معاني كلمات القران الكريم




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بؤامج نداء الايمان

النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق/مدونة ديوان الطلاق//المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني / / /*الـذاكـر / /القرآن الكريم مع الترجمة / /القرآن الكريم مع التفسير / /القرآن الكريم مع التلاوة / / /الموسوعة الحديثية المصغرة/الموسوعة الفقهية الكبرى //برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم //برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية / /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة / /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين / /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر / /برنامج مكتبة السنة / /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية / /برنامج موسوعة شرح الحديث الشريف فتح البارى لشرح صحيح البخارى وشرح مسلم لعبد الباقى وشرح مالك للإمام اللكنوى / /خلفيات إسلامية رائعة / /مجموع فتاوى ابن تيمية / /مكتبة الإمام ابن الجوزي / /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني / /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي / /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي / /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي / /مكتبة الإمام ابن كثير / /مكتبة الإمام الذهبي / /مكتبة الإمام السيوطي / /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني / /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي / /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي / /مكتبة الشيخ حمود التويجري / /مكتبة الشيخ ربيع المدخلي / /مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ / /مكتبة الشيخ صالح الفوزان / /مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي / /مكتبة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم / /مكتبة الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان / /مكتبة الشيخ عبد المحسن العباد / /مكتبة الشيخ عطية محمد سالم / /مكتبة الشيخ محمد أمان الجامي /مكتبة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي / /مكتبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / /مكتبة الشيخ مقبل الوادعي / /موسوعة أصول الفقه / /موسوعة التاريخ الإسلامي / /موسوعة الحديث النبوي الشريف / /موسوعة السيرة النبوية / /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية / موسوعة توحيد رب العبيد / موسوعة رواة الحديث / موسوعة شروح الحديث / /موسوعة علوم الحديث / /موسوعة علوم القرآن / /موسوعة علوم اللغة / /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

الجمعة، 4 مارس 2022

كتاب منهاج السنة لابن تيمية من ص 22. اليمنهاج السنة النبوية/26 .]



منهاج السنة النبوية/22 --
قال الرافض الوجه الثالث أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم ولأئمتهم قاطعون بذلك وبحصول ضدها لغيرهم وأهل السنة لا يجيزون ولا يجزمون بذلك لا لهم ولا لغيرهم فيكون اتباع أولئك أولى لأنا لو فرضنا مثلا خروج شخصين من بغداد يريدان الكوفة فوجدا طريقين سلك كل منهما طريقا فخرج ثالث يطلب الكوفة فسأل أحدهما إلى أين تذهب فقال إلى الكوفة فقال له هل طريقك توصلك إليها وهل طريقك آمن أم مخوف وهل طريق صاحبك تؤديه إلى الكوفة وهل هو آمن أم مخوف فقال لا أعلم شيئا من ذلك ثم سأل صاحبه عن ذلك فقال أعلم أن طريقي يوصلني إلى الكوفة وأنه آمن وأعلم أن طريق صاحبي لا يؤديه إلى الكوفة وأنه ليس بآمن فإن الثالث إن تابع الأول عده العقلاء سفيها وإن تابع الثاني نسب إلى الأخذ بالحزم
هكذا ذكره في كتابه والصواب أن يقال وسأل الثاني فقال له الثاني لا أعلم أن طريقي تؤديني إلى الكوفة ولا أعلم أنه آمن أم مخوف
والجواب على هذا من وجوه
أحدها أن يقال إن كان اتباع الأئمة الذين تدعي لهم الطاعة المطلقة وأن ذلك لا يوجب لهم النجاة واجبا كان اتباع خلفاء بني أمية الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم طاعة مطلقا ويقولون إن ذلك يوجب النجاة مصيبين على الحق وكانوا في سبهم عليا وغيره وقتالهم لمن قاتلوه من شيعة على مصيبين لأنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب وأنه لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام بل أولئك أولى بالحجة من الشيعة لأنهم كانوا مطيعين أئمة أقامهم الله ونصبهم وأيدهم وملكهم فإذا كان من مذهب القدرية أن الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح لعباده كان تولية أولئك الأئمة مصلحة لعباده
ومعلوم أن اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام معدوم أو عاجز ولهذا حصل لأتباع خلفاء بني أمية من المصلحة في دينهم ودنياهم أعظم مما حصل لأتباع المنتظر فإن هؤلاء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء من المعروف ولا ينهاهم عن شيء من المنكر ولا يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ولا دنياهم بخلاف أولئك فإنهم انتفعوا بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم أعظم مما انتفع هؤلاء بأئمتهم فتبين أنه إن كانت حجة هؤلاء المنتسبين إلى مشايعة علي رضي الله عنه صحيحة فحجة أولئك المنتسبين إلى مشايعة عثمان رضي الله عنه أولى بالصحة وإن كانت باطلة فهذه أبطل منها فإذا كان هؤلاء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم اولئك بنجاتهم إذا أطاعوا أولئك الأئمة طاعة مطلقة خطأ وضلال فخطأ هؤلاء وضلالهم إذا جزموا بنجاتهم لطاعتهم لمن يدعي أنه نائب المعصوم والمعصوم لا عين له ولا أثر أعظم وأعظم فإن الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله ويصدونهم عن سبيل الله
الوجه الثاني أن هذا المثل إنما كان يكون مطابقا لو ثبت مقدمتنان إحداهما أن لنا إماما معصوما والثانية أنه أمر بكذا وكذا وكلتا المقدمتين غير معلومة بل باطلة دع المقدمة الأولى بل الثانية فإن الأئمة الذين يدعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنين كثيرة والمنتظر له غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة وعند آخرين هو معدوم لم يوجد والذين يطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة أو كتب صنفها بعض شيوخ الرافضة وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين وهؤلاء الشيوخ المصنفون ليسوا معصومين بالاتفاق ولا مقطوعا لهم النجاة
فإذًا الرافضة لا يتبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي وهم أئمتهم حقا وإنما هم في انتسابهم إلى أولئك الأئمة بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة ولا يدرون بماذا أمر ولا عماذا نهى بل له أتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله يأمرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه وأن يتخذوهم أربابا وكما تأمر شيوخ الشيعة أتباعهم وكما تأمر شيوخ النصارى أتباعهم فهم يأمرونهم بالإشراك بالله وعبادة غير الله ويصدونهم عن سبيل الله فيخرجون عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده فلا يدعى إلا هو ولا يخشى إلا هو ولا يتقى إلا هو ولا يتوكل إلا عليه ولا يكون الدين إلا له لا لأحد من الخلق وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أربابا فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم
والرسول ﷺ هو المبلغ عن الله أمره ونهيه فلا يطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله يدعى مع مغيبة وبعد موته ويستغاث به ويطلب منه الحوائج والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد وينهى عما يريد كان الميت مشبها بالله تعالى والحي مشبها برسول الله ﷺ فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله
ثم إن كثيرا منهم يتعلقون بحكايات تنقل عن ذلك الشيخ وكثير منها كذب عليه وبعضها خطأ منه فيعدلون عن النقل الصدق عن القائل المعصوم إلى نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم فإذا كان هؤلاء مخطئين في هذا فالشيعة أكثر وأعظم خطأ لأنهم أعظم كذبا فيما ينقلونه عن الأئمة وأعظم غلوا في دعوى عصمة الأئمة
وإذا كان الواحد من هؤلاء أتباع الشيوخ الأحياء المضلين الغالين في شيخ قد مات مخطئين في قطعهم بالنجاة فخطأ الشيعة في قطعهم بالنجاة أعظم وأعظم وإن قدر أن طريق الشيعة صواب لما فيه من القطع والجزم بالنجاة فطريق المشايخية صواب لما فيه من القطع بالنجاة وحينئذ فيكون طريق من يعتقد أن يزيد بن معاوية كان من الأنبياء الذين يشربون الخمر وأن الخمر حلال له لأنه شربها الأنبياء ويزيد كان منهم طريقا صوابا وإذا كان يزيد نبيا كان من خرج على نبي كافرا فيلزم من ذلك كفر الحسين وغيره ويلزم من ذلك أن يكون طريق من يقول كل رزق لا يرزقنيه الشيخ لا أريده طريقا صحيحا وطريق من يقول إن الله ينزل إلى الأرض وأن كل مسجد فإن الله قد وضع قدمه عليه طريقا صحيحا وطريق من يقول
على الدرة البيضاء كان اجتماعنا ... وفي قاب قوسين اجتماع الأحبة
طريقا صحيحا وطريق من يقول إن شيخه قد أسقط عنه الصلاة طريقا صحيحا وأمثال هذه الضلالات التي توجد في كثير من العامة أتباع المشايخ
فإن كثيرا من هؤلاء جازمون بنجاتهم وسعادة مشايخهم أعظم من قطع الاثني عشرية للأئمة وأتباعهم فإن كان ما ذكره من أتباع الجازم بالنجاة واجبا وجب أتباع هؤلاء ومن جملة اتباع هؤلاء القدح في الشيعة وإبطال طريقتهم فيلزم من اتباع الجازم إبطال قول الشيعة وإن لم يكن اتباع الجازم مطلقا طريقا صحيحا بطلت حجته
وكذلك يقال لهؤلاء وهؤلاء إن كان اتباع أهل الجزم أولى بالاتباع من طريقة الذين يأمرون بطاعة الله ورسوله ويتبعون أهل العلم والدين فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله ولا يوجبون طاعة معين إلا رسول الله ﷺ ولا يضمنون السعادة إلا لمن أطاع الله ورسوله ويقولون إن من سواه يخطىء ويصيب فلا يطاع مطلقا فإن كان اتباع هؤلاء نقصا وخطأ والصواب اتباع أهل الجزم مطلقا وجب أتباع شيعة الأئمة المعصومين وشيعة المشايخ المحفوظين وشيعة هؤلاء يقدحون في هؤلاء وشيعة هؤلاء يقدحون في هؤلاء فيلزم أن يكون كل من الطريقين باطلا حقا وهذا جمع بين النقيضين وهذا إنما لزم لأن الأصل فاسد وهو اتباع من يجزم بلا علم ولا دليل فكل من جعل اتباع الشيخ الجازم والمجازف بلا حجة ولا دليل أو الإمامي الجازم المجازف بالنجاة بلا حجة ولا دليل مما يجب اتباعه لزم تناقض أقوالهم بخلاف الاقوال التي ترجع إلى أصل صحيح فإنها لا تتناقض الوجه الثالث منع الحكم في هذا المثال الذي ضربه وجعله أصلا قاس عليه فإن الرجل إذا قال له أحد الرجلين طريقي آمن يوصلني وقال له الآخر لا علم لي بأن طريقي آمن يوصلني أو قال ذلك الأول لم يحسن في العقل تصديق الأول بمجرد قوله بل يجوز عند العقلاء أن يكون هذا محتالا عليه يكذب حتى يصحبه في الطريق فيقتله ويأخذ ماله ويجوز أن يكون جاهلا لا يعرف ما في الطريق من الخوف وأما ذاك الرجل فلم يضمن للسائل شيئا بل رده إلى نظره فالحزم في مثل هذا أن ينظر الرجل أي الطريقين أولى بالسلوك أحد ذينك الطريقين أو غيرهما
ولو كان كل من قال إن طريقي آمن موصل يكون أولى بالتصديق ممن توقف لكان كل مفتر وجاهل يدعي في المسائل المشتبهة أن قولي فيها هو الصواب وأنا قاطع بذلك فيكون اتباعي أولى من طريق هؤلاء الذين ينظرون ويستدلون وكان ينبغي أن يكون الشيوخ الكذابون الذين يضمنون لمريدهم الجنة وأن لهم في الآخرة كذا وكذا وأن كل من أحبهم دخل الجنة وأن من أعطاهم المال أعطوه الحال الذي يقر به إلى ذي الجلال أولى بالاتباع من ذوي العلم والصدق والعدل الذين لا يضمنون له إلا ما ضمنه الله ورسوله لمن أطاعه وكان أيضا ينبغي أن يكون أئمة الإسماعيلية كالمعز والحاكم وأمثالهما أولى بالاتباع من أئمة الاثني عشرية لأن أولئك يدعون من علم الغيب وكشف باطن الشريعة وعلو الدرجة أعظم مما تدعيه الاثنا عشرية لأصحابهم ويضمنون له هذا مع استحلال المحرمات وترك الواجبات فيقولون له قد أسقطنا عنك الصلاة والصوم والحج والزكاة وضمنا لك بموالاتنا الجنة ونحن قاطعون بذلك
والاثنا عشرية يقولون لا يستحق الجنة حتى يؤدي الواجبات ويترك المحرمات فإن كان اتباع الجازم بمجرد جزمه أولى كان اتباع هؤلاء أولى من اتباع من يقول أنت إذا أذنبت يحتمل أن تعاقب ويحتمل أن يعفى عنك فيبقى بين الخوف والرجاء ونظائر هذا كثيرة فتبين أن مجرد الإقدام على الجزم لا يدل على علم صاحبه ولا على صدقه وأن التوقف والإمساك حتى يتبين الدليل هو عادة العقلاء
الوجه الرابع أن يقال قوله إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة كذب فإنه إن أراد بذلك أن كل واحد ممن اعقتد اعتقادهم يدخل الجنة وإن ترك الواجبات وفعل المحرمات فليس هذا قول الإمامية ولا يقوله عاقل
وإن كان حب علي حسنة لا يضر معها سيئة فلا يضره ترك الصلوات ولا الفجور بالعلويات ولا نيل أغراضه بسفك دماء بني هاشم إذا كان يحب عليا
فإن قالوا المحبة الصادقة تستلزم الموافقة عاد الأمر إلى انه لا بد من أداء الواجبات وترك المحرمات وإن أراد بذلك أنهم يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح وأدى الواجبات وترك المحرمات يدخل الجنة فهذا اعتقاد أهل السنة فإنهم يجزمون بالنجاة لكل من اتقى الله كما نطق به القرآن وإنما يتوقفون في الشخص المعين لعدم العلم بدخوله في المتقين فإنه إذا علم أنه مات على التقوى علم أنه من أهل الجنة ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان
فتبين أنه ليس في الإمامية جزم محمود اختصوا به عن أهل السنة والجماعة وإن قالوا إنا نجزم لكل شخص رأيناه ملتزما للواجبات عندنا تاركا للمحرمات بأنه من أهل الجنة من غير أن يخبرنا بباطنه معصوم قيل هذه المسألة لا تتعلق بالإمامية بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو طريق لأهل السنة وهم بسلوكه أحذق وإن لم يكن هنا طريق صحيح إلى ذلك كان ذلك قولا بلا علم فلا فضيلة فيه بل في عدمه
ففي الجملة لا يدعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به وما ادعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه
والقول بكون الرجل المعين من أهل الجنة قد يكون سببه إخبار المعصوم وقد يكون سببه تواطؤ شهادات المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت وجبت فقالوا يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض
وفي المسند عن النبي ﷺ أنه قال يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا ر سول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيء وقد يكون سبب ذلك تواطؤ رؤيا المؤمنين فإن النبي ﷺ قال لم يبق بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل المؤمن الصالح أو ترى له
وسئل عن قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة سورة يونس 64 قال هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له
وقد فسرها أيضا بثناء المؤمنين فقيل يا رسول الله الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه فقال تلك عاجل بشرى المؤمن
والرؤيا قد تكون من الله وقد تكون من حديث النفس وقد تكون من الشيطان فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على أمر كان حقا كما إذا تواطأت رواياتهم أو رأيهم فإن الواحد قد يغلط أو يكذب وقد يخطىء في الرأي أو يتعمد الباطل فإذا إجتمعوا لم يجتمعوا على ضلالة وإذا تواترت الروايات أورثت العلم وكذلك الرؤيا
قال النبي ﷺ أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في السبع الأواخر فمن كان منكم متحريها فيلتحرها في السبع الأواخر
وهذه الأسباب كلها عند أهل السنة أكمل وأتم مما هي عند الشيعة فلا طريق لهم إلى العلم بالسعادة وحصولها إلا وذلك الطريق أكمل لأهل السنة
الوجه الخامس أن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة وذلك أن أئمتهم بعد النبي ﷺ هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وهم جازمون بحصول النجاة لهؤلاء فإنهم يشهدون أن العشرة في الجنة ويشهدون أن الله قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم بل يقولون إنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي ﷺ فهؤلاء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لأهل السنة يشهدون أنه لا يدخل النار منهم أحد وهي شهادة بعلم كما دل على ذلك الكتاب والسنة
الوجه السادس أن يقال أهل السنة يشهدون بالنجاة إما مطلقا وإما معينا شهادة مستندة إلى علم وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما لا يعلمون أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب فهم كما قال الشافعي رحمه الله ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة الوجه السابع أن الإمام الذي شهد له بالنجاة إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين أو هو المطاع فيما يأمر به من طاعة الله ورسوله وفيما يقوله باجتهاده إذا لم يعلم أن غيره أولى منه ونحو ذلك فإن كان الإمام هو الأول فلا إمام لأهل السنة بهذا الاعتبار إلا رسول الله ﷺ فإنه ليس عندهم من يجب أن يطاع في كل شيء إلا رسول الله ﷺ وهم يقولون كما قال مجاهد والحاكم ومالك وغيرهم كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ وهم يشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق ويشهدون بأن كل من ائتم به ففعل ما أمر به وترك ما نهى عنه دخل الجنة وهذه الشهادة بهذا وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكريين وأمثالهما بانه من أطاعهم دخل الجنة
فثبت أن إمام أهل السنة أكمل وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوه أكمل ولا سواء ولكن قال الله تعالى آلله خير أما يشركون سورة النمل 59 فعند المقابلة يذكر فضل الخير المحض على الشر المحض وإن كان الشر المحض لا خير فيه
وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيد فذاك لا يوجب أهل السنة طاعته إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله ﷺ وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه فإنما هم مطيعون لله ورسوله فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيد هل هو في الجنة أم لا كما لا يضر أتباع المعصوم عندهم إذا أطاعوا نوابه مع أن نوابه قد يكونون من أهل النار لا سيما ونواب المعصوم عندهم لا يعلم أنهم يأمرون بما يأمر به المعصوم لعدم العلم بما يقوله معصومهم وأما أقوال الرسول ﷺ فهي معلومة فمن أمر بها فقد علم أنه وافقها ومن أمر بخلافها علم أنه خالفها وما خفى منها فاجتهد فيه نائبه فهذا خير من طاعة نائب لمن تدعى عصمته ولا أحد يعلم بشيء مما أمر به هذا الغائب المنتظر فضلا عن العلم بكون نائبه موافقا أو مخالفا فإن ادعوا أن النواب عالمون بأمر من قبله فعلم علماء الأمة بأمر رسول الله ﷺ أتم وأكمل من علم هؤلاء بقول من يدعون عصمته ولو طولب أحدهم بنقل صحيح ثابت بما يقولونه عن علي أو عن غيره لما وجدوا إلى ذلك سبيلا وليس لهم من الإسناد والعلم بالرجال الناقلين ما لأهل السنة
الوجه الثامن أن يقال إن الله قد ضمن السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله وتوعد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك فمناط السعادة طاعة الله ورسوله كما قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا سورة النساء 69 وأمثال ذلك
وإذا كان كذلك والله تعالى يقول فاتقوا الله مااستطعتم سورة التغابن 16 فمن اجتهد في طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته كان من أهل الجنة
فقول الرافضة لن يدخل الجنة إلا من كان إماميا كقول اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
ومن المعلوم أن المنتظر الذي يدعيه الرافضي لا يجب على أحد طاعته فإنه لا يعلم له قول منقول عنه فإذا من أطاع الرسول ﷺ دخل الجنة وإن لم يؤمن بهذا الإمام ومن آمن بهذا الإمام لم يدخل الجنة إلا إذا أطاع الرسول ﷺ فطاعة الرسول ﷺ هي مدار السعادة وجودا وعدما وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار ومحمد ﷺ فرق بين الناس والله سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بينه لهم فتبين أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنة
فصل
قال الرافضي الوجه الرابع أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم والزهد والورع والاشتغال في كل وقت بالعبادة والدعاء وتلاوة القران والماداومة على ذلك من زمن الكفولية إلى اخر العمر ومنهم من يعلم الناس العلوم ونزل في حقهم هل أتى واية الطهارة وإيجاب المودة لهم واية الابتهال وغير ذلك وكان علي رضي الله عنه يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة ويتلو القران مع شدة ابتلائه بالحروب والجهاد
فأولهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل الخلق بعد رسول الله ﷺ وجعله الله نفس رسول الله حيث قال وأنفسنا وأنفسكم وواخاه رسول الله وزوجه ابنته وفضله لا يخفى وظهرت منه معجزات كثيرة حتى ادعى قوم فيه الربوية وقتلهم وصار إلى مقالتهم اخرون إلى هذه الغاية كالغلاة والنصيرية وكان ولداه سبطا رسول الله ﷺ سيدا شباب أهل الجنة إمامين بنص النبي ﷺ وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهما وجاهدا في الله حق جهادة حتى قتلا ولبس الحسن الصوف تحت ثيابه الفاخرة من غير أن يشعر أحد بذلك وأخذ النبي ﷺ يوما الحسين على فخذه الأيمن وإبراهيم على فخذه الأيسر فنزل جبرائيل عليه السلام وقال إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما فاختر من شئت منهما فقال النبي ﷺ إذا مات الحسين بكيت أنا وعلى وفاطمة وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه فاختار موت إبراهيم فمات بعد ثلاثة أيام وكان أذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول أهلا ومرحبا بمن فديته بابني إبراهيم وكان علي بن الحسين زين العابدين يصوم نهاره ويقوم ليله ويتلو الكتاب العزيز ويصلى كل يوم وليلة ألف ركعة ويدعو كل ركعتين بالأدعية المنقولة عنه وعن ابائه ثم يرمي الصحيفة كالمتضجر ويقول أني لي بعبادة على وكان يبكي كثيرا حتى أخذت الدموع من لحم خديه وسجد حتى سمى ذا الثفنات وسماه رسول الله ﷺ سيد العابدين
وكان قد حج هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يكنه من الزحام فجاء زين العابدين فوقف الناس له وتنحوا عن الحجر حتى استلمه ولم يبق عند الحجر سواه فقال هشام بن عبد الملك من هذا فقال الفرزدق الشاعر
هذا الذي تعرف البحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... وهذا التقى النقى الطاهر العلم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحكيم إذا ما جاء يستلم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكامر هذا ينتهى الكرم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
هذا ابن فاكمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
ينشق نور الهدى عن صبح غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم
الله شرفه قدنا وفضله ... جرى بذاك له في لوجه القلم
من معشر حبهم دين ويغضهم ... كفر وقربهم ملجا ومعتصم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا أومة أزمت ... والأسد أسد الشرى والرأى محتدم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم ... سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
ما قال لا قط إلا في تشهده ... ويترق به الإحسان والنعم
يستدفع السوء والبلوي بحبهم ويسترق به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بر ومختوم به الكلم
من يعرف الله يعف أولية ذا ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم
فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بين مكة والمدينة فقال الفرزدق هذه الأبيات وبعث بها إليه
أتحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوى منبيها
تقلب رأسا لم يكن رأس سيد ... وعينا له حولاء باد عيوبها
فبعث إليه الإمام زين العابدين بألف دينار فردها وقال إنما قلت هذا غضبا لله ولرسوله فما اخذ عليه أجرا فقال علي بن الحسن نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما خرج منا فقبلها الفرزدق
وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلا ولا يعرفون ممن هو فلما مات زين العابدين انقطع ذلك عنهم وعرفوا أنه كان منه
وكان ابنه محمد الباقر أعظم الناس زهدا وعبادة بقر السجود جبهته وكان أعلم أهل وقته سماه رسول الله ﷺ الباقر وجاء جابر بن عبد الله الأنصاري إليه وهو صغير في الكتاب فقال له جدك رسول الله ﷺ يسلم عليك فقال وعلى جدي السلام فقيل لجابر كيف هذا قال كنت جالسا عند رسول الله ﷺ والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال يا جابر يولد له ولد اسمه على إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم سيد العابدين فيقوم ولده ثم يولد له مولود اسمه محمد الباقر يبقر العلم بقرا فإذا رأيته فاقرئه مني السلام وروى عنه أبو حنيفة وغيره
وكان ابنه الصادق عليه السلام أفضل أهل زمانه وأعبدهم قال علماء السيرة إنه اشتغل بالعبادة عن طلب الرياسة وقال عمربن أبي المقدام كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد الصادق علمت أنه من سلالة النبيين وهو الذي نشر فقه الإمامية والمعارف الحقيقة والعقائد اليقينية وكان لا يخبر بأمر إلا وقع وبه سموه الصادق الأمين
وكان عبد الله بن الحسن جمع أكابر العلويين للبيعة لولديه فقال الصادق هذا الأمر لا يتم فاغتاظ من ذلك فقال أنه لصاحب القباء الأصفر وأشار بذلك إلى المنصور فلما سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يخبر به وعلم أن الأمر يصل إليه ولما هرب كان يقول أين قول صادقهم وبعد ذلك انتهى الأمر إليه
وكان ابنه موسى الكائط يدعى بالعبد الصالح وكان أعبد أهل زمانه يقوم الليل ويصوم النهار وسمي الكاظم لأنه كان إذ بلغه عن أحد شيء بعث إليه بمال ونقل فضله الموافق والمخالف قال ابن الجوزي من الحنابلة روى عن شقيق البلخي قال خرجت حاجا سنة تسع وأربعين ومائة فنزلت القادسية فإذا شاب حسن الوجه شديد السمرة عليه ثوب صوف مشتمل بشملة في رجليه نعلان وقد جلس منفردا عن الناس فقلت في نفسي هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس والله لأمضين إليه أوبخه فدنوت منه فلما راني مقبلا قال يا شقيق اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم فقلت في نفسي هذا عبد صالح قد نطق على ما في خاطري لألحقنه ولأسألته أن يحاللني فغاب عن عيني فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تتحادر فقلت أمضي إليه وأعتذر فأوجز في صلاته ثم قال يا شقيق وإني لغفار لمن تاب وامن وعمل صالحا ثم اهتدى فقلت هذا من الأبدال قد تكلم على سرى مرتين فلما نزلنا زبالة إذا به قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقى ماء فسقطت الركوة من يده في البئر فرفع طرفه إلى السماء وقال
أنت ربى إذا ظمئت إلى الما ... وقوتي إذا أردت الطعاما
يا سيدي مالي سواها
قال شقيق فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها فأخذ الركوة وملأها توضأ وصلى أربع ركعات ثم مال إلى كثيب رمل هناك فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب فقلت أطعمني من فضل ما رزقك الله أو ما أنعم الله عليك فقال يا شقيق لم تزل نعم الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ما شربت والله ألذ منه ولا أطيب منه ريحا فشبعت ورويت وأقمت أياما لا أشتهى طعاما ولا شرابا ثم لم أره حتى دخلت مكة فرأيته ليلة إلى جانب قبة الميزاب نصف الليل يصلي بخشوع وأنين وبكاء فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل فلما طلع الفجر جلس في مصلاة يسبح ثم قام إلى صلاة الفجر وطاف بالبيت أسبوعا وخرج فتبعته فإذا له حاشية وأموال وغلمان وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ودار به الناس يسلمون عليه ويتبركون به فقلت لهم من هذا قالوا موسى بن جعفر فقلت قد عدبت أن تكون هذه العدائب إلا لمثل هذا السيد هذا رواه الحنبلي
وعلى يده تاب بشر الخافي لأنه عليه السلام اجتاز على داره ببغداد فسمع الملاهى وأصوات الغناء والقصب يخرج من تلك الدار فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل وفرمت بها في الدرب فقال لها يا جارية صاحب هذا الدا حر أم عبد فقالت بل حر فقال صدقت لو كان عبدا لخاف من مولاه فلما دخلت الجارية قال مولاها وهو على مائدة السكر ما أبطأك علينا قالت حدثني رجل بكذا وكذا فخرج حافيا حتى لقى مولانا موى بن جعفر فتاب على يده
والجواب عنه من وجوه أحدها أن يقال لا نسلم أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت لا الاثنا عشرية ولا غيرهم بل هم مخالفون لعلي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت في جميع أوصلهم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة توحيدهم وعدلهم وإمامتهم فإن الثابت عن علي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت من إثبات الصفات لله وإثبات القدر وإثبات خلافة الخلفاء الثلاثة وإثبات فضيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وغير ذلك من المسائل كله يناقض مذهب الرافضة والنقل بذك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم بحيث أن معرفة المنقول في هذا الباب عن أئمة أهل البيت يوجب علما ضروريا بأ الرافضة مخالفون لهم لا موافقون لهم
الثاني أن يقال قد علم أن الشيعة مختلفون اختلافا كثيرا في مسائل الإمامة والصفات والقدر وغير ذلك من مسائل أصول دينهم فأي قول لهم هو المأخوذ عن الأئمة المعصومين حتى مسائل الإمامة قد عرف اضطرباهم فيها
وقد تقدم بعض اختلافهم في النص وفي المنتظر فهم في الباقي المنتظر على أقوال منهم من يقول ببقاء جعفر بن محمد ومنهم من يقول ببقاءابنه موسى بن جعفر ومنهم من يقول ببقاء عبد الله بن معاوية ومنهم من يقول ببقاء محمد بن عبد الله بن حسن ومنهم من يقول ببقاء محمد ابن الحنفية وهؤلاء يقولون نص على علي الحسن والحسين وهؤلاء يقولون على محمد بن الحنفية وهؤلاء يقولون أوصى وعلي بن الحسين إلى ابنه أبي جعفر وهؤلاء يقولون إلى ابنه عبد الله وهؤلاء يقولون أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين وهؤلاء يقولون إن جعفر أوصى إلى ابنه إسمماعيل وهؤلاء يقولون إلى ابنه محمد بن إسماعيل وهؤلاء يقولون إلى ابنه محمد وهؤلاء يقولون إلى ابنه عبد الله وهؤلاء يقولون إلى ابنه موسى وهؤلاء يسوقون النص إلى محمد بن الحسن وهؤلاء يسوقون النص إلى بني عبيد الله بن ميمون القداح الحاكم وشعيته وهؤلاء يسوقون النص من بني هاشم إلى بني العباس ويمتنع أن تكون هذه الأقوال المتناقضة مأخوذة عن معصوم فبطل قولهم أن أقوالهم مأخذوه عن معصوم
الوجه الثالث أن يقال هب أن عليا كان معصوما فإذا كان الاختلاف بين الشبعة هذا الاختلاف وهم متنازعون ها التنازع فمن أين يعلم صحة بعض هذه الأقوال عن علي دون الاخر وكل مهم يدعى أن ما يقوله إنما أخذه عن المع 2 صومين وليس للشيعة أسانيد متصلة برجال معروفين مثل أسانيد أهل السنة حتى ينظر في الإسناد وعدالة الرجال بل إنما هي منقولات منقطعة عن طائفة عرف فيها كثرة الكذب وكثرة التناقض في النقل فهو يثق عاقل بذلك
وإن ادعوا تواتر نص هذا على هذا ونص هذا على هذا كان هذا معارضا بدعوى غيرهم مثل هذا التواتر فإن سائر القائلين بالنص إذا ادعا مثل هذه الدعوى لم يكن بين الدعويين فرق
فهذه الوجوه وغيرها تبين أن بتقدير ثبوت عصمة على رضي الله عنه فمذهبهم ليس مأخذوا عنه فنفس دعواهم العصمة في على مثل دعوى النصارى الإلهية في المسيح مع أن ماهم عليه ليس مأخذوا عن المسيح
الوجه الرابع أنهم في مذهبهم محتاجون إلى مقدمتين إحداهما عصمة من يضيفون المذهب إليه من الأئمة والثانية ثبوت ذلك النقل عن الإمام وكلتا المقدمتين باطلة فإن المسيح ليس بإله بل هو رسول كريم وبتقدير أن يكون إلها أو رسولا كريما فقوله حق لكن ما تقوله النصارى ليس م قوله ولهذا كان في على رضي الله عنه شبه من المسيح قوم غلوا فيه فوق قدره وقوم نقصوه دون قدره فهم كاليهود فهؤلاء يقولون عن المسيح إنه إله وهؤلاء يقولون كافر ولد بغية وكذلك على هؤلاء يقولون إنه إله وهؤلاء يقولون إنه كافر ظالم
الوجه الخامس أنه يقال قد ثبت لعلى بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن والحسين وعلي بن الحسين وابمه محمد وجعفر ابن محمد من المناقب والفصائل ما لم يذكره هذا المصنف الرافضي وذكر أشياء من الكذب تدل على جهل ناقلها مثل قوله نزل في حقهم هل أتى فإن سورة هل أتى مكية باتفاق العلماء وعلى إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر وولد له الحسن في السنة الثالثة من الهجرة والحسين في السنة الرابعة من الهجرة بعد نول هل أتى بنسنين كثيرة
فقول القائل إنها نزلت فيهم من الكذب الذي لا يخفى على م له علم بنزول القران وعلم بأحوال هؤلاء السادة الأخيار
وأما آية الطهارة فليس فيها إخبار بكهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم وذهاب الرجس عنهم فإن قوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم نطهيرا كقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وقوله يريد الله ليبين لك ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليهم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا
فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا وليست هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد فإنه لو كان كذلك لكان قد طهر كل من أراد الله طهارته وهذا على قول هؤلاء القدرية الشيعة أوجه فإن عندهم أن الله يريد مالا يكون ويكون ما لا يريد
فقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا إذا كان هذا بفعل المأمور وترك المحظور كان ذلك متعلقا بإرادتهم وأفعالهم فإن فعلوا ما أمروا به طهروا وإلا فلا
وهم يقولون إن الله لا يخلق أفعالهم ولا يقدر على تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم وأما المثبتون للقدر فيقولون إن الله قادر على ذلك
فإذا ألهمهم فعل ما أمر وترك ما حظر حصلت الطهارة وذهاب الرجس
ومما يبين أن هذا مما أمروا به لا مما أخبروا بوقوعه ما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ أدار الكساء على على وفاطمة وحسن وحسين ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه عن عائشة ورواه أهل السنن عن أم سلمة
وهو يدل على ضد قول الرافضة من وجهين أحدهما أنه دعا لهم بذلك وهذا دليل على أن الآية لم تخبر بوقوع ذلك فإنه لو كان قد وقع لكان يثنى على الله بوقوعه ويشكره على ذلك لا يقتصر على مجرد الدعاء به
الثاني أن هذا يدل على أن الله قادر على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم وذلك يدل على أنه خالف أفعال العباد ومما يبين أن الآية متضمنة للأمر والنهي قوله في سياق الكلام يا نساء النبي من أت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيكمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة واتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ايات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا
وهذا السياق يدل على أن ذلك أمر ونهى ويدل على أن أزواج النبي ﷺ من أهل بيته فإن السياق إنما هو في مخاطبتهن ويدل على أن قوله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت عم غير أزواجه كعلى وفاكمة وحسن وحسين رضي الله عنهم لأنه ذكره بصيغة التذكير لما اجتمع المذكر والمؤنث وهؤلاء خصوا بكونهم من أهل البيت من أزواجه فلهذا خصهم بالدعاء لما أدخلهم في الكساء كما أن مسجد قباء أسس على التقوى ومسجده ﷺ أيضا أسس على التقى وهو أكمل في ذلك فلا نزل قوله تعالى لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين بسبب مسجد قباء تناول اللفظ لمسج قباء ولمسجده ﷺ بطريق الأولى
وقد تنازع العلماء هل أزواجه من اله على قولين هما روايتان عن أحمد أصحهما أنهن من اله وأهل بيته كما دل على ذلك ما في الصحيحين من قوله اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته وهذا مبسوط في موضع اخر
وأما مواليهن فليسوا من أهل بيته بلا نزاع فلهذا كانت الصدقة تباح لبريرة وأما أبو رافع فكان من مواليهم فلهذا نهاه عن الصدقة لأ مولى القوم منهم وتحريم الصدقة عليهم هو من التكهير الذي أراده الله بهم فإن الصدقة أوساخ الناس
وكذلك قوله في إيجاب المودة لهم غلط فقد ثبت في الصحيح عن سعيد بن جيبر أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن قوله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى قال فقلت إلا أن تودوا ذوي قربى محمد ﷺ فقال ابن عباس عجلت إنه لم يكن بكن من قريش إلا لرسول الله ﷺ منهم قرابة فقال قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم
فابن عباس كان من كبار أهل البيت وأعلمهم بتفسير القران وهذا تفسيره الثابت عنه ويدل على ذلك أنه لم يقل إلا المودة لذوي القربى ولكن قال إلا المودة في القربى ألا ترى أنه لما أراد ذوي قرباه قال واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسة وللرسول ولذي القربى ولا يقال المودة في ذوي القربى وإنما يقال المودة لذوي القربى فكيف وقد قال قل لا أساألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى
ويبين ذلك أن الرسول ﷺ لا يسأل أجرا أصلا إنما أجره على الله وعلى المسلمين موالاة أهل البيت لكن بأدلة أخرى غير هذه الآية وليست موالاتنا لأهل البيت من أجر النبي ﷺ في شيء
وأيضا فإن هذه الآية مكية ولم يكن على بعد قد تزوج بفاطمة ولا ولد له أولاد
وأما آية الابتهال ففي الصحيح أنها لما نزلت أخذ النبي ﷺ بيد علي وفاطمة وحسن وحسين ليباهل بهم لكن خصهم بذلك لأنهم كانوا أقرب إليه من غيرهم فإنه لم يكن ولد ذكر إذ ذاك يمشي معه ولكن كان يقول عن الحسن إن ابني هذا سيد فهما ابناه ونساؤه إذ لم يكن قد بقى له بنت إلا فاطمة رضي الله عنها فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران وهم نصارى وذلك كان بعد فتح مكة بل كان سنة تسع وفيها نزل صدر ال عمران وفيها فرض الحج وهي سنة الوفود فإن مكة لما فتحت سنة ثمان قدمت وفود العرب من كل ناحية فهذه الآية تدل على كمال اتصالهم برسول الله ﷺ كما دل على ذلك حديث الكساء ولكن هذا لا يقتضي أن يكون الواحد منهم أفضل ن سائر المؤمنين ولا أعلم منهم لأن الفضيلة بكمال الإيمان والتقوى لا بقرب النسب كما قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقد ثبت أن الصديق كان أتقى الأمة بالكتاب والسنة وتواتر عن النبي ﷺ أنه قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وهذا مبسوط في موضعه
وأما ما نقله عن علي أنه كان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة فهذا يدل على جهله بالفضيلة وجهله بالواقع أما أولا فلأن هذا ليس بفضيلة فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان لا يزيد في الليل على ثلاث عشرى ركعة وثبت عنه في الصحيح أنه قال ﷺ أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه
وثبت عنه أنه كان يقوم إذا سمع الصارخ وثبت عنه أنه بلغه أن رجالا يقول أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر ويقول الاخر وأما أنا فأقوم ولا أنام ويقول الاخر أما أنا فلا اكل اللحم ويقول الاخر أما أنا فلا أتزوج النساء فقال النبي ﷺ لكني أصوم
وأفكر وأقوم انا واكل اللحم أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني
وثبت عنه في الصحيح أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص لما بلغه أنه قال لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت فقال رسول الله ﷺ لا تفعل فإمك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولزورك عليك حقا ولزوجك عليك حقا فات كل ذي حق حقه
فالمداومة على قيام جميع الليل ليس بمستحب بل هو مكروه بسنة النبي ﷺ الثابته عنه وهذا مداومة صيام النهار فإن أفضل الصيام صيام داود عليه السلام صيام يوم وفطر يوم
وأيضا فالذي ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يصلي في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة وعلى رضى الله عنه أعلم بسنته وأتبع لهديه من أن يخالفه هذه المخالفة لو كان ذلك ممكنا فكيف وصلاة ألف ركعة في اليوم والليلة مع القيام بسائر الواجبات غير ممكن فإنه لا بد له من أكل ونوم وقضاء حق أهل وقضاء حقوق الرعية وغير ذلك من الأمور التي تستوعب من الزمان إما النصف أو أقل أو أكثر والساعة الواحدة لا تتسع لثمانين ركعة وما يقارب ذلك إلا أن يكون نقرا كنقر الغراب وعلى أجل من أن يصلي صلاة المنافقين كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال تلك صلاة تلك تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى شيكان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا وقد نهى عن نقر كنقر الغراب فنقل مثل هذا عن علي يجل على جهل ناقله ثم إن إحياء الليل بالتهجد وقراءة القران في ركعة هو ثابت عن عثمان رضي الله عنه فتهجده ووتلاوته القران أظهر من غيره
وأيضا فقوله إن علي بن أبي طالب كان أفضل الخلق بعد رسول الله ﷺ دعوى مجردة ينازعه فيها جمهور المسلمين من الأولين والاخرين
وقوله جعله الله نفس رسول الله ﷺ حيث قال وأنفسنا وأنفسكم وواخاه
فيقال أما حديث المؤاخاة فباطل موضوع فإن النبي ﷺ لم يؤاخ أحدا ولا اخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض ولا بين الأنصار بعضهم مع بعض ولكن اخى بين المهاجرين والأنصار كما اخي بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف واخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء كما ثبت ذلك في الصحيح وأما قوله وأنفسنا وأنفسكم فهذا مثل قوله لولا إذا سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها في الإفك فإن الواحد من المؤمنين من أنفس المؤمنين والمؤمنات
وكذلك قوله تعالى فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم، أي يقتل بعضكم بعضا ومنه قوله تعالى وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم أي لا يخرج بعضكم بعضا فالمراد بالأنفس الإخوان إما في النسب وإما في الدين
وقد قال النبي صلى الله لعيه وسلم لعلى أنت مني وأنا منك
وقال للأشعريين إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو نفدت نفقة عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد ثم قسموه بينهم بالسوية هم منى وأنا منهم وهذا في الصحيح والأول أيضا في الصحيح
وفي الصحيح أيضا أنه قال لجليبيب وهذا منى وأنا منه هذا منى وأنا منه وهذا مبسوط في موضعه
وأما تزويجه فاطمة ففيلة لعلى كما أن تزويجه عثمان بابنتيه فضيلة لعثمان أيضا ولذلك سمي ذو النورين وكذلك تزوجه بنت أبي بكر وبنت عمر فضيلة لهما فالخلفاء الأربعة أصهاره ﷺ ورضى الله عنهم
وأما قوله وظهرت منه معجزات كثيرة فكأنه يسمى كرامات الأولياء معجزات وهذا اصطلاح لكثير من الناس فيقال على أفضل من كثير ممن له كرامات والكرامات متواترة عن كثير من عوام أهل السنة الذين يفضلون أبا بكر وعمر عللى علي فكيف لا تكون الكرامات ثابته لعلي رضي الله عنه وليس في مجرد الكرامات ما يجل على أنه أفضل من غيره
وأما قوله حتى ادعى قوم فيه الربوبية وقتلهم، فهذه مقالة جاهل في غاية الجهل لوجوه أحدها أن معجزات النبي ﷺ أعظم بكثير وما ادعى فيه أحد من أصحابه الإلهية
والثاني أن معجزات الخليل وموسى أعظم بكثير وما ادعى أحد فيهما الإلهية
الثالث أن معجزات نبينا ومعجزات موسى أعظم من معجزات المسيح وما ادعيت فيهما الإلهية كما ادعيت في المسيح
الرابع أن المسيح ادعيت فيه الألهية أعظم مما ادعيت في محمد وإبراهيم وموسى ولم يدل ذلك لا على أنه أفضل منهم ولا على أن معجزاته أبهر
الخامس أن دعوى الإلهية فيهما دعوى باطلة تقابلها دعوى باطلة وهو دعوى اليهود في المسيح ودعوى الخوارج في على فإن الخوارج كفروا عليا فإن جاز أن يقال إنما ادعيت فيه الإلهيه لقوى الشبهة جاز أن يقال إنما ادعى فيه الكفر لقوة الشبهة وجاز أن يقال صدرت منه ذنوب اقتضت أن يكفره بها الخوارج، والخوارج أكثر وأعقل وأدين من الذين ادعوا فيه الإلهية فإن جاز الاحتجاج بمثل هذا وجعلت هذه الدعوى منقبة كان دعوى المبغضين له ودعوى الخوارج مثلبة وأقوى وأين الخارج من الرافضة الغالية
فالخوارج من أعظم الناس صلاة وصياما وقراءة للقران ولهم جيوش وعساكر وهم متدينون بدين الإسلام باطنا وظاهرا. والغالية المدعون للإلهية إما أن يكونوا من أجهل الناس وإما أن يكونوا من أكفر الناس والغالية كفار بإجماع العلماء وأما الخوارج فلا يكفرهم إلا من يكفر الإمامية فإنهم خير من الإمامية وعلي رضى الله عنه لم يكن يكفرهم ولا أمر بقتل الواحد المقدور عليه منهم كما أمر يتحريق الغالية بل لم يقاتلهم حتى قتلوا عبد الله بن خباب وأغاروا على سرح الناس
فثبت بالإجماع من علي ومن سائر الصحابة والعلماء أن الخوارج خير من الغالية فإن جاز لشعيته أن تجهل دعوى الغالية الإلهية فيه حجة على فضيلته كان لشيعة عثمان أن يجعلوا دعوى الخوارج لكفره حجة على نقيضه بطريق الأولى فعلم أن هذه الحجة إنما يحتج بها جاهل ثم أنها تعود عليه لا له ولهذا كان الناس يعملون أن الرافضة أجهل وأكذب من الناصبة
وأما قوله وكان ولداه سبطا رسول الله ﷺ سيدا شباب أهل الجنة إمامين بنص النبي ﷺ
فيقال الذي ثبت بلا شك عن النبي ﷺ في الصحيح أنه قال عن الحسن إن ابني هذا سيد وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقعده وأسامه بن زيد على فخذه ويقول اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما
وهذا يدل على أن ما فعله الحسن من ترك القتال على الإمامة وقصد الاصلاح بين المسلمين كان محبوبا يحبه الله ورسوله ولم يكن ذلك مصيبة بل كان ذلك أحب إلى الله ورسول من اقتتال المسلمين ولهذا أحبه وأحب أسامه بن زيد ودعا لهما فإن كلاهما كان يكره القتال في الفتنة فأما أسامة فلم يقاتل لا مع على ولا مع معاوية والحسن كان دائما يشير على علي بترك القتال وهذا نقيض ما عليه الرافضة من أن ذلك الصلح كان مصيبة وكان ذلا ولو كان هناك إمام معصوم يجب على كل أحد طاعته ومن تولى غيره كانت ولايته باطلة لا يجوز أن يجاهد معه ولا يصلي خلفه لكان ذلك الصلح من أعظم المصائب على أمة محمد ﷺ وفيه فساد دينها فأي فضيلة كانت تكون للحسن بذلك حتى يثنى عليه به وإنما غايته أن يعذر لضعفه عن القتال الواجب والنبي ﷺ جعل الحسن في الصلح سيدا محمودا ولم يجعله عاجزا عذورا ولم يكن الحسن أعجز عن القتال من الحسين بل كان أقدر على القتال من الحسين والحسين قاتل حتى قتل فإن كان ما فعله الحسين هو الأفضل الواجب كان ما فعله الحسن تركا للواجب أو عجزا عنه وإن كان ما فعله الحسن هو الأفضل الأصلح جل على أن ترك القتال هو الأفضل الأصلح وأن الذي فعله الحسن أحب إلى الله ورسوله مما فعله غيره والله يرفع درجات المؤمنين المتقين بعضهم على بعض وكلهم في الجنة رضي الله عنهم أجمعين
ثم إن كان النبي ﷺ جعلهما إمامين لم يكونا قد استفادا الإمامة بنص على ولاستفادها الحسين بنص الحسن عليه ولا ريب أن الحسن والحسين ريحانتا النبي ﷺ في الدنيا وقد ثبت أنه ﷺ أدخلهما مع أبويهما تحت الكساء وقال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وأنه دعاهما في المباهلة وفضائلهما كثيرة وهما من أجلاء سادات المؤمنين وأما كونهما أزهد الناس وأعلهم في زمانهم فهذا قول بلا دليل
وأما قوله وجاهدوا في الله حق جهاده حتى قتلا، فهذا كذب عليهما فإن الحسن تخلى عن الأمر وسلمه إلى معاوية ومعه جيوش العراق وما كان يختار قتال المسلمين قط وهذا متواتر من سيرته
وأما موته فقد قيل إنه مات مسموما وهذا شهادة له وكرامة في حقه لكن لم يمت مقاتلا
والحسين رضي الله عنه ما خرج يريد القتال ولكن ظن أن الناس يطيعونه فلما رأى انصرافهم عنه طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر أو إتيان يزيد فلم يمكنه أولئك الظلمة لا من هذا ولا من هذا ولا من هذا وطلبوا أن يأخذوه أسيرا إلى يزيد فامتنع من ذلك وقاتل حتى قتل مظلوما شهيدا لم يكن قصده ابتداء أن يقاتل
وأما قوله عن الحسن إنه لبس الصوف تحت ثيابه الفاخرة، فهذا من جنس قوله في على إنه كان يصلي الف ركعة فإن هذا لا فضيلة فيه وهو كذب وذلك أن لبس الصوف تحت ثياب القطن وغيره لو كان فاضلا لكان النبي ﷺ شرعه لأمته إما بقوله أو بفعله أو كان يفعله أصحابه على عهده فلما لم يفعله هو ولا أحد من أصحابه على عهده ولا رغب فيه دل على أنه لا فضيلة فيه ولكن النبي ﷺ لبس في السفر جبة من صوف فوق ثيابه وقصد لبس الصوف دون القطن وغيره ليس بمستحب في شريعتنا ولا هو من هدى نبينا ﷺ
وقد قيل لمحمد بن سيرين إن قوما يقصدون لبس الصوف ويقولون إن المسيح كان يلبسه فقال هدى نبينا أحب إلينا من هدى غيره
وقد تنازع العلماء هل يكره لبس الصوف في الحضر من غير حاجة أم لا وأما لبسه في السفر فحن لأنه مظنة الحاجة إليه ثم بتقدير أن يكون لبس الصوف طاعة وقربة فإظهاره تواضعا أولى من إخفائه تحت الثياب فإنه ليس في ذلك إلا تعذيب النفس بلا فائدة والله تعالى لم يأمر العباد إلا بما هو له أطوع ولهم أنفع لم يأمرهم بتعذيب لا ينفعهم بل قال النبي ﷺ إن الله لغنى عن تعذيب هذا نفسه
وأما الحديث الذي رواه أن النبي ﷺ أخذ يوما الحسن على فخذه الأيمن وولده إبراهيم على فخذه الأيسر فنزل جبريل وقال إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما فاختر من شئت منهما فقال النبي ﷺ إذا مات الحسن بكيت أنا وعلي وفاطمة وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه فاختار موت إبراهيم فمات بعد ثلاثة أيام وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول أهلا ومرحبا بمن فديته بابني إبراهيم
فيقال هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم ولا يعرف له إسنادا ولا يعرف في شء من كتب الحديث وهذا الناقل لم يذكر له إسنادا ولا عزاه إلى كتاب حديث ولكن ذكره على عادته في روايته أحاديث مسيبة بلا زمام ولا خطام
ومن المعلوم أن المنقولات لا يميز بين صدقها وكذبها إلا بالطرق الدالة عل ذلك وإلا فدعوى النقل المجرد بمنزلة سئر الدعاوى
ثم يقال هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وهو من أحاديث الجهال فإن الله تعالى ليس في جمعه بين إبراهيم والحسين أعظم مما في جمعه بين الحسن والحسين على مقتضى هذا الحديث فإن موت الحسن أو الحسين إذا كان أعظم من موت غبراهيم فبقاء الحسن أعظم من بقاء إبراهيم وقد بقى الحسن مع الحسين
وأيضا فحق رسول الله ﷺ أعظم من حق غيره وعلى يعلم أن رسول الله ﷺ أولى به من نفسه وهو يحب النبي ﷺ أكثر مما يحب نفسه فيكون لو مات إبراهيم لكان بكاؤه لأجل النبي ﷺ أكثر من بكائه لأجل ابنه إلا أن يقال محبة الابن طبيعية لا يمكن دفعها فيقال هذا موجود في حب النبي ﷺ وهو الذي يقول لما مات إبراهيم تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون وهكذا ثبت في الحديث الصحيح فكيف يكون قد اختار موته وجعله فداء لغيره
ثم هل يسوغ مثل هذا أن يجعل شخص معصوم الدم فداء شخص معصوم الدم بل إن كان هذا جائزا كان الأمر بالعكس أولى فإن الرجل لو لم يكن عنده إلا ما ينفق على ابنه أو ابن بنته لوجب تقديم النفقة على الابن باتفاق المسلمين ولو لم يمكنه دفع الموت أو الضرر إلا عن ابنه أو ابن بنته لكان دفعه عن ابنه هو المشروع لا سيما وهم يجعلون العمدة في الكرامة هو القرابة من النبي ﷺ ويجعلون من أكبر فصائل على قرابته من النبي ﷺ وذلك الحسن والحسين
ومعلوم أن الابن أقرب من الجميع فكيف يكون الإبعد مقدما على الأقرب ولا مزيه إلا القرابة
وقد قال أنس بن مالك لو قضى أن يكون بعد النبي ﷺ نبي لعاش إبراهيم وغير أنس نازعه في هذا الكلام وقال لا يجب إذا شاء الله نبيا أن يكون ابنه نبيا
ثم لماذا كان إبراهيم فداء الحسين ولم يكن فداء الحسن والأحاديث الصحيحة تدل على أن الحسن كان أفضلهما وهو كذلك باتفاق أهل السنة والشيعة وقد ثبت في الصحيح أنه كان يقول عن الحسن اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه فلم لا كان إبراهيم فداء هذا الذي دعا بمحبة الله لمن يحبه
فصل
وأما على بن الحسين فمن كبار التابعين وساداتهم علما ودينا أخذ عن أبيه وابن عباس والمسور بن مخرمة أبي رافع مولى النبي ﷺ وعائشة وأم سلمة وصفية أمهات المؤمنين وعن مروان بن الحكم وسعيد بن المسيب وعبد الله بن عثمان بن عفان
وذكوان مولى عائشة وغيرهم رضي الله عنهم وروى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري والزهري وأبو الزناد وزيد بن أسلم وابنه أبو جعفر
قال يحيى بن سعيد هو أفضل هاشمي رأيته في المدينة وقال ممد بن سعد في الطبقات كان ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا وروى عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال سمعت علي بن الحسين وكان أفضل هاشمي أدركته يقول يا أيها الناس أحبونا حب الإسلام فما برح بنا حبكم حتى صار عارا علينا وعن شيبة بن نعامة قال كان علي بن الحسين يبخل فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة في السر وله من الخشوع وصدقة السر وغير ذلك من الفصائل ما هو معروف حتى إنه كان من صلاحه ودينه يتخطى وكان من خيار أهل العلم والدين من التابعين فيقال له تدع مجالس قومك وتجالس هذا فيقول إنما يجلس الرجل حيث يجد صلاح قلبه
وأما ما ذكره من قيام ألف ركعة فقد تقدم أن هذا لا يمكن إلا على وجه يكره في الشريعة أو لا يمكن بحال فلا يصلح ذكر مثل هذا في المناقب وكذلك ما ذكرمن تسمية رسول الله ﷺ له سيد العابدين هو شيءلا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم والدين
وكذلك أبو جعفر محمد بن علي من خيار أهل العلم والدين وقيل إنما سمى الباقر لأنه بقر العلم لا لأجل بقر السجود جبهته وأما كونه أعلم أهل زمانه فهذا يحتاج إلى دليل والزهري من أقرانه وهو عند الناس أعلم منه ونقل تسميته بالباقر عن النبي ﷺ لا أصل له عند أهل العلم بل هو من الأحاديث الموضوعة وكذلك حديث تبليغ جابر له السلام هو من الموضوعات عند أهل العلم بالحديث لكن هو روى عن جابر بن عبد الله غير حديث مثل حديث الغسل والحج وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة عنه ودخل على جابر مع أبيه على بن الحسين بعد ما أضر جابر وكان جابر من المبين لهم رضي الله عنهم وأخذ العلم عن جابر وأنس بن مالك وروى أيضا عن ابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة وعن سعيد بن المسيب ومحمد بن الحنفية وعبيد الله بن أبي رافع كاتب على وروى عنه أبو إسحاق الهنداني وعمرو بن دينار والزهري وعطاء بن أبي رباح وربيعة بن أبي عبد الرحمن والأعرج وهو أسن منه وابنه جعفر وابن جريج ويحيى بن أبي كثير الأوزاعي وغيرهم
وجعفر الصادق رضي الله عنه من خيار أهل العلم والدين أخذ العلم عن جده أبي أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعن محمد بن المنكدر ونافع مولى ابن عمر والزهري وعطاء بن أبي رباح وغيرهم وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وابن جريج وشعبة ويحيى بن سعيد القطان وحاتم بن إسماعيل وحفص بن غياث ومحد بن إسحاق بن يسار
وقال عمرو بن أبي المقدام كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين
وأما قوله اشتغل بالعبادة عن الرياسة، فهذا تناقض من الإمامية لأن الإمامة عندهم واجب عليه أن يقوم بها وبأعبائها فإنه لا إمام في وقته إلا هو فالقيام بهذا الأمر العظيم لو كان واجبا لكان أولى ن الاشتعال بنوافل العبادات
وأما قوله إنه هو الذي نشر فقه الإمامية والمعارف الحقيقية والعقائد اليقينية
فهذا الكلام يستلزم أحد أمرين إما أنه ابتدع في العلم ما لم يكن يعلمه من قبله وإما أن يكون الذين قبله قصروا فيما يجب عليهم من نشر العلم وهل يشك عاقل أن النبي ﷺ بين لأمته المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية أكمل بيان وأن أصحابه تلقوا ذلك عنه وبلغوه إلى المسلمين
وهذا يقتضي القدح إما فيه وإما فيهم بل كذب على جعفر الصادق أكثر مما كذب على من قبله فالافة وقعت من الكذابين عليه لا منه ولهذا نسب إليه أنواع من الأكاذيب مثل كتاب البطاقة والجفر والهفت والكلام في انجوم وفي تقدمة المعرفة من جهة الرعود والبروق واختلاج الأعضاء وغير ذلك حتى نقل عنه أبو عبد الرحمن في حقائق التفسير من الأكاذيب ما نزه الله جعفرا عنه وحتى أن كل من أراد أن ينفق أطاذيبه نسبها إلى جعفر حتى أن طائفة من الناس يظنون أن رسائل إخوان الصفا مأخوذه عنه وهذا من الكذب المعلوم فإن جعفرا توفي سنة ثمان وأربعين ومائة وهذه الرسائل وضعت بعد ذلك بنحو مائتي سنة وضعت لما ظهرت دولة الإسماعيلية الباطنية الذين بنوا القاهرة المعزية سنة بضع وخمسين وثلاثمائة وفي تلك الأوقات صنفت هذه الرسائل بسبب ظهور هذا المذهب الذي ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض فأظهروا اتباع الشريعة وأن لها باطنا مخالفا لظاهرها وباطن أمرهم مذهب الفلاسفة وعلى هذا الأمر وضعت هذه الرسائل وضعها طائفة من المتفلسفة معروفون وقد ذكروا في أثنائها ما استولى عليه النصارى من أرض الشام وكان أول ذلك بعد ثلثمائة سنة من الهجرة النبوية في أوائل المائة الرابعة
فصل
وأما من بعد جعفر فموسى بن جعفر قال فيه أبو حاتم الرازي ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين قلت موسى ولد بالمدينة سنة بضع وعشرين ومائة وأقدمه المهدى إلى بغداد ثم رده إلى المدينة وأقام بها إلى أيام الرشيد فقدم هارون منصرفا من عمرة فحمل موسى معه إلى بغداد وحبسه بها إلى أن توفى في محبسه قال ابن سعد فتوفى سنة ثلاث وثمانين ومائة وليس له كثير رواية روى عن أبيه جعفر وروى عنه أخوه على وروى له الترمذي وابن ماجة
وأما من بعد موسة فلم يؤخذ عنهم من العلم ما يذكر به أخبارهم في كتب المشهورين بالعلم وتواريخهم فإن أولئك الثلاثة توجد أحاديثهم في الصحاح والسنن والمسانيد وتوجد فتاويهم في الكتب المصنفة في فتاوي السلف مثل كتب ابن المبارك وسعيد بن منصور وعبد الرزاق وأبي بكر بن أبي شيبة وغير هؤلاء وأما من بعدهم فليس لهم رواية في الكتب الأمهات من كتب الحديث ولا فتاوي في الكتب المعروفة التي نقل فيها فتاوي السلف ولا لهم في التفسير وغيره أقوال معروفة ولكن لهم من الفضائل والمحاسن ما هو له أهل رضي الله عنهم أجمعين وموسى بن جعفر مشهور بالعبادة والنسك
وأما الحكاية المذكورة عن شقيق البلخي فكذب فإن هذه الحكاية تخالف المعروف من حال موسى بن جعفر وموسى كان مقيما بالمدينة بعد موت أبيه جعفر وجعفر مات سنة ثمان وأربعين ولم يكن قد جاء إذ ذاك إلى العراق حتى يكون بالباقدسية ولم يكن أيضا ممن يترك منفردا على هذه الحال لشهرته وكثرة غاشيته وإجلال الناس له وهو معروف ومتهم أيضا بالملك ولذلك أخذه المهدي ثم الرشيد إلى بغداد
أما قوله تاب على يده بشر الحافي فمن أكاذيب من لا يعرف حاله ولا حال بشر فإن موسى بن جعفر لما قدم به الرشيد إلى العراق حبسه فلم يكن ممن يجتاز على دار بشر وأمثاله من العامة
فصل
قال الرافضي وكان ولده على الرضا أوهد أهل زمانه وكان أعلمهم وأخذ عنه فقهاء الجمهور كثيرا وولاه المأمون لعلمه بما هو عليه من الكمال والفضل ووعظ يوما أخاه زيدا فقال يا زيد ما أنت قائل لرسول الله ﷺ إذا سفكت الدماء وأخذت الأموال من غير حلها وأخفت السبل وغرك حمقى أهل الكوفة وقد قال رسول الله ﷺ إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار وفي رواية إن علي قال يا رسول الله لم سميت فاطمة قال لأن الله فطكمها وذريتها من النار فلا يكون الإحصان سببا لتحريم ذريتها على النار وأن تظلم والله ما نالوا ذلك إلا بطاعة الله فإن أردت أن تنال بمعصية الله ما نالوه بطاعته إنك إذا لأكرم على الله منهم
وضرب المأمون اسمه على الدراهم والدنانير وكتب إلى أهل الافاق ببيعته وطرح السواد ولبس الخضرة
قال وقيل لأبي نواس لم لا تمدح الرضا فقال
قيل لي أنت أفضل الناس طرا ... في المعاني وفي الكلام البديه
لك من جوهر الكلام بديع ... يثمر الدر في يدي مجتنيه
فلماذا تركت مدح ابن موسى ... والخصال التي تجمعن فيه
قلت لا أستطيع مدح إمام ... كان جبريل خادما لأبيه
فيقال من المصائب التي ابتلى بها ولد الحسين انتساب الرافضة إليهم وتعظيمهم ومدحهم لهم فإنهم يمدحونهم بما ليس بمدح ويدعون لهم دعاوي لا حجة لها ويذكرون من الكلام ما لو لم يعرف فضلهم من غير كلام الرافضة لكان ما تذكره الرافضة بالقدج أشبه منه بالمدح فإن على بن موسى له من المحاسن والمكارم المعروفة والممادح المناسبة لحاله اللائقة به ما يعرفه بها أهل المعرفة وأما هذا الرافضي فلم يذكر له فضيلة واحدة بحجة
وأما قوله إنه كان أزهد الناس وأعلمهم فدعوى مجردة بلا دليل فكل من غلا في شخض أمكنه أن يدعى له هذه الدعوى كيف والناس يعلمون أنه كان في زمانه من هو أعلم منه ومن هو أزهد منه كالشافعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وأشهب بن عبد العزيز وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء هذا ولم يأخذ عنه أحد من أهل العلم بالحديث شيئا ولا روى له حديث في الكتب الستة وإنما يروى له أبو الصلت الهروي وأمثاله نسخا عن ابائه فيها من الأكاذيب ما قد نزه الله عنه الصادقين من غير أهل البيت فكيف بالصادقين منهم
وأما قوله إنه أخذ عنه فقهاء الجمهور كثيرا فهذا من أظهر الكذب هؤلاء فقهاء الجمهور المشهورون لم يأخذوا عنه ما هو معروف وإن أخذ عنه بعض من لا يعرف من فقهاء الجمهور فهذا لا ينكر فإن طلبة الفقهاء قد يأخذون عن المتوسطين في العلم ومن هم دون المتوسطين
وما يذكره بعض الناس من أن معروفا الكرخي كان خادما له وأنه أسلم على يديه أو أن الخرقة متصلة منه إليه فكله كذب باتفاق من يعرف هذا الشأن
والحديث الذي ذكره عن النبي ﷺ عن فاطمة هو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ويظهر كذبه لغير أهل الحديث أيضا فإن قوله إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار يقتضي أن إحصان فرجها هو السبب لتحريم ذريتها على النار وهذا باطل قطعا فإن سارةأحصنت فرجها ولم يحرم الله جميع ذريتها على النار
قال تعالى وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين
وقال تعالى ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون
ومن المعلوم أن بني اسرائيل ن ذرية سارة والكفار فيهم لا يحصيهم إلا الله وأيضا فصفية عمه رسول الله ﷺ أحصنت فرجها ومن ذريتها محسن وظالم
وفي الجملة فاللواتي أحصن فروجهن لا يحصى عددهن إلا الله عز وجل ومن ذريتهن البر والفاجر والمؤمن والكافر
وأيضا ففضيلة فاطمة ومزيتها ليست بمجرد إحصان فرجها فإن هذا يشارك فيه فاطمة جمهور نساء المؤمنين وفاطمة لم تكن سيدة نساء العالمين بهذا الوصف بل بما هو أخص منه بل هذا من جنس حجج الرافضة فإنهم لجهلهم لا يحسنون أن يحتجوا ولا يحسنون أن يكذبوا كذبا ينفق
وأيضا فليست ذرية فاطمة كلهم محرمين على النار بل فيهم البر والفاجر والرافضة تشهد على كثير منهم بالكفر والفسوق وهم أهل السنة منهم المتولون لأبي بكر وعمر كزيد بن علي بن الحسين وأمثاله من ذرية فاطمة رضي الله عنها فإن الرافضة رفضوا زيد بن علي بن الحسين ومن والاه وشهدوا عليهم بالكفر والفسق بل الرافضة أشد الناس عداوة إما بالجهل وإما بالعناد لأولاد فاطمة رضي الله عنها
ثم موعظة على بن موسى لأخيه المذكور تدل على أن ذرية فاطمة فيهم مطيع وعاص وأنهم إنما بلغوا كرامة الله بطاعته وهذا قدر مشترك بين جميع الخلق فمن أطاع الله أكرمه الله ومن عصى الله كان مستحقا لإهانة الله وهذا هوالذي دل عليه الكتاب والسنة
وأما ما ذكره من تولية المأمون له الخلافة فهذا صحيح لكن ذلك لم يتم بل استمر ذلك إلى أن مات على بن موسى ولم يجعله ولي عهده وهم يزعمون أنه قتله بالسم فإن كان فعل المأمون الأول حجة كان فعله الثاني حجة وإن لم يكن حجة لم يصلح أن يذكر مثل هذا في مناقب على بن موسى الرضا ولكن القم جهال بحقيقة المناقب والمثالب والكرق التي يعلم بها ذلك
ولهذا يستشهدون بأبيات أبي نواس وهي لو كانت صدقا لم تصلح أن تثبت فضائل شخص بشهادة شاعر معروف بالكذب والفجور الزائد الذي لا يخفى على من له أدنى خبرة بأيام الناس فكيف والكلام الذي ذكره فاسد فإنه قال
قلت لا أستطيع مدح إمام ... كان جبريل خادما لأبيه
ومن المعلوم أن هذا وصف مشترك بين جميع من كان من ذرية الرسل وجميع ذرية على يشاركونه في هذا فأي مزية له في هذا حتى يكون بها إماما دون أمثاله المشاركين له في هذا الوصف ثم هذا يقتضي أنه لا يمدح أحدا من ذرية على أصلا لأن هذا الوصف مشترك بينهم ثم كون الرجل من ذرية الأنبياء قدر مشترك بين الناس فإن الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام ومن ذرية ادم وبنو إسرائيل يهوديهم وغير يهوديهم من ذرية إبراهيم وإسحاق ويعقوب
وأيضا فتسمية جبريل رسول الله إلى محمد ﷺ خادما له عبارة من لا يعرف قدر الملائكة وقدر إرسال الله لهم إلى الأنبياء ولكن الرافضة غالب حججهم أشعار تليق بجهلهم وظلمهم وحكايات مكذوبة تليق بجهلهم وكذبهم وما يثبت أصول الدين بمثل هذه الأشعار إلا من ليس معدودا من أولى الأبصار
فصل
قال الرافضي وكان ولده محمد بن علي الجواد على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود ولما مات أبوه الرضا شغف بحبه المأمون لكثرة علمه ودينه ووفور عثله مع صغر سنه وأراد أن يزوجه ابنته أم الفضل وكان قد زوج أباه الرضا عليه السلام بابنته أم حبيب فغلظ ذلك على العباسيين واستنكروه وخافوا أن يخرد الأمر منهم وأن يبايعه كما بايع أباه فاجتمع الأدنون منهم وسألوه ترك ذلك وقالوا إنه صغير السن لا علم عنده فقال أنا أعرف منكم به فإن شئتم فامتحنوه فرضوا بذلك وجعلوا للقاضي يحيى بن أكثم مالا كثيرا على امتحانه في مسألة يعجزه فيها فتواعدوا إلى يوم وأحضره المأمون وحضر القاضي وجماعة العباسيين فقال القاضي أسألك عن شيء فقال له عليه السلام سل فقال ما تقول في محرم قتل صيدا فقال له عليه السلام قتله في حل أو حرم عالما كان أو جاهلا مبتدئا بقتله أو عائدا من صغار الصيد كان أم من كبارها عبدا كان المحرم أو حرا صغيرا كان أو كبيرا من ذوات الطبر كان الصيد أم من غيرها فتحير يحيى بن أكثم وبان العجز في وجهه حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره فقال المأمون لأهل بيته عرفتم الان ما كنتم تنكرونه ثم أقبل الإمام فقال أتخطب قال نعم فقال أخطب لنفسك خطبة النكاح فخطب وعقد على خمسمائة درهم جيادا كمهر جدته فاطمة عليها السلام ثم تزوج بها
والجواب أن يقال إن محمد بن علي الجواد كان من أعيان بني هاشم وهو معروف بالسخاء والسؤدد ولهذا سمي الجواد ومات وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة ولد سنة خمس وتسعين ومات سنة عشرين أو سنة تسع عشرة وكان المأمون زوجه بابنته وكان يرسل إليه في السنة ألف ألف درهم واستقدمه المعتصم إلى بغداد ومات بها
وأما ما ذكره فإنه من نمط ما قبله فإن الرافضة ليس لهم عقل صريح ولا نقل صحيح ولا يقيمون حقا ولا يهدمون باطلا لا بحجة وبيان ولا بيد وسنان فإنه ليس فيما ذكره وما يثبت فضيلة محمد بن على فضلا عن ثبوت إمامته فإن هذه الحكاية التي حكاها عن يحيى بن أكثم من الأكاذيب التي لا يفرح بها إلا الجهال ويحيى بن أكثم كان أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن محرم قتل صيدا فإن صغار الفقهاء يعلمون حكم هذه المسألة فليست من دقائق العلم ولا غرائبه ولا مما يختص به المبرزون في العلم
ثم مجرد ما ذكره ليس فيه إلا تقسيم أحوال القاتل ليس فيه بيان حكم هذه الأقسام ومجرد التقسيم لا يقتضي العلم بأحكام الأقسام وإنما يدل إن دل على حسن السؤال وليس كل من سئل أحسن أن يجيب ثم إن كان ذكر الأقسام الممكنة واجبا فلم يستوف الأقسام وإم لم يكن واجبا فلا حاجة إلى ذكر بعضها فإنه من جملة الأقسام أن يقال متعمدا كان أو مخطئا
وهذا التقسيم أحق بالذكر من قوله عالما كان أو جاهلا فإن الفرق بين المتعمد والمخطىء ثابت في الإثم باتفاق الناس وفي لزوم الجزاء في الخطأ نزاع مشهور فقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن المخطىء لا جزاء عليه وهي إحدى الروايتين عن أحمد قالوا لأن الله تعالى قال ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم الآية فخص المتعمد بإيجاب الجزاء وهذا يقتضي أن المخطىء لا جزاء عليه لأن الأصل براءة ذمته والنص إنما أوجب على المتعمد فبقى المخطىء على الأصل ولأن تخصيص الحكم بالمتعمد يقتضي انتقاءه عن المخطىء فإن هذا مفهوم صفة في سياق الشرط وقد ذكر الخاص بعد العام فإنه إذا كان الحكم يعم النوعين كان قوله ومن قتله منكم يبين الحكم مع الإيجاز فإذا قال ومن قتله منكم متعمدا فزاد اللفظ ونقص المعنى كان هذا مما يصان عنه كلام أدنى الناس حكمه فكيف بكلام الله الذي هو خير الكلام وأفضله وفضله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه
والجمهور القائلون بوجوب الجزاء على المخطىء يثبتون ذلك بعموم السنة والاثار وبالقياس على قتل الخطأ في الادمي ويقولون إنما خص الله المتعمد بالذكر لأنه ذكر من الأحكام ما يختص به المتعمد وهو الوعيد بقوله ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه فلما ذكر الجزاء والانتقام كان المجموع مختصا بالمتعمد وإذا كان المجموع مختصا بالمتعمد لم يلزم ألا يثبت بعضه مع عدم العمد
مثل هذا قوله وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فإنه أراج بالقصر قصر العدد وقصر الأركان وهذا القصر الجامع للنوعين متعلق بالسفر والخوف ولا يلزم من الاختصاص المجموع بالأمرين أن لا يثبت أحدهما مع أحد الأمرين ولهذا نظائر
وكذلك كان ينبغي له أن يسأله أقتله وهو ذاكر لإحرامه أو ناس فإن في الناسى من النزاع أعظم مما في الجاهل ويسأله أقتله لكونه صال عله أو لكونه اضطر إليه لمخمصة أو قتله اعتباطا بلا سبب
وأيضا فإن في هذه التقاسيم ما يبين جهل السائل وقد نزه الله من يكون إماما معصوما عن هذا الجهل وهو قوله أفى حل قتله أم في حرم فإن المحرم إذا قتل الصيد وجب عليه الجزاء سواء قتله في الحل أو في الحرم باتفاق المسلمين والصيد الحرمى قتله على المحل والمحرم فإذا كان محرما وتقل صيدا حرميا توكدت الحرمة لكن الجزاء واحد
وأما قوله مبتدئا أو عائدا فإن هذا فرق ضعيف لم يذهب إليه إلا شاذ من أهل العلم
وأما الجماهير فعلى أن الجزاء يجب على المبتدىء وعلى العائد وقوله في القران ومن عاد فينتقم الله منه قيل إن المراد من عاد إلى ذلك في الإسلام بعدما عفا الله عنه في الجاهلية وقبل نزول هذه الآية كمن قال ولا تنكحوا ما نكح اباؤكم من النساء إلا ما قد سلف وقوله وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف وقوله قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
يدل على ذلك أنه لو كان المراد به عفا الله عن أول مرة لما أوجب عليه جزاء ولا انتقم منه وقد أوجب عليه الجزاء أول مرة وقال ليذوق وبال أمره فمن أذاقه الله وبال أمره كيف يكون قد عفا عنه
وأيضا فقوله عما سلف لفظ عام واللفظ العام المجرد عن قرائن التخصيص لا يراد به مرة واحدة فإن هذا ليس من لغى العرب ولو قدر أن المراد بالآية عفا الله عن أول مرة وأن قوله ومن عاد يراد به العون إلى القتل فإن انتقام الله منه إذا عاد لا يسقط الجزاء عنه فإن تغليظ الذنب لا يسقط الواجب كمن قتل نفسا بعد نفس لايسقط ذلم عنه قودا ولا دية ولا كفارة
وقوله إن مهر فاطمة مان خمسمائة درهم لا يثبت وإنما الثابت أن رسول الله ﷺ لم يصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من خمسمائة درهم اثنى عشر اوقية ونش والنش هو النصف وهذا معروف عن عمر وغيره لن أم حبيبة زوجة بها النجاشي فزاد الصداق من عنده وسواء كان هذا ثابتا أو لم يكن ثابتا فتحرى تخفيف الصداق سنة ولهذا استحب العلماء أن لا يزاد على صداق رسول الله ﷺ لنسائه وبناته وقد روى أن عليا أصدق فاطمة درعه وبكل حال فليس في هذا ما يدل على فضيله واحد من الأمراء فضلا عن إمامته وإن كانت لهم فضائل ثابته بدون هذا
===========
منهاج السنة النبوية/23
فصل
قال الرافضي وكان ولده على الهادي ويقال له العسكري لأن المتوكل أشخصه من المدينة إلى بغداد ثم منها إلى سر من رأى فأقام بموضع عندها يقال له العسكر ثم انتقل إلى سر من رأى فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر وإنما أشخصه المتوكل لأنه كان يبغض عليا رضي الله عنه فبلغه مثام علي بالمدينة وميل النس إليه فخاف منه فدعا يحيى بن هبيرة وأمره بإحضاره فضج أهل المدينة لذلك خوفا عليه لأنه كان محسنا إليهم ملازما للعبادة في المسجد فحلف يحيى أنه لا مكروه عليه ثم فتش منزله فلم يجد فيه سوى مصاحف وأدعية وكتب العلم فعظم في عينه وتولى خدمته بنفسه فلما قدم بغداد بدأ بإسحاق بن إبراهيم الطائي والى بغداد فقال له يا يحيى هذا الرجل قد ولده رسول الله ﷺ والموكل من تعلم فإن حرضته عليه قتله وكان رسول الله ﷺ خصمك يوم القيامة فقل له يحيى والله ما وقعت منه إلا على خير قال فلما دخلت على المتوكل أخبرته بحسن سيرته وورعه وزهده فأكرمه المتوكل ثم مرض المتوكل فنذر إن عوفى تصدق بدراهم كثيرة فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جوابا فبعث إلى على الهادي فسأله فقال تصدق بثلاثة وثمانين درهما فسأله المتوكل عن السبب فقال لقوله تعالى لقد نصركم الله في مواطن كثيرة وكانت المواظن غزاة وبعث ستا وخمسين سرية قال المسعودي نمى إلى المتوكل بعلى بن محمد أن في منزله سلاحا من شيعته من أهل قم وأنه عازم على الملك فبعث إليه جماعة من الأتراك فهجموا داره ليلا فلم يجدوا فيها شيئا ووجدوه في بيت مغلق عليه وهو يقرأ وعليه مدرعه من صوف وهو جالس على الرمل والحصا متوجها إلى الله تعالىيتلو القران فحمل على حالته تلك إلى المتوكل فأدخل عليه وهو في مجلس الشراب والكأس في يد المتوكل فعظمه وأجلسه إلى جانبه وناوله الكأس فقال والله ما خامر لحمى ودمى قط فأعفني فأعفاه وقال له أسمعني صوتا فقال كم تركوا من جنات وعيون فقال أنشدني شعرا فقال إني قليل الواية للشعر فقال لا بد من ذلك فأنشده
باتوا عن قلل الأجبال تحريهم ... غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنلزوا بعد عز من معاقلهم ... وأسكنوا حفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد دفنهم ... أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة ... من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
فبكى المتوكل حتى بلت دموعه لحيته
فيقال هذا الكلام من جنس ما قبله لم يذكر منقبة بحجة صحيحة بل ذكر ما يعلم العلماء أنه من الباطل فإنه ذكر في الحكاية أن والي بغداد كان إسحاق بن إبراهيم الطائي وهذا من جهله فإن إسحاق بن إبراهيم هذا خزاعة معروف هو وأهل بيته كانوا من خزاعة فإنه إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب وابن عمه عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب أمير خراسان المشهور المعلومة سيرته وابن هذا محمد بن عبد الله بن طاهر كان نائبا على بغداد في خلافة المتوكل وغيره وهو الذي صلى على أحمد بن حنبل لما مات وإسحاق بن إبراهيم هذا كان نائبا لهم في إمارة المعتصم والواثق وبعض أيام المتوكل وهؤلاء كلهم من خزاعة ليسوا من طيىء وهم أهل بيت مشهورون
وأما الفتيا التي ذكرها من أن المتوكل نذر إن عوفي يتصدق بدراهم كثيرة وأنه سأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جوابا وأن على بن محمد أمره أن يتصدق بثلاثة وثمانين درهما لقوله تعالى لقد نصركم الله في مواظن كثيرة وأن المواطن كانت هذه الجملة فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزا سبعا وعشرين غزاة وبعث ستا وخمسين سرية فهذه الحكاية أيضا تحى عن على بن موسى مع المأمون وهي دائرة بين أمرين إما أن تكون كذبا وإما أن تكون جهلا ممن أفتى بذلك
فإن قول القائل له على دراهم كثيرة أو والله لأعطين فلانا دراهم كثيرة أو لأتصدقن بدراهم كثيرة لا يحمل على ثلاث وثمانين عند أحد من علماء المسلمين
والحجة المذكورة باطلة لوجوه
أحدها أن قول القائل إن المواطن كانت سبعا وعشرين غزاة وستا وخمسين سرية ليس بصحيح فإن النبي ﷺ لم يغز سبعا وعشرين غزاة باتفاق أهل العلم بالسير بل أقل من ذلك
الثاني أن هذه الآية نزلت يوم حنين والله قد أخبر بما كان قبل ذلك فيجب أن يكون ما تقدم قبل ذلك مواطن كثيرة وكان بعد يوم حنين غزوة الطائف وغزوة تبوك وكثير من السرايا كانت بعد يوم حنين كالسرايا التي كانت بعد فتح مكة مثل إرسال جرير بن عبد الله إلى ذي الخلصة وأمثال ذلك
وجرير إنما أسلم قبل موت النبي ﷺ بنحو سنة وإذا كان كثير من الغزوات والسرايا كانت بعد نزول هذه الآية امتنع أن تكون هذه الآية المخبرة عن الماضي إخبارا بجميع المغازي والسرايا
الثالث أن الله لم ينصرهم في جميع المغازي بل يوم أحد تولوا وكان يوم بلاء وتحميص وكذلك يوم مؤتة وغيرها من السرايا لم يكونوا منصورين فيها فو كان مجموع المغازي والسرايا ثلاثا وثمانين فإنهم لم ينصروا فيها كلها حتى يكون مجموع ما نصروا فيه ثلاثا وثمانين
الرابع اختصاص هذا القدر بذلك فإن لفظ الكثير لفظ عام يتناول الألف والألفين والالاف وإذا عم أنواعا من المقادير فتخصيص بعض المقادير دون بعض تحكم
الخامس أن الله تعالى قال من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يضاعف الحسنة إلى سبعمائة ضعف بنص القران وقد ورد أنه يضاعفها ألفى ألف حسنة فقد سمى هذه الأشعفا كثيرة وهذه المواطن كثيرة
وقد قال تعالى كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين والكثرة ههنا تناول أنواعها من المقادير لأن الفئات المعلومة مع الكثرة لا تحصر في عدد معين وقد تكون الفئة القليلة ألفا والفئة الكثيرة ثلاثة الاف فهي قليلة بالنسبة إلى كثرة عدد الأخرى
وقد قال تعالى إذ يريكم الله في منامك قليى ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم ومعلوم ن الله أراه أهل بدر أكثر من مائة وقد سمى ذلك قليلا بالنسبة والإضافة
وهذا كله مما يبين أن القلة والكثرة أمر إضافي ولهذا تنازع الفقهاء فيما إذا قال له على مال عظيم أو خطير أو كثير أو جليل هو يرجع في تفسيره إليه فيفسره بما يتمول كقول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد أو لا يقبل تفسيره إلا بما له قدر خطير كقول أبي حنيفة ومالك وبعض أصحاب أحمد على قولين وأصحاب القول الثاني منهم من قدره بنصاب السرقة ومنهم من قدره بنصاب الزكاة ومنهم من قدره بالدية وهذا النزاع في الإقرار لأنه خبر والخبر عن أمر ماض قد علمه المقر
وأما المسألة المذكورة فهي إنشاء كما لو أوصى له بدراهم كثيرة والأرجح في مثل هذا أن يرجع إلى عرف المتكلم فما كان يسميه مثله كثيرا حمل مطلق كلامه على أقل محملاته والخليفة إذا قال دراهم كثيرة في نذر نذره لم يكن عرفه في مثل هذا مائة درهم ونحوها بل هو يستقل هذا ولا يستكثره بل إذا حمل كلامه على مقدار الدية اثنة عشر ألف درهم كان هذا أولة من حمله على ما دون ذلك واللفظ يحتمل أكثر من ذلك لكن هذا مقدار النفس المسلمة في الشرع ولا يكون عوض المسلم إلا كثيرا
والخليفة يحمل الكثير منه على ما لا يحمل الكثير من احاد العامة فإن صاحب ألف درهم إذا قال أعطوا هذا جراهم كثيرة احتمل عشرة وعشرين ونحو ذكل بحسب حاله فمعنى القليل والكثير هو من الأمور النسبية الإضافية كالعظيم والحير يتنوع بتنوع الناس فيحمل كلام كل إنان على ما هو المناسب لحالة في ذلك المقام
والحكاية التي ذكرها عن المعودي منقطعة الإسناد وفي تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله تعالى فكيف يوثق بحكاية منقطعة الإسناد في كتاب قد عرف بكثرة الكذب مع أنه ليس فيها الفضيلة إلا ما يوجد في كثير من عامة المسلمين ويوجد فيهم ما هو أعظم منها
وأما قوله وكان ولده الحسن العسكري عالما زاهدا فاضلا عابدا أفضل أهل زمانه وروت عنه العامة كثيرا
فهذا من نمط ما قبله من الدعاوي المجردة والأكاذيب البينة فإن العلماء المعروفين بالرواية الذين كانوا في زمن هذا الحسن بن علي العسكري ليست لهم عنه رواية مشهورة في كتب أهل العلم وشيوخ أهل الكتب الستة البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه كانوا موجودين في ذلك الزمان وقريبا منه قبله وبعده
وقد جمع الحافظ أبو القاسم بن عساكر أخبار شيوخ النبل يعني شيوخ هؤلاء الأئمة فليس في هؤلاء الأئمة من روى عن الحسن بن على هذا العسكري مع روايتهم عن ألوف مؤلفة من أهل الحديث فكيف يقال روت عنه العامة كثيرا أين هذه الروايات وقوله إنه كان أفضل أهل زمانه هو من هذا النمط
فصل
قال الرافضي وولده مولانا المهدي محمد عليه السلا روى ابن الجوزي بإسناده إلى ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ يخرج في اخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي كنيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا فذلك هو المهدي
فيقال قد ذكر محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من أهل العلم بالأنساب والتواريخ أن الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب والإمامية الذين يزعمون أنه كان له ولد يدعون أنه دخل السرداب بسامرا وهو صغير منهم من قال عمرة سنتان ومنهم من قال ثلاث ومنهم من قال خمس سنين وهذا لو كان موجودا معلوما لكان الواجب في حكم الله الثابت بنص القران والسنة والإجماع أن يكون محضونا عند من يحضنه في بدنه كأمه وأم أمه ونحوهما من أهل الحضانة وأن يكون ماله عند من يحفظه إما وصي أبيه إن كان له وصي وإما غير الوصي إما قريب وإما نائب لدى السلطان فإنه يتيم لموت أبيه
والله تعالى يقول وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن انستم مهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا فهذا لا يجوز تسليم ماله إليه حتى يبلغع النكاح ويؤنس منه الرشد كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فكيف يكون من يستحق الحجر عليه في بدنه وماله إماما لجميع المسلمين معصوما لا يكون أحد مؤمنا إلا بالإيمان به
ثم إن هذا باتفاق منهم سواء قدر وجوده أو عدمه لا ينتفعون به لا في دين ولا في دنيا ولا علم أحدا شيئا ولا يعرف له صفة من صفات الخير ولا الشر فلم يحصل به شيء من مقاصد الإمامة ولا مصالحها لا الخاصة ولا العامة بل إن قدر وجوده فهو ضرر على أهل الأرض بلا نفع أصلا فإن المؤمنين به لم ينتفعوا به ولا حصل لهم به لطف ولا مصلحة والمكذبون به يعذبون عندهم على تكذبيهم به فهو شر محض ولا خير فيه وخلق مثل هذا ليس من فعل الحكيم العادل
وإذا قالوا إن الناس بسبب ظلمهم احتجب عنهم
قيل أولا كان الظلم موجودا في زمن ابائه ولم يحتجبوا
وقيل ثانيا فالمؤمنون به طبقوا الأرض فهلا اجتمع بهم في بعض الأوقات أو أرسل إليهم رسولا يعلمهم شيئا من العلم والدين
وقيل ثالثا قد كان يمكنه أن يأوى إلى كثير من المواضع التي فيها شيعته كجبال الشام التي كان فيها الرافضة عاصية وغير ذلك من المواضع العاصية
وقيل رابعا فإذا هو لا يمكنه أن يذكر شيئا من العلم والدين لأحد لأجل هذا الخوف لم يكن في وجوه لطف ولا مصلحة فكان هذا مناقضا لما أثبتوه بخلاف من أرسل من الأنبياء وكذب فإنه بلغ الرسالة وحصل لمن امن من اللطف والمصلحة ما هو من نعم الله عليه وهذا المنتظر لم يحصل به لطائفته إلا الانتظار لمن لا يأتي ودوام الحسرة والألم ومعاداة العالم والدعاء الذي لا يستجيبه الله لأنهم الحسرة والألم ومعاداة العالم والدعاء الذي لا يستجيبه الله لأنهم لم يحصل شيء من هذا ثم إن عمر واحد من المسلمين هذه المرة أمر يعرف كذبه بالعادة المطردة في أمة محمد فلا يعرف أحد ولد في دين الإسلام وعاش مائة وعشرين سنة فضلا عن هذا العمر وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال في اخر عمره أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة نة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد
فمن كان في ذلك الوقت له سنة ونحوها لم يعش أكثر من مائة سنة قطعا وإذا كانت الأعمار في ذلك العصر لا تتحاوز هذا الحد فما بعده من الأعصار أولى بذلك في العادة الغالبة العامة فإن أعمار بني ادم في الغالب كلما تأخر الزمان قصرت ولم تطل فإن نوحا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وادم عليه السلام عاش ألف سنة كما ثبت ذلك في حديث صحيح رواه الترمذي وصححه فكان العمر في ذلك الزمان طويلا ثم أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح
واحتجاجهم بحياة الخضر احتجاج باطل على باطل فمن الذي يسلم لهم بقاء الخضر والذي عليه سائر العلماء المحققون أنه مات وبتقدير بقائه فليس هو من هذه الأمة
ولهذا يوجد كثير من الكذابين من الجن والأنس ممن يدعى أنه الخضر ويظن من راه أنه الخضر وفي ذلك من الحكايات الصحيحة التي نعرفها ما يطول وصفها هنا
وكذلك المنتظر محمد بن الحسن فإن عددا كثيرا من الناس يدعى كل واحد منهم أنه محمد بن الحسن منهم من يظهر ذلك لطائفة من الناس ومنهم من يكتم ذلك ولا يظهره إلا للواحد أو الاثنين وما من هؤلاء إلا من يظهر كذبه كما يظهر كذب من يدعى أنه الخضر
فصل
وقوله روى ان الجوزي بإسناده إلى ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ يخرج في اخر الزمان رجل من ولدي إسمه كاسمي وكنيته كنيتب يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا فذلك هو المهدي
فيقال الجواب من وجوه
أحدها أنكم لا تحتجون بأحاديث أهل السنة فمثل هذا الحديث لا يفيدكم فائدة وإن قلتم هو حجة على أهل السنة فنذكر كلامهم فيه
الثاني إن هذا من أخبار الاحاد فكيف يثب به أصل الدين الذي لا يصح الإيمان إلا به
الثالث أن لفظ الحديث حجة عليكم لا لكم فإن لفظه يواطىء اسمهاسمى واسم أبيه اسم أبي فالمهدي الذي أخبر به النبي ﷺ اسمه محمد بن عبد الله لا محمد بن الحسن وقد روى عن علي رضي الله عنه أنه قال هو من ولد الحسن بن على لا من ولد الحسين بن علي
وأحاديث المهدي معروفة رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم كحديث عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا
الوجه الرابع أن الحديث الذي ذكره وقوله اسمه كامسى وكنيته كنيتي ولم يقل يواطىء اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبي فلم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتب الحديث المعروفة بهذا اللفظ فهذا الرافضي لم يذكر الحديث بلفظه المعروف في كتب الحديث مثل مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وغير ذلك من الكتب وإنما ذكره بلفظ مكذوب لم يروه أحد منهم
وقوله إن ابن الجوزي رواه بإسناده أن أراد العالم المشهور صاحب المصنفات الكثيرة أبا الفرج فهو كذب عليه وإن أراد سبطه يوسف بن قز أو إلى صاحب التاريخ المسى بمراة الزمان وصاحب الكتاب المصنف في الاثنى عشر الذي سماه إعلام الخواص فهذا الرجل يذكر في مصنفاته أنواعا من الغث والسمين ويحتج في أغراضه بأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة وكان يصنف بحسب مقاصد الناس يصنف للشيعة ما يناسبهم ليعوضوه بذلك ويصنف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال أغراضه فكانت طريقته الواعظ الذي قيل له ما مذهبك قال في أي مدينة
ولهذا يوجد في بعض كتبه ثلب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم لأجل مداهنة من قصد بذلك من الشيعة ويوجد في بعضها تعظيم الخلفاء الراشدين وغيرهم
ولهذا لما كان الحديث المعروف عند السلف والخلف أن النبي ﷺ قال في المهدي يواطىء اسمه اسمه واسم أبيه اسم أبي صار يطمع كثير من الناس في أن يكون هو المهدي حتى سمى المنصور ابنه محمدا ولقبه بالمهدي مواطأة لاسمه باسمه واسم أبيه باسم أبيه ولكن لم يكن هو الموعود به
وأبو عبد الله محمد بن التومرت الملقب بالمهدي الذي ظهر بالمغرب ولقب طائفته بالموحدين وأحواله معروفة كان يقول إنه المهدي المبشربه وكان أصحابه يطقبون له على منابرهم فيقولون في خطبتهم الإمام المعصوم المهدي المعلوم الذي بشرت به في صريح وحيك الذي اكتنفته بالنور الواضح والعدل اللائح الذي ملأ البرية قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا
وهذا الملقب بالمهدي ظهر سنة بضع وخمسمائة وتوفى سنة أربع وعشرين وخمسمائة وكان ينتسب إلى أنه من ولد الحسن لأنه كان أعلم بالحديث فادعى أنه هو المبشر به ولم يكن الأمر كذلك ولا ملأ الأرض كلها قسطا ولا عدلا بل دخل في أمور منكرة وفعل أمورا حسنة
وقد ادعى قبله أنه المهدي عبيد الله بن ميمون القداح ولكن لم يوافق في الاسم ولا اسم الأب وهذا ادعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل وأهل المعرفة بالنسب وغيرهم من علماء المسلمين يعلمون أنه كذب في دعوى نسبه وأن أباه كان يهوديا ربيب مجوسى فله نسبتان نسبة إلى اليهود ونسبة إلى المجوس
وهو وأهل بيته كانوا ملاحدة وهم أئمة الإسماعيلية الذين قال فيهم العلماء إن ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض وقد صنف العلماء كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم وبيان كذبهم في دعوى النسب ودعوى الإسلام وأنهم بريئون من النبي ﷺ نسبا ودينا
وكان هذا المتلقب بالمهدي عبيد الله بن ميمون قد ظهر سنة تسع وتسعين ومائتين وتوفى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وانتقل الأمر إلى ولده القائم ثم ابنه المنصور ثم ابنه المعز الذي بنى القاهرة ثم العزيز ثم الحاكم ثم الظاهر ابنه ثم المستنصر ابنه وطالت مدته وفي زمنه كانت فتنة البساسيري وخطب له ببغداد عاما كاملا وابن الصباح الذي أحدث السكين للإسماعيلية هو من أتباع هؤلاء
وانقرض ملك هؤلاء في الديار المصرية سنة ثمان وستين وخمسمائة فملكوها أكثر من مائتي سنة وأخبارهم عن العلماء مشهورة بالإلحاد والمحادة لله ورسوله والردة والنفاق
والحديث الذي فيه لا مهدى إلا عيسى بن مريم رواه ابن ماجة وهو حديث ضعيف رواه عن يونس عن الشافعي عن شيخ مجهول من أهل اليمن لا تقوم بإسناده حجة وليس هو في مسنده بل مداره على يونس بن عبد الأعلى وروى عنه أنه قال حدثت عن الشافعي وفي الخلعيات وغيرها حدثنا يونس عن الشافعي لم يقل حدثنا الشافعي ثم قال عن حديث محمد بن خالد الجندي وهذا تدليس يدل على توهينه
ومن الناس من يقول إن الشافعي لم يروه
فصل
قال الرافضي فهؤلاء الأئمة الفضلاء المعصومون الذين بلغوا الغاية في الكمال ولم يتخذوا ما اتخذ غيرهم من الأئمة المشتغلين بالملك وأنواع المعاصي والملاهي وشرب الخمور والفجور حتى فعلوا بأقاربهم على ما هو المتواتر بين الناس قالت الإمامية فالله يحكم بيننا وبين هؤلاء وهو خير الحاكمين
قال وما أحسن قول الشاعر
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا ... وتعلم أن الناس في نقل أخبار
فدع عنك قول الشافعي ومالك ... وأحمد والمروى عن كعب أحبار
ووال أناسا قولهم وحديثهم ... روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
والجواب من وجوه أحدها أن يقال أما دعوى العصمة في هؤلاء فلم تذكر عليها حجة إلا ما ادعيته من أنه يجب على الله أن يجعل للناس إماما معصوما ليكون لطفا ومصلحة في التكليف وقد تبين فساد هذه الحجة من وجوه أدناها أن هذا مفقود لا موجود فإنه لم يوجد إمام معصوم حصل به لطف ولا مصلحة ولو لم يكن في الدليل على انتفاء ذلك إلا المنتظر الذي قد علم بصريح العقل أنه لم ينتفع به أحد لا في دين ولا دنيا ولا حصل لأحد من المكلفين به مصلحة ولا لطف لكان هذا دليل على بطلان قولهم فكيف مع كثرة الدلائل على ذلك
الوجه الثاني أن قوله كل واحد من هؤلاء قد بلغ الغاية في الكمال هو قول مجرد عن الدليل والقول بلا علم يمكن كل أحد أن يقابله بمثله وإن ادعى المدعى هذا الكمال فيمن هو أشهر في العلم والدين من العسكريين وأمثالهما من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين لكان ذلك أولى بالقبول ومن طالع أخبار الناس علم أن الفضائل العلمية والدينية المتواترة عن غير واحد من الأئمة أكثر مما ينقل عن العسكريين وأمثالها من الكذب دع الصدق
الثالث أن قوله هؤلاء الأئمة أن أراد بذلك أنهم كانوا ذوي سلطان وقدرة معهم السيف فهذا كذب ظاهر وهم لا يدعون ذلك بل يقولون إنهم عاجزون ممنوعون مغلوبون مع الظالمين لم يتمكن أحد منهم من الإمامة إلا علي بن أبي طالب مع أن الأمور استصعبت عليه ونصف الأمة أو أقل أو أكثر لم يبايعوه بل كثير منهم قاتلوه وقاتلهم وكثير منهم لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه وفي هؤلاء من هو أفضل من الذين قاتلوه وقاتلوا معه وكان فيهم من فضلاء المسلمين من لم يكن مع علي مثلهم بل الذين تحلفوا عن القتال معه وله كانوا أفضل ممن قاتله وقاتل معه
وإن أراد أنه كان لهم على ودين يستحقون به أن يكونوا أئمة فهذه الدعوى إذا صحت لا توجب كونهم أئمة يجب على الناس طاعتهم كما أن استحقاق الرجل أن يكون إمام مسجد لا يجعله إمامام واستحقاقه أن يكون قاضيا لا يصيره قاضيا واستحقاقه أن يكون أمير الحرب لا يجعله أمير الحرب والصلاة لا تصح إلا خلف من يكون إماما بالفعل ولا خلف من ينبغي أن يكون إماما وكذلك الحكم بين الناس إنما يفصله ذو سلطان وقدرة لا من يستحق أن يولي القضاء وكذلك الجند إنما يقاتلون مع أمير عليهم لا مع من لم يؤمر وإن كان يستحق أن يؤمر ففي الجملة الفعل مشروط بالقدرة فكل من ليس له قدرة وسلكان على الولاية والإمارة لم يكن إماما وإن كان يستحق أن يجعل له قدرة حتى يتمكن فكونه يسوغ أن يمكن أو يجب أن يمكن ليس هو نفس التمكن فكونه يسوغ أن يمكن أو يجب أن يمكن ليس هو نفس التمكن والإمام هو المتمكن القادر الذي له سلطان وليس في هؤلاء من هو كذلك إلا على رضى الله عنه كما تقدم
الوجه الرابع أن يقال ما تعنون بالاستحقاق أتعنون أن الواحد من هؤلاء كان يجب أن يولى الإمامة دون سائر قريش أم تريدون أن الواحد منهم من جملة من يصلح للخلافة فإن أردتم الأول فهو ممنوع مردود وإن أردتم الثاني فذلك قدر مشترك بينهم وبين خلق كثير من قريش
الوجه الخامس أن يقال الإمام هو الذي يؤتم به وذلك على وجهين أحدهما أن يرجع إليه في العلم والدين بحيث يطاع باختيار المطيع لكونه عالما بأمر الله عز وجل آمرا به فيطيعه المطيع لذلك وإن كان عاجزا عن إلزامه الطاعة والثاني أ يكون صاحب يد وسيف بحيث يطاع طوعا وكرها لكونه قادرا على إلزام المطيع بالطاعة
وقوله تعالى يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم قد فسر بالأمراء بذوي القدرة كأمراء الحرب وفسر بأهل العلم والدين وكلاهما حق وهذان الوصفان كانا كاملين في الخلفاء الراشدين فإنهم كانوا كاملين في العلم والعدل والسياسة والسلطان وإن كان بعضهم أكمل في ذلك من بعض فأبو بكر وعمر أكمل في ذلك من عثمان وعلي وبعدهم لم يكمل أحد في هذه الأمور إلا عمر بن عبد العزيز بل قد يكون الرجل أكمل في العلم والدين ممن يكون له سلطان وقد يكون أكمل في السلطان ممن هو أعلم منه وأدين
وهؤلاء إن أريد بكونهم أئمة أنهم ذوو سلطان فذلك باطل وهم لا يقولونه وان أريد بذلك أنهم أئمة في العلم والدين يطاعون مع عجزهم عن إلزام غيرهم بالطاعة فهذا قدر مشترك بين كل من كان متصفا بهذه الصفات
ثم إما أن يقال قد كان في أعصارهم من هو أعلم منهم وأدين إذ العلم المنقول عن غيرهم أضعاف العلم المنقول عنهم وظهور اثار غيرهم في الأمة أعظم من ظهور اثارهم في الأمة والمتقدمون منهم كعلى بن الحسين وابنه أبي جعفر وابنه جعفر بن محمد قد نقل عنهم من العلم قطعة معروفة وأخذ عن غيرهم أكثر من ذلك بكثير كثير وأما من بعدهم فالعلم المأخوذ عنهم قليل جدا ولا ذكر لأحد منهم في رجال أهل العلم المشاهير بالرواية والحديث والفتيا ولا غيرهم من المشاهير بالعلم وما يذكر لهم من المناقب والمحاسن فمثله يوجد لغيرهم من الأئمة
وإما أن يقال إنهم أفضل الأمة في العلم والدين فعلى التقديرين فإمامتهم على هذا الاعتبار لا ينازع فيها أهل السنة فإنهم متفقون على أنه يؤتم بكل أحد فيما يأمر به من طاعة الله ويدعو إليه من دين الله ويفعله مما يحبه الله فما فعله هؤلاء من الخير ودعوا إليه من الخير فإنهم أئمة فيه يقتدى بهم في ذلك
قال تعالى وجعلنا أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا باياتنا يوقنون وقد قال تعالى لإبراهيم إنى جاعلك للناس إماما ولم يكن ذلك بأن جعله ذا سيف يقاتل به جموع الناس بل جعله بحيث يجب على الناس اتباعه سواء أطاعوه أم عصوه
فهؤلاء في الامامة في الدين أسوة أمثالهم فأهل السنة مقرون بإمامة هؤلاء فيما دلت الشريعة على الائتمام بهم فيه وعلى الإمامة فيما يمكن الائتمام بهم فيه كما أن هذا الحكم ثابت لأمثالهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وابي بن كعب ومعاذ وأبي الدرداء وأمثالهم من السابقين الأولين ومثل سعيد بن المسيب وليمان بن يسار وعبيد الله بن عبد الله وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبي بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وهؤلاء هم فقهاء المدينة السبعة الذين قيل فيهم ...
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر ... مقالة حق ليست عن الحق خارجه
فقل هم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه
ومثل علقمة والأسود بن يزيد وأسامة ومحمد بن سيرين والحسن البصري ومثل سالم بن عبد الله بن عمر ومثل هشام بن عروة وعبد الرحمن بن القاسم وعبيد الله بن عمر والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبي الزناد ومثل مالك والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم
لكن المنقول الثابت عن بعض هؤلاء من الحديث والفتيا قد يكون أكثر من المنقول الثابت عن الاخر فتكون شهرته لكثرة علمه أو لقوة حجته أو نحو ذلك وإلا فلا يقول أهل السنة إن يحيى بن سعيد وهشام بن عروة وأبا الزناد أولى بالاتباع من جعفر بن محمد ولا يقولون إن الزهري ويحيى بن أبي كثير وحماد بن أبي سليمان ومنصور بن المعتمر أولى بالاتباع من أبيه أبي جعفر الباقر ولا يقولون إن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله أولى بالاتباع من على بن الحسين بل كل واحد من هؤلاء ثقة فيما ينقله مصدق في ذلك وما بينه من جلالة الكتاب والسنة على أمر من الأمور فهو من العلم الذي يستفاد منه فهو مصدق في الرواية والإسناد مقبول في الدلالة والإرشاد وإذا أفتى بفتيا وعارضه غيره رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما أمر الله سبحانه بذلك وهذا حكم الله ورسوله بين هؤلاء جميعهم وهكذا كان المسلمون على عد رسول الله ﷺ وعهد الخلفاء الراشدين
الوجه السادس أن يقال قوله لم يتخذوا ما اتخذه غيرهم من الأئمة المشتغلين بالملك والمعاصى كلام باطل وذلك أنه إن أراد أهل السنة يقولون إنه يؤتم بهؤلاء الملوك فيما يفعلونه من معصية الله فهذا كذب عليهم فإن علماء أهل السنة العروفين بالعلم عند أهل السنة متفقون على أنه لا يقتدى بأحد في معصية الله ولا يتخذ إماما في ذلك
وإن أراد أن أهل السنة يستعينون بهؤلاء الملوك فيما يحتاد إليهم فيه من طاعة الله ويعاونونهم على ما يفعلونه من طاعة الله فيقال لهم إن كان اتخاذهم أئمة بهذا الاعتبار محذورا فالرافضة أدخل منهم في ذلك فإنهم دائما يستعينون بالكفار والفجار على مكالبهم ويعاونون الكفار والفجار على كثير من ماربهم وهذا أمر مشهود في كل زمان ومكان ولو لم يكن إلا صاحب هذا الكتاب منهاج الندامة وإخوانه فإنهم يتخذون المغل والكفار أو الفساق أو الجهال أئمة بهذا الاعتبار
الوجه السابع أن يقال الأئمة الذين هم مثل هؤلاء الذين ذكرهم في كتابه وادعى عصمتهم ليس لهم سلطان تحصل به مقاصد الإمامة ولا يكفي الائتمام بهم في طاعة الله ولا في تحصيل ما لا بد منه مما يعين على طاعة الله فإذا لم يكن لهم ملك ولا سلطان لم يمكن أن تصلى خلفهم جمعة ولا جماعة ولا يكونون أئمة في الجهاد ولا في الحج ولا تقام بهم الحدود ولا تفصل بهم الخصومات ولا يستوفى الرجل بهم حقوقه التي عند الناس والتي في بيت المال ولا يؤمن بهم السبل فإن هذه الأمور كلها تحتاج إلى قادر يقوم بها ولا يكون قادرا إلا من له أعوان على ذلك وهؤلاء ولم يكونوا قادرين على ذلك بل القادر على ذلك كان غيرهم فمن طلب هذه الأمور من إمام عاجز عنها كان جاهلا ظالما ومن استعان عليها بمن هو قادر عليها كان عالما مهتديا مسددا فهذا يحصل مصلحة دينه وديناه والأول تفوته مصلحة دينه وديناه
الوجه الثامن أن يقال دعوى كون جميع الخلفاء كانوا مشتغلين بما ذكره من الخمور والفجور كذب عليهم والحكايات المنقولة في ذلك فيها ما هو كذب وقد علم أن فيهم العدل الزاهد كعمر بن عبد العزيز والمهدي بالله وأكثرهم لم يكن مظهرا لهذه المنكرات من خلفاء بني أمية وبني العباس وإن كان أحدهم قد يبتلى ببعض الذنوب وقد يكون تاب منها وقد يكون له حسنات كثيرة تمحو تلك السيئات وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه خطاياه ففي الجملة الملوك حسناتهم كبار وسيئاتهم كبار والواحد من هؤلاء وإن كان له ذنوب ومعاص لا تكون لاحاد المؤمنين فلهم من الحسنات ما ليس لاحاد المسلمين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وجهاد العدو وإيصال كثير من الحقوق إلى مستحقيها ومنع كثير من الظلم وإقامة كثير من العدل
ونحن لا نقول إنهم كانوا سالمين من الظالم والذنوب كما لا نقول إن أكثر المسلمين كانوا سالمين من ذلك لكن نقول وجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين وولاة أمورهم وعامهم لا يمنع أن يشارك فيما عمله من طاعة الله
وأهل السنة لا يأمرون بموافقة ولاة الأمور إلا في طاعة الله لا في معصيته ولا ضرر على من وافق رجلا في طاعة الله إذا انفرد ذلك عنه بمعصية لم يشركه فيها كما أن الرجل إذا حج مع الناس فوقف معهم وطاف لم يضره كون عض الحجاج له مظالم وذنوب ينفرد بها وكذلك إذا شهد مع الناس الجمعة والجماعة ومجالس العلم وغزا معهم لم يضره أن يكون بعض المشاركين له في ذلك له ذنوب يختص بها فولاة الأمور بمنزلة غيرهم يشاركون فيما يفعلونه من طاعة الله ولا يشاركون فما يفعلونه من معصية الله
وهذه كانت سيرة أئمةأهل البيت مع غيرهم فمن اتبعهم في ذلك فهو المقتدى بهم دون من تبرأ من السابقين الأولين وجمهور أهل العلم والدين وظاهر على عدواتهم الكفار والمنافقين كما يفعله من يفعله من الرافضة الضالين
الوجه التاسع أن يقال إمام قادر ينتظم به أمر الناس في أكثر مصالحهم بحيث تأمن به السبل ويقام به ما يقام من الحدود ويدفع به ما يدفع من الظلم ويحصل به ما يحصل من جهاد العدو ويستوفى به ما يستوفى من الحقوق خير من إمام معدوم لا حقيقة له
والرافضة تدعو إلى إمام معصوم وليس عندهم في الباطن إلا إمام معدوم وفي الظاهر إمام كفور أو ظلوم فأثمة أهل السنة ولو فرض ما فرض فيهم من الزلم والذنوب خير من الأئمة الظاهرين الذين يعتقدهم الرافضة وخير من إمام معدوم لا حقيقة له وأما الأئمة الباقون الذين كانوا موجودين فأولئك يأتم بهل أهل السنة كما يأتمون بأمثالهم فهو وأمثالهم أئمة ومن أئتم بهؤلاء مع أمثالهم من سائر المسلمين كان خيرا ممن أئتم بهم وحده فإن العلم رواية ودراية كلما كثر فيه العلماء واتفقوا على ذلك كان أقوى وأولى الاتباع فليس عند الشيعة خير إلا وأهل السنة يشركونهم فيه والخير الذي اختص به أهل السنة لا يشركهم فيه الشيعة
الوجه العاشر أن يقال ما ذكره هذا الإمامي يمكن كل واحد من أهل السنة أن يعارضه بما هو أقوى منه فإنه يقول عن مثل سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن سيرين ومطرف بن الشهير ومكحول والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله ومن شاء الله من التابعين وتابعيهم هؤلاء هم الأئمة فيما يمكن الأئتمام بهم فيه من الدين مع الائتمام بالملوك فيما يحتاج فيه إلى الائتمام بهم فيه من الدين وعلى بن الحسين وابنه وجعفر بن محمد وغيرهم هم أيضا من أئمة أهل السنة والجماعة بهذا الاعتبار فلم تأتم الشيعة بإمام ذي علم وزهد إلا وأهل السنة يأتمون به أيضا وبجماعات اخرين يشاركونهم في العلم والزهد بل هم أعلم منه وأزهد وما اخذ أهل السنة إماما من أهل المعاصى إلا وقد اتخذت الشيعة إماما من أهل المعاصي شرا منه فأهل السنة أولى بالائتمام بأئمة العدل فيما يمكن الائتمام بهم فيه وأبعد عن الائتمام بأئمة الظلم في غير ما هم ظالمون فيه فهم خير من الشيعة في الطرفين
الوجه الحادي عشر قوله قالت الإمامية فالله يحكم بيننا وبين هؤلاء وهو خير الحاكمين فيقال للإمامية إن الله قد حكم بينهم في الدنيا بما أظهره من الدلائل والبينات وبما نصر به أهلالحق عليكم فهم ظاهرون عليكم بالحجة والبيان وباليد والسنان كما أظهر دين نبيه على سائر الأديان
قال تعالى هو الذي أرسل رسولهبالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وكان من دينه قول أهل السنة الذي خالفتموهم فيه فإنه ظاهر عليكم بالحجة والسنان كظهور دين محخمد ﷺ على سائر الأديان ولم يظهر دين محمد ﷺ قط غير غيره من الأديان إلا بأهل السنة كما ظهر في خلافه أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ظهورا لم يحصل لشيء من الأديان
وعلى رضي الله عنه مع أنه من الخلفاء الراشدين ومن سادات السابين الأولين فلم يزهر في خلافته دين الاسلام بل وقعت الفتنة بين أهله وطمع فيهم عجوهم م الكفار والنصاري والمجوس بالشام والمشرق وأما بعد على فلم يعرف أهل علم ودين ولا أهل يد وسيف نصر الله بهم الإسلام إلا على أهل السنة وأما الرافضة فإما أن تعاون أعداء الإسلام وإما أن تمسك عن نصر الطائفتين ولا ريب أن الله تعالى يحكم يوم القيامة بين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وبين من عاداهم من الأولين والاخرين كما يحكم بين المسلمين والكفار
الوجه الثاني عشر أن يقال هذا التظلم ممن هو إن قلتم ممن ظلم عليا كأبي بكر وعمر على زعمكم فيقال لكم الخصم في هذا على وقد مات كما مات أبو بكر وعمر وهذا امر لا يتعلق بنا ولا بكم الا بطريق بيا نالحق وموالاة أهله ونحن نبين بالحجج الباهرة أن أبا بكر وعمر أولى بالعدل من كل أحد سواهما من هذه الأمة وأبعد عن الظلم من كل من سواهما وأن عليا لمي يكن يعتقد أنه إمام الأمة دونهما كما يذكر هذا في موضعه إن شاء الله تعالى
وإن قلتم نتظلم من الملوك الذين منعوا هؤلاء حقوقهم من الإمامة فهذا فرع على كون هؤلاء الاثنى عشر كانوا يطلبون الإمامة أو كانوا يعتقدون أنهم أئمة الأمة المعصومون وهذا كذب على القوم
وسواء كان صدقا أو كذبا فالله يحكم بين الكائفتين إن كانوا مختصمين قلن اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون
وإن كان التظلم من بعض الملوك الذين بينهم وبين هؤلاء منازعة في ولاية أو مال فلا ريب أن الله يحكم بين الجميع كما يحكم بين سائر المختصمين فإن نفس لشيعة بينهم من المخاصمات أكثر مما بين سائر طوائف أهل السنة
وبنو هاشم قد جرى بينهم نوع من الحروب وقد جرى بين بني حسن وبني حسين من الحروب ما يجري بين أمثالهم في هذه الأزمان والحروب وفي الأزمان المتأخرة بين بعض بني هاشم وبين غيرهم من الطوائف أكثر من الحروب التي كانت في أول الزمان بين بعض بني أمية وبعض بني هاشم لا لشرف نسب أولئك إذ نسب بني هاشم أشرف لكن لأن خير القرون هو القرن الذي بعث فيه النبي ﷺ ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم بالخير في تلك القرون أكثر والشر فيما بعدها أكثر وإن كان التظلم من أهل العلم والدين الذين لم يظلموا أحدا ولم يعاونوا ظالما ولكن يذكرون ما يجب من القول علما وعملا بالدلائل الكاشفة للحق فلا يشك من له أدنى عقل أن من شبه مثل مالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأمثالهم بمثل هشام بن الحكم وهشام بن سالم وأمثالهما من شيوخ الرافضة إنه لمن أظلم الظالمين وكذلك من شبه المفيد بن النعمان والكراجكي وأمثالهما بمثل أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري إنه لمن أظلم الظالمين وهؤلاء شيوخ المعتزلة دع محمد بن الهيصم وأمثاله والقاضي أبا بكر بن الطيب وأمثاله من متكلمة أهل الإثبات دع أهل الفقه والحديث والتصوف كأبي حامد الإسفراييني وأبي زيد المروزي وأبي عبد اله بن حامد وأبي عبد الله بن بطة وأبي بكر عبد العزيز وأبي بكر الرازي وأبي الحسين القدوري وأبي محمد بن أبي زيد وأبي بكر الأبهري وأبي الحسن الدراقطني وأبي عبد الله بن منده وأبي الحسين بن سمعون وأبي طالب المكي وأبي عبد الرحمن السلمي وأمثال هؤلاء
فما من طائفة من طوائف أهل السنة على تنوعهم إلا إذا اعتبرتها وجدتها أعلم وأعدل وأبعد عن الجهل والظلم من طائفة الرافضة فلا يوجد في أحد منهم معاونة ظالم إلا وهو في الرافضة أكثر ولا يوجد في الشيعة بعد ما عن ظلم ظالم إلا وهو في هؤلاء أكثر
وهذا أمر يشهد به العيان والسماع لمن له اعتبار ونظر ولا يوجد في جميع الطوائف لا أكذب منهم ولا أظلم منهم ولا أجهل منهم وشيوخهم يقرون بألسنتهم يقولون يا أهل السنة أنتم فيكم فتوة لو قدرنا عليكم لما عاملناكم بما تعاملونا به عند القدرة علينا الوجه الثالث عشر أن يقال هذا الشعر الذي استشهد به واستحسنه هو قول جاهل فإن أهل السنة متفقون على قبول ما روى جدهم عن جبريل عن الباري بل هم يقبلون مجرد قول الرسول ﷺ ويؤمنون به ولا يسألونه من أين علمت هذا لعلمهم بأنه معصوم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وإنما سموا أهل السنة لاتباعهم لسنته ﷺ لكان الشأن في معرفة ما رواه جدهم فهم يطلبون علم ذلك من الثقات الأثبات فإن كان عند أحد من العلويين علم شيء من ذلك استفادوه منه وإن كان عند غيرهم علم شيء من ذلك استفادوه منه
وأما مجرد كون جدهم روى عن جبريل عن الباري إذا لم يكونوا عالمين به فما يصنع لهم والناس لم يأخذوا قول مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلا لكونهم يسندون أقوالهم إلى ما جاء به النبي ﷺ فإن هؤلاء من أعلم الناس بما جاء به وأتبعهم لذلك وأشدهم اجتهادا في معرفة ذلك وابتاعه وإلا فأي غرض للناس في تعظيم مثل هؤلاء وعامة الأحاديث التي يرويها هؤلاء يرويها أمثالهم وكذلك عامة ما يجيبون به في المسائل يقوله أمثالهم ولا يجعل أهل السنة قول واحد من هؤلاء وحده معصوما يجب اتباعه بل إذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والرسول
واعتبر ذلك بما تشعدوه في زمانك من علم أهل العلم بالقران والحديث والفقه فيهما وأنت تجد كثيرا من بني هاشم لا يحفظ القران ولا يعرف من حيث النبي ﷺ إلا ما شاء اله ولا يفقه معاني ذلك
فإذا قال هذا روى جدنا عن جبريل عن الباري قيل نعم وهؤلاء أعلم منكم بما روى جدكم عن جبريل وأنتم ترجعون في ذلك إليهم وإذا كان كل من الأولين والاخرين من بني هاشم قد تعلم بعض ما جاء به الرسول ﷺ من غيره بل من غير بني هاشم كان هذا من أمارة أنه لا علم عندهم بذلك إلا كعلم أمثالهم فبمن يأتم الناس وعمن يأخذون عمن يعرف ما جاء به جدهم أو عمن لا يعرف ذلك والعلماء هم ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر
وإن قال مرادى بهؤلاء الأئمة الاثنا عشر قيل له ما رواه علي بن الحسين وأبو جعفر وأمثالهما من حديث جدهم فمقبول منهم كما يرويه أمثالهم ولولا أن الناس وجدوا عند كالك والشافعي وأحمد أكثر مما وجدوه عند موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمدبن علي لما عدلوا عن هؤلاء إلى هؤلاء وإلا فأي لأهل العلم والدين أن يعدلوا عن موسى بن جعفر إلى مالك بن أنس وكلاهما من بلد واحد في عصر واحد لو وجدوا عند موسى بن جعفر من علم الرسول ما وجدوه عند كالك مع كمال رغبة المسلمين في معرفة علم الرسول ونفس بني هاشم كانوا يستفيدون علم الرسول من مالك بن أنس أكثر مما يستفيدونه من ابن عمهم موسى بن جعفر ثم الشافعي جاء بعد مالك وقد خالفه في أشياء وردها عليه حتى وقع بينه وبين أصحاب مالك ما وقع وهو أقرب نسبا ببنى هاشم من مالك ومن أحرص الناس على ما يستفيده من علم الرسول من بني عمه وعير بني عمه فلو وجد عند أحد من بني هاشم أعظم من العلم الذي وجده عند مالك لكان أشد الناس مسارعة إلى ذلك فلما كان يعترف بأنه لم يأخذ العلم عن أحد أعلم من مالك وسفيان بن عيينة وكانت كتبه مشحونة بالأخذ عن هذين الاثنين وعن غيرهما وليس فيها شيء عن موسى بن جعفر وأمثاله من بني هاشم علم أن مطلوبه من علم الرسول ﷺ كان عند مالك أكثر مما هو عند هؤلاء
وكذلك أحمد بن حنبل قد علم كمال محبته لرسول الله ﷺ ولحديثه ومعرفته بأقواله وأفعاله وموالاته لمن يوافقه ومعاداته لمن يخالفه ومحبته لبني هاشم وتصنيفه في فضائلهم حتى صنف فضائل على والحسن والحسين كما سنف فضائل الصحابة ومع هذا فكتبه مملوءة بعلم مثل مالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد ووكيع بن الجراج ويحيى بن سعيد القطان وهشيم بن بشير وعبد ارحمن بن مهدي وأمثالهم دون موسى بن جعفر وعلى بن موسى ومحمد بن علي وأمثالهم فلو وجد مطلوبه عن مثل هؤلاء لكان أشد الناس رغبة في ذلك
فإن زعم زاعم أنه كان عندهم من العلم المخزون ما ليس عن أولئك لكان كانوا يكتمونه فأي فائدة للناس في علم يكتمونه فعلم لا يقال به ككنز لا ينفق منه وكيف يأتم اناس بمن لا يبين لهم العلم المكتوم كالإمام المعدوم وكلاهما لا ينتفع به ولا يحصل به لكف ولا مصلحة
وإن قالوا بل كانوا يبينون ذلك لخواصهم دون هؤلاء الأئمة قيل أولا هذا كذب عليهم فإن جعفر بن محمد لم يجيء بعد مثله وقد أخذ العلم عنه هؤلاء الأئمة كما لك وابن عيينة وشعبة والثوري وابن جريج ويحيى بن سعيد وأمثالهم من العلماء المشاعير الأعيان ثم من ظن بهؤلاء السادة أنهم يكتمون علمهم عن مثل هؤلاء ويخصون به قوما مدهولين ليس لهم في الأمة لسان صدق فقد أساء الظن بهم فإن في هؤلاء من المحبة لله ولرسوله والطاعة له والرغبة في حفظ دينه وتبليغه وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه وصيانته عن الزادة والنقصان ما لا يوجد قريب مه لأحد من شيوخ الشيعة
وهذا أمر معلوم بالضرورة لمن عرف هؤلاء وهؤلاء واعتبر هذا مما تجده في كل زمان من شيوخ السنة وشيوخه الرافضة كمصنف هذا الكتاب فإنه عند الإمامية أفضلهم في زمانه بل يقول بعض الناس ليس في بلاد المشرق أفضل منه في جنس العلوم مطلقا ومع هذا فكلامه يدل على أنه من أجهل خلق الله بحال النبي ﷺ وأقواله وأعماله فيروى الكذب الذي يظهر أنه كذب من وجوه كثيرة فإن كان عالما بأنه كذب فقد ثبت عنه ﷺ أنه قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وإن كان جاهلا بذلك دل على أنه من أجهل الناس بأحوال النبي ﷺ كما قيل
فإن كنت لا تدري فتلك معصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وأما الأبيات التي أنشدها فقد قيل في معارضهتها
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا ... تنال به الزلفي وتنجو من النار فدن بكتاب الله والسنة التي ... أتت عن رسول الله من نقل أخيار
ودع عنك دين الرفض والبدع التي ... يقودك داعيها إلى النار والعار
وسر خلف أصحاب الرسول فإنهم ... نجوم هدى في ضوئها يهتدي الساري
وعج عن طريق الرفض فهو مؤسس ... على الكفر تأسيسا على جرف هار
هما خطتا إما هدى وسعادى ... وإما شقاء مع ضلالة كفار
فأي فريقينا أحق بأمنه ... وأهدى سبيلا عند ما يحكم الباري
أمن سب اصحاب الرسول وخالف ال ... كتاب ولم يعبا بثابت أخبار
أم المفتدى بالوحي يسلك منهج ال ... صحابة مع حب القرابة الاطهار
فصل
قال الرافضب وما أظن أحدا من المحصلين وقف على هذه المذاهب واختار غير مذهب الإمامية باطنا وإن كان في الظاهر يصير إلى غيره طلبا للدنيا حيث وضعت لهم المدارس والربط والأوقاف حتى تستمر لبني العباس الدعوة ويشيدوا للعامة اعتقاد إمامتهم
فيقال هذا الكلام لا يقوله إلا من هو من أدهل الناس بأحوال أهل السنة أو من هو من أعظم الناس كذبا وعنادا وبطلانه ظاهر من وجوه كثيره فإنه من المعلوم أن السنة كانت قبل أن تبنى المدارس أقوى وأظهر فإن الدارس إنما بنيت في بغداد في أثناء المائة الخامسة بنيت النظامية في حدود الستين والأربعمائة وبنيت على مذهب واحد من الأئمة الأربعة والمذاهب الأربعة طبقت المشرق والمغرب وليس لأحد منهم درسة والمالكية في الغرب لا يذكر عندهم ولد العباس
ثم السنة كانت قبل دولة بني العباس أظهر منها وأقوى في دولة بني العباس فإن بني العباس دخل في دولتهم كثير من الشيعة وغيرهم من أهل البدع ثم إن أهل السنة متفقون على أن الخلافة لا تختص ببني العباس وإنه لو تولاها بعض العلويين أو الأمويين أو غيرهم من بطون قريش جاز ثم من المعلوم أن علماء السنة كمالك وأحمد وغيرهما من أبعد الناس عن مداهنة الملوك أو مقاربته ثم إن أهل السنة إنما يعظمون الخلفاء الراشدين وليس فيهم أحد من بني العباس
ثم من المعلوم لكل عاقل أنه ليس في علماء المسلمين المشهورين أحد رافضي بل كلهم متفقون على تجهيل الرافضة وتضليلهم وكتبهم كلها شاهدة بذلك وهذه كتب الطوائف كلها تنطق بذلك مع أنه لا أحد يلجئهم إلى ذكر الرافضة وذكر جهلهم وضلالهم
وهم دائما يذكرون من جهل الرافضة وضلالهم ما يعلم معه بالاضطرار أنهم يعتقدون أن الرافضة من أجهل الناس وأضلهم وأبعد طوائف الأمة عن الهدى كيف ومذهب هؤلاء الإمامية قد جمع عظائم البدع المنكرة فإنهم جهمية قدرية رافضة وكلام السلف والعلماء في ذم كل صنف من هذه الأسناف لا يحصيه إلا الله والتب مشحونة بذلك ككتب الحديث والاثار والفقه والتفسير والأصول والفروع وغير ذلك وهؤلاء الثلاثة شر من غيرهم من أهل البدع كالمرجئة والحرورية
والله يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم ما علمت رجلا له في الأمة لسان صدق يتهم بمذهب الإمامية فضلا عن أن يقال إنه يعتقده في الباطن
وقد اتهم بمذهب الزيدية الحسن بن صالح بن حي وكان فقيها صالحا زاهدا وقيل إن ذلك كذب عليه ولم ينقل أحد عنه إنه طعن في أبي بكر وعمر فضلا عن أن يشك في إمامتهما واتهم طائفة من الشيعة الأولى بتفضيل على على عثمان ولم يتهم أحد من الشيعة الأولى بتفضيل على علي أبي بكر وعمر بل كانت عامة الشيعة الأولى الذين يحبون عليا يفضلون عليه أبا بكر وعمر لكن كان فيهم كائفة ترجحه على عثمان وكان الناس في الفتنة صاروا شيعتين شيعة عثمانية وشيعة علوة وليس كل من قاتل مع على كان يفضله على عثمان بل كان كثير منهم يفضل عثمان عليه كما هو قول سائر أهل السنة
فصل
قال الرافضي وكثيرا ما رأينا من يتدين في الباطن بمذهب الإمامية ويمنعه عن إظهاره حب الدنيا وطلب الرياسة وقد رأيت بعض أئمة الحنابلة يقول إني على مذهب الإمامية فقلت لم تدرس على مذه الحنابلة فقال ليس في مذهبكم البغلات والمشاهرات وكان أكبر مدرسي الشافعيه في زماننا حيث توفي أوصى أن يتولى أمره في غسله وتجهيزه بعض المؤمنين وأن يدفن في مشهد مولانا الكاظم وأشهد عليه أنه كان على مذهب الإمامية
والجواب أن قوله وكثيرا ما رأينا هذا كذب بل قد يوجد في بعض المنتسبين إلى مذهب الأئمة الأربعة من هو في الباطن رافضي كما يوجد في المظهريت للإسلام من هو في الباطن منافق فإن الرافضة لما كانوا من جنس المنافقين يخفون أمرهم احتاجوا أن يتظاهروا بغير ذلك كما احتاج المنافقون أن يتظاهروا بغير الكفر ولا يوجد هذا إلا فيمن هو جاهل بأحوال النبي ﷺ وأمور المسلمين كيف كانت في أول الإسلام وأما من عرف الإسلام كيف كان وهو مقر بأن محمدا رسول الله باطنا وظاهرا فإنه يمتنع أن يكون في الباطن رافضيا ولا يتصور أن يكون في الباطن رافضيا إلا زنديق منافق أو جاهل بالإسلام كيف كان مفرط في الجهل
والحكاية التي ذكرها عن بعض الأئمة المدرسين ذكر لي بعض البغداديين أنها كذب مفترى فإن كان صادقا فيما نقله عن بعض المدرسين من هؤلاء وهؤلاء فلا ينكر أن يكون في المنتسبين إلى الأئمة الأربعة من هو زنديق ملحد مارق من الإسلام فضلا عن أن يكون رافضيا ومن استدل بزندقة بعض الناس في الباطن على أن علماء المسلمين كلهم زناقدة كان من أجهل الناس كذلك من استدل برفض بعض الناس في الباطن
ولو كشف لنا عن اسم هذا المدرس وهذا المدرس لبينا من جهله ما يبين حقيقة حاله وهل في مجرد كون الرجل تولى التدريس في مثل دولة الترك الكفار أو الحديثي العهد بالإسلام ما يدل على فضيلة المدرس وديانته حتى يجعل له قول مع العلم بأن كثيرا ممن يتولى التدريس بجاه الظلمة الجهال يكون من أجهل الناس وأظلمهم ولكن الذي يدل على فضيلة العلماء ما اشتهر من علمهم عند الناس وما زهر من اثار كلامهم وكتبهم فهل عرف أحد من فضلاء أصحاب الشافعي وأحمد وأصحاب مالك كان رافضيا أم يعلم بالاضطرار أن كل فاضل منهم فإنه من أشد الناس إنكارا للرفض وقد أتهم طائفة من أتباع الأئمة بالميل إلى نوع من الاعتزال ولم يعلم عن أحد منهم أنه اتهم بالرفض لبعد الرفض عن طريقة أهل العلم فإن المعتزلة وإن كانت أقوالهم متضمنة لبدع منكرة فإن فيهم من العلم والدين والاستدلال بالأدلة الشرعية والعقلية والرد على ما هو أبعد عن الإسلام منهم من أهل الملل والملاحدة بل ومن الرد على الرافضة ما أوجب أن يدخل فيهم جماعات من أهل العلم والدين وإن انتسبوا إلى مذهب بعض الأئمة الأربعة كأبي حنيفة وغيره بخلاف الرافضة فإنهم من أجهل الطوائف بالمنقول والمعقول ومن دخل فيهم من المظهرين للعلم والدين باطنا فلا يكون إلا من أجهل الناس أو زنديقا ملحدا
فسل
قال الرافضي الوجه الخامس في بيان وجوب اتباع مذهب الإمامية أنهم لم يذهبوا إلى التعصب في غير الحق بخلاف غيرهم فقد ذكر الغزالي والماوردي وهما إمامان للشافعيه أن تسطيح القبور هو المشروع لكن لما جعلته الرافضة شعارا لهم عدلنا عنه إلى التسنيم وذكر الزمخشري وكان من أئمة الحنفية في تفسير قوله تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته أنه يجوز بمقتضى هذه الآية أن يصلي على احاد المسلمين لكن لما اتخذت الرافضة ذلك في أئمتهم منعناه وقال مصنف الهداية من الحنفية إن المشروع التختم في اليمين ولكن لما اتخذته الرافضة جعلنا التختم في اليسار وأمثال ذلك كثير فانظر إلى من يغير الشريعة ويبدل الأحكام التي ورد بها النص عن النبي ﷺ ويذهب إلى شد الصواب معاندة لقوم معينين فهل يجوز اتباعه والمصير إلى أقواله
والجواب من طريقين أحدهما أن هذه الذي ذكره هو بالرافضة ألصق
والثاني أن أئمة السنة براء من هذا أما الطريق الأول فيقال لا نعلم طائفة أعظم تعصبا في الباطل من الرافضة حتى أنهم دون سائر الطوائف عرف منهم شهادة الزور لموافقهم على مخالفهم وليس في التعصب أعظم من الكذب وحتى أنهم في التعصب جعلوا للبنت جميع الميراث ليقولوا إن فاطمة رضي الله عنها ورثت رسول الله ﷺ دون عمه العباس رضي الله عنه وحتى أن فيهم من حرم لحم الجمل لأن عائشة قاتلت على جمل فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله صلى اله عليه وسلم وإجماع الصحابة والقرابة لأمر لا يناسب ذلك فإن ذلك الجمل الذي ركبته عائشة رضي الله عنها مات ولو فرض أنه حي فركوب الكفار على الجمال لا يوجب تحريمها وما زال الكفار يركبون جمالا ويغنمها المسلمون منهم ولحمها حلال لهم فأي شيء في ركوب عائشة للجمل مما يوجب تحريم لحمه
وغاية ما يفرضون أن بعض من يجعلونه كافرا ركب جملا مع أنهم كاذبون مفترون فيما يرمون به أم المؤمنين رضي الله عنها
ومن تعصبهم أنهم لا يذكرون اسم العشرة بل يقولون تسعة وواحد وإذا بنوا أعمدة أو غيرها لا يجعلونها عشرة وهم يتحرو ذلك في كثير من أمورهم
مع أن الكتاب العزيز قد جاء بذكر العشرة والعشر في غير موضع كما في قوله تعالى فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة وقال والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا وقال تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر وقال تعالى والفجر وليال عشر
فذكر سبحانه وتعالى اسم العشرة في مواضع محمودة وذكر اسم التسعة في موضع مذموم كقوله تعالى وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون
وقال النبي ﷺ تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان وكان يعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله تعالى وقال ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشرة فإذا كان الله ورسوله قد تكلم باسم العشرة وعلق بهذا العدد أحكاما شرعية محمودة كان نفورهم عن التكلم بذلك لكونه قد تسمى به عشرة من الناس يبغضونهم غاية الجهل والتعصب
ثم قولهم تسعة واحدة هو معنى العشرة مع طول العبارة وإذا كان اسم العشرة أو التسعة أو السبعة يقع على كل معدود بهذا العدد سواء كان من الناس أو الدواب أو الثياب أو الدراهم وبعض المعدودات يكون محمودا وبعضها يكون مذموما فنفور هؤلاء الجهال عن التكلم بهذه الأعداد في غاية الجهل وإنما هو كنفورهم عن التكلم بأسماء قوم يبغضونهم كما ينفرون عمت اسمه أبو بكر وعمر وعثمان بغضهم لشخص كان اسمه هذا الاسم
وقد كان من الصحابة رضي الله عنهم من هو مسمى بأسماء تسمى بها بعض الكفار كالوليد بن الوليد وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يقول في قنوته إذا قنت اللهم انج الوليد بن الوليد وانج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين
وهذا الوليد مؤمن تقى وأبوه الوليد كافر شقى وكذلك عقبة بن أبي معيط من كفار قريش وقد قال النبي ﷺ رأيت كأني في دار عقبة بن رافع وأتينا برطب ابن طاب فأولت الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة لنا في الاخرة وأن ديننا قد طاب
وقد كان النبي ﷺ يدعو علي بن أبي طالب في الكفار على بن أمية بن خلف قتل هو وأبوه يوم بدر كافرين وفي الصحابة كعب بن مالك شاعر النبي ﷺ وغيره وكان كعب بن الأشرف قد اذى الله ورسوله حتى ندب النبي ﷺ لقتله محمد بن مسلمة وأصحابه وفي الصحابة أبي بن كعب الذي قال له النبي ﷺ إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا يعني قراءة تبليغ لا قراءة تعلم وفي المشركين أبي بن خلف ثقله النبي ﷺ بيده يوم أحد ولم يقتل النبي ﷺ بيده أحدا غيره وقال إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي وهذا باب واسع
وقد سمى النبي ﷺ ابنه إبراهيم وقد سمى علي رضي الله عنه ابنيه أبا بكر وعمر
ففي الجملة أساء الأعلام يشترك فيها المسلم والكافر كما تسمى اليهود والنصارى إبراهيم وموسى وإسحاق ويعقوب والمسلمون يسمون بذلك أيضا فليس في تسمية الكافر باسم ما يوجب هجران ذلك الاسم فلو فرض والعياذ بالله أن هؤلاء كفار كما يقول المفترون لعنهم الله لم يكن في ذلك ما يوجب هجران هذه الأسماء وإنما ذلك مبالغة في التعصب والجهل
فإن قيل إنما يكرهون هذا الاسم لأن المسمى به يكون سنيا، قيل فهم قد يعرفون مذهب الرجل ولا خاطبونه بهذا الاسم بل بغيره من الأسماء مبالغة في هجران هذا الاسم ومن تعصبهم أنهم إذا وجدوا مسمى بعلى أو جعفر أو الحسن أو الحسين بادروا إلى إكرامه مع أنه قد يكون فاسقا وقد يكون في الباطن سنيا فإن أهل السنة يسمون بهذه الأسماء كل هذا من التعصب والجهل ومن تعصبهم وجهلهم أنهم يبغضون بني أمية كلهم لكون بعضهم كان ممن يبغض عليا، وقد كان في بني أمية قوم صالحون ماتوا قبل الفتنة وكان بنو أمية أكثر القبائل عمالا للنبي ﷺ فإنه لما فتح مكة استعمل عليها عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية وأخويه أبان بن سعيد وسعيد بن سعيد على أعمال أخر واتعمل أبا سفيان بن حرب بن أمية على نجران أو ابنه يزيد ومات وهو عليها وصاهر نبي الله ﷺ ببناته الثلاثة لبني أمية فزوج أكبر بناته زينب بأبي العاص بن الربيع بن أمية بن عبد شمس وحمد صهره لما أراد علي أن يتزوج ببنت أبي جهل فذكر صهرا له من بني أمية بن عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وزوج ابنتيه لعثمان بن عفان واحدة بعد واحدة وقال لو كانت عندنا ثالثة لزوجناها عثمان
وكذلك من جهلهم وتعصبهم أنهم يبغضون أهل الشام لكونهم كان فيهم أولا من يبغض عليا ومعلوم أن مكة كان فيها كفار ومؤمنون وكذلك المدنية كان فيها مؤمنون ومنافقون والشام في هذه الأعصار لم يبق فيه من يتظاهر ببغض على ولكن لفرط جهلهم يسحبون ذيل البغض وكذلك من جهلهم أنهم يذمون من ينتفع بشيء من اثار بني أمية كالشرب من نهر يزيد ويزيد لم يحفره ولكن وسعه وكالصلاة في جامع بناه بنو أمية ومن المعلوم أن النبي صلى الله علين وسلم كان يصلي إلى الكعبة التي بناها المشركون وكان يسكن في المساكن التي بنوها وكان يشرب من ماء الابار التي حفروها ويلبس من الثياب التي نسجوها ويعامل بالدراهم التي ضربوها فإذا كان ينتفع بمساكنهم وملابسهم والمياه التي أنبطوها والمساجد التي بنوها فكيف بأهل القبلة
فلو فرض أن يزيد كان كافرا وحفر نهرا لم يكره الشرب منه بإجماع المسلمين ولكن لفرط تعصبهم كرهوا ما يضاف إلى من يبغضونه
ولقد حدثني ثقة أنه كان لرجل منهم كلب فدعاه اخر منهم بكير بكير فقال صاحب الكلب أتسمي كلبي بأسماء أصحاب النار فاقتتلا على ذلك حتى جرى بينهما دم فهل يكون أجهل من هؤلاء
والنبي ﷺ يسمى أصحابه بأسماء قد تسمى بها قوم من أهل النار الذين ذكرهم الله في القران كالوحيد الذي ذكره الله في القران في قوله ذرني ومن خلقت وحيدا واسمه الوليد بن المغيرة وكان النبي ﷺ يدعو لابن هذا واسمه أيضا الوليد ويسمى الابن والأب في الصلاة ويقول اللهم أنج الوليد بن الوليد كما ثبت ذلك في الصحيح
ومن فرط جهلهم وتعصبهم أنهم يعمدون إلى يوم أحب الله صيامه فيرون فطره كيوم عاشوراء وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى قال دخل النبي ﷺ المدينة وإذا ناس من اليهود يعظمون عاشوراء ويصومونه فقال النبي ﷺ نحن أحق بصومه وأمر بصومه أخرجه البخاري ومن فرط جهلهم وتعصبهم أنهم يعمدون إلى دابة عجماء فيؤذونها بغير حق إذ جعلوها بمنزلة من يبغضونه كما يعمدون إلى نعجة حمراء يسمونها عائشة وينتفون شعرها ويعمدون إلى دواب لهم فيسمون بعضها أبا بكر وبعضها عمر ويضربونها بغير حق ويصورون صورة إنسان من حيس يجعلونه عمر ويبعجون بطنه ويزعمون أنهم يأكلون لحمه ويشربون دمه
وأما الطريق الثاني في الجواب فنقول الذي عليه أئمة الإسلام أن ما كان مشروعا لم يترك لمجرد فعل أهل البدع لا الرافضة ولا غيرهم وأصول الأئمة كلهم توافق هذا منها مسألة التسطيح الذي ذكرها فإن مذهب أبي حنيفة واحمد بن تسنيم القبور أفضل كما ثبت في الصحيح أن قبر النبي ﷺ كان مسنما ولأن ذلك أبعد عن مشابهة أبنية الدنيا وأمنع عن القعود على القبور والشافعي يستحب التسطيح لما روى من الأمر بتسوية القبور فرأى أن التسوية هي التسطيح ثم إن بعض أصحابه قال إن هذا اشعار الرافضة فيكره ذلك فخالفه جمهور الأصحاب وقالوا بل هو المستحب وإن فعلته الرافضة
وكذلك الجهر بالبسملة هو مذهب الرافضة وبعض الناس تكلم في الشافعي بسببها وبسبب القنوت ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية لأن المعروف في العراق أن الجهر كان من شعار الرافضة وأن القنوت في الفجر كان من شعار القدرية الرافضة حتى أن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة لأنه كان عندهم من شعار الرافضة كما يذكرون المسح على الخفين لأن تركه كان من شعار الرافضة ومع هذا فالشافعي لما رأى أن هذا هو السنة كان ذلك مذهبه وإن وافق قول الرافضة
وكذلك إحرام أهل العراق من العقيق يستحب عنده وإن كان ذلك مذهب الرافضة ونظائر هذا كثيرة
وكذلك مالك يضعف أمر المسح على الخفين حتى أنه في المشهور عنه لا يمسح في الحضر وإن وافق ذلك قول الرافضة وكذلك مذهبه ومذهب أحمد المشهور عنه أن المحرم لا يستظل بالمحمل وإن كان ذلك قول الرافضة وكذلك قال مالك إن السجود يكره على غير جنس الأرض والرافضة يمنعون من السجود على غير الأرض وكذلك أحمد بن حنبل يستحب المتعة متعة الحج ويأمر بها حتى يستحب هو وغيره من الأئمة أئمة أهل الحديث لم أحرم مفردا أو قارنا أن يفسح ذلك إلى العمرة ويصير متمتعا لأن الأحاديث الصحيحة جاءت بذكل حتى قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد يا أبا عبد الله قويت قلوب الرافضة لما أفتيت أهل خراسات بالمتعة فقال يا سلمة كان يبلغن عنك أنك أحمق وكنت أدفع عنك والان فقد ثبت عندي أنك أحمق عندي أحد عشر حديثا صحاحا عن النبي ﷺ أتركها لقولك
وكذلك أبو حنيفة مذهبه أنه يجوز الصلاة على غير النبي ﷺ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهذا هو المنصوص عن أحمد في رواية غير واحد من أصحابه واستدل بما نقله عن علي رضي الله عنه أنه قال لعمر رضي الله عنه صلى الله عليك وهو اختيار أكثر أصحابه كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي محمد عبد القادر الجيلي وغيرهم ولكن نقل عن مالك والشافعي المنع من ذلك وهو اختيار بعض أصحاب أحمد لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا تصلح الصلاة من أحد على أحد على غير النبي ﷺ وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه قال والله أعلم لما صارت الشيعة تخص بالصلاة عليا دون غيره ويجعلون ذلك كأنه مأمور به في حقه بخصوصمه دون غيره وهذا خطأ بالاتفاق فإن الله تعالى أمر بالصلاة على نبيه ﷺ وقد فسر النبي ﷺ ذلك بالصلاة عليه وعلى اله فيصلي على جميع اله تبعا له
وال محمد ﷺ عند الشافعي وأحمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة وذهبت طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما إلى أنهم أمة محمد ﷺ وقالت طائفة من الصوفية إنهم الأولياء من أمته وهم المؤمنون المتقون وروي في ذلك حديث ضعيف لا يثبت فالذي قالته الحنفية وغيرهم أنه إذا كان عند قوم لا يصلون إلا على على دون الصحابة فإذا صلى على علي ظن أنه منهم فيكره لئلا يظن به أنا رافضي فأما إذا علم أنه صلى على علي وعلى سائر الصحابة لم يكره ذلك
وهذا القول يقوله سائر الأئمة فإنه اذا كان في فعل مستحب مفسدة راجحة لم يصر مستحبا ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعارا لهم فلا يتميز السنى من الرافضي ومصلحة التميز عنهم لأجل هجراتهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحب وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إليه في بعض المواضع إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على مصلحة فعل ذلك المستحب لكن هذا أمر عارض لا يقتضي أن يجعل المشروع ليس بمشروع دائما بل هذا مثل لباس شعار الكفار وإن كان مباحا إذا لم يكن شعارا لهم كلبس العمامة الصفراء فإنه جائز إذا لم يكن شعارا لليهود فإذا صار شعارا لهم نهى عن ذلك
فصل
قال الرافضي مع أنهم ابتدعوا أشياء واعترفوا بأنها بدعة وأن النبي صلى الله ليه وسلم قال كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فإن مصيرها إلى النار وقال ﷺ من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد ولو ردوا عنها كرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم كذكر الخلفاء في خطبهم مع أنه بالإجماع لم يكن في زمن النبي ﷺ ولا في زمن أحد من الصحابة والتابعين ولا في زمن بني أمية ولا في صدر ولاية العباسيين بل شيء أحدثه المنصور لما وقع بينه وبين العلوية خلاف فقال والله لأرغمن أنفى وأنوفهم وأرفع عليهم بنى تيم وعدي وذكر الصحابة في خطبته واستمرت هذه البدعة إلى هذا الزمان
فيقال الجواب من وجوه أحدها أن ذكر الخلفاء على المنبر كان على عهد عمر بن عبد العزيز بل قد روى أنه كان على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحديث ضبة بن محصن من أشهر الأحاديث فروى الطلمنكي من حجيث ميمون بن مهران قال كان أبو موسى الاشعري رضي اله عنه إذا خطب بالبصرة يوم اجمعة وكان واليها صلى على النبي ﷺ ثم ثنى بعمر بن الخطاب يدعو له فيقوم ضبة بن محصن العنزي فيقول فأين أنت عن ذكر صاحبه قبله يفضله يعني أبا بكر رضي الله عنهما ثم قعد فلما فعل ذلك مرارا أمحكه أبو موسة فكتب أبو موسى إلى عمر رضي الله عنه أن ضبة يطعن علينا ويفعل فكتب عمر إلى ضبة يأمره أن يخرج إليه فبعث به أبو موسى فلما قدم ضبة المدينة على عمر رضي الله عنه قال له الحاجب ضبة العنزي بالباب فأذن له فلما دخل عليه قال لا مرحبا بضبة ولا أهلا قال ضبة أما المرحب فمن الله وأما الأهل فلا أهل ولا مال فبم استحللت إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبت ولا شيء أتيت قال ما الذي شجر بينك وبين عاملك قلت الان أخبرك يا أمير المؤمنين إنه كان إذا خطب فحمد الله فأثنى عليه وصلى على النبي ﷺ ثم ثنى يدعو لك فغاظني ذلك منه وقلت أين أنت عن صاحبه تفضله عليه فكتب أليك يشكوني قال فاندفع عمر رضي الله عنه باكيا وهو يقول أنت والله أوفق منه وأرشد منه فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك قلت غفر الله لك يا أمير المؤمنين ثم اندفع باكيا وهو يقول والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وال عمر فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه قلت نعم يا أمير المؤمنين قال أما الليلة فإن رسول الله ﷺ لما خرج من مكة هاربا من المشركين خرج ليلا فتبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال له رسول الله ﷺ ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعلك فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا امن عليك فمضى رسول الله ﷺ على أطراف أصابعه حتى حفيت فلما رأى أبو بكر أنها قد حفيت حمله على عاتقهع حتى أتى به فم الغار فأنزله ثم قال والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء فيبدأ بي قبلك فلم ير شيئا يستريبه فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات فلما رأ ى ذلك أبو بكر ألقمه عقبه فجعلن يلسعنه أو يربنه وجعلت دموعه تتجادر على خده من ألم ما يجد ورسول الله ﷺ يقول لا تحزن يا أبا بكر إن الله معنا فأنزل الله سكينته وطمأنينته لأبي بكر فهذه ليلته
وأما يومه فلما توفي رسول الله ﷺ ارتدت العرب فال بعضهم نصلي ولا نزكي وقال بعضهم نزكي ولا نصلي فأتيته لا الوه نصحا فقلت يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم فقال لي أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام قبض رسول الله عليه وسلم وارتفع الوحي والله لو منعوني عقالا كانوا يعطونه رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه فقاتلنا معه فكان والله رشيد الأمر فهذا يومه ثم كتب إلى أبي موسى يلومه فإن قيل ذاك فيه ذكر عمر لأنه كان هو السلطان الحي قيل فأبو بكر كان قد مات فعلم أنهم ذكروا الميت أيضا
الوجه الثاني أنه قد قيل إن عمر بن عبد العزيز ذكر الخلفاء الأربعة لما كان بعض بني أمية يسبون عليا فعوض عن ذلك بذكرالخلفاء والترضي عنهم ليمحو تلك السنة الفاسدة
الوجه الثالث أن ما ذكره من إحداث المنصور وقصده بذلك باطل فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما توليا الخلافة قبل المنصور وقبل بني أمية فلم يكن في ذكر المنصور لهما إرغام لأنفه ولا لأنوف بني علي إلا لو كان بعض بني تيم أو بعض بني عدي ينازعهم الخلافة ولم يكن أحد من هؤلاء ينازعهم فيها
الوجه الرابع أن أهل السنة لا يقولون إن ذكر الخلفاء الأربعة في الخطبة فرض بل يقولون إن الاقتصار على علي وحده أو ذكر الاثنى عشر هو البدعة المنكرة التي لم يفعلها أحد لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من بني أمية ولا من بني العباس كما يقولون إن ست علي أو غيره من السلف بدعه منكرة فإن كان ذكر الخلفاء الأربعة بدعة مع أن كثيرا من الخلفاء فعلوا ذلك فالاقتصار على علي مع أنه لم يسبق إليه أحد من الأمة أولى أن يكون بدعة وإن كان ذكر على لكونه أمير المؤمنين متحبا فذكر الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون إلى بالاستحباب ولكن الرافضة من المطففين يرى أحدهم القذاة في عيون أهل السنة ولا يرى الجذع المعترض في عينه
ومن المعلوم أن الخلفاء الثلاثى اتفقت عليهم المسلمون وكان السيف في زكانهم مسلولا على الكفار مكفوفا عن أهل الإسلام وأما على فلم يتفق المسلمون على مبايعته بل وقعت الفتنة تلك المدة وكان السيف في تلك المدة مكفوفا عن الكفار مسلولا على أهل الإسلام فاقتصار المقتصر على ذكر على وحده دون من سبقه وهو ترك لذكر الأئمة وقت اجتماع المسلمين وانتصارهم على عدوهم واقتصار على ذكر الإمام الذي كان إماما وقت افتراق المسلمين وطلب عدوهم لبلادهم
فإن الكفار بالشام وخراسان طمعوا وقت الفتنة في بلاد المسلمين لاشتغال المسلمين بعضهم ببعض وهو ترك لذكر أئمة الخلافة التامة الكاملة واقتصار على ذكر الخلافة التي لم تتم ولم يحصل مقصودها
وهذا كان من حجة من كان يربع بذكر معاوية رضي الله عنه ولا يذكر عليا رضي عنه كما كان يفعل ذلك من كان يفعله بالأندلس وغيرها قالوا لأن معاوية رضي الله عنه اتفق المسلمون عليه بخلاف علي رضي الله عنه ولا ريب أن قول هؤلاء وإن كان خطأ فقول الذين يذكرون عليا وحده أعظم خطأ من هؤلاء وأعظم من ذلك كله ذكر الاثنى عشر في خطبه أو غيرها أو نقشهم على حائط أو تلقينهم لميت فهذا هو البدعة المنكرة التي يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنها من أظم الأمور المبتدعة في دين الإسلام ولو ترك الخطيب ذكر الأربعة جميعا لم ينكر عليه وإنما المنكر الاقتصار على واحد دون الثلاثة السابقين الذين كانت خلافتهم أكمل وسيرتهم أفضل كما أنكر على أبي موسى ذكره لعمر دون أبي بكر مع أن عمر كان هو الحي خليفة الوقت
الوجه الخامس أنه ليس كل خطباء لسنة يذكرون الخلفاء في الخطبة بل كثير من خطباء السنة بالمغرب وغيره لا يذكرون أحدا من الخلفاء باسمه وكان كثير من خطباء المغرب يذكرون أبا بكر وعمر وعثمان ويربعون بذكر معاوية لا يذكرون عليت قالوا لأن هؤلاء اتفق المسلمون على إمامتهم دون علي فإن كان ذكر الخلفاء بأسمائهم حسنا فبعض أهل السنة يفعله وإن لم يكن حسنا فبعض أهل السنة يتركه فالحق على التقديرين لا يخرج عن أهل السنة
الوجه السادس أنه يقال إن الذين اختاروا ذكر الخلفاء الراشدين على المنبر يوم الجمعة إنما فعلوه تعويضا عمن يسبهم ويقدح فيهم وكان ذلك فيه من الفاسد في الإسلام ما لا يخفى فأعلنوا بذكرهم والثناء عليهم والدعاء لهم ليكون ذلك حفظا للإسلام بإظهار موالاتهم والثناء عليهم ومنعا ممن يريد عوراتهم والطعن عليهم فإنه قد صح عن النبي ﷺ أنه قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة
والأحاديث في ذكر خلافتهم كثيرة فلما كان في بني أمية من يسب عليت رضي الله عنه ويذمه ويقول إنه ليس من الخلفاء الراشدين وتولى عمر بن عبد العزيز بعد أولئك فقيل إنه أول من ذكر الخلفاء الراشدين الأربعة على المنبر فأظهر ذكر على والثناء عليه وذكر فضائله بعد أن كان طائفة ممن يبغض عليا لا تختار ذلك والخوارج تبغض عليا وعثمان وتكفرهما فكان في ذكرهما مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهم رد على الخوارج الذين أمر النبي ﷺ بقتالهم والرافضة شر من هؤلاء وهؤلاء يبغضون أبا بكر وعمر وعثمان ويسبونهم بل قد يكفرونهم فكان قد ذكر هؤلاء وفضائلهم رد على الرافضة ولما قاموا في دولة خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي هذا الكتاب فأرادوا إظهار مذهب الرافضة وإظفاء مذهب أهل السنة الكتاب فأرادوا إظهار مذهب الرافضة وإطفاء مذهب أهل السنة وعقدوا ألوية الفتنة وأطلقوا عنان البدعة وأظهروا من الشر والفساد ما لا يعمله إلا رب العباد كان مما احتالوا به أن استفتوا بعض المنتسبين إلى السنة في ذكر الخلفاء في الخطبة هل يجب فأفتى من أفتى بأنه لا يجب إما جهلا بمقصودهم وإما خوفا منهم وتقية لهم
وهؤلاء إنما كان مقصودهم منع ذكر الخلفاء ثم عوضوا عن ذلك بذكر على والا حدى عشر الذين يزعمون أنهم المعصومون فالمفتي إذا علم أن مقصود المستفتي له أن يترك ذكر الخلفاء وأن يذكر الاثنى عشر وينادي بحي على خير العمل ليبطل الأذان المنقول بالتواتر من عهد النبي ﷺ ويمنع قراءة الأحاديث الثابته الصحيحة عن رسول الله ﷺ ويعوض عنها بالأحاديث التي افتراها المفترون ويبطل الشرائع المعلومة من دين الإسلام ويعوض عنها بالبدع المضلة ويتوسل بذلك من يتوسل إلى إظهار دين الملاحدة الذين يبطنون مذهب الفلاسفة ويتظاهرون بدين الإسلام وهم أكفر من اليهود والنصارى إلى غير ذلك من مقاصد أهل الجهل والظلم الكائدين للإسلام وأهله لم يحل للمفتي أن يفتي بما يجر إلى هذه المفاسد
وإذا كان ذكر الخلفاء الراشدين هو الذي يحصل به المقاصد المأمور بها عند مثل هذه الأحوال كان هذا مما يؤمر به في مثل هذه الأحوال وان لم يكن من الواجبات التي يجب مطلقا ولا من السنن التي يحافز عليها في كل زمان ومكان كما أن عسكر المسلمين والكفار إذا كان لهؤلاء شعار ولهؤلاء شعار وجب إظهار شعار الإسلام دون شعار الكفر في مثل تلك الحال لأن هذا واجب في كل زمان ومكان فإذا قدر أن الواجبات الشرعية لا تقوم إلا بإظهار ذكر الخلفاء وإنه إذا ترك ذلك ظهر شعار أهل البدع والضلال صار مأمورا به في مثل هذه الأحوال والأمور المأمور بها منها ما هو واجب أو مسنون دائما كالصلوات الخمس والوتر وركعتي الفجر ومنها ما يؤمر به في بعض الأحوال إذا لم تحصل الواجبات إلا به ولم تندقع المحرمات إلا به
الوجه السابع أن يقال الكلام في ذكر الخلفاء الراشدين على المنبر وفي الدعاء لسلطان الوقت ونحو ذلك إذا تكلم في ذلك العلماءأهل العلم والدين الذين يتكلمون بموجب الأدلة الشرعية كان كلامهم في ذلك مقبولا وكان للمصيب منهم أجران وللمخطىء أجر على ما فعله من الخير وخطؤه مغفور له وأما إذا أخذ يعيب ذلك من يعوض عنه بما هو شر منه كطائفة ابن التومرت الذي كان يدعى فيه أنه المهدي المعلوم والإمام المعصوم إذا ذكروه باسمه على المنبر ووصفوه بالصفات التي تعلم أنه اباطلة وجعلوا حزبه هم خواص أمة محمد صلى الله ليه وسلم وتركوا مع ذلك ذكر أبي بكر وعمر وعثمان وعلى الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان أنهم خير هذه الأمة وأفضلها وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون في زمن أفضل القرون ثم أخذ هؤلاء التومرتية ينتصرون لذلك بأن ذكر الخلفاء الأربعة ليس سنة بل بدعة كان هذا القول مردودا عليهم غاية الرد مع ذكرهم لإمامهم ابن التومرت بعد موته فإنه لا يشك من يؤمن بالله واليوم الاخر أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم خير منه وأفضل منه وأن اتباعهم للنبي ﷺ وقيامهم بأمره أكمل بل ذكر غير واحد من خلفاء بني أمية ة وبني العباس أولى من ذكر هذا الملقب بالمهدي فإن خلافة أولئك خير من خلافته وقيامهم بالإسلام خير من قيامه وظهورهم بمشارق الأرض ومغفاربها أعظم من ظهوره وما فعلوه من الخير أعظم مما فعله هو وفعل هو من الكذب والظلم والجهل والشر ما لم يفعله أولئك فكيف يكون هو المهدي دونهم أم كيف يكون ذكره والثناء عليه فيالخطبة مشروعا دون ذكرهم فكيف ينكر ذكر أولئك من يذكر مثل هذا
وأعظم من ذلك إنكار هؤلاء الإمامية الذين ينكرون ذكر الخلفاء الراشدين ويذكرون اثنى عشر رجلا كل واحد من الثلاثة خير من أفضل الاثنة عشر وأكمل خلافة وإمامة وأما سائر الاثنى عشر فهم أصناف منهم من هو من الصحابة المشهود لهم بالجنة كالحسن والحسين وقد شركهم في ذلك من الصحابة المشهود لهم بالجنة خلق كثير وفي السابقين الأولين من هو أفضل منهما مثل أهل بدر وهما رضي الله عنهما وإن كنانا سيدا شباب أهل الجنة فأبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة وهذا الصنف أكمل من ذلك الصنف وإذا قال القائل هما ولد بنت رسول الله ﷺ قيل وعلي بن أبي طالب أفضل منهما باتفاق أهل السنة والشيعة وليس هو ولد بنت رسول الله ﷺ وإبراهيم ابن النبي ﷺ أقرب إليه منهما وليس هو أفضل من السابقين الأولين وكذا أمامه بنت أبي العاص بنت بنته وكان لعثمان ولد من بنت النبي ﷺ
واذا قيل علي هو ابن عمه
قيل في أعمام النبي ﷺ وبني عمه جماعة مؤمنون صحبوه كحمزة والعباس وعبد الله والفضل ابني العباس وكربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وحمزة أفضل من العباس وعلى وجعفر أفضل من غيرهما (وعلى أفضل ؟؟؟) وعلى أفضل من العباس فعلم أن الفضل بالإيمان والتقوى لا بالنسب وفي الاثنى عشر من هو مشهور بالعلم والدين كعلى بن الحسين وابنه أبي جعفر وابنه جعفربن محمد وهؤلاء لهم حكم أمثالهم ففي الأمة خلق كثير مثل هؤلاء وأفضل منهم وفيهم المنتظر ولا وجود له أو مفقود لا منفعة لهم فيه فهذا ليس في اتباع إلا شر محض بلا خير
وأما سائرهم ففي بني هاشم من العلويين والعباسيين جماعات مثلهم في العلم والدين ومن هو أعلم وأدين منهم فكيف يجوز أن يعيب ذكر الخلفاء الراشدين الذين ليس في الإسلام أفضل منهم من يعوض بذكر قوم في المسلمين خلق كثير أفضل منهم وقد انتفع المسلمون في دينهم ودنياهم بخلق كثير أضعاف أضعاف ما انتفعوا بهؤلاء مع أن الذين يذكرونهم قصدهم معاداة سائر المسلمين والاستعانة على ذلك بالكفار والمنافقين وإطفاء ما بعث الله به رسول الله ﷺ من الهدى ودين الحق الذي وعد الله أن يزهره على الدين كله وفتح باب الزندقة والنفاق لمن يريد إفساد الملة =
==========
24-
فصل
قال الرافضي وكمسح الرجلين الذي نص الله تعالى عليه في كتابه العزيز فقال فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وقال ابن عباس عضوان مغسولان وعضوان ممسوحان فغيروه وأوجبوا الغسل
فيقال الذين نقلوا عن النبي ﷺ الوضوء قولا وفعلا والذين تعلموا الوضوء منه وتوضؤوا على عهده وهو يراهم ويقرهم عليه ونقلوه إلى من بعدهم أكثر عددا من الذين نقلوا لفظ هذه الآية فإن جميع المسلمين كانوا يتوضؤون على عهده ولم يتعلموا الوضوء إلا منه ﷺ فإن هذا العمل لم يكن معهودا عندهم في الجاهلية وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين فيما شاء الله من الحديث حتى نقلوا عنه من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه قال ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار مع أن الفرض إذا كان مسح ظهر القدم كان غسل اجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع كما تدعوا الطباع إلى كلب الرئاسة والمال فإن جاز أن يقال أنهم كذبوا وأخطؤوا فيما نقلوه عنه من ذلك كان الكذب والخطأ فيما نقل من لفظ الآية أقرب إلى الجواز
وإن قيل بل لفظ الآية ثبت بالتواتر لذي لا يمكن الخطأ فيه فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أولى وأكمل ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة فإن المسح جنس تحته نوعان الإسالة وغير الإسالة كما تقول العرب تمسحت للصلاة فما كان بالإسالة فهو الغسل وإذا خص أحد النوعين باسم الغسل فقد يخص النوع الاخر باسم المسح فالمسح يقال على المسح العام الذي يندرج فيه الغسل ويقال على الخاص الذي لا يندرج فيه الغسل
ولهذا نظائر كثيرة مثل لفظ ذوي الأرحام فإنه يعم العصبة كلهم وأهل الفروض وغيرهم ثم لما كان للعصبة وأصحاب الفروض اسم يخصهما بقى لفظ ذوي الأرحام مختصا في العرف بمن لا يرث بفرض ولا تعصيب
وكذلك لفظ الجائز والمباح يعم ما ليس بحرام ثم قد يختص بأحد الأقسام الخمسة وكذلك لفظ الممكن يقال على ما ليس بممتنع ثم يخص بما ليس بواجب ولا ممتنع فيفرق بين الواجب والجائز والممكن العام والخاص وكذلك لفظ الحيوان ونحوه يتناول الإنسان وغيره ثم قد يختص بغير الإنسان
ومثل هذا كثير إذا كان لأحد النوعين اسم يخصه بقي الاسم العام مختصا بالنوع الاخر ولفظ المسح من هذا الباب وفي القران ما يدل على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل بل المسح الذي الغسل قسم منه فإنه قال إلى الكعبين ولم يقل إلى الكعاب كما قال إلى المرافق فدل على أنه ليس في كل رجل كعب واحد كما في كل يد مرفق واحد بل في كل رجل كعبان فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين وهذا هو الغسل فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين وفي ذكره الغسل في العضوين الأولين والمسح في الاخرين التنبيه على أن هذين العضوين يجب فيهما المسح العام فتارة يجزىء المسح الخاص كما في مسح الرأس والعمامة والمسح على الخفين وتارة لا بد من المسح الكامل الذي هو غسل كما في الرجلين المكشوفتين
وقد تواترت السنة عن النبي ﷺ بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة كما يخالف الخوارج نحو ذلك مما يتوهون أنه مخالف لظاهر القران بل تواتر غسل الرجلين والمسح على الخفين عن النبي ﷺ أعظم من تواتر قطع اليد في ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو عشرة دراهم أو نحو ذلك
وقد ذكر المسح على الرجلين تنبيه على قلة الصب في الرجل فإن السرف يعتاد فيهما كثيرا وفيه اختصار للكلام فإن المعطوف والمعطوف عليه إذا كان فعلاهما من جنس واحد اكتفى بذكر أحد النوعين كقوله
فلتها تبنا وماء باردا ... حتى غدت همالة عيناها
والماء يسقى لا يقال علفت الماء لكن العلف والسقى يجمعهما معنى الإطعام وكذلك قوله
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سبفا ورمحا
وكذلك قوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين إلى قوله تعالى وحور عين والحور العين لا يطاف بهن ولكن المعنى يؤتى بهذا وبهذا وهم قد يحذفون ما يجل الظاهر على جنسه لا على نفسه كما في قوله تعالى يدخل من يشاء رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما والمعنى يعذب الظالمين
وهذه الآية فيها قراءتان مشهورتان الخفض والنصب فالذين فرؤوا بالنصب قال غير واحد منهم أعاد الأمر إلى الغسل أي وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين والقراءتان كالايتين ومن قال إنه عطف على محل الجار والمجرور يكون المعنى وامسحوا برؤوسكم وامسحوا أرجلكم إلى الكعبين وقولهم مسحت الرجل ليس مرادفا لقوله مسحت بالرجل فإنه إذا عدى بالباء أريد به معنى الإلصاق أي ألصقت به شيئا وإذا قيل مسحته لم يقتضي ذلك أن يكون ألصقت به شيئا وإنما يقتضي مجرد المسح وهو لم يرد مجرد المسح باليد بالإجماع فتعين أنه إذا مسحه بالماء وهو مجمل فسرته السنة كما في قراءة الجر
وفي الجملة فالقران ليس فيه نفي إيجاب الغسل بل فيه إيجاب المسح فلو قدر أن السنة أوجبت قدرا زائدا على ما أوجبه القران لم يكن في هذا رفعا لموجب القران فكيف إذا فسرته وبينت معناه وهذا مبسوط في موضعه
وفي الجملة فيعلم أن سنة النبي ﷺ هي التي تفسر القران وتبينه وتل عليه وتعبر عنه فالسنة المتواترة تقضي على ما يفهمه بعض الناس من ظاهر القران فإن الرسول ﷺ بين للناس لفظ القران ومعناه كما قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرؤون القران عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهم أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر ايات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معناها
وما تقوله الإمامية من أن الفرض مسح الرجلين إلى الكعبين اللذين هما مجتمع الساق والقدم عند معقد الشراك أمر لا يدل عليه القران بوجه من الوجوه ولا فيه عن النبي ﷺ حديث يعرف ولا هو معروف عن سلف الأمة بل هم مخالفون للقران والسنة المتواترة ولإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان
فإن لفظ القران يوجب المسح بالرؤوس وبالأرجل إلى الكعبين مع إيجابه لغسل الوجوه والأيدي إلى المرافق فكان في ظاهره ما يبين أن في كل يد مرفقا وفي كل رجل كعبين فهذا على قراءة الخفض وأما قراءة النصب فالعطف إنما يكون على المحل إذا كان المعنى واحدا كقول الشاعر
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فلو كان معنى قوله مسحت برأسي ورجلي هو معنى مسحت رأسي ورجلي لأمكن كون العطق على المحل والمعنى مختلف فعلم أن قوله وأرجلكم بالنصب عطف على وأيديكم كما قاله الذين قرؤوه كذلك
وحينئذ فهذه القراءة نص في وجوب الغسل وليس في واحدة من القراءتين ما يدل ظاهرها على قولهم فعلم أن القوم لم يتمسكوا بظاهر القران وهذا حال سائر أهل الأقوال الضعيفة الذين يحتجون بظاهر القران على ما يخالف السنة إذا خفى الأمر عليهم مع أنه لم يوجد في ظاهر القران ما يخالف السنة كمن قال من الخارج لا نصلي في سفر إلا أربعا ومن قال إن الربع أفضل في السفر من الركعتين ومن قال لا نحكم بشاهد ويمين
وقد بسط لكلام على ذلك في مواضع وبين أن ما دل عليه ظاهر القران حق وأنه ليس بعام مخصوص فإنه ليس هناك عموم لفظي وإنما هو مطلق كقوله تعالى فاقتلوا المشركين فإنه عام في الأعيان مطلق في الأحوال وقوله يوصيكم الله في أولادكم عام في الأولاد مطلق في الأحوال
ولفظ الظاهر يراد به ما قد يظهر للإنسان وقد يراد به ما يجل عليه اللفظ فالأول يكون بحسب فهوم الناس وفي القران مما يخالف الفهم الفاسد شيء كثير وأما الثاني فالكلام فيه
فصل
قال الرافضي وكالمتعتين اللتين ورد بهما القران فقال في متعة الحج فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى وتأسف النبي ﷺ على فواتها لما حج قارنا وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى وقال في متعة النساء فما استمعتم به منهن فاتوهن أجورهن فريضة واستمرت فعلهما مدة زمان النبي ﷺ ومدة خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر إلى أن صعد المنبر وقال متعتان كانتا محللتين على عهد رسول الله ﷺ وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليها
والجواب أن يقال أما متعة الحج فمتفق على جوازها بين أئمة المسلمين ودعواه أن أهل السنة ابتدعوا تحريمها كذب عليهم بل أكثر علماء السنة يسحبون المتعة ويرجحونها أو يوجبونها والمتعة اسم جامع لمن اعتمر في أشهر الحج وجمع بينها وبين الحج في سفر واحد سواء حل من إحرامه بالعمرة ثم أحرم بالحج أو أحرم بالحج قبل طوافه بالبيت وصار قارنا أو بعد طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التحلل من إحرامه لكونه ساق الهدى أو مطلقا وقد يراد بالمتعة مجرد العمرة في أشهر الحج
وأكثر العلماء كأحمد وغيره من فقهاء الحديث وأبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق والشافعي في أحد قوليه وغيره من فقهاء مكة يستحبون المتعة وإن كان منهم من يرجح القران كأبي حنيفة ومنهم من يرجح التمتع الخاص كأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد فالصحيح وهو الصريح من نص أحمد أنه إن ساق الهدى فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل فإن الأول هو الذي فعله النبي ﷺ في حجة الوداع والثاني هو الذي أمر به من لم يسق الهدى من أصحابه بل كثير من علماء السنة يوجب المتعة كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو قول أهل الظاهر كابن حزم وغيره لما ذكر من أمر النبي ﷺ بها أصحابه في حجة الوداع وإذا كان أهل السنة متفقين على جوازها وأكثرهم يستحبها ومنهم من يوجبها علم أن ما ذكره من ابتداع تحريمها كذب عليهم
وما ذكره عن عمر رضي الله عنه فجوابه أن يقال أولا هب أن عمر قال قولا خالفه فيه غيره من الصحابة والتابعين حتى قال عمران بن حصين رضي الله عنه تمتعنا على عهد رسول الله ﷺ ونزل بها القران قال فيها رجل برأيه ما شاء أخرجاه في الصحيحين
فأهل السنة متفقون على أن كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ فإن كان مقصوده الطعن في أهل السنة مطلقا فهذا لا يرد عليهم وإن كان مقصوده أن عمر أخطأ في مسألة فهم لا ينزهون عن الإقرار على الخطأ إلا رسول الله ﷺ وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أقل خطأ من على رضي الله عنه وقد جمع العلماء مسائل الفقه التي ضعف فيها قول أحدهما فوجدوا الضعيف في أقوال علي ري الله عنه أكثر مثل إفتائه أن المتوفى عنها زوجها تعتد أبعد الأجلين مع أن سنة رسول الله ﷺ الثابته عنه الموافقة لكتاب الله تقتضي أنها تحل بوضع الحمل وبذلك افتى عمر وابن مسعود رضي الله عنهما
ومثل افتائه بأن المفوضة يسقط مهرها بالموت وقد أفتى ابن مسعود وغيره بأن لها مهر نسائها كما رواه الأشجعيون عن النبي ﷺ في بروع بنت واشق
وقد وجد من أقوال على المتناقضة في مسائل الطلاق وأم الوليد والفرائض وغير ذلك أكثر مما وجد من أقوال عمر المتناقضة
وإن أراد بالتمتع فسخ الحج إلى المرة فهذه المسألة نزاع بين الفقهاء فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وغيره يأمرون بفسخ الحج إلى العمرة استحبابا ومنهم من يوجبه كأهل الظاهر وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومذهب الشيعة وأبو حنيفة ومالك والشافعي لا يجوزون الفسخ والصحابة كانوا متنازعين في هذا فكثير منهم كان يأمر به ونقل عن أبي ذر وطائفة أنهم منعوا منه فإن كان الفسخ صوابا فهو من أقوال أهل السنة وإن كان خطأ فهو من أقوال أهل السنة فلا يخرج الحق عنهم
وإن قدحوا في عمر لكونه نهى عنها فأبوذر كان أعظم نهيا عنها من عمر وكان يقول إن المتعة كانت خاصة بأصحاب رسول الله ﷺ وهم يتولون أباذر ويعظمونه فإن كان الخطأ في هذه المسألة يوجب القدح فينبغي أن يقدحوا في أبي ذر وإلا فكيف يقدح في عمر دونه وعمر أفضل وأفقه وأعلم مه ويقال ثانيا إن عمر رضي الله عنه لم يحرم متعة الحج بل ثبت عنه أن الضبي بن معبد لما قال له إني أحرمت بالحج والعمرة جميعا فقال له عمر هديت لسنة نبيك ﷺ رواه النسائي وغيره
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يأمرهم بالمتعة فيقولون له أن أباك نهى عنها فيقول إن أبي لم يرد ما تقولون فاذا ألحوا عليه قال أفرسول الله ﷺ أحق أن تتبعوا أم عمر
وقد ثبت عن عمر أيضا أنه قال لو حججت لتمتعت ولو حججت لتمتعت وإنما كان مراد عمر رضي الله عنه أن يأمرهمبما هو الأفضل وكان الناس لسهولة المتعة تركوا الاعتمار في غير أشهر الحج فأراد ألا يعرى البيت طول السنة فاذا أفردوا الحج اعتمروا في سائر السنة والاعتمار في غير أشهر الحج مع الحج في أشهر الحج أفضل من المتعة باتفاق الفقهاء الأربعة وغيرهم
وكذلك قال عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله قالا إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أراد عمر وعلي رضي الله عنهما أن تسافر للحج سفرا وللعمرة سفرا وإلا فهما لم ينشئا الإحرام من دويرة الأهل ولا فعل ذلم رسول الله ﷺ ولا أحد من خلفائه
والإمام إذا اختار لرعيته الأمر الفاضل فالأمر بالشيء نهى عن ضجه فكان نهيه عن المتعة على وجه الاختيار لا على وجه التحريم وهو لم يقل وأنا أحرمهما كما نقل هذا الرافضي بل قال أنهى عنهما ثم كان نهيه عن متعة الحج على وجه الاختيار للأفضل لا على وجه التحريم وقد قيل إنه نهى عن الفسخ
والفسخ حرام عند كثير من الفقهاء وهو من مسائل الاجتهاد فالفسخ يحرمه أبو حنيفة ومالك والشافعي لكن أحمد وغيره من فقهاء الحديث وغيرهم لا يحرمون الفسخ بل يستحبونه بل يوجبه بعضهم ولا يأخذون بقول عمر في هذه المسألة بل بقول علي وعمران بن حصين وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم
وأما متعة النساء المتنازع فيها فليس في الآية نص صريح بحلها فإنه تعالى قال وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فاتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنان المؤمنات فقوله فما استمتعتم به منهن يتناول كل من دخل بها من النساء فإنه أمر بأن يعطى جميع الصداق بخلاف المطلقة قبل الدخول لتي لم يستمتع بها فإنها لا تستحق إلا نصفه
وهذا كقوله تعالى وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا فجعل الإفضاء مع العقد موجبا لاستقرار الصداق يبين ذلك أنه ليس لتخصيص النكاح المؤقت بإعطاء الأجر فيه دون النكاح المؤبد معنى بل إعطاء الصداق كاملا في المؤبد أولى فلا بد أن تدل الآية على المؤبد إما بطريق التخصيص وإما بطريق العموم
يدل على ذلك أنه ذكر بعد هذا نكاح الإماء فعلم أن ما ذكر كان في نكاح الحرائر مطلقا فإن قيل ففي قراءة طائفة من السلف فما استمتعتم به منهت إلى أجل مسمى قيل أولا ليست هذه القراءة متواترة وغايتها أن تكون كأخبار الاحاد ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أول الإسلام لكن الكلام في دلالة القران على ذلك
الثاني أن يقال هذا الحرف إن كان نزل فلا ريب أنه ليس ثابتا من القراءة المشهورة فيكون منسوخا ويكون نزوله لما كانت المتعة مباحة فلما حرمت نسخ هذا الحرف ويكون الأمر بالإيتاء في الوقت تنبيها على الإيتاء في النكاح المطلق وغاية ما يقال إنهما قراءتان وكلاهما حق وألمر بالإيتاء في الاستمتاع إلى أجل مسمى واجب إذا كان ذلك حلالا وإنما يكون ذلك إذا كان الإستمتاع إلى أجل مسمى حلالا وهذا كان في أول الإسلام فليس فيالآية ما يجل على أن الاستمتاعغ بها إلى أجل مسمى حلال فإنه لم يقل وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمى بل قال فما استمتعتم به منهن فاتوهن أجورهن فهذا يتناول ما وقع من الاستمتاع سواء كان حلالا أو كان في وطء شبهة
ولهذا يجب المهر في النكاح الفاسد بالسنة والاتفاق والمتمتع إذا اعتقد حل المتعة وفعلها فعليه المهر وأما الاستمتاع المحرم فلم تتناوله الايه فإنه لو استمتع بالمرأة من غير عقد مع مطاوعتها لكان زنا ولا مهر فيه وإن كانت مستكرهة ففيه نزاع مشهور وأما ما ذكره من نهى عمر عن متعة النساء فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه حرم متعة النساء بعد الإحلال هكذا رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري عن عبد الله والحسن ابنى محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس رضي الله عنه لما أباح المتعة إنك إمرؤ تائه إن رسول الله ﷺ حرم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة وأحفظهم لها أئمة الإسلام في زمنهم مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما ممن اتفق المسلمون على علمهم وعدلهم وحفظهم ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أن هذا حديث صحيح متلقى بالقبول ليس في أهل العلم من طعن فيه
وكذلك ثبت في الصحيح أنه حرمها في غزاة الفتح إلى يوم القيامة وقد تنازع رواة حديث علي رضي الله عنه هل قوله عام خيبر توقيت لتحريم الحمر فقط أو له ولتحريم المتعة فالأول قول ابن عيينة وغيره قالوا إنما حرمت عام الفتح ومن قال بالاخر قال إنها حرمت ثم أحلت ثم حرمت وادعت كائفة ثالثة أنها أحلت بعد ذلك ثم حرمت في حجة الوداع
فالروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرم المتعة بعد إحلالها والصواب أنها بعد أن حرمت لم تل وأنها إنما حرمت عام فتح مكة ولم تحل بعد ذلك ولم تحرم عام خيبر بل عام خيبر حرمت لحوم الحمر الأهلية وكان ابن عباس يبيح المتعة ولحوم الحمر فأنكر على بن أبي طالب رضي الله عنه ذلك عليه وقال له إن رسول الله ﷺ حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر يوم خيبر فقرن على رضي الله عنه بينهما ي الذكر لما روى ذلك لابن عباس رضي الله عنهما لأن ابن عباس كان يبيحهما وقد روى ابن عباس رضي الله عنه أنه رجع عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما
فأهل السنة اتبعوا عليا وغيره من الخلفاء الراشدين فيما رووه عن النبي ﷺ
والشيعة خالفوا عليا فيما رواه عن النبي ﷺ واتبعوا قول من خالفه
وأيضا فإن الله تعالى إنما أباح في كتابه الزوجة وملك اليمين والمتمتع بها ليست واحدة منهما فإنها لو كانت زوجة لتوارثا ولوجبت عليها عدة الوفاة ولحقها الطلاق الثلاث فإن هذه أحكام الزوجة في كتاب الله تعالى فلما انتفى عنها لوازم النكاح دل على انتفاء النكاح فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم والله تعالى إنما أباح في كتابه الأزواج وملك اليمين وحرم ما زاد على ذلك بقوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهن فأنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون
والمسمتع بها بعد التحريم ليست زوجة ولا ملك يمين فتكون حراما بنص القران أما كونها ليست مملوكة فظاهر وأما كونها ليست زوجة فلانتفاء لوازم النكاح فيها فإن من لوازم النكاح كونه سببا للتوارث وثبوت عدة الوفاة فيه والطلاق الثلاث وتنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول وغير ذلك من اللوازم
فإن قيل فقد تكون زوجة لا ترث كالذمية والأمة
قيل عندهم نكاح الذمية لا يجوز ونكاح الأمة إنما يكون عند الضرورة وهم يبيحون المتعة مطلقا ثم يقال نكاح الذمية والأمة سبب للتوارث ولكن المانع قائم وهو الرق والكفر كما أن النسب سبب للإرث إلا إذا كان الولد رقيقا أو كافرا فالمانع ثائم ولهذا إذا أعتق الولد أو أسلم ورث أباه في حياته وكذلك الزوجة الذمية إذا أسلمت في حياة زوجها ورثته باتفاق المسلمين بخلاف المستمتع بها فإن نفس نكاحها لا يكون سببا للإرث فلا يثبت التوارث فيه بحال فصار هذا النكاح كولد الزنا الذي ولد على فراش زوج فإن هذا لا يلحق بالزاني بحال فلا يكون ابنا يستحق الإرث
فإن قيل فالنسب قد تتبعض أحكامه فكذلك النكاح
قيل هذا فيه نزاع والجمهور يسلمونه ولكن ليس في هذا حجة لهم فإن جميع أحكام الزوجية منتفية في المستمتع بها لم يثبت فيها شيء من خصائص النكاح الحلال فعلم انتفاء كونها زوجة وما ثبت فيها من الأحكام مثل لحوق النسب ووجوب الاستبراء ودرء الحد ووجوب المهر ونحو ذلك فهذا يثبت في وطء الشبهة فعلم أن وطء المستمتع بها ليس وطئا لزوجة لكنه مع اعتقاد الحل مثل وطء الشبهة وأما كون الوطء به حلالا فهذا مورد النزاع فلا يحتج به أحد المتنازعين وإنما يحتج على الاخر بموارد النص والإجماع
فصل
قال الرافضي ومنع أبو بكر فاطمة إرثها فقالت يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها وكان هو الغريم لها لأن الصدقة تحل له لأن النبي ﷺ قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة على أن ما رووه عنه فالقران يخالف ذلك لأن الله تعالى قال يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأمة دونه ﷺ وكذب روايتهم فقال تعالى وورث سليمان داود وقال تعالى عن زكريا وإني خفت لموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من ال يعقوب
والجواب عن ذلك من وجوه أحدها أن ما ذكر من قول فاطمة رضي الله عنها أترث أباك ولا أرث أبي لا يعلم صحته عنها وإن صح فليس فيه حجة لأن أباها صلوا تالله عليه وسلامه لا يقاس بأحد من البشر وليس أبو بكر أولى بالمؤمنين من أنفسهم كأبيها ولا هو ممن حرم الله عليه صجقة الفرض والتطوع كأبيها ولا هو أيضا ممن جعل اله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال كما جعل أباها كذلك
والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورثوا دنيا لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلفوها لورثتهم وأما أبو الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوته عن الشبهة وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة
الثاني أن قوله والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها كذب فإن قول النبي ﷺ لا نورث ما تركنا فهو صدقة رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي ﷺ وأبو هريرة والرواية عن هؤلاء ثابته في الصحاح والمسانيد مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث فقول القائل إن أبا بكر انفرد بالرواية يدل على فر جهله أو تعمده الكذب
الثالث قوله وكان هو الغريم لها كذب فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يجع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته وإنما هو صدقة لمستحقها كما أن المسجد حق للمسلمين والعدل لو شهد على رجل أنه وصى بجعل بيته مسجدا أو بجعل بئره مسبلة أو أرضه مقبرة ونحو ذلك جازت شهادته باتفاق المسلمين وإن كان هو ممن يجوز له أن يصلي في المسجد ويشرب من تلك البئر ويدفن في تلك المقرة فإن هذا شهادة لجهة عامة غير محصورة والشاهد دخل فيها بحكم العموم لا بحكم التعيين ومثل هذا لا يكون خصما
ومثل هذا شهادة المسلم بحث لبيت المال مثل كون هذا الشخص لبيت المال عنده حق وشهادته بأن هذا ليس له وارث إلا بيت المال وشهادته على الذمى بما يوجب نقض عهده وكون ماله فيئا لبيت المال ونحو ذلك
ولو شهد عدل بأن فلانا وقف ماله على الفقراء والمساكين قبلت شهادته وإن كان الشاهد فقيرا
الرابع أن الصديق رضي الله عنه لم يكن من أهل هذه الصدقة بل كان مستغنيا عنها لا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصى بصدقة للفقراء فإن هذه شهاجة مقبولة بالاتفاق
الخامس أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة والمحدث إذا حدث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قبلت روايته للحديث لأن الرواية تتضمن حكما عاما يدخل فيه الراوي وغيره وهذا من باب الخبر كالشهادة برؤية الهلال فإن ما أمر به النبي ﷺ يتناول الراوي وغيره وكذلك ما نهى عنه وكذلك ما أباحه
وهذا الحديث تضمن رواية بحكم شرعي ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة رضي الله عنها وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتهابه لذلك منهم وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة
السادس أن قوله على أن ما رووه فالقران يخالف ذلك لأن الله تعالى قال يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأمة دونه ﷺ
فيقال أولا ليس في عموم لفظ الآية ما يقتضي أن النبي ﷺ يورث فإن الله تعالى قال يوصيكم الله في أولادكم للذكر من حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوه فلأمه السدس وفي الآية الأخرى ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن إلى قوله من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي ﷺ مخاطب بها، وكاف الخطاب يتناول من قصده المخاطب فإن لم يعلم أن المعين مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقا لا تقبل التخصيص فكيف بضمير المخاطب فإنه لا يتناول إلا من قصد الخطاب دون من لم يقصد ولو قدر أنه عام يقبل التخصيص فإنه عام للمقصودين بالخطاب وليس فيها ما يقتضي كون النبي ﷺ من المخاطبين بهذا فإن قيل هب أن الضمائر ضمائر التكلم والخطاب والغيبى لا تدل بنفسها على شيء بعينه لكن بحسب ما يقترن بها فضمائر الخطاب موضوعة لمن يقصده المخاطب بالخطاب وضمائر التكلم لمن يتكلم كائنا من كان لكن قد عرف أن الخطاب بالقران هو للرسول ﷺ والمؤمنين جميعا كقوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم وقوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغلسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ونحو ذلك وكذلك قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين
قيل بل كاف الجماعة في القران تارة تكون للنبي ﷺ والمؤمنين وتارة تكون لهم دونه كقوله تعالى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون
فإن هذه الكاف للأمة دون النبي ﷺ
وكذلك قوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم
وكذلك قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم وقوله تعالى إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنبوكم ونحو ذلك فإن كاف الخطاب في هذه المواضع لم يدخل فيها الرسول ﷺ بل تناولت من أرسل إليهم فلم لا يجوز أن تكون الكاف في قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم مثل هذه الكافات فلا يكون في السنة ما يخالف ظاهر القران
ومثل هذه الآية قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنة ألا تعولوا واتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فإن الضمير هنا في خفتم وتقسطوا وانحكوا وكاب لكم وما ملكت أيمانكم إنما يتناول الأمة دون نبيها ﷺ فإن النبي ﷺ له أن يتزوج أكثر من أربع وله أن يتزوج بلا مهر كما ثبت ذلك بالنص والإجماع
فإن قيل ما ذكرتموه من الأمثلة فيها ما يقتضي اختصاص الأمة فإنه لما ذكر ما يجب من طاعة الرسول خاطبهم بطاعته ومحبته وذكر بعثه إليهم علم أنه ليس داخلا في ذلك
قيل وكذلك اية الفرائض لما قال اباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا وقال من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ثم قال تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين فلما خاطبهم بعدم الدراية التي لا تناسب حال الرسول وذكر بعد هذا ما يجب عليهم من طاعته فيما ذكره من مقادير الفرائض وأنهم أن أطاعوا الله ورسوله في هذه الحدود استحقوا الثواب وإن خالفوا الله والرسول استحقوا العقاب وذلك بأن يعطوا الوارث أكثر من حقه أو يمنعوا الوارث ما يستحقه دل ذلك على أن المخاكبين المسلوبين الدراية لما ذكر الموعودين على طاعة الرسول ﷺ المتوعدين على معصية الله ورسوله وتعدى حدوده فيما قدره من المواريث وغير ذلك لم دخل فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه كما لم يدخل في نظائرها
ولما كان ما ذكره من تحريم تعدي الحدود عقب ذكر الفرائض المحدوده دل على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قدر له ودل على أنه لا تجوز الوصية لهم وكان هذا ناسخا لما أمر به أولا من الوصية للوالدين والأقربين
ولهذا قال النبي ﷺ عام حجة الوداع إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث رواه أهل السنن كأبي داود وغيره ورواه أهل السير واتفقت الأمة عليه حتى ظن بعض الناس أن اية الوصية إنما نسخت بهذا الخبر لأنه لم ير بين استحقاق الإرث وبين استحقاق الوصية منافاة والنسخ لا يكون إلا مع تنافى الناسخ والمنسوخ وأما السلف والجمهور فقالوا الناسخ هو اية الفرائض لأن الله تعالى قدر فرائض محدوده ومنع من تعدي حدوده فإذا أعطى الميت لوارثه أكثرمما حده الله له فقد تعدى حد الله فكان ذلك محرما فإن ما زاد على الحدود يستحقه غيره من الورثة أو العصبة فإذا أخذ حق العاصب فأعطاه لهذا كان ظالما له
ولهذا تنازع العلماء فيمن ليس له عاصب هل يرد عليه أم لا فمن منع الرد قال الميراث حق لبيت المال فلا يجوز أن يعطاه غيره ومن جوز الرد قال إنما يوضع المال في بيت المال لكونه ليس له مستحق خاص وهؤلاء لهم رحم عام ورحم خاص كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ذو السهم أولى ممن لا سهم له
والمقصود هنا أنه لا يمكنهم إقامة دليل على شمول الآية للرسل ﷺ أصلا
فإن قيل فلو مات أحد من أولاد النبي ﷺ ورثه كما ماتت بناته الثلاث في حياته ومات ابنه إبراهيم
قيل الخطاب في الآية للموروث دون الوارث فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم موروثين أن يدهلوا إذا كانوا وارثين يوضع ذلك أنه قال ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فذكره بضمير الغيبة لا بضمير الخطاب وهو عائد على المخاطب بكاف الخطاب وهو الموروث فكل من سوى النبي ﷺ من أولاده وغيرهم موروثون شملهم النص يورث أحدا شيئا وأولاد النبي ﷺ من شكلهم كاف الخطاب فوصاهم بأولادهم للذكر مثل حظ الأنثيين ففاطمة رضي الله عنها وصاها الله في أولادها للذكر مثل حظ الأنثيين ولأبويها لو ماتت في حياتهما لك واحد منهما السدس
فإن قيل ففي اية الزوجين قال ولكم ولهن
قيل أولا الرافضة يقولون إن زوجاته لم يرثنه ولا عمه العباس وإنما ورثته البنت وحدها
الثاني أنه بعد نزول الآية لم يعلم أنه ماتت واحدة من أزواجه ولها مال حتى يكون وارثا لها وأما خديجة رضي الله عنها فماتت بمكة وأما زينب بنت خزيمة الهلالية فماتت بالمدينة لكن من أين نعلم أنها خلفت مالا وأن اية الفرائض كانت قد نزلت فإن قوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم إنا تناول من ماتت له زوجة ولها تركة فمن لم تمت زوجته أو ماتت ولا مال لها لم خاطب بهذه الكاف
وبتقدير ذلك فلا يلزم من شمول إحدى الكافين له شمول الأخرى بل ذلك موقوف على الدليل
فإن قيل فأنتم تقولون إن ما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق أمته وبالعكس فإن الله إذا أمره تناول الأمة وإن ذلك قد عرف بعادة الشرع ولهذا قال تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ليكلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا فذكر أنه أحل ذلك له ليكون حلالا لأمته ولما خصه بالتحليل قال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين فكيف يقال إن هذه الكاف لم تتناوله
قيل من المعلوم أن من قال ذلك قاله لما عرف من عادة الشارع في خطابه كما يعرف من عادة الملوك إذا خاطبوا أمبرا بأمر أن نظيره مخاطب بمثل ذلك فهذا يعلم بالعادة والعرف المستقر في خطاب المخاطب كما يعلم معانى الألفاظ بالعادة المستقرة لأهل تلك اللغة أنهم يريدون ذلك المعنى
وإذا كان كذلك فالخطاب بصيغة الجمع قد تنوعت عادة القران فيها تارة تتناول الرسول ﷺ وتارة لا تتناوله فلا يجب أن يكون هذا الموضع مما تناوله وغاية ما يدعى المدعى أن يقال الأصل شمول الكاف له كما يقول الأصل مساواة أمته له في الأحكام ومساواته لأمته في الأحكام حتى يقوم دليل التخصيص ومعلوم أن له خصائص كثيرة خص بها عن أمته وأهل السنة يقولون من خصائصه أنه لا يورث فلا يجوز أن ينكر اختصاصه بهذا الحكم إلا كما ينكر اختصاصه بسائر الخصائص لكن للإنسان أن يطالب بدليل الاختصاص ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة المستفيضة بل المتواترة عنه في أنه لا يورث أعظم من الأحاديث المروية في كثير من خصائصه مثل اختصاصه بالفىء وغيره وقد تنازع السلف والخلف في كثير من الأحكام هل هو من خصائصه كتنازعهم في الفىء والخمس هل كان ملكا له أم لا وهل أبيح له من حرم عليه من النساء أم لا
ولم يتنازل السلف في أنه لا يورث لظهور ذلك عنه واستفاضته في أصحابه وذلك أن الله تعالى قال في كتابه يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول وقال في كتابه واعملوا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وقال في كتابه وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ولفظ اية الفىء كلفظ اية الخمس وسورة الأنفال نزلت بسبب بدر فدخلت الغنائم في ذلك بلا ريب وقد يدخل في ذلك سائر ما نفله الله للمسلمين من مال الكفار كما أن لفظ الفىء قد يراد به كل ما أفاء الله على المسلمين فيدخل فيه الغنائم وقد يختص ذلك بما أفاء الله عليه مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب
ومن الأول قول النبي ﷺ ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم فلما أضاف هذه الأموال إلى الله والرسول رأى طائفة من لعلماء أن هذه الإضافة تقتضي أن ذلك ملك للرسول ﷺ كسائر أملاك الناس ثم جعلت الغنائم بعد ذلك للغانمين وخمسها لمن سمى وبقى الفىء أو أربعة أخماسه ملكا للرسول ﷺ كما يقول ذلك الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد وإنما ترددوا في الفىء فإنه عامة العلماء لا يخمسون الفىء وإنما قال بتخميسه الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي وأما مالك وأبو حنيفة وأحمد وجمهور أصحابه وسائر أئمة المسلمين فلا يرون تخميس الفىء وهو ما أخذ من المشركين بغير قتال كالجزية والخراج
وقالت طائفة ثانية من العلماء بل هذه الإضافة لا تقتضي أن تكون الأموال ملكا للرسول بل تقتضي أن يكون أمرها إلى الله والرسول فالرسول ينفقها فيما أمره الله به
كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال إني والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت
وقال أيضا في الحديث الصحيح تسموا باسمى ولا تكنوا بكنيتي فإنما أنا قاسم أقسم بينكم
فالرسول مبلغ عن الله أمره ونيه فالمال المضاف إلى الله ورسوله هو المال الذي يصرف فيما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب بخلاف الأموال التي ملكها الله لعباده فإن لهم صرفها في المباحات
ولهذا لما قال الله في المكاتبين واتوهم من مال الله الذي اتاكم ذهب أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة وغيرهما إلى أن المراد اتاكم الله من الأموال التي ملكها الله لعباده فإنه لم يضفها إلى الرسول ﷺ بخلاف ما أضافه إلى الله والرسول فإنه لا يعطى إلا فيما أمر الله به ورسوله
فالأنفال لله والرسول لأن قسمتها إلى الله والرسول ليست كالمواريث التي قسمها الله بين المستحقين وكذلك مال الخمس ومال الفىء
وقد تنازع العلماء في الخمس والفىء فقال مالك وغيره من العلماء مصرفهما واحد وهو فيما أمر الله به ورسوله وعين ما عينه من اليتامى والمساكين وابن السبيل تخصيصا لهم بالذكر وقد روى عن أحمد بن حنبل ما يوافق ذلك وأنه جعل مصرف الخمس من الركاز مصرف الفىء وهو تبع لخمس الغنائم وقال الشافعي وأحمد في الرواية المشهورة الخمس يقسم على خمسة أقسام وقال أبو حنيفة على ثلاثة فأسقط سهم الرسول وذوي القربى بموته ﷺ وقال داود بن علي بل مال الفىء أيضا يقسم على خمسة أقسام والقول الأول أصح الأقوال كما قد بسطت أدلته في غير هذا الموضع وعلى ذلك تدل سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين
فقوله لله وللرسول في الخمس والفىء كقوله في الأنفال لله
والرسول فالإضافة للرسول لأنه هو الذي يقسم هذه الأموال بأمر الله ليست ملكا لأحد وقوله صلى اله عليه وسلم إني والله لا أعطى أحدا ولا أمنه أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت يدل على أنه ليس بمالك للأموال وإنما هو منفذ لأمر الله عز وجل فيها وذلك لأن الله خيره بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا وهذا أعلى المنزلتين فالملك يصرف المال فيما أحب ولا إثم عليه والعبد الرسول لا يصرف المال إلا فيما أمر به فيكون فيما يفعله عبادة الله وطاعة له ليس في قسمه ما هو من المباح الذي لا يثاب عليه بل يثاب عليه كله
وقوله ﷺ ليس لي مما أفاء الله عليكم ألا الخمس والخمس مردود عليكم يؤيد ذلك فإن قوله لي أي أمره إلى ولهذا قال والخمس مردود عليكم وعلى هذا الأصل فما كان بيده من أموال بني النضير وفدك وخمس خيبر وغر ذلك هي كلها من مال الفىء الذي لم يكن يملكه فلا يورث عنه وإنما يورث عنه ما يملكه
بل تلك الأموال يجب أن تصرف فيما يحبه الله ورسوله من الأعمال وكذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأما ما قد يظن أنه ملكه كمال أوصى له به مخيريق وسهمه من خيبر فهذا إما أن يقال حكمه حكم المال الأول وإما أن يقال هو ملكه ولكن حكم الله في حقه أن يأخذ من المال خاجته وما زاد على ذلك يكون صدقة ولا يورث
كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لا يقتسم ورثتي دينارا ولا درهما وما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا نورث ما تركناه فهو صدقة أخرجه البخاري عن جماعة منهم أبو هريرة رضي الله عنه ورواه مسلم عنه وعن غيره
يبين ذلك ن هذا مذكور في سياق قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا واتوا النساء صدقاتهم نحلة فإن كبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا إلى قوله يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين
ومعلوم أن النبي ﷺ لم يخاطب بهذا فإنه ليس مخصوصا بمثنى ولا ثلاث ولا رباع بل له أن يتزوج أكثر من ذلك ولا مأمورا بأن يوفى كل امرأة صداقها بل له أن يتزوج من تهب نفسها له بغير صداق كما قال تعالى يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي اتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك إلى قوله وامرأة مؤمنة إن وهبت نسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما
وإذا كان سياق الكلام إنما هو خطاب للأمة دونه لم يدخل هو في عموم هذه الآية
فإن قيل بل الخطاب متناول له وللأمة في عموم هذه الآية لكن خص هو من اة النكاح والصداق
قيل وكذلك خص من اية الميراث فما قيل في تلك يقال مثله في هذه وسواء قيل إن لفظ الآية شمله وخص منه أو قيل إنه لم يشمله لكونه ليس من المخاكبين يقال مثله هنا
السابع أن يقال هذه الآية لم يقصد بها بيان من يورث ومن لا يورث ولا بيان صفة الموروث والوارث وإنما قصد بها أن المال الموروث يقسم بين الواثين على هذا التفصيل فالمقصود هنا بيان مقدار أنصباء هؤلاء المذكورين إذا كانوا ورثة ولهذا لو كان الميت مسلما وهؤلاء كفارا لم يرثوا باتفاق المسلمين وكذلك لو كان كافرا وهؤلاء مسلمين لم يرثوا حرا وهم عبيد وكذلك القاتل عمدا عنه عامة المسلمين وكذلك القاتل خطأ من الدية وفي غيرها نزاع وإذا علم أن في الموتى من يرثه أولاده وفيهم من لا يرثه أولاده والآية لم تفصل من يرثه ورثته ومن لا يرثه ولا صفة الوارث والموروث علم أنه لم يقصد بها بيان ذلك بل قصد بها بيان حقوق هؤلاء إذا كانوا ورثة
وحينئذ فالآية إذا لم تبين من يورث ومن يرثه لم يمن فيها دلالة على كون غير النبي ﷺ يرث أولا يورث فلأن لا يكون فيها دلالة على كونه هو يورث بطرق الأولى والأحرى
وهكذا كما في قوله ﷺ فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بالدوالي والنواضح فنصف العشر فإن قصد به الفرق بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصف العشر ولم يقصد به بيان ما يجب فيه أحدهما وما لا يجب واحد منهما فلهذا لا يحتج بعمومه على وجوب الصدقة في الخضروات
وقوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا قصد فيه الفرق بين البيع والربا في أن أحدهما حلال والاخر حرام ولم يقصد فيه بيان ما يجوز بيعه وما لا يجوز فلا يحتج بعمومه على جواز بيع كل شيء ومن ظن أن قوله وأحل الله البيع يعم بيع الميتة والخنزير والخمر والكلب وأم الولد والوقف وملك الغير والثمار قبل بدو صلاحها ونحو ذلك كان غالطا
الوجه الثامن أن يقال هب أن لفظ الآية غام فإنه خص منها الولد الكافر والعبد والقاتل بأدلة هي أضعف من الدليل الذي دل على خروج النبي صلى الله عليه وسل منها فإن الصحابة الذين نقلوا عنه أنه لا يورث أكثر وأجل من الذين نقلوا عنه أن المسلم لا يرث الكافر وأنه ليس لقاتل ميراث وأن من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع
وفي الجملة فإذا كانت الآية مخصوصة بنص أو إجماع كان تخصيصها بنص اخر جائزا باتفاق علماء المسلمين بل قد ذهب طائفة إلى أن العام المخصوص يبقى مجملا وقد تنازع العلماء في تخصيص عموم القران إذا لم يكن مخصوصا بخبر الواحد فأما العام المخصوص فيجو تخصيصه بخبر الواحد عن عوامهم لا سيما الخبر المتلقى بالقبول فإنهم متفقون على تخصيص عموم القران به
وهذا الخبر تلقته الصحابة بالقبول وأجمعوا على العمل به كما سنذكره إن شاء الله تعالى
والتخصيص بالنص المستفيض والإجماع متفق عليه ومن سلك هذا المسلك يقول ظاهر الآية العموم لكنه عموم مخصوص ومن سلك المسلك الأول لم يسلم ظهور العموم إلا فيمن علم أن هؤلاء يرثونه ولا يقال إن ظاهرها متروك بل نقول لم يقصد بها إلا بيان نصيب الوارث لا بيان الحال التي يثبت فيها الإرث فالآية عامة في الأولاد والموتى مطلقة في الموروثين وأما شروط الإرث فلم تتعرض له الآية بل هي مطلقة فيه لا تدل عليه بنفي ولا إثبات
كما في قوله اتعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم عام في الأشخاص مطلق في المكان والأحوال فالخطاب المقيد لهذا المطلق يكون خطابا مبتدأ مبينا لحكم شرعي لم يتقدم ما ينافيه لا يكون رافعا لظاهر خطاب شرعي فلا يكون مخالفا للأصل
الوجه التاسع أن يقال كون النبي ﷺ لا يورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة وكل منهما دليل قطعي فلا يعارض ذلك بما يظن أنه عموم وإن كان عموما فهو مخصوص لأن ذلك لو كان دليلا لما كان إلا ظنيا فلا يعارض القطعى إذ الظنى لا يعارض القطعي
وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس وليس فيهم من ينكره بل كلهم تلقاه بالقبول والتصديق ولهذا لم يصر أحد من أزواجه على طلب الميراث ولا أصر العم على طلب الميراث بل من طلب من ذلك شيئا فأخبر بقول النبي ﷺ رجع عن طلبه واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى على فلم يغير شيئا من ذلك ولاقسم له تركة
الوجه العاشر أن يقال إن أبا بكر وعمر قد أعطيا عليا وأولاده من المال أضعاف أضعاف ما خلفه النبي ﷺ من والمال الذي خلفه ﷺ لم ينتفع واحد منهما منه بشيء بل سلمه عمر إلى علي والعباس رضي الله عنهم بليانه ويفعلان فيه ما كان النبي ﷺ يفعله وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك
الوجه الحادي عشر أن يقال قد جرت العادة بأن الظلمة من الملوك أذا تولوا بعد غيرهم من الملوك الذين أحسنوا إليهم أو ربوهم وقج انتزعوا الملك من بيت ذلك الملك استعطفوهم وأعطوهم ليكفوا عنهم منازعتهم فلو قدر والعياذ بالله أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما متغلبان متوثبان لكانت العادة تقضي بأن لايزاحما الورثة المستحقين للولاية والتركة في المال بل يعطيانهم ذلك وأضعافه ليكفوا عن المنازعة في الولاية وأما منع الولاية والميراث بالكلية فهذا لا يعلم أنه فعله أحد من الملوك وإن كان من أظلم الناس وأفجرهم فعلم أن الذي فعلوه مع النبي ﷺ أمر خارج عن العادة الطبيعية في الملوك كما هو خارد عن العادات الشرعية في المؤمنين وذلك لاختصاصه ﷺ بما لم يخص الله به غيره من ولاة الأمور وهو النبوة إذ الأنبياء لا يورثون
الوجه الثاني عشر أن قوله تعالى وورث سليمان داود وقوله تعالى عن زكريا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من ال يعقوب لا يدل على محل النزاع لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز فإذا قيل هذا حيوان لا يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير ذلك من أنواع الانتقال قال تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اضطفينا من عبادنا
وقال تعالى أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون وقال تعالى وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون وقال تعالى وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطووها وقال تعالى إن الأرض لله روثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وقال تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وقال تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وقال النبي ﷺ إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر رواه أبو داود وغيره
وهكذا لفظ الخلافة ولهذا يقال الوارث خليفة الميت أي خلفه فيما تركه والخلافة قد تكون في المال وقد تكون في الملك وقد تكون في العلم وغير ذلك
وإذا كان كذلك فقوله تعالى وورث سليمان داود وقوله يرثني ويرث من ال يعقوب إنما يدل على جنس الإرث لا يدل على إرث المال فاستدلال المستدل بهذا الكلام على خصوص إرث المال جهل منه بوجه الدلالة كما لو قيل هذا خليفة هذا وقد خلفه كان دالا على خلافة مطلقة لم يكن فيها ما يدل على أنه خلفه في ماله أو امرأته أو ملكه أو غير ذلك من الأمور
الوجه الثالث عشر أن يقال المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال وذلك لأنه قال وورث سليمان داود ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان فلا يختص سليمان بماله
وأيضا فليس في كونه ورث ماله صفة مدح لا لداود ولا لسليمان فإن اليهودي والنصراني يرث أباه ماله والآية سيقت في بيان المدح لسليمان وما خصه اله به من النعمة
وأيضا فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس كالأكل والشرب ودفن الميت ومثل هذا لا يقص على الأنبياء إذ لا فائدة فيه وإنما يقص ما فيه عبرة وفائدة تستفاد وإلا فقول القائل مات فلان وورث اننه ماله مثل قوله ودفنوه ومثل قوله أكلوا وشربوا وناموا ونحو ذلك مما لا يحسن أن يدعل من قصص القران
وكذلك قوله عن زكريا يرثني ويرث من ال يعقوب ليس المراد بن إرث المال لأنه لا يرث من ال يعقوب شيئا من أموالهم بل إنما يرثهم ذلك أولادهم وسائر ورثتهم لو ورثوا ولأن النبي لا يطلب ولدا ليرث ماله فإنه لو كان يورث لم يكن بد من أن ينتقل المال إلى غيره سواء كان ابنا أو غيره فلو كان مقصوده بالولد أن يرث ماله كان مقصوده أنه لا يرثه أحد غير الولد
وهذا لا يقصده أعظم الناس بخلا وشحا على من ينتقل إليه المال فإنه لو كان الولد موجودا وقصد أعطاءه دون غيره لكان المقصود إعطاء الولد وأما إذا لم يكن له ولد وليس مراده بالولد إلا أن يجوز المال دون غيره كان المقصود أن لا يأخذ أولئك المال وقصد الولد بالقصد الثاني وهذا يقبح من أقل الناس عقلا ودينا
وأيضا فزكريا عليه السلام لم يعرف له مال بل كان نجارا ويحيى ابنه عليه السلام كان من أزهد الناس
وأيضا فإنه قال وإني خفت الموالى من ورائي ومعلوم أنه لم يخف أن يأخذوا ماله من بعده إذا مات فإن هذا ليس بمخوف
فصل
قال الرافضي ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول الله ﷺ وهبها فدك قال لها هات أسود أو أحمر يشهد لك بذلك فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك فقال امرأة لا يقبل قولها وقد رووا جميعا أن رسول الله ﷺ قال أم أيمن امرأة من أهل الجنة فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك فقال هذا بعلك يجره إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لك وقد رووا جميعا أن رسول الله ﷺ قال على مع الحق والحق معه يدور معه حيث دار لن يفترقا حتى يردا على الحوض فغضبت فاطمة عليها السلام عند ذلك وانصرفت وحلفت أن لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشكو إليه فلما حضرتها الوفاة أوصت عليت أن يدفنها ليلا ولا يدع أحدا منهم يصلي عليها وقد رووا جميعا أن النبي ﷺ قال يا فاطمة إن الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ورووا جميعا أنه قال فاطمة بضعة مني من اذاها فقد اذاني ومن اذاني فقد اذي الله ولو كان هذا الخبر صحيحا حقا لما جاز له ترك البغلة التي خلفها النبي ﷺ وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين على ولما حكم له بها لما ادعاها العباس ولكان أهل البيت الذين طهرهم الله في كتابه من الرجس مرتكبين مالا يجوز لأن الصدقة عليهم محرمة وبعد ذلك جاء إليه مال البحرين وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري فقال له إن النبي ﷺ قال لي إذا أتى مال البحرين حثوت لك ثم حثوت لك ثلاثا فقال له تقدم فخذ بعددها فأخذ من بيت مال المسلمين من غير بينة بل بمجرد قوله
والجواب أن في هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة ولكن ينذكر من ذلك وجوها إن شاء الله تعالى
أحدها أن ما ذكر من ادعاء فاكمة رضي الله عنها فدك فإن هذا يناقض كونها ميراثا لها فإ كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت فرسول الله ﷺ منزه إن كان يورث كما يورث غيره أن يوصى لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئا حتى مات الواهب كان ذلك باطلا عند جماهير العلماء فكيف يهب النبي ﷺ فدك لفاطمة ولا يكون هذا أمرا معروفا عند أهل بيته والمسلمين حتى تخص بمعرفته أم أيمن أو على رضي الله عنهما
الوجه الثاني أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة وقد قال الإمام أبو العاس بن سريج في الكتاب الذي صنفع في الرد على عيسى ابن أبان لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد واحتج بما احتج وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان قال وأما حديث البحتري بن حسان عن زيد بن علي أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله ﷺ أعطاها فدك وأنها جاءت برجل وامرأة فقال رجل مع رجل وامرأة مع امرأة فسبحان الله ما أعجب هذا قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله ﷺ أنه قال لا نورث وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادعتها بغير الميراث ولا أن احدا شهد بذلك
ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فدك إن فاطمة سألت النبي ﷺ أ يجعلها لها فأبى وأن النبي ﷺ كان ينفق منها ويعود على ضعفة بني هاشم ويزوج منه أيمهم وكانت كذلك حياة رسول الله ﷺ أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق وإني أشهدكم ني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله ﷺ
ولم يسمع أن فاطمة رضي الله عنها ادعت أن النبي ﷺ أعطاها إياها في حديث ثابت متصل ولا أن شاهدا شهد لها ولو كان ذلك لحكى لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه فلم يقل أحد من المسلمين شهدت النبي ﷺ أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدعيها حتى جاء البحتري بن حسان يحكى عن زيد شيئا لا ندري ما أصله ولا من جاء به وليس من أحاديث أهل العلم فضل بن مرزوق عن البحتاري عن زيد وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له وكان الحديث قد حسن بقول زيد لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا على فاطمة لو لم يخالفه أحد ولو لو تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية فكيف وقد جاءت وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول اله ﷺ قم قال أبو بكر بخلافه إن هذا من أبي بكر رحمه الله كنحو ما كان منه في الجدة وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه
ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة لأن فاطمة لم تقل إني أحلف مع شاهدي فمنعت ولم يقل أبو بكر إني لا أرى اليمين مع الشاهد
قالوا وهذا الحديث غلط لأن أسامة بن زيد يروي عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثنا قال كان مما احتج بن عمر أن قال كانت لرسول الله ﷺ ثلاث صفايا بنو النضير وخيبر وفدك فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل وأما خيبر فجزأها رسول الله ﷺ ثلاثة أجزاء جزئتين بين المسلمين وجزءا نفقة لأهله فما فضل عن نفقة أهله جهله بين فقراء المهاجرين جزئين
وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله ﷺ أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله ﷺ مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقى من خمس خيبر فقال أبو بكر إن رسول الله ﷺ قال لا نورث ما تركنا صجقة رسول الله ﷺ عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ﷺ ولأعملن فيها بمل عمل به رسول الله ﷺ فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا
ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال حدثني عروة أن عائشة أخبرته بهذا الحديث قال وفاطمة رضي الله عنها حينئذ تطلب صدقة رسول الله التي بالمدينة وفدك وما بقى من خمس خيبر قالت عائشة فقال أبو بكر إن رسول الله ﷺ قال لا نورث ما تركنا صدقة وإنما يأكل آل محمد في هذا المال يعني مال الله عز وجل ليس لهم أن يزيدوا على المال
ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال لست تاركا شيئا كان رسول الله ﷺ يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى على وعباس فغلب علي عليها وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر وقال هما صدقة رسول الله ﷺ كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرها إلى من ولي الأمر قال فهما على ذلك إلى اليوم
فهذه الأحاديث الثابته المعروفة عند أهل العلم وفيها ما يبين أن فاطمة رضي الله عنها طلبت ميراثها من رسول الله ﷺ على ما كانت تعرف من المواريث فأخبرت بما كان من رسول الله فسلمت ورجعت فكيف تكلبها ميراثا وهي تدعيها ملكا بالعطية هذا ما لا معنى فيه وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يتدبر ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابته لرده وإبانة الغلط فيه ولكن حبك الشيء يعمى ويصم
وقد روى عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله قالت فاطمة هو لك ولقرابتك قال لا وأنت عندي مصدقة أمينة فإن كان رسول الله ﷺ عهد إليك في هذا أو وعدك فيه موعدا أو أوجبه لكم حقا صدقتك فقالت لا غير أن رسول الله ﷺ قال حين أنزل عليه أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى قال أبو بكر صدق الله ورسوله وصدقت فلكم الفىء ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن استلم هذا السهم كله كاملا إليكم ولكم الفىء الذي يسعكم وهذا يبين أن أبا بكر كان يقبل قولها فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة ولكنه يتعلق بكل شيء يجده
الوجه الثالث أن يقال إن كان النبي ﷺ يورث فالخصم في ذلك أزواجه وعمه ولا تقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ واتفاق المسلمين وان كان لا يورث فالخصم في ذلك المسلمون فكذلك لا يقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين ولا رجل وامرأة نعم يحكم في مثل ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز وفقهاء أصحاب الحديث وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء هما روايتان عن أحمد إحداهما لا تقبل وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد وألأوزاعي وإسحاق وغيرهم
والثانية تقبل وهي مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم فعلى هذا لو قدر صحة هذه القصة لا يجز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد ولا امرأة واحدة باتفاق المسلمين لا سيما وأكثرثهم لا يجيزون شهادة الزوج ومن هؤلاء من لا يحكم بشاهد ويمين ومن يحكم بشاهد ويمين لم يحكم للطالب حتى يحلفه
الوجه الرابع قوله فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك فقال امرأة لا يقبل قولها وقد رووا جميعا أن رسول الله ﷺ قال أم أيمن امرأة من أهل الجنة
الجواب أن هذا احتجاج جاهل مفرط في الجهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها فإن هذا القول لو قاله الحجاج بو يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقا فإن امرأة واحدة لا يقبل قولها في الحكم بالمال لمدع يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره فكيف إذا حكى مثل هذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه
وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنها رووه جميعا فهذا الخبر لا يعرف في شيء من داوجين الإسلام ولا يعرف عالم من علماء الحديث رواه وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد وهي حاضنة النبي ﷺ وهي من المهاجرين ولها حق وحرمة لكن الرواية عن النبي ﷺ لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم وقول القائل رووا جميعا لا يكون إلا في خبر متواتر فمن ينكر حديث النبي ﷺ أنه لا يورث وقد رواه أكابر الصحابة ويقول إنهم جميعا رووا هذا الحديث إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحدت للحق
وبتقدير أن يكون النبي ﷺ قد أخبر أنها من أهل الجنة فهو كإخباره عن غيرها أنه من أهل الجنة وقد أخبر عن كل واحد من العشرة أنه في الجنة وقد قال لا يدخل النار احد بايغ تحت الشجرة وهذا الحديث في الصحيح ثابت عند أهل العلم بالحديث وحديث الشهادة لهم بالجنة رواه أهل السنن من عير وجه من حديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد فهذه الأحاديث المعروفة عن أهل العلم بالحديث ثم هؤلاء يكذبون من علم أن الرسول شهد لهم بالجنة وينكرون عليهم كونهم لم يقبلوا شهادة امرأة زعموا أنه شهد لها بالجنة فهل يكون أعظم من جهل هؤلاء وعنادهم
ثم يقال كون الرجل من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادته لجواز أن يغلط في الشهادة ولهذا لو شهدت خديجة وفاطمة وعائشة ونحوهن ممن يعلم أنهن من أهل الجنة لكانت شهادة إحداهن نصف ميراث رجل وديتها نصف دية رجل وهذا كله باتفاق المسلمين فكون المرأة من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادتها لجواز الغلط عليها فكيف وقد يكون الإنسان ممن يكذب ويتوب من الكذب ثم يدخل الجنة
الوجه الخامس قوله إن عليا شهد لها فرد شهادته لكونه زوجها فهذا مع أنه كذب لو صح ليس يقدح إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل اخر وإما بامرأة مع امرأة وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدعى فهذا لا يسوغ
الوجه السادس قولهم إنهم رووا جميعا أن رسول الله ﷺ قال على مع الحق والحق معه يدور حيث دار ولن يفترقا حتى يردا على الحوض من أعظم الكلام كذبا وجهلا فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي ﷺ لا بإسناد صحيح ولا ضعيف فكيف يقال إنهم جميعا رووا هذا الحديث وهل يكون أكذب ممن يروى عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثا والحديث لا يعرف عن واحد منهم أصلا بل هذا من أظهر الكذب ولو قيل رواه بعضهم وكان يمكن صحته لكان ممكنا فكيف وهو كذب قطعا على النبي ﷺ بخلاف إخباره أن أم أيمن في الجنة فهذا يمكن أنه قاله فإن أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات فإخباره أنها في الجنة لا ينكر بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق وأن الحق يدور معه حيثما دار لن يفترقا حتى يردا على الحوض فإنه كلام ينزه عنه رسول الله ﷺ
أما أولا فلأن الحوض إنما يرده عليه أشخاص كما قال للأنصار اصبروا حتى تلقوني على الحوض وقال إن حوضي لأبعد ما بين أيلة إلى عدن وإن أول الناس ورودا فقراء المهاجرين الشعث رؤوسا الدنس ثيابا الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء رواه مسلم وغيره
وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض وقد روى أنه قال إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض فهو من هذا النمط وفيه كلام يذكر في موضعه إن شاء الله
ولو صح هذا لكان المراد به ثواب القران أما الحق الذي يدور مع شخص ويدور الشخص معه فهو صفة لذلك الشخص لا يتعداه ومعنى ذلك أن قوله صدق وعمله صالح ليس المراد به أن غيره لا يكون معه شيء من الحق
وأيضا فالحق لا يدور مع شخص غير النبي ﷺ ولو دار الحق مع على حيثما دار لوجب أن يكون معصوما كالنبي ﷺ وهم من جهلهم يدعون ذلك ولكن من علم أنه لم يكن بأولى بالعصمة من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم وليس فيهم من هو معصوم علم كذبهم وفتاويه من جنس فتاوي عمر وعثمان ليس هو أولى بالصواب منهم ولا في أقوالهم من الأقوال المرجوحة أكثر مما في قوله ولا كان ثناء النبي ﷺ ورضاه عنه بأعظم من ثنائه عليهم ورضائه عنهم بل لو قال القائل إنه لا يعرف من النبي ﷺ أنه عتب على عثمان في شيء وقد عتب على على في غير موضع لما أبعد فإنه لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل اشتكته فاطمة لأبيها وقالت إن الناس يقولون إنك لا تغضب لبناتك فقام رسول الله ﷺ خطيبا وقال إن بني المغيرة استأذنوني أن يزوجوا ابنتهم علي بن أبي طالب وإني لا اذن ثم لا اذن ثم لا اذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم فإنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما اذاها ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي والحديث ثابت صحيح أخرجناه في الصحيحين
وكذلك في الصحيحين لما طرقه وفاطمة ليلا فقال ألا تصليان فقال له على إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانطلق وهو يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا
وأما الفتاوي فقد أفتى بأن المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أبعد الأجلين وهذه الفتيا كان قد أفتى بها أبو السنابل بن بعكك على عهد النبي ﷺ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كذب أبو السنابل وأمثال ذلك كثير ثم بكل حل فلا يجوز أن يحكم بشهادته وحده كما لا يجوز له أن يحكم لنفسه
الوجه السابع أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يلق بها ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها فإنه ليس فيما ذكره ما يوجب الغضب عليه إذ لم يحكم لو كان ذلك صحيحا إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه ومن كلب أن يحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب وحلف أن لا يكلم الحاكم ولا صاحب الحاكم لم يكن هذا مما يحمد عليه ولا مما يذم به الحاكم بل هذا إلى أن يكون جرحا أقرب منه إلى أن يكون مدحا ونحن نعلم أن ما يحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين وإذا كان بعضها ذنبا فليس القوم معصومين بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم وكذلك ما ذكره من حلفها أنها لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشتكي إليه أمر لا يليق أن يذكر عن فاطمة رضي الله عنها فإن الشكوى إليه أمر لا يليق أن يذكر عن فاطمة رضي الله عنها فإن الشكوى إنما تكون إلى الله تعالى كما قال العبد الصالح إنما أشكو بثى وحزني إلى الله وفي دعاء موسى عليه السلام اللهم لك التكلان وقال النبي ﷺ لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ولم يقل سلني ولا استعن بي
وقد قال تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب
ثم من المعلوم لكل عاقل أن المرأة إذا طلبت مالا من ولي أمر فلم يعطها إياه لكونها لا تستحقه عنده وهو لم يأخذه ولم يعطه لأحد من أهله ولا أصدقائه بل أعطاه لجميع المسلمين وقيل إن الطالب غضب على الحاكم كان غاية ذلك أنه غضب لكونه لم يعطه مالا وقال الحاكم إنه لغيرك لا لك فأي مدح للطالب في هذا الغضب لو كان مظلوما محضا لم يكن غضبه إلا للدنيا وكيف والتهمة عن الحاكم الذي لا يأخذ لنفسه أبعد من التهمة عن الطالب الذي يأخذ لنفسه فكيف تحال التهمة على من لا يطلب لنفسه مالا ولا تحال على من يطلب لنفسه المال
وذلك الحاكم يقول إنما أمنع لله لأني لا يحل لي أن اخذ المال من مستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه والطالب يقول إنما أغضب لحظى القليل من المال أليس من يذكر مثل هذا عن فاطمة ويجعله من مناقبها جاهلا، أو ليس الله قد ذم المنافقين الذين قال فيهم ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها ورضا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما اتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيوتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فذكر الله قوما رضوا إن اعطوا وغضبوا إن لم يعطوا فذمهم بذلك فمن مدح فاطمة بما فيه شبه من هؤلاء ألا يكون قادحا فيها فقاتل الله الرافضة وانتصف لأهل البيت منهم فإنهم ألصقوا بهم من العيوب والشين مالا يخفى على ذي عين
ولو قال قائل فاطمة لا تطلب إلا حقها لم يكن هذا بأولى من قول القائل أبو بكر لا يمنع يهوديا ولا نصرانيا حقه فكيف يمنه سيدة نساء العالمين حقها فغن الله تعالى ورسوله ﷺ قد شهدا لأبي بكر أنه ينفق ماله لله فكيف يمنه الناس أموالهم وفاطمة رضي الله عنها قد طلبت من النبي ﷺ مالا فلم يعطها إياه كما ثبت في الصحيحين عن علي رضي الله عنه في حديث الخادم لما ذهبت فاطمة إلى النبي ﷺ تسأله خادما فلم يعطها خادما وعلمها التسبيح وإذا جاز أن تطلب من النبي ﷺ ما يمنعها النبي ﷺ إياه ولا يجب عليه أن يعطيها إياه جاز أن تطلب ذلك من أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ وعلم أنها ليست معصومة أن تطلب ما لا يجب إعطاؤها إياه وإذا لم يجب عليه الإعطاء لم يكن مذموما بتركه ما ليس بواجب وإن كان مباحا فأما إذا قدرنا أن الإعطاء ليس بمباح فإنه يستحق أن يحمد على المنع وأما أبو بكر فلم يعلم أنه منع أحدا حقه ولا ظلم أحدا حقه لا في حياة رسول الله ﷺ ولا بعد موته
وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تدفن ليلا ولا يصلي عليها أحد منهم لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجل جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أولى منه بالسعي المشكور فإ صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه ولا يضر أفضل الخلق أن يصلي عليه شر الخلق وهذا رسول الله ﷺ يصلي عليه ويسلم عليه الأبرار والفجار بل والمنافقون وهذا إن لم ينفعه لم يضره وهو يعله أن في أمته منافقين ولم ينه أحدا من أمته عن الصلاة عليه بل أمر الناس كلهم بالصلاة والسلام عليه مع أن فيهم المؤمن والمنافق فكيف يذكر في معرض الثناء عليها والاحتاج لها مثل هذا الذي لا يحكيه ولا يحتج به إلا مفرط في الجهل ولو وصى موص بأن المسلمين لا يصلون عليه لم تنفذ وصيته فإن صلاتهم عليه خير له بكل حال
ومن المعلوم أن إنسانا لو ظلمه ظالم فأوصى بأن لا يصلي عليه ذلك الظالم لم يكن هذا من الحسنات التي يحمد عليها ولا هذا مما أمر الله به ورسوله فمن يقصد مدح فاطمة وتعظيمها كيف يذكر مثل هذا الذي لا مدح فيه بل المدح في خلافه كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع
وأما قوله ورووا جميعا أن النبي ﷺ قال يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك فهذا كذب منه ما رووا هذا عن النبي ﷺ ولا يعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة ولا له إسناد معروف عن النبي ﷺ لا صحيح ولا حسن ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة وبأن الله يرضى عنها فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن بن عوف بذلك نشهد ونشهد بأ الله تعالى أخبر برضاه عنهم في غير موضع كقوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وقوله تعالى لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة وقد ثبت أن النبي ﷺ توفى وهو عنهم راض ومن رضي الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائنا من كان بل من رضي الله عنه ورضى عن الله يكون رضاه موافقا لرضا الله فإن الله راض عنه فهو موافق لما يرضى الله وهو راض عن الله فحكم الله موافق لرضاه وإذا رضوا بحكمه غضبوا لغضبه فإن من رضى بغضب غيره لزم أن يغضب لغضبه فإن الغضب إذا كان مرضيا لك فعلن ما هو مرض لك وكذلك الرب تعالى وله المثل الأعلى إذا رضى عنهم غضب لغضبهم إذ هو راض بغضبهم
وأما قوله رووا جميعا أن فاطمة بضعة مني من اذاها اذاني ومن اذاني اذى الله فإن هذا الحديث لو يرو بهذا اللفظ بل روى بغيره كما روى في سياق حديث خطبه على لابنه أبي جهل لما قام النبي ﷺ خطيبا فقال إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب وإني لا اذن ثم لا اذن ثم لا اذن إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما اذاها إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم وفي رواية إني أخاف أن تفتن في دينها ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وإني لست أحل حراما ولا أحرم حلالا ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله ونت عدو الله مكانا واحدا أبدا رواه البخاري ومسلم في الصحيحين من رواية علي بن الحسين والمسور بن مخرمة فسبب الحديث خطبة على رضي الله عنه لابنة أبي جهل والسبب داخل في اللفظ قطعا إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه بل السبب يجب دخوله بالاتفاق
وقد قال في الحديث يريبني ما رابها ويؤذيني ما اذاها ومعلوم قطعا أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها واذاها والنبي ﷺ رابه ذلك واذاه فإن كان هذا وعيدا لاحقا بفاعله لزم أن يلحق هذا الوعيد علي بن أبي طالب وإن لم يكن وعيدا لاحقا بفاعله كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من علي وإن قيل إن عليا تاب من تلك الخطبة ورجع عنها
قيل فهذا يقتضي أنه عير معصوم وإذا جاز أن من راب فاطمة واذاها يذهب ذلك بتوبته جاز أن يذهب بغير ذلك من الحسنات الماحية فإن ما هو أعظم من هذا الذنب تذهبه الحسنات الماحية والتوبة والمصائب المكفرة
وذلك أن هذا الذنب ليس من الكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة ولو كان كذلك لكان علي والعياذ بالله قد ارتد عن دين الإسلام في حياة النبي ﷺ ومعلوم أن الله تعالى نزه عليا من ذلك والخوارج الذين قالوا إنه ارتد بعد موت النبي ﷺ لم يقولوا إنه ارتد في حياته ومن ارتد فلا بد أن يعود إلى الاسلام أو يقتله النبي ﷺ وهذا لم يقع وإذا كان هذا الذنب هو مما دون الشرك فقد قال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن قالوا بجهلهم إن هذا الذنب كفر ليكفروا بذلك أبا بكر لزمهم تكفير علي واللازم باطل فالمللزوم مثله وهم دائما يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان بل ويكفروبنهم بأمور قد صدر من علي ما هو مثلها أو أبعد عن العذر منها فإن كان مأجورا أو معذورا فهم أولى بالأجر والعذر وإن قيل باستلزام الأمر الأخف فسقا أو كفرا كان استلزام الأغلظ لذلك أولى
وأيضا فيقال إن فاطمة رضي الله عنها إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب وهذا حال أبي بكر وعمر فإنهما احترزا عن أن يوذيا أباها أو يريباه بشيء فإنه عهد عهدا وأمر بأمر فخافا إن غيرا عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره وعهده ويتأذى بذلك وكل عاقل يعلم أن رسول الله ﷺ إذا حكم بحكم وطلبت فاطمة أو غيرها ما يخالف ذلك الحكم كان مراعاة حكم النبي ﷺ أولى فإن طاعته واجبة ومعصيته محرمة ومن تأذى لطاعته كان مخطئا في تأذيه بذلك وكان الموافق لطاعته مصيبا في طاعته وهذا بخلاف من اذاها لغرض نفسه لا لأجل طاعة الله ورسوله
ومن تدبر حال أبي بكر في رعايته لأمر النبي ﷺ وأنه إنما قصد طاعة الرسول ﷺ لا أمرا اخر يحكم أن حاله أكمل وأفضل وأعلى من حال على رضى الله عنهما وكلاهما سيد كبير من أكابر أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وعباد الله الصالحين ومن السابقين الأولين ومن أكابر المقربين الذين يشربون بالتسنيم ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه يقول والله لقرابة رسول الله ﷺ أحب إلى أن أصل من قرابتي وقال ارقبوا محمدا ﷺ في أهل بيته رواه البخاري عنه
لكن المقصود أنه لو قدر أن أبا بكر اذاها فلم يؤذها لغرض نفسه بل ليطيع الله ورسوله ويوصل الحق إلى مستحقه وعلي رضي الله عنه كان قصده أن يتزوج عليها فله في أذاها غرض بخلاف أبي بكر فعلم أن أبا بكر كان أبعد أن يذم بأذاها من علي وأنه إنا قصد طاعة الله ورسوله بما لاحظ له فيه بخلاف علي فإنه كان له حظ فيما رابها به وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى الله ورسوله وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها والنبي ﷺ يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك أمر الله تعالى فإذا أمر الله تعالى بشيء فعله وإن تأذى من تأذى من أهله وغيرهم وهو في حال طاعته لله يؤذيه ما يعارض طاعة الله ورسوله وهذا الإطلاق كقوله من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني ثم قد بين ذلك بقوله ﷺ إنما الطاعة في المعروف فإذا كانت طاعة أمرائه أطلقها ومراده بها الطاعة في المعروف فقوله من اذاها فقد اذاني يحمل على الأذى في المعروف بطريق الأولى والأحرى لأن طاعة أمرائه فرض وضدها معصية كبيرة وأما فعل ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر النبي ﷺ وإلا لزم أن يكون على قد فعل ما هو أعظم من معصية الله ورسوله فإن معصية أمرائه معصيته ومعصيته معصية الله ثم إذا عارض معارض وقال أبو بكر وعمر وليا الأمر والله قد أمر بطاعة أولى الأمر وطاعة ولى الأمر طاعة لله ومعصيته معصية لله فمن سخط أمره وحكمه فقد سخط أمر الله وحكمه
ثم أخذ يشنع على علي وفاطمة رضي الله عنهما بأنهما ردا أمر الله وسخطا حكمه وكرها ما أرضى الله لأن الله يرضيه طاعته وطاعة ولي الأمر فمن كره طاعة ولي الأمر فقد كره رضوان الله والله يسخط لمعصيته ومعصية ولي الأمر معصيته فمن اتبع معصية ولي الأمر فقد اتبع ما أسخط الله وكره رضوانه وهذا التشنيع ونحوه على علي وفاطمة رضي الله عنهما أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر وذلك لأن النصوص الواردة عن النبي ﷺ في طاعة ولاى الأمور ولزوم الجماعة والصبر على ذلم مشهورة كثيرة بل لو قال قائل إن النبي ﷺ أمر بطاعة ولاة الأمور وان استأثروا والصبر على جورهم وقال إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض وقال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم وأمثال ذلك فلو قدر أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا ظالمين مستأثرين بالمال لأنفسهما لكان الواجب مع ذلك طاعتهما والصبر على جورهما
ثم لو أخذ هذا القائل يقدح في علي وفاطمة رضي الله عنهما ونحوهم بأنهم لم يصبروا ولم يلزموا الجماعة بل جزعوا وفرقوا الجماعة وهذه معصية عظيمة لكانت هذه الشناعة أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فإن أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركا واجبا فعلا محرما أصلا بخلاف غيرهما فإنه قد تقوم الحجة بنوع من الذنوب التي لم يفعل مثلها أبو بكر ولا عمر وما ينزه على وفاطمة رضي الله عنهما عن ترك واجب أو فعل محظور إلا وتنزيه أبي بكر وعمر أولى بكثير ولا يمكن أن تقوم شبهة بتركهما واجبا أو تعديهما حدا إلا والشهة التي تقوم في علي وفاطمة أقوى وأكبر فطلب الطالب مدح علي وفاطمة رضي الله عنهما إما بسلامتهما من الذنوب وإما بغفران الله لهما مع القدح في أبي بكر وعمر بإقامة الذنب والمنع من المغفرة من أعظم الجهل والزلم وهو أجهل وأظلم ممن يريد مثل ذلك في علي ومعاوية رضي الله عنهما إذا أراد مدح معاوية رضي الله عنه والقدح في علي رضي الله عنه
=========================
منهاج السنة النبوية/25
الوجه الثامن أن قوله لو كان هذا الخبر صحيحا حقا لما جاز له ترك البغلة والسيف والعمامة عند علي والحكم له بها لما ادعاها العباس
فيقال ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد أو تركا ذلك عند أحد على أن ذلك ملك له فهذا من أبين الكذب عليهما بل غاية ما في هذا أن يترك عند من يترك عنده كما تركا صدقته عند علي والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية
وأما قوله ولكان أهل البيت الذين طهرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز
فيقال له أولا إن الله تعالى لم يخبر أنه طهر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس فإن هذا كذب على الله كيف ونحن نعلم أن في بني هاشم من ليس بمطهر من الذنوب ولا أذهب عنهم الرجس لا سيما عند الرافضة فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فليس بمطهر والآية إنما قال فيها إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وقد تقدم أن هذا مثل قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون وقوله يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلم ويتوب عليكم ونحو ذلك مما فيه بيان أن الله يحب ذلك لكم ويرضاه لكم ويأمركم به فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب المرضى ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن هذا ألزم لهؤلاء الرافضة القدرية فإن عندهم أن إرادة الله بمعنى أمره لا يمعنى أنه يفعل ما أراد فلا يلزم إذا أراد الله تطهير أحد أن يكون ذلك قد تطهر ولا يجوز عندهم أن يطهر الله أحدا بل من أراد الله تطهيره فإن شاء طهر نفسه وإن شاء لم يطهرها ولا يقدر الله عندهم على تطهير أحد
وأما قوله لأن الصدقة محرمة عليهم
فيقال له أولا المحرم عليهم صدقة الفرض وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبلة بين مكة والمدينة ويقولون إنما حرم علينا الفرض ولم يحرم علينا التطوع وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع فانتفاعهم بصدقة النبي ﷺ أولى وأحرى فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي ﷺ وهي أوساخ الناس التي حرمت عليهم
وإنما هي من الفىء الذي أفاءه الله على رسوله والفىء حلال لهم والنبي ﷺ جعل ما جعله الله له من الفىء صدقة إذ غايته أن يكون ملكا للنبي ﷺ تصدق به على المسلمين وأهل بيته أحق بصدقته فإن الصدقة على المسلمين صدقة والصدقة على القرابة صدقة وصلة
الوجه التاسع في معارضته بحديث جابر رضي الله عنه فيقال جابر لم يدع حقا لغيره ينتزع من ذلك الغير ويجعل له وإنما طلب شيئا من بيت المال يجوز للإمام ن يعطيه إياه ولو لم يعده به النبي ﷺ فإذا وعده به كان أولى بالجواز فلهذا لم يفتقر إلى بينة ومثال هذا أن يجىء شخص إلى عقار بيت المال فيدعيه لنفسه خاصة فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال ويدفعه إليه بلا حجة شرعية واخر طلب شيئا من المال المنقول الذي يجب قسمه على المسلمين من مال بيت المال فهذا يجوز أن يعطى بلا بينة ألا ترى أن صدقة رسول الله ﷺ الموقوفة وصدقة غيره من المسلمين لا يجوز لأحد من المسلمين أن يملك أصلها ويجوز أن يعطى من ريعها ما ينتفع به فالمال الذي أعطى منه جابر هو المال الذي يقسم بين المسلمين بخلاف أصول المال
ولهذا كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يعطيان العباس وبنيه وعليا والحسن والحسين وغيرهم من بني هاشم أعظم مما أعطوا جابر بن عبد الله من المال الذي يقسم بين الناس وإن لم يكن معهما وعد من النبي ﷺ
فقول هؤلاء الرافضة الجهال إن جابر بن عبد الله أخذ مال المسلمين من غير بينة بل بمجرد الدعوى كلام من لا يعرف حكم الله لا في هذا ولا في ذاك فإن المال الذي أعطى منه جابر مال يجب قسمته بين المسلمين وجابر أحد المسلمين وله حق فيه وهو أحد الشركاء والإمام إذا أعطى أحد المسلمين من مال الفىء ونحوه من مال المسلمين لا يقال إنه أعطاه مال المسلمين من غير بينة لأن القسم بين المسلمين وإعطاءهم لا يفتقر إلى بينة بخلاف من يدعي أن أصل المال له دون المسلمين
نعم الإمام يقسم المال باجتهاده في التقدير والنبي ﷺ كان يقسم المال بالحثيات وكذلك روى عن عمر رضي الله عنه وهو نوع من الكيل باليد وجابر ذكر أن النبي ﷺ وعده بثلاث حثيات وهذا أمر معتاد مثله من النبي ﷺ فلم يذكر إلا ما عهد من النبي ﷺ مثله وما يجوز الاقتداء به فيه فأعطاه حثية ثم نظر عددها فأعطاه بقدرها مرتين تحريا لما ظنه موافقا لقول النبي ﷺ في القسم فإن الواجب موافقته بحسب الإمكان فإن أمكن العلم وإلا اتبع ما أمكن من التحري والاجتهاد
أما قصة فاطمة رضي الله عنها فم ذكروه من دعواها الهبة والشهادة المذكورة ونحو ذلك لو كان صحيحا لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح
فصل
قال الرافضي وقد روى عن الجماعة كلهم أن النبي ﷺ قال في حق أبي ذر ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولم يسموه صديقا وسموا أبا بكر بذلك مع أنه لم يرد مثل ذلك في حقه
فيقال هذا الحديث لم يروه الجماعة كلهم ولا هو في الصحيحين ولا هو في السنن بل هو مروي في الجملة وبتقدير صحته وثبوته فمن المعلوم أن هذا الحديث لم يرد به أن أبا ذر أصدق من جميع الخلق فإن هذا يلزم منه أن يكون أصدق من النبي ﷺ ومن سائر النبيين ومن علي بن أبي طالب وهذا خلاف إجماع المسلمين كلهم من السنة والشيعة فعلم أن هذه الكلمة معناها أن أبا ذر صادق ليس غيره أكثر تحريا للصدق منه ولا يلزم إذا كان بمنزلة غيره في تحرى الصدق أن يكون بمنزلته في كثرة الصدق والتصديق بالحق وفي عظم الحق الذي صدق فيه وصدق به وذلك أنه يقال فلان صادق اللهجة إذا تحرى الصدق وإن كان قليل العلم بما جاءت به الأنبياء والنبي ﷺ لم يقل ما أقلت الغبراء أعزم تصديقا من أبي ذر بل قال أصدق لهجة والمدح للصديق الذي صجق الأنبياء ليس بمجد كونه صادقا بل في كونه مصدقا للأنبياء وتصديقه للنبي ﷺ هو صدق خاص فالمدح بهذا التصديق الذي هو صدق خاص نوع والمدح بنفس كونه صادقا نوع اخر فكل صديق صادق وليس كل صديق صديقا
ففي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا فالصديق قد يراد به الكامل في الصدق وقد يراد به الكامل في التصديق والصديق ليست فضيلته في مجرد تحري الصدق بل في أنه علم ما أخبر به النبي ﷺ جملة وتفصيلا وصدق ذلك تصديقا كاملا في العلم والقصد والقول والعمل وهذا القدر لم يحصل لأبي ذر ولا لغيره فإن أبا ذر لم يعلم ما أخبر به النبي ﷺ كما علمه أبو بكر ولا حصل له من التصديق المفصل كما حصل لأبي بكر ولا حصل عنده من كمال التصديق معرفة وحالا كما حصل لأبي بكر فإن أبا بكر أعرف منه وأعظم حبا لله ورسوله منه وأعظم نصرا لله ورسوله منه وأعظم جهادا لنفسه وماله منه إلى غير ذلك من الصفات التي هي كمال الصديقية
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال صعد رسول الله ﷺ أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال اسكن أحد وضربه برجله وقال ليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان وفي الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله الذين يؤتون ما اقوا قلوبهم وجلة أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف قال لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه
فصل
قال الرافضي وسموه خليفة رسول الله ﷺ ولم يستخلفه في حياته ولا بعد وفاته عندهم ولم يسموا أمير المؤمنين خليفة رسول الله مع أنه استخلفه في عدة مواطن منها أنه استخلفه على المدينة في غزوة تبوك وقال له إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
وأمر أسامة بن زيد علي الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر ومات ولم يعزله ولم يسموه خليفة ولما تولة أبو بكر غضب أسامة وقال إن رسول الله ﷺ أمرني عليك فمن استخلفك علي فمشى إليه هو وعمر حتى استرضاه وكانا يسميانه مدة حياته أميرا
والجواب من وجوه أحدها أن الخليفة إما أن يكون معناه الذي يخلف غيره وإن كان لم يستخلفه كما هو المعروف في اللغة وهو قول الجمهور وإما أنيكون معناه من استخلفه غيره كما قاله كائفة من أهل الظاهر والشيعة ونحوهم فإن كان هو الأول فأبو بكر خليفة رسول الله ﷺ لأنه خلفه بعد موته ولم يخلف رسول الله ﷺ أحد بعد موته إلا أبو بكر فكان هو الخليفة دون غيره ضرورة فإن الشيعة وغيرهم لا ينازعون في أنه هو الذي صار ولي الأمر بعده وصار خليفة له يصلي بالمسلمين ويقيم فيهم الحدود ويقسم بينهم الفىء ويغزو بهم العدو ويولى عليهم العمال والأمراء وغير ذلك من الأمور التي يفعلها ولاة الأمور
فهذه باتفاق الناس إنما باشرها بعد موته أبو بكر فكان هو الخليفة للرسول ﷺ فيها قطعا لكن أهل السنة يقولون خلفه وكان هو أحق بخلافته والشيعة يقولون علي كان هو الأحق لكن تصح خلافه أبي بكر ويقولون ما كان يحل له أن يصير هو خليفة لكن لا ينازعون في أنه صار خليفة بالفعل وهو مستحق لهذا الاسم إذ كان الخليفة من خلف غيره على كل تقدير
وأما إن قيل إن الخليفة من استخلفه غيره كما قاله بعض أهل السنة
وبعض الشيعة فمن قال هذا من أهل السنةفإنه يقول إن النبي ﷺ استخلف أبا بكر إما بالنص الجلي كما قاله بعضهم وإما بالنص الخفي كما أن الشيعة القائلين بالنص على علي منهم من يقول بالنص الجلي كما تقوله الإمامية ومنهم من يقول بالنص الخفي كما تقوله الجارودية من الزيدية ودعوى أولئك للنص الجلي أو الخفي علي أبي بكر أقوى وأظهر بكثير من دعوى هؤلاء للنص على علي لكثرة النصوص الدالة على ثبوت خلافة أبي بكر وأن عليا لم يدل على خلافته إلا ما يعلم أنه كذب أو يعلم أنه لا دلالة فيه
وعلى هذا التقدير فلم يستخلف بعد موته أحدا إلا أبا بكر فلهذا كان هو الخليفة فإن الخليفة المطلق هو من خلفه بعد موته أو استخلفه بعد موته وهذان الوصفان لم يثبتا إلا لأبي بكر فلهذا كان هو الخليفة
وأما تستخلافه لعلي على المدينة فذلك ليس من خصائصه فإن النبي ﷺ كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلا من أصحابه كما استخلف ابن أم مكتوم تارة وعثمان بن عفان تارة واستخلف ابن ام مكتوم في غزوة بدر وغيرها وعثمان في غزوة ذات الرقاع وغطفان التي يقال لها غزوة أنمار واستخلف في بدر الوعيد بن رواحة وزيد بن حارثة في المريسيع واستخلف أبا لبابة في غزوة بني قينقاع وغزوة السويق وفي غزوة السويق وفي غزوة الأبواء سعد بن عبادة وسعد بن معاذ في غزوة بواط وفي غزوة العشيرة أبا سلمة
واستخلاف علي لم يكن على أكثر ولا أفضل ممن استخلف عليهم غيره بل كان يكون في المدينة في كل غزوة من الغزوات من المهاجرين والأنصار أكثر وأفضل ممن تخلف في غزوة تبوك فإن غزوة تبوك لم يأذن النبي ﷺ لأحد بالتخلف فيها فلم يتخلف فيها إلا منافق أو معذور أو الثلاثة الذين تاب الله عليهم وإنما كان عظم من تخلف فيها النساء والصبيان ولهذا لما استخلف عليا فيها خرد إليه باكيا وقال أتدعني مع النساء والصبيان وروى أن بعض المنافين طعنوا في علي وقالوا إنما استخلفه لأنه يبغضه وإذا كان قد استخلف غير علي على أكثر وأفضل مما استخلف عليا عليا وكان ذلك استخلافا مقيدا على طائفة معينة في مغيبه ليس هو استخفلافا مطلقا بعد موته على أمته لم يطلق على أحد من هؤلاء أنه خليفة رسول الله ﷺ إلا مع التقييد وإذا سمى على بذلك فغيره من الصحابة المستخلفين أولى بهذا الاسم فلم يكن هذا من خصائصه
وأيضا فالذي يخلف المطاع بعد موته لا يكون إلا أفضل الناس وأما الذي يخلفه في حال غزوه لعدوه فلا يجب أن يكون أفضل الناس بل العادة جارية بأنه يستصحب في خروجه لحاجته إليه في المغازي من يكون عنده أفضل ممن يستخلفه على عياله لأن الذي ينفع في الجهاد هو شريكه فيما يفعله فهو أعظم ممن يخلفه على العيال فإن نفع ذاك ليس كنفع المشارك له في الجهاد
والنبي ﷺ إنما شبه عليا بهارون في أصل الاستخلاف لا في كماله ولعلي شركاء في هذا الاستخلاف يبين ذلك أن موسى لما ذهب إلى ميقات ربه لم يكن معه أحد يشاركه في ذلك فاستخلف هارون على جميع قومه والنبي ﷺ لما ذهب إلى غزوة تبوك أخذ معه جميع المسلمين إلا المعذور ولم يستخلف عليا إلا على العيال وقليل من الرجال فلم يكن استخلافه كاستخلاف موسى لهارون بل ائتمته في حال مغيبة كما ائتمن موسى هارون في حال مغيبه فبين له النبي ﷺ أن الاستخلاف ليس لنقص مرتبة المستخلف بل قد يكون لأمانته كما استخلف موسى هارون على قومه وكان على خرج إليه يبكي وقال أتذرني مع النساء والصبيان كأنه كره أن يتخلف عنه
وقد قيل إن بعض المنافقين طعن فيه فبين له النبي ﷺ أن هذه المنزلة ليست لنفص المستخلف إذ لو كان كذلك ما استخلف موسى هارون
وأما قوله أنه قال له إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك فهذا كذب على النبي ﷺ لا يعرف في كتب العلم المعتمدة ومما يبين كذبه أن النبي ﷺ خرج من المدينة غير مرة ومعه علي وليس بالمدينة لا هو ولا علي فكيف يقول إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك فيوم بدر كان علي معه وبين بدر والمدينة عدى مراحل وليس واحد منهما بالمدينة وعلى كان معه يوم بدر بالتواتر وكان يوم فتح مكة معه باتفاق العلماء وقد كانت أخته أم هانىء قد أجارت حموين لها فأراد علي قتلهما فقالت يا رسول الله زعم ابن أمى علي أنه قاتل رجلا أجرته فلان بن هبيرة فقال رسول الله ﷺ قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء والحديث في الصحيح ولم يكن بالمدينة لا هو ولا علي وكذلك يوم خيبر كان قد طلب عليا فقدم وهو أرمد فأعطاه الراية حتى فتح الله علي يديه ولم يكن بالمدينة لا هو ولا علي
وكذلك يوم حنين والطائف وكذلك في حجة الوداع كان علي باليمن والنبي ﷺ خرج حاجا فاجتمعا بمكة وليس بالمدينة واحد منهما
والرافضة من فرط جهلهم يكذبون الكذب الذي لا يخفى على من له بالسيرة أدنى علم
وأما قوله إنه أمر أسامة رضي الله عنه على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر، فمن الكذب الذي يعرفه من له أدنى معرفة بالحديث فإن أبا بكر لم يكن في ذلك الجيش بل كان النبي ﷺ يستخلفه في الصلاة في حين مرض إلى أن مات وأسامة قد روي أنه قد عقد له الراية قبل مرضه ثم لما مرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس فصلى بهم إلى أن مات النبي ﷺ فلو قدر أنه أمر بالخروج مع اسامة قبل المرض لكان أمره له بالصلاة تلك المدة مع إذنه لأسامة أن يسافر في مرضه موجبا لنسخ إمرة أسامة عنه فكيف إذا لم يؤمر عليه أسامة بحال
وأيضا فإن النبي ﷺ لم تكن عادته في سراياه بل ولا في مغازيه أن يعين كل من يخرج معه في الغزو بأسمائهم ولكن يندب الناس ندبا عاما مطلقا فتارة يعلمون منه أنه لم يأمر كل أحد بالخروج معه ولكن ندبهم إلى ذلك كما في غزوة الغابة وتارة يأمر أناسا بصفة كما أمر في غزوة بدر أن يخرج من حضر ظهره فلم يخرج معه كثير من المسلمين وكما أمر في غزوة السويق بعد أحد أن لا يخرد معه إلا من شهد أحدا وتارة يستنفرهم نفيرا عاما ولا يأذن لأحد في التخلف كما في غزوة تبوك
وكذلك كانت سنة خلفائه من بعده وكان أبو بكر لما أمر الأمراء إلى الشام وغيرها يندب الناس إلى الخروج معهم فإذا خرج مع الأمير من رأى حصول المقصود بهم سيره
والنبي ﷺ لما أرسل إلى مؤته السرية التي أرسلها وقال أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل بعبد الله بن رواحة لم يعين كل من خرج معهم فلان وفلان ولم تكن الصحابة مكتوبين عند النبي ﷺ في ديوان ولا يطوف نقباء يخرجونهم بأسمائهم وأعيانهم بل كان يؤمر الأمير فإذا اجتمع معه من يحصل بهم المقصود أرسلهم وصار أميرا عليهم كما أنه في الحج لما أمر أبا بكر لم يعين من يحج معه لكن من حج معه كان أميرا عليه وأردفه بعلي وأخبر أنه مأمور وأن أبا بكر أمير عليه ولما أمر أسامة بن زيد بعد مقتل أبيه فأرسله إلى ناحية العدو الذين قتلوا أباه لما راه في ذلك من المصلحة ندب الناس معه فانتدب معه من رغب في الغزو من المصلحة ندب الناس معه فانتدب معه من رغب في الغزو وروى أن عمر كان ممن انتدب معه لا أن النبي ﷺ عن عمر ولا غير عمر للخوج معه لكن من خرج معه في الغزاة كان أسامة أميرا عليه كما أنه لما استخلف عتاب بن أسيد على مكة كان من أقام بمكة فعتاب أمير عليه وكذلك لما أرسل خالد بن الوليد وغيره من أمراء السرايا كان من خرج مع الأمير فالأمير أمير عليه باختياره الخروج معه لا بأن النبي ﷺ عين للخروج مع الأمير كان من يخرج هذا لم يكن من عادة النبي ﷺ بل ولا
وهذا كما أنه إذا كان إمام راتب في حياته يصلي بقوم فمن صلى خلفه كان ذلك الإمام إماما له يتقدم عليه وان كان المأموم أفضل منه
وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي مسعود البدري أن النبي ﷺ قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل الرجل في سلكانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه فنهى النبي ﷺ أن يتقدم على الإمام ذي السلطان وإن كان المأموم أفضل منه
ولهذا قال العلماء إن الإمام الراتب لا يقدم عليه من هو أفضل منه
وكانت السنة أولا أن الأمير هو الذي يصلي بالناس وتنازع الفقهاء فيما إذا اجتمع صاحب البيت والمتولى أيهما يقدم على قولين كما تنازعوا في صلاة الجنازة هل يقدم الوالي أو الولي وأكثرهم قدم الوالي
ولهذا لما مات الحسن بن علي قدم أخوه الحسين بن علي أمير المدينة للصلاة عليه وقال لولا أنها السنة لما قدمتك والحسين أفضل من ذلك الأمير الذي أمره أن يصلي على أخيه لكن لما كان هو الأمير وقد قال النبي ﷺ لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه قدمه لذلك
وكان يقدم الأمير على من معه في المغازى كتقدمه في الصلاة وفي الحج لأنهم صلوا خلفه باختيارهم وحجوا معه مع أنه قد تتعين صلاتهم خلفه وحجهم معه إذا لم يكن للحج إلا أمير واحد وللصلاة إلا إمام واحد وكذلك من أراد الغزو وليس للغزو إلا أمير واحد خرج معه ولكن في الغزو لو يكن النبي ﷺ يأمر جميع الناس بالخروج في السرايا ولا يعين من يخرج بأسمائهم وأعيانهم بل يندبهم فيخرج من يختار الغزو ولهذا كان الخارجون يفضلون على القاعدين ولو كان الخروج معينا لكان كل منهم مطيعا لأمره بل قال تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجان منه ومغفره ورحمة وكان الله غفورا رحيما
فأسامة رضي الله عنه كان أميرا من أمراء السرايا وأمراء السرايا لم يكونوا يسمون خلفاء فإنهم لم يخلفوا رسول الله ﷺ بعد موته ولا خلفوه في مغيبه على شيء كان يباشره بل هو أنشأ لهم سفرا وعملا استعمل عليه رجلا منهم فهو متول عليه ابتداء لا خلافة عمن كان يعمله قبله وقد يسمى العمل على الأمصار والقرى خلافة ويسمى العمل مخلافا وهذه أمور لفظية تطلق بحسب اللغة والاستعمال
وقوله ومات ولم يعزله فأبو بكر أنفذ جيش أسامة رضي الله عنه بعد أن أشار الناس عليه برده خوفا من العدو وقال والله لا أحل راية عقدها رسول الله ﷺ مع أنه كان يملك عزله كما كان يملك ذلك رسول الله ﷺ لأنه قام مقامه فيعمل ما هو أصلح للمسلمين
وأما ما ذكره من غضب أسامة لما تولى أبو بكر فمن الأكاذيب السمجة فإن محبى أسامة رضي الله عنه لأبي بكر وطاعته له أشهر وأعرف من أن تنكر وأسامة من أبعد الناس عن الفرقة والاختلاف فإنه لم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية واعتزل الفتنة وأسامة لم يكن من قريش ولا ممن يصلح للخلافة ولا يخطر بقلبه أن يتولاها فأي فائدة له في أن يقول مثل هذا الثول لأي من تولى الأمر مع علمه أنه لا يتولى الأمر أحد إلا كان خليفة عليه ولو قدر أن النبي ﷺ أمره على أبي بكر ثم مات فبموته صار الأمر إلى الخليفة من بعده وإليه الأمر في إنفاذ الجيش أو حبسه وفي تأمير أسامة أو عزله وإذا قال أمرني عليك فمن استخلفك على قال من استخلفني على جميع المسلمين وعلى من هو أفضل منك وإذا قال أنا أمرني عليك قال أمرك على قبل أن استخلف فبعد أن صرت خليفة صرت أنا الأمير عليك كما لو قدر أن أبا بكر أمر علي عمر أحدا ثم مات أبو بكر وولي عمر صار عمر أميرا على من كان أميرا عليه وكذلك لو أمر عمر على عثمان أو على أو غيرهما أحدا ثم لما مات عمر صار هو الخليفة فإنه يصير أميرا على من كان هو أميرا عليه ولو قدرأن عليا كان أرسله النبي ﷺ وأمر عليه غيره كما أمر عليه أبا بكر لما أرسله ليحج بالناس سنة تسع ولحقه على فقال لعلي أنت أمير أو مأمور فقال بل مأمور فكان أبو بكر أميرا على على فلو قدر أن علي هو الخليفة لكان يصلح أميرا على أبي بكر
ومثل هذا لا ينكره إلا جاهل وأسامة أعقل وأتقى وأعلم من أن يتكلم بمثل هذا الهذيان لمثل أبي بكر
وأعجب من هذا قول هؤلاء المفترين إنه مشى هو وعمر إليه حتى استرضاه مع قولهم إنهما قهرا عليا وبنى هاشم وبني عبد مناف ولم يسترضياهم وهم أعز وأقولا وأكثر وأشرف من أسامه رضي الله عنه فأي حاجة بمن قهروا بني هاشم وبني أمية وسائر بني عبد مناف وبطون قريش والأنصار والعرب إلى أن يسترضوا أسامة بن زيد وهو من أضعف رعيتهم ليس له قبيلة ولا عشيرة ولا معه مال ولا رجال ولولا حب النبي ﷺ إياه وتقديمه له لم يكن إلا كأمثاله من الضعفاء
فإن قلتم إنهما استرضياه لحب النبي ﷺ له فأنتم تقولون إنهم بدلوا عهده وظلموا وصيه وفصبوه فمن عصى الأمر الصحيح وبدل العهد البين وظلم واعتدى وقهر ولم يلتفت إلى طاعة الله ورسوله ولم يرقب في آل محمد إلا ولا ذمة يراعى مثل أسامة ابن زيد ويسترضيه وهو قدر رد شهادة أم أيمن ولم يسترضها وأغضب به إلى استرضاء أسامة بن زيد وإنما يسترضى الشخص للدين أو للدنيا فإذا لم يكن عندهم دين يحملهم على استرضاء من يحب استرضاؤه ولا هم محتاجون في الدنيا إليه فأي داع يدعوهم إلى استرضائه ولا ه محتاجون في الدنيا إليه فأي داع يدعوهم إلى استرضائه والرافضة من جهلهم وكذبهم يتناقضون تناقضا كثيرا بينا إذ هم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك
فصل
قال الرافضي وسموا عمر الفاروق ولم يسموا عليت عليه السلام بذلك مع أن رسول الله ﷺ قال فيه هذا فاروق أمتي يفرق بين أهل الحق والباطل وقال ابن عمر ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي ﷺ إلا ببغضهم عليا عليه السلام
فيقال أولا أما هذان الحديثان فلا يستريب أهل المعرفة بالحديث أنهما حديثان موضوعان مكذوبان على النبي ﷺ ولم يرو واحد منهما في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا لواحد منهما إسناد معروف
ويقال ثانيا من احتج فس مسألة فرعية بحديث فلا بد له أن يسنده فكيف في مسائل أصول الدين وإلا فمجرد قول القائل قال رسول الله ﷺ ليس حجة باتفاق أهل العلم ولو كان حجة لكان كل حديث قال في واحد من أهل السنة قال رسول الله صلى اله عليه وسلم حجة ونحن نقنع في هذا الباب بأن يروى الحديث بإسناد معروفين بالصدق من أي طائفة كانوا
لكن إذا لم يكن الحديث له إسناد فهذا الناقل له وإن كان لم يكذبه بل نقله من كتاب غيره فذلك الناقل لم يعرف عمت نقله ومن المعروف كثرة الكذب في هذا الباب وغيره وفكيف يجز لأحد أن يشهد على رسول الله ﷺ بما لم يعرف إسناده
ويقال ثالثا من المعلوم لكل من له خبرة أن أهل الحديث أعظم الناس بحثا عن أقوال النبي ﷺ وكلبا لعلمها وأرغب الناس في اتباعها وأبعد الناس عن اتباع هوى يخالفها فلو ثبت عندهم أن النبي ﷺ قال لعلي هذا لم يكن أحد من الناس أولى منهم باتباع قوله فإنهم يتبعون قوله إيمانا به ومحبة لمتابعته لا لغرض لهم في الشخص الممدوح
ولهذا يذكرون ما ذكره النبي ﷺ من فضائل علي كما يذكرون ما قاله من فضائل عثمان كما يذكرون ما ذكره من فضائل الأنصار كما يذكرون ما ذكره من فضائل المهاجرين وفضائل بني إسماعيل وبني فارس ويذكرون فضائل بني هاشم ويذكرون ما ذكره من فضائل طلحة والزبير كما يذكرون ما ذكره من فضائل سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وما ذكره من فضائل الحسن والحسين ويذكرون ما ذكره من فضائل عائشة كما يذكرون ما ذكره من فضائل فاكمة وخديحة فهم في أهل الإسلام كأهل الإسلام في اهل الملل يدينون بكل رسول وكل كتاب لا يفرقون بين أحد من رسل الله ولم يكونوا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا
فلو ثبت عندهم أن النبي ﷺ قال لعلي هذا فاروق أمتي لقبلوا ذلك ونقلوه كما نقلوا قوله لأبي عبيدة هذا أمين هذه الأمة وقوله للزبير إن لكل نبي حوارى وحوارى الزبير وكما قبلوا ونقلوا قوله لعلي لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وحديث الكساء لما قال لعلي وفاطمة وحسن وحسين اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وأمثال ذلك ويقال رابعا كل من الحديثين يعلم بالدليل أنه كذب لا يجوز نسبته إلى النبي ﷺ فإنه يقال ما المعنى بكون علي أو غيره فاروق الأمة يفرق بين الحق والباطل إن عنى بذلك أنه يميز بين أهل الحق وأهل الباطل فيميز بين المؤمنين والمنافقين فهذا أمر لا يقدر عليه أحد من البشر لا نبي ولا غيره وقد قال تعالى لنبيه وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم فإذا كان النبي ﷺ لا يعلم عين كان منافق في مدينته وفيما حولها فكيف يعلم ذلك غيره
وإن قيل إن يذكر صفات أهل الحق وأهل الباطل فالقران قد بين ذلك غاية البيان وهو الفرقان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل بلا ريب
وإن أريد بذلك أن من قاتل معه كان على الحق ومن قاتله كان على الباطل
فيقال هذا لو كان صحيحا لم يكن فيه إلا التمييز بين تلك الطائفة المعينة وحينئذ فأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أولى بذلك لأنهم قاتلوا بالمؤمنين أهل الحق الكفار أهل الباطل فكان التمييز الذي حصل بفعلهم أكمل وأفضل فإنه لا يشك عاقل أن الذين قاتلهم الثلاثة كانوا أولى بالباطل ممن قاتلهم على وكلما كان العدو أعظم باطلا كان عدوه أولى بالحق
ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو من قتله نبي وكان المشركون الذين باشروا الرسول ﷺ بالتكذيب والمعاداة كأبي لهب وأبي جهل شرا من غيرهم فإذا كان من قاتله الثلاثة أعزم باطلا كان الذين قاتلوهم أعظم حقا فيكونوا أولى بالفرقان بهذا الاعتبار
وإن قيل إنه فاروق لأن محبته هي المفرقة بين أهل الحق والباطل
قيل أولا هذا ليس من فعله حتى يكون هو به فاروقا
وقيل ثانيا بل محبة رسول الله ﷺ أعظم تفريقا بين أهل الحق والباطل باتفاق المسلمين
وقيل ثالثا لو عارض هذا معارض فجعل محبة عثمان هي الفارقة بين الحق والباطل لم تكن دعواه دون دعوى ذلك في على مع ما روى عن النبي ﷺ من قوله لما ذكر الفتنة هذا يومئذ وأصحابه على الحق وأما إذا جعل ذلك في أبي بكر وعمر فلا يخفى أنه أظهر في المقابلة ومن كان قوله مجرد دعوى أمكن مقابلته بمثله
وإن إريد بذلك مطلق دعوى المحبة دخل في ذلك الغالية كالمدعين لإلهيته ونبوته فيكون هؤلاء أهل حق وهذا كفر باتفاق المسلمين
وإن أريد بذلك المحبة المطلقة فالشأن فيها فأهل السنة يقولون نحن أحقها بها من الشيعة وذلك أن المحبة المتضمنة للغلو هي كمحبة اليهود لموسى والنصارى للمسيح وهي محبة باطلة وذلك أن المحبة الصحيحة أن يحب العبد ذلك المحبوب على ما هو عليه في نفس الأمر فلو اعتقد رجل في بعض الصالحين أنه نبي من الأنبياء أو أنه من السابقين الأولين فأحبه لكان قد أحب ما لا حقيقة له لأنه أحب ذلك الشخص بناء على أنه موصوف بتلك الصفة وهي باطلة فقد أحب معدوما لا موجودا كمن تزوج امرأة توهم أنها عظيمة المال والجمال والدين والحسب فأحبها ثم تبين أنها دون ما ظنه بكثير فلا ريب أن حبه ينقص بحسب نقص اعتقاده إذ الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها
فاليهودي إذا أحب موسى بناء على أنه قال تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض وأنه نهى عن اتباع المسيح ومحمد ﷺ ولم يكن موسى كذلك فإذا تبين له حقيقة موسى ﷺ يوم القيامة علم أنه لم يكن يحب موسى على ما هو عليه وإنما أحب موصوفا بصفات لا وجود لها فكانت محبته باطلة فلم يكن مع موسى المبشر بعيسى المسيح ومحمد
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال المرء مع من أحب واليهودي لم يحب إلا ما لا وجود له في الخارج فلا يكون مع موسى المبشر بعيسى ومحمد ﷺ فإنه لم يحب موسى هذا والحب والإرادة ونحو ذلك يتبع العلم والاعتقاد فهو فرع الشعور فمن اعتقد باطلا فأحبه كان محبا لذلك الباكل وكانت محبته باطلة فلم تنفعه وهكذا من اعتقد في بشر الإلهية فأحبه لذلك كمن اعتقد إلاهية فرعون ونحوه أو أئمة الإسماعيلية أو اعتقد الإلاهية في بعض الشيوخ أو بعض أهل البيت أو في بعض الأنبياء أو الملائكة كالنصاري ونحوهم ومن عرف الحق فأحبه كان حبه لذلك الحق فكانت محبته من الحق فنفعته قال الله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين امنوا وعملوا الصالحات وامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين امنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم وهكذا النصراني مع المسيح إذا أحبه معتقدا أنه إله وكان عبدا كان قد أحب ما لا حقيقة له فإذا تبين له أن المسيح عبد رسول لم يكن قد أحبه فلا يكون معه
وهكذا من أحب الصحابة والتابعين والصالحين معتقدا فيهم الباطل كانت محبته لذلك الباطل باطلة ومحبة الرافضة لعلي رضي الله عنه من هذا الباب فإنهم يحبون ما لم يوجد وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته الذي لا إمام بعد النبي ﷺ إلا هو الذي كان يعتقد أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ظالمان معتديان أو كافران فإذا تبين لهم يوم القيامة إن عليا لم يكن أفضل من واحد من هؤلاء وإنما غايته أن يكون قريبا من أحدهم وإنه كان مقرا بإمامتهم وفضلهم ولم يكن معصوما لا هو ولا هم ولا كان منصوصا على إمامته تبين لهم أنه لم يكونوا يحبون عليت بل هم من أعظم الناس بغضا لعلي رضي الله عنه في الحقيقة فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في علي أكمل منها في غيره من إثبات إمامة الثلاثة وتفضيلهم فإن عليا رضي الله عنه كان يفضلهم ويقر بإمامتهم فتبين أنهم مبغضون لعلي قطعا
وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه قال إنه لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق إن كان هذا مفوظا ثابتا عن النبي صلى اله عليه وسلم فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى نعوت موسى وعيسى فإنهم يبغضون من أقر نبوة محمد ﷺ وكانا مقرين بها صلى الله عليهم أجمعين
وهكذا كل من أحب شيخا على أنه موصوف بصفات ولم يكن كذلك في نفس الأمر كمن اعتقد في شيخ أنه يشفع في مريديه يوم القيامة وأنه يرزقه وينصره ويفرج عنه الكريات ويجيبه في الضرورات كم اعتقد أن عنده خزائن الله أو أنه يعلم الغيب أو أنه ملك وهو ليس كذلك في نفس الأمر فقد أحب ما لا حقيقة له
وقول على رضي الله عنه في هذا الحديث لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ليس من خصائصه بل قد ثبت في لصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال اية الإيمان حب الأنصار واية النفاق بغض الأنصار وقال لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الاخر وقال لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق وفي الحديث الصحيح حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ دعا له ولأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين قال فلا تجد مؤمنا إلا يحبني وأمي
وهذا مما يبني به الفرق بي نهذا الحديث وبين الحديث الذي روى عن ابن عمر ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي ﷺ إلا ببغضهم عليا فإن هذا مما يعلم كل عالم أنه كذب لأن النفاق له علامان كثيرة وأسباب متعددة غير بغض على فكيف لا يكون على النفاق علامة إلا بغض على وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح اية النفاق بغض الأنصار وقال في الحديث الصحيح اية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان
وقد قال تعالى في القران في صفة المنافقين ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا ومنهم الذين يؤذون النبي ومنهم من عاهد الله ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني فمنهم من يقول أيكم زادنه هذه إيمانا
وذكر لهم سبحانه وتعالى في سورة براءة وغيرها من العلامات والصفات ما لا يتسع هذا الموضع لبسطه
بل لو قال كنا نعرف المنافقين ببغض على لكان متوجها كما أنهم أيضا يعرفون ببغض الأنصار بل وببغض أبي بكر وعمر
وببغض هؤلاء فإن كل من أبغض ما يعلم أن النبي ﷺ يحبه ويواليه وأنه كان يحب النبي ﷺ ويواليه كان بغضه شعبة من شعب النفاق والدليل يطرد ولا ينعكس ولهذا كان أعظم الطوائف نفاقا المبغضين لأبي بكر لأنه لم يكن في الصحابة أحب إلى النبي ﷺ منه ولا كان فيهم أعظ حبا للنبي ﷺ منه فبعضه من أعظم ايات النفاق ولهذا لا يوجد المنافقون في طائفة أعظم منها في مبغضيه كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم
وإن قال قائل فالرافضة الذين يبغضونه يظنون أنه كان عدوا للنبي ﷺ لما يذكر لهم من الأخبار التي تقتضي أنه كان يبغض النبي ﷺ وأهل بيته فأبغضوه لذلك
قيل إن كان هذا عذرا يمنع نفاق الذين يبغضونه جهلا وتأويلا فكذلك المبغضون لعلي الذين اعتقدوا أنه كافر مرتد أو ظالم فاسق فأبغضوه لبغضه لدين الإسلام أو لما أحبه الله وأمر به من العدل ولاعتقادهم أنه قتل المؤمنين بغير حق وأراد علوا في الأرض وفسادا وكان كفرعون ونحوه فإن كانوا جهالا فليسوا بأجهل ممن اعتقد في عمر أنه فرعون هذه الأمة فإن لم يكن بغض أولئك لأبي بكر وعمر نفاقا لجهلهم وتأويلهم فكذلك بغض هؤلاء لعلي بطريق الأولى والأحرى وإن كان بغض على نفاقا وإن كان المبغض جاهلا متأولا فبغض أبي بكر وعمر أولى أن يكون نفاقا حينئذ وإن كان المبغض جاهلا متأولا
فصل
قال الرافضي وأعظموا أمر عائشة علي باقي نسوانه مع أنه عليه لسلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد وقالت له عائشة إنك تكثر من ذكرها وقد أبدلك الله خيرا منها فقال والله ما بدلت بها ما هو خير منها صدقتني إذ كذبني الناس واوتني إذ طردني الناس وأسعدتني بمالها ورزقني الله الولد منها ولم أرزق من غيرها
والجواب أولا أن يقال إن أهل السنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه بل قد ذهب إلى ذلك كثير من أهل السنة واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم كما قال الشاعر
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد
وذلك أن البر أفضل الأقوات واللحم أفضل الادام كما في الحديث الذي رواه ابن قتيبة وغيره عن النبي ﷺ أنه قال سيد إدام أهل الدنيا والاخرة اللحم فإذا كان اللحم سيد الادام والبر سيد الأثوات ومجموعهما الثريد كان الثريد أفضل الطعام وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام
وفي الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك قال عائشة قلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر وسمة رجالا
وهؤلاء يقولون قوله لخديجه ما أبدلني الله بخير منها إن صح معناه ما أبدلني بخير لي منها لأن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها فكانت خيرا له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة لكن عائشة صحبته في اخر النبوة وكمال الدين فحصل لها ن العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول زمن النبوة فكانت أفضل بهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت يغيرها وبلغت من العلم والسنة ما لم يبلغه غيرها فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي ﷺ لم تبغ عنه شيئا ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة ولا كان الدين قد كمل حتى تعلمه ويحصللها من كمال الإيمان به ما حصل لمن علمه وامن به بعد كماله ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه ولكن أنواع البر لم تنحصر في ذلك ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا وأكثر جهادا بنفسه ومال كحمزة أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا وأكثر جهادا بنفسه وماله كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم هم أفضل ممن كان يخدم النبي ﷺ وينفعه في نفسه أكثر منهم كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما
وفي الجملة الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها وأن نساءه أمهات المؤمنين اللاتي مات عنهن كانت عائشة أحبهن إليه وأعلمهن وأعظمهن حرمة عند المسلمين
وقد ثبت في الصحيح أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة لما يعلمون من حبه إياها حتى أن نساءه غرن من ذلك وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها فقلن له نسألك العدل في ابنة أبي قحافة فقال لفاطمة أي بنية ألا تحبين ما أحب قالت بلى قال فأحبى هذه الحديث وهو في الصحيحين
وفي الصحيحين أيضا أن النبي ﷺ قال يا عائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام فقالت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا نرى ولما أراد فراق سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها بإذنه ﷺ وكان في مرضه الذي مات فيه يقول أين أنا اليوم استبطاء ليوم عائشة ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فمرض فيه وفي بيتها توفى بين سحرها ونحرها وفي حجرها وجمع الله بين ريقه وريقها
وكانت رضي الله تنها مباركة على أمته حتى قال أسيد بن حضير لما أنزل الله اية التيمم بسببها ما هي بأول بركتكم يا ال أبي بكر ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله في للمسلمين بركة
وكان قد نزلت ايات برائتها قبل ذلك لما رماها أهل الإفك فبرأها اله من فوق سبع سماوات وجعلها من الطيبات
فصل
قال الرافض وأذاعت سر رسول الله ﷺ وقال لها النبي ﷺ إنك تقاتلين عليا وأنت ظالمة له ثم إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى وقرن في بيوتكن وخرجت في ملأ من الناس لتقاتل عليا على غير ذنب لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان وكانت هي في كل وقت تأمر بقتله وتقول اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا لما بلغها قتله فرحت بذلك ثم سألت من تولى الخلافة فقالوا على فخرجت لتقاله على دم عثمان فأي ذنب كان لعلي على ذلك وكيف استجاز طلحة والبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك وبأي وجه يلقون رسول الله ﷺ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها أو سافر بها كان أشد الناس عداوة له وكيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين وساعدوها على حرب أمير المؤمنين ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله ﷺ لما طلبت حقها من أبي بكر ولا شخص واحد كلمه بكلمة واحدة
والجواب أن يقال أما أهل السنة فإنهم في هذا الباب وغيره قائمون بالقسط شهداء لله وقولهم حق وعدل لا يناقض وأما الرافضة وغيرهم من أهل البدع ففي أقوالهم من الباطل والتناقض ما ننبه إن شاء الله تعالى على بعضه وذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة وكذلك أمهات المؤمنين عائشة وغيرها وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحةوالزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء. وأهل السنة يقولون إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ بل ولا عن الذنب بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبا صغيرا أو كبيرا ويتوب منه وهذا متفق عليه بين المسلمين ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها وبالمصائب المكفرة وغير ذلك
وإذا كان هذا أصلهم فيقولون ما يذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب وكثير منه كانوا مجتهدين فيه ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم وما قدر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم إما بتوبة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بغير ذلك فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه إنهم من أهل الجنة فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار لا محالة وإذا لم يمت أحد منهم على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة ولو لم يعلم أن أولئك المعينين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يعلم أنهم يدخلون الجنة ليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك فكيف يجوز مثل ذلك في خيار المؤمنين والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد واحد منهم باطنا وظاهرا وحسناته وسيئاته واجتهاداته أمر يتعذر علينا معرفته فكان كلامنا في ذلك كلاما فيما لا نعلمه والكلام بلا علم حرام فلهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيرا من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال إذ كان كثير من الخوض في ذلك أو أكثره كلاما بلا علم وهذا حرام لو لم يكن فيه هوى ومعارضة الحق المعلوم فكيف إذا كان كلاما بهوى يطلب فيه دفع الحق المعلوم وقد قال النبي ﷺ القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار. فإذا كان هذا في قضاء بين اثنين في قليل المال أو كثيره فكيف بالقضاء بين الصحابة في أمور كثيرة
فمن تكلم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم من الحق كان مستوجبا للوعيد ولو تكلم بحق لقصد اتباع الهوى لا لوجه الله تعالى أو يعارض به حقا آخر لكان أيضا مستوجبا للذم والعقاب ومن علم ما دل عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم ورضا الله عنهم واستحقاقهم الجنة وأنهم خير هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس لم يعارض هذا المتيقن المعلوم بأمور مشتبهة منها ما لا يعلم صحته ومنها ما يتبين كذبه ومنها ما لا يعلم كيف وقع ومنها ما يعلم عذر القوم فيه ومنها ما يعلم توبتهم منه ومنها ما يعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال وإلا حصل في جهل وكذب وتناقض كحال هؤلاء الضلال
وأما قوله وأذاعت سر رسول الله ﷺ فلا ريب أن الله تعالى يقول وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير
وقد ثبت في الصحيح عن عمر أنهما عائشة وحفصة
فيقال أولا هؤلاء يعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوب ومعاص بينة لمن نصت عنه من المتقدمين يتأولون النصوص بأنواع التأويلات وأهل السنة يقولون بل أصحاب الذنوب تابوا منها ورفع الله درجاتهم بالتوبة
وهذه الآية ليست بأولى في دلالتها على الذنوب من تلك الآيات فإن كان تأويل تلك سائغا كان تأويل هذه كذلك وإن كان تأويل هذه باطلا فتأويل تلك أبطل
ويقال ثانيا بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة فيكونان قد تابتا منه وهذا ظاهر لقوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما فدعاهما الله تعالى إلى التوبة فلا يظن بهما أنهما لم يتوبا مع ما ثبت من علو درحتهما وأنهما زوجتا نبينا في الجنة وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الاخرة فاخترن الله ورسوله والدار الاخرة ولذلك حرم الله عليه أن يتبدل بهن غيرهن وحرم عليه أن يتزوج عليهن واختلف في إباحة ذلك له بعد ذلك ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القران ثم قد تقدم أن الذنب يغفر وعفى عنه بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة
ويقال ثالثا المذكور عن أزواجه كالمذكور عمن شهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة فإن عليا لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة وقام النبي ﷺ خطيبا فقال إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا عليا ابنتهم وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهن إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها. فلا يظن بعلي رضي الله عنه أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه
وكذلك لما صالح النبي ﷺ المشركين يوم الحديبية وقال لأصحابه انحروا واحلقوا رؤوسكم فلم يقم أحد فدخل مغضبا على أم سلمة فقالت من أغضبك أغضبه الله فقال ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يطاع فقالت يا رسول الله ادع بهديك فانحره وأمر الحلاق فليحلق رأسك. وأمر عليا أن يمحو اسمه فقال والله لا أمحوك فأخذ الكتاب من يده ومحاه. فمعلوم أن تأخر علي وغيره من الصحابة عما أمروا به حتى غضب النبي ﷺ إذا قال القائل هذا ذنب كان جوابه كجواب القائل إن عائشة أذنبت في ذلك فمن الناس من يتأول ويقول إنما تأخروا متأولين لكونهم كانوا يرجون تغيير الحال بأن يدخلوا مكه وآخر يقول لو كان لهم تأويل مقبول لم يغضب النبي ﷺ بل تابوا من ذلك التأخير ورجعوا عنه مع أن حسناتهم تمحو مثل هذا الذنب وعلي داخل في هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين
وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها تقاتلين عليا وأنت ظالمة له فهذا لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه الأحاديث الصحيحة بل هو كذب قطعا فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معينا عليه كما كان يحلف فيقول والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله وهو الصادق البار في يمينه فخشى القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة فحملوا على عسكر طلحة والزبير فظن طلحة والزبير أن عليا حمل عليهم فحملوا دفعا عن أنفسهم فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعا عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختيارهم وعائشة رضي الله عنها راكبة لا قاتلت ولا أمرت بالقتال هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار
وأما قوله وخالفت أمر الله في قوله تعالى وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فهي رضي الله عنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها كما لو خرجت للحج والعمرة أو خرجت مع زوجها في سفرة فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي ﷺ وقد سافر بهن رسول الله ﷺ بعد ذلك كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه وأعمرها من التنعيم. وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي ﷺ بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية ولهذا كان أزواج النبي ﷺ يحججن كما كن يحججن معه في خلافة عمر رضي الله عنه وغيره وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزا فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في ذلك
وهذا كما أن قول الله تعالى يا أيها الذين امنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وقوله ولا تقتلوا أنفسكم يتضمن نهي المؤمنين عن قتل بعضهم بعضا كما في قوله ولا تلمزوا أنفسكم وقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا
وكذلك قول النبي ﷺ إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومك هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا وقوله ﷺ إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال كان حريصا على قتل صاحبه
فلو قال قائل إن عليا ومن قاتله قد التقيا بسيفهما وقد استحلوا دماء المسلمين فيجب أن يلحقهم الوعيد لكان جوابه أن الوعيد لا يتناول المجتهد المتأول وإن كان مخطئا فإن الله تعالى يقول في دعاء المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، قال قد فعلت. فقد عفي للمؤمنين عن النسيان والخطأ والمجتهد المخطىء مغفور له خطؤه وإذا غفر خطأ هؤلاء في قتال المؤمنين فالمغفره لعائشة لكونها لم تقر في بيتها إذ كانت مجتهدة أولى
وأيضا قلو قال قائل إن النبي ﷺ قال إن المدينة تنفي خبثها وينصع طيبها وقال لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه أخرجه في الموطأ كما في الصحيحين عن زيد بن ثابت عن النبي ﷺ قال إنها طيبة يعني المدينة وإنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد وفي لفظ تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة، وقال إن عليا خرج عنها ولم يقم بها كما أقام الخلفاء قبله ولهذا لم تجتمع عليه الكلمة، لكان الجواب أن المجتهد إذا كان دون علي لم يتناوله الوعيد فعلي أولى أن لا تناوله الوعيد لاجتهاده وبهذا يجاب عن خروج عائشة رضي الله عنها وإذا كان المجتهد مخطئا فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة
وأما قوله إنها خرجت في ملأ من الناس تقاتل عليا على غير ذنب، فهذا أولا كذب عليها فإنها لم تخرج لقصد القتال ولا كان أيضا طلحة والزبير قصدهما قتال علي ولو قدر أنهم قصدوا القتال فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } فجعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال وإذا كان هذا ثابتا لمن هو دون أولئك المؤمنين فهم به أولى وأحرى
وأما قوله إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان، فجوابه من وجوه أحدها أن يقال أولا هذا من أظهر الكذب وأبينه فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله ولا شاركوا في قتله ولا رضوا بقتله
أما أولا فلأن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان وأهل المدينة بعض المسلمين
وأما ثانيا فلأن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن وكان علي رضي الله عنه يحلف دائما إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله ويقول اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل وغاية ما يقال إنهم لم ينصروه حق النصرة وأنه حصل نوع من الفتور والخذلان حتى تمكن أولئك المفسدون، ولهم في ذلك تأويلات وما كانوا يظنون أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ولو علموا ذلك لسدوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة
ولهذا قال تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة فإن الظالم يظلم فيبتلى الناس بفتنة تصيب من لم يظلم فيعجز عن ردها حينئذ بخلاف ما لو منع الظالم ابتداء فإنه كان يزول سبب الفتنة
الثاني أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب فإنه من المعلوم أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا على قتله فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر فيجب أن تكون بيعته حقا لحصول الإجماع عليها وإن لم يجز الاحتجاع به بطلت حجتهم بالإجماع على قتله لا سيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته ويقولون إنما بايع أهل الحق منهم خوفا وكرها ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله وقال قائل كان أهل الحق كارهين لقتله لكن سكتوا خوفا وتقية على أنفسهم لكان هذا أقرب إلى الحق لأن العادة قد جرت بأن من يريد قتل الأئمة يخيف من ينازعه بخلاف من يريد مبايعته الأئمة فإنه لا يخيف المخالف كما يخيف من يريد قتله فإن المريدين للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة
فهذا لو قدر أن جميع الناس ظهر منهم الأمر بقتله فكيف وجمهورهم أنكروا قتله ودافع عنه من دافع في بيته كالحسن بن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهما
وأيضا فإجماع الناس على بيعة أبي بكر أعظم من إجماعهم على بيعة علي وعلى قتل عثمان وعلى غير ذلك فإنه لم يتخلف عنها إلا نفر يسير كسعد بن عبادة وسعد قد علم سبب تخلفه والله يغفر له ويرضى عنه وكان رجلا صالحا من السابقين الأولين من الأنصار من أهل الجنة كما قالت عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك لما أخذ يدافع عن عبد الله بن أبي رأس المنافقين قالت وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية
وقد قلنا غير مرة إن الرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها أو تمحوها حسناته أو تكفر عنه بالمصائب أو بغير ذلك فإن المؤمن إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب ثلاثة منه وثلاثة من الناس وأربعة يبتديها الله التوبة والاستغفار والحسنات الماحية ودعاء المؤمنين له وإهداؤهم العمل الصالح له وشفاعة نبينا ﷺ والمصائب المكفرة في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة ومغفرة الله له بفضل رحمته
والمقصود هنا أن هذا الإجماع ظاهر معلوم فكيف يدعى الإجماع على مثل قتل عثمان من ينكر مثل هذا الإجماع بل من المعلوم أن الذين تخلفوا عن القتال مع على من المسلمين أضعاف الذين أجمعوا على قتل عثمان فإن الناس كانوا في زمن علي على ثلاثة أصناف صنف قاتلوا معه وصنف قاتلوه وصنف لا قاتلوه ولا قاتلوا معه وأكثر السابقين الأولين كانوا من هذا الصنف ولو لم يكن تخلف عنه إلا من قاتل مع معاوية رضي الله عنه فإن معاوية ومن معه لم يبايعوه وهم أضعاف الذين قتلوا عثمان أضعافا مضاعفة والذين أنكروا قتل عثمان أضعاف الذين قاتلوا مع علي فإن كان قول القائل إن الناس أجمعوا على قتال علي باطلا فقوله إنهم أجمعوا على قتل عثمان أبطل وأبطل
وإن جاز أن يقال إنهم أجمعوا على قتل عثمان لكون ذلك وقع في العالم ولم يدفع فقول القائل إنهم أجمعوا على قتال علي أيضا والتخلف عن بيعته أجوز وأجوز فإن هذا وقع في العالم ولم يدفع
وإن قيل إن الذين كانوا مع علي لم يمكنهم إلزام الناس بالبيعة له وجمعهم عليه ولا دفعهم عن قتاله فعجزوا عن ذلك
قيل والذين كانوا مع عثمان لما حصر لم يكنهم أيضا دفع القتال عنه
وإن قيل بل أصاب علي فرطوا وتخاذلوا حتى عجزوا عن دفع القتال أو قهر الذين قاتلوه أو جمع النار عليه
قيل والذين كانوا مع عثمان فرطوا وتخاذلوا حتى تمكن منه أولئك.
ثم دعوى المدعى الإجماع على قتل عثمان مع ظهور الإنكار من جماهير الأمة له وقيامهم في الانتصار له والانتقام ممن قتله أظهر كذبا من دعوى المدعى إجماع الأئمة على قتل الحسين رضي الله عنه
فلو قال قائل إن الحسين قتل بإجماع الناس لأن الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد من ذلك لم يكن كذبه بأظهر من كذب المدعي للإجماع على قتل عثمان فإن الحسين رضي الله عنه لم يعظم إنكار الأمة لقتله كما عظم إنكارهم لقتل عثمان ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصرت لعثمان ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه ولا حصل بقتله من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان ولا كان قتله أعظم إنكارا عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان فإن عثمان من أعيان السابقين الأولين من المهاجرين من طبقة علي وطلحة والزبير وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته بل لم يشهر في الأمة سيفا ولا قتل على ولايته أحدا وكان يغزو بالمسلمين الكفار بالسيف وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولا على الكفار مكفوفا عن أهل القبلة ثم إنه طُلِب قتله وهو خليفة فصبر ولم يقاتل دفعا عن نفسه حتى قتل ولا ريب أن هذا أعظم أجرا وقتله أعظم إثما ممن لم يكن متوليا فخرج يطلب الولاية ولم يتمكن من ذلك حتى قاتله أعوان الذين كلب أخذ الأمر منهم فقاتل عن نفسه حتى قتل
ولا ريب أن قتال الدافع عن نفسه وولايته أقرب من قتال الطالب لأن يأخذ الأمر من غيره وعثمان ترك القتال دفعا عن ولايته فكان حاله أفضل من حال الحسين وقتله أشنع من قتل الحسين كما أن الحسن رضي الله عنه لما لم يقاتل على الأمر بل أصلح بين الأمة بتركه القتال مدحه النبي ﷺ على ذلك فقال إن ابنه هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين
والمنتصرون لعثمان معاوية وأهل الشام والمنتصرون من قتلة الحسين المختار بن أبي عبيد الثقفي وأعوانه ولا يشك عاقل أن معاوية رضي الله عنه خير من المختار فإن المختار كذاب ادعى النبوة وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال يكون في ثقيف كذاب ومبير فالكذاب هو المختار والمبير هو الحجاج بن يوسف. وهذا المختار كان أبوه رجلا صالحا وهو أبو عبيد الثقفي الذي قتل شهيدا في حرب المجوس وأخته صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله ابن عمر امرأة صالحة وكان المختار رجل سوء
وأما قوله إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان وتقول في كل وقت اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا ولما بلغها قتله فرحت بذلك، فيقال له أولا أين النقل الثابت عن عائشة بذلك
ويقال ثانيا المنقول الثابت عنها يكذب ذلك ويبين أنها أنكرت قتله وذمت من قتله ودعت على أخيها محمد وغيره لمشاركتهم في ذلك
ويقال ثالثا هب أن واحدا من الصحابة عائشة أو غيرها قال في ذلك على وجه الغضب إنكاره بعض ما ينكر فليس قوله حجة ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له بل قد يكون كلاهما وليا لله تعالى من أهل الجنة ويظن أحدهما جواز قتل الاخر بل يظن كفره وهو مخطىء في هذا الظن
كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكان من أهل بدر والحديبية وقد ثبت في الصحيح أن غلامه قال يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار فقال له النبي ﷺ كذبت إنه قد شهد بدرا والحديبية وفي حديث علي أن حاطبا كتب إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك فقال لعلي والزبير اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فلما أتيا بالكتاب قال ما هذا يا حاطب فقال والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتدادا ولا رضا بالكفر ولكن كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذا فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي فقال عمر رضي الله عنه دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال إنه شهد بدرا وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأنزل الله تعالى أول سورة الممتحنة يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلفون إليهم بالمودة وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها وهي متواترة عندهم معروفة عند علماء التفسير وعلماء الحديث وعلماء المغازي والسير والتواريخ وعلماء الفقه وغير هؤلاء وكان علي رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة وروى عنه كاتبه عبدالله بن أبي رافع ليبين لهم أن السابقين مغفور لهم ولو جرى منهم ما جرى
فإن عثمان وعليا وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب ابن أبي بلتعة وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه وكان ذنبه في مكاتبة المشركين وإعانتهم على النبي ﷺ وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء ومع هذا فالنبي ﷺ نهى عن قتله وكذب من قال إنه يدخل النار لأنه شهد بدرا والحديبية وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر ومع هذا فقد قال عمر رضي الله عنه دعني أضرب عنق هذا المنافق فسماه منافقا واستحل قتله ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة
وكذلك في الصحيحين وغيرهما في حديث الإفك لما قام النبي ﷺ خطيبا على المنبر يعتذر من رأس المنافقين عبد الله بن أبَي فقال من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا فقام سعد بن معاذ سيد الأوس وهو الذي اهتز لموته عرش الرحمن وهو الذي كان لا تأخذه في الله لومة لائم بل حكم في حلفائه من بني قريظة بأن يقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم حتى قال النبي ﷺ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فقال يا رسول الله نحن نعذرك منه إن كان من إخواننا من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة فقال كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير فقال كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين وكادت تثور فتنة بين الأوس والخزرج حتى نزل النبي ﷺ وخفضهم
وهؤلاء الثلاثة من خيار السابقين الأولين وقد قال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة إنك منافق تجادل عن المنافقين وهذا مؤمن ولي لله من أهل الجنة وذاك مؤمن ولي الله من أهل الجنة فدل على أن الرجل قد يكفر آخر بالتأويل ولا يكون واحد منهما كافرا
وكذلك في الصحيحين حديث عتبان بن مالك لما أتى النبي ﷺ منزله في نفر من أصحابه فقام يصلي وأصحابه يتحدثون بينهم ثم أسندوا عظم ذلك إلى مالك بن الدخشم وودوا أن النبي ﷺ دعا عليه فيهلك فقضى رسول الله ﷺ صلاته وقال أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قالوا بلى وإنه يقول ذلك وما هو في قلبه فقال لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه
وإذا كان ذلك فإذا ثبت أن شخصا من الصحابة إما عائشة وإما عمار بن ياسر وإما غيرهما كفر آخر من الصحابة عثمان أو غيره أو أباح قتله على وجه التأويل كان هذا من باب التأويل المذكور ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة فإن عثمان وغيره أفضل من حاطب بن أبي بلتعة وعمر أفضل من عمار وعائشة وغيرهما وذنب حاطب أعظم فإذا غفر لحاطب ذنبه فالمغفرة لعثمان أولى وإذا جاز أن يجتهد مثل عمر وأسيد بن حضير في التكفير أو استحلال القتل ولا يكون ذلك مطابقا فصدور مثل ذلك من عائشة وعمار أولى
ويقال رابعا إن هذا المنقول عن عائشة من القدح في عثمان إن كان صحيحا فإما أن يكون صوابا أو خطأ فإن كان صوابا لم يذكر في مساوىء عائشة وإن كان خطأ لم يذكر في مساوىء عثمان والجمع بين نقص عائشة وعثمان باطل قطعا وأيضا فعائشة ظهر منها من التألم لقتل عثمان والذم لقتلته وطلب الانتقام منهم ما يقتضي الندم على ما ينافي ذلك كما ظهر منها الندم على مسيرها إلى الجمل فإن كان ندمها على ذلك يدل على فضيلة علي واعترافعها له بالحق فكذلك هذا يدل على فضيلة عثمان واعترافها له بالحق وإلا فلا
وأيضا فما ظهر من عائشة وجمهور الصحابة وجمهور المسلمين من الملام لعلي أعظم مما ظهر منهم من الملام لعثمان فإن كان هذا حجة في لوم عثمان فهو حجة في لوم علي وإن لم يكن حجة في لوم علي فليس حجة في لوم عثمان وإن كان المقصود بذلك القدح في عائشة لما لامت عثمان وعليا فعائشة في ذلك مع جمهور الصحابة لكن تختلف درجات الملام
وإن كان المقصود القدح في الجميع في عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة واللائم والملوم
قيل نحن لسنا ندعى لواحد من هؤلاء العصمة من كل ذنب بل ندعي أنهم من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين وأنهم من سادات أهل الجنة ونقول إن الذنوب جائزة على من هو أفضل منهم من الصديقين ومن هو أكبر من الصديقين ولكن الذنوب يرفع عقابها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك وهؤلاء لهم من التوبة والاستغفار والحسنات ما ليس لمن هو دونهم وابتلوا بمصائب يكفر الله بها خطاياهم لم يبتل بها من دونهم فلهم من السعي المشكور والعمل المبرور ما ليس لمن يعدهم وهم بمغفرة الذنوب أحق من غيرهم ممن بعدهم
والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم كحال أهل البدع فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة تريد أن تجعل أحدهم معصوما من الذنوب والخطايا والآخر مأثوما فاسقا أو كافرا فيظهر جهلهم وتناقضهم كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوة موسى أو عيسى مع قدحه في نبوة محمد ﷺ فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه فإنه ما من طريق يثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا وتثبت نبوة محمد ﷺ إلا وتعرض في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام بما هو مثلها أو أقوى منها وكل من عمد إلى التفريق بين المتماثلين أو مدح الشيء وذم ما هو من جنسه أو أولى بالمدح منه أو بالعكس أصابه مثل هذا التناقض والعجز والجهل وهكذا أتباع العلماء والمشايخ إذا أراد أحدهم أن يمدح متبوعه ويذم نظيره أو يفضل أحدهم على الاخر بمثل هذا الطريق
فإذا قال العراقي أهل المدينة خالفوا السنة في كذا وكذا وتركوا الحديث الصحيح في كذا وكذا واتبعوا الرأي في كذا وكذا مثل أن يقول عمن يقوله من أهل المدينة إنهم لا يرون التلبية إلى رمي جمرة العقبة ولا الطيب للمحرم قبل الإحرام ولا قبل التحلل الثاني ولا السجود في المفصل ولا الاستفتاح والتعوذ في الصلاة ولا التسليمتين منها ولا تحريم كل ذي ناب من السباع ولا كل ذي مخلب من الطير وأنهم يستحلون الحشوش ونحو ذلك مع ما في هذه المسائل من النزاع بينهم فيقول المدنيون نحن أتبع للسنة وأبعد عن مخالفتها وعن الرأي الخطأ من أهل العراق الذين لا يرون أن كل مسكر حرام ولا أن مياه الآبار لا تنجس بمجرد وقوع النجاسات ولا يرون صلاة الاستسقاء ولا صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة ولا يحرمون حرم المدينة ولا يحكمون بشاهد ويمين ولا يبدأون في القسامة بأيمان المدعين ولا يجتزؤون بطواف واحد وسعي واحد من القران ويوجبون الزكاة في الخضروات ولا يجيزون الأحباس ولا يبطلون نكاح الشغار ولا نكاح المحلل ولا يجعلون الحكمين بين الزوجين إلا مجرد وكيلين ولا يجعلون الأعمال في العقود بالنيات ويستحلون محارم الله تعالى بأدنى الحيل فيسقطون الحقوق كالشفعة وغيرها بالحيل ويحلون المحرمات كالزنا والميسر والسفاح بالحيل ويسقطون الزكاة بالحيل ولا يعتبرون القصود في العقد ويعطلون الحدود حتى لا يمكن سياسة بلد برأيهم فلا يقطعون يد من يسرق الأطعمة والفاكهة وما أصله الإباحة ولا يحدون أحدا يشرب الخمر حتى يقر أو تقوم عليه بينة ولا يحدونه إذا رئي يستقيها أو جدت رائحتها منه وسنة رسول الله ﷺ وخلفائه بخلاف ذلك ولا يوجبون القود بالمثقل ولا يفعلون بالقاتل كما فعل بالمقتول بل يكون الظالم قد قطع يدي المظلوم ورجليه وبقر بطنه فيكتفون بضرب عنقه ويقتلون الواحد من خيار المسلمين بقتل واحد كافر ذمي ويسوون بين دية المهاجرين والأنصار وديات الكفار من أهل الذمة ويسقطون الحد عمن وطىء ذات محرمه كأمه وابنته عالما بالتحريم لمجد صورة العقد كما يسقطون بعقد الاستئجار على المنافع ولا يجمعون بين الصلاتين إلا بعرفة ومزدلفة ولا يستحبون التغليس بالفجر ولا يستحبون القراءة خلف الإمام في صلاة السر ولا يوجبون تبييت نية الصوم على من علم أن غدا من رمضان ولا يجوزون وقف المشاع ولا هبته ولا رهنه ويحرمون الضب والضبع وغيرهما مما أحله الله ورسوله ويحللون المسكر الذي حرمه الله ورسوله ولا يرون أن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه ويقولون إن صلاة الفجر تبطل بطلوع الشمس ولا يجيزون القرعة ولا يأخذون بحديث المصراة ولا بحديث المشتري إذا أفلس ويقولون إن الجمعة وغيرها تدرك بأقل من ركعة ولا يجيزون القصر في مسيرة يوم أو يومين ويجيزون تأخير بعض الصلوات عن وقتها
وكذلك بعض أتباع فقهاء الحديث لو قال بعضهم إنا نحن أتبع إنما نتبع الحديث الصحيح وأنتم تعملون بالضعيف فقال له الآخرون نحن أعلم بالحديث الصحيح منكم وأتبع له منكم ممن يروى عن الضعفاء ما يعتقد صحته ويظن أنه ثبت عن النبي ﷺ ما لم يثبت عنه كما يظن ثبوت كون النبي ﷺ كان في السفر أحيانا يتم الصلاة أو أنه كان يقنت بعد الركوع في الفجر حتى فارق الدنيا أو أنه أحرم بالحج إحراما مطلقا لم ينو تمتعا ولا إفرادا ولا قرانا أو أن مكة فتحت صلحا وأن ما فعله عمر وعثمان وغيرهما من ترك قسمة العقار ينقض وينقض حكم الخلفاء الراشدين والصحابة كعمر وعثمان وعلي وابن عمر وغيرهم في المفقود ويحتج بحديث غير واحد من الضعفاء
وأما نحن فقولنا إن الحديث الضعيف خير من الرأي ليس المراد به الضعيف المتروك لكن المراد به الحسن كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري وأمثالهما ممن يحسن الترمذي إما صحيح وإما ضعيف والضعيف نوعان ضعيف متروك وضعيف ليس بمتروك فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح فجاء من لم يعرف إلا اصطلاح الترمذي فسمع قول بعض الأئمة الحديث الضعيف أحب إلي من القياس فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع للحديث الصحيح وهو في ذلك من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه
وكذلك شيوخ الزهد إذا أراد الرجل أن يقدح في بعض الشيوخ ويعظم آخر وأولئك أولى بالتعظيم وأبعد عن القدح كمن يفضل أبا يزيد والشبلي وغيرهما ممن يحكى عنه نوع من الشطح على مثل الجنبيد وسهل بن عبد الله التستري وغيرهما ممن هو أولى بالاستقامة وأعظم قدرا
وذلك لأن هؤلاء من جهلهم يجعلون مجرد الدعوى العظيمة موجبة لتفضيل المدعي ولا يعلمون أن تلك غايتها أن تكون من الخطأ المغفور لا من السعي المشكور وكان من لم يسلك سبيل العلم والعدل أصابه مثل هذا التناقض ولكن الإنسان كما قال الله تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما فهو ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه
وأما قوله إنها سألت من تولى الخلافة فقالوا علي فخرجت لقتاله على دم عثمان فأي ذنب كان لعلي في ذلك
فيقال له أولا قول القائل إن عائشة وطلحة والزبير اتهموا عليا بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك كذب بين بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيزوا إلى علي وهم يعلمون أن براءة علي من دم عثمان كبراءتهم وأعظم لكن القتلة كانوا قد أووا إليه فطلبوا قتل القتلة ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعلي لأن القوم كانت لهم قبائل يذبون عنهم
والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها وهذا شأن الفتن كما قال تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله
وأيضا فقوله أي ذنب كان لعلي في قتله، تناقض منه فإنه يزعم أن عليا كان ممن يستحل قتله وقتاله وممن ألب عليه وقام في ذلك فإن عليا رضي الله عنه نسبه إلى قتل عثمان كثير من شيعته ومن شيعة عثمان هؤلاء لبغضهم لعثمان وهؤلاء لبغضهم لعلي وأما جماهير المسلمين فيعلمون كذب الطائفتين على علي
والرافضة تقول إن عليا كان ممن يستحل قتل عثمان بل وقتل أبي بكر وعمر وترى أن الإعانة على قتله من الطاعات والقرابات فكيف يقول من هذا اعتقاده أي ذنب كان لعلي على ذلك وإنما يليق هذا التنزيه لعلي بأقوال أهل السنة لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضا
وأما قوله وكيف استجار طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك وبأي وجه يلقون رسول الله ﷺ من أن الواحد منا لم تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له،
فيقال هذا من تناقض الرافضة وجهلهم فإنهم يرمون عائشة بالعظائم ثم منهم من يرميها بالفاحشة التي برأها الله منها وأنزل القرآن في ذلك
ثم إنهم لفرط جهلهم يدعون ذلك في غيرها من نساء الأنبياء فيزعمون أن امرأة نوح كانت بغيا وأن الابن الذي دعاه نوح لم يكن منه وإنما كان منها وإن معنى قوله إنه عمل غير صالح أن هذا الولد من عمل غير صالح ومنهم من يقرأ ونادى نوح ابنه يريدون ابنها ويتجون بقوله إنه ليس من أهلك ويتأولون قوله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما على أن امرأة نوح خانته في فراشه وأنها كانت قحبة، وضاهوا في ذلك المنافقين والفاسقين أهل الإفك الذين رموا عائشة بالإفك والفاحشة ولم يتوبوا وفيهم خطب النبي ﷺ فقال أيها الناس من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا والله ما علمت عليه إلا خيرا
ومن المعلوم أنه من أعظم أنواع الأذى للإنسان أن يكذب على امرأته رجل ويقول إنها بغي ويجعل الزوج زوج قحبة فإن هذا من أعظم ما يشتم به الناس بعضهم بعضا حتى أنهم يقولون في المبالغة شتمه بالزاي والقاف مبالغة في شتمه
والرمى بالفاحشة دون سائر المعاصي جعل الله فيه حد القذف لأن الأذى الذي يحصل به للمرمي لا يحصل مثله بغيره فإنه لو رمى بالكفر أمكنه تكذيب الرامي بما يظهره من الإسلام بخلاف الرمي بالفاحشة فإنه لا يمكنه تكذيب المفتري بما يضاد ذلك فإن الفاحشة تخفى وتكتم مع تظاهر الإنسان بخلاف ذلك والله تعالى قد ذم من يحب إشاعتها في المؤمنين لما في إشاعتها من أذى الناس وظلمهم ولما في ذلك من إغراء النفوس بها لما فيها من التشبه والاقتداء فإذا رأى الانسان أن غيره فعلها تشبه به ففي القذف بها من الظلم والفواحش ما ليس في القذف بغيرها لأن النفوس تشتهيها بخلاف الكفر والقتل ولأن إظهار الكفر والقتل فيه التحذير للنفوس من مضرة ذلك فمصلحة إظهار فعل فاعله في الجملة راجحة على مصلحة كتمان ذلك ولهذا يقبل فيه شاهدان ويقام الحد فيه بإقراره مرة واحدة بخلاف الفاحشة فإنها لا تثبت إلا بأربعة شهداء بالاتفاق ولا تثبت بالإقرار إلا بإقرار أربع مرات عند كثير من العلماء
والرجل يتأذى برمي امرأته بالفاحشة كما يتأذى بفعل امرأته للفاحشة ولهذا شرع له الشارع اللعان إذا قذف امرأته وأن يدفع عنه حد القذف باللعان دون غيره فإنه إذا قذف محصنة لم يكن بد من إقامة الشهادة وإما الحد إن طلب ذلك المقذوف ولهذا لو قذفت إمرأة غير محصنة ولها زوج محصن وجب حد القذف على القاذف في أحد قولى العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد
فهذه الشواهد الشرعية والعرفية مما يبين أن تأذي الإنسان برمى امرأته بالفاحشة أعظم من تأذيه بإخراجها من منزلها لمصلحة عامة يظنها المخرج مع أن طلحة والزبير لم يخرجاها من منزلها بل لما قتل عثمان رضي الله عنه كانت عائشة بمكة ولم تكن بالمدينة ولم تشهد قتله فذهب طلحة والزبير فاجتمعا بها في مكة
وهؤلاء الرافضة يرمون أزواج الأنبياء عائشة وامرأة نوح بالفاحشة فيؤذون نبينا ﷺ وغيره من الأنبياء من الأذى بما هو من جنس أذى المنافقين المكذبين للرسل ثم ينكرون على طلحة والزبير أخذهما لعائشة معهما لما سافرا معها من مكة إلى البصرة ولم يكن في ذلك ريبة فاحشة بوجه من الوجوه فهل هؤلاء إلا من أعظم الناس جهلا وتناقضا
وأما أهل السنة فعندهم أنه ما بغت امرأة نبي قط وأن ابن نوح كان ابنه كما قال تعالى وهو أصدق القائلين ونادى نوح ابنه وكما قال نوح يا بني اركب معنا وقال إن ابني من أهلي فالله ورسوله يقولان إنه ابنه وهؤلاء الكذابون المفترون المؤذون للأنبياء يقولون إنه ليس ابنه والله تعالى لم يقل إنه ليس ابنك ولكن قال إنه ليس من أهلك
وهو سبحانه وتعالى قال قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ثم قال ومن آمن أي واحمل من آمن فلم يأمره بحمل أهله كلهم بل استثنى من سبق عليه القول منهم وكان ابنه قد سبق عليه القول ولم يكن نوح يعلم ذلك فلذلك قال رب إن ابني من أهلي ظانا أنه دخل في جملة من وعد بنجاتهم ولهذا قال من قال من العلماء إنه ليس من أهلك الذين وعدت بإنجائهم وهو وإن كان من الأهل نسبا فليس هو منهم دينا والكفر قطع الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما نقول إن أبا لهب ليس من آل محمد ولا من أهل بيته وإن كان من أقاربه فلا يدخل في قولنا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد
وخيانة امرأة نوح لزوجها كانت في الدين فإنها كانت تقول إنه مجنون وخيانة امرأة لوظ أيضا كانت في الدين فإنها كانت تدل قومها على الأضياف وقومها كانوا يأتون الذكران لم تكن معصيتهم الزنا بالنساء حتى يظن أنها أتت فاحشة بل كانت تعينهم على المعصية وترضى عملهم
ثم من جهل الرافضة أنهم يعظمون أنساب الأنبياء آباءهم وأبناءهم ويقدحون في أزواجهم كل ذلك عصبية واتباع هوى حتى يعظمون فاطمة والحسن والحسين ويقدحون في عائشة أم المؤمنين فيقولون أو من يقول منهم إن آزر أبا إبراهيم كان مؤمنا وإن أبوي النبي ﷺ كانا مؤمنين حتى لا يقولون إن النبي يكون أبوه كافرا فإذا كان أبوه كافرا أمكن أن يكون ابنه كافرا فلا يكون في مجرد النسب فضيلة
وهذا مما يدفعون به أن ابن نوح كان كافرا لكونه ابن نبي فلا يجعلونه كافرا مع كونه ابنه ويقولون أيضا إن أبا طالب كان مؤمنا ومنهم من يقول كان اسمه عمران وهو المذكور في قوله تعالى إن الله اصطفى ادم ونوحا وال إبراهيم وال عمران على العالمين
وهذا الذي فعلوه مع ما فيه من الافتراء والبهتان ففيه من التناقض وعدم حصول مقصودهم ما لا يخفى وذلك أن كون الرجل أبيه أو ابنه كافرا لا ينقصه ذلك عند الله شيئا فإن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومن المعلوم أن الصحابة أفضل من آبائهم وكان آباؤهم كفارا بخلاف من كونه زوج بغى قحبة فإن هذا من أعظم ما يذم به ويعاب لأن مضرة ذلك تدخل عليه بخلاف كفر أبيه أو ابنه
وأيضا فلو كان المؤمن لا يلد إلا مؤمنا لكان بنو ادم كلهم مؤمنين وقد قال تعالى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين، إلى اخر القصة
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن ادم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل
وأيضا فهم يقدحون في العباس عم رسول الله ﷺ الذي تواتر إيمانه ويمدحون أبا طالب الذي مات كافرا باتفاق أهل العلم كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ففي الصحيحين عن المسيب بن حزن قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله ﷺ يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله ﷺ يعرضها عليه ويعود له وفي رواية ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله ﷺ لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وأنزل في أبي طالب فقال لرسول الله ﷺ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا وقال فيه قال أبو طالب لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت
===============
وفي الصحيحين عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فقال نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار
وفي حديث أبي سعيد لما ذكر عنده قال لعله تنفعه شفاعتي فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ معيبه يغلى منهما دماغه أخرجاه في الصحيحين
وأيضا فإن الله لم يثن على أحد بمجرد نسبه بل إنما يثنة عليه بإيمانه وتقواه كما قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن كان الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح فالمعدن هو مظنة حصول المطلوب فإن لم يحصل وإلا كان المعدن الناقص الذي يحصل منه المطلوب خيرا منه
وأيضا من تناقفضهم أنهم يعظمون عائشة في هذا المقام طعنا في طلحة والزبير ولا يعلمون أن هذا إن كان متوجها فالطعن في علي بذلك أوجه فإن طلحة والزبير كانا معظمين عائشة موافقين لها مؤتمرين بأمرها وهما وهي من أبعد الناس عن الفواحش والمعاونة عليها فإن جاز لرافضي أن يقدح فيهما يقول بأي وجه تلقون رسول الله ﷺ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره حتى أخرجها من منزلها وسافر بها مع أن ذلك إنما جعلها بمنزلة الملكة التي يأتمر بأمرها ويطيعها ولم يكن أخراجها لمظان الفاحشة كان لنا صبي أن يقول بأي وجه يلقى رسول الله ﷺ من قاتل امرأته وسلط عليها أعوانه حتى عقروابها بعيرها وسقطت من هودجها وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبية التي أحاط به من يقصد سباءها ومعلوم أن هذا في مظنة الإهانة لأهل الرجل وهتكها وسبائها وتسليط الأجانب على قهرها وإذلالها وسبيها وامتهانها أعظم من إخراجها من منزلها بمنزلة الملكة العظيمة المبجلة التي لا يأتى إليها أحد إلا بإذنها ولا يهتك أحد سترها ولا ينظر في خدرها
ولم يكن طلحة والزبير ولا غيرهما من الاجانب يحملونها بل كان في العسكر من محارمها مثل عبد الله بن الزبير ابن أختها وخلوة ابن الزبير بها ومسه لها جائز بالكتاب والسنة والإجماع وكذلك سفر المرأة مع ذي محرمها جائز بالكتاب والسنة والإجماع وهي لم تسافر إلا مع ذي محرم منها وأما العسكر الذين قاتلوها فلولا أنه كان في العسكر محمد بن أبي بكر مد يده إليها لمد يده إليها الأجانب ولهذا دعت عائشة رضي الله عنها على من مد يده إليها وقالت يد من هذه أحرقها الله بالنار فقال أي أخية في الدنيا قبل الاخرة فقالت في الدنيا قبل الاخرة فأحرق بالنار بمصر
ولو قال المشنع أنتم تقولون إن ال الحسين سبوا لما قتل الحسين ولم يفعل بهم إلا من جنس ما فعل بعائشة حيث استولى عليها وردت إلى بيتها وأعطيت نفقتها وكذلك ال الحسين استولى عليهم وردوا إلى أهليهم وأعطوا نفقة فإن كان هذا سببا واستحلالا للحرمة النبوية فعائشة قد سببت واستحلت حرمة رسول الله ﷺ وهم يشنعون ويزعمون أن بعض أهل الشام طلب أن يسترق فاطمة بنت الحسين وأنها قالت لا ها لله حتى تكفر بديننا وهكذا إن كان وقع فالذين طلبوا من على رضي الله عنه أن يسبى من قاتلهم من أهل الجمل وصفين ويغنموا أموالهم أعظم جرما من هؤلاء وكان في ذلك لو سبوا عائشة وغيرها
ثم إن هؤلاء الذين طلبوا ذلك من على كانوا متدينين به مصرين عليه إلى أن خرجوا على علي وقاتلهم على ذلك وذلك الذي طلب استرقاق فاطمة بنت الحسين واحد مجهول لا شوكة له ولا حجة ولا فعل هذا تدينا ولما منعه سلطانه من ذلك امتنع فكان المستحلون لدماء المؤمنين وحرمهم وأموالهم وحرمة رسول الله ﷺ في عسكر فإن الخوارج الذين مرقوا من عسكر على رضي الله عنه هم شر من شرار عسكر معاوية رضي الله عنه ولهذا أمر النبي ﷺ بقتلاهم وأجمع الصحابة والعلماء على قتالهم
والرافضة أكذب منهم وأظلم وأجهل وأقرب إلى الكفر والنفاق لكنهم أعجز منهم وأذل وكلا الطائفتين من عسكر على وبهذا وأمثاله ضعف على وعجز عن مقاومة من كان بإزائه
والمقصود هنا أن ما يذكرونه من القدح في طلحة والزبير ينقلب بما هو أعظم منه في حق علي فإن أجابوا عن ذلك بأن عليا كان مجتهدا فيما فعل وأنه أولى بالحق من طلحة والزبير
قيل نعم وطلحة والزبير كانا مجتهدين وعلى وإن كان أفضل منهما لكن لم يبلغ فعلهما بعائشة رضي الله عنها ما بلغ فعل علي فعلى أعظم قجرا منهما ولكن إن كان فعل طلحة والزبير معها ذنبا ففعل على أعظم ذنبا فتقاوم كبر القدر وعظم الذنب
فإن قالوا هما أخوجا عليا إلى ذلك لأنهما أتيا بها فما فعله على مضاف إليهما لا إلى علي
قيل وهكذا معاوية لما قيل له قد قتل عمار وقد قال النبي ﷺ تقتلك الفئة الباغية قال أو نحن قتلناه إنما قتله الذين جاءوا به حتى جعلوه تحت سيوفنا فإن كانت هذه الحجة مردودة فحجة من احتج بأن طلحة والزبير هما فعلا بعائشة ما جرى عليها من إهانة عسكر على لها واستيلائهم عليها مردودة أيضا وإن قبلت هذه الحجة قبلت حجة معاوية رضي الله عنه
والرافضة وأمثالهم من أهل الجهل والظلم يحتجون بالحجة التي تستلزم فساد قولهم وتناقضهم فإنه إن احتج بنظيرها عليهم فسد قولهم المنقوض بنظيرها وإن لم يحتج بنظيرها بطلت هي في نفسها لأنه لا بد من التسوية بين المتماثلين ولكن منتهاهم مجرد الهوى الذي لا علم معه ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين
وجماهير أهل السنة متفقون على أن عليا أفضل من طلحة والزبير فضى عن معاوية وغيره ويقولون إن المسلنين لما افترقوا في خلافته فطائفة قاتلته وطائفة قاتلت معه كان هو وأصحابه أولى الطائفتين بالحق كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق هؤلاء هم الخوارج المارقون الذين مرقوا فقتلهم علي وأصحابه فعلم أنهم كانوا أولى بالحق من معاوية رضي الله عنه وأصحابه لكن أهل السنة يتكلمون بعلم وعدل ويعطون كل ذي حق حقه وأما قوله كيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين وساعدوها على حرب أمير المؤمنين ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله ﷺ لما كلبت حقها من أبي بكر رضي الله عنه ولا شخص واحد كلمه بكلمة واحدة
فيقال أولا هذا من أعظم الحجج عليك فإنه لا يشك عاقل أن القوم كانوا يحبون رسول الله ﷺ ويعظمونه ويعظمون قبيلته وبنته أعظم مما يعظمون أبا بكر وعمر ولو لم يكن هو رسول الله ﷺ فكيف إذا كان هو رسول الله ﷺ الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم ولا يستريب عاقل أن العرب قريشا وغير قريش كانت تدين لبني عبد مناف وتعظمهم أعظم مما يعظمون بني تيم وعدي ولهذا لما مات رسول الله ﷺ وتولى أبو بكر قبل لأبي قحافة مات رسول الله ﷺ فقال حدث عظيم فمن ولى بعده قالوا أبو بكر قال أو رضيت بنو عبد مناف وبنو مخزوم قالوا نعم قال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء أو كما قال
ولهذا جاء أبو سفيان إلى على فقال أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم فقال يا أبا سفيان إن أمر الإسلام ليس كأمر الجاهلية أو كما قال
فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال إن فاطمة رضي الله عنها مظلومة ولا أن لها حقا عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا أنهما ظلماها ولا تكلم أحد في هذا بكلمة واحدة دل ذلك على أن القوم كانوا يعلمون أنها ليست نظلمة إذ لو علموا أنها مظلومة لكان تركهم لنصرتها إما عجزا عن نصرتها وإما إهمالا وإضاعة لحقها وإما بغضا فيها إذ الفعل الذي يقدر عليه الإنسان إذا أراده إرادة جازمة فعله لا محالة فإذا لم يرده مع قيام المقتضى لإرادته فإما أن يكون جاهلا به أو له معارض يمنعه من إرادته فلو كانت مظلمة مع شرفها وشرف قبيلها وأقاربها وأن أباها أفضل الخلق وأحبهم إلى أمته وهم يعلمون أنها مظلومة لكانوا إما عاجزين عن نصرتهما وإما أن يكون لهم معارض عارض إرادة النصر من بغضها وكلا الأمرين باطل فإن القوم ما كانوا كلهم عاجزين أن يتكلم واحد منهم بكلمة حق وهم كانوا أقدر على تغيير ما هو أعظم من هذا
وأبو بكر لم يكن ممتنعا من سماع كلام أحد منهم ولا هو معروفا بالظلم والجبروت واتفاق هؤلاء كلهم مع توفر دواعيهم على بغض فاطمة مع قيام الأسباب الموجبة لمحبتها مما يعلم بالضرورة امتناعه وكذلك على رضى الله عنه لا سيما وجمهور قريش والأنصار والمسلمين لم يكن لعلى إلى أحد منهم إساءة لا في الجاهلية ولا في الإسلام ولا قتل أحدا من أقاربهم فإن الذين قتلهم علي لم يكونوا من أكبر القبائل وما من أحد من الصحابة إلا وقد قتل أيضا
وكان عمر رضي الله عنه أشد على الكفار وأكثر عداوة لهم من علي فكلامهم فيه وعداوتهم له معروفة ومع هذا تولى عليهم فما مات إلا وكلهم يثنى عليه خيرا ويدعو له ويتوجع لمصاب المسلمين به
وهذا وغيره مما يبين أن الأمر على نقيض ما تقوله الرافضة من أكاذيبهم وأن القوم كانوا يعلمون أن فاطمة لم تكن مظلومة أصلا فكيف ينتصر القوم لعثمان حتى سفكوا دماءهم ولا ينتصرون لمن هو أحب إليهم من عثمان وهو رسول الله ﷺ وأهل بيته وكيف يقاتلون مع معاوية حتى سفكت دماؤهم معه وقد اختلف عليه بنو عبد مناف ولا يقاتلون مع علي وبنو عبد مناف معه فالعباس بن عبد المطلب أكبر بني هاشم وأبو سفيان بن حرب أكبر بني أمية وكلاهما كانا يميلان إلى علي فلم لا قاتل الناسمعه إذ ذاك والأمر في أوله والقتال إذ ذاك لو كان حقا كان مع علي أولى وولاية على أسهل فإنه لو عرض نفر قليل فقالوا الأمر لعلي وهو الخليفة والوصي ونحن لا نبايع إلا له ولا نعصى رسول الله ﷺ ولا نظلم وصيه وأهل بيته ولا نقدم الظالمين أو المنافقين من ال تيم على بني هاشم الذين هم خيرنا في الجاهلية والإسلام لكان القائل لهذا يستجيب له جمهور الناس بل يستجيبون له إلا القليل لا سيما وأبوبكر ليس عنده رغبة ولا رهبة
وهب أن عمر وطائفة معه كانوا يشذون معه فليس هؤلاء أكثر ولا أعز من الذين كانوا مع معاوية رضي الله عنه ومع طلحة والزبير رضي الله عنهما ومع هذا فقد قاتلهم أعوان علي مع كونهم دون السابقين الأولين في العلم والدين وفيهم قليل من السابقين الأولين فهلا قاتلهم من هو أفضل من هؤلاء إذ كان إذ ذاك علي على الحق وعدوه على الباطل مع أن وليه إذ ذاك أكثر وأعز وأعظم علما وإيمانا وعدوه إذ ذاك إن كان عدوا أذل وأعجز وأضعف علما وإيمانا وأقل عدوانا فإنه لو كان الحق كما تقوله الرافضة لكان أبو بكر وعمر والسابقون الأولون من شرار أهل الأرض وأعظمهم جهلا وظلما حيث عمدوا عقب موت نبيهم ﷺ فبدلوا وغيروا وظلموا الوصي وفعلوا بنبوة محمد ﷺ ما لم تفعله اليهود والنصارى عقب موت موسى والمسيح عليهما الصلاة والسلام فإن اليهود والنصارة لم يفعلوا عقب موت أنبيائهم ما تقوله الرافضة إن هؤلاء فعلوه عقب موت النبي ﷺ وعلى قولهم تكون هذه الأمة شر أمة أخرجت للناس ويكون سابقوها شرارها
وكل هذا مما يعلم بالاضطرار فساده من دين الإسلام وهو مما يبين أن الذي ابتدع مذهب الرافضة كان زنديقا ملحدا عدوا لدين الإسلام وأهله ولم يكن من أهل البدع المتأولين كالخوارج والقدرية وإن كان قول الرافضة راج بعد ذلك على قوم فيهم إيمان لفرط جهلهم
ومما يبين ذلك أن يقال أي داع كان للقوم في أن ينصروا عائشة بنت أبي بكر ويقاتلوا معها عليا منا ذكروا ولا ينصرون فاطمة بنت رسول الله ﷺ ويقاتلون معها ومع زوجها الوصي أبا بكر وعمر فإن كان القوم الذين فعلوا هذا يحبون الرياسة ويكرهون إمارة علي عليهم كان حبهم للرياسة يدعوهم إلى قتال أبي بكر بطريق الأولى فإن رياسة بيت علي أحب اليهم من رياسة بيت أبي بكر
ولهذا قال صفوان بن أمية يوم حنين لما ولوا مدبرين وقال بعض الطلقاء والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من ثقيف وصفوان رأس الطلقاء كان أن يريه رجل من بني عبد مناف أحب إليه من أن يربه رجل من بني تيم فحب الرياسة إذا كان هو الداعي كان يدعوهم إلى تقديم بني هاشم على بني تيم باتفاق العقلاء ولو لم يقدموا عليا لقدموا العباس فإن العباس كان أقرب إلى موافقتهم على المطالب الدنيوية من أبي بكر فإن كانوا قد أقدموا على ظلم الوصي الهاشمي لئلا يحملهم على الحق الذي يكرهونه كان تقديم من يحصل مطالبهم مع الرياسة الهاشمية وهو العباس أولى وأحرى من أبي بكر الذي لا يعينهم على مطالبهم كإعانة العباس ويحملهم على الحق المر أكثر ما يحملهم عليه على فلو كره من علي حق مر لكان ذلك من أبي بكر أكره ولو أريد من أبي بكر دنيا حلوة لكان طلبها عند العباس وعلى أقرب فعدولهم عن علي وعن العباس وغيرهما إلى أبي بكر دليل على أن القوم وضعوا الحق في نصابه وأقروه في إهابه وأتوا الأمر الأرشد من بابه وأنهم علموا أن الله ورسوله كانا يرضيان تقديم أبي بكر رضي الله عنه
وهذا أمر كن معلوما لهم علما ظاهرا بينا لما رأوه وسمعوه من النبي ﷺ مدة صحبتهم له فعلموا من تفضيل النبي ﷺ لأبي بكر بطول المشاهدة والتجربة والسماع ما أوجب تقديمه وطاعته ولهذا قال عمر رضي الله عنه ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر أراد أن فضيلته على غيره ظاهرة مكشوفة لا تحتاج إلى بحث ونظر ولهذا قال له بمحضر من المهاجرين والأنصار أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله ﷺ وهم يقرونه على ذلك ولا ينازعه منهم أحد حتى أن المنازعين في الخلافة من الأنصار لم ينازعوا في هذا ولا قال أحد بل على أو غيره أحب إلى رسول الله ﷺ أو خير منه أو أفضل
ومن المعلوم أنه يمتنع في العادة لا سيما عادة الصحابة المتضمنة كمال دينهم وقولهم بالحق ألا يتكلم أحد منهم بالحق المتضمن تفضيل علي بل كلهم موافقون على تفضيل أبي بكر من غير رغبة فيه ولا رهبة
فصل
قال الرافضي وسموها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك ولم يسموا أخاها محمد بن أبي بكر مع عظم شأنه وقرب منزلته من أبيه وأخته عائشة أم المؤمنين فلم يسموه خال المؤمنين وسموا معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين لأن أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان إحدى زوجات النبي ﷺ وأخت محمد بن أبي بكر وأبوه أعظم من أخت معاوية ومن أبيها والجواب أن يقال أما قوله إنهم سموا عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك
فهذا من البهتان الواضح الظاهر لكل أحد وما أدرى هل هذا الرجل وأمثاله يتعمدون الكذب أم أعمى الله أبصارهم لفرط هواهم حتى خفى عليهم أن هذا كذب وهم ينكرون على بعض النواصب أن الحسين لما قال لهم أما تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول الله ﷺ قالوا والله ما نعلم ذلك وهذا لا يقوله ولا يجحد نسب الحسين إلا متعمد للكذب والافتراء ومن أعمى الله بصيرته باتباع هواه حتى يخفى عليه مثل هذا فإن عين الهوى عمياء والرافضة أعظم جحدا للحق تعمدا وأعمى من هؤلاء فإن منهم ومن المنتسبين إليهم كالنصيرية وغيرهم من يقول إن الحسن والحسين ما كانا أولاد علي بل أولاد سلمان الفارسي ومنهم من يقول إن عليا لم يمت وكذلك يقولون عن غيره
ومنهم من يقول إن أبا بكر وعمر ليسا مدفونين عند النبي ﷺ ومنهم من يقول إن رقية وأم كلثوم زوجتي عثمان ليستا بنتى النبي ﷺ ولكن هما بنتا خديجة من غيره ولهم في المكابرات وجحد المعلومات بالضرورة أعظم مما لأولئك النواصب الذين قتلوا الحسين وهذا مما يبين أنهم أكذب وأظلم وأجهل من قتلة الحسين
وذلك أنه من المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي ﷺ يقال لها أم المؤمنين عائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وسودة بنت زمعة وميمونة بنت الحارث الهلالية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وصفية بنت حي بن أخطب الهارونية رضي الله عنهن وقد قال الله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهذا أمر معلوم للأمة علما عاما وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره وعلى وجوب احترامهن فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية فلا يجوز لغير أقاربهن الخلوة بهن ولا السفر بهن كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارمه
ولهذا أمرن بالحجاب فقال الله تعالى يا أيها النبي قل لآزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وقال تعالى وإذا سألتموهن متاعا فأسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما
ولما كن بمنزلة الأمهات في حكم التحريم دون المحرمية تنازع العلماء في إخوتهن هل يقال لأحدهم خال المؤمنين فقيل يقال لأحدهم خال المؤمنين وعلى هذا فهذا الحكم لا يختص بمعاوية بل يدخل في ذلك عبد الرحمن ومحمد ولدا أبي بكر وعبد الله وعبيد الله وعاصم أولاد عمر ويدخل في ذلك عمرو بن الحارث بن أبي ضرار أخو جزيرية بنت الحارث ويدخل في ذلك عتبة بن أبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان أخوا معاوية ومن علماء السنة من قال لا يطلق على إخوة الأزواج أنهم أخوال المؤمنين فإنه لو أطلق ذلك لأطلق على أخواتهن أنهن خالات المؤمنين ولو كانوا أخوالا وخالات لحرم على المؤمنين أن يتزوج أحدهم خالته وحم على المرأة أن تتزوج خالها
وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يجوز للمؤمنين والمؤمنات أن يتزوجوا أخواتهن وإخوتهن كما تزوج العباس أم الفضل أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين وولد له منها عبد الله والفضل وغيرهما وكما تزوج عبد الله بن عمر وعبيد الله ومعاوية وعبد الرحمن بن أبي بكر ومحمد بن أبي بكر من تزوجوهن من المؤمنات ولو كانوا أخوالا لهن لما جاز للمرأة أن تتزوج خالها
قالوا وكذلك لا يطلق على أمهاتهن أنهن جدات المؤمنين ولا على ابائهن أنهم أجدد المؤمنين لأنه لم يثبت في حق الأمهات جميع أحكام النسب وإنما ثبت الحرمة والتحريم وأحكام النسب تتبعض كما يثبت بالرضاع التحريم والمحرمية ولا يثبت بها سائر أحكام النسب وهذا كله متفق عليه
والذين أطلقوا على الواحد من أولئك أنه خال المؤمنين لم ينازعوا في هذه الأحكام ولكن قصدوا بذلك الإطلاق أن لأحدهم مصاهرة مع النبي ﷺ واشتهر ذكرهم لذلك عن معاوية رضي الله عنه كما اشتهر أنه كاتب الوحي وقد كتب الوحي غيره وأنه رديف رسول الله ﷺ وقد أردف غيره
فهم لا يذكرون ما يذكرون من ذلك لاختصاصه به بل يذكرون ما له من الاتصال بالنبي ﷺ كما يذكرون في فضائل غيره ما ليس من خصائصه كقوله ﷺ لعلي رضي الله عنه لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله إنه لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق وقوله ﷺ أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
فهذه الأمور ليست من خصائص علي لكنها من فضائله ومناقبه التي تعرف بها فضيلته واشتهر رواية أهل السنة لها ليدفعوا بها قدح من قدح في علي وجعلوه كافرا أو ظالما من الخوارج وغيرهم ومعاوية أيضا لما كان له نصيب من الصحبة والاتصال برسول الله ﷺ وصار أقوام يجعلونه كافرا أو فاسقا ويستحلون لعنته ونحو ذلك احتاج أهل العلم أن يذكروا ما له من الاتصال برسول الله ﷺ ليرعى بذلك حق المتصلين برسول الله ﷺ بحسب درجاتهم
وهذا القدر لو اجتهد فيه الرجل واخطأ لكان خيرا ممن اجتهد في بغضهم وأخطأ فإن باب الإحسان إلى الناس والعفو عنهم مقدم على باب الإساءة والانتقام كما في الحديث ادرؤوا الحدود بالشبهات فإن اإمام أن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة
وكذلك يعطى المجهول الذي يدعى الفقر من الصدقة كما أعطى النبي ﷺ رجلين سألاه فراهما جلدين فقال إن شئتما أعكيتكما ولاحظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب وهذا لأن إعطاء الغنى خير من حرمان الفقير والعفو عن المجرم خير من عقوبة البرىء
فإذا كان هذا في حق احاد الناس فالصحابة أولى أن يسلك بهم هذا فخطأ المجتهد في الإحسان إليهم بالدعاء والثناء عليهم والذب عنهم خير من خطائه في الإساءة إليهم باللعن والذم والطعن وما شجر بينهم غايته أن يكون ذنبا والذنوب مغفورة بأسباب متعددة هم أحق بها ممن بعدهم وما تجد أحدا قدح فيهم إلا وهو يعظم عما هو أكبر من ذلك من زلات غيرهم وهذا من أعظم الجهل والظلم
وهؤلاء الرافضة يقدحون فيهم بالصغائر وهم يغضون عن الكفر والكبائر فيمن يعاونهم من الكفار والمنافقين كاليهود والنصارى والمشركين والإسماعيلية والنصرية وغيرهم فمن ناقش المؤمنين على الذنوب وهو لا يناقش الكفار والمنافقين على كفرهم ونفاقهم بل وربما يمدحهم ويعظمهم دل على أنه من أعظم الناس جهلا وظلما إن لم ينته به جهله وظلمه إلى الكفر والنفاق
ومما يبين تناقضهم أنه ذكر معاوية ومحمد بن أبي بكر وأنهم سموا هذا خال المؤمنين ولم يسموا هذا خال المؤمنين ولم يذكر بقية من شاركهما في ذلك وهم أفضل منهما كعبد الله بن عمر بن الخطاب وأمثاله وقد بينا أن أهل السنة لا يخصون معاوية رضي الله عنه بذلك وأما هؤلاء الرافضة فخصوا محمد بن أبي بكر بالمعارضة وليس هو قريبا من عبد الله بن عمر في عمله ودينه بل ولا هو مثل أخيه عبد الرحمن بل عبد الرحمن له صحبة وفضيلة ومحمد بن أبي بكر إنما ولد عام حجة الوداع بذي الحليفة فأمر النبي ﷺ سنة ولم يدرك من حياة النبي ﷺ إلا خمس ليال من ذي القعدة وذا الحجة والمحرم وصفر وأوائل شهر ربيع الأول ولا يبلغ ذلك أربعة أشهر ومات أبوه أبو بكر رضي الله عليه وسلم ولا قرب منزلة من أبيه إلا كما صحبة مع النبي ﷺ ولا قرب منزلة من أبيه إلا كما يكون لمثله من الأطفال وتزوج على بعد أبي بكر بأمه أسماء بنت عميس فكان ربيب على وكان اختصاصه بعلي لهذا السبب ويقال إنه أتى حدا فجلده عثمان عليه فبقى في نفسه على عثمان لما كان في نفسه من تشرفه بأبيه أبي بكر فلما قام أهل الفقتنه على عثمان قالوا إنه كان معهم وإنه دخل عليه وأخذ بلحيته وأن عثمان قال له لقد أخذت مأخذا عظيما ما كان أبوك ليأخذه ويقال إنه رجع لما قال له ذلك وأن الذي قتل عثمان كان غيره
ثم إنه كان مع علي في حروبه وولاه مصر فقتل بمصر قتله شيعة هثمان لما كانوا يعلمون أنه كان من الخارجين عليه وحرق في بطن حمار قتله معاوية بن حديج والرافضة تغلو في تعظيمه على عادتهم الفاسدة في أنهم يمدحون رجال الفتنة الذين قاموا على عثمان ويبالغون في مدح من قاتل مع علي حتى يفضلون محمد بن أبي بكر على أبيه أبي بكر فيلعنون أفضل الأمة بعد نبيها ويمدحون ابنه الذي ليس له سحبة ولا سابقة ولا فضيلة ويتناقضون في ذلك في تعظيم الإنسان فإن كان الرجل لا يضره كفر أبيه أو فسقه لم يضر نبينا ولا إبراهيم ولا عليا كفر ابائهم وإن ضره لزمهم أن يقدحوا في محمد بن أبي بكر بأبيه وهم يعظمونه وابنه القاسم بن محمد وابن ابنه عبد الرحمن بن القاسم خير عند المسلمين منه ولا يذكرونهما بخير لكونهما ليسا من رجال الفتنة
وأما قوله وعظم شأنه، فإن أراد عظم نسبه فالنسب لا حرمة له عندهم لقدحهم في أبيه وأخته وأما أهل السنة فإنما يعظمون بالتقوى لا بمجرد النسب قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن أراد عظم شأنه لسابقته وعجرته ونصرته وجهاده فهو ليس من الصحابة لا من المهاجرين ولا الأنصار وإن أراد بعظم شأنه أنه كان من أعلم الناس وأدينهم فليس الأمر كذلك وليس هو معدودا من أعيان العلماء والصالحين الذين في طبقته وإن أراد بذلك شرفه في المنزلة لكونه كان له جاه ومنزلة ورياسة فمعاوية كان أعظم جاها ورياسة ومنزلة منه بل معاوية خير منه وأعلم وأدين وأحلم وأكرم فإن معاوية رضي الله عنه روى الحديث وتكلم في الفقه وقد روى أهل الحديث حديثه في الصحاح والمساند وغيرها وذكر بعض العلماء بعض حديثه في الصحاح والمساند وغيرها وذكر بعض العلماء بعض فتاويه وأقضيته وأما محمد بن أبي بكر فليس له ذكر في الكتب المعتمدة في الحديث والفقه
وأما قوله وأخت محمد وأبوه أعظم من أخت معاوية وأبيها
فيقال هذه الحجة باطلة على الأصلين وذلك أن أهل السنة لا يفضلون الرجل إلا بنفسه فلا ينفع محمدا قربه من أبي بكر وعائشة ولا يضر معاوية أن يكون ذلك أفضل نسبا منه وهذا أصل معروف لأهل السنة كما لم يضر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا كبلال وصهيب وخباب وأمثالهم أن يكون من تأخر عنهم من الطلقاء وغيرهم كأبي سفيان بن حرب وابنيه معاوية ويزيد وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونحوهم أعظم نسبا منهم فإن هؤلاء من بني عبد مناف أشرف بيتا وأولئك ليس لهم نسب شريف ولكن فضلوهم بما فضل الله به من أنفق من قبل الفتح وقاتل على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا فكيف على من بعد هؤلاء
وأما الرافضة فهم إذا اعتبروا النسب لزمهم أن يكون محمد بن أبي بكر عندهم شر الناس نسبا لقبح قولهم في أبيه وأخته فعلى أصلهم لا يجوز تفضيله بقربه منهما وإن ذكروا ذلك على طريق الإلزام لأهل السنة فهم يفضلون من فضله الله حيث يقول إن أكرمكم عند الله أتقاكم
فصل
قال الرافضي مع أن رسول الله ﷺ لعن معاوية الطليق بن الطليق اللعين بن اللعين وقال إذا رأيتهم معاوية على منبري فاقتلوه وكان من المؤلفة قلوبهم وقاتل عليا وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم
قال وسبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعلي عليه السلام ومفارقته لأبيه وبغض معاوية لعلي ومحاربته له وسموع كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي بل كان يكتب له رسائل وقد كان بين يدي النبي ﷺ أربعة عشر نفسا يكتبون الوحي أولهم وأخصهم وأقربهم إليه علي بن أبي طالب عليه السلام مع أن معاوية لم يزل مشركا بالله تعالى في مدة كون النبي ﷺ مبعوثا يكذب بالوحي ويهزأ بالشرع
والجواب أن يقال أما ما ذكره من أن النبي ﷺ لعن معاوية وأمر بقتله إذا رؤى على المنبر فهذا الحديث ليس في شيء من كتب الإسلام التي يرجع إليها في علم النقل وهو عند أهل المعرفة بالحديث كذب موضوع مختلق على النبي ﷺ وهذا الرافضي الراوي له لم يذكر له إسنادا حتى ينظر فيه وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات
ومما يبين كذبه أن منبر النبي ﷺ قد صعد عليه بعد معاوية من كان معاوية خيرا منه باتفاق المسلمين فإن كان يجب قتل من صعد عليه لمجرد الصعود على المنبر وجب قتل هؤلاء كلهم ثم هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام فإن مجرد صعود المنبر لا يبيح قتل مسلم وإن أمر بقتله لكونه تولى الأمر وهو لا يصلح
فيجب قتل كل من تولى الأمر بعد معاوية ممن معاوية أفضل منه وهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي ﷺ من نهيه عن قتل ولاة الأمور وقتالهم كما تقدم بيانه
ثم الأمة متفقة على خلاف هذا فإنها لم تقتل كل من تولى أمرها ولا استحلت ذلك ثم هذا يوجب من الفساد والهرج ما هو أعظم من ولاية كل ظالم فكيف يأمر النبي ﷺ بشيء يكون فعله أعظم فسادا من تركه
وأما قوله إنه الطليق ابن الطليق
فهذا ليس نعت ذم فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح الذين أسلموا عام فتح مكة وأطلقهم النبي ﷺ وكانوا نحوا من ألفي رجل وفيهم من صار من خيار المسلمين كالحارث بن هشام وسهل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل ويزيد بن أبي سفيان وحكيم بن حزام وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي ﷺ الذي كان يهجره ثم حسن أسلامه وعتاب بن أسيد الذي ولاه النبي ﷺ مكة لما فتحها وغير هؤلاء ممن حسن إسلامه ومعاوية ممن حسن إسلامه باتفاق أهل العلم ولهذا ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه موضع أخيه يزيد بن أبي سفيان لما مات أخوه يزيد بالشام وكان يزيد بن أبي سفيان من خيار الناس وكان أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر وعمر لفتح الشام يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة وعمرو بن العاص مع أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد فلما توفي يزيد بن أبي سفيان ولى عمر مكانه أخاه معاويه وعمر لم يكن تأخذه في الله لومة لائم وليس هو ممن يحابى في الولاية ولا كان ممن يحب أبا سفيان أباه بل كان من أعظم الناس عداوة لأبيه أبي سفيان قبل الإسلام حتى أنه لما جاء به العباس يوم فتح مكة كان عمر حريصا على قتله حتى جرى بينه وبين العباس نوع من المخاشنة بسبب بغض عمر لأبي سفيان فتولية عمر لابنه معاوية ليس لها سبب دنيوي ولولا استحقاقه للإمارة لما أمره
ثم إنه بقى في الشام عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة ورعيته من أشد الناس محبة له وموافقة له وهو من أعظم الناس إحسانا إليهم وتأليفا لقلوبهم حتى أنهم قاتلوا معه على بن أبي طالب وصابروا عسكره حتى قاوموهم وغلبوهم وعلى أفضل منه وأعلى درجة وهو أولى بالحق منه باتفاق الناس وعسكر معاوية يعلمون أن عليا أفضل منه واحق بالأمر ولا ينكر ذلك منهم إلا معاند أو من أعمى الهوى قلبه
ولم يكن معاوية قبل تحكيم الحكمين يدعى الأمر لنفسه ولا يتسمى بأمير المؤمنين بل إنما ادعى ذلك بعد حكم الحكمين وكان غير واحد من عسكر معاوية يقول له لم ذا تقاتل عليا وليس لك سابقته ولا فضله ولا صهره وهو أولى بالأمر منك فيعترف لهم معاوية بذلك، لكن قاتلوا مع معاوية لظنهم أن عسكر على فيه ظلمة يعتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان وأنهم يقاتلونهم دفعا لصيالهم عليهم وقتال الصائل جائز ولهذا لم يبدؤوهم بالقتال حتى بدأهم أولئك ولهذا قال الأشتر النخعي إنهم ينصرون علينا لأنا نحن بدأناهم بالقتال
وعلى رضي الله عنه كان عاجزا عن قهر الظلمة من العسكرين ولم تكن أعوانه يوافقونه على ما يأمر به وأعوان معاوية يوافقونه وكان يرى أن القتال يحصل به المطلوب فما حصل به إلا ضد المطلوب وكان في عسكر معاوية من يتهم عليا بأشياء من الظلم هو برىء منها وطالب الحق من عسكر معاوية يقول لا يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ولا يظلمنا ونحن إذا بايعنا عليا ظلمنا عسكره كما ظلم عثمان وعلى إما عاجز عن العدل علينا أو غير فاعل لذلك وليس علينا أن نبايع عاجزا عن العدل علينا ولا تاركا له فأئمة السنة يعلمون أنه ما كان القتال مأمورا به لا واجبا ولا مستحبا ولكن يعذرون من اجتهد فأخطأ
وأما قوله كان معاوية من المؤلفة قلوبهم
فنعم وأكثر الطلقاء كلهم من المؤلفة قلوبهم كالحارث بن هشام وابن أخيه عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وحكيم بن حزام وهؤلاء من خيار المسلمين والمؤلفة قلوبهم غالبهم حسن إسلامه وكان الرجل منهم يسلم أول النهار رغبة منه في الدنيا فلا يجىء اخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس
وأما قوله وقاتل عليا وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق وكل من قاتل إمام حق فهو باغ ظالم فيقال له أولا الباغى قد يكون متأولا معتقدا أنه على حق وقد يكون معتعمدا يعلم أه باغ وقد يكون بغيه مركبا من شبهة وشهوة وهو الغالب وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب فضلا عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد بل يقولون إن الذنوب لها أسباب تدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم والحكاة المعروفة عن المسور بن مخرمة وكان من خيار صغار الصحابة لما أتى معاوية وخلا به وطلب منه أن يخبره بجميع ما ينقمه عليه فذكر له المسور جميع ما ينقمه عليه فقال ومع هذا يا مسور ألك سيئات قال نعم قال أترجو أن يغفرها الله قال نعم قال فما جعلك أرجى لرحمة الله مني وإنى مع ذلك والله ما خيرت بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على غيره ووالله لما أليه من الجهاد وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل من عملك وأنا على دين يقبل من أهله الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات فما جعلك أرجى لرحمة الله مني قال السمرو بن مخرمة فخصمني أو كما قال
ويقال لهم ثانيا أما أهل السنة فأصلهم مستقيم مطرد في هذا الباب وأما أنتم فمتناقضون وذلك أن النواصب من الخوارج وغيرهم الذين يكفرون عليا أو يفسقونه أو يشكون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم لو قالوا لكم ما الدليل على إيمان على وإمامته وعدله لم يكن لكم حجة فإمكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته قالوا لكم وهذا متواتر عن الصحابة والتابعين والخلفاء الثلاثة وخلفاء بني أمية كمعاوية ويزيد وعبد الملك وغيرهم وأنتم تقدحون في إيمانهم فليس قدحنا في إيمان علي وغيره إلا وقد حكم في إيمان هؤلاء أعظم والذين تقدحون أنتم فيهم أعظم من الذين نقدح نحن فيهم وإن احتججتم بما في القران من الثناء والمدح قالوا ايات القران عامة تتناول أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم مثل ما تتناول عليا أو أعظم من ذلك وأنتم قد أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء فإخراجنا عليا أيسر وإن قتلم بما جاء عن النبي ﷺ في فضائله قالوا هذه الفضائل روتها الصحابة الذين رووا فضائل أولئك فإن كانوا عدولا فاقبلوا الجميع وإن كانوا فساا فإن حاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وليس لأحد أن يقول في الشهود إنهم إن شهدوا لي كانوا عدولا وإن شهدوا على كانو فساقا أو إن شهدوا بمدح من أحببته كانوا عدولا وإن شهدوا بمدح من أبغضته كانوا فساقا
وأما إمامة على فهؤلاء ينازعونكم في إمامته هم وغيرهم فإن احتججتم عليهم بالنص الذي تدعونه كان احتجاجهم بالنصوص التي يدعونها لأبي بكر بل العباس معارضا لذلك ولا ريب عند كل من يعرف الحديث أن تلك أولى بالقبول والتصديق وكذلك يستدل على تصديقها بدلالات كثيرة يعملها من ليس من علماء أهل الحديث وإن احتججتم بمبايعة الناس له قالوا من المعلوم أن الناس اجتمعوا وأنتم قد قدحتم في تلك البيعة فالقدح في هذه أيسر فلا تحتجون على إمامة على بنص ولا اجماع إلا كان مع أولئك من النص والإجماع ما هو أقوى من حجتكم فيكون إثبات خلافة من قدحتم في خلافته أولى من إثبات خلافة من أثبتم خلافته
وهذا لا يرد على أهل السنة فإنهم يثبتون خلافة الخلفاء كلهم ويستدلون على صحة خلافتهم بالنصوص الدالة عليه ويقولون إنها انعقدت بمبايعة أهل الشوكة لهم وعلى بايعه أهل الشوكة وإن كانوا يم يجتمعوا عليه كما اجتمعوا على من قبله لكن لا ريب أنه كان له سلطان وقوة بمبايعة أهل الشوكة له وقد دل النص على أن خلافته خلافة نبوة
وأما تخلف من تخلف عن مبايعته فهذرهم في ذلك أظهر من عذر سعد بن عبادة وغيره لما تخلفوا عن بيعة أبي بكر وإن كان لم يستقر تخلف أحد إلا سعد وحده وإما على وغيره فبايعوا الصديق بلا خلاف بين الناس لكن قيل إنهم تأخروا عن مبايعته ستة أشهر ثم بايعوه
وهم يقولون للشيعة علي إما أن يكون تخلف أولا عن بيعة أبي بكر ثم بايعه بعد ستة أشهر كما تقول ذلك طائفة من أهل السنة مع الشيعة وإما أن يكون بايعه أول يوم كما يقول ذلك طائفة أخرى فإن كان الثاني بطل قول الشيعة إنه تخلف عن بيعته وثبت أنه كان من أول السابقين إلى بيعته وإن كان الأول فعذر من تخلف عن بيعة علي أظهر من عذر من تخلف عن بيعة أبي بكر لأن النص والإجماع المثبتين لخلافة أبي بكر ليس في خلافة على مثلها فإنه ليس في الصحيحين ما يدل على خلافته وإنما روى ذلك أهل السنن وقد طعن بعض أهل الحديث في حديث سفينة وأما الإجماع فقد تخلف عن بيعته والقتال معه نصف الأمة أو أقل أو أكثر
والنصوص الثابته عن النبي ﷺ تقتضي أن ترك القتال كان خيرا للطائفتين وأن القعود عن القتال كان خيرا من القيام فيه وأن عليا مع كونه أولى بالحق من معاوية وأقرب إلى الحق عن معاوية لو ترك القتال لكان أفضل وأصلح وخيرا
وأهل السنة يترحمون على الجميع ويستغفرون لهم كما أمرهم الله تعالى بقوله والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبوقنا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا إنك رؤوف رحيم
وأما الرافضي فإذا قدح في معاوية رضي الله عنه بأنه كان باغيا ظالما قال له الناصبي وعلى أيضا كان باغيا ظالما لما قاتل المسلمين على إمارته وبدأهم بالقتال وصال عليهم وسفك دماء الأمة بغير فائدة لهم لا في دينهم ولا في دنياهم وكان السيف في خلافته مسلولا على أهل الملة مكفوفا عن الكفار
والقادون في علي طوائف طائفة تقدح فيه وفيمن قاتله جميعا وطائفة تقول فسق أحدهما لا بعينه كما يقول ذلك عمرو بن عبيد وغيره من شيوخ المعتزلة ويقولون في أهل الجمل فسق إحدى الطائفتين لا بعينها وهؤلاء يفسقون معاوية وطائفة تقول هو الظالم دون معاوية كما يقول ذلك المروانية وطائفة تقول كان في أول الأمر مصيبا فلما حكم الحكمين كفر وارتد عن الإسلام ومات كافرا وهؤلاء هم الخوارج
فالخوارج والمروانية وكثير من المعتزلة وغيرهم يقدحون في علي رضي الله عنه وكلهم محطئون في ذلك ضالون مبتدعون وخطأ الشيعة في القدح في أبي بكر وعمر أعظم من خطأ أولئك فإن قال الذاب عن علي هؤلاء الذين قاتلهم على كانوا بغاة فقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه تقتلك الفئة الباغية وهم قتلوا عمارا فههنا للناس أقوال منهم من قدح في حديث عمار ومنهم من تأويله على أن الباغي الطالب وهو تأويل ضعيف وأما السلف والأئمة فيقول أكثرهم كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية فإن الله لم يأمر بقتلاها ابتداء بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما ثم إن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت التي تبغي وهؤلاء قوتلوا ابتداء قبل أن يبدؤوا بقتال ومذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما أن مانعي الزكاة إذا قالوا نحن نؤديها بأنفسنا ولا ندفعها إلى الإمام لم يكن له قتالهم ولهذا كان هذا القتال عند أحمد وغيره كمالك قتال فتنة وأبو حنيفة يقول لا يجوز قتال البغاة حتى يبدؤوا بقتال الإمام وهؤلاء لم يبدؤوه بل الخوارج بدؤوا به وأما قتال الخوارج فهو ثابت بالنص والإجماع
فإن قال الذاب عن علي كان علي مجتهدا في ذلك قال له منازعه ومعاوية كان مجتهدا في ذلك فإن قال كان مجتهدا مصيبا ففي الناس من يقول له ومعاوية كان مجتهد مصيبا أيضا بناء على أن كل مجتهد مصيب وهو قول الأشعري ومنهم من يقول بل معاوية مجتهد مخطىء وخطأ المجتهد مغفور ومنهم من يقول بل المصيب أحدهما لا بعينه ومن الفقهاء من يقول كلاهما كان مجتهدا لكن علي كان مجتهدا مصيبا ومعاوية كان مجتهدا مخطئا والمصيب له أجران والمخطىء له أجر ومنهم من يقول بل كلاهما مجتهد مصيب بناء على قولهم كل مجتهد مصيب وهو قول الأشعري وكثير من أصحابه وطائفة من أصحاب أحمد وغيره ومنهم من يقول المصيب واحد لا بعينه
وهذه الأقوال ذكرها أبو عبد الله بن حامد عن أصحاب الإمام أحمد لكن المنصوص عنه نفسه وعن أمثاله من الأئمة أن ترك القتال كان خيرا من فعله وأنه قتال فتنة
ولهذا كان عمران بن حصين رضي الله عنه ينهي عن بيع السلاح فيه ويقول لا يباع السلاح في الفتنة وهذا قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ومحمد بن مسلمة وابن عمر وأسامة بن زيد رضي الله عنهم وأكثر من كان بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهو قول أكثر أئمة الفقه والحديث
وقالت الكرامية بل كلاهما إمام مصيب ويجوز عقد البيعة لإمامين للحاجة ومن نازعه في أنه كان إمام حق لم يمكن الرافضي أن يحتج على إمامته بحجة إلا نقضها ذلك المعارض ومن سلم له أنه كان إمام حق كأهل السنة فإنه يقول الإمام الحق ليس معصوما ولا يجب على الإنسان أن يقاتل معه كل من خرج عن طاعته ولا يطيعه الإنسان فيما يعلم أنه معصية لله أو أن تركه خير من فعله
والصحابة الذين لم يقاتلوا معه كانوا يعتقدون أن ترك القتال خير من القتال أو أنه معصية فلم يجب عليهم موافقته في ذلك
والذين قاتلوه لا يخلو إما أ يكونوا عصاة أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين وعلى كل تقدير فهذا لايقدح في إيمانهم ولا يمنعهم الجنة
فإن الله تعالى قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصحلوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون فسماهم إخوة ووصفهم بأنهم مؤمنون مع وجود الاقتتال بينهم والبغي من بعضهم على بعض
فمن قاتل عليا فإن كان باغيا فليس ذلك بمخرجه من الإيمان ولا بموجب له النيران ولا مانه له من الجنان فإن البغي إذا كان بتأويل كان صاحبه مجتهدا
ولهذا اتفق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين وإن قالوا في إحداهما إنهم كانوا بغاة لأنهم كانوا متأولين مجتهدين والمجتهد المخطىء لا يكفر ولا يفسق وإن تعمد البغي فهو ذنب من الذنوب والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة كالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وشفاعة النبي ﷺ ودعاء المؤمنين وغير ذلك
وأما قوله إن سبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعلي ومفارقته لأبيه، فكذب بين وذلك أن محمد بن أبي بكر في حياة أبيه لم يكن إلا طفلا له أقل من ثلاث سنين وبعد موت أبيه كان من أشد الناس تعظيما لأبيه وبه كان يتشرف وكانت له بذلك حرمة عند الناس وأما قله إن سبب قولهم لمعاوية إنه خال المؤمنين دون محمد أن محمدا هذا كان يحب عليا ومعاوية كان يبغضه
فيقال هذا كذب أيضا فإن عبد الله بن عمر كان أحق بهذا المعنى من هذا وهذا وهو لم يقاتل لا مع هذا ولا مع هذا وكان معظما لعلي محبا له يذكر فضائله ومناقبه وكان مبايعا لمعاوية لما اجتمع عليه الناس غير خارج عليه وأخته أفضل من أخت معاوية وأبوه أفضل من أبي معاوية والناس أكثر محبة وتعظيما له من معاوية ومحمد ومع هذا فلم يشتهر عنه أنه خال المؤمنين فعلم أنه ليس سبب ذلك ما ذكره
وأيضا فأهل السنة يحبون الذين لم يقاتلوا عليا أعظم مما يحبون من قاتله ويفضلون من له يقاتله على من قاتله كسعد بن أبي وقاص وأسامه بن زيد ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم فهؤلاء أفضل من الذين قاتلوا عليت عند أهل السنة والحب لعلي وترك قتاله خير بإجماع أهل السنة من بغضه وقتلاه وهم متفقون على وجوب موالاته ومحبته وهم من أشد الناس ذبا عنه وردا على من يطعن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب لكن لكل مقام مقال
والرافضة لا مكنهم أن يثبتوا وجوب موالاته كما يمكن أهل السنة وأهل السنة متفقون على ذم الخوارج الذين هم أشد بغضا له وعداوة من غيرهم وأهل السنة متفقون على وجوب قتالهم فكيف يفترى المفتري عليهم بأن قدخ هذا لبغضه عليا وذم هذا لحبه عليا مع أنه ليس من أهل السنة من يجعل بغض على طاعة ولا حسنة ولا يأمر بذلك ولا من يجعل مجرد حبه سيئة ولا معصية ولا ينهى عن ذلك
وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءه بذكر فضائله ومناقبه وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق وهم ينكرون على من سبه وكارهون لذلك وما جرى من التساب والتلاعن بين العسكرين من جنس ما جرى من القتال وأهل السنة من أشد الناس بغضا وكراهة لأن يتعرض له بقتال أو سب بل هم كلهم متفقون على أنه أجل قدرا وأحق بالإمامة وأفضل عند اله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيرا منه وعلى أفضل ممن هو أفضل من معاوية رضي الله عنه فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم وعلى أفضل جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة فليس في أهل السنة من يقدم عليه أحدا غير الثلاثة بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وما في أهل السنة من يقول إن طلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه بل غاية ما قد يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى وهؤلاء أهل الشورة عندهم أفضل السابقين الأولين والسابقون الأولون أفضل من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا وهم على أصح القولين الذين بايعوا تحت الشجرة عام الحديبية وقيل من صلى إلى البلتين وليس بشيء
وممن أسلم بعد الحديبية خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وشيبة الحجبي وغيرهم وأما سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وأبو سفيان بن حرب وابناه ييد ومعاوية وصفوان بن أمية وغيرهم فهؤلاء مسلمة الفتح ومن الناس من يقول إن معاوية رضي الله عنه أسلم قبل أبيه فيجعلونه من الصنف الأول
وقد ثبت في الصحيح أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام فقال النبي ﷺ يا خالد لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه فنهى خالدا ونحوه ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل أن يتعرضوا للذين صحبوه قبل ذلك وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وبين أن الواحد من هؤلاء لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه
فإذا كان هذا نهيه لخالد بن الوليد وأمثاله من مسلمة الحديبية فكيف مسلمة الفتح الذين لم يسلموا إلا بعد فتح مكة مع أن أولئك كانوا مهاجرين فإن خالدا وعمرا ونحوهما ممن أسلم بعد الحديبية وقبل فتح مكة وهاجر إلى المدينة هو من المهاجرين وأما الذين أسلموا بعد فتح مكة فلا عجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا رواه البخاري
ولهذا كان إذا أتى بالواحد من هؤلاء ليبايعه بايعه على الإسلام ولا يبايعه على الهجرة ومن هؤلاء أكثر من هاشم كعقيل بن أبي طالب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وربيعه بن الحارث بن عبد المطلب وكذلك العباس فإنه أدرك النبي ﷺ في الطريق وهو ذاهب إلى مكة لم يصل إلى المدينة وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي ﷺ وهذا غير أبي سفيان بن حرب وكان شاعرا يهجو النبي ﷺ وأدركه في الطريق وكان ممن حسن إسلامه وكان هو والعباس مع النبي ﷺ يوم حنين لما انكشف الناس اخذين ببغلته فإذا كانت هذه مراتب الصحابة عند أهل السنة كما دل عليه الكتاب والسنة وهم متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مسلمة الفتح عمن أسلم بعد الحديبية وعلى تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية وعلى أن البدريين أفضل من غير البدريين وعلى أن عليا أفضل من جماهير هؤلاء لم يقدم عليه أحد غير الثلاثة فكيف ينسب إلى أهل السنة تسويته بمعاوية أو تقديم معاوية عليه
نعم مع معاوية طائفة كثيرة من المروانية وغيرهم كالذين قاتلوا معه وأتباعهم بعدهم يقولون إنه كان في قتلاه على الحق مجتهدا مصيبا وأن عليا ومن معه كانوا إما ظالمين وإما مجتهدين مخطئين وقد صنف لهم في ذلك مصنفات مثل كتاب المروانية الذي صنفه الجاحظ وطائفة وضعوا لمعاوية فضائل ورووا أحاديث عن النبي ﷺ في ذلك كلها كذب ولهم في ذلك حجج طويلة ليس هذا موضعها
ولكن هؤلاء عند أهل السنة مخطئون في ذلك وإن كان خطأ الرافضة أعظم من خطئهم ولا يمكن الرافضة أن ترد على هؤلاء بحجة صحيحة مع اعتقادهم مذهب الإمامية فإن حجج الإمامية متناقضة يحتجون بالحجج التي ينقضونها في موضع اخر ويحتجون بالحجة العقلية أو السمعية مع دفعهم لما هو أعظم منها بخلاف أهل السنة فإن حججهم صحيحة مطردة كالمسلمين مع النصارى وغيرهم من أهل الكتاب فيمكن لأهل السنة الانتصار لعلي ممن يذمه ويسبه أو يقول إن الذين قاتلوه كانوا أولى بالحق منه كما يمكن المسلمين أن ينصروا المسيح ممن كذبه من الهود وغيرهم بخلاف النصارى فإنهم لا يمكنهم نصر قولهم في المسيح بالحجج العلمية على من كذبه من اليهود وغيرهم
والمنتقصون لعلي من أهل البدع طوائف طائفة تكفرة كالخوارج وهؤلاء يكفرون معه عثمان وجمهور المسلمين فيثبت أهل السنة إيمان على ووجوب موالاته بمثل ما يثبتون به إيمان عثمان ووجوب موالاته
وطائفة يقولون إنه وإن كان أفضل من معاوية لكن كان معاوية مصيبا في قتلاه ولم يكن علي مصيبا في قتال معاوية وهؤلاء كثيرون كالذين قاتلوه مع معاوية وهؤلاء يقولون أو جمهورهم إن عليا لم يكن إماما مفترض الطاعة لأنه لم تثبت خلافته بنص ولا إجماع
وهذا القول قاله طائفة أخرةى ممن يراه أفضل من معاوية وأنه أقرب إلى الحق من معاوية ويقولون إن معاوية لم يكن مصيبا في قتاله لكن يقولون مع ذلك إن الزمان كان زمان فتنة وفرقة لم يكن هناك إمام جماعة ولا خليفة
وهذا القول قاله كثير من علماء أهل الحديث البصريين والشاميين والأندلسيين وغيرهم وكان بالأندلس كثير من بني أمية يذهبون إلى هذا القول ويترحمون على علي ويثنون عليه لكن يقولون لم يكن خليفة وإنما الخليفة من اجتمع الناس عليه ولم يجتمعوا على علي وكان من هؤلاء من يربع بمعاوية في خطبة الجمعة فيذكر الثلاثة ويربع بمعاوية ولا يذكر عليا ويحتجون بأن معاوية اجتمع عليه الناس بالمبايعه بما بايعه الحسن بخلاف علي فإن المسلمين لم يجتمعوا عليه ويقولون لهذا ربعنا بمعاوية لا لأنه أفضل من علي بل علي أفضل منه كما أن كثيرا من الصحابة أفضل من معاوية وإن لم يكونوا خلفاء
وهؤلاء قد احتج عليهم الإمام أحمد وغيره بحديث سفينة عن النبي ﷺ أنه قال الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا وقال أحمد من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله وتكلم بعض هؤلاء في أحمد بسب هذا الكلام وقال قد أنكر خلافته من الصحابة طلحة والزبير وغيرهما ممن لا يقال فيه هذا القول واحتجوا بأن أكثر الأحاديث التي فيها ذكر خلافة النبوة لا يذكر فيها إلا الخلفاء الثلاثة
مثل ما روى الإمام أحمد في مسنده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال قال رسول الله ﷺ يوما أيكم رأة رؤيا فقلت أنا يا رسول الله رأيت كأن ميزانا دلى من السماء فوزنت بأبي بكر فرجحت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر بعمر فرجع أبو بكر بعمر ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان فقال النبي ﷺ خلافة نبوة ثم يؤتى الله الملك من يشاء
وروى أبو داود حديثا عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ رأى الليلة رجل صالح أن ابا بكر نيط برسول الله ﷺ ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله ﷺ قلنا أما الرجل الصالح فرسول الله ﷺ وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه
وروى أبو داود من حديث سمرة ب جندب أن رجلا قال يا رسول الله رأيت كأن دلوا دلى من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء على فأخذ بعراقيها فانتشكت فانتضح عليه منها شيء
وروى عن الشافعي وغيره أنهم قالوا الخلفاء ثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان
وما جاءت به الأخبار النبوية الصحيحة حق كله فالخلافة التامة التي أجمع عليها المسلمون وقوتل بها الكافرون وظهر بها الدين كانت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وخلافة علي اختلف فيها أهل القبلة ولم يكن فيها زيادة قوة للمسلمين ولا قهر ونقص للكاقرين ولكن هذا لا يقدح في أن عليا كان خليفة راشدا مهديا ولكن لم يتمكن كما تمكن غيره ولا أطاعته الأمة كما أطاعت غيره فلم يحصل في زمنه من الخلافة التامة العامة ما حصل في زمن الثلاثة مع أنه من الخلفاء الراشدين المهديين
وأما الذين قالوا إن معاوية رضي الله عنه كان مصيبا في قتاله له ولم يكن علي رضي الله عنه مصيبا في قتاله لمعاوية فقولهم أضعف من قول هؤلاء وحجة هؤلاء أن معاوية رضي الله عنه كان طالبا بدم عثمان رضي اله عنه وكان هو ابن عمه ووليه وبنو عثمان وسائر عصبته اجتمعوا إليه وطلبوا من علي أن يمكنهم من قتلة عثمان أو يسلمهم إليهم فامتنع على من ذلك فتركوا مبايعته فلم يقاتلوه ثم إن عليا بدأهم بالقتال فقاتلوه دفعا عن أنفسهم وبلادهم قالوا وكان علي باغيا عليهم
وأما الحديث الذي روى عن النبي ﷺ أنه قال لعمار تقتلك الفئة الباغية فبعضهم ضعفه وبعضهم تأوله فقال بعضهم معناه الطالبة لدم عثمان رضي الله عنه كما قالوا نبغي ابن عفان بأطراف الأسل وبعضهم قال ما يروى عن معاوية رضي الله عنه أنه قال لما ذكر له هذا الحديث أو نحن قتلناه إنما قتله علي وأصحابه حيث ألقوه بين أسيافنا
وروى عن علي رضي الله عنه أنه ذكر له هذا التأويل فقال فرسول الله ﷺ وأصحابه يكونون حينئذ قد قتلوا حمزة وأصحابه يوم أحد لأنه قاتل معهم المشركين وهذا القول لا أعلم له قائلا من أصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة ولكن هو قول كثير من المروانية ومن وافقهم ومن هؤلاء من يقول إن عليا شارك في دم عثمان فمنهم من يقول إنه أمر علانية ومنهم من يقول إنه أمر سرا ومنهم من يقول بل رضى بقتله وفرح بذلك ومنهم من يقول غير ذلك وهذا كله كذب على علي رضي الله عنه وافتراء عليه فعلى رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان ولا أمر ولا رضى وقد روى عنه وهو الصادق البار أنه قال والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله وروى عنه أنه قال ما قتلت ولا رضيت وروى عنه أنه سمع أصحاب معاوية يلعنون قتلة عثمان فقال اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل وروى أن أقواما شهدوا عليه بالزور عند أهل الشام أنه شارك في دم عثمان وكان هذا مما دعاهم إلى ترك مبايعته لما اعتقدوا أنه ظالم وأنه من قتلة عثمان وأنه اوى قتلة عثمان لموافقته لهم على قتله وهذا وأمثاله مما يبين شبهة الذين قاتلوه ووجه اجتهادهم في قتاله لكن لا يدل على أنهم كانوا مصيبين في ترك مبايعته وقتاله وكون قتلة عثمان من رعيته لا يوجب أنه كان موافقا لهم وقد اعتذر بعض الناس عن علي بأنه لم يكن يعرف القتلة بأعيانهم أو بأنه كان لا يرى قتل الجماعة بالواحد أو بأنه لم يدع عنده ولي الدم دعوى توجب الحكم له
ولا حاجة إلى هذه الأعذار بل لم يكن علي مع تفرق الناس عليه متمكنا من قتل قتلة عثمان إلا بفتنة تزيد الأمر شرا وبلاء ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس لأنهم كانوا عسكرا وكان لهم قبائل تغضب لهم والمباشر منهم للقتل وإن كان قليلا فكان ردؤهم أهل الشوكة ولولا ذلك لم يتمكنوا ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة ليقتلوا قتلة عثمان قام بسبب ذلك حرب قتل فيها خلق
ومما يبين ذلك أن معاوية قد أجمع الناس عليه بعد موت علي وصار أميرا على جميع المسلمين ومع هذا فلم يقتل قتلة عثمان الذين كانوا قد بقوا بل روى عنه أنه لما قدم المدينة حاجا فسمع الصوت في دار عثمان يا أمير المؤمنيناه يا أمير المؤمنيناه فقال ما هذا قالوا بنت عثمان تندب عثمان فصرف الناس ثم ذهب إليهم فقال يا ابنة عم إن الناس قد بذلوا لنا الطاعة على كره وبذلنا لهم حلما على غيظ فإن رددنا حلمنا ردوا طاعتهم ولأن تكوني بنت أمير المؤمنين خير من أن تكوني واحدة من عرض الناس فلا أسمعنك بعد اليوم ذكرت عثمان
فمعاوية رضي الله عنه الذي يقول المنتصر له إنه كان مصيبا في قتال علي لأنه كان طالبا لقتل قتلة عثمان لما تمكن وأجمع الناس عليه لم يقتل قتلة عثمان فإن كان قتلهم واجبا وهو مقدور له كان فعله بدون قتال المسلمين أولى من أن يقاتل عليا وأصحابه لأجل ذلك ولو قتل معاوية قتلة عثمان لم يقع من الفتنة أكثر مما وقع ليالي صفين وإن كان معاوية معذورا في كونه لم يقتل قتلة عثمان إما لعجزه عن ذلك أو لما يفضى إليه ذلم من الفتنة وتفريق الكلمة وضعف سلطانه فعلى أولى أن يكون معذورا أكثر من معاوية إذ كانت الفتنة وتفريق الكلمة وضعف سلطانه بقتل القتلة لو سعى في ذلك أشد ومن قال إن قتل الخلق الكثير الذين قتلوا بينه وبين علي كان صوابا منه لأجل قتل قتلة عثمان فقتل ما هو دون ذلك لأجل قتل قتلة عثمان أولى أن يكون صوابا وهو لم يفعل ذلك لما تولى ولم يقتل قتلة عثمان
وذلك أن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت فأما إذا أقبلت فإنها تزين ويظن أن فيها خيرا فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء صار ذلك مبينا لهم مضرتها وواعظا لهم أن يعودوا في مثلها كما أنشد بعضهم
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ... ولت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت ... مكروهة للشم والتقبيل
والذين دخلوا في الفتنة من الطائفتين لم يعرفوا ما في القتال من الشر ولا عرفوا مرارة الفتنة حتى وقعت وصارت عبرة لهم ولغيرهم
ومن استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين تبين له أنه ما دخل فيها أحد فحمد عاقبة دخوله لما يحصل له من الضرر في دينه ودنياه ولهذا كانت من باب المنهى عنه والإمساك عنها من المأمور به الذي قال الله فيه فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم
وأما قول القائل إن عليت بدأهم بالقتال
قيل له وهم أولا امتنعوا من طاعته ومبايعته وجعلوه ظالما مشاركا في دم عثمان وقبلوا عليه شهادة الزور ونسبوه إلى ما هو برىء منه
وإذا قيل هذا وحده لم يبح له قتالهم
قيل ولا كان قتاله مباحا لكونه عاجزا عن قتل قتلة عثمان بل لو كان قادرا على قتل قتلة عثمان وقدر أنه ترك هذا الواجب إما متأولا وإما مذنبا لم يكن ذلك موجبا لتفريق الجماعة والامتناع عن مباعيته ولمقاتلته بل كانت مبايعته على كل حال أصلح في الدين وأنفع للمسلمين وأطوع لله ولرسوله من ترك مبايعته
فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم
وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال على المرء المسلم السمع والكاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثره عليه ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة
وفي الصحيحين عن عبادة رضي الله عنه قال بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال من رأى من أمير شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وفي رواية فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته ميتى جاهلية
وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت النبي ﷺ يقول من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعه مات ميتة جاهلية
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم رجل لا يبايع إماما إلا لدنيا إن أعطاه منها رضى وإن منع سخط الحديث
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة
وعلى رضي الله عنه كان قد بايعه أهل الكوفة ولم يكن في وقته أحق منه بالخلافة وهو خليفة راشد تجب طاعته ومعلوم أن قتل القاتل إنما شرع عصمة للدماء فإذا أفضى قتل الطائفة القليلة إلى قتل أضعافها لم يكن هذا طاعة ولا مصلحة وقد قتل بصفين أضعاف أضعاف قتلة عثمان
وأيضا فقول النبي ﷺ في الحديث المتفق على صحته تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق يدل على أن عليا وأصحابه أدنى إلى الحق من معاوية وأصحابه فلا يكون معاوية وأصحابه في قتالهم لعلي أدنى إلى الحق
وكذلك حديث عمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية قد رواه مسلم في صحيحه من غير وجه ورواه البخاري لكن في كثير من النسخ لم يذكره تاما وأما تأويل من تأوله أن عليا وأصحابه قتلوه وأن الباغية الطالبة بدم عثمان فهذا من التأويلات الظاهرة الفساد التي يظهر فسادها للعامة والخاصة والحديث ثابت في الصحيحين وقد صححه أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة وإن كان قد روى عنه أنه ضعفه فاخر الأمرين منه تصحيحه
قال يعقوب بن شيبة في مسنده في المكيين في مسند عمار بن ياسر لما ذكر أخبار عمار سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي ﷺ في عمار تقتلك الفئة الباغية فقال أحمد قتلته الفئة الباغية كما قال النبي ﷺ وقال في هذا غير حديث صحيح عن النبي ﷺ وكره أن يتكلم في هذا بأكثر من هذا وقال البخاري في صحيحه حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال قال لي ابن عباس ولابنه انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه فأخذ رداءه فاحتبى ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فراه رسول الله ﷺ فجعل ينفض التراب عنه ويقول ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار قال يقول عمار أعوذ بالله من الفتن
ورواه البخاري من وجه اخر عن عكرمة عن أبي سعيد الخدري لكن في كثير من النسخ لا يذكر الحديث بتمامه بل فيها ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ولكن لا يختلف أهل العلم بالحديث أن هذه الزيادة هي في الحديث
قال أبو بكر البيهقي وغيره قد رواه غير واحد عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما وظن البيهقي وغيره أن البخاري لم يذكر الزيادة واعتذر عن ذلك بأن هذه الزيادة لم يسمعها أبو سعيد من النبي ﷺ ولكن حدثه بها أصحابه مثل أبي قتادة
كما رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال أخبرني من هو خير مني أبو قتادة أن النبي ﷺ قال لعمار تقتلك الفئة الباغية
وفي حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال تمرق مارقة فتقتلهم أولى الطائفتين بالله
وكان عمار يحمل لبنتين لبنتين قال فلم أسمعه من النبي ﷺ ولكن جئت إلى أصحابي وهم يقولون إن رسول الله ﷺ قال ويحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية رواه مسلم في صحيحه والنسائي وغيرها من حديث ابن عون عن الحسن البصري عن أمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله ﷺ تقتل عمارا الفئة الباغية ورواه أيضا من حديث شعبة عن خالد عن سعيد بن أبي الحسن والحسن ع أمهما عن أم سلمة رضي الله عنها وفي بعض طرقه أنه قال ذلك في حفر الخندق
وذكر البيهقي وغيره أن هذا غلط والصحيح أنه إنما قاله يوم بناء المسجد وقد قيل إنه يحتمل أنه قاله مرتين
وقد روى هذا من وجوه أخرى من حديث عمرو بن العاص وابنه عبد الله ومن حديث عثمان بن عفان ومن حديث عمار نفسه وأسانيد هذه مقاربة وقد روى من وجوه أخرى واهية وفي الصحيح ما يغنى عن غيره
والحديث ثابت صحيح عن النبي ﷺ عند أهل العلم بالحديث والذين قتلوه هم الذين باشرواقتله والحديث أطلق فيه لفظ البغى لم يقيده بمفعول كما قال تعالى لا يبغون عنها حولا وكما قال النبي ﷺ الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلا ولا مالا
ولفظ البغى إذا أطلق فهو الظلم كما قال تعالى فإن بغث إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي وقال فمن اشطر غير باغ ولا عاد
وأيضا فإن النبي ﷺ ذكر هذا لما كانوا ينقلون اللبن لبناء المسجد وكانوا ينقلون لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين فقال النبي ﷺ ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار وهذا ليس فيه ذم لعمار بل مدح له ولو كان القاتلون له مصيبين في قتله لم يكن مدحا له وليس في كونهم يطلبون دم عثمان ما يوجب مدحه
وكذلك من تأول قاتله بأنهم الطائفة التي قاتل معها فتأويله ظاهر الفساد ويلزمهم ما ألزمهم إياه على وهو أن يكون النبي ﷺ وأصحابه قد قتلوا كل من قتل معهم في الغزو كحمزة وغيره وقد يقال فلان قتل فلانا إذا أمره بأمر كان فيه حتفه ولكن هذا مع القرينة لا يقال عند الإطلاق بل القاتل عند الإطلاق الذي قتله دون الذي أمره
ثم هذا يقال لمن أمر غيره وعمار لم يأمره أحد بقتال أصحاب معاوية بل هو كان من أحرص الناس على قتالهم وأشدهم رغبة في ذلك وكان حرصه على ذلك أعظم من حرص غيره وكان هو يحض عليا وغيره على قتالهم
ولهذا لم يذهب أحد من أهل العلم الذين تذكر مقالاتهم إلى هذا التأويل بل أهل العلم في هذا الحديث على ثلاثة أقوال فطائفة ضعفته لما روى عندها بأسانيد ليست ثابته عندهم ولكن رواه أهل الصحيح رواه البخاري كما تقدم من حديث أبي سعيد ورواه مسلم من غير وجه من حديث الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها ومن حديث أبي سعيد عن أبي قتادة وغيره
ومنهم من قال هذا دليل على أن معاوية وأصحابه بغاة وأن قتال علي لهم قتال أهل العدل لأهل البغي لكنهم بغاة متأولون لا يكفرون ولا يفسقون
ولكن يقال ليس في مجرد كونهم بغاة ما يوجب الأمر بقتالهم فإن الله لم يأمر بقتال كل باغ بل ولا أمر بقتال البغاة ابتداء ولكن قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بعث إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون فلم يأمر بقتال البغاة ابتداء بل أمر إذا اقتلت طائفتان من المؤمنين أن يصلح بينهما وهذا يتناول ما إذا كانتا باغيتين أو أحداهما باغية
ثم قال فإن بغث إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفىء إلى أمر الله وقوله فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي قد يقال المراد به البغي بعد الإصلاح ولكن هذا خلاف ظاهر القران فإن قوله بغث إحداهما على الأخرى يتناول الطائفتين المقتتلتين سواء أصلح بينهما أو لم يصلح كما أن الأمر بالإصلاح يتناول المقتتلتين مطلقا فليس في القران أمر بقتال الباغي ابتداء لكن أمر إذا اقتلت طائفتان أن يصلح بينهما وأنه إن بغت إحداهما على الأخرى بعد القتال أن تقاتل حتى تفىء وهذا يكون إذا لم تجب إلى الإصلاح بينهما وإلا فإذا أجابت إلى الإصلاح بينهما لم تقاتل فلو قوتلت ثم فاءت إلى الإصلاح لم تقاتل لقوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين فأمر بعد القتال إلى أن تفىء أن يصلح بينهما بالعدل وأن يقسط
وقتال الفتنة لا يقع فيه هذا وذلك قد يكون لأن الله لم يأمر بالقتال ابتداء ولكن أمر إذا اقتتلوا وبغت إحداهما على الأخرى بقتال الفئة الباغية وقد تكون الآية امرا بالإصلاح وقتال الباغية جميعا لم يأمر بأحدهما وقد تكون الآية أمرا بالإصلاح وقتال الباغية جميعا لم يأمر بأحدهما وقد تكون الطائفة باغية ابتداء لكن لما بغث أمر بقتالها وحينئذ لم يكن المقاتل لها قادرا لعدم الأعوان أو لغير ذلك وقد يكون عاجزا ابتداء عن قتال الفئة الباغية أو عاجزا عن قتال تفىء فيه إلى أمر الله فليس كل من كان قادرا على القتال كان قادرا على قتال يفىء فيه إلى أمر الله وإذا كان عاجزا عن قتالها حتى تفىء إلى أمر الله لم يكن مأمورا بقتلاها لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب ولكن قد يظن أنه قادرا على ذلك فتبين له في اخر الأمر أنه لم يكن قادرا فهذا من الاجتهاد الذي يثاب صاحبه على حسن القصد وفعل ما أمر وإن أخطأ فيكون له فيه أجر ليس من الاجتهاد الذي يكون له في أجران فإن هذا إنما يكون إذا وافق حكم الله في الباطن
كما قال النبي صلى الله عليه ولم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ومن الاجتهاد أن يكون ولى الأمر أو نائبه مخيرا بين أمرين فأكثر تخيير تحر للأصلح لا تخيير شهوة كما يخير الإمام في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء عند أكثر العلماء
فإن قوله تعالى فإما منا بعد وإما فداء ليس بمنسوخ وكذلك تخيير من نزل العدو على حكمه كما نزل بنو قريظة على حكم النبي ﷺ فسأله حلفاؤهم من الأوس أن يمن عليهم كما من على بني النضير حلفاء الخزرج فقال النبي ﷺ ألا ترضون أن أحكم فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضيت الأوس بذلك فأرسل النبي ﷺ خلف سعد بن معاذ فجاء وهو راكب وكان تمرضا من أثر جح به في المسجد وبنو قريظة شرقي المدينة بينهم نصف نهار أو نحو ذلك فلما أقبل سعد رضي الله عنه قال النبي ﷺ قوموا إلى سيدكم فقاموا وأقاربه في الطريق يسألونه أن يمن عليهم ويذكرونه بمعاونتهم ونصرهم له في الجاهلية فلما دنا قال لقد ان لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم فأمره النبي ﷺ أن يحكم فيهم فحكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم فقال النبي ﷺ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات والحديث ثابت في الصحيحين
وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن بريدة عن النبي ﷺ قال إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على خكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك
فدل هذان الحديثان الصحيحان على أن الله حكما معينا فيما يكون ولي الأمر مخيرا فيه تخيير مصلحة وإن كان لو حكم بغير ذلك نفذ حكمه في الظاهر فما كان من باب القتال فهو أولى أن يكون أحد الأمرين أحب إلى الله ورسوله إما فعله وإما تركه ويتبين ذلك بالمصلحة والمفسدة فما كان وجوده خيرا من عدمه لما حصل فيه من المصلحة الراجحة في الدين فهذا مما يأمر الله به أمر إيجاب أو استحباب وما كان عدمه خيرا من وجوده فليس بواجب ولا مستحب وإن كان فاعله مجتهدا مأجورا على اجتهاده
والقتال إنما يكون لطائفة ممتنعة فلو بغث ثم أجابت إلى الصلح بالعدل لم تكن ممتنعة فلم يجز قتالها ولو كانت باغية وقد أمر بقتال الباغية إلى أن تفىء إلى أمر الله أي ترجع ثم قال فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل فأمر بالإصلاح بعد قتال الفئة الباغية كما أمر بالإصلاح إذا اقتتلتا ابتداء وقد قالت عائشة رضي الله عنها لما وقعت الفتنة ترك الناس العمل بهذه الآية وهو كما قالت فإنهما لما اقتتلتا لم يصلح ينهما ولو قدر أنه قوتلت الباغية فلم تقاتل حتى تفىء إلى أمر الله ثم أصلح بينهما بالعدل والله تعالى أمر بالقتال إلى الفىء ثم الإصلاح لم يأمر بقتال مجرد بل قال فقاتلوا التي تبغى حتى تفىء إلى أمر الله وما حصل قتال حتى تفىء إلى أمر الله فإن كان ذلك مقدورا فما وقع وإن كان معجوزا عنه لم يكن مأمورا به
وعجز المسلمين يوم أحد عن القتال الذي يقتضي انتصارهم كان بترك طاعة الرسول وذنوبهم وكذلك التولى يوم حنين كان من الذنوب يبين ذلك أنه لو قدر أن طائفة بغت على طائفة وأمكن دفع البغي بلا قتال لم يجز القتال فلو اندفع البغي بوعظ أو فتيا أو أمر بمعروف لم يجز القتال ولو اندفع البغي بقتل واحد مقدور عليه أو إقامة حد أو تعزيز مثل قطع سارق وقتل محارب وحد قاذف لم يحز القتال وكثيرا ما ثتور الفتنة إذا ظلم بعض طائفة لطائفة أخرى فإذا أمكن استيفاء حق المظلوم بلا قتال لم يجز القتال
وليس في الآية أن كل من امتنع من مبايعه إمام عادل يجب قتاله بمجرد ذلك وإن سمى باغيا لترك طاعة الإمام فليس كل من ترك طاعة الإمام يقاتل
والصديق قاتل ما نعى الزكاة لكونهم امتنعوا عن أدائها بالكلية فقوتلوا بالكتاب والسنة وإلا فلو أقروا بأدائها وقالوا لا نؤديها إليك لم يجز قتالهم عند أكثر العلماء
وأولئك لم يكونوا كذلك ولهذا كان القول الثالث في هذا الحديث حديث عمار إن قاتل عمار طائفة باغية ليس لهم أن يقاتلوا عليا ولا يمتنعوا عن مبايعته وطاعته وإن لم يكن على مأمورا بقتالهم ولا كان فرضا عليه قتالهم لمجرد امتناعهم عن طاعته مع كونهم ملتزمين شرائع الإسلام وإن كان كل من المقتتلتين متأولين مسلمين مؤمنين وكلهم يستغفر لهم ويترحم عليهم عملا بقوله تعالى والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبوقنا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا إنك رؤوف رحيم
فصل
وأما قول الرافضي وسموه كاتب الوحى ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحى
فهذا قول بلا حجة ولا علم فما الدليل على أنه لم يكتب له كلمة واحدة من الوحي وإما كان يكتب له رسائل
وقوله إن كتاب الوحى كانوا بضعة عشر أخصم وأقربهم إليه علي
فلا ريب أن عليا كان ممن يكتب له أيضا كما كتب الصلح بينه وبين المشكرني عام الحديبية ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضا ويكتب له زيد بن ثابت بلا ريب
ففي الصحيحين أن زيد بن ثابت لما نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين كتبها له وكتب له أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة وعبد الله بن الأرقم وأبي بن كعب وثابت بن قيس وخالد بن سعيد بن العاص وحنظلة بن الربيع الأسدي وزيد بن ثابت ومعاوية وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم
وأما قوله إن معاوية لم يزل مشركا مدة كون النبي ﷺ مبعوثا
فيقال لا ريب أن معاوية وأباه وأخاه وغيرهم أسلموا عام فتح مكة قبل موت النبي ﷺ بنحو من ثلاث سنين فكيف يكون مشركا مدة المبعث ومعاوية رضي الله عنه كان حين بعث النبي ﷺ صغيرا كانت هند ترقصه ومعاوية رضي الله عنه أسلم مع مسلمة الفتح مثل أخيه يزيد وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن ابي جهل وأبي سفيان بن حرب وهؤلاء كانوا قبل إسلامهم أعظم كفرا ومحاربة للنبي ﷺ من معاوية
فصفوان وعكرمة وأبو سفيان كانوا مقدمين للكفار يوم أحد رؤوس الأحزاب في غزوة الخندق مع هذا كان أبو سفيان وصفوان وعكرمة من أحسن الناس إسلاما واستشهدوا رضي الله عنهم يوم اليرموك
ومعاوية لم يعرف عنه قبل الإسلام أذى للنبي ﷺ لا بيد ولا بلسان فإذا كان من هو أعظم معاداة للنبي ﷺ من معاوية قد حسن إسلامه وصار ممن يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فما المانع أن يكون معاوية رضي الله عنه كذلك
وكان من أحسن الناس سيرة في ولايته وهو ممن حسن إسلامه ولولا محاربته لعلي رضي الله عنه وتوليه الملك لم يذكره أحد إلا بخير كما لم يذكر أمثاله الا بخير وهؤلاء مسلمة الفتح معاوية ونحوه قد شهدوا مع النبي ﷺ عدة غزوات كغزاة حنين والطائف وتبوك فله من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله لا لأمثاله فكيف يكون هؤلاء كفارا وقد صاروا مؤمنين مجاهدين تمام سنة ثمان وتسع وعشر وبعض سنة إحدى عشرة
فإن مكة فتحت باتفاق الناس في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة والنبي ﷺ باتفاق الناس توفى في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة والناس كلهم كانوا كفارا قبل إيمانهم بما جاء به النبي ﷺ وكان فيهم من هو أشد عداوة للنبي ﷺ من معاوية وأسلم وحسن إسلامه كأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ﷺ كان من أشد الناس بغضا للنبي ﷺ وهجاء له قبل الإسلام
وأما معاوية رضي الله عنه فكان أبوه شديد العداوة للنبي ﷺ وكذلك أمه حتى أسلمت فقالت والله يا رسول الله ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك أخرجه البخاري
وفيهم أنزل الله تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم فإن الله جعل بين النبي ﷺ وبين الذي عادوه كأبي سفيان وهند وغيرها مودة والله قدير على تبديل العداوة بالمودة وهو غفور لهم بتوبتهم من الشرك رحيم بالمؤمنين وقد صاروا من المؤمنين
===
 
======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل المقحمات هي الذنوب العظام كما قال النووي أم أنها ذنوب أرتكبت بقصد طاعة الله لكن التسرع والاندفاع دافع للخطأ من غير قصد

تعقيب علي المقحمات يتبين من تعريف المقحمات بين النووي ومعاجم اللغة العتيدة أن النووي أخطأ جدا في التعريف { المقحمات مفتوح للكتابة...