: لما كان الباري سبحانه عالما بالعلم الواحد بجملة المعلومات غير المتناهية فلم لا يجوز أن يكون مخبرا بالخبر الواحد عن المخبرات غير المتناهية، ولنضرب لذلك مثالا لهذا الكلام وهو أن رجلا إذا قال لأحد غلمانه إذا قلت اضرب فاضرب فلانا، ويقول للثاني إذا قلت اضرب فلا تتكلم مع فلان ويقول للثالث إذا قلت اضرب فاستخبر عن فلان، ويقول للرابع إذا قلت اضرب فأخبرني عن الأمر الفلاني، ثم إذا حضر الغلمان بين يديه ثم يقول لهم اضرب فهذا الكلام الواحد في حق أحدهم أمر وفي حق الثاني نهي وفي حق الثالث خبر وفي حق الرابع استخبار وإذا كان اللفظ الواحد بالنسبة إلى أربعة أشخاص أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا فأي استبعاد في أن يكون كلام الحق سبحانه كذلك فثبت أنه سبحانه متكلم بكلام واحد، فيقال لهؤلاء هذه الحجة بعينها التي اعتمدها إمام أتباعه أبو عبد الله الرازي هو أيضا قد رجع عن ذلك في أجل كتبه عنده وبين فسادها، فقال في نهاية العقول من جهة أصحابه لا نسلم أن الشيء يستحيل أن يكون خبرا وطلبا وبيانه أن إنسانا لو قال لبعض عبيده متى قلت لك افعل فاعلم أني أطلب منك الفعل، وقال للآخر متى قلت لك هذه الصيغة فاعلم أني أطلب منك الترك، وقال للآخر متى قلت لك هذه الصيغة فاعلم أني أخبر عن كون العالم حادثا، فإذا حضروا بأسرهم وخاطبهم دفعة واحدة بهذه الصيغة كانت تلك الصيغة الواحدة أمرا ونهيا وخبرا معا، فإذا عقل ذلك في الشاهد فليعقل مثله في الغائب، ثم قال وهذا ضعيف لأن قوله افعل ليس في نفسه طلبا ولا خبرا بل هو صيغة موضوعة لإفادة معنى الطلب ومعنى الخبر ولا استحالة في جعل الشيء الواحد دليلا على حقائق مختلفة، إنما الاستحالة في أن يكون للشيء حقائق مختلفة وكلامنا إنما هو في نفس حقيقة الخبر وحقيقة الطلب، واستقصاء القول في ذلك مذكور في باب الأمر من كتاب المحصول في علم الأصول فهذا كلام المستدل بهذه الحجة في بيان فسادها وبطلانها وذلك كاف، الوجه الثامن والستون: أن يقال هذه الحجة من أفسد الحجج عند التأمل وذلك أن هذا المثل المضروب أكثر ما فيه جواز أن يكون اللفظ الواحد مشركا بين معاني أمر ونهي وخبر كما قد قيل في قول القائل ويل لك أنه دعاء وخبر، ولا ريب أن الصيغة الواحدة يراد بها الأمر تارة والخبر أخرى كقول القائل غفر الله لفلان ورحمه وأحسن إليه وأدخله الجنة وأجاره من النار وأنعم عليه نعما عظيمة فإن هذا في الأصل خبر وهو كثير مستعمل في الدعاء الذي هو طلب وكذلك صيغة افعل هي أمر في الأصل وقد تضمن معنى النهي والتهديد كما قد قيل في قوله: { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير }، ولكن هل يجوز أن يراد باللفظ الواحد المشترك بين معنيين إما الأمر والخبر أو الأمر والنهي أو غير ذلك كلا المعنيين على سبيل الجمع، هذا فيه نزاع مشهور بين أهل الفقه والأصول وغيرهم، والنزاع مشهور في مذهب أحمد والشافعي ومالك وغيرهم وبين المعتزلة بعضهم مع بعض وبين الأشعرية أيضا والرازي يختار أن ذلك لا يجوز موافقة لأبي الحسين البصري ولم يجعل المانع من ذلك أمرا يرجع إلى القصد فإن قصد المعنيين جائز ولكن المانع أمر يرجع إلى الوضع وهو أن أهل اللغة إنما وضعوه لهذا وهذه ولهذا وهذه فاستعماله فيها جميعا استعمال في غير ما وضع له، ولهذا كان المرجح قول المسوغين لأن استعماله فيهما غايته أن يكون استعمالا له في غير ما وضع له وذلك يسوغ بطريق المجاز، ولا مانع لأهل اللغة من أن يستعملوا اللفظ في غير موضوعه بطريق المجاز على أن إطلاق القول بأن هذا استعمال له في غير موضوعه فيه نزاع كالطلاق القول في اللفظ العام المخصوص، أنه استعمال له في غير موضوعه، ومنه استعمال صيغة الأمر في الندب ونحو ذلك فإن طوائف من الناس يقولون بعض المعنى ليس هو غيره فلا يكون ذلك استعمالا له في غير موضعه ولا يجعلون اللفظ بذلك مجازا، وهذا قول أئمة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الطيب وغيرهما، واستعمال اللفظ المشترك في معنييه ضد استعمال العام في بعض معناه فإنه موضوع لهذا مفردا ولهذا مفردا فجمع بين معنييه ومثل هذا لا يقر مثل هؤلاء بأنه عين معناه إذ هو معناه مفردا ومعه غيره، وكما أن بعض الشيء ليس بغير له عندهم فلا يصير الشيء غيرا لنفسه بالزيادة عليه لا سيما إذا كان المزيد نظيره وليس المقصود هنا تكميل القول في هذه المسألة ولكن نبين حقيقة ما يحتج به هؤلاء فإن هذا المثل الذي ضربوه مضمونه أن يجعل اللفظ موضوعا لأمر ونهي وخبر ويقصد بالخطاب به إفهام كل معنى لمخاطب غير المخاطب الأول وهذا جائز في المعقول لكن ليس هذا مما ادعوه في الكلام بشيء وذلك أن النزاع ليس هو في أن اللفظ الواحد يدل على حقائق مختلفة فإن هذا لا ينازع فيه أحد ولا حاجة فيه إلى ضرب المثل، بل دلالة الألفاظ الموضوعة على حقائق مختلفة كثير جدا وإن كان اللفظ خبرا أو أمرا لكن ويدل على حقائق مختلفة، وإنما النزاع في المعاني المختلفة التي هي مدلول جميع الألفاظ التي أنزلها الله هل هو معنى واحد فالنزاع في المعاني المعقولة من الألفاظ وهي أمر الله بكذا وأمره بكذا أو نهيه عن كذا ونهيه عن كذا أو خبره بكذا وخبره بكذا هل هو شيء واحد والمعاني لا تتبع وضع واضع، ومن العجب أن هؤلاء إذا احتجوا على أن الكلام هو معنى في النفس قالوا إن مدلول العبارات والإشارات لا يختلف باختلاف اللغات ولا بقصد الواضعين المتكلمين ثم يحتجون على أنه واحد بجواز أن يجعل الواضع اللفظ الواحد موضوعا لمعان متعددة وأين هذا من هذا فإن دلالة اللفظ على المعنى يتبع قصد المتكلم والإرادة، فإنه بالقصد والإرادة كان هذا المعنى وهذا اللفظ يدل على هذا المعنى لأن اللفظ صار كذلك بذاته أو بطبعه لكن تنازع الناس ، هل بين اللفظ والمعنى مناسبة لأجلها خصص الواضعون هذا اللفظ بهذا المعنى على قولين: أصحهما أنه لا بد من المناسبة وليست موجبة بالطبع حتى يقال فذلك يختلف باختلاف الأمم بل هي مناسبة داعية والمناسبة تتنوع بتنوع الأمم كتنوع الأفعال الإرادية، ولو قيل إنه بالطبع فطباع الأمم تختلف سواء في ذلك طبعهم الاختياري، فتبين أن هذا المثل الذي ضربوه في غاية البعد عما قصدوه إذ ما ذكروه هو اللفظ الدال على معان وهذا لا نزاع فيه، ومقصودهم أن المعاني التي هي في نفسها لكل معنى حقيقة هل هي في نفسها شيء واحد وذلك لا يكون بقصد واضع ولا إرادته ولا وضعه، والإمكان هنا ليس هو إمكان أن يجعل هذا هذا بل المسئول عنه الإمكان الذهني وهو أنه هل يمكن في العقل أن يكون المعنى المعقول من صيغ الأمر هو المعنى المعقول من صيغ الخبر، وأن يكون نفس ما يقوم بالنفس من الأمر بهذا الخبر عنه هو بعينه ما يقوم بالنفس من الأمر بغيره والخبر عنه .

الوجه التاسع والستون: أن يقال هو قال إذا كان الباري عالما بالعلم الواحد بجملة المعلومات غير المتناهية، فلم لا يجوز أن يكون مخبرا بالخبر الواحد عن المخبرات غير المتناهيات، فيقال له: هب أن هذا ثبت في كون الخبر واحدا فلم قلت إنه يجب أن يكون خبره عن المخبرات غير المتناهية هو بعينه الأمر بالمأمورات والتكوين للمكونات غير المتناهية، فهب أن الخبر يقاس بالعلم، فهل يمكن أن يكون الخبر هو نفس الأمر ؟، الوجه السبعون: إن الأصل الذي يقاس عليه وشبه به من الإمكان، وهو العلم أصل غير مدلول عليه، فمن أين لهم أن الباري ليس له إلا علم واحد لا يتبعض ولا يتعدد، وهذا لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا قاله إمام من أئمة المسلمين فضلا عن أن يكون ثابتا بإجماع ولا قام عليه دليل عقلي، وقد قال الله في كتابه: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } فأخبر أنه يحاط ببعض علمه لا بكله وقال في كتابه: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم }، وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذه الآية وغيرها على أن القرآن من علم الله فجعلوه بعض علم الله فمن الذي يقول إن علم الله ليس له بعض ولا جزء، واعلم أنه ليس لهم في المسألة عمدة إلا ما اعتمد عليه إمام القوم القاضي أبو بكر بن الباقلاني، فإنه اعتمد فيها إجماعا ادعاه وهو في غير موضع يدعي إجماعات لا حقيقة لها كدعواه إجماع السلف على صحة الصلاة في الدار المغصوبة بكونهم لم يأمروا الظلمة بالإعادة، ولعله لا يقدر أن ينقل عن أربعة من السلف أنهم استفتوا في إعادة الظلمة ما صلوه في مكان مغصوب فأفتوهم بإجزاء الصلاة، لكن أهل الكلام كثيرو الاحتجاج من المعقول والمنقول بالحجج الداحضة، ولهذا كثر ذم السلف لهم، قال أبو عبد الله الرازي لما تكلم على وحدة علم الله وقدرته، فقال: الفصل الأول: في وحدة علم الله وقدرته نقل إمام الحرمين في الشامل عن أبي سهل الصعلوكي منا أنه تعالى عالم بعلوم غير متناهية وذهب جمهور الأصحاب إلى أنه تعالى عالم بعلم واحد قادر بقدرة واحدة مريد بإرادة واحدة، قال: واعلم أن القاضي أبا بكر عول في هذه المسألة على الإجماع فقال القائل قائلان، قائل يقول الله تعالى عالم بالعلم قادر بالقدرة، وقائل يقول ليس الله عالما بالعلم ولا قادرا بالقدرة، وكل من قال بالقول الأول قال إنه عالم بعلم واحد قادر بقدرة واحدة، فلو قلنا إنه سبحانه عالم بعلمين أو أكثر كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وأنه باطل، قال وأما الصعلوكي فهو مسبوق بهذا الإجماع فيكون حجة عليه، قلت هذا الإجماع مركب من جنس الإجماع الذي احتج به الرازي على قدم المعنى الذي ادعوه أنه هو الكلام، وليس في ذلك إجماع أصلا وإنما هو إجماع المعتزلة والأشعرية لو صح فكيف وقد حكى أبو حاتم التوحيدي عن الأشعري نفسه أنه كان يثبت علوما لا نهاية لها والسلف الذين أثبتوا علم الله وقدرته ليس مقصودهم بذلك ما يقصده هؤلاء من أنه لا بعض له، بل قد صرحوا بأنه يعلم بعض علم الله ولا يعلم بعضه، وكل من لم يوافقهم على ما ادعوه من نفي التبعيض الذي اختصوا بنفيه كالذين خالفوهم من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فإنهم يخالفونهم في ذلك، وكذلك جماعة أهل الحديث والفقهاء والصوفية وهذا الذي اعتمده إمام الطائفة ولسانها القاضي أبو بكر من أنه لا يمكن إثبات وحدة العلم إلا بالإجماع الذي ادعاه يبين لك أنه ليس في العقل ما يمنع تعدد علمه وقدرته وكلامه وسائر صفاته، وكذلك أقر بذلك أبو المعالي والرازي وغيرهم من حذاق القوم فإن كلام ابن فورك قد يشعر بأن العقل يوجب اتحاد ذلك وقد بينا فساد ذلك، الوجه الحادي والسبعون: أن إمامهم المتأخر وهو أبو عبد الله الرازي اعترف في أجل كتبه أن القول بكون الطلب هو الخبر هو باطل على القول بنفي الحال، ونفي الحال هو مذهب الأشعري نفسه وتحقيقهم وإليه رجع أبو المعالي في آخر عمره، وأما على القول بثبوت الحال فتوقف في ذلك ولم يجزم بإمكانه ولا امتناعه وقد تقدم حكاية لفظه في ذلك وهذا اعتراف منه بأن هذا القول الذي قالوه ممتنع العقل عند محققيهم وهم نفاة الحال، وأما عند مثبتي الحال عندهم فلا نعلم أنه ممكن أو ممتنع وعلى التقديرين فلا نعلم أن ذلك ممكن فتبين أن لا حجة لهم على إمكان صحة ما ادعوه من أن كلام الله معنى واحد فضلا عن أن يكون ذلك هو الواقع إذ ليس كل ما أمكن في الذهن كان هو الواقع فإنه إذا جاز في العقل أن يكون الكلام صفة واحدة وجاز أن يكون صفات متعددة فلا بد من دليل يبين ثبوت أحدهما دون الآخر، فكيف إذا قال الناس لهم إنه ممتنع لم يذكروا دليلا على إمكانه، الوجه الثاني والسبعون: إنا نبين أن هذا القول ممتنع على القول بثبوت الحال وعلى القول بنفيه، أما على القول بنفيه فقد تقدم كلامه في ذلك، وأما على القول بثبوته فإن الرازي إنما توقف لأنه قال، وأما إن تكلمنا على القول بالحال فيجب أن ينظر في الحقائق الكثيرة هل يجوز أن تتصف بوجود واحد أم لا، فإن قلنا بجواز ذلك فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة إلا بطل القول بذلك، قال وأنا إلى الآن لم يتضح لي فيه دليل لا نفيا ولا إثباتا، فيقال لهذا هذه أغلوطة وذلك أنه هب أن وجود كل شيء زائد على حقيقته في الخارج وهب أنا سلمنا له ما شك فيه وهو اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد فهذا لا يثبت محل النزاع، وذلك لأن هذا إنما يفيد أن تكون الحقائق المختلفة لها صفة واحدة فتكون الحقائق المختلفة موصوفة بصفة واحدة هي الحال التي هي الوجود وذلك لا يستلزم أن تكون الحقائق المختلفة شيئا واحدا، وأن تكون الصفة الواحدة في نفسها حقائق مختلفة، وبهذا يتبين لك ضعف قوله، فإن قلنا بجواز اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد، فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة وإلا بطل القول بذلك، وإنما قلنا إن هذا ضعيف لأن اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد غير كون الصفة الواحدة هي في نفسها حقائق مختلفة، فإن الفرق بين كونها صفة لحقائق مختلفة وبين كونها في نفسها حقائق مختلفة أمر واضح بين، وإنما يصح له ما قال لو ثبت أن الحقائق المختلفة تتصف بوجود واحد، وأن ذلك الوجود الواحد الثابت في الخارج هو في نفسه حقائق مختلفة، وهذا لا يقوله عاقل وهؤلاء يقولون إن نفس الطلب هو نفس الخبر فيجعلون الحقيقتين المختلفتين شيئا واحدا، وذلك ممتنع، وإن قيل إن لهما وجودا واحدا زائدا على حقيقتهما فإن فساد كون الحقيقتين شيئا واحدا معلوم بالبديهة، ومما يوضح هذا أن الحقائق المختلفة كالأعراض المختلفة، وإن قيل إن وجودها زائد على حقيقتها وأنه يجوز أن يكون وجودها واحدا فلا يقول عاقل أنها في نفسها واحدة الوجه الثالث والسبعون: أن يقال ما شك فيه يقطع فيه بالامتناع فيقال من الممتنع أن تكون الحقيقتان المختلفتان لهما وجود واحد قائم بهما كما يمتنع أن يكون لهما عرض واحد يقوم بهما، وذلك لأن الحال الذي هو الوجود الذي يقال إنه قائم بالحقائق وأنه زائد على حقائقها تابع لتلك الحقائق، فوجود كل حقيقة تابع لها لا يجوز أن يوجد بغيرها كما لا يوجد بغيرها سائر ما يقوم به من الأعراض، وكما لا يجوز أن يكون العرض القائم بهذه الحقيقة هو بعينه العرض القائم بالحقيقة الأخرى المخالفة لها، فالوجود الذي لهذه الحقيقة أولى أن لا يكون الوجود القائم بالحقيقة الأخرى بعينه وهذا ظاهر، الوجه الرابع والسبعون: أن هذا الذي شك فيه لو صح وجزم به لكان غايته أن يكون الكلام متعددا متحدا فيكون حقيقتين وهو واحد، أما رفع التعدد عنه من كل وجه فلا يمكن لأن الوجود الواحد إذا كان صفة لحقيقتين وقيل إن الصفة تكون حقائق مختلفة فلا ريب أن ذلك يوجب كونها حقائق مختلفة، وكونها شيئا واحدا وهؤلاء يمنعون أن يكون المعنى الواحد القائم بالنفس حقائق مختلفة، فعلم أن قولهم معلوم الفساد على كل تقدير، هذا كله تنزل معهم على تقدير ثبوت الحال وأن وجود الشيء في الخارج زائد على حقائقها الموجودة وإلا فهذا القول من أفسد الأقوال، وإنما ابتدعه بعض المعتزلة الذين يقولون المعدوم شيء في الخارج فالبناء عليه فاسد . قال: وقد ذكرنا في كتابنا هذا عند فتواه على من خالف الأشعرية واعتقد تبديعهم، وذلك أوفى دليل على أنه منهم، وقد ذكر هذه الفتوى ونسختها: ما قول السادة الحلية الأئمة الفقهاء أحسن الله توفيقهم ورضي عنهم في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعرية وتكفيرهم، ما الذي يجب عليهم في هذا القول ؟ أفتونا في ذلك منعمين مثابين، الجواب - وبالله التوفيق - أن كل من أقدم على لعن فرقة من المسلمين وتكفيرهم فقد ابتدع وارتكب ما لا يجوز الإقدام عليه، وعلى الناظر في الأمور أعز الله أنصاره الإنكار عليه وتأديبه بما يرتدع هو وأمثاله عن ارتكاب مثله، وكتب محمد بن علي الدامغاني: وبعده الجواب - وبالله التوفيق: أن الأشعرية أعيان أهل السنة وأنصار الشريعة انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية والرافضة وغيرهم، فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كل أحد، وكتب إبراهيم بن علي الفيروزابادي بعده: جوابي مثله، وكتب محمد بن أحمد الشاشي قال: فهذه أجوبة هؤلاء الأئمة الذين كانوا في عصرهم علماء الأئمة، فأما قاضي القضاة الحنفي الدامغاني فكان يقال له في عصره أبو حنيفة الثاني، وأما الشيخ الإمام أبو إسحاق فقد طبق ذكر فضله الآفاق، وأما الشيخ الإمام أبو بكر الشاشي فلا يخفى محله على منته في العلم ولا ناشئ، قلت: هذه الفتيا كتبت هي وجوابها في فتنة ابن القشيري لما قدم بغداد، فإن ملك بغداد محمود بن سبكتكين كان قد أمر في مملكته بلعن أهل البدع على المنابر فلعنوا، وذكر فيهم الأشعرية، وكذلك جرى في أول مملكة السلاجقة الترك، وكان الذين سعوا في إدخالهم في اللعنة فيهم من سكان تلك البلاد من الحنفية الكرامية وغيرهم، ومن أهل الحديث طوائف، وجواب الدامغاني جواب مطلق فيه رضى هؤلاء وهؤلاء، فإنه أجاب بأنه من أقدم على لعنة فرقة من المسلمين وتكفيرهم فقد ابتدع وفعل ما لا يجوز، وهذا مما لا ينازع فيه أحد أنه من كان من المسلمين لا يجوز تكفيره، إذ المكفر لشخص أو طائفة لا يقول إنهم من المسلمين ويكفرهم، بل يقول: ليسوا بمسلمين .

الوجه السابع والسبعون: إنه قد اشتهر بين علماء الأمة وعامتها أن حقيقة قول هؤلاء: إن القرآن ليس كلام الله، وهو كما اشتهر بين الأمة، وذلك أنهم يصرحون بأن حروف القرآن لم يتكلم الله بها بحال، فهذا إقرار منهم بأن نصف مسمى القرآن وهو لفظه ونظمه وحروفه، لم يتكلم الله بها، فلا يكون كلامه، وإن كان قد قال بعض متأخريهم إنها تسمى كلاما حقيقة فهم بين أمرين: إن أقروا بأنها كلام الله حقيقة مع كونها مخلوقة في غيره بطل أصلهم الذي أفسدوا به قول المعتزلة: إن الكلام إذا قام بمحل كان لذلك المحل، لا لمن أحدثه، وأما المعاني فإنهم يزعمون أن ليس كلام الله إلا معنى واحد هو الأمر بكل شيء والنهي عن كل شيء، والخبر عن كل شيء، وهذا معلوم بالضرورة بعد تصوره، وهو مستلزم لأن تكون معاني القرآن ليست كلام الله أيضا، إذا كان هذا الذي ادعوه لا يجوز أن يكون له حقيقة، فضلا عن أن يكون صفة لموصوف، أو يكون كلاما، فتبين أن الله لم يتكلم عندهم بالقرآن لا بحروفه ولا بمعانيه ; وهذا أمر قاطع لا مندوحة لهم عنه، وينضم إليه أيضا أن القرآن المنزل حروفه ومعانيه هم يصرحون أيضا بأنها ليست كلام الله، فظهر أنهم يقولون إن القرآن ليس كلام الله، وأما الجهمية المحضة، كالمعتزلة، فهم وإن كانوا يقولون إن القرآن مخلوق فأكثرهم يطلقون القول بأن القرآن كلام الله، لكن حقيقة قولهم يعود إلى أنه ليس بكلام الله، كما يعترف بذلك حذاقهم عند التحقيق من أن الله لم يتكلم ولا يتكلم، أو يقولون: الإخبار عنه بأنه متكلم مجازا لا حقيقة، فهؤلاء المعطلة لتكلم الله في الحقيقة، أعظم من أولئك، لكن تظاهر هؤلاء بأن القرآن كلام الله، أعظم من تظاهر أولئك ; وبذلك يتبين أن نفي الكلام عن الله على قول هؤلاء المعتزلة أوكد وأقوى، ونفي كون القرآن كلام الله على قول أولئك هو أظهر وأبين لك عند التحقيق، فأولئك أيضا يقولون ذلك، فهم أعظم إلحادا في الحقيقة في أسماء الله وآياته وأولئك أسخف قولا، الوجه الثامن والسبعون: إنه ما زال أئمة الطوائف طوائف الفقهاء وأهل الحديث، وأهل الكلام يقولون: أن هذا القول الذي قاله ابن كلاب والأشعري في القرآن والكلام من أنه معنى قائم بالذات، وأن الحروف ليست من الكلام، قول مبتدع مخالف لأقوال سلف الأمة وأئمتها، مسبوق بالإجماع على خلافه، حتى الذين يحبون الأشعري ويمدحونه بما كان منه من الرد على أهل البدع الكبار من المعتزلة والرافضة ونحوهما، ويذبون عنه عند من يذمه ويلعنه، ويناصحون عنه من أئمة الطوائف يعترفون بذلك ويقولون إنا نخالفه في ذلك، ويجعلون ذلك من أقواله المتروكة، إذ لكل عالم خطأ من قوله يترك، أو يمسكون عن نص هذا القول والدعاء إليه لعلمهم بما فيه من التناقض والاضطراب، واعتبر ذلك بما ذكر أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد أبي المعالي في آخر كتاب حققه سماه " عقيدة أصحاب الإمام المطلبي الشافعي وكافة أهل السنة والجماعة، وقد نقل هذا منه الحافظ أبو القاسم بن عساكر في مناقبه الذي سماه " تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري، وجمع فيه ما أمكنه من مناقبه، وأدخل في ذلك أمورا أخرى يقوي بها ذلك، قال أبو محمد الجويني: ونعتقد أن المصيب من المجتهدين في الأصول والفروع واحد ويجب التعيين في الأصول، فأما في الفروع فربما ما يتأتى التعيين، وربما لا يتأتى، ومذهب الشيخ أبي الحسن رحمه الله تصويب المجتهدين، في الفروع، وليس ذلك مذهب الشافعي رضي الله عنه، وأبو الحسن أحد أصحاب الشافعي رضي الله عنه، فإذا خالفه في شيء أعرضنا عنه فيه، ومن هذا القبيل قوله: لا صيغة للألفاظ ويقل ويعز مخالفته أصول الشافعي رضي الله عنه ونصوصه، وربما نسب المبتدعون إليه ما هو بريء عنه، كما نسبوا إليه أنه يقول ليس في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وكذلك الاستثناء في الإيمان، ونفي القدرة على الخلق في الأزل، وتكفير العوام، وإيجاب علم الدليل عليهم، قال: وقد تصفحت ما تصفحت من كتبه فوجدتها كلها خلاف ما نسب إليه، ولا عجب أن اعترضوا عليه وافترضوا فإنه رحمه الله فاضح القدرية وعامة المبتدعة، وكاشف عوراتهم ولا خير فيمن لا يعرف حاسده، وقال الشيخ الإمام أبو حامد الإسفراييني في كتابه في أصول الفقه الذي شرح فيه رسالة الشافعي وسماه التعليق ": مسألة في أن الأمر أمر لصيغته أو لقرينة تقترن به: اختلف الناس في الأمر هل له صيغة تدل على كونه أمرا، أو ليس له ذلك ؟ على ثلاثة مذاهب: فذهب أئمة الفقهاء إلى أن ذلك الأمر له صيغة، تدل بمجردها على كونه أمرا، إذا انفردت عن القرائن، وذلك مثل قول القائل: " افعل كذا وكذا " وإذا وجب ذلك عاريا عن القرائن كان أمرا، ولا يحتاج في كونه أمرا إلى قرينة، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي، وجماعة أهل العلم، وهو قول البلخي من المعتزلة، وذهبت المعتزلة بأسرها، غير البلخي، إلى أن الأمر لا صيغة له ولا يدل اللفظ بمجرده على كونه أمرا، وإنما يكون أمرا بقرينة تقترن به، وهو الإرادة، إلى أن قال: وذهب الأشعري ومن تابعه إلى أن الأمر هو معنى قائم بنفس الآمر لا يفارق الذات ولا يغايرها، وكذلك عنده سائر أقسام الكلام من النهي والخبر والاستخبار وغير ذلك، وسواء هذا في أمر الله وأمر الآدميين، إلا أن أمر الله تعالى مختص بكونه قديم، وأمر الآدمي محدث، وهذه الأصوات والألفاظ ليست عندهم أمرا ولا نهيا، وإنما هي عبارة عنه، قال: وكان ابن كلاب عبد الله بن سعيد القطان يقول: هي حكاية عن الأمر، وخالفه أبو الحسن الأشعري رحمه الله من ذلك فقال: لا يجوز أن يقال إنها حكاية لأن الحكاية تحتاج إلى أن تكون مثل المحكي، ولكن هي عبارة عن الأمر القائم بالنفس وتقرر مذهبهم على هذا، فإذا كان هذا حقيقة مذهبهم فليس يتصور بيننا وبينهم خلاف في أن الأمر له صيغة أم لا، فإنه إذا كان الأمر عندهم هو المعنى القائم بالنفس فذلك المعنى لا يقال إن له صيغة، أو ليست له صيغة، وإنما يقال ذلك في الألفاظ إلى آخر كلامه، وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول، عن الأئمة الفحول، إلزاما لذوي البدع والفضول " وذكر اثنا عشر إماما وهم: الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد، والبخاري، وابن عيينة، وابن المبارك والأوزاعي، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، قال فيه: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبي حامد الإسفراييني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل عليه السلام مسموعا من الله تعالى، والنبي ﷺ سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله ﷺ وهو الذي نقوله نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا ومنقوشا، وكل حرف منه كالباء والتاء، كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين، قال الشيخ أبو الحسن: وكان الشيخ أبو حامد شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام، قال أبو الحسن: ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرءون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه، على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة، منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي، يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن طاهر الإسفراييني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علما وأصحابا إذا سعى إلى الجمعة من قطيعة الكرخ إلى جامع المنصور ويدخل الرياض المعروف بالروزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول: اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قال أحمد بن حنبل، لا كما يقول الباقلاني وتكرر ذلك منه في جماعات، فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر في الناس، وفي أهل الصلاح ويشيع الخبر في البلاد أني بريء مما هم عليه، يعني الأشعري، وبريء من مذهب أبي بكر الباقلاني، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية، فيقرءون عليه فيفتنون بمذهبه فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة، فيظن ظان أنهم مني تعلموه، وأنا قلته، وأنا بريء من مذهب الباقلاني، وعقيدته، قال الشيخ أبو الحسن: وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول: سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول: كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفراييني وكان ينهى أصحابه عن الكلام وعن الدخول على الباقلاني، فبلغه أن نفرا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام، فظن أني معهم ومنهم، وذكر قصة قال في آخرها: إن الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني، بلغني أنك تدخل على هذا الرجل يعني الباقلاني فإياك وإياه فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلال، وإلا فلا تحضر مجلسي، فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل، وتائب إليه، واشهدوا علي أني لا أدخل إليه، قال: وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول: سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد، أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم، قالوا: كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعا خوفا من الشيخ أبي حامد الإسفراييني، قال: وأخبرني جماعة من الثقات كتابة منهم القاضي أبو منصور اليعقوبي عن الإمام عبد الله بن محمد بن علي هو شيخ الإسلام الأنصاري قال: سمعت عبد الرحمن بن محمد بن الحسين، وهو السلمي، يقول: وجدت أبا حامد الإسفراييني وأبا الطيب الصعلوكي وأبو بكر القفال المروزي وأبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله، قال: سمعت أحمد بن أبي رافع وخلقا يذكرون شدة أبي إسحاق الإسفراييني على الباقلاني، قال الشيخ أبو الحسن الكرخي: ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام، حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري وعلقه عنه الإمام أبو بكر الزاذقاني، وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع " والتبصرة " حتى لو وافق قول الأشعري وجها لأصحابنا ميز، وقال: هو قول بعض أصحابنا، وبه قالت الأشعرية، ولم يعدهم من أصحاب الشافعي استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه، فضلا عن أصول الدين، قلت: أبو محمد الجويني وشيخه أبو بكر القفال المروزي وشيخه أبو زيد المروزي هم أهل الطريقة المروزية الخراسانية، وأئمتها من أصحاب الشافعي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني وأتباعه كالقاضي أبي الطيب وصاحبه أبي إسحاق الشيرازي وغيرهم أئمة الطريقة العراقية، من أصحاب الشافعي، وقد ذكر أبو القاسم بن عساكر في ترجمة أبي محمد الجويني ما ذكره عبد الغافر الفارسي في تاريخ نيسابور في ترجمة الشيخ أبي محمد الجويني في مناقبه، وقال: سمعت خالي الإمام أبا سعيد يعني عبد الواحد بن عبد الكريم القشيري يقول: كان أئمتنا في عصره والمحققون من أصحابنا يعتقدون فيه الكمال والفضل والخصال الحميدة، وأنه لو جاز أن يبعث الله نبيا في عصره لما كان إلا هو، من حسن طريقته، وورعه وزهده وديانته، في كمال فضله، وذكر عبد الغافر أنه كان أوحد زمانه، قال: وله في الفقه تصانيف كثيرة الفوائد، مثل: التبصرة والتذكرة " ومختصر المختصر " وله التفسير الكبير المشتمل على عشرة أنواع في كل آية، وأما الشيخ أبو حامد فهو الشافعي الثالث، فإنه ليس بعد الشافعي مثل أبي العباس بن سريج، ولا بعد أبي العباس مثل الشيخ أبي حامد، حتى ذكر أبو إسحاق في طبقات الفقهاء عن أبي الحسين القدوري أنه كان يقول في الشيخ أبي حامد إنه أنظر من الشافعي، وهذا الكلام وإن كان قد وردت زيادته لكن لولا براعة أبي حامد ما قال فيه مثل الشيخ أبي الحسين هذا القول، قال الشيخ أبو الحسن الكرخي: ولا شك أنه كان أعرف الأصحاب بمناصيص الشافعي، وأعظمهم بركة في مذهبه، وهو أول من كثر شرح المزني وشحنه بالمختلف والمؤتلف، ونصر فيه مذاهب العلماء، وجعله مساغا لاجتهاد الفقهاء، وقد ذكر أبو القاسم بن عساكر فيما ذكره من أصحاب الأشعري جماعة كثيرة ليسوا منهم، بل منهم من هو مشهور بالمناقضة والمعارضة لهم، وذكر منهم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، قال: وكان يظن به من لا يفهم أنه مخالف للأشعري لقوله في كتابه في أحوال الفقه، وقالت الأشعرية: إن الأمر لا صيغة له، وليس ذلك لأنه لا يعتقد اعتقاده، وإنما قال ذلك لأنه خالفه في هذه المسألة مما انفرد بها أبو الحسن .

قال أبو المعالي الجويني: ذهب أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات ثابتة للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمع دون قضية العقل، قال: والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود، قلت: فاتضح أن أئمة الكلامية والأشعرية يثبتون هذه الصفات فإنه خالف أئمته ووافق المعتزلة، قال شارح كلامه أبو القاسم بن الأنصاري: اعلم أن مذهب شيخنا أبي الحسن أن اليدين صفتان ثابتتان زائدتان على وجود الإله سبحانه ونحوه قال عبد الله بن سعيد: ومال القاضي أبو بكر في الهداية إلى هذا المذهب، قلت: قد صرح بذلك في جميع كتبه كالتمهيد والإبانة وغيرهما، قال: وفي كلام أبي إسحاق ما يدل على أن التثنية في اليدين ترجع إلى اللفظ لا إلى الصفة، وهو مذهب أبي العباس القلانسي، قال الأستاذ يعني أبا إسحاق -: أما العينان فعبارة عن البصر، وكان في العقل ما يدل عليهما، وأما الوجه واليد فقد اختلف أصحابنا في الطريق إليهما، فقال قائلون: قد كان في العقل ما يدل على ثبوت صفتين: يقع بإحداهما الاصطفاء بالخلق، وبالأخرى الاختيار بالتقريب في التكليم والإفهام، لكن لم يكن في العقل دليل على تسميته فورد الشرع ببيانها، فثم الصفة التي يقع بها الاصطفاء بالخلق يدا، والصفة التي يقع بها التقريب في التكلم وجها، وقالوا: لما صح في العقل التفضيل في الخلق والفعل بالمباشرة والإكرام، والتقريب بالإقبال وجب إثبات صفة له يصح بها ما قلناه من غير مباشرة ولا مجافاة فورد الشرع بتسمية إحداهما يدا والأخرى وجها، ومن سلك هذا الطريق قال: لم يكن في العقل جواز ورود السمع، وأكثر منه، وما جهر به عليه من جهة الأخبار فطريقة الآحاد التي لا توجب العلم ولا يجوز بمثلها إثبات صفة للقديم، وإن ثبت منها شيء بطريق يوجب العلم كان متأولا على الفعل، وقال آخرون: طريق إثباتها السمع المحض ولم يكن للعقول فيه تأثير، وإذا قيل لهم: لو جاز ورود الشرع بإثبات صفات لا يدل العقل عليها لم يؤمن أن يكون الله على صفات لا يدل العقل عليها لم يؤمن أن يكون الله على صفات لم يرد الشرع بها، ولا صارت معلومة، ووجب على القائل بذلك جواز ورود السمع بصفات الإنسان أجمع لله تعالى، إذا لم تكن واحدة منها شبيهة بصفته ; كان جوابهم أن يقولوا: لما أخبر الله المؤمنين بصفاته وحكم لهم بالإيمان بكماله عند المعرفة به، لم يجز أن يكون له صفة أخرى لا طريق إلى معرفتها لاستحالة أن يكون المؤمن مؤمنا مستحق المدح إذا لم يكن عارفا بالله، يعني وبصفاته أجمع، فلما وصفهم بالإيمان عند معرفتهم بما ورد من الشرع ثبت أن لا صفة أكثر مما بين الطريق إليه بالعقل والشرع، قال الأستاذ: والتعويل على الجواب الأول، فإن فيه الكشف عن المعنى، قلت: الجوابان مبنيان على وجوب العلم بجميع صفات الله، لكن هل كلها معلومة بالعقل، أو منها ما علم بالسمع على القولين ؟ ومحققو الأشعرية وغيرهم لا يرضون أن يقولوا: إنا نقطع بأنا علمنا الله بجميع صفاته، أو بأنه لا صفة له وراء ما علمناه، قال أبو المعالي: فمن أثبت هذه الصفات السمعية وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات المعقول استدلوا بقوله تعالى: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }، قالوا: ولا وجه لحمل اليدين على القدرة، إذ جملة المخترعات مخلوقة بالقدرة ففي الحمل على ذلك إبطال فائدة التخصيص، قال: وهذا غير سديد، فإن العقول قضت بأن الخلق لا يقع إلا بالقدرة، أو يكون القادر قادرا، فلا وجه لاعتقاد خلق آدمي بغير القدرة، وقال القاضي: الآية تدل على إثبات يدين صفتين والقدرة واحدة، فلا يجوز حملها على القدرة، قال أبو المعالي: وقد قال بعض الأصحاب: التثنية راجعة إلى اللفظ لا إلى المعنى، وإنما هي صفة واحدة كما حكيناه عن القلانسي، وعن الأستاذ، على أنه كما يعبر باليد عن الاقتدار، فكذلك يعبر باليدين عن الاقتدار، فقد تقول العرب: " مالي بهذا الأمر يد " يعنون: مالي به قدرة، قال عز وجل: { بل يداه مبسوطتان } قال أبو الحسن والقاضي: المراد باليدين في هذه الآية القدرة، قلت: هذا النقل فيه نظر، فكلاهما يقتضي خلافه، بل هو نص في خلاف ذلك، قال: وأجمع أهل التفسير على أن المراد، بالأيدي في قوله: { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما } القدرة، قال: والذي يحقق ما قلناه أن الذي ذكره شيخنا والقاضي ليس يوصل إلى القطع بإثبات صفتين زائدتين، على ما عداهما من الصفات، ونحن وإن لم ننكر في قضية العقل صفة سمعية لا يدل مقتضى العقل عليها، وإنما يتوصل إليها سمعا، فيشترط أن يكون السمع مقطوعا به، وليس فيما استدل به الأصحاب قطع ; والظواهر المحتملة لا توجب العلم، وأجمع المسلمون على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل، لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل، وليس في اليدين - على ما قاله شيخنا رحمه الله - نظر لا يحتمل التأويل ولا إجماع عليه، فيجب تنزيل ذلك على ما قلناه، قال: والظاهر من لفظ اليدين حملها على جارحتين فإن استحال حملها على ذلك، ومنعه من حملها على القدرة أو النعمة أو الملك، فالقول بأنهما محصولتان على صفتين قديمتين لله تعالى زائدتين على ما عداهما من الصفات تحكم محض، قلت: ثم ذكر الجواب عن صحة أئمته بما ليس، هذا موضعه، فإن المقصود ليس هو الاستقصاء في إثبات هذه الصفة ونفيها، إذ قد تكلمنا على ذلك في موضعه، وإنما الغرض التنبيه على تغيير قول الأشعري وأئمة أصحابه، وأبو المعالي اعتمد على مقدمتين باطلتين: إحداهما: أنه ليس في السمع ما يقطع بثبوت هذه الصفة، لا نص ولا إجماع والثانية: المنع بأن يتكلم في الصفات بغير قطع عقلي أو نقلي، وادعى الإجماع على ذلك، وهذا باطل كما يقوله من يقول: إذا لم يقم القاطع بالثبوت وجب القطع بالانتفاء وهذا مطابق لما ذكر الإسفراييني من أن الله معروف بجميع صفاته في الدنيا إما بالعقل على قول قوم من أصحابه، وإما بالعقل والسمع، وهذا الذي قالوه خلاف إجماع سلف الأمة، وخلاف قول المحققين من أصحابهم فضلا عن أن يكون في ذلك إجماع، فإن القطع بالنفي بلا علم يوجب النفي كالقطع بالإثبات بلا علم، والواجب أن تعطى الأدلة حقها، فما كان قطعيا قطع به، وما كان ظاهرا محتملا قيل إنه ظاهر محتمل، وما كان مجملا قيل إنه مجمل، ولم يقل أحد من الأئمة فضلا عن أن يكون إجماعا أن ما لم تعلموه من صفات الرب فانفوه، بل قالوا امسكوا عن التكلم في ذلك بغير ما ورد، وفرق بين السكوت عما لم يرد وبين النفي فكيف إذا كان النفي لما يكون ظاهرا في الوارد ؟، وأبو المعالي يتكلم بمبلغ علمه في هذا الباب وغيره وكان بارعا في فن الكلام الذي يشترك فيه أصحابه والمعتزلة وإن كانت المعتزلة هم الأصل فيه لكثرة مطالعته لكتب أبي هاشم الجبائي، فأما الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وقول أئمتها فكان قليل المعرفة بها جدا، وكلامه في غير موضع يدل على ذلك، ولهذا تجده في عامة مصنفاته في أصوله وفروعه إذا اعتمد على قاطع فإنما هو ما يدعيه من قياس عقلي أو إجماع سمعي، وفي كثير من ذلك ما فيه، فأما الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها فهو قليل الاعتماد عليها والخبرة بها، واعتبره بما ذكر في الرد على الآجري ونحوه من العلماء الذين صنفوا في أبواب السنة، والرد على أهل الأهواء، وقد ردوا عليهم بالسنة والآثار وذكروا في ذلك أحاديث الصفات، فإنه قال: اعلم أن أهل الحق نابذوا المعتزلة وخالفوهم، واتبعوا السمع والشرع وأثبتوا الرؤية والنظر، وأثبتوا الصراط والميزان، وعذاب القبر، ومسألة منكر ونكير والمعراج والحوض، واشتد نكيرهم على من ينسب إلى إنكار مأثور الأخبار والمستفيض من الآثار في هذه القواعد والعقائد، واتفقوا على أن الحسن والقبيح في أحكام التكليف والإيجاب، والحذر لا يدرك عقلا، والمرجع في جميعها إلى موارد الشرع وقضايا السمع، ولكنهم لما بلغتهم أخبار متشابهة وألفاظ مشكلة لم يستبعدوا أن يكون في الأخبار: البين، والظاهر، والمجمل، والمشكل، فإن الله أخبر أن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، منه آيات محكمات وأخر متشابهات أعرضوا عن ذكرها، ولم يشتغلوا بها، والدليل عليه: أن أئمة السنة وأحبار الأمة بعد صحب رسول الله ﷺ ورضي عنهم، لم يودع أحد منهم كتابه الأخبار المتشابهات فلم يورد مالك رضي الله عنه في الموطإ منها شيئا مما أورده الآجري وأمثاله، وكذلك الشافعي وأبو حنيفة وسفيان والليث والثوري، ولم يفتوا بنقل المشكلات، ونبغت ناشئة ضروا بنقل المشكلات وتدوين المتشابهات وتبويب أبواب ورسم تراجم على ترتيب فطرة المخلوقات ورسموا بابا في ضحك الباري، وبابا في نزوله وانتقاله وعروجه ودخوله وخروجه، وبابا في إثبات الأضراس، وبابا في خلق الله آدم على صورة الرحمن، وبابا في إثبات القدم والشعر القطط، وبابا في إثبات الأصوات والنغمات، تعالى الله عن قول الزائغين، قال: وليس يعتمد جمع هذه الأبواب وتمهيد هذه الأنساب إلا مشبه على التحقيق، أو متلاعب زنديق، قال المعظم لأبي المعالي الناقل لكلامه أبو عبد الله القرطبي وهو من أكابر علماء الأشعرية: في قول أبي المعالي هذا بعض التحامل، وقد أثبتنا في هذا الكتاب معنى شرح الأسماء الحسنى فإنه ذكر الصفات في آخره من هذه الأخبار ما صح سنده وثبت نقله ومورده، وأضربنا على الكثير منها استغناء عنها لعدم صحتها، فليوقف على ما ذكرنا منها لنقل الأئمة الثقات لها، وحديث النزول ثابت في الأمهات أخرجه الثقات الأثبات، قلت: هذا الكلام فيه ما يجب رده أمور عظيمة: أحدها: ما ذكره عمن سماهم أهل الحق، فإنه دائما يقول: قال أهل الحق، وإنما يعني أصحابه، وهذه دعوى يمكن كل أحد أن يقول لأصحابه مثلها، فإن أهل الحق الذين لا ريب فيهم هم المؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة، فأما أن يفرد الإنسان طائفة منتسبة إلى متبوع من الأمة ويسميها أهل الحق، ويشعر بأن كل من خالفها في شيء فهو من أهل الباطل، فهذا حال أهل الأهواء والبدع كالخوارج والمعتزلة والرافضة، وليس هذا من فعل أهل السنة والجماعة فإنهم لا يصفون طائفة بأنها صاحبة الحق مطلقا إلا المؤمنين الذين لا يجتمعون على ضلالة، قال الله تعالى: { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم }، وهذا نهاية الحق، والكلام الذي لا ريب أنه حق قول الله وقول رسوله الذي هو حق وآت بالحق، قال تعالى: { والله يقول الحق }، وقال تعالى: { قوله الحق } وقال رسول الله ﷺ: { اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حقا }، فأهل الحق هم أهل الكتاب والسنة، وأهل الكتاب والسنة على الإطلاق هم المؤمنون، فليس الحق لازما لشخص بعينه دائرا معه حيثما دار، لا يفارقه قط إلا الرسول ﷺ إذ لا معصوم من الإقرار على الباطل غيره، وهو حجة الله التي أقامها على عباده وأوجب اتباعه وطاعته في كل شيء على كل أحد . وليس الحق أيضا لازما لطائفة دون غيرها إلا للمؤمنين، فإن الحق يلزمهم إذ لا يجتمعون على ضلالة، وما سوى ذلك فقد يكون الحق فيه مع الشخص أو الطائفة في أمر دون الأمر، وقد يكون المختلفان كلاهما على باطل، وقد يكون الحق مع كل منهما من وجه دون وجه، فليس لأحد أن يسمي طائفة منسوبة إلى اتباع شخص كائنا من كان غير رسول الله ﷺ بأنهم أهل الحق، إذ ذلك يقتضي أن كل ما هم عليه فهو حق، وكل من خالفهم في شيء من سائر المؤمنين فهو مبطل وذلك لا يكون إلا إذا كان متبوعهم كذلك، وهذا معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام ولو جاز ذلك لكان إجماع هؤلاء حجة إذا ثبت أنهم هم أهل الحق، ثم هو يذكر أئمته الذين جعلهم أهل الحق، ثم هو يخالفهم كما صنع في مسألة الصفات الخبرية وغيرها، مع أنهم فيها أقرب إلى الحق منه فكيف يسوغ لهم أن يخالفوا من شهد لهم بأنهم أهل الحق فيما اختلف فيه الناس من أصول الدين وله في ذلك شبه قوي ببعض أئمة الرافضة الذين كانوا بالشام يقال له ابن المعصوم، رأيت له فتاوى يدعي فيها في غير موضع أن الطائفة المحقة هم أتباع المعصوم المنتظر، ويحتج بإجماع الطائفة المحقة بناء على أن قولهم مأخوذ عن المعصوم الذي لا يعرفه أحمد ولم يسمع له بخبر ولا وقع له على عين ولا أثر، حتى أنه قال: إذا تنازعوا في مسألة على قولين أحدهما يعرف قائله دون الآخر، فالقول الذي لا يعرف قائله هو الحق لأن في أهله الإمام المعصوم، ثم رأيته يخالف أصحابه ويرد عليهم في مواضع، فأين مخالفتهم والرد عليهم في دعوى أنهم الطائفة المحقة، الذين لا يتفقون على باطل ؟ وكذلك دعاوى كثير من أهل الأهواء والضلال أنهم المحقون، أو أنهم أهل الله أو أهل التحقيق أو أولياء الله حتى توقف هذه المعاني عليهم دون غيرهم، ويكونون في الحقيقة إلى أعداء الله أقرب، وإلى الإبطال أقرب منهم إلى التحقيق بكثير، فهؤلاء لهم شبه قوي بما ذكره الله عن اليهود والنصارى من قوله: { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون }، وقوله تعالى: { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير }، الثاني: أنه ذكر عنهم أنهم اتبعوا السمع والشرع، وهو قد ذكر في أحوالهم التي بها صاروا أهل الحق عندهم أنه لم يثبت لله صفة بالسمع، بل إنما تثبت صفاته بالعقل المجرد، وأن الذين أثبتوا ما جاء في القرآن منهم من أثبته بالعقل ومنهم من أثبته بالسمع، ورد هو على الطائفتين، فأي اتباع للسمع والشرع إذا لم يثبت به شيء من صفات الله بالشرع ؟ بل وجوده كعدمه فيما أثبتوه ونفوه من الصفات، فأئمتهم كانوا يثبتون الصفات بالسمع والعقل، أو بالسمع ويجعلون العقل مؤكدا في الفهم في ذلك، فأين اتباعهم للسمع والشرع وقد عزلوه عن الحكم به والاحتجاج به والاستدلال به، والثالث قوله: يشتد نكيرهم على من ينتسب إلى إنكار مأثور الأخبار والمستفيض من الآثار، فيقال له: إذا لم يستفد منها ثبوت معناها فأي إنكار لها أبلغ من ذلك وأنت قد ذكرت إعراضهم عنها وقلت فيها من الفرية ما سنذكر بعضه، فهل الإنكار لمأثور الأخبار ومستفيضها إلا من جنس ما ذكرته في هذا الكلام، الرابع: ما ذكره أنهم يثبتون ما يثبتونه من أمر الآخرة فيقال لهم هذا يثبتونه على وجه الجملة إثباتا يشركهم فيه آحاد العوام ولا يعلمون من تفصيل ذلك ما يجاب به أدنى السائلين وليس في كتبهم ما في ذلك من الأحاديث التي وصف بها النبي ﷺ ذلك، ولهذا تجدهم بذلك من أقل الناس علما بها أو تجدهم مرتابين فيها أو مكذبين فأي تعظيم بمثل هذا، وأي مزية بهذا على أوساط العوام أو أدناهم بل كثير من عوام المؤمنين يؤمن بتفاصيل هذه الأمور ويعلم منها مما أخبر به الشارع ما ليس مذكورا في أصول هؤلاء، وإنما الفضيلة على عموم المؤمنين بأن يكون الإنسان أو الطائفة من أهل العلم الذي لا يوجد عند عموم المؤمنين وليس فيما ذكره من هذه الأصول ذلك

الخامس: الحجة أنهم نفوا التحسين والتقبيح العقلي وجعلوا أحكام الأفعال لا تتلقى إلا من الشرع فإنه بين بذلك تعظيمهم للشرع واتباعهم له، وأنهم لا يعدلون عنه ليثبت بذلك تسننهم، وهذا الأصل هو من الأصول المبتدعة في الإسلام لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن العقل لا يحسن ولا يقبح، أو أنه لا يعلم بالعقل حسن فعل ولا قبحه، بل النزاع في ذلك حادث في حدوث المائة الثالثة ثم النزاع في ذلك بين فقهاء الأمة، وأهل الحديث والكلام منها فما من طائفة إلا وهي متنازعة في ذلك، ولعل أكثر الأمة تخالف في ذلك، وقد كتبنا في غير هذا الموضع فصل النزاع في هذه المسألة، وبينا ما مع هؤلاء فيها من الحق وما مع هؤلاء فيها من الحق، ثم يقال: ولو كانت هذه المسألة حقا على الإطلاق، فليس لك ولا لأصحابك فيها حجة نافية، بل عمدتك وعمدة القاضي ونحوكما على مطالبة الخصم بالحجة والقدح فيما بيديه، والقدح في دليل المنازع إن صح لا يوجب العلم بانتفاء قوله إن لم يقم على النفي دليل وعمدة إمام المتأخرين ابن الخطيب الاستدلال على ذلك بالجبر وهو من أفسد الحجج، فإن الجبر سواء كان حقا أو باطلا كما لا يبطل الحكم الشرعي لا ينفي ثبوت أحكام معلومة بالعقل كما لا ينفي الأحكام التي يثبتها الشارع، وعمدة الآمدي بعده أن الحسن والقبح عرض والعرض لا يقوم بالعرض، وهذا من المغاليط التي لا يستدل بها إلا جاهل أو مغالط، فإنه يقال في ذلك ما يقال في سائر صفات الأعراض وغايته أن يكون كلاهما قائما بمحل العرض ونفي الحكم المعلوم بالعقل مما عده من بدع الأشعري التي أحدثها في الإسلام علماء أهل الحديث والفقه والسنة كأبي نصر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، دع من سواهم .

وأما الأحكام التي هي من جنس السحر: فمن الممتنع أن يكون نبي من الأنبياء كان ساحرا، وهم يذكرون أنواعا من السحر، ويقولون هذا يصلح لعمل النواميس أي الشرائع والسنن، ومنها ما هو دعاة الكواكب وعبادة لها، وأنواع من الشرك الذي يعلم كل من آمن بالله ورسله بالاضطرار أن نبيا من الأنبياء لم يأمر بذلك ولا علمه، وإضافة ذلك إلى بعض الأنبياء كإضافة من أضاف ذلك إلى سليمان عليه السلام لما سخر الله له الجن والإنس والطير، فزعم قوم أن ذلك كان بأنواع من السحر، حتى إن طوائف من اليهود والنصارى لا يجعلونه نبيا ; بل حكيما، فنزهه الله عن ذلك، وقال تعالى: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } إلى آخر الآية، وكذلك أيضا الاستدلال على الحوادث بما يستدلون به من الحركات العلوية، أو الاختيارات للأعمال، هذا كله يعلم قطعا أن نبيا من الأنبياء لم يأمر قط بهذا، إذ فيه من الكذب والباطل ما ينزه عنه العقلاء الذين هم دون الأنبياء بكثير، وما فيه من الحق فهو شبيه بما قال إمام هؤلاء ومعلمهم

الثاني أبو نصر الفارابي، قال ما مضمونه: إنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت مكان السعد نحسا، ومكان النحس سعدا، أو مكان الحار باردا، ومكان البارد حارا، أو مكان المذكر مؤنثا، ومكان المؤنث مذكرا، وحكمت، لكان حكمك من جنس أحكامهم، يصيب تارة ويخطئ أخرى، وما كان بهذه المثابة فهم ينزهون عنه، بقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وأصحابه الفلاسفة المشائين الذين يوجد في كلامهم من الباطل والضلال أعظم مما يوجد في كلام اليهود والنصارى، فإذا كانوا ينزهون عنه هؤلاء الصابئين وأنبياءهم الذين هم أقل مرتبة وأبعد عن معرفة الحق من اليهود والنصارى، فكيف يجوز نسبته إلى نبي كريم ؟ ونحن نعلم من أحوال أمتنا أنه قد أضيف إلى جعفر الصادق، وليس هو بنبي من الأنبياء من جنس هذه الأمور، ما يعلم كل عالم بحال جعفر رضي الله عنه أن ذلك كذب عليه، فإن الكذب عليه من أعظم الكذب، حتى ينسب إليه أحكام الحركات السفلية، كاختلاج الأعضاء، وجواذب الجو من الرعد والبرق، والهالة وقوس الله الذي يقال له: قوس قزح، وأمثال ذلك، والعلماء يعلمون أنه بريء من ذلك كله، وكذلك ينسب إليه الجدول الذي تبني عليه الضلال طائفة من الرافضة، وهو كذب مفتعل عليه افتعله عليه عبد الله بن معاوية، أحد المشهورين بالكذب مع رياسته وعظمته عند أتباعه، وكذلك أضيف إليه كتاب الجفر، والبطاقة والهفت، وكل ذلك كذب عليه باتفاق أهل العلم به، حتى أضيف إليه رسائل إخوان الصفا، وهذا في غاية الجهل، فإن هذه الرسائل إنما وضعت بعد موته بأكثر من مائتي سنة، فإنه توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، وهذه الرسائل وضعت في دولة بني بويه في أثناء المائة الرابعة في أوائل دولة بني عبيد الذين بنوا القاهرة، وضعها جماعة، وزعموا أنهم جمعوا بها بين الشريعة والفلسفة، فضلوا وأضلوا، وأصحاب جعفر الصادق الذين أخذوا عنه العلم، كمالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وأمثالهما من الأئمة أئمة الإسلام براء من هذه الأكاذيب، وكذلك كثير مما يذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب حقائق التفسير " عن جعفر من الكذب الذي لا يشك في كذبه أحد من أهل المعرفة بذلك، وكذلك كثير من المذاهب الباطلة التي تحكيها عنه الرافضة، وهي من أبين الكذب عليه، وليس في فرق الأمة أكثر كذبا واختلافا من الرافضة من حين تبعوا إلى أول من ابتدع الرفض، وكان منافقا زنديقا يقال له عبد الله بن سبأ، فأراد بذلك فساد دين المسلمين، كما فعل بولص صاحب الرسائل التي بأيدي النصارى، حيث ابتدع لهم بدعا أفسد بها دينهم، وكان يهوديا فأظهر النصرانية نفاقا لقصد إفسادها، وكذلك كان ابن سبأ يهوديا ففسد ذلك وسعى في الفتنة، لقصد إفساد الملة، فلم يتمكن، لكن حصل بين المؤمنين تحريش وفتنة قتل فيها عثمان رضي الله عنه، وجرى ما جرى من الفتنة، ولم يجمع الله - ولله الحمد - هذه الأمة على ضلالة، بل لا تزال فيها طائفة قائمة بالحق لا يضرها من خالفها، ولا من خذلها حتى تقوم الساعة، كما تشهد بذلك النصوص المستفيضة في الصحاح، عن النبي ﷺ، ولما أحدثت البدع الشيعة في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ردها، وكانت ثلاثة طوائف غالية وسبابة ومفضلة، فأما الغالية فإنه حرقهم بالنار، فإنه خرج ذات يوم من باب كندة فسجد له أقوام، فقال ما هذا ؟ فقالوا: أنت هو الله، فاستتابهم ثلاثا، فلم يرجعوا، فأمر في اليوم الثالث بأخاديد، فخدت وأضرم فيها النار، ثم قذفهم فيها، وقال: لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا وفي صحيح البخاري أن عليا أتى بزنادقتهم فحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: أما أنا فلو كنت لم أحرقهم { لنهي النبي ﷺ أن يعذب بعذاب الله }، ولضربت أعناقهم لقول النبي ﷺ: { من بدل دينه فاقتلوه }، وأما السبابة فإنه لما بلغه أن ابن سبأ يسب أبا بكر وعمر، طلب قتله، فهرب إلى قرقيسا وكلم فيه، وكان علي يداري أمراءه ; لأنه لم يكن متمكنا، ولم يكونوا يطيعونه في كل ما يأمرهم به، وأما المفضلة، فقال لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري وروي عنه من أكثر من ثمانين وجها أنه قال: " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر "، وفي صحيح البخاري، عن محمد بن الحنفية، أنه قال لأبيه: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله ﷺ ؟ فقال: يا بني أوما تعرف ؟ قال: لا، قال: أبو بكر، قال: ثم من ؟ قال ثم عمر، وفي الترمذي وغيره، أن عليا روى هذا التفضيل عن النبي ﷺ، والمقصود هنا أنه قد كذب على علي بن أبي طالب من أنواع الكذب التي لا يجوز نسبتها إلى أقل المؤمنين، حتى أضافت إليه القرامطة، والباطنية، والحزمية، والمزدكية، والإسماعيلية، والنصيرية مذاهبها التي هي من أفسد مذاهب العالمين، وادعوا أن ذلك من العلوم الموروثة عنه، وهذا كله إنما أحدثه المنافقون الزنادقة الذين قصدوا إظهار ما عليه المؤمنون، وهم يبطنون خلاف ذلك، واستتبعوا الطوائف الخارجة عن الشرائع، فكانت لهم دول، وجرى على المؤمنين منهم فتن، حتى قال ابن سينا: إنما اشتغلت في علوم الفلاسفة ; لأن أبي كان من أهل دعوة المصريين، يعني من بني عبيد الرافضة القرامطة، فإنهم كانوا ينتحلون هذه العلوم الفلسفية، ولهذا تجد بين هؤلاء وبين الرافضة ونحوهم من البعد عن معرفة النبوات اتصالا وانضماما، يجمعهم فيه الجهل الصميم بالصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فإذا كان في هذا الزمان القريب الذي هو أقل من سبعمائة سنة قد كذب على أهل بيته وأصحابه وغيرهم، وأضيف إليهم من مذاهب الفلاسفة والمنجمين ما يعلم كل عاقل براءتهم منه، ونفق ذلك على طوائف كثيرة منتسبة إلى هذه الملة، مع وجود من يبين كذب هؤلاء وينهى عن ذلك، ويذب عن الملة بالقلب والبدن واللسان، فكيف الظن بما يضاف إلى إدريس أو غيره من الأنبياء من أمور النجوم والفلسفة مع تطاول الزمان، وتنوع الحدثان، واختلاف الملل والأديان، وعدم من يبين حقيقة ذلك من حجة وبرهان، واشتمال ذلك على ما لا يحصى من الكذب والبهتان، وكذلك دعوى المدعي أن نجم النبي ﷺ كان بالعقرب والمريخ، وأمته بالزهرة، وأمثال ذلك هو من أوضح الهذيان ; لمباينة أحوال النبي ﷺ وأمته لما يدعونه من هذه الأحكام، فإن من أوضح الكذب قولهم: إن نجم المسلمين بالزهرة، ونجم النصارى بالمشتري، مع قولهم إن المشتري يقتضي العلم والدين، والزهرة تقتضي اللهو واللعب ; وكل عاقل يعلم أن النصارى أعظم الملل جهلا وضلالة، وأبعدها عن معرفة المعقول والمنقول، وأكثر اشتغالا بالملاهي وتعبدا بها، والفلاسفة كلهم متفقون على أنه ما قرع العالم ناموس أعظم من الناموس الذي جاء به محمد ﷺ وأمته أكمل عقلا ودينا وعلما باتفاق الفلاسفة، حتى فلاسفة اليهود والنصارى، فإنهم لا يرتابون في أن المسلمين أفضل عقلا ودينا، وإنما يمكث أحدهم على دينه، إما اتباعا لهواه ورعاية لمصلحة دنياه في زعمه، وإما ظنا منه أنه يجوز التمسك بأي ملة كانت، وإن الملل شبيهة بالمذاهب الإسلامية، فإن جمهور الفلاسفة من المنجمين وأمثالهم يقولون بهذا، ويجعلون الملل بمنزلة الدول الصالحة، وإن كان بعضها أفضل من بعض، وأما الكتب السماوية المتواترة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فناطقة بأن الله لا يقبل من أحد دينا سوى الحنيفية، وهي الإسلام العام: عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر، كما قال - تعالى -: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }، وبذلك أخبرنا عن الأنبياء المتقدمين وأممهم، قال نوح: { فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين }، وقال في آل إبراهيم { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }، وقال: { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين }، وقال: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا }، وقالت بلقيس: { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين }، وقال في الحواريين: { أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون }، وقد قال مطلقا: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام }، وقال: { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون }، { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }، فإذا كان المسلمون باتفاق كل ذي عقل أولى أهل الملل بالعلم والعقل والعدل وأمثال ذلك مما تناسب عندهم آثار المشتري، والنصارى أبعد عن ذلك وأولى باللهو واللعب وما يناسب عندهم آثار الزهرة، كان ما ذكروه ظاهر الفساد، ولهذا لا تزال أحكامهم كاذبة متهافتة، حتى أن كبير الفلاسفة الذي يسمونه فيلسوف الإسلام يعقوب بن إسحاق الكندي عمل تسييرا لهذه الملة، زعم أنها تنقضي عام ثلاث وتسعين وستمائة، وأخذ ذلك منه من أخرج مخرج الاستخراج من حروف كلام ظهر في الكشف لبعض من أعاده، ووافقهم على ذلك من زعم أنه استخرج بقاء هذه الملة من حساب الجمل الذي للحروف التي في أوائل السور، وهي مع حذف التكرير أربعة عشر حرفا، وحسابها في الجمل الكبير ستمائة وثلاثة وتسعون، ومن هذا أيضا ما ذكر في التفسير أن الله لما أنزل: { الم } قال بعض اليهود: بقاء هذه الملة أحد وثلاثون، فلما أنزل بعد ذلك: الر، و { الم }، قالوا خلط علينا، فهذه الأمور التي توجد عن ضلال اليهود والنصارى، أو ضلال المشركين والصابئين من المتفلسفة والمنجمين، مشتملة من هذا الباطل على ما لا يعلمه إلا الله تعالى وهذه الأمور وأشباهها خارجة عن دين الإسلام، محرمة فيه، يجب إنكارها، والنهي عنها على المسلمين، على كل قادر بالعلم والبيان واليد واللسان فإن ذلك من أعظم ما أوجبه الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل وسوس الملل، ولا ينفق الباطل في الوجود إلا بثوب من الحق، كما أن أهل الكتاب لبسوا الحق بالباطل، فبسبب الحق اليسير الذي معهم، يضلون خلقا كثيرا عن الحق الذي يجب الإيمان به، ويدعونه إلى الباطل الكثير الذي هم عليه، وكثيرا ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحق والباطل، ولا يقيم الحجة التي تدحض باطلهم، ولا يبين حجة الله التي أقامها برسله، فيحصل بذلك فتنة، وقد بسطنا القول في هذا الباب ونحوه في غير هذا الموضع، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على محمد وآله أجمعين .
========
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل المقحمات هي الذنوب العظام كما قال النووي أم أنها ذنوب أرتكبت بقصد طاعة الله لكن التسرع والاندفاع دافع للخطأ من غير قصد

تعقيب علي المقحمات يتبين من تعريف المقحمات بين النووي ومعاجم اللغة العتيدة أن النووي أخطأ جدا في التعريف { المقحمات مفتوح للكتابة...