معاني كلمات القران الكريم




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بؤامج نداء الايمان

النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق/مدونة ديوان الطلاق//المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني / / /*الـذاكـر / /القرآن الكريم مع الترجمة / /القرآن الكريم مع التفسير / /القرآن الكريم مع التلاوة / / /الموسوعة الحديثية المصغرة/الموسوعة الفقهية الكبرى //برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم //برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية / /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة / /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين / /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر / /برنامج مكتبة السنة / /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية / /برنامج موسوعة شرح الحديث الشريف فتح البارى لشرح صحيح البخارى وشرح مسلم لعبد الباقى وشرح مالك للإمام اللكنوى / /خلفيات إسلامية رائعة / /مجموع فتاوى ابن تيمية / /مكتبة الإمام ابن الجوزي / /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني / /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي / /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي / /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي / /مكتبة الإمام ابن كثير / /مكتبة الإمام الذهبي / /مكتبة الإمام السيوطي / /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني / /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي / /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي / /مكتبة الشيخ حمود التويجري / /مكتبة الشيخ ربيع المدخلي / /مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ / /مكتبة الشيخ صالح الفوزان / /مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي / /مكتبة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم / /مكتبة الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان / /مكتبة الشيخ عبد المحسن العباد / /مكتبة الشيخ عطية محمد سالم / /مكتبة الشيخ محمد أمان الجامي /مكتبة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي / /مكتبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / /مكتبة الشيخ مقبل الوادعي / /موسوعة أصول الفقه / /موسوعة التاريخ الإسلامي / /موسوعة الحديث النبوي الشريف / /موسوعة السيرة النبوية / /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية / موسوعة توحيد رب العبيد / موسوعة رواة الحديث / موسوعة شروح الحديث / /موسوعة علوم الحديث / /موسوعة علوم القرآن / /موسوعة علوم اللغة / /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

الجمعة، 4 مارس 2022

ج2-- الاستقامة/8. لابن تيمية الي اخر الاستقامة 12 . ويأتي بعدة الاستقامة { ن 13 الي الاخر ان شاء الله}



الاستقامة/8
وأما القتال فالسنة أيضا فيه خفض الصوت ولهذا قال حماس بن قيس بن خالد لامرأته يوم فتح مكة ... إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة ... وأبو يزيد قائم كالموتمه واستقبلهم بالسيوف المسلمة ... يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فلا يسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وهذه الدقادق والأبواق التي تشبه قرن اليهود وناقوس النصارى لم تكن تعرف على عهد الخلفاء الراشدين ولا من بعدهم من أمراء المسلمين وإنما حدث في ظني بعض ملوك المشرق من أهل فارس فإنهم أحدثوا في أحوال الإمارة والقتال أمورا كثيرة وانبثت في الأرض لكون ملكهم انتشر حتى ربا في ذلك الصغير وهرم فيها الكبير لا يعرفون غير ذلك بل ينكرون أن يتكلم أحد بخلافه حتى ظن بعض الناس أن ذلك من إحداث عثمان بن عفان وليس كذلك بل ولا فعله عامة الخلفاء والأمراء بعد عثمان رضي الله عنه
ولكن ظهر في الأمة ما أخبر به النبي ﷺ حيث قال لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال ومن الناس إلا هؤلاء كما قال في الحديث الآخر لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن
وكلا الحديثين في الصحيح أخبر بأنه يكون في الأمة من يتشبه باليهود والنصارى ويكون فيها من يتشبه بفارس والروم
ولهذا ظهر في شعائر الجند المقاتلين شعائر الأعاجم من الفرس وغيرهم حتى في اللباس وأعمال القتال والأسماء التي تكون لأسباب الإمرة مثل الألفاظ المضافة إلى دار كقولهم ركاب دار وطشت دار وخان دار فإن ذلك في لغة الفرس بمعنى صاحب وحافظ فإذا قالوا جان دار فالجان هي الروح في لغتهم فالجان دار بمعنى حافظ الروح وصاحب الروح وكذلك الركاب دار أي صاحب الركاب وحافظ الركاب وهو الذي يسرج الفرس ويلجمه ويكون في ركاب الراكب وكذلك صاحب الطشت الذي يغسل الثياب والأبدان
وكذلك برد دار وهو صاحب العتبة وهو الموكل بدار الأمير كالحداد والبواب الذي يمنع من الدخول والخروج ويأذن فيه
وكذلك يقولون جمدار وسلاح دار وجوكان دار وبندق دار ودوادار وخرندار واستادار لصاحب الثياب الذي يحفظ الثياب وما يتعلق بذلك ولصاحب السلاح والجوكان والبندق والدواه وخزانة المال والاستدانة وهي التصرف في إخراج المال وصرفه فيما يحتاج إليه من الطعام واللباس وغير ذلك
ويتعدى ذلك إلى ولاة الطعام والشراب فيقولون مرق دار أي صاحب المرقة وما يتعلق بها وشراب دار لصاحب الشراب ويقولون مهما ندار أي صاحب المهم كما يقولون مهمان خاناه أي بيت المهم والمهمة وهو في لغتهم الضيف أي بيت الإضافة وصاحب الضيافة مهمان دار لمثل رسول يرد على الأمير والعيون الذين هم الجواميس ونحو ذلك ممن يتخذ له ضيافة ويوجد منه أخبار وكتب ويعطى ذلك ونحو ذلك
فإن الألف والنون في لغتهم جمع كما يقولون مسلمان وفقيهان وعالمان أي مسلمون وفقهاء وعلماء ونحو ذلك قولهم فراش خاناه أي بيت الفرس والفراش يسمونه باللفظ العربي ويقولون زرد خاناه أي بيت الزرد
وهذا الخاص هو عام في العرف يراد به بيت السلاح مطلقا وإن ذكر لفظ الزرد خاصة كما كان الصحابة يعبرون عن السلاح بالحلقة والحلقة هي الدروع المسرودة من السرد الذي يقال له الزرد فنقلت السين زايا وربما قالوا الحلقة والسلاح أي الدروع والسلاح
ولهذا لما صالح النبي ﷺ من صالحه من يهود صالحهم على أن له الحلقة وفي السيرة كان في بني فلان وفلان من الأنصار الحلقة والحصون أي هم الذين لهم السلاح الذين يقاتلون بها والحصون التي يأوون إليها كما يكون لأمراء الناس من أصناف الملوك المعاقل والحصون والقلاع ولهم السلاح فإن هذه الأمور هي جنن القتال وبها يمتنع المقاتل والمطلوب بخلاف من لا سلاح له ولا حصن فإنه ممكن من نفسه مقدور عليه في مثل الأمصار وإن كان القتال على الخيل بالسلاح هو أعلى وأفضل من القتال في الحصون بالسلاح فالحصان خير من الحصون ومن لم يكن قتاله إلا في الحصون والجدر فهو مذموم
كما قال تعالى عن اليهود لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون سورة الحشر 14
والمحدثات في أمر الإمارة والملك والقتال كثيرة جدا ليس هذا موضعها فإن الأمة هي في الأصل اربعة أصناف كما ذكر ذلك في قوله فاقرأوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله سورة المزمل 20
فالصنف الواحد القراء وهم جنس العلماء والعباد ويدخل فيهم من تفرع من هذه الأصناف من المتكلمة والمتصوفة وغيرهم
والصنف الآخر المكتسب بالضرب في الأرض وأما المقيمون من أهل الصناعات والتجارات فيمكن أن يكونوا من القراء المقيمين أيضا بخلاف المسافر فإن النبي ﷺ قال إذا مرض العبد أو سافر كتبه له من العمل مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم أخرجاه في الصحيحين عن ابي موسى
والله سبحانه إنما ذكر هذه الأصناف في الآية ليبين من يسقط عنه قيام الليل من أهل الأعذار فذكر المريض والمسافر اللذين ذكرا في الحديث وذكر المسافرين في ضربين الضاربين في الأرض يبتغون من فضل الله والمقاتلين في سبيل الله وهم التجار والأجناد
والمقصود هنا ان الأجناس الأربعة من المقاتلة والتجار ومن يلحق بهم من الصناع والقراء وأهل الأعذار كالمرضى ونحوهم كل هؤلاء قد حصل فيهم من الأنواع المختلفة ما يطول وصفه
وأمورهم ما بين حسن مأمور به وبين قبيح منهى عنه ومباح واشتمال أكثر أمورهم على هذه الثلاثة المأمور به والمنهى عنه والمباح والواجب الأمر بما أمر الله به والنهي عما نهى عنه والإذن فيما أباحه الله
لكن إذا كان الشخص أو الطائفة لا تفعل مأمورا إلا بمحظور أعظم منه أو لا تترك مأمورا إلا لمحظور أعظم منه لم يأمر امرا يستلزم وقوع محظور راجح ولم ينه نهيا يستلزم وقوع مأمور راجح فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الذي بعثت به الرسل والمقصود تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان
فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلزما من الفساد أكثر مما فيه من الصلاح لم يكن مشروعا وقد كره أئمة السنة القتال في الفتنة التي يسميها كثير من اهل الأهواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ذلك إذا كان يوجب فتنة هي اعظم فسادا مما في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدفع أدنى الفسادين باعلاهما بل يدفع أعلاهما باحتمال أدناهما كما قال النبي ﷺ ألا انبئكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين
لكن المقصود هنا ان هذه الأصوات المحدثة في امر الجهاد وإن ظن أن فيها مصلحة راجحة فإن التزام المعروف هو الذي فيه المصلحة الراجحة كما في اصوات الذكر إذ السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان أفضل من المتأخرين في كل شئ من الصلاة وجنسها من الذكر والدعاء وقراءة القرآن واستماعه وغير ذلك ومن الجهاد والإمارة وما يتعلق بذلك من أصناف السياسات والعقوبات والمعاملات في إصلاح الأموال وصرفها فإن طريق السلف أكمل في كل شئ ولكن يفعل المسلم من ذلك ما يقدر عليه
كما قال الله تعالى فآتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن 16 وقال النبي ﷺ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ولا حول ولا قوة إلا بالله
قال أبو القاسم القشيري وإن حسن الصوت مما أنعم الله تعالى به على صاحبه من الناس قال الله تعالى يزيد في الخلق ما يشاء سورة فاطر 1 قيل في التفسير من ذلك الصوت الحسن وذم الله وسبحانه الصوت الفظيع فقال تعالى إن أنكر الأصوات لصوت الحمير سورة لقمان 19
قلت كون الشئ نعمة لا يقتضى استباحة استعماله فيما شاء الإنسان من المعاصي ولا يقتضي إلا حسن استعماله بل النعم المستعملة في طاعة الله يحمد صاحبها عليها ويكون ذلك شكرا لله يوجب المزيد من فضله فهذا يقتضي حسن استعمال الصوت الحسن في قراءة القرآن كما كان أبو موسى الأشعري يفعل وكما كان النبي ﷺ يستمع لقراءته وقال مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت استمع لقراءتك فقال لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا وقال لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود
فأما استعمال النعم في المباح المحض فلا يكون طاعة فكيف في المكروه أو المحرم ولو كان ذلك جائزا لم يكن قربة ولا طاعة إلا بإذن الله ومن جعله طاعة لله بدون ذلك فقد شرع من الدين مالم يأذن به الله
ومعلوم أن القوة نعمة والجمال نعمة وغير ذلك من نعم الله التي لا يحصيها إلا هو فهل يجعل أحد مجرد كون الشئ نعمة دليلا على استحباب إعماله فيما شاء الإنسان أم يؤمر المنعم عليه بألا يستعملها في معصية ويندب إلى ألا يستعملها إلا في طاعة الله تعالى
فآلاستدلال بهذا منزلة من استدل بإنعام الله بالسلطان والمال على ما جرت عادة النفوس باستعمال ذلك فيه من الظلم والفواحش ونحو ذلك فآستعمال الصوت الحسن في الأغاني وآلات الملاهي مثل استعمال الصور الحسنة في الفواحش واستعمال السلطان بالكبرياء والظلم والعدوان واستعمال المال في نحو ذلك
ثم يقال له هذه النعمة يستعملها الكفار والفساق في أنواع من الكفر والفسوق أكثر مما يستعلها المؤمنون في الإيمان فإن استمتاع الكفار والفساق بالأصوات المطربة أكثر من استمتاع المسلمين فأي حمد لها بذلك إن لم تستعمل في طاعة الله ورسوله
وأما قوله إن الله ذم الصوت الفظيع فهذا غلط منه فإن الله لا يذم ما خلقه ولم يكن فعلا للعبد إنما يذم العبد بأفعاله الاختيارية دون ما لا اختيار له فيه وإن كان صوته قبيحا فإنه لا يذم على ذلك وإنما يذم بأفعاله
وقد قال الله في المنافقين وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم سورة المنافقون 4
وقال ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام سورة البقرة 204
وإنما ذم الله ما يكون بآختيار العبد من رفع الصوت الرفع المنكر كما يوجد ذلك في أهل الغلظ والجفاء كما قال النبي ﷺ الجفاء والغلط وقسوة القلوب في الفدادين من أهل الوبر وهم الصياحون صياحا منكرا
وقد قال الله تعالى واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير سورة لقمان 19 فأمره أن يغض من صوته كما أمر المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم وكما أمره أن يقصد في مشيه وذلك كله فيما يكون باختياره لا مدخل لذه الصوت وعدم لذته في ذلك
وقال تعالى إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون سورة الحجرات 4 وقال لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له القول سورة الحجرات 2 وقال إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى سورة الحجرات 3
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو في صفة النبي ﷺ في التوراة قال ليس بفظ ولا غليظ ولاصخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر
وفي الصحيح أيضا انه أمر ان يبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب
وعنه ﷺ قال إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة صوت لهو ولعب ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية
ثم قال ابو القاسم واستلذاذ القلوب واشتياقها إلى الأصوات الطيبة واسترواحها إليها مما لا يمكن جحوده فإن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب والجمل يقاسى تعب السير ومشقة الحمولة فيهون عليه بالحداء قال الله تعالى أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت سورة الغاشية 17
وحكى إسماعيل بن علية قال كنت أمشى مع الشافعي رحمه الله وقت الهاجرة فجزنا بموضع يقول فيه أحد شيئا فقال مل بنا إليه ثم قال أيطربك هذا فقلت لا فقال مالك حسن
قلت قد كان مستغنيا عن أن يستشهد على الامور الحسية بحكاية مكذوبة على الشافعي فإن إسماعيل بن علية شيخ الشافعي لم يكن ممن يمشي معه ولم يرو هذا عن الشافعي بل الشافعي روى عنه وهو من أجلاء شيوخ الشافعي وابنه ابراهيم بن إسماعيل كان متكلما تلميذا لعبد الرحمن بن كيسان الأصم أحد شيوخ المعتزلة وكان قد ذهب إلى مصر وكان بينه وبين الشافعي مناوأة حتى كان الشافعي يقول فيه أنا مخالف لابن علية في كل شئ حتى في قول لا إله إلا الله لأني أقول لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء الحجاب وهو يقول لا إله إلا الله الذي خلق في الهواء كلاما يسمعه موسى وهذا يذكر له أول رسالة في أصول الفقه ويظن بعض الناس أن ابنه يشتبه بأبيه فإنه شيخ الشافعي وأحمد وطبقتهما
فهذه الحكاية يعلم انها مفتراة من له أدنى معرفة بالناس ولو صحت عمن صحت عنه لم يكن فيها إلا ما هو مدرك بالإحساس من ان الصوت الطيب لذيذ مطرب وهذا يشترك فيه جميع الناس ليس هذا من أمور الدين حتى يستدل فيه بالشافعي بل ذكر الشافعي في مثل هذا غض من منصبه مثل ما ذكر ابن طاهر عن مالك رحمه الله حكاية مكذوبة وأهل المواخر أعلم بهذه المسألة من أئمة الدين ولو حكى مثل هذا عن إسحاق بن إبراهيم النديم وأبي الفرج الأصبهاني صاحب الأغاني لكان أنسب من ان يحكيها عن الشافعي
ثم يقال كون الصوت الحسن فيه لذه أمر حسى لكن أي شئ في هذا مما يدل على الأحكام الشرعية من كونه مباحا او مكروها او محرما ومن كون الغناء قربة أو طاعة
بل مثل هذا ان يقول القائل استلذاذا بالوطء مما لا يمكن جحوده واستلذاذ النفوس بالوطء مما لا يمكن جحوده واستلذاذها بالمباشرة للجميل من النساء والصبيان مما لا يمكن جحوده واستلذاذها بالنظر إلى الصور الجميلة مما لا يمكن جحوده واستلذاذها بأنواع المطاعم والمشارب مما لا يمكن جحوده فأي دليل في هذا لمن هداه الله على ما يحبه ويرضاه أو يبيحه ويجيزه
ومن المعلوم أن هذه الأجناس فيها الحلال والحرام والمعروف والمنكر بل كان المناسب لطريقة الزهد في الشهوات واللذات ومخالفة الهوى ان يستدل بكون الشئ لذيذا مشتهى على كونه مباينا لطريق الزهد والتصوف كما قد يفعل كثير من المشايخ يزهدون بذلك في جنس الشهوات واللذات
وهذا وإن لم يكن في نفسه دليلا صحيحا فهو اقرب إلى طريقة الزهد والتصوف من الاستدلال بكون الشئ لذيذا على كونه طريقا إلى الله
وكل من الاستدلالين باطل فلا يستدل على كونه محمودا أو مذموما أو حلالا او حراما إلا بالأدلة الشرعية لا بكونه لذيذا في الطبع أو غير لذيذ
ولهذا ينكر على من يتقرب إلى الله بترك جنس اللذات كما قال ﷺ للذين قال احدهم أما أنا فأصوم لا أفطر وقال الآخر أما أنا فأقوم لا أنام وقال الآخر أما أنا فلا اتزوج النساء وقال الآخر أما أنا فلا آكل اللحم فقال النبي ﷺ لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني
وقد أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين سورة المائدة 87
ثم إن أبا القاسم وطائفة معه تارة يمدحون التقرب إلى الله بترك جنس الشهوات وتارة يجعلون ذلك دليلا على حسنه وكونه من القربا ت وهذا بحسب وجد أحدهم وهواه لا بحسب ما أنزل الله وأوحاه وما هو الحق والعدل وما هو الصلاح والنافع في نفس الأمر
والتحقيق أن العمل لا يمدح ولا يذم لمجرد كونه لذة بل إنما يمدح ما كان لله أطوع وللعبد أنفع سواء كان فيه لذة أو مشقة قرب لذيذ هو طاعة ومنفعة ورب مشق هو طاعة ومنفعة ورب لذيذ أو مشق صار منهيا عنه
ثم لو استدل بهذا على تحسين القرآن به لكان مناسبا فإن الاستعانة بجنس اللذات على جنس الطاعات مما جاءت به الشريعة كما يستعان بالأكل والشرب على العبادات
قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله سورة البقرة 172 وقال كلوا من الطيبات واعملوا صالحا سورة المؤمنون 51
وفي الحديث المتفق عليه قوله عليه السلام لسعد إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك
وقال في بضع أحدكم أهله صدقة
وكذلك حمده في النعم كما في الحديث الصحيح إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها
فلو قال إن الله خلق فينا الشهوات واللذات لنستعين بها على كمال مصالحنا فخلق فينا شهوة الأكل واللذة به فإن ذلك في نفسه نعمة وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا وكذلك شهوة النكاح واللذة به هو في نفسه وربه يحصل بقاء النسل فإذا استعين بهذه القوى على ما أمرنا كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمة مطلقة وإن استعملنا الشهوات فيما حظره علينا بأكل الخبائث في نفسها أو كسبها كالمظالم أو بالإسراف فيها أو تعدينا أزواجنا أو ما ملكت أيماننا كنا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته لكان هذا كلاما حسنا
والله قد خلق الصوت الحسن وجعل النفوس تحبه وتلتذ به فإذا استعنا بذلك في استماع ما امرنا باستماعه وهو كتابه وفي تحسين الصوت به كما أمرنا بذلك حيث قال زينوا القرآن باصواتكم وكما كان يفعل أصحابه بحضرته مثل أبي موسى وغيره كنا قد استعملنا النعمة في الطاعة وكان هذا حسنا مأمورا به كما كان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون وكان أصحاب محمد ﷺ إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم أن يقرأ والباقي يستمعون
فهذا كان استماعهم وفي مثل هذا السماع كانوا يستعملون الصوت الحسن ويجعلون التذاذهم بالصوت الحسن عونا لهم على طاعة الله وعبادته باستماع كتابه فيثابون على هذا الالتذاذ إذ اللذة المأمور بها المسلم يثاب عليها كما يثاب على أكله وشربه ونكاحه وكما يثاب على لذات قلبه بالعلم والإيمان فإنها أعظم اللذات وحلاوة ذلك أعظم الحلاوات
ونفس التذاذه وإن كان متولدا عن سعته وهو في نفسه ثواب فالمسلم يثاب على عمله وعمل ما يتلود عن عمله ويثاب عما يلتذ به من ذلك مما هو أعظم لذة منه فيكون متقلبا في نعمة ربه وفضله
فأما أن يستدل بمجرد استلذاذ الإنسان للصوت أو ميل الطفل إليه أو استراحة البهائم به على جواز أو استحباب في الدين فهو من أعظم الضلال وهو كثير فيمن يعبد الله بغير العلم المشروع
ومن المعلوم أن الاطفال والبهائم تستروح بالأكل والشرب فهل يستدل بذلك على ان كل أكل وشرب فهو حسن مأمور به
وأصل الغلط في هذه الحجج الضعيفة أنهم يجعلون الخاص عاما في الأدلة المنصوصة وفي عموم الألفاظ المستنبطة فيجنحون إلى أن الألفاظ في الكتاب والسنة أباحت أو حمدت نوعا من السماع يدرجون فيها سماع المكاء والتصدية أو يجنحون إلى المعاني التي دلت على الإباحة أو الاستحباب في نوع من الأصوات والسماع يجعلون ذلك متناولا لسماع المكاء والتصدية
وهذا جمع بين ما فرق الله بينه بمنزلة قياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا وأصل هذا القياس المشركين الذين عدلوا بالله وجعلوا لله أندادا سووهم برب العالمين في عبادتها أو اتخاذها آلهة وكذلك من عدل رسوله متنبئا كذابا كمسيلمة الكذاب أو عدل بكتابه وتلاوته واستماعه كلاما آخر أو قراءته أو سماعه أو عدل بما شرعه من الدين دينا آخرا شرعه له شركاؤه فهذا كله من فعل المشركين وإن دخل في بعضه من المؤمنين قوم متأولون فالناس كما قال الله تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون سورة يوسف 106
فالشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل وهذا مقام ينبغي للمؤمنين التدبر فيه فإنه ما بدل دين الله في الأمم المتقدمة وفي هذه الأمة إلا بمثل هذا القياس ولهذا قيل ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس
وأصل الشرك أن تعدل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده فإنه لم يعدل أحد بالله شيئا من المخلوقات في جميع الأمور فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك به كمن عمد إلى كلام الله الذي أنزله وأمر باستماعه فعدل به سماع بعض الاشعار
وقد روى عن النبي ﷺ أنه قال فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه رواه الترمذي وغيره
وروى أيضا عنه ما تقرب العباد إلى الله بشئ أحب إليه مما خرج منه يعني القرآن وهذا محفوظ عن خباب بن الأرت أحد المهاجرين الأولين السابقين قال يا هناه تقرب إلى الله بما استطعت فلن يتقرب إليه بشئ احب اليه من كلامه فإذا عدل بذلك ما نزه الله عنه ورسوله بقوله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له سورة يس 69 وجعله قرآنا للشيطان كما في الحديث فما قرآني قال الشعر كان هذا عدل كلام الرحمن بكلام الشيطان وهذا قد جعل الشيطان عدلا للرحمن فهو من جنس الذين قال الله فيهم فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود ابليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين سورة الشعراء 94 98
والاستدلال بكون الصوت الحسن نعمة واستلذاذ النفوس به على جواز استعماله في الغناء أو استحباب ذلك في بعض الصور مثل الاستدلال بكون الجمال نعمة ومحبة النفوس الصور الجميلة على جواز استعمال الجمال الذي للصبيان في إمتاع الناس به مشاهدة ومباشرة وغير ذلك او استحباب ذلك في بعض الصور وهذا أيضا قد وقع فيه طوائف من المتفلسفة والمتصوفة والعامة كما وقع في الصوت أكثر من هؤلاء لكن الواقعون في الصور فيهم من له من العقل والدين ما ليس لهؤلاء إذ ليس في هؤلاء رجل مشهور بين الناس شهرة عامة بخلاف أهل السماع ولكن هم طرقوا لهم الطريق وذرعوا الذريعة حتى آل الأمر بكثير من الناس أن قالوا وفعلوا في الصوت نظير ما قاله هؤلاء وفعلوه في الصور يحتجون على جواز النظر إليه والمشاهدة بمثل نظير ﷺ إن الله جميل يحب الجمال وينسون قوله إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
ويحتجون بما في ذلك من راحة النفوس ولذاتها كما يحتج هؤلاء ويكرمون ذا الصورة على ما يبذله من صورته وإشهادهم إياها كما يكرم هؤلاء ذا الصوت على ما يبذله من صوته وإسماعهم إياه بل كثيرا ما يجمع في الشخص الواحد بين الصورة والصوت كما يفعل في المغنيات من القينات
وقد زين الشيطان لكثير من المتنسكة والعباد أن محبة الصور الجميلة إذا لم يكن بفاحشة فإنها محبة لله كما زين لهؤلاء أن استماع هذا الغناء لله ففيهم من يقول هذا اتفاقا وفيهم من يظهر أنه يحبه لغير فاحشة ويبطن محبة الفاحشة وهو الغالب
لكن ما أظهروه من الرأي الفاسد وهو أن يحب لله ما لم يأمر الله بمحبته هو الذي سلط المنافق منهم على أن يجعل ذلك ذريعة إلى الكبائر ولعل هذه البدعة منهم اعظم من الكبيرة مع الإقرار بأن ذلك ذنب عظيم والخوف من الله من العقوبة فإن هذا غايته أنه مؤمن فاسق قد جمع سيئة وحسنه وأولئك مبتدعة ضلال حين جعلوا ما نهى الله عنه مما أمر الله به وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا وبمثلهم يضل أولئك حتى لا ينكروا المنكر إذا اعتقدوا أن هذا يكون عبادة الله
ومن جعل ما لم يأمر الله بمحبته محبوبا لله فقد شرع دينا لم يأذن الله به وهو مبدأ الشرك كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165
فإن محبة النفوس الصورة والصوت قد تكون عظيمة جدا فإذا جعل ذلك دينا وسمى لله صار كالأنداد والطواغيت المحبوبة تدينا وعبادة
كما قال تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم سورة البقرة 93
وقال تعالى عنهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم سورة ﷺ 6
بخلاف من أحب المحرمات مؤمنا بأنها من المحرمات فإن من احب الخمر والغناء والبغي والمخنث مؤمنا بأن الله يكره ذلك ويبغضه فإنه لا يحبه محبة محضة بل عقله وإيمانه يبغض هذا الفعل ويكرهه ولكن قد غلبه هواه فهذا قد يرحمه الله إما بتوبة إذا قوى ما في إيمانه من بغض ذلك وكراهته حتى دفع الهوى وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بغير ذلك
أما إذا اعتقد أن هذه المحبة لله فإيمانه بالله يقوي هذه المحبة ويؤيدها وليس عنده إيمان يزعه عنها بل يجتمع فيها داعي الشرع والطبع الإيمان والهدى وذلك أعظم من شرب النصراني للخمر فهذا لا يتوب من هذا الذنب ولا يتخلص من وباله إلا أن يهديه الله
فتبين له أن هذه المحبة ليست محبة لله ولا أمر الله بها بل كرهها ونهى عنها وإلا فلو ترك أحدهم هذه المحبة لم يكن ذلك توبة فإنه يعتقد أن جنسها دين بحيث يرضى بذلك من غيره ويأمره به ويقره عليه وتركه لها كترك المؤمن بعض التطوعات والعبادات
وليس في دين الله محبة أحد لحسنه قط فإن مجرد الحسن لا يثيب الله عليه ولا يعاقب ولو كان كذلك كان يوسف عليه السلام لمجرد حسنه أفضل من غيره من الانبياء لحسنه وإذا استوى شخصان في الأعمال الصالحة وكان أحدهما أحسن صورة وأحسن صوتا كانا عند الله سواء فإن اكرم الخلق عند الله أتقاهم يعم صاحب الصوت الحسن والصورة الحسنة إذا استعمل ذلك في طاعة الله دون معصيته كان أفضل من هذا الوجه كصاحب المال والسلطان إذا استعمل ذلك في طاعة الله دون معصيته فإنه بذلك الوجه أفضل ممن لم يشركه في تلك الطاعة ولم يمتحن بما امتحن به حتى خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ثم ذلك الغير إن كان له عمل صالح آخر يساويه به وإلا كان الأول أفضل مطلقا
وهذا عام لجميع الأمور التي أنعم الله تعالى بها على بني آدم وابتلاهم بها فمن كان فيها شاكرا صابرا كان من أولياء الله المتقين وكان ممن امتحن بمحبة حتى صبر وشكر وإن لم يكن المبتلى صابرا شكورا بل ترك ما أمر الله به وفعل ما نهى الله عنه كان عاصيا أو فاسقا أو كافرا وكان من سلم من هذه المحنة خيرا منه إلا أن يكون له ذنوب أخرى يكافيه بها
وإن جمع بين طاعة ومعصية فإن ترجحت طاعته كان أرجح ممن لم يكن له مثل ذلك وإن ترجحت معصيته كان السالم من ذلك خيرا منه فإن كان له مال يتمكن به في الفواحش والظلم فخالف هواه وأنفقه فيما يبتغي به وجه الله أحب الله ذلك منه وأكرمه وأثابه
ومن كان له صوت حسن فترك استعماله في التخنيث والغناء واستعلمه في تزيين كتاب الله والتغني به كان بهذا العمل الصالح وبترك العمل السئ أفضل ممن ليس كذلك فإنه يثاب على تلاوة كتاب الله فيكون في عمله معنى الصلاة ومعنى الزكاة
ولهذا قال النبي ﷺ ما أذن الله لشئ كأذنه لبني حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به وقال لله أشد أذنا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته
ومن كان له صورة حسنة فعف عما حرم الله تعالى وخالف هواه وجمل نفسه بلباس التقوى الذي قال الله فيه يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير سورة الأعراف 26 كان هذا الجمال يحبه الله وكان من هذا الوجه أفضل ممن لم يؤت مثل هذا الجمال ما لا يكساه وجه العاصي فإن كانت خلقته حسنة ازدادت حسنا وإلا كان عليها من النور والجمال بحسبها
وأما أهل الفجور فتعلو وجوههم ظلمة المعصية حتى يكسف الجمال المخلوق قال ابن عباس رضي الله عنه إن للحسنة لنورا في القلب وضياء في الوجه وقوة في البدن وزيادة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لظلمة في القلب وغبرة في الوجه وضعفا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق
وهذا يوم القيامة يكمل حتى يظهر لكل احد كما قال تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون سورة آل عمران 106 107
وقال تعالى ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين سورة الزمر 60
وقال تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة سورة القيامة 22 25
وقال تعالى وجوه يومئذ ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة اولئك هم الكفرة الفجرة سورة عبس 38 42
وقال تعالى وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية سورة الغاشية 2 4 و وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية سورة الغاشية 89
وقال تعالى وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه سورة الكهف 29
وقال تعالى إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم سورة المطففين 22 24
وقال النبي ﷺ لا تزال المسألة بأحدهم حتى يجئ يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم
وقال من سأل الناس وله ما يكفيه جاءت مسألته خدوشا أو كدوحا في وجهه يوم القيامة
وقال عليه السلام أول زمرة تلج الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم كأشد كوكب في السماء إضاءة وقال يوم حنين شاهت الوجوه لوجوه المشركين
وأمثال هذا كثير مما فيه وصف أهل السعادة بنهاية الحسن والجمال والبهاء وأهل الشقاء بنهاية السوء والقبح والعيب
وقد قال تعالى في وصفههم في الدنيا محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بنيهم إلى قوله سبحانه سيماهم في وجوههم من أثر السجود سورة الفتح 29 فهذه السيما في وجوه المؤمنين والسيما العلامة وأصلها من الوسم وكثيرا ما يستعمل في الحسن كما جاء في صفة النبي ﷺ وسيم قسيم
وقال الشاعر ... غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيماء لا تشق على البصر ...
وقال الله تعالى في صفة المنافقين ولو نشاء لأرينا كهم فلعرفتهم بسيماهم سورة محمد 30 فجعل للمنافقين سيما أيضا
وقال وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر سورة الحج 72 فهذه السيما وهذا المنكر قد يوجد في وجه من صورته المخلوقة وضيئة كما يوجد مثل ذلك في الرجال والنساء والولدان لكن بالنفاق قبح وجهه فلم يكن فيه الجمال الذي يحبه الله وأساس ذلك النفاق والكذب
ولهذا يوصف الكذاب بسواد الوجه كما يوصف الصادق ببياض الوجه كما أخبر الله بذلك ولهذا روى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتعزيز شاهد الزور بأن يسود وجهه ويركب مقلوبا على الدابة فإن العقوبة من جنس الذنب فلما اسود وجهه بالكذب وقلب الحديث سود وجهه وقلب في ركوبه وهذا أمر محسوس لمن له قلب فإن ما في القلب من النور والظلمة والخير والشر يسرى كثيرا إلى الوجه والعين وهما أعظم الأشياء ارتباطا بالقلب
ولهذا يروى عن عثمان أو غيره أنه قال ما أسر أحد بسريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه والله قد أخبر في القرآن أن ذلك قد يظهر في الوجه فقال ولو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم سورة محمد 30 فهذا تحت المشيئة ثم قال ولتعرفنهم في لحن القول سورة محمد 30 فهذا مقسم عليه محقق لا شرط فيه وذلك أن ظهور ما في قلب الإنسان على لسانه أعظم من ظهوره في وجهه لكنه يبدو في الوجه بدوا خفيا يعلمه الله فإذا صار خلقا ظهر لكثير من الناس وقد يقوى السواد والقسمة حتى يظهر لجمهور الناس وربما مسخ قردا أو خنزيرا كما في الأمم قبلنا وكما في هذه الأمة أيضا وهذا كالصوت المطرب إذا كان مشتملا على كذب وفجور فإنه موصوف بالقبح والسوء الغالب على ما فيه من حلاوة الصوت فذو الصورة الحسنة إما أن يترجح عنده العفة والخلق الحسن وإما أن يترجح فيه ضد ذلك وإما أن يتكافآ
فإن ترجح فيه الصلاح كان جماله بحسب ذلك وكان أجمل ممن لم يمتحن تلك المحنة
وإن ترجح فيه الفساد لم يكن جميلا بل قبيحا مذموما فلا يدخل في قوله إن الله جميل يحب الجمال
وإن تكافأ فيه الأمران كان فيه من الجمال والقبح بحسب ذلك فلا يكون محبوبا ولا مبغضا
والنبيصلى االله عليه وسلم ﷺ ذكر هذه الكلمة للفرق بين الكبر الذي يبغضه الله والجمال الذي يحبه الله فقال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذلك فقال لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس فأخبر أن تحسين الثوب قد يكون من الجمال الذي يحبه الله كما قال تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد سورة الأعراف 31
فلا يكون حينئذ من الكبر
وقد يرد أنه ليس كل ثوب جميل وكل نعل جميل فإن الله يحبه فإن الله يبغض لباس الحرير ويبغض الإسراف والخيلاء في اللباس وإن كان فيه جمال فإذا كان هذا في لبس الثياب الذي هو سبب هذا القول فكيف في غيره
وتفسير هذا قوله ﷺ إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
فعلم أن مجرد الجمال الظاهر في الصور والثياب لا ينظر الله إليه وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال فإن كان الظاهر مزينا مجملا بحال الباطن أحبه الله وإن كان مقبحا مدنسا بقبح الباطن أبغضه الله فإنه سبحانه يحب الحسن الجميل ويبغض السيئ الفاحش
وأهل جمال الصورة يبتلون بالفاحشة كثيرا واسمها ضد الجمال فإن الله سماه فاحشة وسوءا وفسادا وخبيثا فقال تعالى ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا سورة الإسراء 32
وقال ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن سورة الأنعام 151
وقال أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين سورة الأعراف 80
وقال وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعلمون السيئات سورة هود 78
وقال ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث سورة الأنبياء 74
وقال رب انصرني على القوم المفسدين سورة العنكبوت 30
وقال وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين سورة الأعراف 84
والفاحش والخبيث ضد الطيب والجميل فإذا كان كذلك أبغضه الله ولم يحبه ولم يكن مندرجا في الجميل
ونظير ذلك قوله ﷺ إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش وقوله إن الله يبغض الفاحش البذئ فلو أفحش الرجل وبذأ بصوته الحسن كان الله يبغض ذلك
ونفي المخنثين سنة من سنن النبي ﷺ الثابته عنه في موضعين في حق الزاني والزانية اللذين لم يحصنا كما قال جلد مائة وتغريب عام وفي حق المخنث وهو إخراجه من بين الناس وذلك أن الفاحشة لا تقع إلا مع قدرة ومكنة الإنسان لا يطلب ذلك إلا إذا طمع فيه بما يراه من أسباب المكنة فمن العقوبة على ذلك قطع أسباب المكنة فإذا تغرب الرجل عن أهله وأعوانه وأنصاره الذي يعاونون وينصرونه ذلت نفسه وانقهرت فكان ذلك جزاء نكالا من الله من الجلد ولأنه مفسد لأحوال من يساكنه فيبعد عنهم وكذلك المخنث يفسد أحوال الرجال والنساء جميعا فلا يسكن مع واحد من الصنفين
وقد كان من سنة النبي ﷺ وسنة خلفائه التمييز بين الرجال والنساء والمتأهلين والعزاب فكان المندوب في الصلاة أن يكون الرجال في مقدم المسجد والنساء في مؤخره
وقال النبي ﷺ خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها وقال يا معشر النساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال رؤوسهم من ضيق الأزر وكان إذا سلم لبث هنيهة هو والرجال لينصرف النساء أولا لئلا يختلط الرجال والنساء وكذلك يوم العيد كان النساء يصلين في ناحية فكان إذا قضى الصلاة خطب الرجال ثم ذهب فخطب النساء فوعظهن وحثهن على الصدقة كما ثبت ذلك في الصحيح وقد كان عمر بن الخطاب وبعضهم يرفعه إلى النبي ﷺ قد قال عن أحد ابواب المسجد أظنه الباب الشرقي لو تركنا هذا الباب للنساء فما دخله عبد الله بن عمر حتى مات
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال للنساء لا تحققن الطريق وامشين في حافته أي لا تمشين في حق الطريق وهو وسطه وقال على عليه السلام ما يغار أحدكم أن يزاحم امرأته العلوج بمنكبها يعني في السوق
وكذلك لما قدم المهاجرون المدينة كان العزاب ينزلون دارا معروفة لهم متميزة عن دور المتأهلين فلا ينزل العزب بين المتأهلين وهذا كله لأن اختلاط أحد المصنفين بالآخر سبب الفتنة فالرجال إذا اختلطوا بالنساء كان بمنزلة اختلاط النار والحطب وكذلك العزب بين الآهلين فيه فتنة لعدم ما يمنعه فإن الفتنة تكون لوجود المقتضى وعدم المانع فالمخنث الذي ليس رجلا محضا ولا هو امرأة محصنة لا يمكن خلطه بواحد من الفريقين فأمر النبي ﷺ بإخراجه من بين الناس
وعلى هذا المخنث من الصبيان وغيرهم لا يمكن من معاشرة الرجال ولا ينبغي أن تعاشر المرأة المتشبهة بالرجال النساء بل يفرق بين بعض الذكران وبين بعض النساء إذا خيفت الفتنة كما قال ﷺ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع
وقد نهى عن مباشرة الرجل في ثوب واحد وعن مباشرة المرأة المرأة في ثوب واحد مع ان القوم لم يكونوا يعرفون التلوط ولا السحاق وإنما هو من تمام حفظ حدود الله كما أمر الله بذلك في كتابه وقد روى أن عمر بلغه أن رجلا يجتمع إليه نفر من الصبيان فنهى عن ذلك
وأبلغ من ذلك أنه نفى من شبب به النساء وهو نصر بن حجاج لما سمع امرأة شببت به وتشتهيه ورأى هذا سبب الفتنة فجز شعره لعل سبب الفتنة يزول بذلك فرآه أحسن الناس وجنتين فأرسل به إلى البصرة ثم إنه بعث يطلب القدوم إلى وطنه ويذكر الا ذنب له فأبى عليه وقال أما وأنا حي فلا
وذلك أن المرأة إذا أمرت بالاحتجاب وترك التبرج وغير ذلك مما هو من أسباب الفتنة بها ولها فإذا كان في الرجال من قد صار فتنة للنساء أمر أيضا بمباعدة سبب الفتنة إما بتغيير هيئته وإما بالانتقال عن المكان الذي تحصل به الفتنة فيه لأنه بهذا يحصن دينه ويحصن النساء دينهن
وبدون ذلك مع وجود المقتضى منه ومنهن لا يؤمن ذلك وهكذا يؤمر من يفتن النساء من الصبيان أيضا
وذلك أنه إذا احتج إلى المباعدة التي تزيل الفتنة كان تبعيد الواحد أيسر من تبعيد الجماعة الرجال أو النساء إذ ذاك غير ممكن فتحفظ حدود الله ويجانب ما يوجب تعدي الحدود بحسب الإمكان وإذا كان هذا فيمن لا ريبة فيه ولا ذنب فكيف بمن يعرف بالريبة والذنب
وهكذا المرأة التي تعرف بريبة تفتن بها الرجال تبعد عن مواضع الريب بحسب الإمكان فإن دفع الضرر عن الدين بحسب الإمكان واجب فإذا كان هذا هو السنة فكيف بمن يكون في جمعه من أسباب الفتنة ما الله به عليم والرجل الذي يتشبه بالنساء في زيهن
واستعمال أسماء الجمال والحسن والزينة ونحو ذلك في الأعمال الصالحة والقبح والشين والدنس في الأعمال الفاسدة أمر ظاهر في الكتاب والسنة وكلام العلماء مثل اسم الطيب والطهارة والخبث والنجاسة ومن ذلك ما في حديث أبي ذر المشهور وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال من حكمة آل داود حق على العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يكون فيها مع أصحابه الذين يخبرونه عن ذات نفسه وساعة يخلو فيها بلذاته فيما يحل ويجمل فذكر الحل والجمال
وهذا يشهد لقول الفقهاء في العدالة إنها صلاح الدين والمروءة قالوا والمروءة استعمال ما يجمله ويزينه وتجنب ما يدنسه ويشينه وهذا يرجع إلى الحسن والقبح في الأعمال وأن الأعمال وأن الأعمال تكون حسنة وتكون قبيحة وإن كان الحسن هو الملائم النافع والقبيح هو المنافي فالشئ يكمل ويجمل ويحسن بما يناسبه ويلائمه وينفعه ويلتذ به كما يفسد ويقبح بما ينافيه ويضره ويتألم به والأعمال الصالحة هي التي تناسب الإنسان والأعمال الفاسدة هي التي تنافيه
ولهذا لما قال بعض الأعراب إن مدحي زين وذمي شين قال النبي ﷺ ذاك الله فمدحه يزين عنده لأنه مدحه بحق ودمه يشينه لأنه حق
وهذا الحسن والجمال الذي يكون عن الأعمال الصالحة في القلب يسري إلى الوجه والقبح والشين الذي يكون عن الأعمال الفاسدة في القلب يسري إلى الوجه كما تقدم ثم إن ذلك يقوى بقوة الأعمال الصالحة والأعمال الفاسدة فكلما كثر البر والتقوى قوى الحسن والجمال وكلما قوى الإثم والعدوان قوى القبح والشين حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح فكم ممن لم تكن صورته حسنة ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه حتى ظهر ذلك على صورته
ولهذا ظهر ذلك ظهورا بينا عند الإصرار على القبائح في آخر العمر عند قرب الموت فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كبروا ازداد حسنها وبهاؤها حتى يكون أحدهم في كبره أحسن واجمل منه في صغره ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية كلما كبروا عظم قبحها وشينها حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهرا بها في حال الصغر لجمال صورتها
وهذا ظاهر لكل احد فيمن يعظم بدعته وفجوره مثل الرافضة وأهل المظالم والفواحش من الترك ونحوهم فإن الرافضي كلما كبر قبح وجهه وعظم شينه حتى يقوى شبهه بالخنزير وربما مسخ خنزيرا وقردا كما قد تواتر ذلك عنهم ونجد المردان من الترك ونحوهم قد يكون أحدهم في صغره من أحسن الناس صورة ثم إن الذين يكثرون الفاحشة تجدهم في الكبر أقبح الناس وجوها حتى إن الصنف الذي يكثر ذلك فيهم من الترك ونحوهم يكون أحدهم أحسن الناس صورة في صغره وأقبح الناس صورة في كبره وليس سبب ذلك أمرا يعود إلى طبيعة الجسم بل العادة المستقيمة تناسب الأمر في ذلك بل سببه ما يغلب على احدهم من الفاحشة والظلم فيكون مخنثا ولوطيا وظالما وعونا للظلمة فيكسوه ذلك قبح الوجه وشينه
ومن هذا أن الذين قوي فيهم العدوان مسخهم الله قردة وخنازير من الأمم المتقدمة وقد ثبت في الصحيح أنه سيكون في هذه الأمة أيضا من يمسخ قردة وخنازير فإن العقوبات والمثوبات من جنس السيئات والحسنات كما قد بين ذلك في غير موضع
ولا ريب أن ما ليس محبوبا لله من مسخوطاته وغيرها تزين في نفوس كثير من الناس حتى يروها جميلة وحسنة يجدون فيها من اللذات ما يؤيد ذلك وإن كانت اللذات متضمنة لآلام أعظم منها
كما قال تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب سورة آل عمران 14
وقال أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء سورة فاطر 8
وقال تعالى وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تبات سورة غافر 37
وقال وكذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون سورة الأنعام 108
وقال تعالى وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم سورة الأنفال 48
وقد قال سبحانه عن المؤمنين ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات 7
========
الاستقامة/9
فهو سبحانه يزين لكل عامل عمله فيراه حسنا وإن كان ذلك العمل سيئا فإنه لولا حسنا لم يفعله إذ لو رآه سيئا لم يرده ولم يختره إذ الإنسان مجبول على محبة الحسن وبغض السئ فالحسن الجميل محبوب مراد والسئ القبيح مكروه مبغض والأعيان والأفعال المبغضة من كل وجه لا تقصد بحال كما ان المحبوبة من كل وجه لا تترك بحال ولكن قد يكون الشئ محبوبا من وجه مكروها من وجه ويقبح من وجه ويحسن من وجه ولهذا كان الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن والسارق لا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن كامل الإيمان فإنه لو كان اعتقاده بقبح ذلك الفعل اعتقادا تاما لم يفعله بحال ولهذا كان كل عاص لله تعالى جاهلا كما قال ذلك أصحاب محمد ﷺ فإنه لو كان عالما حق العلم بما فعله لم يفعل القبيح ولم يترك الواجب بل قد زين لكل أمة عملهم
لكن العاصي إذا كان معه أصل الإيمان فإنه لا يزين له عمله من كل وجه بل يستحسنه من وجه ويغضه من وجه ولكن حين فعله يغلب تزيين الفعل ولذلك قال زين للناس حب الشهوات سورة آل عمران 14 الآية فإن هنا شيئين حب الشهوات وأنه زين ذلك الفحش وحسن فرأوا تلك المحبة حسنة فلذلك استقرت هذه المحبة عندهم وتمتعوا بهذه المحبات فإذا رأوا ذلك الحب قبيحا لما يتبعه من الضرر لم يستقر ذلك في قلوبهم فإن رؤية ذلك الحب حسنا يدعو إليه قبيحا ينفر عنه
وكذلك ذكر في الإيمان أنه حببه إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم حتى رأوه حسنا فإن الشئ إذا حبب وزين لم يترك بحال
وهنا أخبر سبحانه انه هو الذي حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وفي الشهوات قال زين للناس حب الشهوات سورة آل عمران 14 ولم يقل المزين بل ذكر العموم
وقال تعالى كذلك زينا لكل امة عملهم سورة الأنعام 108 وكما حذف المزين هناك قال زين للناس حب الشهوات سورة آل عمران 14 فجعل المزين نفس الحب لها لم يجعل المزين هو المحبوب كما أخبر أنه زين لكل أمة عملها فإن المزين نفس الحب لها لم يجعل المزين هو المحبوب بل هو حب الشهوات فإن المزين إذا كان نفس الحب والعمل لم ينصرف القلب عن ذلك بخلاف ما لو كان المزين هو المحبوب فقد زين الشئ المحبوب ولكن الإنسان لا يحبه لما يقوم بقلبه من العلم بحاله والبغض
ففرق بين التزيين المتصل بالقلب وتزيين الشئ المنفصل عنه فيه رد على القدرية الذين يجعلون التزيين المنفصل وكذلك قوله زين له سوء عمله فرآه حسنا سورة فاطر 8 وهو سبحانه امتن في الإيمان بشيئين بأنه حببه إلينا وزينه في قلوبنا فالنعم تتم بهما بالعلم والمحبة
وقد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي ﷺ انه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وفي الصحيح أيضا أنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتسشبهات من النساء بالرجال وفي الصحيح أنه أمر بنفي المخنثين وإخراجهم من البيوت
كما روى البخاري في صحيحه عن عكرمة عن ابن عباس قال لعن النبي ﷺ المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال
وفي رواية لعن النبي ﷺ المخنثين من الرجال والمسترجلات من النساء وقال أخرجوهم من بيوتكم فاخرج النبي ﷺ فلانة وأخرج عمر فلانا
فإذا كان الرجل الذي يتشبه بالنساء في لباسهن وزيهن وزينتهن ملعونا قد لعنه رسول الله ﷺ فكيف بمن يتشبه بهن في مباشرة الرجال له فيما يتمع الرجال به بتمكينه من ذلك لغرض يأخذه أو لمحبته لذلك فكلما كثرت مشابهته لهن كان أعظم للعنه وكان معلونا من وجهين من جهة الفاحشة المحرمة فإنه يلعن على ذلك ولو كان هو الفاعل ومن جهة تخنثه لكونه من جنس المفعول بهن فمن جعل شيئا من التخنث دينا أو طلب ذلك من الصبيان مثل تحسين الصبي صورته أو لباسه لأجل نظر الرجال واستمتاعهم بذلك في سماع وغير سماع أليس يكون مبدلا لدين الله من جنس الذي إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون وإذا كانت الفاحشة العرب المشركين كشف عوارتهم عند الطواف لئلا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها فكيف بما هو أعظم من ذلك
والمخنث قد يكون مقصوده معاشرة النساء ومباشرتهن وقد يكون تخنثه بمباشرة الرجال ونظرهم ومحبتهم وقد يجمع الأمرين وفي المتنسكين من الأقسام الثلاثة خلق كثير
وهؤلاء شر ممن يفعل هذه الأمور على غير وجه التدين فإن يوجد في الأمم الجاهلية من الترك ونحوهم من يتشبه فيهم من النساء بالرجال ومن يتشبه من الرجال بالنساء خلق عظيم حتى يكون لنسائهم من الإمرة والملك والطاعة والبروز للناس وغير ذلك مما هو من خصائص الرجال ما ليس لنساء غيرهم وحتى ان المرأة تختار لنفسها من شاءت من ممالكيها وغيرهم لقهرها للزوج وحكمها ويكون في كثير من صبيانهم من التخنث وتقريب الرجال له وإكرامه لذلك أمر عظيم حتى قد يغار بعض صبيانهم من النساء وحتى يتخذهم الرجال كالسراري لكن هم لا يفعلون ذلك تدينا فالذين يفعلون ذلك تدينا شر منهم فإنهم جعلوا دينا والفاحشة حسنة لا لما في ذلك من ميل الطباع فهكذا من جعل مجرد الصوت الذي تحبه الطباع حسنا في الدين فيه شبه من هؤلاء لكن في المشركين من هذه الأمة من يتدين بذلك لأجل الشياطين كما يوجد في المشركين من الترك التتار وساحرهم الطاغوت صاحب الجبت الذي تسميه الترك البوق وهو الذي تستخفه الشياطين وتخاطبه ويسألها عما يريد ويقرب لها القرابين من الغنم المنخنقة وغير ذلك ويضرب لها بأصوات الطبول ونحو ذلك ومن شرطه أن يكون مخنثا يؤتى كما تؤتى المرأة فكلما كانت الأفعال أولى بالتحريم كانت أقرب إلى الشياطين
وهذا الذي ذكرناه من أن الحسن الصورة والصوت وسائر من أنعم الله عليه بقوة أو بجمال أو نحو ذلك إذا اتقى الله فيه كان أفضل ممن لم يؤت ما لم يمتحن فيه فإن النعم محن فإن أهل الشهوات من النساء والرجال يميلون إلى ذي الصورة الحسنة ويحبونه ويعشقونه ويرغبونه بأنواع الكرامات ويرهبونه عند الامتناع بأنواع المخوفات كما جرى ليوسف عليه السلام وغيره وكذلك جماله يدعوه إلى أن يطلب ما يهواه لأن جماله قد يكون أعظم من المال المبذول في ذلك
وكذلك حسن الصوت قد يدعى إلى أعمال في المكروهات كما أن المال والسلطان يحصل بهما من المكنة ما يدعى مع ذلك إلى أنواع الفواحش والمظال فإن الإنسان لا تأمره نفسه بالفعل إلا مع نوع من القدرة ولا يفعل بقدرته إلا ما يريده وشهوات الغي مستكنة في النفوس فإذا حصلت القدرة قامت المحنة فإما شقى وإما سعيد ويتوب الله على من تاب فأهل الامتحان إما أن يرتفعوا وإما أن ينخفضوا وأما تحرك النفوس عن مجرد الصوت فهذا أيضا محسوس فإنه يحركها تحريكا عظيما جدا بالتفريح والتحزين والإغضاب والتخويف ونحو ذلك من الحركات النفسانية كما أن النفوس تتحرك أيضا عن الصور بالمحبة تارة وبالبغض أخرى وتتحرك عن الأطعمة بالبغض تارة والنفرة أخرى فتحرك الصبيان والبهائم عن الصوت هو من ذلك لكن كل ما كان أضعف كانت الحركة به أشد فحركة النساء به أشد من حركة الرجال وحركة الصبيان أشد من حركة البالغين وحركة البهائم أشد من حركة الآدميين فهذا يدل على أن قوة التحرك عن مجرد الصوت لقوة ضعف العقل فلا يكون في ذلك حمد إلا وفيه من الذم أكثر من ذلك وإنما حركة العقلاء عن الصوت المشتمل على الحروف المؤلفة المتضمنة للمعاني المحبوبة وهذا أكمل ما يكون في استماع القرآن
وأما التحرك بمجرد الصوت فهذا أمر لم يأت الشرع بالندب إليه ولا عقلاء الناس يأمرون بذلك بل يعدون ذلك من قلة العقل وضعف الرأي كالذي يفزع عن مجرد الأصوات المفزعة المرعبة وعن مجرد الأصوات المغضبة
قال أبو القاسم وقال النبي ﷺ ما أذن الله لشئ كأذنه لنبي يتغني بالقرآن وروى حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ ما أذن الله لشئ ما أذن الله لنبي يتغنى بالقرآن
قال وقيل إن داود عليه السلام كان يستمع لقراءته الجن والإنس والوحش والطير إذ قرأ الزبور وكان يحمل من مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات ممن سمعوا قراءته وقال النبي ﷺ لأبي موسى الأشعري لقد أعطى مزمارا من مزامير آل داود وقال معاذ لرسول الله ﷺ لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا
قلت هذا القول لابي موسى كان لم يكن لمعاذ ومضمون هذه الآثار استحباب تحسين الصوت بالقرآن وهذا مما لا نزاع فيه فالاستدلال بذلك على تحسين بالغناء أفسد من قياس الربا على البيع إذ هو من باب تنظير الشعر بالقرآن
وقال تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين سورة يس 69
وقال تعالى وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون سورة الشعراء ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون سورة الشعراء 225226
وقال تعالى وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون سورة الحافة 4142
وهذا القياس مثل قياس سماع المكاء والتصدية الذي ذمه الله في كتابه وأخبر أنه صلاة المشركين على سماع القرآن الذي أمر الله به في كتابه وأخبر أنه سماع النبيين والمؤمنين وقياس لأئمة الصلاة كالخلفاء الراشدين وسائر أئمة المؤمنين بالمخنثين المغاني الذين قد يسمون الجد أو القوالين
وقياس للمؤذن الداعي إلى الصلاة وسماع القرآن بالمزمار الداعى إلى حركة المستمعين للمكاء والتصدية
وقد روى الطبراني في معجمهه عن ابن عباس عن النبي ﷺ أن الشيطان قال يارب اجعل لى قرآنا قال قرآنك الشعر قال اجعل لى مؤذنا قال مؤذنك المزمار قال اجعل لى كتابه قال كتابتك الوشم قال اجعل لى بيتا قال بيتك الحمام قال اجعل لى طعاما قال طعامك مالم يذكر اسم الله عليه فمن قاس قرآن الله فالله يجازيه بما يستحقه
وقد قال الله تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا سورة مريم 59 فهؤلاء يشتغلون بالشهوات عن الصلاة
ولهذا فإن من هؤلاء الشيوخ من يقصد الاجتماعات في الحمام ويكون له فبها حال وظهور لكونه مادته من الشياطين فإن الشيطان يظهر أثره في بيته وعنده أوليائه وتأذين مؤذنه وتلاوة قرآنه كما يظهر ذلك على أهل المكاء والتصدية
وإذا كان السماع نوعين سماع الرحمن وسماع الشيطان كان ما بينهما من أعظم الفرقان لكن الأقسام هنا أربعة إما أن يشتغل العبد بسماع الرحمن دون سماع الشيطان أو بسماع الشيطان دون سماع الرحمن أو يشتغل بالسماعين أو لا يشتغل بواحد منهما
فالأول حال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان
وأما الثاني فحال المشركين الذين قال الله فيهم وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية سورة الأنفال 35 وهو حال من يتخذ ذلك دينا ولا يستمع القرآن فإن كان يشتغل بهذا السماع شهوة لا دينا ويعرض عن القرآن فهم الفجار والمنافقون إذا أبطنوا حال المشركين
وأما الذين يشتغلون بالسماعين فكثير من المتصوفة
والذين يعرضون عنهما على ما ينبغي كثير من المتعربة
فهذه النصوص المأثورة عن النبي ﷺ التي فيها مدح الصوت الحسن بالقرآن والترغيب في هذا السماع فيحتج بها على المعرض عن هذا السماع الشرعي الإيماني لا يحتج بها على حسن السماع البدعي الشركي
بل الراغبون في السماعين جميعا والزاهدون في السماعين جميعا خارجون عن محض الاستقامة والشريعة القرآنية الكاملة هؤلاء معتدون وهؤلاء مفرطون وإنما الحق الرغبة في السماع الإيماني الشرعي والزهد في السماعي الشركي البدعي
ثم ذكر أبو القاسم حكاية أبي بكر الرقي في الغلام الذي حدا بالجمال حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في يوم فلما حط عنها ماتت وحدا بجمل فهام على وجهه وقطع حباله قال الرقي ولم أظن أني سمعت صوتا أطيب منه ووقعت لوجهي حتى أشار عليه بالسكوت فسكت فقال حدثنا أبو حاتم السجستاني حدثنا أبو نصر السراج قال حكى الرقي
قلت مضمون هذه الحكاية أن الصوت البليغ في الحسن قد يحرك النفوس تحريكا عظيما خارجا عن العادة وهذا مما لا ريب فيه فإن الأصوات توجب الحركات الإرادية بحسنها وهي في الأصل ناشئة عن حركات إرادية ويختلف تأثيرها باختلاف نوع الصوت وقدره بل هي من أعظم المحركات أو أعظمها وإذا اتفق قوة المؤثر واستعداد المحل قوى التأثير فالنفوس المستعدة لصغر أو انوثة أو جزع ونحوه أو لفراغ وعدم شغل أو ضعف عقل إذا اتصل بها صوت عظيم حسن قوى أزعجها غاية الإزعاج لكن هذا لا يدل على جواز ذلك ولا فيه ما يوجب مدحه وحسنه بل مثل هذا أدل على الذم والنهى منه على الحمد والمدح فإن هذا يفسد النفوس أكثر مما يصلحها ويضرها أكثر مما ينفعها وإن كان فيه نفع فأثمة أكثر من نفعه
وقد قال الله للشيطان واستفرز من استطعت منهم بصوتك سورة الإسراء 64 فالصوت الشيطاني يستفز بني آدم وقال النبي ﷺ إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين وذكر صوت النعمة وصوت المعصية ووصفهما بالحمق والفجور وهو الظلم والجهل
وقال لقمان لابنه اقصد في مشيك واغضض من صوتك سورة لقمان 19 والمغنى بهذه الأصوات لم يغض من صوته والمتحركون بها الراقصون لم يقصدوا في مشيهم بل المصوتون أتوا بالأحمق الجاهل الظالم الفجر من الأصوات والمتحركين أتوا بالأحمق الجاهل الفاحش من الحركات وربما جمع الواحد بين هذين النوعين وجعل ذلك من أعظم العبادات
ثم قال ابو القاسم سمعت الشيخ ابا عبد الرحمن السلمي سمعت محمد بن عبد الله بن عبد العزيز سمعت أبا عمرو الأنماطي سمعت الجنيد يقول وسئل ما بال الإنسان يكون هادئا فإذا سمع السماع اضطرب فقال إن الله لما خاطب الذر في الميثاق الأول بقوله ألست بربكم سورة الأعراف 172 استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح فإذا سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك
قلت هذا الكلام لا يعلم صحته عن الجنيد والجنيد أجل من أن يقول مثل هذا فإن هذا الاضطراب يكون لجميع الحيوان ناطقه وأعجمه حتى يكون في البهائم أيضا ويكون للكفار والمنافقين ثم الاضطراب قد يكون لحلاوة الصوت ومحبته وقد يكون للخوف منه وهيبته وقد يكون للحزن والجزع وقد يكون للغضب
ثم من المعلوم أن الصوت المسموع ليس هو ذاك أصلا ولو سمع العبد كلام الله كما سمعه موسى بن عمران لم يكن سماعه لاصوات العباد محركا لذكر ذلك بل المأثور ان موسى مقت الآدميين لما وقر في مسامعه من كلام الله ثم التلذذ بالصوت أمر طبعي لا تعلق له بكونهم سمعوا صوت الرب أصلا ثم إن أحدا لا يذكر ذلك السماع أصلا إلا بالإيمان والناس متنازعون في أخذ الميثاق وفي ذلك السماع بما ليس هذا موضعه
ثم إن مذهب الجنيد في السماع كراهة التكلف لحضوره والاجتماع عليه وعنده أن من تكلف السماع فتن به فكيف يعلله بهذا
وقد ذكر أبو القاسم ذلك فقال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر سمعت أبا بكر بن ممشاد سمعت الجنيد يقول السماع فتنة لمن طلبه ترويح لمن صادفه
فأخبر انه فتنة لمن قصده ولم يجعله لمن صادفه مستحبا ولا طاعة بل جعله راحة فكيف يقول إنه أظهر خطاب الحق المتقدم
وقال أبو القاسم سمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول السماع حرام على العوام لبقاء نفوسهم مباح للزهاد لحصول مجاهدتهم مستحب لاصحابنا لحياة قلوبهم
قلت قد قدم ابو القاسم في ترجمة الشيخ أبي على الروذباري وهو قديم توفي بعد العشرين وثلاثمائة صحب الجنيد والطبقة الثانية وكان يقول أستاذي في التصوف الجنيد وفي الفقه أبو العباس بن سريج وفي الأدب ثعلب وفي الحديث إبراهيم الحربي وقال فيه ابو القاسم هو اظرف المشايخ واعلمهم بالطريقة
قال سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول سئل ابو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول هي لي حلال لأني وصلت إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الأحوال فقال نعم قد وصل لعمري ولكن إلى سقر
فقول الدقاق هو مباح للزهاد لحصول مجاهدتهم هو الذي انكره أبو علي الروذباري فكيف بقوله مستحب وسنتكلم إن شاء الله على هذا
ثم إنه ذكر بعد هذا أنه سمع الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول السماع طبع إلا عن شرع وخرق إلا عن حق وفتنة إلا عن عبرة وهذا الكلام يوافق قول الروذباري ويخالف قوله إنه مباح للزهاد لحصول مجاهدتهم مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم فإنه جعل كل سماع ليس بمشروع فهو عن الطبع ومعلوم أن سماع المكاء والتصدية ليس مشروعا فيكون مسموعا بالطبع مطلقا
وقال سمعت أبا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر الصوفي يقول سمعت الوجيهي يقول سمعت ابا علي الروذباري يقول كان الحارث بن اسد المحاسبي يقول ثلاث إذا وجدن نمتنع بهن وقد فقدناهن حسن الوجه مع الصيانة وحسن الصوت مع الديانة وحسن الإخاء مع الوفاء
قلت قد قررت قبل هذا المعنى بأن الحسن في الصورة والصوت إن لم يكن مع تقوى الله وإلا لم يكن إلا مذموما ومن الديانة أن يكون حسن الصوت مستعملا فيما أمر الله به
قال ابو القاسم وسئل ذو النون المصري عن الصوت الحسن فقال مخاطبات وإشارات أودعها الله كل طيب وطيبة وسئل مرة أخرى عن السماع فقال وارد حق يزعج القلوب إلى الحق فمن أصغى إليه بحق تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق
قلت هذا الكلام لم يسنده عن ذي النون وإنما أرسله إرسالا وما يرسله في هذه الرسالة قد وجد كثير منه مكذوب على اصحابه إما أن يكون أبو القاسم سمعه من بعض الناس فاعتقد صدقه أو يكون من فوقه كذلك أو وجده مكتوبا في بعض الكتب فأعتقد صحته ومن كان من المرسلين لما يذكرونه من الأولين والآخرين يعتمد في إرساله لصحيح النقل والرواية عن الثقات فهذا يعتمد إرساله لصحيح النقل والرواية عن الثقات فهذا يعتمد إرساله وأما من عرف فيما يرسله كثير من الكذب لم يوثق بما يرسله
فهذا التفصيل موجود فيمن يرسل النقول عن الناس من أهل المصنفات ومن أكثر الكذب الكذب على المشايخ المشهورين فقد رأينا من ذلك وسمعنا ما لا يحصيه إلا الله وهذا أبو القاسم مع علمه وروايته بالإسناد ومع هذا ففي هذه الرسالة قطعة كبيرة من المكذوبات التي لا ينازع فيها من له أدنى معرفة بحقيقة حال المنقول عنهم
وأما الذي يسنده من الحكايات في باب السماع فعامته من كتابين كتاب اللمع لأبي نصر السراج فإنه يروى عن أبي حاتم السجستاني عن أبي نصر عن عبد الله بن علي الطوسي ويروى عن محمد بن أحمد بن محمد التميمي عنه ومن كتاب السماع لأبي عبد الرحمن السلمي قد سمعه منه
فإن كان هذا الكلام ثاببتا عن ذي النون رحمه الله عليه فالكلام عليه من وجهين من جهة الاحتجاج بالقائل ومن جهة تفسير المنقول
أما الأول فقد نقلوا أن ذا النون حضر هذا السماع بالعراق
وقد ذكر أبو القاسم حكاية بعد ذلك مرسلة فقال وحكى أحمد ابن مقاتل العكي قال لما دخل ذو النون المصري بغداد اجتمع إليه الصوفية ومعه قوال يقول شيئا فاستأذنوه بأن يقول بين يديه فأذن له فابتدأ يقول
صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتكا
وأنت جمعت من قلبي هوى قد كان مشتركا
أما ترثى لمكتئب إذا ضحك الخلي بكى ...
قال فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يسقط على الأرض ثم قام رجل من القوم يتواجد فقال له ذو النون الذي يراك حين تقوم سورة الشعراء 218 فجلس الرجل
قال وسمعت أبا علي الدقاق يقول كان ذو النون صاحب إسراف على ذلك الرجل حيث نبهه أن ذلك ليس مقامه وكان ذلك الرجل صاحب إنصاف حيث قبل ذلك منه فرجع وقعد
فهذا ونحوه هو الذي أشار إليه الأئمة كالشافعي في قوله خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن فيكون ذو النون هو أحد الذين حضروا التغبير الذي أنكره الأئمة وشيوخ السلف ويكون هو أحد المتأولين في ذلك وقوله فيه كقول شيوخ الكوفة وعلمائها في النبيذ الذين استحلوه مثل سفيان الثوري وشريك ابن عبد الله وأبي حنيفة ومسعر بن كدام ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم من أهل العلم وكقوله علماء مكة وشيوخها فيما استحلوه من المتعة والصرف كقول عطاء بن ابي رباح وابن جريج وغيرهما وكقول طائفة من شيوخ المدينة وعلمائها فيما استحلوه من الحشوش وكقول طائفة من شيوخ الشاميين وعلمائها فيما كانوا استحلوه من القتال في الفتنة لعلي بن أبي طالب وأصحابه وكقول طوائف من أتباع الذين قاتلوا مع علي من اهل الحجاز والعراق وغيرهم في الفتنة إلى أمثال ذلك مما تنازعت فيه الأمة وكان في كل شق طائفة من اهل العلم والدين
فليس لأحد أن يحتج لأحد الطريقين بمجرد قول أصحابه وإن كانوا من أعظم الناس علما ودينا لان المنازعين لهم هم أهل العلم والدين
وقد قال الله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر سورة النساء 59 فالرد عند التنازع إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسوله
نعم إذا ثبت عن بعض المقبولين عند الأمة كلام في مثل موارد النزاع كان في ذلك حجة على تقدم التنازع في ذلك وعلى دخول قوم من اهل الزهد والعبادة والسلوك في مثل هذا ولا ريب في هذا
لكن مجرد هذا لا يتيح للمريد الذي يريد الله ويريد سلوك طريقه أن يقتدي في ذلك بهم مع ظهور النزاع بينهم وبين غيرهم وإنكار غيرهم عليهم بل على المريد أن يسلك الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ويتبع ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فإن ذلك هو صراط الله الذي ذكره ورضى به في قوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوه السبل فتفرق بكم عن سبيله سورة الأنعام 153 وهذا أصل في أنه لا يحتج في مواضع النزاع والاشتباه بمجرد قول احد ممن نوزع في ذلك
وأما الوجه الثاني فقول القائل عن الصوت الحسن مخاطبات وإشارات أودعها الله كل طيب وطيبة لا يجوز أن يراد به ان كل صوت طيب كائنا ما كان بأن الله أودعها مخاطبات يخاطب بها عباده فإن هذا القول كفر صريح إذ ذلك يستلزم أن تكون الأصوات الطيبة التي يستعملها المشركون وأهل الكتاب في الاستعانة بها على كفرهم قد خاطب بها الله عباده وأن تكون الأصوات الطيبة التي يستفز بها الشيطان لبني آدم كما قال تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك سورة الإسراء 64 أن تكون هذه الأصوات الشيطانية إذا كانت طيبة قد أودعها مخاطبات يخاطب بها عباده وأن تكون اصوات الملاهي قد أودعها الله مخاطبات يخاطب بها عباده
ومن المعلوم أن هذا لا يقوله عاقل فضلا عن أن يقوله مسلم ثم لو كان الامر كذلك فلم لم يستمع الأنبياء والصديقون من الأولين والآخرين إلى كل صوت صوت ويأمروا أتباعهم بذلك لما في ذلك من استماع مخاطبات الحق إذ قد علم أن استماع مخاطبات الحق من أفضل القربات
فقد ظهر أن هذا الكلام لا يجوز أن يكون عمومه وإطلاقه حقا
يبقى ان يقال هذا خاص ومقيد في الصوت الحسن إذا استعمل على الوجه الحسن فهذا حق مثل ان يزين به كلام الله كما كان أبو موسى الاشعري يفعل وقال له النبي ﷺ مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك فقال لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا وكان عمر يقول له ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستعمون
فلا ريب أن ذا الصوت الحسن إذا تلا به كتاب الله فإنه يكون حينئذ قد أودع الله ذلك مخاطبات وإشارات وهو ما في كتابه من المخاطبات والإشارات فقد ظهر أن هذا الكلام إذا حمل على السماع المشروع الذي يحبه الله ورسوله كان محملا حسنا وإن حمل على عمومه وإطلاقه كان كفرا وضلالا
يبقى بين ذلك العموم وهذا الخصوص مراتب منها ان يحمل ذلك على ما يجده المستمع في قلبه من المخاطبات والإشارات من الصوت وإن لم يقصده المصوت المتكلم فهذا كثير ما يقع لهم وأكثر الصادقين الذين حضروا هذا السماع يشيرون إلى هذا المقصد وصاحب هذه الحال يكون ما يسمعه مذكرا له ما كان في قلبه من الحق
وهذا يكون على وجهين
أحدهما من الصوت المجرد الذي لا حرف معه كأصوات الطيور والرياح والآلات وغير ذلك فهذا كثير ما ينزله الناس على حروف بوزن ذلك الصوت وكثيرا ما يحرك منهم ما يناسبها من فرح أو حزن أو غضب أو شوق أو نحو ذلك كقول بعضهم ... رب ورقاء هتوف في الضحى صدحت في فنن عن فنن ... ربما أبكى فلا أفهمها وهي قد تبكي فلا تفهمني ... غير أتى بالجوى اعرفها وهي أيضا بالجوى تعرفني ...
والثاني يكون من صوت بحروف منظومة إما شعر وإما غيره ويكون المستمع ينزل تلك المعاني على حاله سواء قصد ذلك الناظم والمنشد أو لم يقصد ذلك مثل أن يكون في الشعر عتاب وتوبيخ أو أمر بالصبر على الملام في الحب أو ذم على التقصير في القيام بحقوق المحبة او تحريض على ما فرض للإنسان من الحقوق أو إغضاب وحمية على جهاد العدو ومقاتله أو امر ببذل النفس والمال في نيل المطلوب ورضا المحبوب أو غير ذلك من المعاني المجلمة التي يشترك فيها محب الرحمن ومحب الأوثان ومحب الأوطان ومحب النسوان ومحب المردان ومحب الإخوان ومحب الخلان
وربما قرع السمع حروف أخرى لم ينطق بها المتكلم على وزن حروفه كما يذكر عن بعضهم أنه سمع قائلا يقول ستر بري فوقع في سمعه اسع تر برى
وقد ذكر ذلك فيما بعد ابو القاسم فقال سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول سمعت يحيى بن على الرضا العلوي قال سمع ابن حلوان الدمشقي طوافا ينادى ياه سعتر بري فسقط مغشيا عليه فلما أفاق سئل فقال حسبته يقول اسع تر بري
وسمع عتبة الغلام رجلا يقول ... سبحان رب السماء إن المحب لفى عناء ...
فقال عتبة صدقت وسمع رجل آخر ذلك القول فقال كذبت فكل واحد يسمع من حيث هو
لا سيما وأكثرها إنما وضعت لمحبة لا يحبها الله ورسوله مثل بعض هذه الأجناس وإنما المدعي لمحبة الله ورسوله يأخذ مقصوده منها بطريق الاعتبار والقياس وهو الإشارة التي يذكرونها ولهذا قال مخاطبات وإشارات فالمخاطبات كدلالة النصوص والإشارات كدلالة القياس ولا بد أن يكون قد علم أن تلك المخاطبات والإشارات إنما يفهم منها المستمع ويتحرك فيها حركة يحبها الله ورسوله فيكون قد علم من غيرها ان ما يقتضيه من الشعور والحال مرضى عند ذي الجلال بدلالة الكتاب والسنة وإلا فإن مجرد الاستحسان بالذوق والوجدان إن لم يشهد له الكتاب والسنة وإلا كان ضلالا
ومن هذا الباب ضل طوائف من الضالين وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن مثل هذا جميعه لا يجوز أن يجعل طريقا إلى الله ويجمع عليه عباد الله ويستحب للمريدين وجه الله لان ما فيه من الضرر هو اضعاف ما فيه من المنفعة لهم ولكن قد صادف السر الذي يكون في قلبه حق بعض هذه المسموعات فيكون مذكرا له ومنبها
وهذا معنى قول الجنيد السماع فتنة لمن طلبه ترويح لمن صادفه
وأما قول القائل السماع وارد حق يزعج القلوب إلى الحق فمن أصغى إليه بحق تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق فالسماع الموصوف أنه وارد حق الذي يزعج القلوب إلى الحق هو أخص من السماع الذي قد يوجب التزندق فالكلام في ظاهره متناقض لأن قائله أطلق القول بأنه وارد حق يزعج القلوب إلى الحق ثم جعل من أصغى إليه بنفس تزندق
ووارد الحق الذي يزعج القلوب إلى الحق لا يكون موجبا للتزندق لكن قائله قصد أولا السماع الذي يقصده أهل الارادة لوجه الله فلفظه وإن كان فيه عموم فاللام لتعريف المعهود أي يزعج قلوب أهل هذه الإرادة إلى الحق لكونه يحرك تباكيهم ويهيج باطنهم فتتحرك قلوبهم إلى الله الذي يريدون وجهه وهو إلههم ومعبودهم ومنتهى محبوبهم ونهاية مطلوبهم
ثم ذكر أنه من أصغى إلى هذا السماع تزندق وهو من أصغى إليه بإرادة العلو في الأرض والفساد وجعل محبة الخالق من جنس محبة المخلوق وجعل ما يطلب من الاتصال بذي الجلال من جنس ما يطلب من الاتصال بالخلق فإن هذا يوجب التزندق في الاعتقادات والإرادات فيصير صاحبه منافقا زنديقا وقد قال عبد الله بن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ولهذا تزندق بالسماع طوائف كثيرة كما نبهنا عليه قبل هذا
ويقال هنا من المعلوم أن النفس سواء أريد بها ذات الإنسان أو ذات روحه المدبرة لجسده أو عني بها صفات ذلك من الشهوة والنفرة والغضب والهوى وغير ذلك فإن البشر لا يخلو من ذلك قط ولو فرض أن قلبه يخلو عن حركة هذه القوى والإرادات فعدمها شئ وسكونها شئ آخر والعدم ممتنع عليها ولكن قد تسكن ولكن إذا كانت ساكنة ومن شأن السماع أن يحركها فكيف يمكن الإنسان أن يسكن الشئ مع ملابسته لما يوجب حركته
فهذا أمر بالتفريق بين المتلازمين والجمع بين المتناقضين وهو يشبه أن يقال له أدم مشاهدة المرأة والصبي والأمرد أو مباشرته بالقبلة واللمس وغير ذلك من غير أن تتحرك نفسك أو فرجك إلى الاستمتاع به ونحو ذلك فهل الأمر بهذا إلا من احمق الناس
ولهذا قال من قال من العلماء العارفين إن أحوال السماع بعد مباشرته تبقى غير مقدورة للإنسان بل تبقى حركة نفسه وأحوالها أعظم من احوال الإنسان بعد مباشرة شرب الخمر فإن فعل هذا السماع في النفوس أعظم من فعل حميا الكؤوس
وقوله من أصغى إليه بحق تحقق فيقال عليه وجهان
أحدهما أن يقال إن الإصغاء إليه بحق مأمون الغائلة أن يخالطه باطل أمر غير مقدور عليه للبشر أكثر مما في قوة صاحب الرياضة والصفاء التام أن يكون حين الإصغاء لا يجد في نفسه إلا طلب الحق وإرادته لكنه لا يثق ببقائه على ذلك بل إذا سمع خالط الإصغاء بالحق الإصغاء بالنفس إذ تجرد الإنسان عن صفاته اللازمة لذاته محال ممتنع
الثاني أن يقال ومن أين يعلم أن كل من أصغى إليه بحق تحقق بل المصغى إليه بحق يحصل له من الزندقة والنفاق علما وحالا ما قد لا يشعر به كما قال عبد الله بن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل والنفاق هو الزندقة ومن المعلوم أن البقل ينبت في الأرض شيئا فشيئا لا يحس الناس بنباته فكذلك ما يبدو في القلوب من الزندقة والنفاق قد لا يشعر به أصحاب القلوب بل يظنون أنهم ممن تحقق ويكون فيهم شبه كثير ممن تزندق
يوضح هذا ان دعوى التحقق والتحقيق والحقائق قد كثرت على ألسنة أقوام هم من أعظم الناس زندقة ونفاقا قديما وحديثا من الباطنية القرامطة والمتفلسفة الاتحادية وغير هؤلاء
وكذلك قوله هو وارد حق يزعج القلوب إلى الحق
يقال له إن كان قد تنزعج به بعض القلوب أحيانا إلى الحق فالأغلب عليه أنه يزعجها إلى الباطل وقلما يزعجها إلى الحق محضا
بل قد يقال إنه لا يفعل ذلك بحال بل لابد أن يضم إلى ذلك شئ من الباطل فيكون مزعجا لها إلى الشرك الجلي أو الخفي فإن ما يزعج إليه هذا السماع مشترك بين الله وبين خلقه فإنما يزعج إلى القدر المشترك وذلك هو الإشراك بالله
ولهذا لم يذكر الله هذا السماع في القرآن إلا عن المشركين الذين قال فيهم وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية سورة الأنفال 35 فلا يكون مزعجا للقلوب إلى إرادة الله وحده لا شريك له بل يزعجها إلى الباطل تارة وإلى الحق والباطل تارة
ولو كان يزعج إلى الحق الذي يحبه الله خالصا أو راجحا لكان من الحسن المأمور به المشروع ولكان شرعه رسول الله ﷺ بقوله أو فعله ولكان من سنة خلفائه الراشدين ولكان المؤمنون في القرون الثلاثة يفعلونه لا يتركون ما أحبه الله ورسوله وما يحرك القلوب إلى الله تحريكا يحبه الله ورسوله
وأيضا فهذا الإزعاج إلى الحق قد يقال إنه إنما قد يحصل لمن لم يقصد الاستماع بل صادفه مصادفة سماع شئ يناسب حاله بمنزلة الفأل لمن خرج في حاجة فأما من قصد الاستماع إليه والتغني به فقد قال النبي ﷺ ليس منا من لم يتغن بالقرآن
قال أبو القاسم وحكى جعفر بن نصير عن الجنيد أنه قال تنزل الرحمة على الفقراء في ثلاثة مواطن عند السماع فإنهم لا يسمعون إلا عن حق ولا يقومون إلا عن وجد وعند أكل الطعام فإنهم لا يأكلون إلا عن فاقة وعند مجاراة العلم فإنهم لا يذكرون إلا صفة الأولياء
وذكر عقيب هذا فقال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول سمعت الجنيد يقول السماع فتنة لمن طلبه ترويح لمن صادفه وذكر بعد هذا سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول سمعت الجنيد يقول إذا رأيت المريد يحب السماع فأعلم أن فيه بقية من البطالة
قلت فهاتان المقالتان أسندهما عن جنيد و أما القول الأول فلم يسنده بل أرسله و هذان القولان مفسران و القول الأول مجمل فإن كان الأول محفوظا عن الجنيد فهو يحتمل السماع المشروع فإن الرحمة تنزل على أهله كما قال تعالى و إذا قرئ القرآن فأستمعوا له و أنصتوا لعلكم ترحمون سورة الأعراف 204 فذكر أن استماع القرآن سبب الرحمة
و قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة و تنزلت عليهم السكينة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده
و قد ذكر الله في غير موضع من كتابه أن الرحمة تحصل بالقرآن كقوله تعالى و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين سورة الإسراء
و قال هذا بصائر من ربكم و هدى و رحمة لقوم يؤمنون سورة الأعراف 203
و قال و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ و هدى و رحمة سورة النحل 89
يبين ذلك أن لفظ السماع يدخل فيه عندهم السماع الشرعي كسماع القرآن و الخطب الشرعية و الوعظ الشرعي و قد أدخل أبو القاسم هذا النوع في باب السماع و ذكر أبو القاسم هذا النوع في باب السماع و ذكر في ذلك آثارا فقال سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول سمعت عبد الله بن الصوفي يقول سمعت الرقي يقول سمعت بن الجلاء يقول كان بالمغرب شيخان لهما أصحاب و تلامذة يقال لأحدهما جبلة و للثاني رزيق فزار رزيق يوما جبلة فقرأ رجل من أصحاب رزيق شيئا فصاح رجل من أصحاب جبلة صيحة و مات فلما أصبحوا قال جبلة لرزيق أين الذي قرأ بالأمس فليقرأ آية فقرأ فصاح جبلة صيحة فمات القارئ فقال جبلة واحد بواحد و البادي أظلم
فهذا من سماع القرآن و أما الموت بالسماع فمسألة أخرى نتكلم عليها إن شاء الله في موضعها
قال أبو القاسم و سئل إبراهيم المارستاني عن الحركة عند السماع فقال بلغني أن موسى عليه السلام قص في بني إسرائيل فمزق واحد منهم قميصه فأوحى الله إليه قل له مزق لي قلبك ولا تمزق لي ثيابك
فهذا سماع لقصص الأنبياء
قال أبو القاسم وسأل أبو علي المغازلي الشبلي فقال ربما يطرق سمعي آية من كتاب الله عز و جل فتحدوني علي ترك الأشياء والإعراض عن الدنيا ثم أرجع إلى احوالي وإلى الناس فقال الشبلي ما اجتذبك إليه فهو عطف منه عليك ولطف وما ردك إلى نفسك فهو شفقة منه عليك لأنه لا يصح لك التبري من الحول والقوة في التوجه إليه
فهذا سماع في القرآن
وقال سمعت أبا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر السراج يقول سمعت أحمد بن مقاتل العكي يقول كنت مع الشبلي في مسجد ليلة في شهر رمضان وهو يصلي خلف إمام له وأنا بجنبه فقرأ الإمام ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك سورة الإسراء 86 فزعق زعقة قلت طارت روحه وهو يرتعد ويقول بمثل هذا يخاطب الأحباء يردد ذلك كثيرا فهذا سماع القرآن
قال وحكى عن الجنيد أنه قال دخلت على السري يوما فرأيت عنده رجلا مغشيا عليه فقلت ما له فقال سمع آية من كتاب الله تعالى فقلت تقرأ عليه ثانيا فقرئ فأفاق فقال لي من اين علمت هذا فقلت إن قميص يوسف ذهبت بسببه عين يعقوب عليه السلام ثم به عاد بصره فآستحسن مني ذلك
قال وسمعت ابا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر السراج يقول سمعت عبد الواحد بن علوان يقول كان شاب يصحب الجنيد فكان إذا سمع شيئا من الذكر يزعق فقال له الجنيد يوما إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني فكان إذا سمع شيئا يتغير ويضبط نفسه حتى كان يقطر من كل شعرة من بدنه فيوما من الأيام صاح صيحة تلفت بها نفسه
فهذا سماع الذكر لا يختص بسماع الشعر الملحن
فقول القائل تنزل الرحمة عليهم عند السماع يصح ان يراد به هذا السماع المشروع
وقوله لا يقومون إلا عن وجد يعني أنهم صادقون ليسوا متصنعين بمنزلة المظهر للوجد من غير حقيقة لكن قد يقال قوله لا يستمعون إلا عن حق هذا التقييد لا يحتاج إليه في السماع الشرعي فإنه حق بخلاف السماع المحدث فإنه يسمع بحق وباطل
فيقال وكذلك سماع القرآن وغيره قد يكون رياء وسمعة وقد يكون بلا قلب ولا حضور ولا تدبر ولا فهم ولا ذوق
وقد أخبر الله عن المنافقين أنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى والصلاة مشتملة على السماع الشرعي
وقد أخبر الله عن كراهة المنافقين للسماع الشرعي في غير موضع كقوله وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون إلى قوله وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون سورة التوبة 124 127 فهؤلاء المنافقون ينصرفون عن السماع الشرعي
وبالجملة فإذا كان المسند المحفوظ المعروف من قول الجنيد أنه رحمه الله لا يحمد هذا السماع المبتدع ولا يأمر به ولا يثني عليه بل المحفوظ من أقواله ينافي ذلك لم يجز أن يعمد إلى قول مجمل روى عنه بغير إسناد فيحمل على أنه مدح هذا السماع المحدث
وقد روى بعض الناس أن الجنيد كان يحضر هذا السماع في أول عمره ثم تركه وحضوره له فعل والفعل قد يستدل به على مذهب الرجل وقد لا يستدل ولهذا ينازع الناس في مذهب الإنسان هل يوجد من فعله
وقال بعض السلف أضعف العلم الرؤية وهو قوله رأيت فلانا يفعل وقد يفعل الشئ بموجب العادة والموافقة من بعد اعتقاد له فيه وقد يفعل نسيانا لا لاعتقاده فيه أو حضا وقد يفعله ولا يعلم أنه ذنب ثم يعلم بعد ذلك أنه ذنب ثم يفعله وهو ذنب وليس أحد معصوما عن أن يفعل ما هو ذنب لكن الأنبياء معصومون من الأقرار على الذنوب فيتأسى بأفعالهم التي أقروا عليها لأن الإقرار عليها يقتضي أنها ليست ذنبا وأما غير الأنبياء فلا فكيف بمن يكون فعل فعلا ثم تركه
وأقصى ما يقال إن الجنيد كان يفعل أولا هذا السماع على طريق الاستحسان له والاستحباب أو يقول ذلك فيكون هذا لو صح معارضا لأقواله المحفوظة عنه فيكون له في المسألة قولان
وقد قال ابو القاسم حكى عن الجنيد أنه قال السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء الزمان والمكان والإخوان
وهذه حكاية مرسلة والمراسيل في هذه الرسالة لا يعتمد عليها إن لم تعرف صحتها من وجه آخر كما تقدم ولو صح ذلك وأنه أراد سماع القصائد لكان هذا أحد قوليه
وذلك أن قوله السماع فتنة لمن طلبه ترويح لمن صادفه صريح بأنه مكروه مذموم منهى عنه لمن قصده وهذا هو الذي نقرره فقول الجنيد رضي الله عنه من محض الذي قلناه
وقوله ترويح لمن صادفه لم يثبت منه وإنما أثبتوا أنه راحة وجعل ذلك مع المصادفة لا مع القصد والتعمد
والمصادفة فيها قسم لا ريب فيه وهو استماع دون استماع كالمرء يكون مارا فيسمع قائلا يقول بغير قصده واختياره أو يكون جالسا في موضع فيمر عليه من يقول أو يسمع قائلا من موضع آخر بغير قصده
وأما إذا اجتمع بقوم لغير السماع إما حضر عندهم أو حضروا عنده وقالوا شيئا فهذا قد يقال إنه صادفه السماع فإنه لم يمش إليه ويقصده وقد يقال بل إصغاؤه إليه واستماعه الصوت يجعله مستمعا فيجعله غير مصادف
وقد قال تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلثم سورة النساء 140 فجعل القاعد المستمع بمنزلة القائل
فأكثر ما يقال إن الجنيد اراد بالمصادفة هذه الصورة وهو مع جعله ترويحا لم يجعله سببا للرحمة وهذا غايته أن يكون مباحا لا يكون حسنا ولا رحمة ولا مستحبا والكلام في إباحته وتحريمه غير الكلام في حسنه وصلاحه ومنفعته وكونه قربة وطاعة فالجنيد لم يقل شيئا من هذا
وقول القائل تنزل الرحمة على أهل السماع إذا أراد به سماع القصائد يقتضي أنه حسن وأنه نافع في الدين وكلام الجنيد صريح في خلاف ذلك
قال أبو القاسم وسئل الشبلي عن السماع فقال ظاهره فتنة وباطنه عبرة فمن عرف الإشارة حل له السماع بالعبرة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية
قلت هذا القول مرسل لم يسنده فالله أعلم به فإن كان محفوظا عن الشبلي فقد نبهنا على ان الأئمة في طريق الحق الذين يعتد بأقوالهم كما يعتد بأقوال أئمة الهدى هم مثل الجنيد وسهل ونحوهما فإن اقوالهم صادرة عن أصل وهم مستهدون فيها
وأما الشبلي ونحوه فلا بد من عرض أقواله وأحواله على الحجة فيقبل منها ما وافق الحق دون ما لم يكن كذلك لأنه قد كان يعرض له زوال العقل حتى يذهب به إلى المارستان غير مرة وقد يختلط اختلاطا دون ذلك
ومن كان بهذه الحال فلا تكون أقواله وأفعاله في مثل هذه الأحوال مما يعتمد عليها في طريق الحق ولكن له أقوال وأفعال حسنة قد علم حسنها بالدليل فتقبل لحسنها في نفسها وإن كان له حال أخرى بغير عقله أو اختلط فيها او وقع منه ما لا يصلح
ومعلوم أن الجنيد شيخه هو الإمام المتبع في الطريق وقد أخبر أن لسماع فتنة لمن طلبه فتقليد الجنيد في ذلك أولى من تقليد الشبلي في قوله ظاهره فتنة وباطنه عبرة إذ الجنيد أعلى وأفضل وأجل بأتفاق المسلمين وقد أطلق القول بأنه فتنة لطالبه وهو لا يريد أنه فتنة في الظاهر فقط إذ من شأن الجنيد أن يتكلم على صلاح القلوب وفسادها فإنما أراد أنه يفتن القلب لمن طلبه وهذا نهى منه وذم لمن يطلبه مطلقا ومخالفا لما أرسل عن الشبلي أنه قال من عرف الإشارة حل له السماع بالعبرة
وهذا التفصيل يضاهي قول من يقول هو مباح أو حسن للخاصة دون العامة وقد تقدم الكلام على ذلك وأنه مردود لأن قائله اختلف قوله في ذلك وما أعلم احدا من المشايخ المقبولين يؤثر عنه في السماع نوع رخصة وحمد إلا ويؤثر عنه الذم والمنع فهم فيه كما يذكر عن كثير من العلماء أنواع من مسائل الكلام
فلا يوجد عمن له في الأمة حمد شئ من ذلك إلا وعنه ما يخالف ذلك وهذا من رحمة الله بعباده الصالحين حيث يردهم في آخر أمرهم إلى الحق الذي بعثه به رسوله ولا يجعلهم مصرين على ما يخالف الدين المشروع
========
الاستقامة/10
كما قال تعالى في صفة المتقين الذين أعد لهم الجنة فقال وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا انفسهم ذكروا الله فآستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين سورة آل عمران 133 136
وقول القائل من عرف الإشارة حل له السماع بالعبرة وقد تقدم ان الإشارة هي الاعتبار والقياس لأن يجعل المعنى الذي في القول مثلا مضروبا لمعنى حق يناسب حال المستمع ولهذا قال باطنه عبرة
يقال له هب أنه يمكن الاعتبار به لكن من أين لك ان كل ما أمكن أن يعتبر به الإنسان يكون حلالا له مع أن الاعتبار قد يكون بما يسمع ويرى من المحرمات فهل لاحد أن يعتبر بقصد النظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية ويعتبر بقصد الاستماع إلى اقوال المستهترين بآيات الله أو غير ذلك مما لا يجوز
قال أبو القاسم وقيل لا يصح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حي فنفسه ذبحت بسيوف المجاهدة وقلبه حي بنور المشاهدة وهذا التففضيل من جنس ما تقدم الكلام عليه
قال وسئل ابو يعقوب النهرجوري عن السماع فقال حال يبدي الرجوع إلى الأسرار من حيث الإحراق
قلت وهذا وصف لما يعقب السماع من الاحوال الباطنة وقوة الحرارة والإحراق والوجودية وهذا امر يحسه المرء ويجده ويذوقه لكن ليس في ذلك مدح ولا ذم إذ مثل هذا يوجد لعباد المسيح والصليب وعباد العجل وعباد الطواغيت ويوجد للعشاق وغير ذلك فإن لم تكن هذه الأحوال مما يحبها الله ورسوله لم تكن محمودة ولا ممدوحة
قال أبو القاسم وقيل السماع لطف غذاء الأرواح لأهل المعرفة وهذا القول لم يسم قائله ولا ريب ان السماع فيه غذاء وقد قيل إنما سمى الغناء غناء لأنه يغني النفس لكن الأغذية والمطاعم منها طيب ومنها خبيث وليس كل ما استلذه الإنسان لحسنه يكون طيبا فإن أكل الخنزير يستلذه آكله وشارب الخمر يستلذها شاربها
ومما يبين ذلك أن سماع الألحان يتغذى به أهل الجهل أكثر مما يتغذى به أهل المعرفة كما يتغذى به الأطفال والبهائم والنساء وكما يكثر في أهل البوادي والأعراب وكل من ضعف عقله ومعرفته كما هو مشهود
فأما السماع الشرعي فلا إنه غذاء طيب لأهل المعرفة كما أخبر الله بذلك في قوله وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق سورة المائدة 83
ثم ذكر أبو القاسم قول ابي على الدقاق السماع طبع إلا عن شرع وخرق إلا عن حق وفتنة إلا عن عبرة وهذا كلام حسن وقد قدمنا ذكره فإنه جعل ما ليس بمشروع هو عن الطبع فلا يكون محمودا مستحسنا في الدين وطريق الله
وقوله خرق إلا عن حق وفتنة الأ عن عبرة يقتضي أنه إذا لم يكن عن حق فهو مذموم وأنه لم يكن عن عبرة فهو فتنة وهذا كلام صحيح ولا يقتضي ذلك أن يستحب كل ما يظن أن فيه عبرة أو أنه عن حق إذا لم يكن مشروعا لأنه قد قال إنه طبع إلا عن شرع
قال أبو القاسم ويقال السماع على قسمين سماع بشرط
العلم والصحو فمن شرط صاحبه معرفة الاسامي والصفات وإلا وقع في الكفر المحض وسماع بشرط الحال فمن شرط صاحبه الفناء عن احوال البشرية والتنقي من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة
قلت قوله معرفة الأسامي والصفات يعني أسماء الحق وصفاته وذلك لأن المسموع هو المشروع من الصفات التي يوصف بها المخلوقون وهم إنما يأخذون مقصودهم منها بطريقة الإشارة والاعتبار كما تقدم فيحتاج ذلك إلى أن نفرق بين ما يوصف به الرب ويوصف به المخلوق لئلا تجعل تلك الصفات صفات لله فيكون فتنة وكفرا هذا إذا كان صاحبه صاحيا يعلم ما يقول وأما إذا كان فانيا عن الشعور بالكائنات لم يحمل القول على ذلك لعدم شعوره به فلا بد أن يكون شاعرا بالأحوال البشرية ويكون متنقيا عن الحظوظ البشرية التي تميل إلى المخلوقات وذلك بظهور سلطان التوحيد على قلبه وهو قوله ظهور أحكام الحقيقة وهذا التفصيل يحتاج إليه من يستحسن بعض أنواع السماع المحدث لأهل الطريق إلى الله
والفتنة تحصل بالسماع من وجهين من جهة البدعة في الدين ومن جهة الفجور في الدنيا
أما الأول فلما قد يحصل به من الاعتقادات الفاسدة في حق الله او الإرادات والعبادات الفاسدة التي لا تصلح لله مع ما يصد عنه من الاعتقادات الصالحة والعبادات الصالحة تارة بطريق المضادة وتارة بطريق الاشتغال فإن النفس تشتغل وتستغني بهذا عن هذا
وأما الفجور في الدنيا فلما يحصل به من دواعي الزنا والفواحش والإثم والبغي على الناس
ففي الجملة جميع المحرمات قد تحصل فيه وهو ما ذكرها الله في قوله قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون سورة الاعراف 33
قال أبو القاسم وحكى عن احمد بن ابي الحواري أنه قال سألت أبا سليمان عن السماع فقال من اثنين أحب إلى من الواحد
قلت هذه المقالة ذكرها مرسلة فلا يعتمد عليها وإن أريد بها السماع المحدث فهي باطلة عن ابي سليمان فإن أبا سليمان رضي الله عنه لم يكن من رجال السماع ولا معروفا بحضوره كما أن الفضيل بن عياض ومعروفا الكرخي رحمهما الله ونحوهما لم يكونا ممن يحضر هذا السماع
قال أبو القاسم سئل أبو الحسين النوري عن الصوفي فقال من سمع السماع وآثر الأسباب
قلت هذا النقل مرسل فلا يعتمد عليه ولعل المقصود بهذا هو الصوفي المذموم عندهم التصوف فإنه جمع بين إيثار السماع الذي يدل على الأهواء الباطلة وضعف الإرادة والعبادة وإيثار الأسباب التي تنقصه عندهم عن التوكل فضعف كونه يعبد الله وضعف كونه يستعينه وإلا فالنوري لا يجعل هذا شرطا في الصوفي المحقق
قال أبو القاسم وسئل أبو علي الروذباري عن السماع يوما فقال ليتنا تخلصنا منه راسا برأس
قلت هذا الكلام من مثل هذا الشيخ الذي هو أجل المشايخ الذين صحبوا الجنيد وطبقته يقرر ما قدمناه من أن حضور الشيخ السماع لا يدل على مذهبه واعتقاد حسنه فإنه يتمنى ألا يكون عليه فيه إثم بل يخلص منه لا عليه ولا له ولو كان من جنس المستحبات لم يقل ذلك فيه إلا لتقصير المستمع لا لجنس الفعل وليس له أن يقول ذلك إلا عن نفسه لا يجعل هذا حكما عاما في أهل ذلك العمل
كما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول وددت أني انفلت من هذا الامر رأسا برأس قال هذا بعد توليه الخلافة لفرط خشيته ألا يكون قد قام بحقوق ولم يقل هذا في أبي بكر رضي الله عنه بل ما يزال يشهد له بالقيام في الخلافة بالحق ولذلك كان عمر خوفه يحمله على ذلك القول
فقول أبي علي ليس من هذا الجنس بل وصف الطائفة كلها بذلك فعلم أنه لا يعتقد فيه انه حسن وإن كان فاعلا له
وقال أبو القاسم سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول من ادعى السماع ولم يسمع صوت الطيور وصرير الباب وصفير الرياح فهو مفتر مدع
قلت هذا الذي قاله أبو عثمان هو مما يفصلون به بين سماع العبرة وسماع الفتنة فإن سماع العبرة الذي يحرك وجد السالكين بالحق يحصل بسماع هذه الأصوات لا يقف على السماع الذي يهواه أهل الفتن
وقال أبو القاسم سمعت أبا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول سمعت أبا الطيب أحمد بن مقاتل العكي يقول قال جعفر كان ابن زيري من أصحاب الجنيد شيخا فاضلا فربما كان يحضر موضع السماع فإن استطابة فرش إزاره وجلس وقال الصوفي مع قلبه وإن لم يستطبه قال السماع لأرباب القلوب ومر وأخذ نعليه
قلت سنتكلم إن شاء الله على مثل هذه الحال وهو المشي مع طيب القلب وما يذوق الإنسان ويجد فيه صلاح القلب ونبين أن السلوك المستقيم هكذا من غير اعتبار لطيب القلب وما يجده ويذوقه من المنفعة واللذة والجمع على الله ونحو ذلك أما ذلك الحال فهو مذموم في الكتاب والسنة ضلال في الطريق وهو مبدأ ضلال من ضل من العباد والنساك والمتصوفة والفقراء ونحوهم وحقيقته اتباع الهوى بغير هدى من الله وقد تقدم من كلام المشايخ في ذم هذا ما فيه كفاية
فإن مجرد طيب القلب ليس دليلا على أنه إنما طاب لما يحبه الله ويرضاه بل قد يطيب بما لا يحبه الله ويرضاه مما يكرهه أولا يكرهه أيضا لا سيما القلوب التي أشربت حب الأصوات الملحنة فقد قال عبد الله بن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلوب كما ينبت الماء البقل
وإطلاق القول بأن الصوفي مع قلبه هو من جنس ما ذم به هؤلاء المتصوفة حتى جعلوا من اهل البدع لأنهم أحدثوا في طريق الله أشياء لم يشرعها الله فكان لهم نصيب من قوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله سورة الشورى 21 مثل ما ذكره الخلال بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي وذكر الصوفية فقال لا تجالسوهم ولا أصحاب الكلام وعليكم بأصحاب القماطر فإنهم بمنزلة المعادن والمفاصل هذا يخرج درة وهذا يخرج قطعة ذهب ويروى عن الشافعي أنه قال لو تصوف رجل أول النهار لم يأت نصف النهار إلا وهو أحمق
قال ابو القاسم سمعت محمد بن الحسين رحمه الله تعالى يقول سمعت عبد الواحد بن بكر يقول سمعت عبد الله بن عبد المجيد الصوفي يقول سئل رويم عن وجود الصوفية عند السماع فقال يشهدون المعاني التي تعزب عن غيرهم فتشير إليهم إلي إلي فيتنعمون بذلك من الفرح ثم يقع الحجاب فيعود ذلك الفرح بكاء فمنهم من يخرق ثيابه ومنهم من يصيح ومنهم من يبكي كل إنسان على قدره
قلت هذا وصف لما يعتريهم من الحال ليس في ذلك مدح ولا ذم إذ مثل هذه الحال يكون للمشركين وأهل الكتاب إذ قد يشهدون بقلوبهم مع انهم يفرحون بها فتتبع ذلك المحبة فإن الفرح يتبع المحبة فمن أحب شيئا فرح بوجوده وتألم لفقده والمحبوب قد يكون حقا وقد يكون باطلا
قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165 وقال تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم سورة البقرة 93
فقد يكون المرء محبا لله صادقا في ذلك لكن يكون ما يشهده من المعاني السارة خيالات لا حقيقة لها فيفرح بها ويكون فرحه لغير الحق وذلك مذموم
قال تعالى ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون
وقد علم أن سماع المكاء والتصدية إنما ذكره الله في القرأن عن المشركين ولا يخلو من نوع شرك جلي أو خفي ولهذا يحكي عنهم تلك الأمور الباطلة التي بدت لهم أولا كما قال تعالى كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئأ ووجد الله عنده سورة النور 39
ومع هذا فقد يكون في تلك المعاني التي تشاهد وتحتجب من حقائق الإيمان ما يفرح به المؤمنون أيضا ولولا ما فيه من ذلك لما التبس على فريق من المؤمنين لكن قد لبس الحق فيه بالباطل هذا الأمر منه ليس بحق محض أصلا وبالحق الذي فيه نفق على من نفق عليه من المؤمنين وزهادهم وصوفيتهم وفقرائهم وعبادهم ولكن لضعف إيمانهم نفق عليهم ولو تحققوا بكمال الإيمان لتبين لهم ما فيه من الشرك ولبس الحق بالباطل
ولهذا تبين ذلك لمن أراد الله أن يكمل إيمانه منهم فيتوبون منه كما هو المأثور عن عامة المشايخ الكبار الذين حضروه فإنهم تابوا منه كما تاب كثير من كبار العلماء مما دخلوا فيه من البدع الكلامية
قال أبو القاسم سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول سمعت عبد الله بن علي يقول سمعت الحصري يقول في بعض كلامه إيش أعمل بسماع ينقطع إذا انقطع من يستمع منه ينبغي أن يكون سماعك سماعا متصلا غير منقطع
وقال الحصري ينبغي أن يكون ظمأ دائم وشرب دائم فكلما ازداد شربه ازداد ظمؤه
قلت هذا الكلام فيه عيب لأهل هذا السماع وبيان أن المؤمن عمله دائم ليس بمنقطع كما قال النبي ﷺ أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه فيكون اجتماع قلبه لمعاني القرآن دائما غير منقطع لا يزال عطشانا طالبا شاربا كما قال تعالى لنبيه واعبد ربك حتى يأتيك اليقين سورة الحجر 99 وقال الحسن البصري لم يجعل الله لعبده المؤمن أجلا دون الموت وقد اعتقد بعض الغالطين من هؤلاء ان المعنى اعبد ربك حتى تحصل لك المعرفة ثم اترك العبادة وهذا جهل وضلال بأجماع الأمة بل اليقين هنا كاليقين في قوله حتى أتانا اليقين سورة المدثر 47
في الصحيح لما مات عثمان بن مظعون قال النبي ﷺ أما عثمان فقد أتاه اليقين من ربه والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي
فأما اليقين الذي هو صفة العبد فذاك قد فعله من حين عبد ربه ولا تصح العبادة إلا به وإن كان له درجات متفاوتة
قال تعالى الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين إلى قوله وبالآخرة هم يوقنون سورة البقرة 1 4
وقال وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون سورة السجدة 24
وقال عن الكفار وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة إن تظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين سورة الجاثية 32
قال أبو القاسم وجاء عن مجاهد في تفسير قوله تعالى فهم في روضة يحبرون سورة الروم 15 أنه السماع من الحور العين بأصوات شهية نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا
وهذا فيه أنهم ينعمون في الآخرة بالسماع وقد تقدم الكلام على هذا وأن التنعم بالشئ في الآخرة لا يقتضي أن يكون عملا حسنا أو مباحا في الدنيا
وقال وقيل السماع نداء والوجد قصد
وهذا كلام مطلق فإن المستمع يناديه ما يستمعه بحق تارة وبباطل أخرى والواجد هو قاصد يجيب المنادي الذي قد يدعو إلى حق وقد يدعو إلى باطل فإن الواجد تجد في نفسه إرادة وقصدا
قال وسمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول قلوب أهل الحق قلوب حاضرة وأسماعهم أسماع مفتوحة
وهذا كلام حسن قال تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد سورة ق 37 قالوا وهو حاضر القلب ليس بغائبه ووصف الله الكفار بأنهم صم بكم عمي لا يسمعون ولا يعقلون وأن في آذانهم وقرا وأنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم
قال وسمعته يعني أبا عبد الرحمن يقول سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يقول المستمع بين استتار وتجل فالاستتار يوجب التلهيب والتجلي يورث الترويح والاستتار يتولد منه حركات المريدين وهو محل الضعف والعجز والتجلي يتولد منه سكون الواصلين وهو محل الاستقامة والتمكن وذلك
صفة الحضرة ليس فيها إلا الذبول تحت موارد الهيبة قال تعالى فلما حضروه قالوا أنصتوا سورة الأحقاف 29
قلت هذا كلام على أحوال أهل السماع وهو مطلق في السماع الشرعي والبدعي لكنه إلى وصف حال المحدث أقرب وهو وصف لبعض أحوالهم فإن أحوالهم أضعاف ذلك وأما الاستدلال بالآية ففيه كلام ليس هذا موضعه
قال وقال أبو عثمان الحيري السماع على ثلاثة أوجه فوجه منها للمريدين والمبتدئين يستدعون بذلك الأحوال الشريفة ويخشى عليهم في ذلك الفتنة والمراءاة
والثاني للصادقين يطلبون الزيادة في أحوالهم ويستمعون من ذلك ما يوافق أوقاتهم
والثالث لأهل الاستقامة من العارفين وهؤلاء لا يختارون على الله فيما يرد على قلوبهم من الحركة والسكون
قلت هذا الكلام مطلق في السماع يتناول القسمين
فصل في محبة الجمال
ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبر
وفي رواية لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا فقال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس
فقوله إن الله جميل يحب الجمال قد أدرج فيه حسن الثياب التي هي المسئول عنها فعلم أن الله يحب الجمال و الجميل من اللباس ويدخل في عمومه وبطريق الفحوي الجميل من كل شئ هذا كقوله في الحديث الذي رواه الترمذي إن الله نظيف يحب النظافة
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال إن الله طيب يحب الأطيباء وهذا مما يستدل به على التجمل في الجمع والأعياد كما في الصحيح أن عمر بن الخطاب رأى حلة تباع في السوق فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه تلبسها فقال إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة
وهذا يوافقه في حسن الثياب ما في السنن عن ابي الأحوص الجشمي قال رآني النبي ﷺ وعلى أطمار فقال هل لك من مال قلت نعم قال من أي المال قلت من كل ما أتى الله من الإبل والشاء قال فلتر نعمة الله وكرامته عليك
وفي السنن أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله ﷺ إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده لكن هذا الظهور لنعمة الله وما في ذلك من شكره والله يحب أن يشكر وذلك لمحبته الجمال
وهذا الحديث قد ضل قوم بما تأولوه عليه وآخرون رأوه معارضا لغيره من النصوص ولم يهتدوا للجمع
فالاولون قد يقولون كل مصنوع الرب جميل لقوله الذي أحسن كل شئ خلقه سورة السجدة 7 فنحب كل شئ وقد يستدلون بقول بعض المشايخ المحبة نار تحرق في القلب كل ما سوى مراد المحبوب والمخلوقات كلها مراده وهو لا يقوله قائلهم فصرح بإطلاق الجمال وأقل ما يصيب هؤلاء أنهم يتركون الغيرة لله والنهي عن المنكر والبغض في الله والجهاد في سبيله وإقامة حدوده وهم في ذلك متناقضون إذ لا يتمكنون من الرضا بكل موجود فإن المنكرات هي أمور مضرة لهم ولغيرهم ويبقى أحدهم مع طبعة وذوقه وهواه ينكر ما يكره ذوقه دون ما لا يكره ذوقه وينسلخون عن دين الله وربما دخل أحدهم في الاتحاد والحلول المطلق ومنهم من يحض الحلول أو الاتحاد ببعض المخلوقات كالمسيح أو علي بن أبي طالب أو غيرهما من المشايخ والملوك والمردان فيقولون بحلوله في الصور الجميلة ويعبدونها
ومنهم من لا يرى ذلك لكن يتدين يحب الصور الجميلة من النساء الأجانب والمردان وغير ذلك ويرى هذا من الجمال الذي يحبه الله ويحبه هو ويلبس المحبة الطبيعية المحرمة بالمحبة الدينية ويجعل ما حرمه الله مما يقرب إليه وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء سورة الأعراف 28
والآخرون قالوا ثبت في صحيح مسلم عن ابي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ومعلوم أنه لم ينف نظر الإدراك لكن نظر المحبة
وقد قال تعالى عن المنافقين وإذا رأيتهم تعجبك اجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة سورة المنافقون 4
وقال تعالى وكم اهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا سورة مريم 74 والأثاث المال من اللباس ونحوه والرئي المنطر فأخبر ان الذين أهلكهم قبلهم كانوا أحسن صورا وأموالا لنتبين أن ذلك لا ينفع عنده ولا يعبأ به
وقال النبي ﷺ لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى
وفي السنن عنه أنه قال البذاذة من الايمان
وأيضا فقد حرم علينا من لباس الحرير والذهب وآنية الذهب والفضة ما هو أعظم الجمال في الدنيا وحرم الله الفخر والخيلاء واللباس الذي فيه الفخر والخيلاء كإطالة الثياب حتى ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا
وفي الصحيح عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة
وفي الصحيح أيضا قال بينما رجل يجر أزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة
وقد قال تعالى في حق قارون فخرج على قومه في زينته سورة القصص 79 قالوا ثياب الأرجوان
ولهذا ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال رآني رسول الله ﷺ وعلى ثوبين معصفرين فقال إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها قلت أغسلهما قال احرقهما
ولهذا كره العلماء المحققون الأحمر المشبع حمرة كما جاء النهي عن الميثرة الحمراء وقال عمر بن الخطاب دعوا هذه الرايات للنساء وقد بسطنا القول في هذه المسألة في موضعها
وأيضا فقد قال الله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم إلى قوله وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنين سورة النور 30 31
وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح عن ابي هريرة العينان تزينان وزناهما النظر
وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله قال سألت النبي ﷺ عن نظر الفجأة فقال اصرف بصرك
وفي السنن أنه قال لعلي يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة
وقد قال تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى سورة طه 131
وقال ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ازواجنا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين سورة الحجر 88 وقال زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد سورة آل عمران 13 15
وقد قال مع ذمه لمذامه من هذه الزينة قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة سورة الأعراف 32
فنقول أعلم أن ما يصفه به النبي ﷺ من محبة الأجناس المحبوبة من الأعيان والصفات والأفعال وما يبغضه من ذلك هو مثل ما يأمر به من الأفعال وينهى عنه من ذلك فإن الحب والبغض هما أصل الامر والنهى وذلك نظير ما يعده على الاعمال الحسنة من الثواب ويتوعد به على الأعمال السيئة من العقاب
فأمره ونهيه ووعده وحبه وبغضه وثوابه وعقابه كل ذلك من جنس واحد والنصوص النبوية تأتي مطلقة عامة من الجانبين فتتعارض في بعض الأعيان والأفعال التي تندرج في نصوص المدح والذم والحب والبغض والأمر والنهي والوعد والوعيد وقد بسطنا الكلام على ما يتعلق بهذه القاعدة في غير موضع لتعلقها بأصول الدين وفروعه
فإن من أكبر المسائل التي تتبعها مسألة الأسماء والأحكام في فساق اهل الملة وهل يجتمع في حق الشخص الواحد الثواب والعقاب كما يقوله أهل السنة والجماعة أم لا يجتمع ذلك وهل يكون الشئ الواحد محبوبا من وجه مبغوضا من وجه محمودا من وجه مذموما من وجه كما يقوله جمهور الخوارج والمعتزلة وهل يكون الفعل الواحد مأمورا به من وجه منهيا عنه من وجه
وقد تنازع في ذلك أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم
والتعارض بين النصوص إنما هو لتعارض المتعارض المقتضى للحمد والذم من الصفات القائمة بذاته تعالى ولهذا كان هذا الجنس موجبا للكفر أو الفتنة فأول مسألة فرقت بين الأمة مسألة الفاسق الملي فأدرجته الخوراج في نصوص الوعيد والخلود في النار وحكموا بكفره ووافقتهم المعتزلة على دخوله في نصوص الوعيد وخلوده في النار لكن لم يحكموا بكفره فلو كان الشئ خيرا محضا لم يوجب فرقة ولو كان شرا محضا لم يخف أمره لكن لاجتماع الأمرين فيه أوجب الفتنة
وكذلك مسالة القدر التي هي من جملة فروع هذا الأصل فإنه اجتمع في الأفعال الواقعة التي نهى الله عنها أنها مرادة له لكونها من الموجودات وأنها غير محبوبة له ولا مرضية بل ممقوتة مبغوضة لكونها من المنهيات
فقال طوائف من اهل الكلام الإرادة والمحبة والرضا واحدة أو متلازمة ثم قالت القدرية والله لم يحب هذه الافعال ولم يرضها فلم يردها فأثبتوا وجود الكائنات بدون مشيئة
ولهذا لما قال غيلان القدري لربيعة بن عبد الرحمن يا ربيعة نشدتك بالله أترى الله يحب أن يعصى فقال له ربيعة أفترى الله يعصى قسرا فكأنه ألقمه حجرا يقول له نزهته عن محبة المعاصي فسلبته الإرادة والقدرة وجعلته مقهورا مقسورا
وقال من عارض القدرية بل كل ما أراده فقد أحبه ورضيه ولزمهم ان يكون الكفر والفسوق والعصيان محبوبا لله مرضيا
وقالوا أيضا يأمر بما لا يريده وكل ماأمر به من الحسنات فإنه لم يرده وربما قالوا ولم يحبه ولم يرضه إلا إذا وجد ولكن أمر به وطلبه
فقيل لهم هل يكون طلب وإرادة واستدعاء بلا إرادة ولا محبة ولا رضا هذا جمع بين النقيضين فتحيروا
فأولئك سلبوا الرب خلقه وقدرته وإرادته وهؤلاء سلبوا محبته ورضاه وإرادته الدينية وما يصحبه أمره ونهيه من ذلك فكما أن الأولين لم يثبتوا أن الشخص الواحد يكون مثابا معاقبا بل إما مثاب وإما معاقبه فهؤلاء لم يبينوا أن الفعل الواحد يكون مرادا من وجه دون وجه مرادا غير محبوب بل إما مراد محبوب وإما غير مراد ولا محبوب ولم يجعلوا الإرادة إلا نوعا واحدا والتحقيق أنه يكون مرادا غير محبوب ولا مرضى ويكون مرادا من وجه دون وجه ويكون محبوبا مرضيا غير مراد الوقوع
والإرادة نوعان إرادة دينية وهي المقارنة الأمر والنهي والحب والبغض والرضا والغضب
وإرادة كونية وهي المقارنة للقضاء والقدر والخلق والقدرة
وكما تفرقوا في صفات الخالق تفرقوا في صفات المخلوق فأولئك لم يثبتوا له إلا قدرة واحدة تكون قبل الفعل وهؤلاء لم يثبتوا له إلا قدرة واحدة تكون مع الفعل
أولئك نفوا القدرة الكونية التي بها يكون الفعل وهؤلاء نفوا القدرة الدينية التي بها يأمر الله العبد وينهاه
وهذا من أصول تفرقهم في مسألة تكليف ما لا يطاق وانقسموا إلى قدرية مجوسية تثبت الأمر والنهي وتنفى القضاء والقدر وإلى قدرية مشركية شر منهم تثبت القضاء والقدر وتكذب بالأمر والنهي أو ببعض ذلك
وإلى قدرية إبليسية تصدق بالأمرين لكن ترى ذلك تناقضا مخالف للحق والحكمة
وهذا شأن عامة ما تتعارض فيه الأسباب والدلائل تجد فريقا يقولون بهذا دون هذا وفريقا بالعكس وفريقا رأوا الأمرين واعتقدوا تناقضهما فصاروا متحيرين أو معرضين عن التصديق بهما جميعا أو متناقضين مع هذا تارة ومع هذا تارة
وهذا تجده في مسائل الكلام والاعتقادات ومسائل الإرادة والعبادات كمسألة السماع الصوتي ومسألة الكلام ومسأئل الصفات وكلام الله وغير ذلك من المسائل
وجماع القول في ذلك أن كل أمرين تعارضا فلا بد أن يكون أحدهما راجحا أو يكونا متكافئين فيحكم بينهما بحسب الرجحان ويحسب التكافؤ فالعملان والعاملان إذا امتاز كل منهما بصفات فإن ترجح أحدهما فهو الراجح وإن تكافئا سوى بينهما في الفضل والدرجة وكذلك أسباب المصالح والمفاسد وكذلك الأدلة بأنه يعطى كل دليل حقه ولا يجوز أن تتكافأ الأدلة في نفس الأمر عند الجمهور لكن تتكافأ في نظر الناظر وأما كون الشئ الواحد من الوجه الواحد ثابتا منتفيا فهذا لا يقوله عاقل
وأصل هذا كله العدل بالتسوية بين المتماثلين فإن الله تعالى يقول لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط سورة الحديد 25 وقد بسطنا القول في ذلك وبينا أن العدل جماع الدين والحق والخير كله في غير موضع
والعدل الحقيقي قد يكون متعذرا إما عمله وإما العمل به لكن التماثل من كل وجه غير ممكن أو غير معلوم فيكون الواجب في مثل ذلك ما كان أشبه بالعدل وأقرب إليه وهي الطريقة المثلى
وقال سبحانه وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها سورة الأنعام 152
وعلى هذا فالحق الموجود وهو الثابت الذي يقابله المنفي والحق المقصود وهو المأمور به المحبوب الذي يقابله المنهى عنه المبغوض ثلاثة أقسام
فإنها في الحق المقصود إما أمر ترجحت المصلحة المحبوبة فيه وهذا يؤمر به
وإما أمر ترجحت فيه المفسدة المكروهة فهذا ينهى عنه
وإما أمر استوى فيه هذا وهذا فهذا لا يؤمر به ولا ينهى عنه ولا يترجح فيه الحب ولا يترجح فيه البغض بل يكون عفوا
وما دون هذا إن كان مثل هذا موجودا فإن الناس يتنازعون في وجوده فقيل هو موجود وقيل بل هو يقدر في الفعل لا وجود له بل لا بد من الرجحان كما قيل مثل ذلك في تكافؤ الأدلة
وعلى هذا فالأمر الذي ترجحت فيه المصلحة وأمر به غلب فيه جانب المحبة مع أن الذي فيه المفسدة مبغض لكنه مراد فهو مراد بغيض والأمر الذي ترجح فيه جانب المصلحة محبوب لكنه مراد الترك محبوب فهو محبوب في نفسه لكن لملازمته لما هو بغيض وجب أن يراد تركه تبعا لكراهة لازمة فإنه بغض اللازم ونفى الملزوم
فحاصله أن المراد إرادة جازمة هو أحد الأمرين إما الفعل وإما الترك والأول هو المأمور به والثاني هو المنهى عنه لكن مع هذا فقد يشتمل المفعول على بغيض محتمل ويشتمل المتروك على حبيب مرفوض فهذا أصل نافع
فهذا في الفعل الواحد وأما الفاعل الواحد الذي يعمل الحسنة والسيئة معا وهو وإن كان التفريق بينهما ممكنا لكنه هو يعملهما جميعا أو يتركهما جميعا لكون محبته لأحدهما مستلزمة لمحبته للاخرى وبغضه لأحدهما مستلزما لبغضه للأخرى فصار لا يؤمر إلا بالحسن من الفعلين ولا ينهى إلا عن السئ منهما وإن لزم ترك الحسنة لا ينبغي أن يأمره في مثل هذا بالحسنة المرجوحة فإنه يكون أمرا بالسيئة ولا ينهاه عن السيئة المرجوحة فإنه يكون نهيأ عن الحسنة الراجحة وهكذا المعين يعين على الحسنة الراجحة وعلى ترك السيئة المرجوحة
وهذا أصل عظيم تدخل فيه أمورا عظيمة مثل الطاعة لأئمة الجور وترك الخروج عليهم وغير ذلك من المسائل الشرعية وهكذا حكم الطائفة المشتملة أفعالها على حسنات وسيئات بمنزلة الفاعل في ذلك وبما ذكرناه في الفعل الواحد والفاعل الواحد تظهر أمور كثيرة إما الحق الموجود وإما أن يكون الشئ في نفسه ثابتا ومنتفيا لكن كثيرا ما تحصل المقابلة بين إثبات عام ونفي عام ويكون الحق في التفصيل وهو ثبوت بعض ذلك العام وانتفاء بعضه وهذا هو الغالب على المسائل الكبار التي يتنازع فيها أحزاب الكلام والفلسفة ونحوهم
والدليل إما أن يكون دليلا معلوما فهذا لا يكون إلا حقا لكن كثيرا ما يظن الإنسان أن الشئ معلوم ولا يكون معلوما وحينئذ فإذا ظن ظان تعارض الأدلة المعلومة كان غالطا في تعارضها بل يكون أحد الأمرين لازما إما كلها أو بعضها غير معلوم وإما أن موجب الدليل حق من غير تعارض وإن ظنه الظان تعارضا فالحق الموجود لا ينافى الحق الموجود بل يكون منهما موجودا بخلاف الحق المقصود فإنه قد يقصد الضدان لما في كل منهما من المصالح المقصودة لكن لا يوجد الضدان وإن كان الدليل مغلبا للظن اعتقد فيه موجبه وإذا تعارضت هذه الأدلة رجح راجحها وسوى بين متكافيها
إذا تقرر ذلك فنقول قول النبي ﷺ إن الله جميل يحب الجمال كقوله للذي علمه الدعاء اللهم إنك عفو تحب العفو فأعف عني وقوله تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين سورة البقرة 222 وإن الله نظيف يحب النظافة
فهو سبحانه إذا كان يحب العفو لم يوجب هذا ألا يكون في بعض أنواع العفو من المعارض الراجح ما يعارض ما فيه من محبة العفو ولولا ذلك لكان ينبغي أن يعفو عن كل محرم فلا يعاقب مشركا ولا فاجرا لا في الدنيا ولا في الآخرة وهذا خلاف الواقع ولوجب أن يستحب لنا العفو عن كل كافر وفاجر فلا نعاقب أحدا على شئ وهذا خلاف ما أمرنا به وخلاف ما هو صلاح لنا ونافع في الدنيا والآخرة
وكذلك محبته للمتطهرين ومحبته للنظافة لا تمنع حصول المعارض الراجح مثل أن يكون الماء محتاجا إليه للعطش فمحبته لسقي العطشان راجحة على محبته للطهارة والنظافة
وكذلك سائر ما يتزاحم من الواجبات والمستحبات فإنها جميعها محبوبة لله وعند التزاحم يقدم أحبها إلى الله والتقرب إليه بالفرائض أحب إليه من التقرب إليه بالنوافل وبعض الواجبات والمستحبات إليه من بعض
وكذلك إذا تعارض المأمور والمحظور فقد تعارض حبيبه وبغيضه فيقدم أعظمهما في ذلك فإن كان محبته لهذا أعظم من بغضه لهذا قدم وإن كان بغضه لهذا أعظم من حبه لهذا قدم
كما قال تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما سورة البقرة 219 وعلى هذا استقرت الشريعة بترجيح خير الخيرين ودفع شر الشرين وترجيح الراجح من الخير والشر المجتمعين
والله سبحانه يحب صفات الكمال مثل العلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير وفي الصحيح عنه انه قال لا يرحم الله من لا يرحم الناس
وفي الصحيح أيضا عنه إنما يرحم الله من عباده الرحماء
وفي السنن حديث ثابت عنه الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
ومع هذا فقد قال تعالى في حد الزاني والزانية ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر سورة النور 2
وقال تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم سورة التوبة 73
وهذا في الحقيقة من رحمة الله بعباده فإن الله إنما أرسل محمدا رحمة للعالمين وهو سبحانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها لكن قد تكون الرحمة المطلوبة لا تحصل إلا بنوع من ألم وشدة تلحق بعض النفوس كما ورد في الأثر إذا قالوا للمريض اللهم ارحمه يقول الله كيف أرحمه من شئ به أرحمه
وكذلك كون الفعل عفوا وصف يقتضي محبة الله له فإذا عارضه ما هو احب إلى الله منه او اشتمل على بغض الله له أعظم من محبته لذلك العفو قدم الراجح
فكون الشئ جميلا يقتضي محبة الله له وهو سبحانه أحسن كل شئ خلقه إذ كل موجود فلا بد فيه من وجه الحكمة التي خلقه الله لها ومن ذلك الوجه يكون حسنا محبوبا وإن كان من وجه آخر يكون مستلزما شيئا يحبه الله ويرضاه أعظم مما فيه نفسه من البغض
فهذا موجود فينا فقد يفعل الشخص الفعل كشرب الدواء الكرية الذي بغضه له أعظم من حبه له وهذا لما تضمن ما هو محبته له أعظم من بغضه للدواء أراده وشاءه وفعله فأراد بالإرادة الجازمة المقارنة للقدرة فعلا فيه مما يبغضه أكثر مما يحبه لكونه مستلزما لدفع ما هو إليه أبغض ولحصول ما محبته له أعظم من بغضه لهذا فإن بغضه للمرض ومحبته للعافية أعظم من بغضه للدواء
فالأعيان التي نبغضها كالشياطين والكافرين وكذلك الأفعال التي نبغضها من الكفر والفسوق والعصيان خلقها وأراد وجودها لما تستلزمه من الحكمة التي يحبها ولما في وجودها من دفع ما هو إليه أبغض فهي مرادة له وهي مبغضة له مسخوطة كما بينا هذا في غير هذا الموضع
وأما الجمال الخاص فهو سبحانه جميل يحب الجمال والجمال الذي للخلق من العلم والإيمان والتقوى أعظم من الجمال الذي للخلق وهو الصورة الظاهرة
وكذلك الجميل من اللباس الظاهر فلباس التقوى أعظم واكمل وهو يحب الجمال الذي للباس التقوى أعظم مما يحب الجمال الذي للباس الرياش ويحب الجمال للخلق أعظم مما يحب الجمال الذي للخلق
كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا
وفي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان قال سألت رسول الله ﷺ عن البر والإثم فقال البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس
وفي السنن عنه انه قال أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن
وروى عنه أنه قال لأم سلمة يا ام سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة
ومن المعلوم أن أحب خلقه إليه المؤمنون فإذا كان أكملهم إيمانا أحسنهم خلقا كان أعظمهم محبة له أحسنهم خلقا والخلق الدين كما قال الله تعالى وإنك لعلى خلق عظيم سورة القلم 4 قال ابن عباس على دين عظيم وبذلك فسره سفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وغيرهما كما قد بيناه في غير هذا الموضع
وهو سبحانه يبغض الفواحش ولا يحبها ولا يأمر بها كما قال تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء سورة الأعراف 28
فإذا كان الجمال متضمنا لعدم ما هو أحب إليه أو لوجوده ما هو أبغض له لزم من ذلك فوات ما في الجمال المحبوب فإذا كان في جمال الثياب بطر وفخر وخيلاء وسرف فهو سبحانه لا يحب كل مختال فخور وقال تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا سورة الفرقان 67 بل هو يبغض البطر الفخور المختال والمسرف وقال إن المسرفين هم أصحاب النار سورة غافر 43 فلهذا قال ﷺ لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر أزاره خيلاء و بطرا فإنه ببغضه فلا ينظر إليه و إن كان فيه جمال فإن ذلك غرق في جانب ما يبغضه الله من الخيلاء و البطر
و كذلك الحرير فيه من السرف و الفخر و الخيلاء ما يبغضه الله و ينافي التقوى التي هي محبوب الله كما ثبت في الصحيحين عنه أنه نزع فروج الحرير و قال لا ينبغي هذا للمتقين
و كذلك سائر ما حرمه الله و كرهه مما فيه جمال فإن ذلك لاشتماله على مكروه ألحق على ما فيه مما يبغضه الله أعظم مما فيه من محبوبه و لتفويته ما هو أحب إليه منه
وكذلك الصور الجميلة من الرجال و النساء فإن أحدهم إذا كان خلقه سيئا بأن يكون فاجرا أو كافرا معلنا أو منافقا كان البغض أو المقت لخلقه و دينه مستعليا على ما فيه من الجمال
كما قال تعالى عن المنافقين و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم سورة المنافقون 4
وقال و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا سورة البقرة 204 فهؤلاء إنما أعجبه صورهم الظاهرة للبصر و أقوالهم الظاهرة للسمع لما فيه من الأمر المعجب لكن لما كانت حقائق أخلاقهم التي هي أملك بهم مشتملة على ما هو أبغض الأشياء و أمقتها إليه لم ينفعهم حسن الصورة و الكلام
وقال النبي ﷺ إن الله لا ينظر إلى صوركم و لا إلى أموالكم و إنما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم
و كذلك المرأة والصبي إذا كان فاجرا فإن ذلك يفوت حسن الخلق و التقوى التي هي أحب إلى الله من ذلك و يوجب بغض الله للفاحشة و لصاحبها و لسئ الخلق و مقته و غضبه عليه ما هو أعظم بكثير مما فيه من الجمال المقتضى للمحبة
وكذلك القوة وإن كانت من صفات الكمال التي يحبها الله فإذا كانت الإعانة على الكفر والفجور الذي بغض الله له ومقته عليه وتفويته لما يحبه من الإيمان والعمل الصالح أعظم بكثير من مجرد ما في القوة من الامر المحبوب ترجح جانب البغض بقدر ذلك
فإذا كانت القوة في الإيمان كان الأمر كما قال النبي ﷺ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ومن المعلوم أن الله يحب الحسنات وأهلها ويبغض السيئات وأهلها فهو يحب كل ما أمر به أمر إيجاب أو أمر استحباب وكل ما حمده وأثنى عليه من الصفات مثل العلم والإيمان والصدق والعدل والتقوى والإحسان وغير ذلك ويحب المقسطين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب المحسنين والذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ويبغض الكفر وأنواعه والظلم والكذب والفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أغير منه وكل ما حرمه يبغضه
فإذا كان مع الجمال أو غيره مما فيه وجه محبة ما هو بغيض من الفواحش أو الكذب أو الظلم أو غير ذلك كما ذكره في قوله قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون سورة الأعراف 33 فإن ذلك يفوت ما هو أحب إلى الله من الجمال بكثير ويوجب من مقت الله وبغضه ما هو أعظم بكثير مما لمجرد الجمال من الحب ويوجب النهي عما يوجب هذه السيئات الكثيرة ويفوت الجمال الأفضل وهو كمال الخلق وحسنه وما في ذلك من الحسنات وكان ما في ذلك من المبغضات وترك المحبوبات راجحا على الحب الذي للجمال
======
الاستقامة/11
وعلى هذا يجري الأمر على محبة الإنسان للشئ الجميل من الصورة والنظر إليه وما يدخل في ذلك من قوة الحب والزيادة فيه التي تسمى العشق فإن ذلك إذا خلا عن المفسدة الراجحة مثل أن يحب الإنسان امرأته وجاريته حبا معتدلا أو يحب ما لا فتنة فيه كحبه للجميل من الدواب والثياب ويحب ولده وأباه وأمه ونحو ذلك من محبة الرحم كنوع من الجمال الحب المعتدل فهذا حسن
أما إذا أحب النساء الاجانب أو المردان ونحو ذلك فهذا الحب متضمن للمحبة الحيوانية وليس في ذلك مجرد محبة الجمال والمحبة الحيوانية مما يبغضها الله ويمقتها وتوابعها منهى عنها مع ذلك سواء كان مع المحبة فعل الفاحشة الكبرى أو كانت للتمتع بالنظر والسماع وغير ذلك
فالتمتع مقدمات الوطء فإن كان الوطء حلالا حلت مقدماته وإن كان الوطء حراما حرمت مقدماته وإن كان في ذلك رفض للجمال كما فيه رفض للذة الوطء المحرم فإن ما في ذلك مما يبغضه الله ويمقت عليه أعظم مما في مجرد الجمال من الحب المتضمن وذلك متضمن لتفويت محاب الله من التقوى والعفاف والإقبال على مصالح الدين والدنيا أعظم بكثير مما فيها من مجرد حب الجمال فلهذا كانت هذه مذمومة منهيا عنها حتى حرم الشارع النظر في ذلك بلذة وشهوة وبغير لذة وشهوة إذا خاف الناظر الفتنة والفتنة مخوفة في النظر إلى الأجنبية الحسنة والأمرد الحسن في أحد قولي العلماء الذي يصححه كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وهذا قد يختلف بأختلاف العادات والطبائع وأما النظر للحاجة من غير شهوة ولا لذة فيجوز
ولهذا لم يأمر الله ولا رسوله ولا أهل العلم والإيمان بعشق الصور الجميلة ولا أثنوا على ما كان كذلك وكذلك العقلاء من جميع الأمم ولكن طائفة من المتفلسفة والمتصوفة تأمر بذلك وتثنى عليه لما فيه زعموا من إصلاح النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق واكتساب الصفات المحمودة من السماحة والشجاعة والعلم والفصاحة والاختيال ونحو ذلك من الأمور حتى أن طائفة من فلاسفة الروم والفرس ومن اتبعهم من العرب تأمر به وكذلك طائفة من المتصوفة حتى يقول أحدهم ينبغي للمريد أن يتخذ له صورة يجتمع قلبه عليها ثم ينتقل منها إلى الله وربما قالوا إنهم يشهدون الله في تلك الصورة ويقولون هذه مظاهر الجمال ويتأولون قوله ﷺ إن الله جميل يحب الجمال على غير تأويله
فهؤلاء وأمثالهم ممن يدخل في ذلك يزعمون أن طريقهم موافق لطريق العقل والدين والخلق وإن اندرج في ذلك من الأمور الفاحشة ما اندرج
وهؤلاء لهم نصيب من قوله تعالى وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء سورة الأعراف 28
لكن العرب الذين كانوا سبب نزول هذه الآية إنما كانت فاحشتهم التي قالوا فيها ما قالوا طوافهم بالبيت عراة لاعتقادهم أن ثيابهم التي عصوا الله فيها لا تصلح أن يعبد الله فيها فكانوا ينزهون عبادة الله عن ملامسة ثيابهم فيقعون في الفاحشة التي هي كشف عوراتهم
وأما هؤلاء فأمرهم أجل وأعظم إذ غاية ما كان أولئك يفعلون طواف الرجال والنساء عراة مختلطين حتى كانت المرأة منهم تقول ... اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله ...
ولم يكن ذلك الاختلاط والاجتماع إلا في عبادة ظاهرة لا يتأتى فيها فعل الفاحشة الكبرى ولم يقصدوا بالتعري إلا التنزة من لباس الذنوب بزعمهم
فالذين يجتمعون من الرجال والنساء والمردان لسماع المكاء والتصدية ويطفئون المصابيح حتى لا يرى أحدهم الآخر حتى اجتمعوا على غناء وزنا ومطاعم خبيثة وجعلوا ذلك عبادة فهؤلاء شر من أولئك بلا ريب فأن هؤلاء فتحوا أبواب جهنم
كما روى أبو هريرة قال سئل رسول الله ﷺ ما أكثر ما يدخل الناس النار فقال الأجوفان الفم والفرج قال الترمذي حسن صحيح
وكذلك روى عنه أنه قال أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن
وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره وفي رواية مسلم حفت مكان حجبت
وإذا كانت النار محجوبة ومحفوفة بالشهوات لم يدخل النار إلا بها وإذا كانت الجنة محجوبة ومحفوفة بالمكاره لم يدخل الجنة إلا بها
وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن رسول الله ﷺ قال من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة وما بين لحييه يتناول الكلام والطعام
كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي شريح الخزاعي أن رسول الله ﷺ قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
فبين ﷺ أنه من ضمن له هذين ضمن له الجنة وهذا يقتضي أن من هذين يدخل النار ولهذا حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن وحرم أيضا انتهاك الأعراض وجعل في القذف بالفاحشة من العقوبة المقدرة وهي حد القذف ثمانين جلدة
وبين ﷺ أن الزنا من الكبائر وأن قذف المحصنات الغافلات من الكبائر وهو وهو من نوع الكبائر إذ لم يأت عليه القاذف بأربعة شهداء وإن كان قد وقع فإنه أظهر ما يحب الله إخفاؤه
كما قال تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة سورة النور 19
وفي الحديث الصحيح قال النبي ﷺ كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا بات يستره ربه ويصبح يكشف ستره
وقال من ابتلى من هذه القاذورة بشئ فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله
وفي الصحيحين عن صفوان بن محرز أن رجلا سأل ابن عمر كيف سمعت النبي ﷺ يقول في النجوى قال يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول عملت كذا وكذا فيقول نعم ويقول عملت كذا وكذا فيقول نعم فيقرره ثم يقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ولهذا يكثر وقوع الناس في أحد هذين الذنبين
فمن الناس من يبتلى بالفاحشة وإن كان ممسكا عن الكلام ومن الناس من يبتلي بالكلام والاعتداء على غيره بلسانه وإن كان عفيفا عن الفاحشة
وأيضا فإن من الكلام المنهى عنه الخوض في الدين بالبدع والضلالات مع تضمنه لشهوة الطعام وما بين الفرجين يتضمن أقوى الشهوات وذلك من الاستمتاع بالخلاق في الدنيا كما جمع الله تعالى بينهما بقوله فاستمعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا سورة التوبة 69 الأول يتضمن الشبهات والثاني يتضمن الشهوات الأول يتضمن الدين الفاسد والثاني يتضمن الدنيا الفاجرة
وكان السلف يحذرون من هذين النوعين من المبتدع في دينه والفاجر في دنياه كل من هذين النوعين وإن لم يكن كفرا محضا فهذا من الذنوب والسيئات التي تقع من أهل القبلة
وجنس البدع وإن كان شرا لكن الفجور شر من وجه آخر وذلك أن الفاجر المؤمن لا يجعل الفجور شرا من الوجه الآخر الذي هو حرام محض لكن مقرونا بأعتقاده لتحريمه وتلك حسنة في أصل الاعتقاد وأما المبتدع فلا بد ان تشتمل بدعته على حق وباطل لكن يعتقد ان باطلها حق أيضا ففيه من الحسن ما ليس في الفجور ومن السئ ما ليس في الفجور وكذلك بالعكس
فمن خلص من الشهوات المحرمة والشهوات المبتدعة وجبت له الجنة وهذه هي الثلاثة الكلام المنهى عنه والطعام المنهى عنه والنكاح المنهى عنه فإذا اقترن بهذه الكبائر استحلالها كان ذلك أمرا فكيف إذا جعلت طاعة وقربة وعقلا ودينا
وهؤلاء هم الذين يستحقون عقوبة أمثالهم من الأمم كما ثبت في الصحيح أنه يكون في هذه الأمة من يمسخ قردة وخنازير وكما روى أنه سيكون فيها خسف وقذف ومسخ
وقال بعض السلف في قوله تعالى وما هي من الظالمين ببعيد سورة هود 83 أي من ظالمي هذه الأمة وفي ذلك من الأحاديث ما يضيق هذا الموضع عن ذكره وفي عامتها يذكر استحلالهم لها
وأصل الضلال والغي من هؤلاء الذين يستحسنون عشق الصور ويحمدونه ويأمرون به وإن قيدوه مع ذلك بالعفة أن المحبة هي أصل كل حركة في العالم فالنفس إذا لم يكن فيها حركة ولا هي قوية الهمة والإرادة حتى تحصل لها محبة شديدة كانت تلك المنهيات عنها هي أصول الشر وهي التي إذا ظهرت قامت الساعة
كما في الصحيح عن أنس أنه قال لأحدثنكم حديثا لا يحدثكمونه أحد بعدي سمعته من النبي ﷺ سمعت النبي ﷺ يقول إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد
فمن ظهور الجهل ظهور الكلام في الدين بغير علم وهو الكلام بغير سلطان من الله وسلطان الله كتابه ومن ظهور الزنا ظهور اللواط وإن كان له اسم يخصه فهو شر نوعي الزنا ولكون ظهور شهوات الغي البطن والفرج هي أغلب ما يدخل الناس النار كما ذكر ذلك النبي ﷺ فيما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال النبي ﷺ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد
والسرقة بالمال الذي هو أعظم مقصود الأكل ولهذا يعبر عن اخذه بالأكل كقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل سورة البقرة 188
وهذه الثلاثة هي التي يعقد الفقهاء فيها أبواب الحدود باب حد الزنا باب حد السرقة باب حد شرب الخمر ورابعها باب حد القذف مندرجة فيما بين لحييه وبين رجليه
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن قال عكرمة قلت لابن عباس كيف ينزع الإيمان منه قال هكذا وشبك بين أصابعه ثم أخرجها فإن تاب عاد إليه هكذا وشبك بين أصابعه
فإذا اقترن بهذه الكبائر تلك المحبة في نفس صاحبها فإنها توجب حركتها وقوة إرادتها فيعطي من المال ما لم يكن يعطيه ويقدم على مخاوف لم يكن يقدم عليها ويحتال ويدبر ما لم يكن يحتاله ويدبره قبل ذلك ويصير والها من التفكر والنظر ما لم يكن قبل ذلك فلما رأوا ما فيه من هذه الأمور التي هي من جنس المحمودات حمدوه بذلك وهذا من جنس من حمد الخمر لما فيها من الشجاعة والكرم والسرور ونحو ذلك
وذلك أن هؤلاء كلهم لحظوا ما فيها من جنس المحبوب وأغفلوا ما تتضمنه من جنس المذموم فإن الذي يورثه العشق من نقص العقل والعلم وفساد الخلق والدين والاشتغال عن مصالح الدين والدنيا أضعاف ما يتضمنه من جنس المحمود
وأصدق شاهد على ذلك ما يعرف من أحوال الأمم وسماع أخبار الناس في ذلك فهو يغني عن معاينة ذلك وتجريبه ومن جرب ذلك أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية فلم يوجد قط عشق إلا وضرره أعظم من منفعته
ولهذا قال أبو القاسم القشيري في رسالته ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث ومن ابتلاه الله بشئ من ذلك فبإجماع الشيوخ هذا عبد أهانه الله وخذله بل عن نفسه شغله ولو لألف الف كرامة أهله وهب أنه بلغ رتبة الشهداء لما في الخبر من التلويح بذلك أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق وأصعب من ذلك تهوين ذلك على القلب حتى يعد ذلك يسيرا وقد قال تعالى وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم سورة النور 15
وهذا الواسطي رحمه الله يقول إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف
وقال سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول سمعت محمد بن أحمد النجار يقول سمعت أبا عبد الله الحصري يقول سمعت فتحا الموصلي يقول صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدون من الابدال فكلهم أوصوني عند فراقي إياهم وقالوا لي اتق معاشرة الاحداث ومخالطتهم
ومن ارتقى في هذا الباب عن حال الفسق وأشار إلى أن ذلك من بلايا الأرواح وأنه لا يضر فما قالوه من وساوس القائلين بالسماع وإيراد حكايات عن بعض الشيوخ كان الأولى بهم إسبال الستر على هناتهم وآفاتهم فذلك نظير الشرك وقرين الكفر
فليحذر المريد من مجالسة الأحداث ومخالطتهم فإن اليسير منه فتح باب الخذلان وبدء حال الهجران ونعوذ بالله من قضاء السوء
وهنا أصل عظيم نافع يجب اعتباره وهو ان الأمور المذمومة في الشريعة كما ذكرناه هو ما ترجح فساده على صلاحه كما أن الأمور المحمودة ما ترجح صلاحه على فساده فالحسنات تغلب فيها المصالح والسيئات تغلب فيها المفاسد والحسنات درجات بعضها فوق بعض والسيئات بعضها أكبر من بعض فكما أن أهل الحسنات ينقسمون إلى الأبرار المقتصدين والسابقين المقربين فأهل السيئات ينقسمون إلى الفجار الظالمين والكفار المكذبين وكل من هؤلاء هم درجات عند الله
ومن المعلوم أن الحسنات كلما كانت أعظم كان صاحبها أفضل فإذا انتقل الرجل من حسنة إلى أحسن منها كان في مزيد التقريب وإن انتقل إلى ما هو دونها كان في التأخر والرجوع وكذلك السيئات كلما كانت أعظم كان صاحبها أولى بالغضب واللعنة والعقاب
وقد وقال تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير اولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأمولهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة سورة النساء 95
وقال أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام إلى قوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون سورة التوبة 19 20
وقال لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل سورة الحديد 10
وقال يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات سورة المجادلة 11
وكذلك قال في السيئات إنما النسئ زيادة في الكفر سورة التوبة 37
وقال زدناهم عذابا فوق العذاب سورة النحل 88
وقال وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم سورة التوبة 125
وقال في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا سورة البقرة 10
وقال وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا سورة الإسراء 82
ومعلوم أن التوبة هي جماع الرجوع من السيئات إلى الحسنات ولهذا لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة والردة هي جماع الرجوع من الحسنات إلى السيئات ولهذا لا يحبط جميع الحسنات إلا الردة عن الإيمان
وكذلك ما ذكرناه في تفاوت السيئات هو في الكفر والفسق والعصيان فالكفار بعضهم دون بعض ولهذا يذكر الفقهاء في باب الردة والإسلام انتقال الرجل كأحد الزوجين من دين إلى دين آخر انتقال إلى دين خير من دينه أو دون دينه أو مثل دينه فيقولون إذا صار الكتابي مجوسيا أو مشركا فقد انتقل إلى شر من دينه وإذا صار المشرك أو المجوسي كتابيا فقد انتقل إلى خير من دينه وإذا تهود النصراني أو بالعكس فقد انتقل إلى نظير دينه والتمجس يقر عليه بالاتفاق وأما الإشراك فلا يقر عليه إلا بعض الناس عند بعض العلماء والصابئة نوعان عند المحققين وعلى قولين عند آخرين ومعرفة مراتب الأديان محتاج إليها في مواضع كثيرة لمعرفة مراتب الحسنات
والفقهاء يذكرون ذلك لأجل معرفة أحكامهم وتناكحهم وذبائحهم وفي دمائهم و قتالهم وإقرارهم بالجزية المضروبة عليهم ونحو ذلك من الأحكام التي جاء بها الكتاب والسنة في أهل الملل والأحزاب الذين قال الله فيهم ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده سورة هود 17
وقد قال الله تعالى لنبيه فلذلك فآدع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم سورة الشورى 15
والعدل وضع كل شئ في موضعه كما أن الظلم وضع الشئ في غير موضعه
ولهذا لما اقتتلت فارس المجوس والروم النصارى وكان النبي ﷺ بمكة إذ ذاك وهو في طائفة قليلة ممن آمن به كان هو وأصحابه يحبون أن تغلب الروم لأنهم أهل كتاب وكان المشركون يحبون أن تغلب فارس لأنهم من جنسهم ليسوا أهل كتاب فأنزل الله في ذلك آلم غلبت الروم في أدنى الأرض سورة الروم 12 والقصة مشهورة في كتب الحديث والتفسير والمغازي
وإذا كان كذلك فقد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة فينتقل إلى ما هو أقل منها شرا وأقرب إلى الخير فيكون حمد تلك الطريقة ومدحها لكونها طريقة الخير الممدوحة مثال ذلك أن الظلم كله حرام مذموم فأعلاه الشرك فإن الشرك لظلم عظيم والله لا يغفر أن يشرك به وأوسطه ظلم العباد بالبغي والعدوان وأدناه ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله فإذا كان الرجل مشركا كافرا فأسلم باطنا وظاهرا بحيث صار مؤمنا وهو مع إسلامه يظلم الناس ويظلم نفسه فهو خير من أن يبقى على كفره ولو كان تاركا لذلك الظلم
واما إذا أسلم فقط وهو منافق في الباطن فهذا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار وأما في الدنيا فقد يكون أضر على المسلمين منه لو بقى على كفره وقد لا يكون كذلك فإن إضرار المنافقين بالمؤمنين يختلف بآختلاف الأحوال
لكن إذا أسلم نفاقا فقد يرجى له حسن الإسلام فيصير مؤمنا كمن أسلم تحت السيف وكذلك من أسلم لرغبة أو لرهبة أو نحو ذلك فالإسلام والإيمان أصل كل خير وجماعة
وكذلك من كان ظالما للناس في نفوسهم واموالهم وأعراضهم فانتقل عن ذلك الى ما يظلم به نفسه خاصة من خمر وزنا فهذا أخف لأثمة وأقل لعذابه
وهكذا النحل التي فيها بدعة قد يكون الرجل رافضيا فيصير زيديا فلذلك خير له وقد يكون جهميا غير قدري أو قدريا غير جهمي أو يكون من الجهمية الكبار فيتجهم في بعض الصفات دون بعض ونحو ذلك
فهؤلاء المتفسلفة ونحوهم ممن مدح العشق والغناء ونحو ذلك وجعلوه مما يستعينون به على رياضة أنفسهم وتهذيبها وصلاحها من هذا الباب فإن هؤلاء في طريقهم من الشرك والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال فإن المتفلسفة قد يعبدون الأوثان والشمس والقمر ونحو ذلك فإذا صار أحدهم يروض نفسه بالعشق لعبادة الله وحده أو رياضة مطلقة لا يعبد فيها غير الله كان ذلك خيرا له من أن يعبد غير الله
وكذلك الاتحادية الذين يجعلون الله هو الوجود المطلق أو يقولون إنه يحل في الصور الجميلة متى تاب الرجل منهم من هذا وصار يسكن نفسه بعشق بعض الصور وهو لا يعبد إلا الله وحده كانت هذه الحال خيرا من تلك الحال
فهذه الذنوب مع صحة التوحيد خير من فساد التوحيد مع عدم هذه الذنوب ولهذا نجد الناس يفضلون من كان من الملوك ونحوهم إنما يظلم نفسه بشرب الخمر والزنا أو الفواحش ويتجنب ظلم الرعية ويتحرى العدل فيهم على من كان يتجنب الفواحش والخمر والزنا وينتصب لظلم الناس في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم
وهؤلاء الظالمون قد يجعلون الظلم دينا يتقربون به بجهلهم كما أن أولئك الظالمين لأنفسهم قد يجعلون ذلك بجهلهم دينا يتقربون به فالشيطان قد زين لكثير من هؤلاء وهؤلاء سوء عملهم فرأوه حسنا
لكن كثير من الناس يجمعون بين هذا وهذا فإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها والحسنات والسيئات قد تتلازم ويدعو بعضها إلى بعض كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا
فالصدق مفتاح كل خير كما ان الكذب مفتاح كل شر ولهذا يقولون عن بعض المشايخ إنه قال لبعض من استتابه من أصحابه أنا لا أوصيك إلا بالصدق فتأملوا فوجدوا الصدق يدعوه إلى كل خير
ولهذا فرق الله سبحانه بين أهل السعادة وأهل الشقاوة بذلك فقال فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 32 35
وترتيب الكبائر ثابت في الكتاب والسنة كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قلت يا رسول أي الذنب أعظم قال أن تجعل الله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني بحليلة جارك وتصديق ذلك في كتاب الله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله بالحق ولا يزنون الفرقان 68
ولهذا قال الفقهاء أكبر الكبائر الكفر ثم قتل النفس بغير حق ثم الزنا لكن النبي ﷺ ذكر لابن مسعود من جنس أعلى فأعلى الكفر هو أن تجعل الله ندا بخلاف الكتابي الذي ليس بمشرك فإنه دون ذلك وأعظم القتل ولدك وأعظم الزنا الزنا بحليلة الجار
وهذا كما ذكرنا أن الظلم ثلاث مراتب الشرك ثم الظلم للخلق ثم ظلم النفس فالقتل من ظلم الخلق فإذا كان قتلا للولد الذي هو بعضه منك كان فيه الظلمان والزنا هو من ظلم النفس لكن إذا كان بحليلة الجار صار فيه الظلمان أيضا لكن المغلب في القتل ظلم الغير والظلم في الزنا ظلم النفس
ولهذا كان القود حقا للآدمي إن شاء استوفاه وإن شاء عفا عنه وكان حد الزنا حدا لله ليس لآدمي فيه حق معين لكن قد يقترن ببعض انواع الزنا ويقتضي أمورا تضر الناس يكون بها أعظم من قتل لا يضر به إلا المقتول فقط
وأيضا فقتل النفس يدخل فيه من التأويل ما ليس يدخل في الزنا فإن حلاله بين من حرامه بخلاف القتل فإن فيه ما يظهر تحريمه وفيه ما يظهر وجوبه أو استحبابه أو حله وفيه ما يشتبه ولهذا جعل الله فيه شيئا ولم يجعل ذلك في الزنا بقوله ولا يقتلون النفس الآية سورة الفرقان 68
في الغيرة وانواعها وما فيها من محمود ومذموم
في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال ما احد اغير من الله من اجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما احد احب اليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه
وفي رواية لمسلم وليس احد احب اليه العذر من الله من اجل ذلك انزل الكتاب وارسل الرسل جمع النبي ﷺ في هذا الحديث بين وصفة سبحانه بأكمل المحبة للممادح واكمل البغض للمحارم
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لأضربنه بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال تعجبون من غيرة سعد والله لأنا اغير منه والله اغير منى ومن اجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها
وما بطن ولا احد احب اليه العذر من الله من اجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا احد احب اليه المدحة من الله من اجل ذلك وعد الله الجنة
وقال البخاري وقال عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك لا شخص اغير من الله وترجم البخاري على ذلك باب
وفي الصحيح عن ابي هريرة عن النبي ﷺ انه قال ان الله يغار وغيره الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه
وفي الصحيح عن اسماء انها سمعت رسول الله ﷺ يقول لا شيء اغير من الله
وفي الصحيحين عن عائشة ان النبي ﷺ قال يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته
وفي السنن عن النبي ﷺ انه قال ان من الغيرة ما يحبها الله ومن الغيرة ما يكرهها فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة وان من الخيلاء ما يحبها الله ومن الخيلاء ما يبغضها الله فالخيلاء التي يحبها اختيال الرجل نفسه عند الحرب وعند الصدقة والخيلاء التي يبغضها الله اختيال الرجل في البغي والفخر
وقد ثبت في الصحاح ان النبي ﷺ قال لعمر دخلت الجنة فرأيت امرأة تتوضأ الى جانب قصر فقلت لمن هذا فقالوا لعمر بن الخطاب فأردت ان ادخله فذكرت غيرتك فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله بأبي وامي او عليك اغار
وكذلك في الصحيحين حديث اسماء لما كانت تنقل النوى للزبير قالت فلقيت رسول الله ﷺ ومعه نفر من الانصار فدعاني ثم قال إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت ان اسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان اغير الناس فعرف رسول الله ﷺ اني قد استحييت فمضى فجئت الزبير فقلت لقيني رسول الله ﷺ وعلى رأسي النوى ومعه نفر من اصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وذكرت غيرتك فقال والله لحملك النوى كان اشد على من ركوبك معه قالت حتى ارسل الى ابي ابو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما اعتقني
فقد اخبر النبي ﷺ لا احد اغير من الله وقال غيرة الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وهذا يعم جميع المحرمات
وقال ومن اجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فهذا تخصيص لغيرته من الفواحش وكذلك في حديث عائشة لا احد اغير من الله ان يزني عبده او تزني امته فهذه الغيرة من الفواحش
وكذلك عامة ما يطلق من الغيرة انما هو من جنس الفواحش وبين النبي ﷺ انه اغير من غيره من المؤمنين وان المؤمن يغار والله يحب الغيرة وذلك في الريبة ومن لا يغار فهو ديوث وقد جاء في الحديث لا يدخل الجنة ديوث
فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى وهذه الغيرة هي ان تنتهك محارم الله وهي ان تؤتى الفواحش الباطنة والظاهرة لكن غيرة العبد الخاصة هي من ان يشركه الغير في اهله فغيرته من فاحشة اهله ليست كغيرته من زنا الغير لأن هذا يتعلق به وذاك لا يتعلق به الا من جهة بغضه لمبغضة الله
ولهذا كانت الغيرة الواجبة عليه هي في غيرته على اهله واعظم ذلك امرأته ثم اقاربه ومن هو تحت طاعته ولهذا كان له اذا زنت ان يلاعنها لما عليه في ذلك من الضرر بخلاف ما اذا زنا غير امرأته ولهذا يحد قاذف المرأة التي لم يكمل عقلها ودينها اذا كان زوجها محصنا في احد القولين وهو احدى الروايتين عن احمد
فالغيرة الواجبة ما يتضمنه النهي عن المخزي والغيرة المستحبة ما اوجبت المستحب من الصيانة واما الغيرة في غير ريبة وهي الغيرة في مباح لا ريبة فيه فهي مما لا يحبه الله بل ينهى عنه اذا كان فيه ترك ما امر الله ولهذا قال النبي ﷺ لا تمنعوا اماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن
واما غيرة النساء بعضهن من بعض فتلك ليس مأمورا بها لكنها من امور الطباع كالحزن على المصائب وفي الصحيحين عن النبي ﷺ انه قال كلوا غارت امكم لما كسرت القصعة وقالت عائشة او لا يغار مثلى على مثلك وقالت ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة
وعن فاطمة انها قالت للنبي ﷺ ان الناس يقولون انك لا تغار لبناتك لما اراد على ان يتزوج بنت ابي جهل وخطب النبي ﷺ وذكر صهرا له من ابي العاص وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفاني وقال ان بني العاص استأذنوني في ان يزوجوا بنتهم عليا واني لا آذن ثم لا آذن الا ان يريد ابن ابي طالب ان يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل ابدا
فهذه الغيرة التي جاءت بها سنة رسول الله ﷺ وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه وغيرته ان يزني عبده او تزني امته وغيرة المؤمن ان يفعل ذلك عموما وخصوصا في حقه والغيرة التي يحبها الله الغيرة في ريبة والغيرة التي يبغضها الله الغيرة التي في غير ربية وهنا انقسم بنو آدم اربعة اقسام
قوم لا يغارون على حرمات الله بحال ولا على حرمها مثل الديوث والقواد وغير ذلك ومثل اهل الاباحة الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ومنهم من يجعل ذلك سوكا وطريقا واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء سورة الاعراف 28
وقوم يغارون على ما حرمه الله وعلى ما امر به مما هو من نوع الحب والكره يجعلون ذلك غيرة فيكره احدهم من غيره امورا يحبها الله ورسوله ومنهم من جعل ذلك طريقا ودينا ويجعلون الحسد والصد عن سبيل الله وبغض ما احبه الله ورسوله غيرة
وقوم يغارون على ما امر الله به دون ما حرمه فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها بل يبغضون الصلوات والعبادات كما قال تعالى فيهم فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا سورة مريم 59
وقوم يغارون مما يكرهه الله ويحبون ما يحبه الله هؤلا هم اهل الايمان
فصل
ومن اسباب ذلك ما وقع من الاشراك في لفظ الغيرة في كلام المشايخ اهل الطريق فإنهم تكلموا فيها بمعاني بعضها موافق لعرف الشارع وبعضها ليس كذلك وبضعهم حمد منها ما حمده الشارع وبعضهم حمد منها ما لم يحمده الشارع بل ذمه
وقد تقدم ان الغيرة التي وصف الله بها نفسه اما خاصة وهو ان يأتي المؤمن ما حرم عليه واما عامة وهي غيرته من الفواحش ما ظهر منها وما بطن
واما الغيرة في اصطلاح طائفة من اهل الطريق فقال ابو القاسم القشيري الغيرة كراهة مشاركة الغير واذا وصف الحق بالغيرة فمعناه انه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له تعالى من طاعة عبده له
فقوله الغيرة كراهة مشاركة الغير اشار بلفظ الغير الى اشتقاق لفظ الغيرة وهذا اقرب فإن الغيرة اما من تغير الغائر واما من مزاحمه الغير
لكن قوله كراهة مشاركة الغير هو اصطلاح خاص ليس بمطابق لاصطلاح الشارع بل هو اعم منه من وجه واخص منه من وجه
اما كونه اعم فإنه يدخل فيه مشاركة الغير المباحة كالمشاركة في الاموال والعبادات والطاعات وهذه ليست غيرة مأمورا بها بل بعضها محرم وهو حسد ويدخل فيها المشاركة في البضع والغيرة على ذلك غيرة مشروعة
وأما كونه اخص فانه يخرج منه الغيرة التي لا يشاركه فيها مثل غيرة المؤمن ان يزني اقاربه او غيرته ان تنتهك محارم الله فإن الله يغار من ذلك والمؤمن موافق لربه فيحب ما احب ويكره ما كره ولهذا وصف غيرة الله بما يوافق اصطلاحة فقال غيرة الله انه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له من طاعة عبده وهذه الغيرة اعم مما ذكره النبي ﷺ من وجه وابعد عن مقصود الغيرة التي ذكرها النبي ﷺ من غيرة الحق سبحانه فقد فسر غيرته ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وبأن يزني عبده او تزني امته وقال من اجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فجعل الغبرة مطلقة متعلقة بفعل المحرمات وجعل عظمها وسلطانها في اتيان الفواحش ما ظهر منها وما بطن
ومن جعلها لنفي المشاركة في حقه كان دخول الشرك في الله في باب الغيرة عنده اولى من دخول الفواحش وكان استعمال لفظ الغيرة في الشرك اولى من استعمال لفظ الغيرة في الزنا
وايضا اذا جعلناها لنفي المشاركة فيما هو حق له من طاعة عبده فقد يدخل في ذلك ما يفعله العبد من المباحات على غير وجه التقرب فان هذا لم يفعله لله ومع هذا فليس من غيرة الله التي وصف الرسول بها ربه
وايضا فالمشاركة فيما هو حق له فد لا يدخل فيه فعل الفواحش والمحرمات اذا لم يقصد العبد بها طاعة غيره وان كان مطيعا فيها للشيطان وانما يدخل فيه ما فعله من الطاعات لله ولغيره برا ونحوه ومع هذا فقد يقال بل كل ما كان من ترك واجب او فعل محرم ففيه مشاركة الغير معه ما يستحقه من طاعة عبده
وعلى هذا فيدخل كل ذنب فيما يغار الله منه سواء كان ترك واجب ما او فعل محرم
وهذا المعنى حسن موافق للشريعة فإن الله يبغض ذلك ويمقته فيكون لفظ الغيرة مرادافا للفظ البغض والمقت والسخط لكن هو اعم مما يظهر في عرف الشارع حيث جعل غيرته ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وجعل غيرته ان يزني عبده او تزني امته ومن غيرته ان حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن
وهذه الغيرة اخص من مطلق البغض الا ان يقال ترك للشريعة واما تسميته غيرة فهو امر اصطلاحي والنزاع فيه لفظي ثم انه ذكر عن بعض المشايخ مذهبين في الغيرة احدهما يتضمن الغيرة مما لا يغار الله منه بل يحبه والثاني يتضمن ترك الغيرة مما يغار الله منه ويحب الغيرة منه ويأمر ذلك
وكلاهما مذهب مذموم متضمن اما لترك مأمور يحبه الله او لفعل مكروه يكرهه الله
وذكر من كلامه وكلام المشايخ ما هو حسن مقبول فاشتمل كلامه في الغيرة على الاقسام الثلاثة فالاول من الغيرة كراهة توبة العاصين وعبادة المقصرين كما ذكر عن الشبلى انه سئل متى يستريح قال اذا لم ار له ذاكرا
وقال حكى ان الشبلي مات ابن له كان اسمه ابو الحسن فحزنت امه عليه وقطعت شعرها ودخل الشبلي الحمام وتنور بلحيته فكل من اتاه معزيا له قال ايش هذا يا ابا بكر فكان يقول موافقة لأهلي فقال له بعضهم اخبرني يا ابا بكر لم فعلت هذا قال علمت انهم يعزونني على الغفلة ويقولون آجرك الله تعالى ففديت ذكرهم لله تعالى على الغفلة بلحيتي قال واذن الشبلي مرة فلما انتهى الى الشهادتين قال لولا انك امرتني ما ذكرت معك غيرك قال وسمع النورى رجلا يؤذن فقال طعنة وسم الموت وسمع كلبا ينبح فقال لبيك وسعديك فقيل له ان هذا ترك للدين فإنه يقول للمؤذن في تشهده طعنة وسم الموت ويلبي عند نباح الكلاب فسئل عن ذلك فقال اما المؤذن فانه يذكره على رأس الغفلة واما الكلب فإن الله يقول وان من شيء الا يسبح بحمده سورة الاسراء 44
ومثل هذا الكلمات والحكايات لا تصلح ان تذكر للاقتداء او سلوك سبيل وطريقة لما فيها من مخالفة امر الله ورسوله والذي يصدر عنه امثال هذه الامور ان كان معذورا بقصور في اجتهاده او غيبة في عقله فليس من اتبعه بمعذور مع وضوح الحق والسبيل وان كانت سيئتة مغفورة لما اقترن بها من حسن قصد وعمل صالح فيجب بيان المحمود والمذموم لئلا يكون لبسا للحق بالباطل
وابو الحسين النوري وابو بكر الشبلي رحمة الله عليهما كانا معروفين بتغيير العقل في بعض الاوقات حتى ذهب الشبلي الى المارستان مرتين والنوري رحمه الله كان فيه وله وقد مات بأجمة قصب لما غلبه الوجد حتى ازال عقله ومن هذه حاله لا يصلح ان يتبع في حال لا يوافق امر الله ورسوله وان كان صاحبها معذورا او مغفورا له وان كان له من الايمان والصلاح والصدق والمقامات المحمودة ما هو من اعظم الامور فليس هو في ذلك بأعظم من السابقين الاولين من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان فانهم يتبعون في طاعة ولا يذكرون الا بالجميل الحسن وما صدر منهم من ذنب او تأويل وليس هو مما امر الله به ورسوله لا يتبعون فيه فهذا اصل يحب اتباعه
فحلق اللحيه منهى عنه ومثلة كرهها الله ورسوله والمعزي او المؤذن وان لم يكن معه كمال الحضور فلا يجوز سبه وذمه على ما اظهره من ذكر الله بل يؤمر بما يكمل ذلك من حقائق القلوب المحمودة وان كان ذاكرا لله بلسانه فأعظم المراتب ذكر الله بالقلب واللسان ثم ذكر الله بالقلب ثم ذكر الله باللسان
وقد روي ان الملائكة حضرت محتضرا لم تجد له حسنة الا ان لسانه يتحرك بذكر الله فكان ذلك مما رحمه الله به
وقد قال رجل للنبي ﷺ اوصني فان شرائع الاسلام قد كثرت على فقال لا يزال لسانك رطبا بذكر الله
وقال الله تعالى انا مع عبدي ما ذكرني والذكر يكون بلسان الانسان ولكن يكون لقلبه من ذلك نصيب اذ الاعضاء لا تتحرك الا بارادة القلب لكن قد تكون الغفلة غالبة عليه وذلك الكلام خير من العدم والله يحبه ويأمر به
وكان النبي ﷺ وسلم اذا سمع المؤذن لا يغزو الا اغار وكثير من المؤذنين لا يكون كامل الحضور بل المنافقون الذين يظهرون الايمان بألسنتهم دون قلوبهم يقرون على ذلك في الظاهر بأمر الله ورسوله فكيف بالمؤمن
وفي الصحيحين عن ابي هريرة عن النبي ﷺ انه قال اذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فانها رأت شيطانا واذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله فإنها رأت ملكا
وفي سنن ابي داود عن جابر قال قال رسول الله ﷺ اذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتوذوا بالله منهن فإنهن يرين ما لا ترون
وثبت في الصحيحين عنه من حديث ابي هريرة انه قال اذا اذن المؤذن ادبر الشيطان وله ضراط لا يسمع التأذين فإذا قصى التأذين اقبل فاذا ثوب بالصلاة ادبر فإذا قضى التثويب اقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل لم يدر كم صلى
فإذا كان التأذين يطرد الشيطان ونباح الكلاب يكون عن رؤية الشياطين كيف يصلح ان يقال لهذا طعنة وسم الموت لأجل تقصير هذا بغفلة في قلبه ولهذا لبيك وسعديك لكون الكلب يسبح بحمده فإن هذه حجة فاسدة
اما ذلك الغافل فإن اجره ينقص بغفلته كما روى ابو داود في السنن عن عمار عن النبي ﷺ انه قال ان العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها الا نصفها الا ثلثها الا ربعها الا خمسها الا سدسها حتى قال الا عشرها
فلا ريب ان الاجر ينقص بالغفلة لكن استحقاق العقوبة نوع آخر واذا استحق العقوبة لم يجز ان تكون عقوبته مقابلة لما اظهره من الحسنة
واما نباح الكلب ان كان تسبيحا فصوت المؤذن اولى ان يكون تسبيحا فبكل حال لا يكون نباح الكلاب الذي يقترن به الشيطان ادنى من ذلك من صوت المؤذن الذي هو سبب لهروب الشياطين فإن ذلك ان كان لدلالته على الربوبية فصوت المؤذن اكمل وان كان لعبادته بما يستحقه الرب من الالهية فصوت المؤذن اعظم عبادة لله من نباح الكلب
فتسبيح كل شيء بحمده يدخل فيه المؤذن بكل حال اعظم مما يدخل فيه الكلب فكيف يدخل الكلب النابح ويخرج المؤذن لنوع من الغفلة فهذا والكلب محرم اقتناؤه الا لضرورة من صيد او حرث او ماشية ومن اقتنى كلبا بغير هذه الثلاثة نقص كل يوم من عمله قيراط وتلبية الكلب في نباحه امر منكر لا وجه له اصلا فلا يتبع احد في ذلك وان كان معذورا او مغفورا له مشكورا على حسنات غير هذا
وكذلك الحكاية عن الشبلي انه لما انتهى الى الشهادتين قال لولا انك امرتني ما ذكرت معك غيرك فان ذكر هذا في باب الغيرة منكر من القول وزور لا يصلح الا ان نبين ان هذا من الغيرة التي يبغض الله صاحبها بل الغيرة من الشهادة لرسله بالرسالة من الكفر وشعبه وهل يكون موحدا شاهدا لله بالالهية الا من شهد لرسله بالرسالة وقد بينا في غير موضع من القواعد وغيرها ان كل من لم يشهد برسالة المرسلين فإنه لا يكون الا مشركا يجعل مع الله الها اخر وان التوحيد والنبوة متلازمان وكل من ذكر الله عنه في كتابه انه مشرك فهو مكذب للرسل ومن اخبر عنه انه مكذب للرسل فانه مشرك ولا تتم الشهادة لله بالالهية الا بالشهادة لعبده بالرسالة
كما جاء مرفوعا في قوله تعالى ورفعنا لك ذكرك سورة الانشراح 4 قال لا اذكر الا ذكرت معي ولا تتم لامتك خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا انك عبدي ورسولي
وكذلك الحكاية التي سمعتها من بعض الفقراء عن ابي الحسن الخزفاني انه قال لا اله الا الله من داخل القلب محمد رسول الله من القرط
قال ابو القاسم ومن ينظر الى ظاهر هذا اللفظ يتوهم انه استصغر الشرع ولا كما يخطر بالبال اذ الاخطار للأغيار بالإظافة الى قدر الحق متصاغرة في التحقيق
وهذه الحكاية ايضا من اقبح الكلام وافحشه وذكر هذا في باب الغيرة من انكر المنكر فإن هذا الكلام لا يقال انه استصغار للشرع بل هو من اكبر شعب النفاق واعظم اركان الكفر وصاحبه ان لم يغفر الله له لحسن قصده في تعظيم الرب كما غفر للذي قال اذا انا مت فاحرقوني واسحقوني وذروني في اليم فغفر له شكه في قدرته على اعادته لخشيتة منه ولم يتب من مثل هذا الكلام والا كان هذا الكلام موجبا لعظيم عقابه
وذلك ان الايمان بالرسل عليهم السلام ليس من باب ذكر الاغيار بل لا يتم التوحيد لله والشهادة له بالوحدانية والايمان به الا بالايمان بالرسالة فمن جعل الايمان بملائكة الله وكتبه ورسله مغايرا للإيمان به وجعل الاعراض عنه من باب الغيرة المعظمة عند المشايخ فقد ضل سعيه وهو يحسب انه يحسن صنعا ومن لم تكن الشهادة بالرسالة داخله في ضمن قلبه بالشهادة بالألوهية فليس بمؤمن
وفي مثل هذا جاء الحديث المتفق عليه في الصحيحين عن اسماء عن النبي ﷺ انه قال انه اوحى الي انكم تفتنون في قبوركم مثل وقريبا من فتنة الدجال يؤتى الرجل في قبره فيقال له ما علمك بهذا الرجل الذي بعث فيكم فأما المؤمن او الموقن فيقول هذا هو محمد عبد الله ورسوله جاء بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه واما المنافق او المرتاب فيقول آه آه لا ادري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته
ثم انك تجد هؤلاء الذين يغلون بزعمهم في التوحيد حتى يعرضون عن الكتاب والسنة ويستخفون بحرمتهما ويعظم احدهم شيخه ومتبوعه اكثر مما يعظم الرسول ﷺ وتحدهم يشركون بالله في استغاثتهم بغيره وخوفهم ورجائهم لغيره ومحبتهم لغيره فتجد فيهم من انواع الشرك الجلى والخفي التي نهى الله عنها ورسوله ما الله به عليم ومع هذا فيعرضون عما هو من تمام التوحيد زعما انهم يحققون التوحيد
واما اعتذار ابي القاسم عنه بأن الاخطار للاغيار بالإظافة الى قدر الحق متصاغرة فعذر باطل وذلك ان الشاهد للرسول بالرسالة لم يجعله ندا لله ولا شريكا له ولا ظهيرا حتى يفاضل بينهما
هذا الكلام يليق بمن يقول ان الله ثالث ثلاثة او يجعل الله شريكا وولدا او بمن يستغيث بمخلوق ويتوكل عليه او يعمل له او يشتغل به عن الله فيقال له فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا سورة مريم 65 ويقال له فاعبد الله مخلصا له الدين الا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه اولياء ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى ان الله يحكم بينهم يوم القيامة فيا هم فيه يختلفون سورة الزم 2 3 وقوله تعالى ام اتخذوا من دون الله شفعاء قل او لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جيمعا سورة الزمر 4443 الى امثال ذلك مما في كتاب الله من الآيات التي فيها تجريد التوحيد وتحقيقه وقطع ملاحظة الاغيار في العبادة والاستغاثة والدعاء والمسألة والتوكل والرجاء والخشية والتقوى والانابة ونحو ذلك مما هو من خصائص حق الربوبية التي لا تصلح لملك مقرب ولا نبي مرسل
فأما الايمان بالكتاب والرسول فهذا من تمام الايمان بالله وتوحيده لا يتم الا به وذكر الله بدون هذا غير نافع اصلا بل هو سعى ضال وعمل باطل لم يتنازع المسلمون في ان الرجل لو قال اشهد ان لا اله الا الله ولم يقر بان محمدا رسول الله انه لم يكن مؤمنا ولا مسلما ولا يستحق الا العذاب ولو شهد ان محمدا رسول الله لكان مؤمنا مسلما عند كثير من العلماء وبعضهم يفرق بين من كان معترفا بالتوحيد كاليهود ومن لم يكن معترفا به وبعضهم لا يجعله مسلما الا بالنطق بالشهادتين وهي ثلاثة اقوال معروفة في مذهب احمد وغيره
وهذا معنى ما يروي في بعض الآثار يا محمد تذكر ولا اذكر فأرضى واذكر ولا تذكر فاقبض يعني ذكره بالرسالة ومن ذكره بالرسالة فقد تضمن ذلك ذكر الله واما من ذكر الله ولم يذكره بالرسالة فإنه لا يكون مؤمنا وحيث جاء في الاحاديث يخرج من النار من قال لا اله الا الله واسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا اله الا الله مخلصا من قلبه ونحو ذلك فلأن ذلك مستلزم الايمان بالرسالة كما بيناه في غير هذا الموضع وانه لا تصح هذه الكلمة الا من المقرين بالرسالة وبما وقع فيه هؤلاء وامثالهم من ضعف الايمان بالكتاب والرسول وبعض انواع الضلالة والجهالة حتى في الشرك الذي زعموا انهم فروا منه فنسأل الله مقلب القلوب ان يثبت قلوبنا على دينه
وكذلك قول الشبلي لما سئل متى تستريح فقال اذا لم ار له ذاكرا وذكر هذا في الغيرة التي هي من طريق اولياء الله وعباده الصالحين من اعظم المنكرات ومن القول الذي يبغضه الله ورسوله واولياؤه من الاولين والآخرين ايغار المؤمن ان يذكر الله او يغار ان تنتهك محارم الله وليس لهذا القول وجه يحمد به واما قائله فلعله كان مسلوب العقل حين قال ذلك فقد كان كثيرا ما يزول عقله فان قصد به ان احدا لا يذكره كما يستحقه فالذي يستحقه هو العبادة التي هي حقه على عباده وهو لا يكلفهم اكثر من طاقتهم وهذا هو الذي يؤمرون به ويقبله الله منهم
وان قصد انهم يقصرون في الواجب فبعض الواجب خير من تركه كله وإن كان هذا لضيق في نفسه وحرج في فؤاده فهذا من الغيرة التى يبغضها الله ورسوله وهو شر من حسد ومما يشبه هذا ما ذكره له مرة بعد اصحابنا الفقراء وفيه خير ودين ومعرفة انه كان يصلي بالليل فقام آخر يصلي قال فأخذتني الغيرة فقلت له هذا حسد وضيق عطن وظلم ليس بغيره انما لغيره اذا انتهكت محارم الله والله تعالى واسع عليم يسع عباده الاولين والأخرين وهو يحب ذلك ويأمر به ويدعو اليه فكيف يبغض المؤمن ما يحبه
وهذا القدر واقع كثير من ارباب الاحوال حتى يقتل بعضهم بعضا ويعتدى بعضهم على بعض يؤذى بعضهم بعضا ويقولون هذا غيرة على الحق وانما هو تعدي لحدوده وظلم لعباده وصد عن سبيله وتمثيل فيه للحق تعالى بالمرأة او الامرد الذي يتغاير عليهم الفساق لضيق المحل غير الاشراك واصل ذلك من طلب الفساد والعلو في الارض وطلب الانفراد بالتأله لا لأجل الله لكن لاجل الاستعلاء في الارض فهو من الكبر والحسد من جنس ذنب ابليس وفرعون واخي ابن ادم لا من اعمال عوام الخلق فضلا عن مؤمنيهم فضلا عن اولياء الله المتقين
========
الاستقامة/12
ولهذا نجد امثال هؤلاء من اقل الناس غيرة اذا انتهكت محارم الله ويكون المؤمنون منهم في تعب والمشركون منهم في راحة ضد ما نعت الله به المؤمنين حيث قال اشداء على الكفار رحماء بينهم سورة الفتح 29 وقال اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين سورة المائدة 54 فشأنهم من جنس الخوارج الذين قال فيهم النبي ﷺ يقتلون اهل الاسلام ويدعون اهل الاوثان
واما المذهب الثاني فإنه قال ومن الناس من قال ان الغيرة من صفات اهل البدائة وان الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف بالاختيار وليس له فيما يجري في المملكة تحكم بل الحق سبحانه اولى بالاشياء فيما يقضى على ما يقضى
وقال سمعت الشيخ ابا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول سمعت ابا عثمان المغربي يقول الغيرة من عمل المريدين فأما اهل الحقائق فلا
قال سمعته يقول سمعت ابا نصر الاصبهاني يقول سمعت الشبلي يقول الغيرة غيرتان فغيرة البشرية على النفوس وغيرة الالهية على القلوب
قلت اما نفي الغيرة مطلقا وجعلها من عمل المريدين فهذا يضاهي قول من يشهد توحيد الربوبية وان الله خالق كل شيء وربه ومليكه لا يشهد توحيد الالهية وما يستحقه الرب من عبادته وطاعته وطاعة رسله فلا يفرق بين المؤمن والكافر والاعمى والبصير والظلمات والنور واهل الجنة واهل النار
وهذا من جنس قول المشركين الذين قالوا لو شاء الله ما اشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء سورة الانعام 148 فإن المشركين استدلوا بالقدر على نفي الامر والنهي والمحبوب والمكروه والطاعة والمعصية ومن سلك هذا المسلك فهو في نوع من الكفر البين
وقول القائل ان الموحد لا يتصف بالاختيار كلام مجمل فإن اراد به انه لا يختار بنفسه ولنفسه فقد احسن وان اراد به انه لا يختار ما اختاره الله وامر به واحبه ورضيه وامره هو ان يختاره ويريده ويحبه فهذا كفر وإلحاد بل المؤمن عليه ان يريد ويختار ويحب ويرضى ويطلب ويجتهد فيما امر الله به واحبه ورضيه واراده واختاره دينا وشرعا
وكذلك قوله ليس له فيما يجري في المملكة تحكم ان اراد به انه لا يعارض الله في امره ونهيه فهذا حسن وحق فإن عليه ان يرضى بما امر الله به ويسلم لله ومن ذلك التسليم لرسوله
كما قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما سورة النساء 65
وقال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم سورة الاحزاب 36
وقال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فاحبط اعمالهم سورة محمد 47
وقال تعالى ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما انزل اله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم اسرارهم سورة محمد 26
وقال تعالى واذا ما انزلت سورة فمنهم من يقول ايكم زادته هذه ايمانا فأما الذين امنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون واما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا الى رجسهم وماتوا وهو كافرون سورة التوبة 125 124 وامثال هذا كثير
وقال النبي ﷺ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في امره رواه ابو داود وغيره
وقوله الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف بالاختيار فالتوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه هو ان يعبد الله وحده لا شريك له فهو توحيد الالوهية وهو مستلزم لتوحيد الربوبية وهو ان يعبد الحق رب كل شيء فأما مجرد توحيد الربوبية وهو شهود ربوبية الحق لكل شيء فهذا التوحيد كان في المشركين كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون سورة يوسف 106
وكذلك ان اراد اعترافه بأنه لا حول ولا قوة الا بالله وشهوده لفقره وعبوديته وفقر سائر الكائنات وان الله هو رب كل شيء وعالم بكل شيء ومليكه لا يخلق ولا يرزق الا هو ولا يعطى ولا يمنع الا هو لا مانع لما اعطى ولا مطعي لما منع ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده سورة فاطر 2 قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله ان ارادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره او ارادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون سورة الزمر 38 وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم سورة يونس 107 يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد سورة فاطر 15
فإن اراد هذه المشهد فهذا ايضا من الايمان والدين فالاول الاقرار بالامر والنهي واتباع ذلك هو عبادته وهذا الاقرار بالقضاء والقدر وشهود الافتقار الى الله هو استعانته
ولهذا قال في الصلاة اياك نعبد واياك نستعين سورة الفاتحة 5 قال الله فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل وعلى
وعلى هذا يخرج قول ابي يزيد اريد الا اريد أي اريد الا اريد بنفسي ولنفسي بل لا أريد الا ما امرتني انت بإرادته واما عدم الإرادة مطلقا فمحال طبعا وطلبه محرم شرعا والمقر بذلك فاسد العقل والدين
والمريد لجميع الحوادث المأمور بها والمنهى عنها كافر بدين الله وما جاءت به رسله واما المريد لما امر ان يريده ويعمله والكاره لما نهى عنه فهذا هو المؤمن الموحد فإن اراد بقوله الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف بالاختيار انه لا يختار شيئا اصلا لا مما امر به ولا مما نهى عنه فهذا مع بطلانه في الواقع وفساده في العقل فهو من اعظم المروق من دين الله اذ عليه ان يريد كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه له ويحبه له ويستعين الله على هذه الارادة والعمل بها فإنه لا حول ولا قوة الا به
كما كان النبي ﷺ يقول يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك
واصل صلاح القلب صلاح ارادته ونيته فإن لم يصلح ذلك لم يصلح القلب والقلب هو المضغة التي اذا صلحت صلح لها سائر الجسد واذا فسدت فسد لها سائر الجسد
وكذلك قوله ليس له فيما يجري في المملكة تحكم ان اراد به انه لا يغار اذا انتهكت محارم الله ولا يغضب الله ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يجاهد في سبيل الله فهذا فاسق مارق بل كافر وان اظهر الاسلام فهو منافق وان كان له نصيب من الزهد والعبادة ما كان فيه
ومعلوم ان المؤمن لا يخلو من ذلك بالكلية ومن خلا من ذلك بالكلية فهو منافق محض وكافر صريح اذا المؤمن لا بد ان يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما ولا بد ان يتبرأ من الاشراك بالله واعداء الله كما قال تعالى لقد كان لكم اسوة حسنة في ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون نم دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده سورة الممتحنة 4
وقال عن ابراهيم عليه السلام افرأيتم ما كنتم تعبدون انتم واباؤكم الاقدمون فإنهم عدو لي الا رب العالمين سورة الشعراء 77
وقال تعالى واذ قال ابراهيم لابيه وقومه انني براء مما تعبدون الا الذي فطرني فإنه سيهدين سورة الزخرف 2627
وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه سورة المجادلة 22
وقال تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما انزل اليه ما اتخذوهم اولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون سورة المائدة 80 81
وقال لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم والكفار اولياء سورة المائدة 57
وقال لا تتولوا قوما غضب الله عليهم سورة الممتحنة 13 وهذا كثير جدا
وايضا فالقائل لذلك لا يثبت عليه بل لا بد ان يكره امورا كثيرة مضرة وكثيرا ما يعتدى في انكارها حتى يخرج عن العدل فهذا خروج عن العقل والدين وعن الانسانية بالكلية اذا اخذ على عمومه واما ان قبل ذلك في بعض الامور بحيث يترك الكراهة احيانا لما كرهه الله والغيرة احيانا اذا انتهكت محارم اله فهذا ناقص الايمان بحسب ذلك
بل قد ثبت في الصحيح عن ابي سعيد عن النبي ﷺ انه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان فإن لم يكن في القلب انكار ما يكرهه ويبغضه لم يكن فيه ايمان
وفي الصحيح عن النبي ﷺ انه قال من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة نفاق وتحقيق ذلك في قوله تعالى قل ان كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا الاية سورة التوبة 24
وقد ذكر الله في سورة براءة وغيره من صفة المنافقين ما فيه غبرة لهؤلاء ووصف المؤمنين والمؤمنات بقوله والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله اولئك سيرحمهم الله سورة التوبة 71
وكذلك قوله بل الحق اولى بالاشياء فيما يقضى على ما يقضى فيه تقصير في خلق الرب وامره فإن قوله اولى قد يفهم منه ان له شريكا بل لا خالق الا الله ولا رب غيره قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا تملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن اذن له الاية سورة سبأ 22 23
واما الامر فانه سبحانه امر العباد ونهاهم فعلى العبد ان يفعل ما امره به من الغيرة وغيرها فإذا كان قد امره بأن يغار لمحارمه اذا انتهكت وان ينكر المنكر بما يقدر عليه من يده ولسانه وقلبه فلم يفعل فإنما هو فاسق عن امر ربه لا تارك لمشاركته اذ سبيل له الى الشركة بحال وهو سبحانه لا اله الا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
فالاحتجاج بكونه اولى من العبد بخلقه على ترك ما امر به من محبوبة ومرضية وطاعته وعبادته في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه امران قبيحان توهم نوع مشاركة من العبد له اذا اطاعه وعبده واسقاط ما امر به واحبه من الغيرة
وهذا الكلام كأن قائله لم يغالب المقادير بنفسه لنفسه مثل الملوك المتغالبين والامم المتعادين من أهل الجاهلية الذين ليس فيهم من هو مطيع لله ورسوله بجهاده بل كلاهما متبع هواه خارج عن طاعة مولاه اذا اعرض المؤمن عنهم ولم يعاون واحدا منهما لا بباطنه ولا بظاهرة اذا كانا في معصية الله سواء فهو محسن في ذلك واما اذا كان الامر عبادة لربه وهو مستعين به فيه فكيف يكون الاعراض عن هذا الامر طريقة عباد الله الصالحين واولياء الله المتقين وهل الاعراض عن هذا الا من طريقة الجاهلين الظالمين الفاسقين عن امر رب العالمين
واما قول الشيخ ابي عثمان الغيرة من عمل المريدين فأما هل الحقائق فلا فلم يرد والله اعلم بذلك الغيرة على محارم الله وهي الغيرة الشرعية فإن قدر الشيخ ابى عثمان اجل من أن يجعل الغيرة التي وصف الله بها نفسه وكان رسوله فيها اكمل من غيره وهي مما اوجبه الله واحبه من عمل المريدين دون اهل الحقائق وانما يعني الغيرة الاصطلاحية التي يسميها هؤلاء المتأخرون غيرة كا قدمناه مثل الغيرة المتضمنة للمنافسة والحسد مثل ان يغار احدهم اذا رأى احدا سبقه الى الحق او نال منه نصيبا وافرا ونحو ذلك فإن هذا كثير جدا في السالكين فقال الشيخ ان هذه الغيرة تعرض للمريدين حيث لم يشهدوا الحقائق وان الله هو المعطي المانع فأما اهل الحقائق الذين يشهدون ان الله هو المعطى المانع وانه لا رب غيره فإنهم لا يغارون على ما وهبه الله عباده من هباته المستحبة او المباحة ولا يعتبون على الحوادث كما يفعله من يفعله من الناس في سبهم الدهر
كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر بيده الامر يقلب الليل والنهار
وقال يقول الله تعالى يؤذيني ابن ادم يسب الدهر وانا الدهر بيدي الامر اقلب الليل والنهار فهذا الذي فسر به الشيخ ابو عثمان هو فرقان
وكذلك ما ذكره الشبلي انه قال الغيرة غيرتان فغيرة البشرية على النفوس وغيرة الالهية على القلوب قال الشبلي غيرة الالهية على الانفاس ان تضيع فيما سوى الله اذا فسر بأن البشر يغارون على الحظوظ مما هو من جنس المنافسة والمحاسدة وليس هذا بمحمود
واما الغيرة الالهية على القلوب على ما يفوتها من محاب الحق ومراضيه فهذا كلام حسن من احسن كلام الشبلي رحمة الله عليه فإن كان هذا يغار على نفسه فلا كلام وان كان يغار من حال غيره ففيه شبه ما من قول النبي ﷺ لا حسد الا في اثنتين رجل اتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ورحل اتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق فإنه اخبر انه لا ينبغي لأحد الا يغبط احدا الا على هذا
وكذلك ما ذكره ابو القاسم القشيري بعد ذلك حيث قال والواجب ان يقال الغيرة غيرتان غيرة الحق على العبد وهو ان لا يجعله للخلق فيضن به عليهم وغيرة العبد للحق وهو ان لا يجعل شيئا من احواله وانفاسه لغير الحق فلا يقال انا اغار على الله ولكن يقال انا اغار لله فإن الغيرة على الله جهل وربما تؤدي الى ترك الدين والغيره لله توجب تعظيم حقوقه وتصفية الاعمال له
فهذا كلام جيد لكنه بالاصطلاح الحادث ليس هو بالاصطلاح القديم فإن النبي ﷺ قد بين ان غيرة الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وهذا يشترك فيه السابقون والمقتصدون وهم اولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ثم السابقون يجعل اعمالهم كلها لله فإنهم الذين لا يزالون يتقربون الى الله بالنوافل حتى يحبهم ومن احب الله وابغض لله واعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان فإذا صانهم عن العمل لغيره فصارت اعمالهم كلها لله تركوا المحارم واتوا بالواجبات والمستحبات
وقد شبه تنزيههم عن فضول المباح وعن فعل المكروهات وترك المستحبات غيرة من الحق عليهم فهذا امر اصطلاحى لكن المعنى صحيح موافق الكتاب والسنة
واما قوله غيرة العبد للحق ان لا يجعل شيئا من احواله وانفاسه لغير الحق فهذا غيرة على نفسه ان يكون شيء من عمله لغير الله
وهذا ايضا حال هؤلاء السابقين الاتين بالفرائض والنوافل المجتنبين للمحارم والمكاره قال الله تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات سورة فاطر 32
ولا ريب انه يدخل في هذا غيرته اذا انتهكت محارم الله فانه اذا لم يغر لله حينئذ مع امر الله له بالغيرة لم يكن عمله الذي اشتغل به عن هذا الحق لله وكان للشيطان
وكذلك قوله لا يقال اغار على الله ولكن يقال انا اغار لله كلام حسن جيد كما قال الغيرة على الله جهل وهي كما قدمناه حسد وكبر يسمونه غيره فيحب احدهم ان لا يشركه غيره في التقرب الى الله وابتغاء الوسيلة اليه ويريدون ان يسموا ذلك باسم حسن لئلا يذموا عليه ويسمونه غيرة لان من عادة البشر اذا احب احدهم انسانا محبة طبيعية سواء كانت محبتة محرمة كمحبة الأمور والمرأة الأجنبية أو غير محرمة كمحبة أم أنه ببشر يته يغار من ان يشاركه في ذلك احد فجعلوا محبتهم لله بمنزلة هذه المحبة وهذا من اعظم الجهل والظلم بل محبة الله من شأنها ان يحب العبد ان جميع المخلوقات يشركونه في ذلك
كما قال النبي ﷺ والذي نفس بيده لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه من الخير ما يحبه لنفسه
ومثل هذه الغيرة المذمومة ما ذكره طائفة من السلف قالوا لا تقبل شهادة القراء او قالوا الفقهاء بعضهم على بعض لأن بينهم حسد كحسد النفوس على زريبة الغنم ويقال فلان وفلان يتصاولان على الرياسة تصاول الفحلين فلا ريب ان فحول البهائم تتغاير وتتحاسد وتتصاول على اناثها يطلب كل منها من الاخر ان لا يزاحمه كما يتغاير الفحول الادميون على مناكحهم وهذا فيما امر الله به محرم
كما قال رسول الله ﷺ لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله اخوانا وكذلك شبه تغاير الضراير
لكن هنا قد يعترض امر فيه شبهة وهو ان يكون من المعارف والاحوال ما يقال فيه انه لا يصلح لبعض الناس فيغار احدهم ان تكون تلك الامور كذلك المنقوص الذي يصنع مثل ذلك ويصفون الله بالغيرةان يجعل هذا كهذا فهذا قد يكون حقا وان لم يسم في الشرع غيرة فان الله سبحانه يكره ويبغض ان يكون مع العبد ما يستعين به على معصية الله دون طاعته وان يكون ما جعله للمؤمنين مع الكفار والمنافقين وكذلك المؤمنون ينبغي ان يكرهوا ذلك فكل ما نهى الله عنه وامر المؤمنين بالمنع منه وازالته فهو يكرهه
وهذا كقوله تعالى سأصرف عن اياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق سورة الاعراف 146 قال طائفة من السلف امنع قلوبهم عن فهم القرآن
هذا ما ذكره عن السري انه قرئ بين يديه واذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا سورة الاسراء 45 فقال السري لاصحابه اتدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة ولا احد اغير من الله تعالى
فهذا يشبه قوله ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة سورة الانعام 110 وقوله فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم سورة الصف 5 فإن الله عاقب المعرض عن اتباع ما بعث به رسله بالحجاب الذي في قلوبهم فسمى السري هذا حجاب الغيرة لأنه تعالى يكره ويبغض ان يكون هؤلاء الذين كفروا وفسقوا عن امره يعطون ما يعطاه المؤمن من الفهم لسبب هذه الغيرة التي وصف الرسول بها ربه فان غيرته ان يأتي العبد ما حرم عليه ذكرها النبي ﷺ وهي غيرة على ما هو من افعال العبد التي نهى عنها واما هذه الغيرة فهي غيرة على ما هو من فعل الرب
والنبي ﷺ لم يصف الله بانه يغار على ما يقدر عليه من الافعال ولكن لما رأى السري ان الشيء المحبوب النفس تغار عليه ان يكون في غير محله سمى ذلك حجاب الغيرة والله يحب لعباده ان يفعلوه من جهة كونهم مأمورين به لكنه سبحانه لا يفعله بهم ولا يحب من يفعله بهم فلا بد من التفريق بين مواقع الامر والنهي ومواقع القضاء والقدر وان كانت الافعال الواقعة من العباد يشترك فيها الامر والنهي واما احوال القلب وانفاسه فإن الاحوال تحولات القلب والنفس والهوى الذي يحمل الصوت واحوال القلب فهما الطف ما في الايمان
قال ابو القاسم ربط الحق بأقدامهم الخذلان واختار لهم البعد واخرجهم عن محل القرب ولذلك يؤخروا وفي معناه انشدوا
انا اصب لن هويت ولكن ... ما احتيالي لسوء رأى الموالى
وقال وفي معناه قالوا سقيم لا يعاد ومريد لا يراد سمعت الاستاذ ابا علي يقول سمعت العباس المروزي يقول كان لي بداية حسنة فكنت اعرف كم بقي بيني وبين الوصول الى مقصودي من الظفر بمرادي فرأيت ليلة من الليالي في المنام كأنني اتدهده من حالق جبل فأردت الوصول الى ذروته قال فحزنت واخذني النوم فرأيت قائلا يقول يا عباس الحق لم يرد منك ان تصل الى ما كنت طلبت ولكنه فتح على لسانك الحكمة قال فأصبحت وقد الهمت كلمات الحكمة
وقال سمعت الاستاذ ابا علي يقول كان شيخ من الشيوخ له حال ووقت مع الله فخفى مدة لم ير بين الفقراء ثم ظهر بعد ذلك لا على ما كان عليه من الوقت فسئل عنه فقال واه وقع الحجاب
قال وكان الاستاذ ابو علي اذا وقع شيء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين يقول هذا من غيرة الحق يريد ان لا يجرس ما يجري من صفاء هذا الوقت وانشدوا في معناه ... همت بإتياننا حتى اذا نظرت ... الى المراة نهاها وجهها الحسن ... ما كان هذا جزائي من محاسنها ... عذبت بالهجر حتى شفني الحزن ...
قلت ذكر هذه الامور في باب الغيرة مضر ومع ان الحق يغار ان يعطي بعض الناس ما يعطيه لأوليائه المتقين من السابقين والمقربين فقد سموا منع الحق غيرة كما تقدم لكن هذا اللفظ يشعر بأن الحق منع ذلك العبد العطاء العظيم عنده وكون العبد ليس اهلا له كما يغار على الكريمة ان تتزوج بغير الكفء
وهذا المعنى صحيح كما قال تعالى واذا جاءتهم اية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتي الله الله اعلم حيث يجعل رسالته سورة الانعام 124
وكما قال تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا اهؤلاء من الله عليهم من بيننا اليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الانعام 52 53
وهذا المعنى اذا ذكر العبد وظلمه واقامة الحجة عليه او بيان حكمة الرب وعدله كان حسنا فإن الله سبحانه وتعالى يقول وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم سورة الشورى 30 وهو لا يمنع من ذلك ما يستحقه العبد اصلا ولا يمنع الثواب الا اذا منع سببه وهو العمل الصالح فأما مع وجود السبب وهو العمل الصالح فإنه من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 112
وهو سبحانه المعطي المانع لا مانع لما اعطى ولا معطي لما منع لكن من على الانسان بالايمان والعمل الصالح ثم لم يمنعه موجب ذلك اصلا بل يعطيه من الثواب والقرب مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وحيث منعه ذلك فلا يبقى سببه وهو العمل الصالح
ولا ريب انه يهدي من يشاء ويضل من يشاء لكن ذلك كله حكمة منه وعدل فمنعه للأسباب التي هي الاعمال الصالحة من حكمته وعدله واما المسببات بعد وجود اسبابها فلا يمنعها بحال الا اذا لم تكن اسبابا صالحة اما لفساد في العمل واما السبب يعارض موجبه ومقتضاه فيكون لعدم المقتضى او لوجود المانع واذا كان منعه وعقوبته من عدم الايمان والعمل الصالح ابتداء حكمة منه وعدل فله الحمد في الحالين وهو المحمود على كل حال كل عطاء منه فضل وكل عقوبة منه عدل
وهذا الموضع يغلط فيه كثير من الناس في تمثلهم بالاشعار وفي مواجيدهم فإنهم يتمثلون بما يكون بين المحب والمحبوب والسيد والعبد من العباد من صدق المحب والعبد في حبه واستفراغه وسعه وبحب المحبوب والسيد واعراضه وصده كالبيت الذي انشده حيث قال
انا صب بمن هويت ولكن ... ما احتيالي لسوء راى الموالي ...
وفي معناه قالوا سقيم لا يعاد ومريد لا يراد
وهذا التمثيل يشعر بأن العبد صادق الارادة تام السعي وانما الاعراض من المولى وهذا غلط بل كفر فإن الله يقول من تقرب الي شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب الى ذراعا تقربت اليه باعا ومن اتاني يمشي اتيته هروله وقد اخبر انه من جاء بالحسنة فله عشر امثالها وانه يضاعفها سبعمائة ضعف ويضاعفها اضعافا كثيرة واخبر انه من هم بحسنة كتبت له حسنة كاملة فإن عملها كتبت له عشر حسنات الى سبعمائة ضعف الى اضعاف كثيرة ومن هم بسيئة لم تكتب عليه فإن تركها لله كتبت له حسنة كاملة وان عملها لم تكتب عليه الا سيئة واحدة
وقال سبحانه والذين اهتدوا زادهم هدى واتاهم تقواهم سورة محمد 17
وقال ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 112
وقال من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه سورة الشورى 20 الى امثال ذلك
فكيف يظن او يقال ان العبد يتقرب اليه كما يتقرب العبد والمحب الصادق الى محبوبة وسيده وهو مع ذلك لا يقربه اليه ولا يتقرب منه بل يصده ويمنعه كما يفعل ذلك المخلوق اما لبخله واما لتضرره واما لغير ذلك
وقد ثبت عن النبي ﷺ في الصحاح انه قال لله اشد فرحا بتوبة عبده من احدكم يرى راحلته اذا وجدها عليها طعامه وشرابه لن يكون بتوبة التائب اعظم فرحا من الواجد لطعامه وشرابه ومركبه بعد الخوف المفضى الى الهلاك كيف يتمثل له بالتجنى والصد والاعراض وسوء رأى الموالي وبحق الله مما يفعله السادة بعبيدهم والمحبوب مع محبه وكيف يتمثل له بقولهم سقيم لا يعاد ومريد لا يراد وهل في الصادقين مع الله سقيم لا يعاد وهل اراد الله احد بصدق فلم يرده الله
وقد ثبت في صحيح مسلم ان الله يقول عبدي مرضت فلم تعدني قال رب كيف اعودك وانت رب العالمين فيقول ان عبدي فلانا مرض فلم تعده اما انك لوعدته لوجدتني عنده
والله قد اخبر انه من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه وقال ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأؤلئك كان سعيهم مشكورا سورة الاسراء 19
وفي الجملة فهذا الباب تكذيب بما وعده الله عباده الصالحين ونسبة الله الى ما نزه نفسه عنه من ظلم العباد بإضاعة اعمالهم الصالحة بغير ذنب لهم ولا عدوان وتمثيل لله بالسيد البخيل الظالم ونحوه واقامة لعذر النفس ونسبة لها الى اقامة الواجب ففيه من الكبر والدعوى ما فيه
والحق الذي لا ريب فيه ان ذلك جميعه لا يكون الا لتفريط العبد وعدوانه بأن لا يكون العمل الذي عمله صالحا او يكون له من السيئات ما يؤخر العبد وإنما العبد ظالم جاهل يعتقد انه قد اتى بما يستوجب كمال التقريب ولعل الذي اتى به انما يستوجب به اللعنة والغضب بمنزلة من معه نقد مغشوش جاء ليشتري متاعا رفيعا فلم يبيعوه فظن انهم ظلموه وهو الظالم وهو في ذلك شبيه بأحد ابني ادم اذ قربا قربانا فتقبل من احدهما ولم يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة 27
وعلى هذا الاصل تخرج حكاية عباس وامثالها فإنه لم يعين مطلوبه ومراده وما العمل الذي عمله فقد طلب امرا ولم يأت بعمله الذي يصلح له واما كون الحق لم يرد منه ان يصل الى مطلوبه فقد يكون لعدم استئهاله وقد يكون لتضرره لو حصل له وكم ممن يتشوق الى الدرجات العالية التي لا يقدر ان يقوم بحقوقها فيكون وصوله اليها وبالا في حقه
وهذا في امر الدنيا كما قال تعالى ومنهم من عاهد الله لئن اتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما اتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه سورة التوبة 75 77
وغالب من يتعرض للمحن والابتلاء ليرتفع بها ينخفص بها لعدم ثباته في المحن بخلاف من ابتلاه الحق ابتداء كما قال تعالى ولقد كنتم تمنون الموت من قبل ان تلقوه فقد رايتموه وانتم تنظرون سورة آل عمران 143
وقال يا ايها الذين امنوا لم تقولون مالا تفلعون كبر مقتا عند الله ان تقولوا مالا تفعلون سورة الصف 3
وقال النبي ﷺ يا عبد الرحمن لا تسأل الامارة فانك ان اعطيتها عن مسألة وكلت اليها وان اعطيتها عن غير مسألة اعنت عليها وقال اذا سمعتم بالطاعون ببلد فلا تقدموا عليه واذا وقع بأرض وانتم بها فلا تخرجوا فرارا منها
قال ابو القاسم واعلموا ان من سنة الحق مع اوليائه انهم اذا ساكنوا غيرا او لاحظوا شيئا او ضاجعوا بقلبوهم شيئا شوش عليهم ذلك فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه فارغة عما ساكنوه
وقال سمعت السلمى يقول سمعت ابا زيد المروزي الفقيه يقول سمعت ابراهيم بن سنان سمعت محمد بن حسان يقول بينما انا ادور في جبل لبنان اذ خرج علينا رجل شاب قد احرقته السموم والرياح فلما نظر الى ولى هاربا فتبعته وقلت له تعظنى بكلمة فقال احذروه فإنه غيور لا يحب ان يرى في قلب عبده سواه
وقال سمعت السلمى يقول سمعت النصراباذي يقول الحق غيور ومن غيرته انه لم يجعل اليه طريقا سواه
قلت هذه الغيرة تدخل في الغيرة التي وصفها النبي ﷺ اذ قال غيرة الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه واعظم الذنوب ان تجعل لله ندا وهو خلقك وتجعل معه الها اخر والشرك منه جليل ومنه دقيق فالمقتصدون قاموا بواجب التوحيد والسابقون المقربون قاموا بمستحبه مع واجبه ولا شيء احب الى الله من التوحيد ولا شيء ابغض اليه من الشرك ولهذا كان الشرك غير مغفور بل هو اعظم الظلم
وقد قال النبي ﷺ مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تارة تميلها وتعدلها اخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الارز لا تزال ثابته على اصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة
فالله تعالى يبتلى عبده المؤمن ليطهره من الذنوب والمعايب ومن رحمته بعبده المخلص ان يصرف عنه ما يغار عليه منه كما قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين سورة يوسف 24 وكما قال انه ليس له سلطان على الذين امنوا وعلى ربهم يتوكلون سورة النحل 99 فاذا صرف عنه ما يغار عليه منه كان ذلك من رحمته به واصطفائه اياه وان كان في ذلك مشقة عليه فهو تارة يمنعه مما يكرهه له وتارة ليطهره منه بالابتلاء فاذا كان يغار من ذلك فاذا فعل العبد ما يغار عليه فقد يعاقبه على ذلك بقدر ذنبه
كما قال ابو القاسم وحكى عن السري انه قال كنت اطلب رجلا صديقا مرة من الاوقات فمررت في بعض الجبال فإذا انا بجماعة زمنى ومرضى وعميان فسألت عن حالهم فقالوا ها هنا رجل يخرج في السنة مرة فيدعو لهم فيجدون الشفاء فصبرت حتى خرج ودعا لهم فوجدوا الشفاء فقفوت اثره وتعلقت به وقلت له بي علة باطنة فما دواؤها فقال يا سري خل عني فإنه غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه
وهذا من قوله تعالى لا تجعل مع الله الها اخر فتقعد مذموما مخذولا سورة الاسراء 22
وقوله فلا تدع مع الله الها اخر فتكون من المعذبين سورة الشعراء
وقوله ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير او تهوى به الريح في مكان سحيق سورة الحج 31
وقوله ولقد اوحى اليك والى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين سورة الزمر 65 66
وقوله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون سورة الانعام 88
وقوله فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين يوسف 42
واما مقام الرجل وامثاله في ذلك الزمان بجبل لبنان فان جبل لبنان ونحوه كان ثغرا للمسلمين لكونه بساحل البحر مجاورا للنصارى بمنزلة عسقلان والاسكندرية وغيرهما من الثغور وكان صالحو المسلمين يقيمون بالثغور للرباط في سبيل الله وما ورد من الاثار في فضل هذه البقاع فلفضل الرباط في سبيل الله واما بعد غلبة النصارى عليها والقرامطة والروافض فلم يبق فيها فضل وليس به في تلك الاوقات احد من الصالحين ولا يشرع في ديننا سكنى البوادي والجبال الا عند الفرار من الفتن اذ كان المقيم بالمصر يلجأ اليها عند الفتنة في دينه فيهاجر الى حيث لا يفتن فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه وقد بسطنا هذا في غير الموضع
قلت فقد ظهر انهم يعنون بغيرة الحق نحو ما وصف به الرسول ﷺ ان من غيرته على عبده ان يأتي محارمه فيدخلون في ذلك ما لا يحبه من فضول المباح وقد يعنون بها غيرته على مواجده وعطاياه التي لأوليائه ان يضعها في غير محلها فجعلوا الغيرة تارة في امره ونهيه وتارة في قضائه وقدره
واما الغيرة من اهل الطريق فقد يعني بها المعنى الشرعي وهو ان يغار المؤمن ان تنتهك محارم الله ويدخلون في ذلك اباء المقربين من غيرتهم ان يكون الشيء من امورهم لغير الله وذلك قد يعني بها ان يغار الانسان على محاب الحق ومرضاته ان تكون في غير محلها وهذا قريب
وقد يعني بها ان يغار الانسان ان يشاركه غيره في طريق الحق ومواهبه ويكون هذا حسدا واستكبارا وشبها بغيرة الضرائر على الرجل او غيره الفحول على الانثى
وقد يعني بها ان يغار على الحق ان يذكره احد او ان يعرفه احد او ان ينظر اليه احد كما يغار الانسان على محبوبه العزيز عنده
كما تقدم عن الشبلي وكما حكاه عن بعضهم قال قيل لبعضهم اتريد ان تراه فقال لا قيل ولم قال انزه وذلك الجمال عن نظر مثلى
قال وفي المعنى انشدوا
اني لأحسد ناظري عليكا ... حتى اغض اذا نظرت اليكا ...
واراك تخطر في شمائلك التي ... هي فتنتي فأغار منك عليكا ...
وكما ذكر في باب المحبة فقال سمعت الشيخ ابا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت الشبلي يقول المحبة ان تغار على المحبوب ان يحبه مثلك
وهذا ايضا وجه فاسد جدا وهو جهل بالله وبما يستحقه وتشبيه له بالمحبوب من البشر وظن من هذا القائل انه اذا رأى الله حصل بذلك نقص في حق الله او ضرر عليه فان الانسان انما يغار على محبوبه مما فيه عليه ضرر او علي المحب فيه ضرر فيغار من الشركة لما فيه من الضرر وقد يغار عليه من نفسه لاستشعاره به ان ذلك نقص وذلك كله محال في حق الله
ومن قال هذا قد يقول اغار عليه من ان احبه ومثلى لا يصلح ان يعبده وانما اعبد من يعبده ونحو ذلك مما زينه الشيطان للمشركين واهل الضلال وذلك انهم قد يدخلون في غيرة الله منعه لمواهبه وعطاياه من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتقربوا اليه بأصناف القربات كما قد يمنع السيد والمحبوب عبيده ومحبيه ما يستحقونه وهذا ايضا جهل بالله وتكذيب بوعده وتجوير له وتزكية لنفوسهم وهو باطل
وفي الجملة فالغيرة المحمودة اما ترك ما نهى الله عنه او ترك ما لم يأمر الله به ولا اوجبه ومن لم يكن فيه احد الحالين فهو ممن فسق عن امر ربه والثانية حال الكمل الصادقين
فأما الغيرة على ما لم يحرمه او على ما اباحه الله لعباده ان يفعلوه وهو لا يكرهه ولا يسخطه فهو مذموم كله كما تقدم
فهذه الغيرة الاصطلاحية من مدحها مطلقا فقد أخطأ ومن ذمها مطلقا فقد أخطأ والصواب ان يحمد منها ما حمده الله ورسوله ويذم منها ما ذمه الله ورسوله وهذا يقع كثيرا للسالكين في هذا الخلق وغيره فإنه يلبس الحق بالباطل ولهذا السبب ينكر كثير من الناس مثل هذا الطريق لما فيه من لبس الحق بالباطل والآخرون يعظمونه لما فيه من الحق والصواب الفرقان ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور سورة النور 40
فصل
فيما ذكره الاستاذ ابو القاسم القشيري في باب الرضا عن الشيخ ابي سليمان الداراني رحمه الله انه قال الرضا ان لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار فان الناس تنازعوا في هذا الكلام فمنهم من انكره ومنهم من قبله والكلام على هذا الكلام من وجهين
أحدهما من جهة ثبوته عن الشيخ ابي سليمان والثاني من جهة صحته في نفسه وفساده
اما المقام الاول فينبغي ان يعلم ان الاستاذ ابا القاسم القشيري لم يذكره عن الشيخ ابي سليمان بإسناد وانما ذكره مرسلا عنه في رسالته عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين والمشايخ وغيرهم تارة يذكره بإسناد وتارة يذكره مرسلا وكثيرا ما يقول في الرسالة وقيل عنه كذا ثم الذي يذكره الاستاذ ابو القاسم بالإسناد تارة يكون اسناده صحيحا وتارة يكون ضعيفا بل موضوعا وما يذكره مرسلا ومحذوفا لقائل اولى وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء فإن فيها من الاحاديث والآثار ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف ومنها ما هو موضوع فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الاثار المنقولة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع
وهذا امر متفق عليه بين جميع المسلمين لا يتنازعون في ان هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا بل نفس الكتب المصنفة في الحديث والاثار فيها هذا وهذا وكذلك الكتب المصنفة في التفسير فيها هذه وهذا مع ان اهل الحديث اقرب الى معرفة المنقولات وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم
والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه او التصوف او الحديث ويروون هذا تارة لأنهم لم يعلموا انه كذب وهو الغالب على اهل الدين فإنهم لا يحتجون بما يعلمون انه كذب وتارة يذكرونه وان علموا انه كذب اذ قصدهم رواية ما روى في ذلك الباب
ورواية الاحاديث المكذوبة مع بيان انها كذب جائز واما روايتها مع الإمساك عن ذلك رواية عمل فإنه حرام عند العلماء لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال من حدث عني بحديث وهو يرى انه كذب فهو احد الكاذبين
وقد فعل ذلك كثير من العلماء متأولين انهم لم يكذبوا وانما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل اذ رووه ليعرف انه روى لا لأجل العمل به والاعتماد عليه
والمقصود هنا ان ما يوجد في الرسالة وامثالها من كتب الفقه والتصوف والحديث من المنقولات عن النبي ﷺ وغيره من السلف فيه الصحيح وفيه الضعيف وفيه الموضوع فالصحيح الذي قامت الدلالة على صدقه والموضوع الذي قامت الدلالة على كذبه عليها ولا يحتج بها فإن الضعف ظاهر عليها وإن كان هو لا يتعمد واما لاتهامه ولكن يمكن ان يكون صادقا فيه فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ
وغالب ابواب الرسالة فيه الاقسام الثلاثة ومن ذلك باب الرضا فإنه ذكر فيه عن النبي ﷺ حديثا صحيحا في اثناء الباب وهو حديث العباس بن عبد المطلب عن النبي ﷺ انه قال ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا
وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه وان كان الاستاذ لم يذكر ان مسلما رواه لكن رواه بإسناد صحيح وذكر في اول هذا الباب حديثا ضعيفا بل موضوعا وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر فهو وان كان اول حديث ذكره في الباب فإن حديث الفضل بن عيسى من اوهى الاحاديث واسقطها ولا نزاع بين الائمة انه لا يعتمد عليها ولا يحتج بها فإن الضعف ظاهر عليها وان كان هو لا يعتمد الكذب فإن كثيرا من الزهاد والفقهاء لا يحتج بحديثهم لسوء الحفظ لا لاعتماد الكذب وهذا الرقاشي اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك ائمة هذا الشأن حتى قال ايوب السختياني لو ولد فضل اخرس لكان خيرا له وقال سفيان بن عيينة لا شيء وقال الامام احمد والنسائي هو ضعيف وقال يحيى بن معين رجل سوء وقال ابو حاتم وابو زرعة منكر الحديث
وكذلك ما ذكره من الاثار فانه قد ذكر اثارا حسنة بأسانيد حسنه مثل ما رواه عن الشيخ ابي سليمان الداراني انه قال اذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض فإن هذا رواه عن شيخه ابي عبد الرحمن السلمي بإسناده والشيخ ابو عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلام هؤلاء المشايخ وحكاياتهم وصنف في الاسماء كتاب الطبقات طبقات الصوفية وكتاب زهاد السلف وغير ذلك وصنف في الابواب كتاب مقامات الاولياء وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على الاقسام الثلاثة
وذكر عن الشيخ ابي عبد الرحمن انه قال سمعت النصراباذي يقول من اراد ان يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه
فإن هذا الكلام في غاية الحسن فإنه من لزم ما يرضى الله من امتثال اوامره واجتناب نواهيه لا سيما اذ قام بواجبها ومستحبها يرضي الله عنه كما انه من لزم محبوبات الله احبه الله كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب الي عبدي بمثل اداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب الى بالنوافل حتى احبه فإذا احببته الحديث
وذلك ان الرضا نوعان احدهما الرضا بفعل ما امر به وترك ما نهى عنه ويتناول ما اباحه الله من غير تعد الى المحظور
كما قال تعالى والله ورسوله احق ان يرضوه ان كانوا مؤمنين سورة التوبة 62 وقال تعالى ولو انهم رضوا ما اتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا الى الله راغبون سورة التوبة 59 فهذا الرضا واجب
وكذلك ذم من تركه بقوله ومنهم من يلمزك في الصدقات فان اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون سورة التوبة 58
والنوع الثاني الرضا بالمصائب كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في احد قولي العلماء وليس بواجب وقد قيل انه واجب والصحيح ان الواجب هو الصبر كما قال الحسن البصري رحمه الله الرضا عزيز ولكن الصبرمعول المؤمن
وقد روى في حديث ابن عباس ان النبي ﷺ قال له ان استطعت ان تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا
واما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان فالذي عليه ائمة الدين انه لا يرضى بذلك فإن الله لا يرضاه كما قال تعالى ولا يرضى لعباده الكفر سورة الزمر 7
وقال والله لا يحب الفساد سورة البقرة 205
وقال تعالى فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين سورة التوبة 96
وقل تعالى فجزاؤه حهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما سورة النساء : 93
وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط اعمالهم سورة محمد 28
وقال وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم سورة التوبة 68
وقال لبئس ما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون سورة المائدة 80
وقال فلما آسفونا انتقمنا منهم سورة الزخرف 55
فإذا كان الله سبحانه لا يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك وهو يسخط عليهم ويغضب عليهم فكيف يسوغ للمؤمن ان يرضى ذلك وان لا يسخط ويغضب لما يسخط الله ويغضبه
=====
===

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل المقحمات هي الذنوب العظام كما قال النووي أم أنها ذنوب أرتكبت بقصد طاعة الله لكن التسرع والاندفاع دافع للخطأ من غير قصد

تعقيب علي المقحمات يتبين من تعريف المقحمات بين النووي ومعاجم اللغة العتيدة أن النووي أخطأ جدا في التعريف { المقحمات مفتوح للكتابة...