معاني كلمات القران الكريم




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بؤامج نداء الايمان

النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق/مدونة ديوان الطلاق//المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني / / /*الـذاكـر / /القرآن الكريم مع الترجمة / /القرآن الكريم مع التفسير / /القرآن الكريم مع التلاوة / / /الموسوعة الحديثية المصغرة/الموسوعة الفقهية الكبرى //برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم //برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية / /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة / /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين / /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر / /برنامج مكتبة السنة / /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية / /برنامج موسوعة شرح الحديث الشريف فتح البارى لشرح صحيح البخارى وشرح مسلم لعبد الباقى وشرح مالك للإمام اللكنوى / /خلفيات إسلامية رائعة / /مجموع فتاوى ابن تيمية / /مكتبة الإمام ابن الجوزي / /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني / /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي / /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي / /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي / /مكتبة الإمام ابن كثير / /مكتبة الإمام الذهبي / /مكتبة الإمام السيوطي / /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني / /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي / /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي / /مكتبة الشيخ حمود التويجري / /مكتبة الشيخ ربيع المدخلي / /مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ / /مكتبة الشيخ صالح الفوزان / /مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي / /مكتبة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم / /مكتبة الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان / /مكتبة الشيخ عبد المحسن العباد / /مكتبة الشيخ عطية محمد سالم / /مكتبة الشيخ محمد أمان الجامي /مكتبة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي / /مكتبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / /مكتبة الشيخ مقبل الوادعي / /موسوعة أصول الفقه / /موسوعة التاريخ الإسلامي / /موسوعة الحديث النبوي الشريف / /موسوعة السيرة النبوية / /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية / موسوعة توحيد رب العبيد / موسوعة رواة الحديث / موسوعة شروح الحديث / /موسوعة علوم الحديث / /موسوعة علوم القرآن / /موسوعة علوم اللغة / /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

الجمعة، 4 مارس 2022

ج3- إقامة الدليل على إبطال التحليل/13.. /من اول صفحة 13. حتي اخر صفحة --17-






إقامة الدليل على إبطال التحليل/13..

واعلم أن من لم يحكم دلالات اللفظ ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ تارة يكون بالوضع اللغوي أو العرفي أو الشرعي إما في الألفاظ المفردة وإما في المركبة، وتارة بما اقترن باللفظ المفرد من التركيب الذي يتغير به دلالته في نفسه، وتارة بما اقترن به من القرائن اللفظية التي تجعلها مجازا، وتارة بما يدل عليه حال المتكلم والمخاطب والمتكلم فيه وسياق الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ أو يبين أن المراد به هو مجازه إلى غير ذلك من الأسباب التي تعطي اللفظ صفة الظهور وإلا فقد يتخبط في هذه المواضع، نعم إذا لم يقترن باللفظ قط شيء من القرائن المتصلة تبين مراد المتكلم، بل علم مراده بدليل آخر لفظي منفصل، فهنا أريد به خلاف الظاهر ففي تسمية المراد خلاف الظاهر كالعام المخصوص بدليل منفصل وإن كان الصارف عقليا ظاهرا ففي تسمية المراد خلاف الظاهر خلاف مشهور في أصول الفقه، وبالجملة فإذا عرف المقصود فقولنا هذا هو الظاهر أليس هو الظاهر خلاف لفظي، فإن كان الحالف ممن في عرف خطابه أن ظاهر هذه الآية مما هو مماثل لصفات المخلوقين فقد حنث، وإن كان في عرف خطابه أن ظاهرها هو ما يليق بالله تعالى لم يحنث وإن لم يعلم عرف أهل ناحيته في هذه اللفظة ولم يكن سبب يستدل به على مراده وتعذر العلم بنيته، فقد جاز أن يكون أراد معنى صحيحا وجاز أن يكون أراد معنى باطلا فلا يحنث بالشك، وهذا كله تفريع على قول من يقول إن من حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه حنث وأما على قول من لم يحنث فالحكم في يمينه ظاهر، واعلم أن عامة من ينكر هذه الصفة وأمثالها إذا بحثت عن الوجه الذي أنكروه وجدتهم قد اعتقدوا أن ظاهر هذه الآية كاستواء المخلوقين أو استواء يستلزم حدوثا أو نقصا، ثم حكوا عن مخالفهم هذا القول ثم تعبوا في إقامة الأدلة على بطلانه، ثم يقولون فيتعين تأويله إما بالاستيلاء أو بالظهور والتجلي أو بالفضل والرجحان الذي هو علو القدر والمكانة، ويبقى المعنى الثالث وهو استواء يليق بجلاله تكون دلالة هذا اللفظ عليه كدلالة لفظ العلم والإرادة والسمع والبصر على معانيها قد دل السمع عليه، بل من أكثر النظر في آثار الرسول - ﷺ - علم بالاضطرار أنه قد ألقي إلى الأمة، أن ربكم الذي تعبدونه فوق كل شيء وعلى كل شيء فوق العرش فوق السموات، وعلم أن عامة السلف كان هذا عندهم مثل ما عندهم أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وأنه لا ينقل عن واحد لفظ يدل لا نصا ولا ظاهرا على خلاف ذلك، ولا قال أحد منهم يوما من الدهر إن ربنا ليس فوق العرش، أو أنه ليس على العرش أو أن استواءه على العرش كاستوائه على البحر، إلى غير ذلك من ترهات الجهمية ولا مثل استواءه باستواء المخلوقين، ولا أثبت له صفة تستلزم حدوثا أو نقصا، والذي يبين لك خطأ من أطلق الظاهر على المعنى الذي يليق بالخلق، أن الألفاظ نوعان: أحدهما ما معناه مفرد كلفظ الأسد والحمار والبحر والكلب فهذا إذا قيل أسد الله وأسد رسوله، أو قيل للبليد حمار أو قيل للعالم أو السخي أو الجواد من الخيل بحر أو قيل للأسد كلب فهذا مجاز ثم إن قرنت به قرينة تبين المراد { كقول النبي ﷺ لفرس، أبي طلحة: إن وجدناه لبحرا }، وقوله: { إن خالدا سيف من سيوف الله سله الله على المشركين }، وقوله لعثمان: { إن الله قمصك قميصا } وقول ابن عباس: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه وصافحه فكأنما بايع ربه، أو كما قال، ونحو ذلك فهنا اللفظ فيه تجوز وإن كان قد ظهر من اللفظ مراد صاحبه وهو محمول على هذا الظاهر في استعمال هذا المتكلم لا على الظاهر في الوضع الأول، وكل من سمع هذا القول علم المراد به وسبق ذلك إلى ذهنه بل أحال إرادة المعنى الأول، وهذا يوجب أن يكون نصا لا محتملا، وليس حمل اللفظ على هذا المعنى من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح في شيء، وهذا أحد مثارات غلط الغالطين في هذا الباب حيث يتوهم أن المعنى المفهوم من هذا اللفظ مخالف للظاهر وأن اللفظ يؤول، النوع الثاني: من الألفاظ ما في معناه إضافة إما بأن يكون المعنى إضافة محضة كالعلو والسفول وفوق وتحت ونحو ذلك، أو أن يكون معنى ثبوتيا فيه إضافة كالعلم والحب والقدرة والعجز والسمع والبصر، فهذا النوع من الألفاظ لا يمكن أن يوجد له معنى مفرد بحسب بعض موارده لوجهين: أحدهما: أنه لم يستعمل مفردا قط، الثاني: أن ذلك يلزم منه الاشتراك أو المجاز بل يجعل حقيقة في القدر المشترك بين موارده وما نحن فيه من هذا الباب فإن لفظ استوى لم تستعمله العرب في خصوص جلوس الآدمي مثلا على سريره حقيقة حتى يصير في غيره مجازا كما أن لفظ العلم لم تستعمله العرب في خصوص جلوس الآدمي مثلا على سريره حقيقة حتى يصير في غيره مجازا كما أن لفظ العلم لم تستعمله العرب في خصوص العرض القائم بقلب البشر المنقسم إلى ضروري ونظري حقيقة واستعملته في غيره مجازا بل هذا المعنى تارة يستعمل بلا تعدية كما في قوله تعالى: { ولما بلغ أشده واستوى } وتارة يعدى بحرف الغاية كقوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء } وتارة يعدى بحرف الاستعلاء، ثم هذا تارة يكون صفة لله وتارة يكون صفة لخلقه، فلا يجب أن يجعل في أحد الموضعين حقيقة وفي الآخر مجازا، ولا يجوز أن يفهم من استواء الله تعالى الخاصية التي تثبت للمخلوق دون الخالق، كما في قوله تعالى { والسماء بنينها بأيد } وقوله تعالى { مما عملت أيدينا } وقوله تعالى { صنع الله الذي أتقن كل شيء }، وقوله تعالى { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر }، { وكتبنا له في الألواح } فهل يستحل مسلم أن يثبت لربه خاصية الآدمي الباني الصانع العامل الكاتب، أم يستحل أن ينفي عنه حقيقة العمل والبناء كما يختص به ويليق بجلاله، أم يستحل أن يقول هذه الألفاظ مصروفة عن ظاهرها، أم الذي يجب أن يقول عمل كل أحد بحسبه فكما أن ذاته ليست مثل ذوات خلقه فعمله وصنعه وبناؤه ليس مثل عملهم وصنعهم وبنائهم، ونحن لم نفهم من قولنا بنى فلان وكتب فلان ما في عمله من المعالجة والتأثير إلا من جهة علمنا بحال الباني لا من جهة مجرد اللفظ، ففرق أصلحك الله بين ما دل مجرد اللفظ الذي هو لفظ الفعل وما يدل عليه بخصوص إضافته إلى الفاعل المعين، وبهذا ينكشف لك كثير مما يشكل على كثير من الناس وترى مواقع اللبس في كثير من هذا الباب، والله يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويجمع قلوبنا على دينه الذي ارتضاه لنفسه وبعث به رسوله ﷺ

فصل وهذا الذي ذكرناه من أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، هو المنصوص عن الأئمة والسلف، وهو الموافق للكتاب والسنة، فأما نصوصهم التي فيها بيان أن كلامه ليس مجرد الحروف والأصوات، بل المعنى أيضا من كلامهم فكثير من كلام أحمد وغيره مثل ما ذكر الخلال في كتاب السنة عن الأثرم وإبراهيم بن الحارث العبادي أنه دخل على أبي عبد الله الأثرم وعباس بن عبد العظيم العنبري فابتدأ عباس فقال: يا أبا عبد الله قوم قد حدثوا يقولون لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، هؤلاء أضر من الجهمية على الناس، ويلكم فإن لم تقولوا ليس بمخلوق فقولوا مخلوق، فقال أبو عبد الله: قوم سوء، فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد الله فقال الذي أعتقده وأذهب إليه ولا أشك فيه أن القرآن غير مخلوق، ثم قال سبحان الله من يشك في هذا، ثم تكلم أبو عبد الله مستعظما للشك في ذلك فقال: سبحان الله في هذا شك قال الله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } ففرق بين الخلق والأمر، قال أبو عبد الله فالقرآن من علم الله ألا تراه يقول علم القرآن والقرآن فيه أسماء الله عز وجل أي شيء يقولون لا يقولون أسماء الله غير مخلوقة، ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر، لم يزل الله تعالى قديرا عليما عزيزا حكيما سميعا بصيرا، لسنا نشك أن أسماء الله ليست بمخلوقة، ولسنا نشك أن علم الله ليس مخلوق وهو كلام الله ولم يزل الله متكلما .

الفصل الثاني في كونه متكلما وإثبات قدم كلامه فالدليل حصول الاتفاق على أنه آمرنا مخبر لا يخلو إما أن يكون أمره ونهيه عبارة عن مجرد الألفاظ أو لا يكون كذلك، والأول باطل لأن اللفظة الموضوعة للأمر قد كان من الجائز أن يضع اللفظة التي وضعها لأن إفادة معنى الأمر لإفادة معنى الخبر وبالعكس، فإذن كون اللفظة المعينة أمرا أو نهيا أو خبرا إنما كان لدلالته على ماهية الطلب والزجر والحكم، وهذه الماهيات ليست أمورا وصفية لأنا نعلم بالضرورة أن السواد لا ينقلب بياضا أو غيره وبالعكس، وكذلك ماهية الطلب لا تنقلب ماهية الزجر ولا الزجر منها ماهية الحكم، وإذا ثبت ذلك فنقول لما كان الله تعالى آمرا ناهيا مخبرا وثبت أن ذلك لا يتحقق إلا إذا كان الله موصوفا بطلب وزجر وحكم، فهذه الأمور الثلاثة ظاهرا أنها ليست عبارة عن العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والبقاء بل الذي يشتبه الحال فيه، أما في الطلب والزجر فهي الإرادة والكراهية وأما في الحكم وهو العلم، والأول باطل لما ثبت في خلق الأعمال وإرادة الكائنات أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد، فموجب أن يكون معنى افعل ولا تفعل في حق الله شيئا سوى الإرادة وذلك هو المعنى بالكلام، والثاني باطل لأنه في الشاهد قد يحكم الإنسان بما لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه فإذن الحكم الذهني في الشاهد مغاير لهذه الأمور، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب قال فثبت أن أمر الله ونهيه وخبره صفات حقيقية قائمة بذاته مغايرة لذاته وعلمه، وأن الألفاظ الواردة في الكتب المنزلة دليل عليها، وإذا ثبت ذلك وجب القطع بقدمها لأن الأمة على قولين في هذه المسألة منهم من نفى كون الله موصوفا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى، ومنهم من أثبت ذلك وكل من أثبته موصوفا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة فلو أثبت كونه تعالى موصوفا بهذه الصفات ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وهو باطل، ثم أورد على نفسه أسئلة منها مما نعاه تارة في

إثبات هذه المعاني لله وتارة في قدمها وقال ومنها لا يجوز أن يكون المرجع بالحكم الذي هو معنى الخبر إلى كونه عالما بذلك ولئن سلمنا كونه تعالى موصوفا بالأمر والنهي والخبر على الوجه الذي ذكرتموه لكن لم قلتم إن تلك المعاني قديمة بقولكم كل من أثبت هذه المعاني، أثبتها قديمة قلت القول في إثباتها مسألة، والقول في قدمها مسألة أخرى، فلو لزم من ثبوت إحدى المسألتين ثبوت المسألة الأخرى لزم من إثبات كونه تعالى عالما بعلم قديم إثبات كونه تعالى متكلما بكلام قديم، وإذا كان ذلك باطلا فكذا ما ذكرتموه، ثم لئن سلمنا أن هذا النوع من الإجماع يقتضي قدم كلام الله لكنه معارض بنوع آخر من الإجماع وهو أن أحدا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقا للإجماع، ثم ذكر معارضات المخالف بوجوه عقلية ونقلية تسعة، وقال في الجواب قوله سلمنا أن خبر الله دليل على أن الله حكم بنسبة أمر إلى أمر لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الحكم هو العلم، قلنا هذا باطل لوجهين: أما أولا: فلأن القائل في هذه المسألة قائلان، قائل يقول نثبت لله تعالى خبرا قديما ونثبت كونه مغايرا للعلم، وقائل لا نثبت له خبرا قديما أصلا فلو قلنا إن الله له خبر قديم ثم قلنا إنه هو العلم، كان ذلك خرقا للإجماع، وأما ثانيا: فلأنا بينا في أول الاستدلال أن فائدة الخبر في الشاهد ليست هي الظن والعلم والاعتقاد، وإذا بطل ذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب، كذلك لانعقاد الإجماع على أن فائدة الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب قوله سلمنا ثبوت هذه الألفاظ لله فلم قلتم إنها قديمة، قلنا للإجماع المذكور قوله لو لزم من القول بإثبات هذه الصفة لله إثبات قدمها لأن كل من قال بالأول قال بالثاني لزم من القول بإثبات العلم القديم إثبات الكلام القديم لأن كل من قال بالأول قال بالثاني، قلنا الفرق بين الموضعين مذكور في المحصول في علم الأصول، فإن المعتزلة يساعدوننا على الفرق بين الموضعين فلا يكون قوله إثبات قدم كلام الله بهذه الطريق على خلاف الإجماع، قلنا قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقا للإجماع، وقال في الجواب عن المعارضة، وأما المعارضة الخامسة وما بعدها من الوجوه السمعية فالجواب عنها حرف واحد، وهو أنا لا ننازع في إطلاق لفظ القرآن وكلام الله على هذه الحروف والأصوات وما ذكروه من الأدلة فهو إنما يفيد حدوث القرآن بهذا التفسير وذلك متفق عليه، وإنما نحن بعد ذلك ندعي صفة قائمة بذات الله تعالى وندعي قدمها، وقد بينا أن تلك الصفة يستحيل وصفها بكونها عربية وعجمية ومحكمة ومتشابهة، لأن كل ذلك من صفات الكلام الذي حاولوا إثبات حدوثه فنحن لا ننازعهم في حدوثه، والكلام الذي ندعي قدمه لا يجري فيه ما ذكروه من الأدلة وروى الخلال عن أبي عبيد قال: وقد قال رجل ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي أفليس يدلك على أن هذا مخلوق، قال أبو عبيد: إنما قال ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي، فأخبر الله أن السماء والأرض أعظم من خلقه، وأخبر أن آية الكرسي التي هي من صفاته أعظم من هذا العظيم المخلوق، وروي عن أحمد بن القاسم قال قال أبو عبد الله هذا الحديث { ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم } فقلت لهم إن الخلق هاهنا وقع على السماء والأرض وهذه الأشياء لا على القرآن لأنه قال: ما خلق الله من سماء ولا أرض، فلم يذكر خلق القرآن هاهنا، وقال البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال الحميدي حدثنا سفيان حدثنا حصين عن مسلم بن صبيح عن تستر بن شكل عن عبد الله قال { ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار أعظم من: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } }، قال سفيان تفسيره إن كل شيء مخلوق والقرآن ليس بمخلوق وكلامه أعظم من خلقه لأنه إنما يقول للشيء كن فيكون فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله، وأما تأويلهم أن السلف امتنعوا من لفظ الخلق لدلالته على الافتراء فألفاظ السلف منقولة عنهم بالتواتر عن نحو خمسمائة من السلف كلها تصرح بأنهم أنكروا الخلق الذي تعنيه الجهمية من كونه مصنوعا في بعض الأجسام، كما أنهم سألوا جعفر بن محمد عن القرآن هل هو خالق أو هو مخلوق، فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله، ومثل قول علي رضي الله عنه لما قيل له حكمت مخلوقا فقال ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن، وأمثال ذلك مما يطول ذكره، والمقصود هنا أن السلف اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي أجمع عليه السلف ليس معناه ما قالته المعتزلة ولا ما قالته الكلابية، وهذا الرازي ادعى الإجماع وإجماع السلف ينافي ما ادعاه من الإجماع، فإن أحدا من السلف لم يقل هذا ولا هذا فضلا عن أن يكون إجماعا، ويكفي أن يكون اعتصامه في هذا الأصل العظيم بدعوى إجماع والإجماع المحقق على خلافه، فلو كان فيه خلاف لم تصح الحجة فكيف إذا كان الإجماع المحقق السلفي على خلافه، الوجه الثالث: إن الرجل قد أقر أنه لا نزاع بينهم وبين المعتزلة من جهة المعنى في خلق الكلام بالمعنى الذي يقوله المعتزلة، وإنما النزاع لفظي حيث إن المعتزلة سمت ذلك

المخلوق كلام الله وهم لم يسموه كلام الله، ومن المعلوم بالاضطرار أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم لما ابتدعت القول بأن القرآن مخلوق أو بأن كلام الله مخلوق أنكر ذلك عليهم سلف الأمة وأئمتها وقالوا القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فلو كان ما وصفته المعتزلة بأنه مخلوق هو مخلوق عندهم أيضا وإنما خالفوهم في تسمية كلام الله أو في إطلاق اللفظ لم تحصل هذه المخالفة العظيمة والتكفير العظيم بمجرد نزاع لفظي كما قال هو إن الأمر في ذلك يسير وليس هو مما يستحق الإطناب لأنه بحث لغوي وليس هو من الأمور المعقولة المعنوية، فإذا كانت المعتزلة فيما أطلقته لم تنازع إلا في بحث لغوي، لم يجب تكفيرهم وتضليلهم وهجرانهم بذلك كما أنه هو وأصحابه لا يضللونهم في تأويل ذلك وإن نازعوهم في لفظه ومجرد النزاع اللفظي لا يكون كفرا ولا ضلالا في الدين، الوجه الرابع: أنه قد استخف بالبحث في مسمى المتكلم وقال إنه ليس مما يستحق الإطناب لأنه بحث لغوي، وهذا غاية الجهل بأصل هذه المسألة، وذلك أن هذه المسألة هي سمعية كما قد ذكر هو ذلك فإنه إنما أثبت ذلك بالنقل، المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام أن الله يتكلم، ولهذا لما قال له المنازع إثبات كونه متكلما أمرا ناهيا مخبرا بالإجماع لا يصح لتنازعهم في معنى الكلام ( أجاب ) بأنا نثبتها بالنقل المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام أنهم كانوا يقولون إن الله أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا وقال كذا وتكلم بكذا، وبأنا نثبتها أيضا بالإجماع كما قرروه، وإذا كان أصل هذه المسألة هو الاستدلال بالنقل المتواتر وبالإجماع على أن الله متكلم آمر ناه كان العلم بمعنى المتكلم الآمر الناهي هل هو الذي قام به الكلام كالأمر والنهي والخبر أو هو من فعله ولو في غيره هو أحد مقدمتي دليل المسألة التي لا تتم إلا به، فإنه إذا جاز أن يكون القائل الآمر الناهي المخبر لم يقم به كلام ولا أمر ولا نهي ولا خبر بطلت حجة أهل الإثبات في المسألة من كل وجه فالإطناب في هذا الأصل هو أهم ما في هذه المسألة بل ليس في المسألة أصل أهم من هذا وبهذا الأصل كفر الأئمة الجهمية لأنهم علموا أن المتكلم هو الذي يقوم به الكلام وأن ذلك معلوم بالضرورة من الشرع والعقل واللغة عند الخاصة والعامة، وليس هذا بحثا لفظيا لغويا كما زعمه بل هو بحث عقلي معنوي شرعي مع كونه أيضا لغويا كما نذكره في الوجه الخامس: وذلك أن كون المتكلم هو الذي يقوم به الكلام أو لا يقوم به الكلام، وكون الحي يكون متكلما بكلام يقوم بغيره هو مثل كونه حيا عالما وقادرا وسميعا وبصيرا ومريدا بصفات تقوم بغيره، وكون الحي العليم القدير لا تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة، وهذه كلها بحوث معقولة معنوية لا تخص بلغة بل تشترك فيها الأمم كلهم، وهي أيضا داخلة فيما أخبرت به الرسل عن الله، فإن ثبوت حكم الصفة للمحل الذي تقوم به الصفة أو لغيره أمر معقول يعلم بالعقل، فعلم أنه مقام عقلي وهو مقام له سمعي، ولهذا يبحث معهم في سائر الصفات كالعلم والقدرة بأن الحي لا يكون عليما قديرا إلا بما يقوم به من الحياة والعلم، الوجه السادس: إنه لولا ثبوت هذا المقام لما أمكنه أن يثبت قيام معنى الأمر والنهي والخبر لأنه قرر بالإجماع أن الله آمر وناه ومخبر وأن ذلك ليس هو اللفظ بل هو معنى هو الطلب والزجر والحكم، وهذه المعاني سواء كانت هي الإرادة والعلم أو غير ذلك يقال له لا نسلم أنها قائمة بذات الله إن لم يثبت أن الآمر الناهي المخبر هو من قام به معنى الأمر والنهي والخبر، بل يمكن أن يقال فيها ما يقوله المعتزلة في الإرادة والعلم أما أن يقولوا يقوم بغير محل، أو يقولوا كونه آمرا ومخبرا مثل كونه عالما وذلك حال أو صفة، فإنه إذا جاز أن يكون الآمر والمخبر لم يقم به خبر ولا أمر لم يمكنه ثبوت هذه المعاني قائمة بذات الله، بل يقال له هب أن لها معاني وراء الألفاظ ووراء هذه لكن لم قلت أن الآمر الناهي هو من قام به تلك المعاني دون أن يكون من فعل تلك المعاني، الوجه السابع: إنه عدل عن الطريقة المشهورة لأصحابه في هذا الأصل فإنهم يثبتون أن المتكلم من قام به الكلام، وأن معنى الكلام هو الطلب والزجر والحكم ثم يقولون: ولا يجوز أن يكون ذلك حادثا في غيره لا في ذاته لأن ذاته لا تكون محلا للحوادث وبذلك أثبتوا قدم الكلام فقالوا لو كان محدثا لكان إما أن يحدثه في نفسه فيكون محلا للحوادث وهو محال أو غيره فيكون كلاما لذلك المحل أو لا في محل فيلزم قيام الصفة بنفسها وهو محال وإنما عدل عنها لأنه قد بين أنه لم يقم دليل على أن قيام الحوادث به محال بل ذلك لازم لجميع الطوائف ومن المعلوم أنه إذا جوز قيام الحوادث به بطل قول أصحابه في هذه المسألة وامتنع أن يقال هو قديم لأنه إذا ثبت أن المتكلم هو من قام به الكلام أو أثبت أن الله آمر ناه مخبر بمعنى يقوم به لا بغيره فإذا جاز أن يكون حادثا ويكون صفة لله كما يقوله من يقول إن الله يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كما يقوله جماهير أهل الحديث والفقهاء وطوائف من أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم لم يجز أن يحكم بقدمه بلا دليل إلا كما يقوله من يقول من أئمة السنة إن الله لم يزل متكلما إذا شاء فيريدون أنه لم يزل متصفا بأنه متكلم إذا شاء وهو لا يقول بذلك فتبين أن الأصل الذي قرره يبطل قول المعتزلة، وقول أصحابه، ولا ينفع حينئذ احتجاجه باجتماع هاتين الطائفتين إذ ليس ذلك إجماع الأمة، الوجه الثامن: إنه لما عارض، الإجماع الذي ادعاه بنوع آخر من الإجماع وهو أن أحدا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقا للإجماع أجاب بأنا قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقا للإجماع فيقال له هذا إذا كان قد استدل بدليل آخر منضما إلى دليل أهل

الإجماع فإن ذلك لا يستلزم تخطئة أهل الإجماع وأما إذا بطل معتمد أهل الإجماع ودليلهم وذكر دليلا آخر كان هذا تخطئة منه لأهل الإجماع والأمر هنا كذلك لأن الذين قالوا بقدمها إنما قالوا ذلك لامتناع قيام الحوادث به عندهم والذين قالوا بخلقها قالوا ذلك لامتناع قيام الصفات به وعنده كلا الحجتين باطلة وهو احتج بإجماع الطائفتين وقد أقر بأن حجة كل منهما باطلة فلزم إجماعهم على باطل، الوجه التاسع: أنه إذا لم يكن في المسألة دليل قطعي سوى ما ذكره ولم يستدل به أحد قبله لم يكن أحد قد علم الحق في هذه المسألة قبله وذلك حكم على الأمة قبله بعدم علم الحق في هذه المسألة وذلك يستلزم أمرين أحدهما إجماع الأمة على ضلالة في هذا الأصل والثاني عدم صحة احتجاج بإجماعهم الذي احتج به فإنهم إذا قالوا بلا علم ولا دليل لزم هذان المحذوران، الوجه العاشر: أن هذا إجماع مركب كالاستدلال على قدم الكلام بقدم العلم وتفريقه بينهما فرق صوري وقوله للمعتزلة نسلم ذلك ليس كذلك وذلك أن الأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث والمعتزلة توافق على ذلك وقد اعتقد هو أن هذه المسألة من ذلك وإذا اختلفت في مسألتين على قولين فهل يجوز لمن بعدهم أن يقول بقول طائفة في مسألة وبقول طائفة أخرى في مسألة أخرى بناء على المنع في الأولى على قولين وقيل بالتفصيل وهو أنه اتحد مأخذهما لم يجز الفرق وإلا جاز وقيل إن صرح أهل الإجماع بالتسوية لم يجز الفرق وإلا جاز واذا كان كذلك فهذه المسألة من هذا القسم فإن النزاع في مسألة الكلام في مسائل كل واحدة غير مستلزمة للأخرى، إحداهن: إن الكلام هل هو قائم به أم لا، والثانية: الكلام هل هو الحروف والأصوات أو المعاني أو مجموعهما، والثالثة: إن القائم هل يجب أن يكون لازما له قديما أو يتكلم إذا شاء، والرابعة: إن المعاني هل هي من جنس العلم والإرادة أو جنس آخر، الخامسة: إن المعاني هل هي معنى واحد أو خمس معان أو معان كثيرة وهذا كله فيه نزاع فكيف يعتقد أن هذا هو اختلاف الأمة في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث ومما يوضح ذلك أنه أثبت بالدليل أن معنى الكلام الطلب والزجر والحكم ثم احتج بقول الذين قالوا هذا على أن هذه المعاني قديمة لكونهم قالوا بهذا وبهذا وهذا بعينه احتجاج بالإجماع المركب وهو لزوم موافقتهم في مسألة قد قام عليها الدليل لموافقتهم في مسألة لم يقم عليها دليل وأولئك قالوا هو محدث وليس هو هذه المعاني فلم لا يجوز أن يوافق هؤلاء في الحروف وهؤلاء في هذا المعاني وهو في بنائه خاصة مذهب الأشعري على هذا الأصل بمنزلة الرافضة في بنائهم لإمامة علي التي هي خاصة مذهبهم على نظر هذا الأصل ومعلوم أن خاصة مذهب الأشعري وابن كلاب التي تميز بها هو ما ادعاه من أن كلام الله معنى واحد قديم قائم بنفسه إذ ما سوى ذلك من المقالات في الأصول هما مسبوقان إليه إما من أهل الحديث وإما من أهل الكلام كما أن خاصة مذهب الرافضة الإمامية من الاثنا عشرية ونحوهم هو إثبات الإمام المعصوم وادعاء ثبوت إمامة علي بالنص عليه ثم على غيره واحدا بعد واحد وهم وإن كانوا يدعون في ذلك نقلا متواترا بينهم فقد علموا أن جميع الأمة تنكر ذلك وتقول إنها تعلم بالضرورة وبأدلة كثيرة بطلان ما ادعوه من النقل وبطلان كونه صحيحا من جهة الآحاد فضلا عن التواتر، وقد علم متكلمو الإمامية أنه لا يقوم على أحد حجة بما يدعونه من التواتر والإجماع فإن الشيء إذا لم يتواتر عند غيرهم لم يلزمهم اتباعه وإجماعهم الذي يسمونه إجماع الطائفة المحقة لا يصح حتى يثبت أنهم الطائفة المحقة وذلك فرع ثبوت المعصوم وهم يجعلون من أصول دينهم الذي لا يكون الرجل مؤمنا إلا به هو الإقرار بالإمام المعصوم المنتظر ويضم إلى ذلك جمهور متأخريهم الموافقين للمعتزلة التوحيد والعدل الذي ابتدعته المعتزلة فهذه ثلاثة أصول مبتدعة والأصل الرابع هو الإقرار بنبوة محمد ﷺ وهذا هو الذي وافقه فيه المسلمين والغرض هنا بيان أن هذه الحجة نظير حجة الرافضة فإنهم يقولون يجب على الله أن ينصب في كل وقت إماما معصوما لأنه لطف في التكليف واللطف على الله واجب ويحتجون على ذلك بأقيسة يذكرونها، كما ثبت هذا ونحوه أن الكلام معنى مباين للعلم والإرادة بأقيسة يذكرونها فإذا زعموا أنهم أثبتوا ذلك بالقياس العقلي ويقولون إن المعصوم يجب أن يكون معلوما بالنص إذ لا طريق إلى العلم بالعصمة إلا النص ثم يقولون ولا منصوص عليه بعد النبي ﷺ إلا علي لأنه ليس في الأمة من ادعى النص لغيره فلو لم يكن هو منصوصا عليه لزم إجماع الأمة على الباطل إذ القائل قائلان قائل بأنه منصوص عليه وقائل بأنه لا نص عليه ولا على غيره وهذا القول باطل فيما زعموا بما يذكرونه من وجوب النص عقلا فيتعين صحة القول الأول وهو أنه هو المنصوص عليه لأن الأمة إذا اجتمعت في مسألة على قولين كان أحدهما هو الحق ولم يكن الحق في ثالث فهذا نظير حجته، ولهذا لما تكلمنا على بطلان هذه الحجة لما خاطبت الرافضة وكتبت في ذلك ما يظهر به المقصود وأبطلنا ما ذكروه من الدلالة على وجوب معصوم وبينت تناقض هذا الأصل وامتناع توقف التكليف عليه وأنه يفضي إلى تكليف ما لا يطاق وخاطبت بذلك أفضل من رأيته منهم واعترف بصحة ذلك وبالإنصاف في مخاطبته وليس هذا موضع ذلك لكن المقصود والاحتجاج بالإجماع فإنا قلنا لهم لا نسلم أن أحدا من الأمة لم يدع النص على غير علي بل طوائف من أهل السنة يقولون إن خلافة أبي بكر ثبتت بالنص ثم منهم من يقول بنص جلي ومنهم من يقول بنص خفي، وأيضا فالرواندية تدعي النص على العباس، وأيضا فالمدعون للنص على علي مختلفون في أن يقال النص عنه في ولده اختلافا كثيرا فلا يمكن أن يقال إنه لم يدع أحد النص على واحد بعد واحد إلا ما ادعوه في المنتظر بل إخوانهم الشيعة يدعون دعاوى مثل دعاويهم لغير المنتظر فبطل الأصل الذي بنوا عليه إمامة المعصوم الذي يجب على أهل العصر طاعته ولو فرض أن عليا كان هو الإمام فإنه لا يجب علينا طاعة من قد مات بعينه إلا الرسول وإنما المتعلق بنا ما يدعونه من وجوب طاعتنا لهذا الحي المعصوم ولو فرض أنه لم يدع النص غيرهم فهذه الحيلة التي سلكوها في تقرير النص على علي مبنية على كذب افتروه وقياس وضعوه لنفاق ذلك الكذب فإنهم افتروا النص ثم زعموا أن ما ابتدعوه وافتروه عن العباس مع ما ادعوه من الإجماع يقتضي ثبوت هذا الذي افتروه كما أن هؤلاء ابتدعوا مقالة افتروها في كلام الله لم يسبقوا إليها ثم ادعوا أن ما ابتدعوه وافتروه عن القياس مع ما ادعوه من الإجماع يحقق هذه الفرية وعامة أصول أهل البدع والأهواء الخارجين عن الكتاب والسنة تجدها مبنية على ذلك على أنواع من القياس الذي وضعوه وهو مثل ضربوه يعارضون به ما جاءت به الرسل ونوع من الإجماع الذي يدعونه فيركبون من ذلك القياس العقلي ومن هذا الإجماع السمعي أصل دينهم، ولهذا تجد أبا المعالي وهو أحد المتأخرين إنما يعتمد فيما يدعيه من القواطع على نحو ذلك وهكذا أئمة أهل الكلام في الأهواء كأبي الحسن البصري ومشايخهم ونحوهم لا يعتمدون لا على كتاب ولا على سنة ولا على إجماع مقبول في كثير من المواضع بل يفارقون أهل الجماعة ذات الإجماع المعلوم بما يدعونه هم من الإجماع المركب كما يخالفون صرائح المعقول بما يدعونه من المعقول وكما يخالفون الكتاب والسنة اللذين هما أصل الدين ما يضعونه من أصول الدين، الوجه الحادي عشر: إن هذا الإجماع نظير الحجج الإلزامية وقد قرر في أول كتابه أنه من الأدلة الباطلة التي لا تصلح لا للنظر ولا للمناظرة وذلك أن المنازع له يقول له إنما قلت بقدمها لامتناع قيام الحوادث به فأما أن يصح هذا الأصل أو لا يصح فإن صح كان هو الحجة في المسألة ولكن قد ذكرت أنه لا يصح وإن لم يصح بطل مستند قول من يقول بالقدم وصح منع القدم على هذا التقدير وهو أن يقول لا نسلم إذا جاز أن تحله الحوادث وجوب قدم ما يقوم به وهذا منع ظاهر وذلك أنه لا فرق بين إقامة قوله بحجة إلزامية وبين إبطال قول منازعيه بحجة إلزامية، الوجه الثاني عشر: إنه لم يثبت أن معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة إلا بما ذكره في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات وذلك إنما يدل على الإرادة العامة الشاملة لكل موجود المنتفية عن كل معدوم فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وتلك الإرادة ليست هي الإرادة التي هي مدلول الأمر والنهي فإن هذه الإرادة مستلزمة للمحبة والرضا وقد فرق الله تعالى بين الإرادتين في كتابه فقال في الأولى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء }، وقال: { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم }، وقال: { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم }، وقال في الثانية: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }، وقال: { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } وقال تعالى { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } وقال تعالى: { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا }، الوجه الثالث عشر: إنه لما طولب بالفرق بين ماهية الطلب والإرادة ذكر وجهين أحدهما أن القائل قد يقول لغيره إني أريد منك الأمر الفلاني وإن كنت لا آمرك به والثاني هب أنه لم يتخلص لنا في الشاهد الفرق بين طلب الفعل وإرادته لكنا دللنا على أن لفظ افعل إذا وردت في كتاب الله فإنه لا بد وأن تكون دالة على طلب الفعل وبينا أن ذلك الطلب لا يجوز أن يكون نفس تصور الحروف ولا إرادة الفعل فلا بد أن يكون أمرا مغايرا لهما فليس كل ما لا نجد له في الشاهد نظيرا وجب نفيه غالبا ولا تعذر إثبات الإله وهذان الجوابان ضعيفان، أما الأول فقد يقال هو مستلزم للإرادة وقد يقال هو نوع خاص، من الإرادة على وجه الاستعلاء فإذا قيل أريد منك فعل هذا ولا آمرك به أي لا أستعلي عليك فإن المريد قد يكون سائلا خاضعا كإرادة العبد من ربه، وأما الثاني فيقال له إذا أثبت أن معنى الأمر في الشاهد إنما هو من جنس الإرادة كانت هذه حقيقته والحقائق لا تختلف شاهدا ولا غائبا وذلك أن كون هذه الصفة هي هذه أو مستلزمة لهذه أو غيره إنما نعلمه بما نعلمه في الشاهد، الوجه الرابع عشر: إن النهي مستلزم لكراهية المنهي عنه كما أن الأمر مستلزم لمحبة المأمور به والمكروه لا يكون مرادا فلا بد أن تكون الإرادة المنفية عن المكروه الواقع غير الإرادة اللازمة له وهذا أورده عليه في مسألة إرادة الكائنات ولم يجب عنه إلا بأن قال لا نسلم أنها مكروهة بل هي منهي عنها ومعلوم أن هذا الجواب مخالف لإجماع المسلمين بل لما علم بالضرورة من الدين ويخالف ما قرره هو في أصول الفقه وقد قال تعالى: { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها }، الوجه الخامس عشر: إن طوائف يقولون لهم معنى الخبر لم لا يجوز أن يكون هو العلم لا سيما أن كثيرا من الناس يقولون إن معنى الكلام يؤول إلى الخبر وإذا كان معنى الكلام يؤول إلى الخبر ومعنى الخبر يؤول إلى العلم كان معنى الكلام يؤول إلى العلم لكن قول من يقول إن الكلام يؤول كله إلى الخبر المحض كما يقوله طائفة منهم ابن وطائفة هو قول ضعيف فإنه وإن كان الطلب الذي هو الأمر والنهي يستلزم علما وخبرا لكن ليس هو نفس ذلك بل حقيقة الطلب يجدها الإنسان من نفسه ويعلمها بالإحساس الباطن ويجد الفرق بين ذلك وبين كونه مخبرا محضا مع أن الخبر أيضا قد يستلزم طلبا وإرادة في مواضع كثيرة لكن تلازم الخبر والطلب والعلم والإرادة لا يمنع أن يعلم أن أحدهما ليس هو الآخر فالإنسان يخبر عن الأمور التي لا تتعلق بفعله بالإثبات والنفي خبرا محضا وقد يتعلق بذلك غرض من حب وبغض وما يتبع ذلك لكن معنى قوله السماء فوقنا والأرض تحتنا خبر محض وكذلك معنى قوله محمد رسول الله خبر لكن يتبعه محبة وتعظيم وطاعة وأما معنى قوله اذهب وتعال وأطعمني واسقني ونحو ذلك فهو طلب محض ولكنه مسبوق مستلزم للعلم والشعور بذلك كالأفعال الإرادية كلها فالأمر والنهي كالأفعال الإرادية كل ذلك مستلزم لما يقوم بالنفس من حب وطلب وإرادة وما يتبع ذلك من بغض وكراهة والخبر مستلزم للعلم والعلم يستلزم الحب والبغض والعمل أيضا في عامة الأمور ولهذا يختلط باب الإنشاء بباب الإخبار لتلازم النوعين حيث تلازما ولهذا تستعمل صيغة الخبر في الطلب كثيرا كما تستعمل في الدعاء في باب غفر الله لفلان ويغفر الله له وفي الأمر ومثل: { والمطلقات يتربصن } وذلك أكثر من استعمال صيغة الطلب في الخبر المحض كما قد قيل إن كان من هذا الباب في قوله تعالى { من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } { وإذا لم تستح فاصنع ما شئت } وذلك لأن المعنيين متلازمان في الأمر العام فإذا استعمل صيغة الخبر في الطلب فإنما استعمل في لازمه وجعل اللازم لقوة الطلب له والإرادة كأنه موجود محقق مخبر عنه فكان هذا طلبا مؤكدا، ولهذا يكثر ذلك في الدعاء الذي يجتهد فيه الداعي وهذا حسن في الكلام أما إذا استعمل صيغة الخبر في الأمر المحض فالأمر فيه الطلب المستلزم للعلم الذي هو بمعنى الخبر فإذا لم يفد إلا معنى الخبر فإنه يكون قد سلب معناه الذي هو الطلب ونقص ذلك ولم يبق فيه شيء من معناه وذلك لأن العلم الذي يستلزم الطلب والإرادة هو تصور المطلوب ليس هو العلم بوقوعه أو عدم وقوعه فإذا استعمل اللفظ في الإخبار عن وقوع المطلوب أو عدم وقوعه كان قد استعمل في شيء ليس من معنى اللفظ ولا من لوازمه ولهذا قال من قال من أهل التحقيق أن استعمال صيغة الأمر في الخبر لم يقع لأنه ليس على ذلك شاهد والقياس يأباه لأنه استعمال للفظ في شيء ليس من لوازم معناه ولا من ملزوماته فهو أجنبي عنه وما ذكره من الآية والحديث فليس المراد به الخبر بل الآية على ظاهرها ومن كان في الضلالة فالله مسئول مدعو بأن يمد له من العذاب مدا وإن كان سبحانه هو المتكلم بطلب نفسه ودعاء نفسه كما في الدعاء الذي يدعو به وهو صلاته ولعنته كما قال { إن الله وملائكته يصلون على النبي } وقوله { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } فإن صلاته تتضمن ثناءه ودعاءه سبحانه وتعالى فإن طلب الطالب من نفسه أمر ممكن في حق الخالق والمخلوق كأمر الإنسان لنفسه كما قال { إن النفس لأمارة بالسوء } وقد يقال من ذلك قوله { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } وهذا القول قد أورده الرازي سؤالا في مسألة واحدة الكلام كما تقدم لفظه في ذلك وأجاب عنه بما ذكره من قوله ليس هذا بشيء لأن حقيقة الطلب كحقيقة حكم الذهن بنسبة أمر إلى أمر وتلك المغايرة معلومة بالضرورة ولهذا يتطرق التصديق والتكذيب إلى أحدهما دون الآخر وهذا الذي ذكره من الفرق صحيح كما ذكرناه ونحن إنما ذكرناه لتوكيد الوجه الأول وهو المقصود هنا وهو أن يقال إن معنى الخبر هو العلم وبأنه من الاعتقاد ونحو ذلك فإن هذا قاله طوائف بل أكثر الناس بل عامة الناس يقولون ذلك ولا نجد الناس في نفوسهم شيئا غير ذلك يكون معنى الخبر، وكون معنى الخبر هو العلم أو نوع منه أظهر من كون الطلب هو الإرادة أو نوعها منها لأنه هناك أمكنهم دعوى الفرق بأن الله قد أمر بمأمورات وهو لم يرد وجودها كما أمر به من لم يطعه وهذا متفق عليه بين أهل الإثبات وإنما تنازع فيه القدرية، ثم كون الأمر مستلزما لإرادة ليست هي إرادة الوقوع كلام آخر وأما هنا فلم يمكنهم أن يقولوا إن الله أخبر بما لا يعلمه أو بما يعلم ضده بل علمه من لوازم خبره سواء كان هو معنى الخبر أو لازما لمعنى الخبر ولهذا أخبر الله بأن القرآن لما جاءه جاءه العلم فقال { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } وقال: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } وهذا مما احتج به الأئمة في تكفير من قال بخلق القرآن وقالوا قولهم يستلزم أن يكون علم الله مخلوقا لأن الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم ولم يعن علم غيره فلا بد أن يكون عنى أنه من علمه، ومن جعل علم الله مخلوقا قائما بغيره فهو كافر ولا ريب أن كل واحد من أمر الله وخبره يتضمن علمه سبحانه كما تقدم لكن أمره فيه الطلب الذي وقع التنازع فيه هل هو حقيقة غير الإرادة أو هو مستلزم لنوع من الإرادة أو هو نوع منها أو هو الإرادة وهذا ليس العلم وأما الخبر فلا ريب أنه متضمن لعلم الله ولا يمكن أن يتنازع في كون معنى خبر الله يوجد بدون علمه فظهر الأمر في هذا الباب ولهذا لم يكن لهم حجة على ذلك إلا ما ادعاه من إمكان وجود معنى خبر بدون العلم والاعتقاد والظن في حق المخلوق وهو الخبر الكاذب فقدروا أن الإنسان يخبر بخبر هو فيه كاذب وذلك يكون مع علمه بخلاف المخبر كما قدروا أن يأمر آمر امتحانا بما لا يريده ثم ادعوا أن هذا الخبر له حكم ذهني في النفس غير العلم كما أن ذلك الأمر له طلب نفساني في النفس غير الإرادة، وهذه الحجة قد نوزعوا في صحتها نزاعا عظيما ليست هي مثل ما أمكن إثباته في حق الله من وجود آمر لم يرد وقوع مأموره، الوجه السادس عشر: إن هذه الحجة التي ذكروها في معنى الخبر وإنه غير العلم قد أقروا هم أيضا بفسادها فإنه قد تقدم لفظ الرازي في هذه الحجة بقوله وأما شبيه معنى الأمر والنهي، بالإرادة والكراهة ومعنى الخبر بالعلم والأول باطل لما ثبت في خلق الأفعال وإرادة الكائنات أن الله قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد فوجب أن يكون معنى افعل ولا تفعل في حق الله شيئا سوى الإرادة وذلك هو معنى الكلام والثاني باطل لأنه في الشاهد قد يحكم الإنسان بما لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه فإذن الحكم الذهني في الشاهد مغاير لهذه الأمور، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب وهذا هو الأصل الذي اعتمد عليه في محصوله أيضا حيث جعل معنى الخبر هو الحكم الذهني الذي انفردوا بإثباته دون سائر العقلاء وأما أبو المعالي ونحوه فلم يذكروا دليلا على إثبات كلام النفس سوى ما دل على ثبوت الطلب الذي ادعوا أنه مغاير للإرادة وذاك إن دل فإنما يدل على أن معنى الأمر غير الإرادة لا يدل على أن معنى الخبر غير العلم لكن استدل على ثبوت التصديق النفساني بأنه مدلول المعجزة ولم يبين أنه غير العلم فيقال لهم أنتم مصرحون بنقيض هذا وهو أنه يمتنع ثبوت الحكم الذهني على خلاف العلم وأنه إن جاز وجوده فليس هو كلاما على التحقيق وإذا انقسم وجوده هذا الحكم الذهني المخالف للعلم أو كونه كلاما على التحقيق امتنع منكم حينئذ إثبات وجوده ودعوى أنه هو الكلام على التحقيق وذلك أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله وامتناع الجهل وهذا الدليل قد ذكره جمع أئمتهم حتى الرازي ذكره لكن قال إنما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه وإذا جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه بل يعلم خلافه امتنع حينئذ أن يقال الحكم النفساني مستلزم للعلم أو أنه يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذبا، وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء ليس تناقضا من جهة اللزوم فإنهم لما أثبتوا أن معنى الخبر ليس هو العلم أثبتوا حكما نفسانيا ينافي العلم فيكون كذبا ويكون مع عدم العلم ولما أثبتوا الصدق قالوا إن معنى الخبر الذي هو الحكم النفساني يمتنع أن يتحقق بدون العلم أو خلافه فيمتنع أن يكون كذبا

الوجه السابع والعشرون: أن يقال لا ريب أنه قد اشتهر عند العامة والخاصة اتفاق السلف، على أن القرآن كلام الله وأنهم أنكروا على من جعله مخلوقا خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات من السماء والأرض كما يقوله الجهمية، حتى قال علي بن عاصم لرجل أتدري ما يريدون بقولهم القرآن مخلوق يريدون أن الله تعالى لا يتكلم وما الذين قالوا إن لله ولدا بأكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم لأن الذين قالوا لله ولد شبهوه بالأحياء والذين قالوا لا يتكلم شبهوه بالجمادات وأنتم فلا ريب أن كلما يقول هؤلاء إنه مخلوق، لا تنازعونهم في أن الكلام الذي يقولون هو مخلوق بل تقولون أنتم أيضا إنه مخلوق، فالذي قال هؤلاء إنه مخلوق إما أن يكون مخلوقا أو لا يكون فإن لم يكن مخلوقا كنتم أنتم وهم ضالين حيث حكمتم جميعا بخلقه وإن كان مخلوقا لم يجز ذم من قال إنه مخلوق ولا عيبه بذلك ولا يقال إنه جعل كلام الله الذي ليس بمخلوق مخلوقا، ولا أنه جعل كلام الله في المخلوق ولا أنه جعل الشجرة هي القائلة إنني أنا الله، ونحو ذلك من الأقوال التي وصف بها السلف مذهب الجهمية كما قال عبد الله بن المبارك من قال إنني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوق فهو كافر، ولا ينبغي، لمخلوق أن يقول ذلك، وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال أنا ربكم الأعلى ومن يزعم أن هذا مخلوق وقول { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } فقد ادعى ما ادعى فرعون فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار، من هذا وكلامهما عنده مخلوق ووافقه أبو عبيد على مثل هذا واستحسنه وغاية ما يعاب به عندكم أنه نفى عن الله معنى آخر يثبتونه له، ذلك المعنى أكثر الناس لا يتصورونه لا المعتزلة ولا غيرهم فضلا عن أن يحكموا عليه بأنه مخلوق وذلك المعنى لا يتصور أن يقوم بالشجرة ولا غيرها، حتى تكون الشجرة هي القائلة له، والسلف لم يعيبوهم بهذا، ولا قالوا لهم ما ذكرتم أنه مخلوق فهو مخلوق، لكن ثم معنى آخر ليس بمخلوق، ولا قالوا هذا الذي قلتم إنه مخلوق هو مخلوق، لكنه ليس هو بكلام الله ولا نحو ذلك فإن كان هذا الذي قالوا هو مخلوق هو مخلوق، كما قالوا ليس هو كلام الله، وإنما كلام الله معنى آخر فلا ريب أن السلف مخطئون ضالون في هذه المسألة، فأحد الأمرين لازم إما تضليلكم المعتزلة أو تضليل السلف، والثاني ممتنع، فتعين الأول يؤيد هذا، الوجه الثامن والعشرون: وهو أن الأمة إذا اختلف في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث، فإذا لم يكن في صدر الأمة إلا قول السلف وقول المعتزلة تعين أن يكون الحق في أحد القولين، ومن المعلوم بالشرع والعقل أن قول المعتزلة باطل للوجوه الكثيرة منها أن من تأمل كلام أهل الإجماع وما نقل عن الأنبياء بالتواتر علم بالاضطرار أنهم إذا وصفوا الله بالكلام وصفوه بأنه هو يتكلم لا أن الكلام يكون مخلوقا له كالسماء والأرض وما فيهما كما يقولون كلام الله مثل أسماء الله ويعلم بالاضطرار أن إضافة القول والكلام إلى الله ليس كإضافة الخلق إليه وأن باب قال عند الأنبياء والمؤمنين غير باب خلق، وبطلان قول المعتزلة له موضع غير هذا وإذا كان باطلا، وقولهم أيضا باطل تعين صحة مذهب السلف يؤكد هذا، الوجه التاسع والعشرون: وهو أن السلف والمعتزلة جميعا اتفقوا على أن كلام الله ليس هو مجرد هذا المعنى الذي تثبتونه أنتم بل الذي سمته المعتزلة كلام الله وقالوا إنه مخلوق وافقهم السلف على أنه كلام الله لكن قالوا إنه غير مخلوق وأنتم تقولون إنه ليس بكلام الله فكان قولكم خرقا لإجماع السلف والمعتزلة وذلك خرق لإجماع الأمة جميعها إذا لم يكن في عصر السلف إلا هذان القائلان ولم يكن في ذلك الزمان من يقول القرآن الذي قالت المعتزلة إنه مخلوق، ليس هو كلام الله .

الوجه الثلاثون: إنه لا يحل لكم أن تحكوا عن المعتزلة أنهم قالوا بخلق القرآن أو بخلق كلام الله كما يحكيه عنهم السلف وأئمة الحديث والسنة وكما يقولون هم ذلك وإن حكيتم ذلك عنهم فلا يحل لكم أن تذموهم بذلك كما ذموهم السلف به بل تمدحونهم بذلك كما يمدحون بذلك أنفسهم فلا بد لكم من مخالفة السلف والمعتزلة جميعا أو مخالفة السلف وموافقة المعتزلة، وذلك لأن الذي قالت المعتزلة إنه مخلوق فأنتم تقولون إنه مخلوق أيضا، وذلك واجب عندكم ومن قال عن ذلك إنه ليس بمخلوق فهو ضال عندكم أو كافر، ثم المعتزلة تسميه كلام الله وتقول كلام الله مخلوق، والسلف تسميه كلام الله ويقولون هو غير مخلوق، وأما أنتم فمع قولكم إنه مخلوق هل يطلق عليه كلام الله مجاز وتنفى الحقيقة كما قاله جمهوركم، أو يقال بل يسمى كلام الله على سبيل الاشتراك بينه وبين غيره، كما قاله بعضكم على قولين: فإن قلتم بالأول لزمكم أن لا تكون المعتزلة تعتقد في الحقيقة أن كلام الله مخلوق بحال، إن تلفظوا بذلك بألسنتهم فهم مخطئون في هذا اللفظ وهم بمنزلة من قال إني زنيت بأمي أو قتلت نبيا ولم يكن المزني بها أمه ولا المقتول نبيا فهو مخطئ في هذا الظن فيما يحكيه عن نفسه، لكن هذا القول يظن القائل أنه به مذموم والمعتزلة لا تذم أنفسها بذلك وإن كانت الجماعة تذمهم بذلك فنظير ذلك أن يعتقد بعض الكفار أنه قد قتل إمام المسلمين أو أخذ كتابا فمزقه يظن أنه المصحف أو قتل أقواما يظنهم علماء المسلمين وهو عند نفسه متدين بذلك ولم يكن الأمر كذلك وهكذا هم المعتزلة عندكم فإنهم قالوا في الذي اعتقدوا أنه كلام الله إنه مخلوق فقلتم أنتم لا ريب إنه مخلوق كما لا ريب في قتل أولئك النفر وتمزيق ذلك الكتاب، لكن هذا ليس كلام الله وإن اعتقدتم أنه كلام الله وأن القول بخلقه تعظيم لله كما اعتقد أولئك أن هؤلاء أئمة المسلمين وأن قتلهم عبادة لله وأن هذا المصحف هو القرآن وتمزيقه عبادة لله، وإذا كان كذلك لم يجز أن يقال إن هؤلاء قتلوا أئمة المسلمين ولا مزقوا المصحف، وإن كانوا قصدوا ذلك واعتقدوه، فكذلك لا يجوز على أصلكم أن يقال إن المعتزلة قالت إن كلام الله مخلوق وإن كانوا هم قصدوا ذلك واعتقدوه فإن الذين قالوا إنه مخلوق إن كان مجازا فلم يحكموا على ما هو كلام الله في الحقيقة بأنه مخلوق وإن كان مشتركا فهم إنما قالوا إنه مخلوق بأحد المعنيين دون الآخر، واللفظ المشترك لا يجوز إطلاقه بإرادة أحد المعنيين بل هو عند الإطلاق مجمل، فلا يقال على هذا القول بأنهم قالوا كلام الله مخلوق ولا قالوا إنه غير مخلوق، وهذا كله خلاف إجماع السلف والمعتزلة، ولم يكن قديما عندهم فهو خلاف الإجماع مطلقا، الوجه الحادي والثلاثون: إن هذا النقل عنهم إذا قيل إنه صحيح إما باعتبار وإحدى الحقيقتين أو باعتبار قصدهم فإنهم لا يذمون على القول بخلق ذلك عندكم، بل يحمدون على ذلك إذ أنتم وهم متفقون على ذلك ومن المعلوم بالاضطرار أن السلف الذين أجمع المسلمون على إمامتهم في الدين ذموهم على ذلك، فإذا أنتم ذامون للسلف الذين أجمع المسلمون على إمامتهم في الدين وأنتم عند السلف وأئمة الدين مذمومون، وأنتم بذلك من جنس الرافضة والخوارج ونحوهم ممن يقدح في سلف الأمة وأئمتها وهذا حق، فإن قول هؤلاء من فروع قول الجهمية، وقول الجهمية فيه من التنقص والسب والطعن على السلف والأئمة وعلى السنة ما ليس في قول الخوارج والروافض، فإن الخوارج يعظمون القرآن ويوجبون اتباعه وإن لم يتبعوا السنن المخالفة لظاهر القرآن وهم يقدحون في علي وعثمان ومن تولاهما وإن لم يقدحوا في أبي بكر وعمر، وأما الجهمية فإنها لا توجب بل لا تجوز اتباع القرآن في باب صفات الله كما يصرحون به، كالرازي ونحوه من المعتزلة وغيرهم فضلا عن أن يتبعوا السنن أو إجماع السلف فالجهمية أعظم قدحا في القرآن وفي السنن وفي إجماع الصحابة والتابعين من سائر أهل الأهواء، ولهذا تنازع العلماء من أصحابنا وغيرهم هل هم داخلون في الثنتين والسبعين فرقة لكن كثير من الناس يأخذون ببعض الجهم وأيضا ففيهم من لا يكفر الأمة بخلافه ولا يستحل السيف، وفيهم من قد بعدت عليهم الحجة وجهلوا أصل القول وقول الدعاة إلى الكتاب والسنة وظهور ذلك، فمن هنا كان حال فروع الجهمية قد يكون أخف من حال الخوارج وإلا فقولهم في نفسه أحنث من قول الخوارج بكثير، وإذا كان يونس بن عبيد قد قال عن المعتزلة إن فتنتهم أضر على الأمة من فتنة الأزارقة والمعتزلة جهمية ; علم أن السلف كانوا يعلمون أن الجهمية شر من الخوارج، قال الطبراني في كتب السنة: حدثنا الحسن بن علي المعمري، حدثنا محمد بن بكار العبسي حدثنا عبد العزيز الرقاشي، سمعت يونس بن عبيد يقول فتنة المعتزلة على هذه الأمة أشد من فتنة الأزارقة لأنهم يزعمون أن أصحاب رسول الله ﷺ ضلوا وأنهم لا تجوز شهادتهم بما أحدثوا، ويكذبون بالشفاعة والحوض، وينكرون عذاب القبر، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، وفروع الجهمية لا يقبلون شهادة أصحاب رسول الله ﷺ فيما رواه عن رسول الله ﷺ ولا يأتمرون بكتاب الله، وفيهم من هو في بعض المواضع شر من المعتزلة ولكن المعتزلة هم أصلهم في الجملة وفي هؤلاء من لا يرى التكفير والسيف كما تراه المعتزلة والرافضة وهو قول الخوارج، ولهذا كثيرا ما يكون أهل البدع مع القدرة يشبهون الكفار في استحلال قتل المؤمنين وتكفيرهم كما يفعله الخوارج والرافضة والمعتزلة والجهمية وفروعهم لكن فيهم من يقاتل بطائفة ممتنعة كالخوارج والزيدية ومنهم من يسعى في قتل المقدور عليه من مخالفيه إما بسلطانه وإما بحيلته ومع العجز يشبهون المنافقين يستعملون التقية والنفاق كحال المنافقين وذلك لأن البدع مشتقة من الكفر فإن المشركين وأهل الكتاب هم مع القدرة يحاربون المؤمنين ومع العجز ينافقونهم والمؤمن مشروع له مع القدرة أن يقيم دين الله بحسب الإمكان بالمحاربة وغيرها ومع العجز يمسك عما عجز عنه من الانتصار ويصبر على ما يصيبه من البلاء من غير منافقة، بل يشرع له من المداراة ومن التكلم بما يكره عليه ما جعل الله له فرجا ومخرجا ولهذا كان أهل السنة مع أهل البدعة بالعكس إذا قدروا عليهم لا يعتدون عليهم بالتكفير والقتل وغير ذلك، بل يستعملون معهم العدل الذي أمر الله به ورسوله، كما فعل عمر بن عبد العزيز بالحرورية والقدرية، وإذا جاهدوهم فكما جاهد علي رضي الله عنه الحرورية بعد الإعذار إقامة للحجة وعامة ما كانوا يستعملون معهم الهجران والمنع من الأمور التي تظهر بسببها بدعتهم، مثل ترك مخاطبتهم ومجالستهم لأن هذا هو الطريق إلى خمود بدعتهم، وإذا عجزوا عنهم لم ينافقوهم بل يصبرون على الحق الذي بعث الله به نبيه كما كان سلف المؤمنين يفعلون وكما أمرهم الله في كتابه حيث أمرهم بالصبر على الحق وأمرهم أن لا يحملهم شنآن قوم على أن لا يعدلوا .

الوجه الثاني والثلاثون: إن هذا المعنى القائم بالذات الذي زعموا أنه كلام الله وخالفوا في إثباته جميع فرق الإسلام كما يقرون هم على أنفسهم بذلك كما ذكره الرازي وغيرهم من أن إثباتهم لهذا يخالفهم فيه سائر فرق الأمة قد قال أكثرهم هو معنى واحد، وقال بعضهم هو خمسة معان: أمر ونهي وخبر واستخبار ونداء، فالأولون يقولون ذلك لمعنى هو معنى كل أمر، أمر الله به سواء كان أمر تكوين كقوله للمخلوق كن فيكون، أو كان أمر تشريع، كأمره في التوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك مما جاءت به الرسل، وهو معنى كل نهي نهى الله عنه وكل خبر أخبر الله به، والآخرون يقولون الأمر الواحد هو الأمر بالصلاة والزكاة والحج والصوم، والسبت الذي لليهود هو الأمر المنسوخ وبالناسخ وبالأقوال والأفعال والأصول والفروع وبالعربية وبالعبرانية ة وغير ذلك، وكذلك قولهم في النهي، وكذلك قولهم في الخبر هو معنى واحد هو معنى ما أخبر الله به من صفاته كآية الكرسي وسورة الإخلاص وما أخبر به من قصص الأنبياء والمؤمنين والكفار وصفة الجنة والنار، ومن المعلوم أن مجرد تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساده كما اتفق على ذلك سائر العقلاء فإن أظهر المعارف للمخلوق أن الأمر ليس هو الخبر وأن الأمر بالسبت ليس هو الأمر بالحج وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم، فمن جعل هذه الأمور كلها حقيقة واحدة وجعل الأمر والنهي إنما هي صفات عارضة لتلك الحقيقة العينية لم يجعل ذلك أقساما للكلام الكلي الذي لا يوجد في الخارج كليا، إذ ليس في الخارج كلام هو أمر بالحج وهو بعينه خبر عن جهنم كما ليس في الخارج إنسان هو بعينه فضيل وإن شملهما اسم الحيوان كما شمل ذينك اسم الكلام فمن جعل الحقائق المتنوعة شيئا واحدا فهو يشبه من جعل المكانين مكانا واحدا حتى جعل الجسم الواحد يكون في مكانين، ويقول إنما هما مكان واحد أو لا يجعل الواحد نصف الاثنين، أو يقول الاثنان هما واحد، فإن هذا كله من هذا النمط، وهو رفع التعدد في الأشياء المتعددة وجعلها شيئا واحدا في الوجود الخارجي بالعين لا بالنوع، وهؤلاء ينكرون على من يقول إن الكلام الذي تكلم الله به هو الذي يقرؤه العباد والقرآن الذي يقرؤه زيد هو القرآن الذي يقرؤه عمرو، ويقولون بل هما حقيقتان متباينتان، ومن المعلوم أن هناك قدر مشترك متحد بالعين في الوجود الخارجي وبينهما من الاتحاد الشرعي واتباع أحدهما للآخر ما ليس بين هذه الحقائق البعيدة من الاشتراك إلا في الجنس العام الذي لا وجود له في الخارج عاما فضلا عن أن يكون واحدا بالعين، وما هناك من التعدد فأحدهما تابع للآخر فهما متحدان من وجه متغايران من وجه، ولا ينكرون على أنفسهم اتحاد الحقائق المتنوعة، وهو قول يعلم فساده بالضرورة كل عاقل ولم يوافق على إطلاق القول بذلك أحد، وهناك اتفق الخلائق على أن يشيروا إلى ما يسمعونه من المبلغين ويقولون هذا كلام المبلغ عنه، فهذا المتفق عليه بين العباد الذي تطمئن إليه القلوب وجاءت بإطلاقه النصوص أنكروه، وذاك الذي ابتدعوه فلم يطلقه نص ولا قاله إمام ولا تصوره أحد إلا علم فساده بالبديهة قالوه وجعلوه هو أصل الدين .

الوجه السادس والأربعون: أن يقال لك قياسك الوحدة التي أثبتها للكلام على الوحدة التي أثبتها للمتكلم قياس للشيء على ضده لا على نظيره وذلك أنك جعلت الكلام معنى واحدا وهذا المعنى الواحد هو حقائق مختلفة هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار لم تقل أن الأمر والنهي والخبر والاستخبار صفات قائمة بالكلام كالصفات القائمة بالمتكلم ولا يمكنك أن تقول ذلك لأن الصفة لا تقوم بالصفة بل هما جميعا يقومان بالموصوف فلو قلت ذلك لكان الأمر والنهي والخبر صفات مختلفة قائمة بالله وذلك الذي فررت منه ولكن هذا يناسب قول من قال الكلام صفات والرب الواحد لم تقل أنه في نفسه شيئان بل قلت إنه ليس بذي أبعاض ولا أجزاء فكان نظير هذا أن نقول الكلام ليس بذي أبعاض ولا أجزاء وليس هو مع ذلك حقائق مختلفة فليس هو في نفسه أمرا ولا خبرا ولا استخبارا كما تقول مثل ذلك الموصوف ولعل هذا هو الذي لحظه ابن كلاب إذ كان أقدم وأحذق من الأشعري حيث لم يصف الكلام في الأزل بأنه أمر ونهي وخبر واستخبار وجعل ذلك أمورا نسبية تعرض له وهذا أقرب إلى المعقول وطرد أصولهم في قول الأشعري فإن هذا باطل فإما أن يكون الموصوف عندك واحدا بمعنى أن ليس بذي أبعاض وليس هو عندك حقائق مختلفة بل موصوفا بصفات ثم يقول الكلام هو معنى واحد ليس بذي أبعاض وهو حقائق مختلفة أمر ونهي وتقول هو في ذلك مثل الموصوف فهذا من فساد القياس والتلبيس على الناس . الوجه الرابع والستون: إنهم لم يذكروا في الجواب عما أخبر الله به عن نفسه من أن له كلمات ما له حقيقة فإنهم يقولون ليس لله كلام إلا معنى واحد لا يجوز عليه التعدد، والله سبحانه قد أخبر أن له كلمات وأن البحار لو كانت مدادها والأشجار أقلامها لما نفدت تلك الكلمات، وهذا صريح بأن لها من التعداد ما لا يأتي عليه إحصاء العباد، فكيف يقال ليس له كلمتان فصاعدا، وأما قولهم التكثير للتفخيم كقوله { إنا نحن نزلنا الذكر }، فيقال لهم هذا إنما يستعمل في المواضع التي تصرح بأن المعنى بذلك اللفظ هو واحد والله سبحانه قد بين في غير موضع أنه واحد فإذا قال: { إنا نحن نزلنا الذكر }، { إنا فتحنا } وقد علم المخاطبون أنه واحد، علم أن ذلك لم يقتض أن ثم آلهة متعددة لكن قال بعض الناس صيغة الجمع في مثل هذا دلت على كثرة معاني أسمائه وهذا مناسب وأما الكلام فلم يذكر الله قط ولا قال أحد من المسلمين قبل ابن كلاب أن كلام الله ليس إلا معنى واحدا ولا خطر هذا بقلب أحد، فكيف يقال إنه أراد بصيغة الجمع الواحد ولهذا لا يكاد يوجد هذا في صيغة التكلم في حق الله أو صيغة المخاطبة له كما قد قيل في قوله: { رب ارجعون } وأما تمثيلهم ذلك بقوله: { إن إبراهيم كان أمة } أي مثل أمة فليس كذلك بل الأمة كما فسره عبد الله بن مسعود وغيره هو معلم الخير وهو القدوة الذي يؤتم به أي يقتدى به، فأمة من الائتمام كقدوة من الاقتداء، وليس هو مستعارا من الأمة الذين هم جيل، وكذلك قوله: { ونضع الموازين القسط } وإنما هو ميزان واحد ليس كذلك بل الجمع مراد من هذا اللفظ إما لتعدد الآلات التي توزن بها أو لتعدد الأوزان وأما ما ذكروه من كثرته لكثرة المعاني التي دلت عليها العبارات عنه فهذا حق لكن إذا كانت العبارات دلت على معان كثيرة علم أن معاني العبارات لكلام الله كثيرة ليس هو معنى واحدا وهو المطلوب، الوجه الخامس والستون: إن القرآن صرح بإرادة العدد من لفظ الكلمات وبإرادة الواحد من لفظ كلمة كما في قوله تعالى: { ولولا كلمة سبقت من ربك } وقال: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } وقال: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } فبين أنها إذا كتبت بمياه البحر وأقلام الأشجار لا تنفد والنفاد الفراغ فعلم أنه يكتب بعضها ويبقى منها ما لم يكتب، وهذا صريح في أنها من الكثرة إلى أن يكتب منها ما يكتب ويبقى ما يبقى فكيف يكون إنما أراد بلفظ الكلمات كلمة واحدة لا سيما ولفظ الشجر يعم كل ما قام على ساق صلب أو غير صلب كما قال النبي ﷺ: { في الضالة ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها }، الوجه السادس والستون: إنه قد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن أبي عروبة وأبان العطار عن قتادة عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال: { إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءا من أجزاء القرآن }، فهذه التجزئة إما أن تعود إلى لفظ القرآن وإما أن تعود إلى معناه، والأول باطل لأن حروف { قل هو الله أحد } ليست بقدر حروف ثلث القرآن بل هي أقل من عشر عشر العشر بكثير، فعلم أنه أراد بالتجزئة المعنى، وذلك يقتضي أن معنى حروف القرآن متجزئة وهم قد قالوا إن كلام الله واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير ولا يختلف، ولو قيل إن التجزئة للحروف لكن لا يشترط فيها تماثل قدر الحروف بل يكون بالنظر إلى المعنى لكان ذلك حجة أيضا، فإنه إذا كان التجزئة باعتبار المعنى علم أن المعنى الذي دلت عليه هذه الحروف ليس هو معاني بقية القرآن، وروى الترمذي وغيره عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن امرأة أبي أيوب عن أبي أيوب قال قال رسول الله ﷺ: { أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن، من قرأ { قل هو الله أحد الله الصمد } فقد قرأ ثلث القرآن }، قال الترمذي هذا حديث حسن فقد أخبر أنها ثلث القرآن، فإن قيل: الحديث المتقدم قد رواه مسلم أيضا بلفظ آخر أنه { قال أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن قالوا وكيف نقرأ ثلث القرآن قال: { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن }، فقوله تعدل ثلث القرآن يبين أنها في نفسها ليست ثلثه ولكن تعدل ثلثه أي في الثواب، قلنا: لا منافاة بين اللفظين فإنها ثلثه باعتبار المعنى وهي تعدل ثلثه باعتبار الحروف أو هي بلفظها ومعناها ثلثه فتعدل ثلثه لأن ذلك اللفظ صريح في معناه وحيث قال { جزئ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل { قل هو الله أحد } جزءا من تلك الأجزاء } فأخبر أن القرآن تجزأ ثلاثة أجزاء وإنما هي جزء من تلك الأجزاء، وهذا لا يصلح أن يراد به مجرد الثواب دون السورة، ولهذا كان النبي ﷺ يجمع بين اللفظين كما في الحديث الذي رواه أبو حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: { احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد من حشد ثم خرج نبي الله ﷺ فقرأ { قل هو الله أحد } ثم دخل فقال بعضنا لبعض قال رسول الله ﷺ سأقرأ عليكم وإني لأرى هذا خبرا جاءه من السماء ثم خرج نبي الله ﷺ فقال إني قلت سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا وإنها تعدل ثلث القرآن }، قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والذي يبين أن قوله تعدل يدخل فيه حروفها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري عن قتادة بن النعمان { أن رجلا قام في زمن النبي ﷺ يقرأ من السحر قل هو الله أحد لا يزيد عليها فلما أصبح أتى النبي ﷺ فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال النبي: والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن }، وهذا أيضا من حديث أبي سعيد رواه البخاري من حديث أبي سعيد نفسه وكذلك رواه أبو داود والنسائي .

الوجه السادس والثلاثون: أن يقال إما أن تكون أقمت دليلا على كونه قديما واحدا ليس بمتغاير ولا مختلف أو لم تقم فإن لم تقم بطل ذلك وإن أقمت دليلا فلا ريب أنه نظري إذ ليس من الأمور البديهية الضرورية والعلم بأن الواحد الذي ليس فيه تغاير ولا اختلاف لا يكون حقائق مختلفة ولا موصوفا بأوصاف مختلفة أو متضادة هو من العلوم البديهية الضرورية، والضروري لا يعارضه النظري لأن الضروري أصله، فالقدح فيه قدح في أصله وبطلان أصله يوجب بطلانه في نفسه، فعلم أن معارضة الضروري بالنظري يوجب بطلان النظري، وإذا بطل النظري المعارض لهذا الضروري لم يكن ألبتة دليلا صحيحا وهو المطلوب .

الوجه الخامس والسبعون: إنه يقال هب أنه أمكن أن يكون الكلام معنى واحدا كما قلتم إنه يمكن أن يكون العلم واحدا، فما الدليل على أنه ليس لله كلام إلا معنى واحدا وما الدليل على أنه يمتنع أن يكون كلامه إلا معنى واحدا وقد اعترفوا بأنه لا دليل على ذلك كما قال الرازي بعد أن بين أنه إما ممتنع أو متوقف في إمكانه فقال وأما الذي يدل على أن الأمر كذلك فلا يمكن أن يعول فيه على الإجماع للحكاية التي ذكرها أبو إسحاق الإسفراييني ولم نجد لهم نصا ولا يمكن أن يقال فيه دلالة عقلية فبقيت المسألة بلا دليل، الوجه السادس والسبعون: أن الجهمية كثيرا ما يزعمون أن أهل الإثبات يضاهون النصارى، وهذا يقولونه تارة لإثباتهم الصفات وتارة لقولهم إن كلام الله أنزله وهو في القلوب والمصاحف، والجهمية هم المضاهئون للنصارى فيما كفرهم الله به لا أهل الإثبات الذين ثبتهم الله بالقول الثابت، فأما الوجه الأول في إثبات الصفات فليس هذا موضعه وإنما الغرض الوجه الثاني الذي يختص بالكلام فإنهم تارة يقولون إذا قلتم أن كلام الله غير مخلوق فهو نظير قول النصارى أن المسيح كلمة الله وهو غير مخلوق وتارة يقولون إذا قلتم إن كلام الله في الصدور والمصاحف فقد قلتم بقول النصارى الذين يقولون إن الكلمة حلت في المسيح وتدرعته وهذا الوجه الذي يقوله من يزعم أن كلام الله ليس إلا معنى في النفس ومن يزعم أن الله لم ينزل إلى الأرض كلاما له في الحقيقة والغرض هنا الكلام على هؤلاء فيقال لهم: أما أنتم فضاهيتم النصارى في نفس ما هو ضلال مما خالفوه في صريح العقل وكفرهم الله بذلك بخلاف أهل الإثبات وذلك يتبين بما ذمه الله تعالى من مذهب النصارى فإنه سبحانه قال: { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } وهذا المعنى وهو جعلهم ولدا لله وتنزيه الله نفسه عن ذلك مذكور في مواضع من القرآن كما ذكر قصة مريم، ثم قال في آخرها: { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون }، وقال: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا }، وقال في موضع آخر: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } الآية، فقال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم }، الآيات، وقال تعالى: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } الآية، فقد ذكر كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة في آية ونهى أهل الكتاب عن ذلك في آية أخرى فهذان موضعان ذكر فيهما التثليث عنهم وفي موضعين ذكر كفرهم بقولهم إن الله هو المسيح ابن مريم وأما ذكر الولد عنهم فكثير، واعلم أن من الناس من يزعم أن هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها الله عن النصارى هي قول الأصناف الثلاثة اليعقوبية وهم شرهم وهم السودان من الحبشة، والقبط ثم الملكانية وهم أهل الشمال من الشام والروم ثم النسطورية وهم نشئوا في دولة المسلمين، من زمن المأمون وهم قليل فإن اليعقوبية تزعم أن اللاهوت والناسوت اتحدا وامتزجا كامتزاج الماء واللبن والخمر فهما جوهر واحد وأقنوم واحد وطبيعة واحدة فصار عين الناسوت عين اللاهوت وأن المطلوب هو عين اللاهوت، والملكانية تزعم أنهما صارا جوهرا واحدا له أقنومان وقيل أقنوم واحد له جوهران والنسطورية يقولون هما جوهران أقنومان وإنما اتحدا في المشيئة وهذان قول من يقول بالاتحاد، وأما القول بالحلول فمن المتكلمين كأبي المعالي من يذكر الخلاف في فرقهم الثلاث منهم من يقول بالاتحاد بالمسيح ومنهم من يقول بالحلول فيه فيقول هؤلاء من الطوائف الثلاثة ومنهم من يقول بالحلول وأن اللاهوت حل في الناسوت وقالوا هذا قول الأكثر منهم فهما جوهران وطبيعتان وأقنومان كالجسد والروح وأما من فسر ذلك بظهور اللاهوت في الناسوت فهذا ليس من هؤلاء . وأما كونه يرى أو لا يرى أو يتكلم أو لا يتكلم، فهذا عندهم ليس في الظهور بمنزلة ذاك، فوافقتم الجهمية المعتزلة وغيرهم على ما هو أبعد من العقل والدين مما خالفتموهم فيه، ومعلوم اتفاق سلف الأمة وأئمتها على تضليل الجهمية من المعتزلة وغيرهم، بل قد كفروهم وقالوا فيهم ما لم يقولوه في أحد من أهل الأهواء، أخرجوهم عن الاثنين وسبعين فرقة وقالوا: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، فكنتم فيما وافقتم فيه الجهمية من المعتزلة وغيرهم وما خالفتموهم فيه كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، ولكن هو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان، وأوجب ذلك فسادين عظيمين: أحدهما: تسلط المعتزلة ونحوهم عليكم، فإنكم لما وافقتموهم على هذا التعطيل بقي بعد ذلك إثباتكم للرؤية ولكون القرآن غير مخلوق قولا باطلا في العقل عند جمهور العقلاء، وانفردتم من جميع طوائف الأمة بما ابتدعتموه في مسألة الكلام والرؤية، وقويت المعتزلة بذلك عليكم وعلى أهل السنة، وإن كنتم قد رددتم على المعتزلة حتى قيل: إن الأشعري حجرهم في قمع السمسمة فهذا أيضا صحيح بما أبداه من تناقض أصولهم، فإنه كان خبيرا بمذاهبهم، إذ كان من تلامذة أبي علي الجبائي، وقرأ عليه أصول المعتزلة أربعين سنة، ثم لما انتقل إلى طريقة أبي محمد عبد الله بن مسعود بن كلاب وهي أقرب إلى السنة من طريقة المعتزلة فإنه يثبت الصفات والعلو ومباينة الله للمخلوقات، ويجعل العلو يثبت بالعقل، فكان الأشعري لخبرته بأصول المعتزلة أظهر من تناقضها وفسادها ما قمع به المعتزلة، وبما أظهره من تناقض المعتزلة والرافضة والفلاسفة ونحوهم، صار له من الحرمة والقدر ما صار له، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما، لكن الأشعري قصر عن طريقة ابن كلاب، وأنتم خالفتم ابن كلاب والأشعري فنفيتم الصفات الخبرية، ونفيتم العلو وخياركم يجعله من الصفات السمعية، مع أن ابن كلاب كان مبتدعا عند السلف بما قاله في مسألة القرآن ؟ وفي إنكار الصفات الفعلية القائمة بذات الله، ثم إن المعتزلة وإن انقمعوا من هذا الوجه فإنهم طمعوا وقووا من وجه آخر بموافقتكم لهم على أصول النفي والتعطيل، فصار ذلك معزيا لفضلائهم بلزوم مذهبهم، فإن كل من فهم مذهبكم الذي خالفتم فيه المعتزلة على أن ما ذكرتموه قول فاسد أيضا، وإن كان قول المعتزلة فاسدا ونشأ الفساد، الثاني: وهو أن الفضلاء إذا تدبروا حقيقة قولكم الذي أظهرتم فيه خلاف المعتزلة وجدوكم قريبين منهم أو موافقين لهم في المعنى كما في مسألة الرؤية فإنكم تتظاهرون بإثبات الرؤية والرد على المعتزلة ثم تفسرونها بما لا ينازع المعتزلة في بيانه، ولهذا قال من قال من الفضلاء في الأشعري: إن قوله قول المعتزلة ولكنه عدل عن التصريح إلى التمويه، وكذلك قولكم في مسألة القرآن فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف والأئمة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين قالوا إنه مخلوق حتى كفروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة فتظاهرتم بالرد على المعتزلة، وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك، وعند التحقيق: فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه، ومخالفوهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم، فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه، ذلك أن المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، والمتكلم من فعل الكلام وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات، والقرآن الذي نزل به جبريل هو كلام الله وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر وهذه أنواع الكلام لا صفاته، والقرآن غير التوراة، والتوراة غير الإنجيل وأن الله سبحانه يتكلم بما شاء، وقلتم أنتم: إن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر وهذه صفات الكلام لا أنواعه، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، والحروف المؤلفة ليست من الكلام، ولا هي كلام، والكلام الذي نزل به جبريل من الله ليس كلام الله بل حكاية عن كلام الله، كما قاله ابن كلاب، أو عبارة عن كلام الله كما قاله الأشعري، ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام وإن لم يقم به الكلام لا يكون متكلما به كما أن من لم يقم به العلم والقدرة والحياة لا يكون عالما به، ولا قادرا بها، ولا حيا بها، وأنه لو كان الكلام مخلوقا في جسم من الأجسام لكان ذلك الجسم هو المتكلم به، فكانت الشجرة هي القائلة لموسى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } فهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، ومن قال: إن المتكلم من فعل الكلام لزمه أن يكون كل كلام خلقه الله في محل كلاما له فيكون إنطاقه للجلود كلاما له بل يكون إنطاقه لكل ناطق كلاما له، وإلى هذا ذهب الاتحادية من الجهمية الحلولية الذين يقولون إن وجوده عين الموجودات، فيقول قائلهم: وكل كلام في الوجود كلامه، سواء علينا نثره ونظمه، لكن المعتزلة أجود منكم حيث سموا هذا القرآن الذي نزل به جبريل كلام الله، كما يقوله سائر المسلمين، وأنتم جعلتموه كلاما مجازا ; ومن جعله منكم حقيقة وجعل الكلام مشتركا كأبي المعالي وأتباعه انتقضت قاعدته في أن المتكلم بالكلام من قام به، ولم يمكنكم أن تقولوا بقول أهل السنة ; فإن أهل السنة يقولون: الكلام كلام من قاله مبتدئا لا كلام من قاله مبلغا مؤديا ; فالرجل إذا بلغ قول رسول الله ﷺ: { إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى } كان قد بلغ كلام النبي ﷺ بحركاته وأصواته ; وكذلك إذا أنشد شعر شاعر كامرئ القيس أو غيره، فإذا قال: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل كان هذا الشعر شعر امرئ القيس، وإن كان هذا قد قاله بحركاته وأصواته، وهذا أمر مستقر في فطر الناس كلهم، يعلمون أن الكلام كلام من تكلم به مبتدئا آمرا بأمره ومخبرا بخبره ومؤلفا حروفه ومعانيه، وغيره إذا بلغه عنه علم الناس أن هذا كلام للمبلغ عنه لا للمبلغ، وهم يفرقون بين أن يقوله المتكلم به والمبلغ عنه، وبين سماعه من الأول وسماعه من الثاني ; ولهذا كان من المستقر عند المسلمين أن القرآن الذي يسمعونه هو كلام الله كما قال الله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } مع علمهم بأن القارئ يقرؤه بصوته ; كما قال النبي ﷺ: { زينوا القرآن بأصواتكم } ; فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ، وإن كان من المعتزلة من يجعل كلام الثاني حكاية لكلام الأول، وينازع المعتزلة في الحكاية: هل هي المحكي كما يقول الجبائي، أو غيره كما يقول ابنه ؟ على قولين، والتحقيق: أن الحاكي لكلام غيره ليس هو المبلغ له، فإن الحاكي له بمنزلة المتمثل به الذي يقوله لنفسه موافقا لقائله الأول، بخلاف المبلغ له الذي يقصد أن يبلغ كلام الغير، وللنية تأثير في مثل هذا، فإن من قال: { الحمد لله رب العالمين } بقصد القراءة لم يكن له ذلك مع الجنابة بخلاف من قالها بقصد ذكر الله، وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع، والمقصود أنكم لم يمكنكم أن تقولوا ما يقوله المسلمون لأن حروف القرآن ونظمه ليس هو عندكم كلام الله، بل ذلك عندكم مخلوق: إما في الهواء وإما في نفس، جبريل وأما في غير ذلك ; فاتفقتم أنتم والمعتزلة على أن حروف القرآن ونظمه مخلوق، لكن قالوا هم: ذلك كلام الله، وقلتم أنتم: ليس كلام الله ; ومن قال منكم إنه كلام الله انقطعت حجته على المعتزلة، فصارت المعتزلة خيرا منكم في هذا الموضع ; وهذه الحروف والنظم الذي يقرؤه الناس هو حكاية تلك الحروف والنظم المخلوق عندكم كما يقوله المعتزلة وهي عبارة عن المعنى القائم بالذات، ولهذا كان ابن كلاب يقول: إن هذا القرآن حكاية عن المعنى القديم، فخالفه الأشعري لأن الحكاية تشبه المحكي، وهذا حروف، وذلك معنى، وقال الأشعري: بل هذا عبارة عن ذلك، لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه، وكلا القولين خطأ، فإن القرآن الذي نقرؤه فيه حروف مؤلفة، وفيه معان ; فنحن نتكلم بالحروف بألسنتنا، ونعقل المعاني بقلوبنا، ونسبة المعاني القائمة بقلوبنا إلى المعنى القائم بذات الله كنسبة الحروف التي ننطق بها إلى الحروف المخلوقة عندكم، فإن قلتم: إن هذا حكاية عن كلام الله، لم يصح، لأن كلام الله معنى مجرد عندكم وهذا فيه حروف ومعان، وإن قلتم: إنه عبارة لم يصح لأن العبارة هي اللفظ الذي يعبر به عن المعنى، وهنا حروف ومعان يعبر بها عن المعنى القديم عندكم، وإن قلتم: هذه الحروف وحدها عبارة عن المعنى بقيت المعاني القائمة بقلوبنا، وبقيت الحروف التي عبر بها أولا عن المعنى القائم بالذات التي هذه الحروف المنظومة نظيرها عندكم، لم تدخلوها في كلام الله، فالمعتزلة في قولها بالحكاية أسعد منكم في قولكم بالحكاية وبالعبارة، وأصل هذا الخطإ أن المعتزلة قالوا: إن القرآن، بل كل كلام، هو مجرد الحروف والأصوات ; وقلتم أنتم: بل هو مجرد المعاني، ومن المعلوم عند الأمم أن الكلام اسم للحروف وللمعاني، وللفظ والمعنى جميعا ; كما أن اسم الإنسان اسم للروح والجسد، وإن سمي المعنى وحده حديثا أو كلاما، أو الحروف وحدها حروفا أو كلاما فعند التقييد والقرينة، وهذا مما استطالت المعتزلة عليكم به حيث أخرجتم الحروف المؤلفة عن أن تكون من الكلام، فإن هذا مما أنكره عليكم الخاص والعام: وقد قال النبي ﷺ: { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به } قال له معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال: { ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم } ؟ وشواهد هذا كثيرة، ثم إنكم جعلتم معاني القرآن معنى واحدا مفردا وهو الأمر بكل ما أمر الله به، والخبر عن كل ما أخبر الله به ; وهذا مما اشتد إنكار العقلاء عليكم فيه، وقالوا إن هذا من السفسطة المخالفة لصرائح المعقول، وأنتم تنكرون على من يقول: إن الله يتكلم بحروف وأصوات قديمة أزلية ومعلوم أن ما قلتموه أبعد عن العقل والشرع من هذا ; وإن كان العقلاء قد أنكروا هذا أيضا، لكن قولكم أشد نكرة ; بل قولكم أبعد من قول النصارى الذين يقولون باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، ثم أعجب من هذا أنكم تقولون: إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن، وبالعبرية كان هو التوراة، وبالسريانية كان هو الإنجيل ; ومن المعلوم بالاضطرار لكل عاقل أن التوراة إذا عربت لم تكن معانيها معاني القرآن، وإن القرآن إذا ترجم بالعبرية لم تكن معانيه معاني التوراة، ثم إن منكم من جعل ذلك المعنى يسمع ; ومنكم من قال لا يسمع، وجعلتم تكليم الله لموسى من جنس الإلهام الذي يلهم غيره حيث قلتم: خلق في نفسه لطيفة أدرك بها الكلام القائم بالذات ; وقد قال تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما } ففرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى، وبين تكليمه لموسى، وقال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } ففرق بين إيحائه - سبحانه - وبين تكليمه من وراء حجاب .


والأحاديث متواترة عن رسول الله ﷺ بتخصيص موسى بتكليم الله إياه دون إبراهيم وعيسى ونحوهما ; وعلى قولكم: لا فرق، بل قد زعم من زعم من أئمتكم أن الواحد من غير الأنبياء يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران، فمن حصل له إلهام في قلبه جعلتموه قد كلمه الله كما كلم موسى بن عمران، ومعلوم أن المعتزلة لم يصلوا في الإلحاد إلى هذا الحد، بل من قال: إن الله خص موسى بأن خلق كلاما في الهواء سمعه، كان أقل بدعة ممن زعم أنه لم يكلمه إلا بأن أفهمه معنى أراده، بل هذا قريب إلى قول المتفلسفة الذين يقولون: ليس لله كلام إلا ما في النفوس، وأنه كلم موسى من سماء عقله، لكن يفارقونها بإثبات المعنى القديم القائم بذات الله أيضا، فجعلتم ثبوت القرآن في المصاحف مثل ثبوت الله فيها، وقلتم: قوله تعالى: { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون } بمنزلة قوله تعالى: { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل }، ومعلوم أن المذكور في التوراة هو اسمه، وأن الله إنما يكتب في المصحف اسمه فأسماؤه بمنزلة كلامه، لا أن ذاته بمنزلة كلامه، والشيء لوجوده أربعة مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، فالأعيان لها المرتبة الأولى، ثم يعلم بالقلوب، ثم يعبر عنه باللفظ ثم يكتب اللفظ ; وأما الكلام فله المرتبة الثالثة، وهو الذي يكتب في المصحف، فأين قول القائل: إن الكلام في الكتاب من قوله إن المتكلم في الكتاب، وبينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق ثم إن منكم من احتج بقوله تعالى: { إنه لقول رسول كريم }، وجعل المراد بذلك العبارة، وهذا مع أنه متناقض فهو أفسد من قول المعتزلة، فإنه إن كان أضيف إلى رسول الله ﷺ لأنه أحدث حروفه، فقد أضافه في موضع إلى رسول هو جبريل، وفي موضع إلى رسول هو محمد، قال في موضع: { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين } وقال في موضع: { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون }، ومعلوم أن عبارتها إن أحدثها جبريل لم يكن محمد أحدثها، وإن أحدثها محمد لم يكن جبريل أحدثها ; فبطل قولكم وعلم أنه إنما أضافه إلى الرسول لكونه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه وابتدأه، ولهذا قال لقول رسول، ولم يقل لقول ملك ولا نبي، فذكر اسم الرسول المشعر بأنه مبلغ عن غيره كما قال تعالى: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك }، { وكان النبي ﷺ يعرض نفسه على الناس بالموسم، ويقول: ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي }، ومعلوم أن المعتزلة لا تقول إن شيئا من القرآن أحدثه لا جبريل ولا محمد، ولكن يقولون إن تلاوتهما له كتلاوتنا له ; وإن قلتم أضافه إلى أحدهما لكونه تلاه بحركاته وأصواته، فيجب حينئذ أن يقول إن القرآن قول من تكلم به من مسلم وكافر، وطاهر وجنب، حتى إذا قرأه الكافر يكون القرآن قولا له على قولكم ; فقوله بعد هذا: { إنه لقول رسول كريم } كلام لا فائدة فيه، إذ هو على أصلكم قول رسول كريم وقول فاجر لئيم، وكذلك احتج المعتزلة بقوله تعالى: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } وقالوا إن الله أحدثه في الهواء، فاحتج من احتج منكم على أن القرآن المنزل محدث، ولكن زاد على الفلاسفة بأن المحدث له إما جبريل وإما محمد، وإن قلتم: إنه محدث في الهواء صرتم كالمعتزلة ونقضتم استدلالكم بقوله: { إنه لقول رسول كريم }، وقد استدل من استدل من أئمتكم على قولكم بهاتين الآيتين بقوله: ( إنه لقول رسول كريم }، وقوله: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } فإن أراد بذلك أن الله أحدثه بطل استدلاله بقوله: { لقول رسول كريم }، فإن أراد بذلك أن الرسول أحدثه بطل بإضافته إلى الرسول الآخر، وكنتم شرا من المعتزلة الذين قالوا: أحدثه الله، وإن قلتم: أراد بذلك أن من تلاه فقد أحدثه فقد جعلتموه قولا لكل من تكلم به من الناس برهم وفاجرهم، وكان ما يقرؤه المسلمون ويسمعونه كلام الناس عندكم لا كلام الله، ثم إن الله تعالى قال: { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق }، فأخبر أن جبريل نزله من الله لا من هواء ولا من لوح، وقال: { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق }، وقال: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }، { حم تنزيل من الرحمن الرحيم }، وأنتم وافقتم المعتزلة بحيث يمتنع أن يكون عندكم منزلا من الله لأنه ليس فوق العالم، ولو كان فوق العالم لم يكن القرآن منزلا منه بل من الهواء، وأيضا فأنتم في مسائل الأسماء والأحكام قابلتم المعتزلة تقابل التضاد حتى رددتم بدعتهم ببدع تكاد أن تكون مثلها، بل هي من وجه منها ومن وجه دونها، فإن المعتزلة جعلوا الإيمان اسما متناولا لجميع الطاعات القول والعمل، ومعلوم أن هذا قول السلف والأئمة، وقالوا: إن الفاسق الملي لا يسمى مؤمنا ولا كافرا، وقالوا: إن الفساق مخلدون في النار لا يخرجون منها بشفاعة ولا غيره، وهم في هذا القول مخالفون للسلف والأئمة، فخلافهم في الحكم للسلف، وأنتم وافقتم الجهمية في الإرجاء والجبر فقلتم: الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم بلسانه، وهذا عند السلف والأئمة شر من قول المعتزلة، ثم إنكم قلتم: إنا لا نعلم هل يدخل أحد منهم النار أو لا يدخلها أحد منهم فوقفتم وشككتم في نفوذ الوعيد في أهل القبلة جملة، ومعلوم أن هذا من أعظم البدع عند السلف والأئمة، فإنهم لا يتنازعون أنه لا بد أن يدخلها من يدخلها من أهل الكبائر فأولئك قالوا: لا بد أن يدخلها كل فاسق، وأنتم قلتم: لا نعلم هل يدخلها فاسق أم لا، فتقابلتم في هذه البدعة، وقولكم أعظم بدعة من قولهم، وأعظم مخالفة للسلف والأئمة، وعلى قولكم: لا نعلم شفاعة النبي ﷺ في أهل النار، لأنه لا يعلم هل يدخلها أم لا، وقولكم إلى إفساد الشريعة أقرب من قول المعتزلة، وكذلك في مسائل القدر فإن المعتزلة أنكروا أن يكون الله خالق أفعال العباد، أو مريدا لجميع الكائنات، بل الإرادة عندهم بمعنى المحبة والرضا، وهو لا يحب ويرضى إلا ما أمر به فلا يريد إلا ما أمر به، وأنتم وافقتموهم على أصلهم الفاسد، وقاسمتموهم بعد ذلك الضلال، فصرتم وهم في هذه المسائل كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب، وقلتم: إن الإرادة بمعنى المحبة والرضا كما قالت المعتزلة، لكن قلتم وهو أراد كل ما يفعله العباد فيجب أن يكون محبا راضيا لكل ما يفعله العباد حتى الكفر والفسوق والعصيان، وتأولتم قوله: { ولا يرضى لعباده الكفر } على المؤمنين من عباده، وعلى قولكم لا يرضى لعباده الإيمان يعني الكافرين منهم، إذ عندكم كل من فعل فعلا فقد رضيه منه، ومن لم يفعله لا يرضاه منه فقد رضي عندكم من إبليس وفرعون ونحوهما كفرهم ولم يرض منهم الإيمان، وكذلك قلتم في قوله: { لا يحب الفساد } أي لا يحبه للمؤمنين، وأما من قال منكم لا يحبه دينا أو لا يرضاه دينا، فهذا أقرب لكنه بمنزلة قولكم لا يريده دينا ولا يشاؤه دينا فيجوز عندكم أن يقال يحب الفساد ويرضاه، أي يحبه فسادا ويرضاه فسادا كما أراده فسادا، وأنكرتم على المعتزلة ما أنكره المسلمون عليهم وهو قولهم: إن الله لا يقدر أن يفعل بالكفار غير ما فعل بهم من اللطف، وأنكرتم على من قال منهم إن خلاف المعلوم غير مقدور، ثم قلتم: إن العبد لا يقدر على غير ما علم منه، وأنه لا استطاعة له إلا إذا كان فاعلا فقط، فأما من لم يفعل فإنه لا استطاعة له أصلا فخالفتم قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ونحو ذلك من النصوص، ولزمكم أن كل من لم يؤمن بالله فإنه لم يكن قادرا على الإيمان، وكل من ترك طاعة الله فإنه لم يكن مستطيعا لها فإن ضم ضام هذا إلى قوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }، وقول النبي ﷺ: { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } تركب من هذين أن كل كافر وفاجر، فإنه قد اتقى الله ما استطاع، وأنه قد أتى فيما أمر به بما استطاع إذ لم يستطع غير ما فعل، وأنتم لا تلتزمون ذلك فهو لازم قولكم إذا لم تجعلوا الاستطاعة نوعين، وقول القدرية الذين يجعلون استطاعة العبد صالحة للنوعين ولا يثبتون الاستطاعة التي هي مناط الأمر والنهي أقرب إلى الكتاب والسنة والشريعة من قولكم أنه لا استطاعة إلا للفاعل وإن لم يفعل فعلا، فلا استطاعة له عليه وكل من تدبر القولين بغير هوى علم أن كلا منهما وإن كان فيه من خلاف السنة ما فيه، فقولكم أكثر خلافا للسنة .

فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين، وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء به من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } وأن له وجها كما قال: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأن له يدين كما قال: { بل يداه مبسوطتان } وقال: { لما خلقت بيدي } وأن له عينين بلا كيف كما قال: { تجري بأعيننا } وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال: { أنزله بعلمه } وقال: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } ونثبت له قوة كما قال: { أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفاه المعتزلة والجهمية والخوارج، ونقول: إن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له كن فيكون كما قال: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، وأن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله، ولا يستغني عن الله ولا نقدر على الخروج من علم الله، وأنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال عباد الله مخلوقة لله مقدورة له كما قال: { والله خلقكم وما تعملون } وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال: { هل من خالق غير الله } وكما قال: { لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) وكما قال: { أفمن يخلق كمن لا يخلق } وكما قال: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } وهذا في كتاب الله كثير، وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم كانوا صالحين، ولو هداهم كانوا مهتدين كما قال تبارك وتعالى: { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون }، وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وأنه خذلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وأنا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، وحلوه ومره، ونعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأنا لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه، ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا، وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، ويراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله، ونقول : إن الكافرين، إذا رآه المؤمنون، عنه محجوبون، كما قال الله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون }، وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا، وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا فعلم بذلك موسى أنه لا يراه أحد في الدنيا، ونرى أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة، وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج، وزعموا بذلك أنهم كافرون، ونقول: إن من عمل كبيرة من الكبائر وما أشبهها مستحلا لها كان كافرا، إذا كان غير معتقد لتحريمها، ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا وندين بأنه يقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه وأنه يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله، وندين بأن لا ننزل أحدا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين، ونقول بأن الله يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا بشفاعة محمد، ونؤمن بعذاب القبر، ونقول: إن الحوض والميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين، وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية عن رسول الله، وندين الله بحب السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ونثني عليهم بما أثنى الله عليهم ونتولاهم، ونقول: إن الإمام بعد رسول الله أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله للصلاة ; ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ; ثم عثمان بن عفان نضر الله وجهه، قتله قاتلوه ظلما وعدوانا، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ; فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله، وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد لهم رسول الله، ونتولى أصحاب النبي، ونكف عما شجر بينهم، وندين الله أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون فضلا لا يوازنهم في الفضل غيرهم، ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب يقول: هل من سائل، هل من مستغفر، وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل، ونقول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: { وجاء ربك والملك صفا صفا } وإن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وكما قال: { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } ومن ديننا نصلي الجمع والأعياد خلف كل بر وغيره، وكذلك سائر الصلوات الجماعات، كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج، وأن المسح على الخفين في السفر والحضر، خلافا لمن أنكر ذلك، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله، ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهم المدفونين في قبورهم، ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام، ونقول: إن ذلك تفسير، ونرى الصدقة عن موتى المؤمنين والدعاء لهم، ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحرة وأن السحر موجود في الدنيا، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وموارثتهم، ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل، وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالا وحراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه، خلافا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس }، وكما قال: { من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس } ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله بآيات يظهرها الله عليهم، وقولنا في أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم نارا في الآخرة، ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك ; وندين بأن الله يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرنا من قولنا وما بقي منه وما لم نذكره بابا بابا وشيئا شيئا، ثم قال أبو القاسم بن عساكر رحمه الله: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام العالم الذي شرحه وبينه، وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأبينه، وكونوا ممن قال الله فيهم: { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }، وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه، واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين، ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات، فمن تكلم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم، ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم، فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري ووزارة النظام ووقع بينهم الانحراف من بعضهم من بعض لانحلال النظام، وعلى الجملة فلم يزل في الحنابلة طائفة تغلو في السنة وتدخل فيما لا يعنيها حبا للحقوق في الفتنة ولا عار على أحمد رحمه الله من صنيعهم وليس يتفق على ذلك رأي جميعهم، ولهذا قال أبو حفص بن شاهين وهو من أقران الدارقطني ما قرأته على عبد الكريم بن الحضر عن أبي محمد الكناني حدثني أبو النجيب الأرموي حدثنا أبو ذر الهروي قال سمعت ابن شاهين يقول: رجلان صالحان بليا بأصحاب سوء جعفر بن محمد وأحمد بن حنبل، وقال ابن عساكر فيما رده على أبي علي الأهوازي فيما وصفه من مثالب الأشعري: وقد ذكر أبو علي الأهوازي أن الحنابلة لم يقبلوا منه تصنيف الإبانة، قال الأهوازي: وللأشعري كتاب في السنة قد جعله أصحابه وقاية لهم من أهل السنة يتولون به العوام من أصحابنا سماه " كتاب الإبانة " صنفه ببغداد لما دخلها، فلم يقبل ذلك منه الحنابلة وهجروه، وسمعت أبا عبد الله الحمراني يقول: لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى وعلى المجوس، فقلت وقالوا، وأكثر الكلام في ذلك، فلما سكت قال البربهاري: ما أدري مما قلت قليلا ولا كثيرا، ما نعرف إلا ما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فخرج من عنده وصنف كتاب الإبانة فلم يقبلوه منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها، قال: وقول الأهوازي أن الحنابلة لم يقبلوا منه ما أظهره من كتاب الإبانة وهجروه، فلو كان الأمر كما قال لنقلوه عن أشياخهم ولم أزل أسمع ممن يوثق به أنه كان صديقا للتميميين سلف أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث، وكانوا له مكرمين وقد أظهر بركة تلك الصحبة على أعقابهم حتى نسب إلى مذهبه أبو الخطاب الكلواذاني من أصحابهم وهذا تلميذ أبي الخطاب أحمد الحربي يخبر بصحة ما ذكرته وينبئ، وكذلك كان بينهم وبين صاحبه أبي عبد الله بن مجاهد وصاحب صاحبه أبي بكر بن الطيب من المواصلة والمواكلة ما يدل على كثرة الاختلاق من الأهوازي والتكذيب، قال: وقد أخبرني الشيخ أبو الفضل بن أبي سعد البزار بن أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز التميمي الحنبلي قال: سألت الشريف أبا علي محمد بن أبي موسى الهاشمي فقال: حضرت دار شيخنا أبي الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكيين وأبو القاسم الداركي شيخ الشافعيين وأبو الحسن طاهر بن الحسين شيخ أصحاب الحديث، وأبو الحسين بن سمعون شيخ الوعاظ والزهاد، وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين وصاحبه أبو بكر بن الباقلاني في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة، قال أبو علي: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة يشبه واحدا منهم، قال: وحكاية الأهوازي عن البربهاري مما يقع في صحتها التماري وأدل دليل على بطلانها قوله: إنه لم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها وهو بعد أن صار إليها لم يفارقها ولا رحل عنها، قلت: لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإمام أحمد ونحوه بالبصرة وبغداد، فإن الأشعري أخذ السنة بالبصرة عن زكريا بن يحيى الساجي وهو من علماء أهل الحديث المتبعين لأحمد ونحوه، ثم لما قدم بغداد أخذ ممن كان بها، ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي يذكرها عن أهل السنة والحديث إما ألفاظ زكريا عن أحمد في رسائله الجامعة في السنة، وإلا فالأشعري لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة وأصحاب الحديث، وإنما يعري أقوالهم من حيث الجملة لا يعرف تفاصيل أقوالهم وأقوال أئمتهم، وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير، وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت خبرة تامة على سبيل التفصيل، ولهذا لما صنف كتابه في مقالات الإسلاميين ذكر مقالات أهل الكلام واختلافهم على التفصيل، وأما أهل الحديث والسنة فلم يذكر عنهم إلا جملة مقالات، مع أن لهم في تفاصيل تلك من الأقوال أكثر مما لأهل الكلام، وذكر الخلاف بين أهل الكلام في الدقيق فلم يذكر النزاع بين أهل الحديث في الدقيق، وبينهم منازعات في أمور دقيقة لطيفة كمسألة اللفظ ونقصان الإيمان وتفضيل عثمان، وبعض أحاديث الصفات ونفي لفظ الجبر وغير ذلك من دقيق القول ولطيفه، وليس المقصود هنا إطلاق مدح شخص أو طائفة، ولا إطلاق ذم ذلك، فإن الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أنه قد يجتمع في الشخص الواحد والطائفة الواحدة ما يحمد به من الحسنات وما يذم به من السيئات، وما لا يحمد به ولا يذم من المباحث والعفو عنه من الخطإ والنسيان بحيث يستحق الثواب على حسناته ويستحق العقاب على سيئاته بحيث لا يكون محمودا ولا مذموما على المباحات والمعفوات، وهذا مذهب أهل السنة في فساق أهل القبلة ونحوهم، وإنما يخالف هذا الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ونحوهم الذين يقولون: من استحق المدح لم يستحق الثواب، حتى يقولون: إن من دخل النار لا يخرج منها بل يخلد فيها، وينكرون شفاعة محمد في أهل الكبائر قبل الدخول وبعده وينكرون خروج أحد من النار وقد تواترت السنن عن النبي بخروج من يخرج من النار حتى يقول الله: { أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان }، وبشفاعة النبي لأهل الكبائر من أمته، ولهذا يكثر في الأمة من أئمة الأمراء وغيرهم من يجتمع فيه الأمران، فبعض الناس يقتصر على ذكر محاسنه ومدحه، غلوا وهوى، وبعضهم يقتصر على ذكر مساويه غلوا وهوى، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخيار الأمور أوسطها، ولا ريب أن للأشعري في الرد على أهل البدع كلاما حسنا هو من الكلام المقبول الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية، وله أيضا كلام خالف به بعض السنة هو من الكلام المردود الذي يذم به قائله إذا أصر عليه بعد قيام الحجة، وإن كان الكلام الحسن لم يخلص فيه النية، والكلام السيئ كان صاحبه مجتهدا مخطئا مغفورا له خطؤه لم يكن في واحد منهما مدح ولا ذم، بل يحمد نفس الكلام المقبول الموافق للسنة ويذم الكلام المخالف للسنة، وإنما المقصود أن الأئمة المرجوع إليهم في الدين مخالفون للأشعري في مسألة الكلام، وإن كانوا مع ذلك معظمين له في أمور أخرى وناهين عن لعنه وتكفيره، ومادحين له بما له من المحاسن، وبزيادة أخرى فإن هذه المسألة هي مسألة الكلام من الأمر والنهي والخبر هل له صيغة أو ليس له صيغة ؟ بل ذلك معنى قائم بالنفس، فإذا كانوا مخالفين له في ذلك وقائلين بأن الكلام له الصيغ التي هي الحروف المنظومة المؤلفة قائلين خلافا للأشعري مصرحين بأن قوله في ذلك مخالف لقول الشافعي وأحمد وسائر أئمة الإسلام علم صحة ما ذكرناه، وقولهم: للأمر صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرا وللنهي صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه نهيا، وللخبر صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه خبرا، وللعموم صيغة موضوعة له في، اللغة تدل بمجردها على استغراق الجنس واستيعاب الطبيعة أجود من قول استدرك ذلك عليهم كابن عقيل [ الذي قال ]: إن الأجود أن يقول: الأمر صيغة، قالوا: لأن الأمر والنهي والخبر هو نفس الصيغ التي هي الحروف المنظومة المؤلفة ; وهذا الذي قاله وأنكره هؤلاء خطأ وهو لو صح على قول من يقول إن الكلام مجرد الحروف والأصوات الدالة على المعنى: وليس هذا مذهب الفقهاء وأئمة الإسلام وأهل السنة، وإن كان قد يقوله كثير ممن ينتسب إليهم كما قالته المعتزلة، بل مذهبهم أن الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا، والأمر ليس هو اللفظ المجرد ولا المعنى المجرد، بل لفظ الأمر إذا أطلق فإنه ينتظم اللفظ والمعنى جميعا، فلهذا قيل صيغة، كما يقال للإنسان جسم أو للإنسان روح، وكما يقال للكلام معنى وأما ما ذكره أبو القاسم الدمشقي من أن هذه المسألة خالف فيها أبو إسحاق الأشعري فيقال له: هذه المسألة هي أخص بمذهب الأشعري يكون الرجل بها مختصا بكونه أشعريا، ولهذا ذكر العلماء الخلاف فيها معه، وأما سائر المسائل فتلك لا يختص هو بأحد الطرفين بها بل في كل طريق طوائف، فإذا خالفه في خاصة مذهبه لزمه أن لا يكون متبعا له، وأيضا فإنه إذا قال أصحابنا فإنما يعني الشافعية، وإذا ذكر الأشعري فإنه يقول قالت الأشعرية فلا يدخلهم في مسمى أصحابه، ولكن أبو القاسم كان له هدى ولم تكن له معرفة بحقائق الأصول التي يتنازع فيها العلماء ولكن كان ثقة في نقله، عالما بفنه كالتاريخ ونحوه . - -مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن زيارة القدس وقبر الخليل عليه السلام ؟ وما في أكل الخبز والعدس من البركة ونقله من بلد إلى بلد للبركة ؟ وما في ذلك من السنة والبدعة ؟ أجاب: الحمد لله، أما السفر إلى بيت المقدس للصلاة فيه والاعتكاف، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء فمشروع مستحب باتفاق علماء المسلمين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، أنه قال: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا }، والمسجد الحرام ومسجد رسول الله ﷺ أفضل منه، وفي الصحيحين عنه أنه قال: { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام }، وأما السفر إلى مجرد زيارة قبر الخليل، أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين، ومشاهدهم، وآثارهم، فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا غيرهم، بل لو نذر ذلك ناذر لم يجب عليه الوفاء بهذا النذر عند الأئمة الأربعة وغيرهم، بخلاف المساجد الثلاثة فإنه إذا نذر السفر إلى المسجد الحرام لحج أو عمرة لزمه ذلك باتفاق الأئمة، وإذا


نذر السفر إلى المسجدين الآخرين لزمه السفر عند أكثرهم، كمالك، وأحمد، والشافعي في أظهر قوليه، لقول النبي ﷺ: { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } رواه البخاري، وإنما يجب الوفاء بنذر كل ما كان طاعة مثل من نذر صلاة أو صوما أو اعتكافا أو صدقة لله أو حجا، ولهذا لا يجب بالنذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة ; لأنه ليس بطاعة لقول النبي ﷺ: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد }، فمنع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، فغير المساجد أولى بالمنع ; لأن العبادة في المساجد أفضل منها في غير المساجد وغير البيوت بلا ريب ; ولأنه قد ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: { أحب البقاع إلى الله المساجد } مع أن قوله: { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد }، يتناول المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة، وطلب العلم ونحو ذلك، فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت، وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان، وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء أنه لا بأس بالسفر إلى المشاهد واحتجوا بأن النبي ﷺ كان يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا } أخرجاه في الصحيحين، ولا حجة لهم فيه ; لأن قباء ليست مشهدا، بل مسجد، وهي منهي عن السفر إليها باتفاق الأئمة ; لأن ذلك ليس بسفر مشروع، بل لو سافر إلى قباء من دويرة أهله لم يجز، ولكن لو سافر إلى المسجد النبوي ثم ذهب منه إلى قباء، فهذا يستحب، كما يستحب زيارة قبور أهل البقيع، وشهداء أحد، وأما أكل الخبز والعدس المصنوع عند قبر الخليل عليه السلام فهذا لم يستحبه أحد من العلماء لا المتقدمين ولا المتأخرين، ولا كان هذا مصنوعا لا في زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا بعد ذلك إلى خمسمائة سنة من البعثة، حتى أخذ النصارى تلك البلاد، ولم تكن القبة التي على قبره مفتوحة، بل كانت مسدودة، ولا كان السلف من الصحابة والتابعين يسافرون إلى قبره ولا قبر غيره، لكن لما أخذ النصارى تلك البلاد فسووا حجرته واتخذوها كنيسة، فلما أخذ المسلمون البلاد بعد ذلك اتخذ ذلك من اتخذه مسجدا، وذلك بدعة منهي عنها لما ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد }، يحذر ما فعلوا وفي الصحيح عنه أنه قال قبل موته بخمس: { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك }، ثم وقف بعض الناس وقفا للعدس والخبز، وليس هذا وقفا من الخليل، ولا من أحد من بني إسرائيل، ولا من النبي ﷺ ولا من خلفائه، بل قد روي عن النبي ﷺ أنه أطلق تلك القرية للدارسين ولم يأمرهم أن يطعموا عند مشهد الخليل عليه السلام لا خبزا ولا عدسا ولا غير ذلك، فمن اعتقد أن الأكل من هذا الخبز والعدس مستحب شرعه النبي ﷺ فهو مبتدع ضال، بل من اعتقد أن العدس مطلقا فيه فضيلة فهو جاهل، والحديث الذي يروى: " كلوا العدس فإنه يرق القلب وقد قدس فيه سبعون نبيا "، حديث مكذوب مختلق باتفاق أهل العلم، ولكن العدس هو مما اشتهاه اليهود، وقال الله تعالى لهم: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير }، ومن الناس من يتقرب إلى الجن بالعدس، فيطبخون عدسا ويضعونه في المراحيض، أو يرسلونه ويطلبون من الشياطين بعض ما يطلب منهم، كما يفعلون مثل ذلك في الحمام وغير ذلك، وهذا من الإيمان بالجبت والطاغوت، وجماع دين الإسلام أن يعبد الله وحده لا شريك له ويعبده بما شرعه سبحانه وتعالى على لسان نبيه محمد ﷺ من الواجبات والمستحبات والمندوبات، فمن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة فهو ضال، والله أعلم . - -مسألة: فيمن يقول إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة، هل قوله صواب ؟ وهل أراد النص الذي لا يحتمل التأويل، أو الألفاظ الواردة المحتملة ؟ ومن نفى القياس وأبطله من الظاهرية، هل قوله صواب ؟، وما حجته على ذلك ؟ وما عنى قوله " النص "، الجواب: الحمد لله رب العالمين، هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي كأبي المعالي وغيره، وهو خطأ، بل الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد، ومنهم من يقول إنها وافية بجميع ذلك وإنما أنكر ذلك من أنكره ; لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد، وذلك أن الله بعث محمدا ﷺ بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعا كثيرة وتلك


الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد مثال ذلك: أن الله حرم الخمر، فظن بعض الناس أن لفظ الخمر لا يتناول إلا عصير العنب خاصة، ثم من هؤلاء من لم يحرم إلا ذلك، أو حرم معه بعض الأنبذة المسكرة، كما يقول ذلك من يقوله من فقهاء الكوفة، فإن أبا حنيفة يحرم عصير العنب المشتد الزبد، وهذا الخمر عنده، ويحرم المطبوخ منه ما لم يذهب ثلثاه، فإذا ذهب ثلثاه لم يحرمه، ويحرم النيء من نبيذ التمر، فإن طبخ أدنى طبخ حل عنده، وهذه المسكرات الثلاثة ليست خمرا عنده مع أنها حرام، وما سوى ذلك من الأنبذة فإنما يحرم منه ما يسكر، وأما محمد بن الحسن فوافق الجمهور في تحريم كل مسكر قليله وكثيره، وبه أفتى المحققون من أصحاب أبي حنيفة، وهو اختيار أبي الليث السمرقندي، ومن العلماء من حرم كل مسكر بطريق القياس إما في الاسم وإما في الحكم، وهذه الطريقة سلكها طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، يظنون أن تحريم كل مسكر إنما كان بالقياس في الأسماء أو القياس في الحكم، والصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن الخمر المذكورة في القرآن تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة، لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلا آخر يوافق النص، وثبت أيضا نصوص صحيحة عن النبي ﷺ بتحريم كل مسكر، ففي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: { كل مسكر خمر وكل مسكر حرام }، وفي الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي ﷺ أنه قال: { كل شراب أسكر فهو حرام }، وفي الصحيحين، عن أبي موسى، عن النبي ﷺ أنه سئل، فقيل له: عندنا شراب من العسل يقال له البتع، وشراب من الذرة يقال له المزر ؟ قال - وكان قد أوتي جوامع الكلم - فقال: { كل مسكر حرام } إلى أحاديث أخر يطول وصفها، وعلى هذا فتحريم ما يسكر من الأشربة والأطعمة، كالحشيشة المسكرة ثابت بالنص، وكان هذا النص متناولا لشرب الأنواع المسكرة من أي مادة كانت من الحبوب، أو الثمار أو من لبن الخيل أو من غير ذلك، ومن ظن أن النص إنما يتناول خمر العنب قال إنه لم يبين حكم هذه المسكرات التي هي في الأرض أكثر من خمر العنب، بل كان ذلك ثابتا بالقياس، وهؤلاء غلطوا في فهم النص، ومما يبين ذلك أنه قد ثبت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة أن الخمر لما حرمت لم يكن بالمدينة من خمر العنب شيء، فإن المدينة لم يكن فيها شجر العنب، وإنما كان عندهم النخل، فكان خمرهم من التمر، ولما حرمت الخمر أراقوا تلك الأشربة التي كانت من التمر، وعلموا أن ذلك الشراب هو خمر محرم، فعلم أن لفظ الخمر لم يكن عندهم مخصوصا بعصير العنب، وسواء كان ذلك في لغتهم فتناول، أو كانوا عرفوا التعميم بلغة الرسول ﷺ فإنه المبين عن الله مراده، فإن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف، يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة، وتارة فيما هو أخص، وكذلك لفظ الميسر هو عند أكثر العلماء يتناول اللعب بالنرد والشطرنج، ويتناول بيوع الغرر التي نهى عنها النبي ﷺ فإن فيها معنى القمار الذي هو ميسر، إذ القمار معناه أن يؤخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة، هل يحصل له عوضه أو لا يحصل، كالذي يشتري العبد الآبق، والبعير الشارد، وحبل الحبلة ونحو ذلك مما قد يحصل له وقد لا يحصل له، وعلى هذا فلفظ الميسر في كتاب الله تعالى يتناول هذا كله، وما ثبت في صحيح مسلم، عن النبي ﷺ أنه { نهى عن بيع الغرر } يتناول كل ما فيه مخاطرة، كبيع الثمار قبل بدو صلاحها، وبيع الأجنة في البطون وغير ذلك، ومن هذا الباب لفظ الربا، فإنه يتناول كل ما نهي عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله، لكن يحتاج في معرفة دخول الأنواع والأعيان في النص إلى ما يستدل به على ذلك، وهذا الذي يسمى تحقيق المناط، وكذلك قوله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }، وقوله: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }، ونحو ذلك يعم بلفظه كل مطلقة، ويدل على أن كل طلاق فهو رجعي، ولهذا قال أكثر العلماء بذلك، وقالوا: لا يجوز للرجل أن يطلق المرأة ثلاثا، ويدل أيضا على أن الطلاق لا يقع إلا رجعيا، وإن ما كان بائنا فليس من الطلقات الثلاث فلا يكون الخلع من الطلقات الثلاث، كقول ابن عباس والشافعي في قول، وأحمد في المشهور عنه، لكن بينهم نزاع، هل ذلك مشروط بأن يخلو الخلع عن لفظ الطلاق ونيته، أو بالخلو عن لفظه فقط، أو لا يشترط شيء من ذلك ؟ على ثلاثة أقوال، وكذلك قوله تعالى: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، وذلك كفارة أيمانكم هو متناول لكل يمين من أيمان المسلمين، فمن العلماء من قال: كل يمين من أيمان المسلمين ففيها كفارة، كما دل عليه الكتاب والسنة، ومنهم من قال: لا يتناول النص إلا الحلف باسم الله، وغير ذلك لا تنعقد ولا شيء فيها، ومنهم من قال: بل هي أيمان يلزم الحلف بها ما التزمه ولا تدخل في النص، ولا ريب أن النص يدل على القول الأول، فمن قال إن النص لم يبين حكم جميع أيمان المسلمين، كان هذا رأيا منه، لم يكن هذا مدلول النص، وكذلك الكلام في عامة مسائل النزاع بين المسلمين، إذا طلب ما يفصل النزاع من نصوص الكتاب والسنة وجد ذلك، وتبين أن النصوص شاملة لعامة أحكام الأفعال، وكان الإمام أحمد يقول: إنه ما من مسألة يسأل عنها إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها، والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص، كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم، ويتكلمون بالرأي، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا، والقياس الصحيح نوعان: أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقا غير موثر في الشرع، كما ثبت عن النبي ﷺ في الصحيح، أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن ؟ فقال: { ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم }، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن، فلهذا قال جماهير العلماء: إن أي نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهر الذي يقع في السمن، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن، ومن قال من أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن، فقد أخطأ، فإن النبي ﷺ لم يخص الحكم بتلك الصورة، لكن لما استفتي عنها أفتى فيها، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع، فأجاب المفتي عن ذلك خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه بالحكم، ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة، وعليه جبة مضمخة بخلوق ؟ فقال: { انزع عنك الجبة واغسل عنك الخلوق واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك }، فأجابه عن الجبة، ولو كان عليه قميص أو نحوه كان الحكم كذلك بالإجماع، والنوع الثاني من القياس: أن ينص على حكم لمعنى من المعاني ويكون ذلك المعنى موجودا في غيره، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما، وكان هذا قياسا صحيحا، فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما ا، وهما من باب فهم مراد الشارع، فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه، وعلى أن يعرف مراده باللفظ، وإذا عرفنا مراده فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك لا لمعنى يخص الأصل، أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك، وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص منعنا القياس، كما أنه علمنا أن الحج خص به الكعبة، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس، ونحو ذلك فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره، وإذا عين الشارع مكانا أو زمانا للعبادة كتعيين الكعبة وشهر رمضان، أو عين بعض الأقوال والأفعال، كتعيين القراءة في الصلاة والركوع والسجود، بل وتعيين التكبير وأم القرآن، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعين الأشهر الحرم، وقالوا: المقصود أربعة أشهر من السنة، فقال تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله }، وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص، من جنس قياس الذين قالوا: { إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا }، وكذلك قياس المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكى، وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله، قال تعالى: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون }، فهذه الأقيسة الفاسدة وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد، وكل من ألحق منصوصا بمنصوص يخالف حكمه فقياسه فاسد، وكل من سوى بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد، لكن من القياس ما يعلم صحته، ومنه ما يعلم فساده، ومنه ما لم يتبين أمره، فمن أبطل القياس مطلقا فقوله باطل، ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل، ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته فقد استدل بما لا يعلم صحته، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته، فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته، وإلى ما يعلم فساده، وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدهما، ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أحكام أفعال المكلفين، ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض، كقوله: { تلك عشرة كاملة } { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان }، فالكتاب هو النص، والميزان هو العدل، والقياس الصحيح من باب العدل، فإنه تسوية بين المتماثلين وتفريق بين المختلفين، ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح، ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالمنصوص وبالأقيسة، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم، كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر، كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر ; لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعنى، وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب، فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص، وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس، لكن يقولون: معنا آثار توافق اتبعناها، ويقولون: إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر، وغلطوا في فهم النص، وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم، ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قال تعالى: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله }، والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه، لا تحتمل هذه الورقة بسطه أكثر من هذا، والله أعلم . - -مسألة: سئل شيخ الإسلام عن جماعة من المسلمين اشتد نكيرهم على من أكل من ذبيحة يهودي أو نصراني مطلقا، ولا يدري ما حالهم، هل دخلوا في دينهم قبل نسخه وتحريفه وقبل مبعث النبي ﷺ أم بعد ذلك، بل يتناكحون، وتقر مناكحتهم عند جميع الناس، وهم أهل ذمة يؤدون الجزية، ولا يعرف من ولاهم من آبائهم، فهل للمنكرين عليهم منعهم من الذبح للمسلمين، أم لهم الأكل من ذبائحهم كسائر بلاد المسلمين ؟ أجاب: رضي الله عنه: ليس لأحد أن ينكر على أحد أكل من ذبيحة اليهود والنصارى في هذا الزمان، ولا يحرم ذبحهم للمسلمين، ومن أنكر ذلك فهو جاهل مخطئ مخالف لإجماع المسلمين، فإن أصل هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين، ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة، وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء، كيف والقول بتحريم ذلك في هذا الزمان وقبله قول ضعيف جدا مخالف لما علم من سنة رسول الله ﷺ ولما علم من حال أصحابه والتابعين لهم بإحسان، وذلك لأن المنكر لهذا لا يخرج عن


قولين: إما أن يكون ممن يحرم ذبائح أهل الكتاب مطلقا، كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة، وهؤلاء يحرمون نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، وهذا ليس من أقوال أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالفتيا، ولا من أقوال أتباعهم، وهو خطأ مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم، فإن الله تعالى قال في كتابه: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }، فإن قيل: هذه الآية معارضة بقوله: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }، وبقوله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر }، قيل: الجواب من ثلاثة أوجه، أحدها: أن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب، وإنما يدخلون في الشرك المقيد، قال الله تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين }، فجعل المشركين قسما غير أهل الكتاب، وقال تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا }، فجعلهم قسما غيرهم، فأما دخولهم في المقيد، ففي قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }، فوصفهم بأنهم مشركون، وسبب هذا: أن أصل دينهم الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل ليس فيه شرك، كما قال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }، وقال تعالى: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }، وقال: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }، ولكنهم بدلوا وغيروا، فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل به الله سلطانا، فصار فيهم شرك باعتبار ما ابتدعوا، لا باعتبار أصل الدين، وقوله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } هو تعريف للكوافر المعروفات اللاتي كن في عصم المسلمين، وأولئك كن مشركات لا كتابيات من أهل مكة ونحوها، الوجه الثاني: إذا قدر أن لفظ المشركات والكوافر يعم الكتابيات، فآية المائدة خاصة، وهي متأخرة نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة باتفاق العلماء، كما في الحديث { المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها } والخاص المتأخر يقضي على العام المتقدم باتفاق علماء المسلمين، لكن الجمهور يقولون إنه مفسر له، فتبين أن صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام، وطائفة يقولون إن ذلك نسخ بعد أن شرع، الوجه الثالث: إذا فرضنا النصين خاصين، فأحد النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم، والآخر أحلهما، فالنص المحلل لهما هنا يجب تقديمه لوجهين: أحدهما: أن سورة المائدة هي المتأخرة باتفاق العلماء، فتكون ناسخة للنص المتقدم، ولا يقال إن هذا نسخ للحكم مرتين ; لأن فعل ذلك قبل التحريم لم يكن بخطاب شرعي حلل ذلك، بل كان لعدم التحريم، بمنزلة شرب الخمر، وأكل الخنزير ونحو ذلك، والتحريم المبتدأ لا يكون نسخا لاستصحاب حكم الفعل، ولهذا لم يكن تحريم النبي ﷺ لكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير ناسخا لما دل عليه قوله تعالى: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } الآية ; من أن الله عز وجل لم يحرم قبل نزول الآية إلا هذه الأصناف الثلاثة، فإن هذه الآية نفت تحريم ما سوى الثلاثة إلى حين نزول هذه الآية، ولم يثبت تحليل ما سوى ذلك، بل كان ما سوى ذلك عفوا لا تحليل فيه ولا تحريم، كفعل الصبي والمجنون، وكما في الحديث المعروف: { الحلال ما حلله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه }، وهذا محفوظ، عن سلمان الفارسي موقوفا عليه، أو مرفوعا إلى النبي ﷺ، ويدل على ذلك أنه قال في سورة المائدة { اليوم أحل لكم الطيبات }، فأخبر أنه أحلها ذلك اليوم، وسورة المائدة مدنية بالإجماع، وسورة الأنعام مكية بالإجماع، فعلم أن تحليل الطيبات كان بالمدينة لا بمكة، وقوله تعالى: { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } إلى قوله: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم }، إلى آخرها، فثبت نكاح الكتابيات، وقبل ذلك كان إما عفوا على الصحيح، وإما محرما ثم نسخ، يدل عليه أن آية المائدة لم ينسخها شيء، الوجه الثاني: أنه قد ثبت حل طعام أهل الكتاب بالكتاب والسنة والإجماع، والكلام في نسائهم كالكلام في ذبائحهم، فإذا ثبت حل أحدهما، ثبت حل الآخر، وحل أطعمتهم ليس له معارض أصلا، ويدل على ذلك أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدل على أنهم كانوا مجتمعين على جواز ذلك، فإن قيل: قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم }، محمول على الفواكه والحبوب، قيل: هذا خطأ لوجوه: أحدها: أن هذه

مباحة من أهل الكتاب والمشركين والمجوس، فليس في تخصيصها بأهل الكتاب فائدة، الثاني: أن إضافة الطعام إليهم يقتضي أنه صار طعاما بفعلهم، وهذا إنما يستحق في الذبائح التي صارت لحما بذكاتهم، فأما الفواكه فإن الله خلقها مطعومة لم تصر طعاما بفعل آدمي، الثالث: أنه قرن حل الطعام بحل النساء، وأباح طعامنا لهم، كما أباح طعامهم لنا، ومعلوم أن حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين، كما أباح طعامهم لنا، ومعلوم أن حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين، وكذلك حكم الطعام والفاكهة، والحب لا يختص بأهل الكتاب، الرابع: أن لفظ الطعام عام، وتناوله اللحم ونحوه أقوى من تناوله للفاكهة، فيجب إقرار اللفظ على عمومه، لا سيما وقد قرن به قوله تعالى: { وطعامكم حل لهم }، ونحن يجوز لنا أن نطعمهم كل أنواع طعامنا، فكذلك يحل لنا أن نأكل جميع أنواع طعامهم، وأيضا فقد ثبت في الصحاح، بل بالنقل المستفيض أن النبي ﷺ أهدت له اليهودية عام خيبر شاة مشوية، فأكل منها لقمة، ثم قال: { إن هذه تخبرني أن فيها سما }، ولولا أن ذبائحهم حلال لما تناول من تلك الشاة، وثبت في الصحيح أنهم لما غزوا خيبر، أخذ بعض الصحابة جرابا فيه شحم، قال: قلت لا أطعم اليوم من هذا أحدا، فالتفت فإذا رسول الله ﷺ يضحك ولم ينكر عليه، وهذا مما استدل به العلماء على جواز أكل جيش المسلمين من طعام أهل الحرب قبل القسمة، وأيضا { فإن رسول الله ﷺ أجاب دعوة يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة }، رواه الإمام أحمد، والإهالة من الودك الذي يكون من الذبيحة ومن السمن ونحوه، الذي يكون في أوعيتهم التي يطبخون فيها في العادة، ولو كانت ذبائحهم محرمة لكانت أوانيهم كأواني المجوس ونحوهم، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه نهى عن الأكل في أوعيتهم حتى رخص أن يغسل، وأيضا فقد استفاض أن أصحاب رسول الله ﷺ لما فتحوا الشام والعراق ومصر كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب: اليهود والنصارى، وإنما امتنعوا من ذبائح المجوس، ووقع في جبن المجوس من النزاع ما هو معروف بين المسلمين ; لأن الجبن يحتاج إلى الإنفحة، وفي إنفحة الميتة نزاع معروف بين العلماء، فأبو حنيفة يقول بطهارتها، ومالك والشافعي يقولان بنجاستها، وعن أحمد روايتان، فصل: المأخذ الثاني: الإنكار على من يأكل ذبائح أهل الكتاب هو كون هؤلاء الموجودين لا يعلم أنهم من ذرية من دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل، وهو المأخذ الذي دل عليه كلام السائل، وهو المأخذ الذي تنازع فيه علماء المسلمين أهل السنة والجماعة، وهذا مبني على أصل، وهو أن قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }، هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين أهل الكتاب ؟ أو المراد به من كان آباؤه قد دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ؟ على قولين للعلماء: فالقول الأول: هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وأحد القولين في مذهب أحمد، بل هو المنصوص عنه صريحا، والثاني: قول الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، وأصل هذا القول: أن عليا، وابن عباس تنازعا في ذبائح بني تغلب، فقال علي: لا تباح ذبائحهم ولا نساؤهم، فإنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر، وروي عنه، تغروهم ; لأنهم لم يقوموا بالشروط التي شرطها عليهم عثمان، فإنه شرط عليهم أن لا وغير ذلك من الشروط، وقال ابن عباس: بل تباح لقوله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم }، وعامة المسلمين من الصحابة وغيرهم لم يحرموا ذبائحهم، ولا يعرف ذلك إلا عن علي وحده، وقد روي معنى قول ابن عباس عن عمر بن الخطاب، فمن العلماء من رجح قول عمر وابن عباس، وهو قول الجمهور كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وصححها طائفة من أصحابه، بل هي آخر قوليه، بل عامة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا القول، وقال أبو بكر الأثرم: ما علمت أحدا من أصحاب النبي ﷺ كرهه إلا عليا، وهذا قول جماهير فقهاء الحجاز والعراق، وفقهاء الحديث والرأي، كالحسن، وإبراهيم النخعي، والزهري وغيرهم، وهو الذي نقله عن أحمد أكثر أصحابه، وقال إبراهيم بن الحارث: كان آخر قول أحمد على أنه لا يرى بذبائحهم بأسا، ومن العلماء من رجح قول علي، وهو قول الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وأحمد إنما اختلف اجتهاده في بني تغلب، وهم الذين تنازع فيهم الصحابة، فأما سائر اليهود والنصارى من العرب، مثل تنوخ وبهراء، وغيرهما من اليهود فلا أعرف عن أحمد في حل ذبائحهم نزاعا، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين وغيرهم من السلف، وإنما كان النزاع بينهم في بني تغلب خاصة، ولكن من أصحاب أحمد من جعل فيهم روايتين كبني تغلب، والحل مذهب الجمهور كأبي حنيفة ومالك، وما أعلم لقول الآخر قدوة من السلف، ثم هؤلاء المذكورون من أصحاب أحمد [ قالوا ] بأنه: من كان أحد أبويه غير كتابي، بل مجوسيا لم تحل ذبيحته ومناكحة نسائه، وهذا مذهب الشافعي فيما إذا كان الأب مجوسيا، وأما الأم فله فيها قولان، فإن كان الأبوان مجوسيين حرمت ذبيحته عند الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، وحكي ذلك عن مالك، وغالب ظني أن هذا غلط على مالك فإني لم أجده في كتب أصحابه، وهذا تفريع على الرواية المخرجة عن أحمد في سائر اليهود والنصارى من العرب، وهذا مبني على إحدى الروايتين عنه في نصارى بني تغلب، وهو الرواية التي اختارها هؤلاء، فأما إذا جعل الروايتين في بني تغلب دون غيرهم من العرب، أو قيل إن النزاع عام، وفرعنا على القول بحل ذبائح بني تغلب ونسائهم، كما هو قول الأكثرين، فإنه على هذه الرواية لا عبرة بالنسب، بل لو كان الأبوان جميعا مجوسيين أو وثنيين والولد من أهل الكتاب، فحكمه حكم أهل الكتاب على هذا القول بلا ريب، كما صرح بذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم .

مسألة: وسئل شيخ الإسلام، عما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل، والاغتسال، والحناء والمصافحة، وطبخ الحبوب وإظهار السرور، وغير ذلك إلى الشارع: فهل ورد في ذلك عن النبي ﷺ حديث صحيح ؟ أم لا ؟ وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا ؟ وما تفعله الطائفة الأخرى من المأتم والحزن والعطش، وغير ذلك من الندب والنياحة، وقراءة المصروع، وشق الجيوب، هل لذلك أصل ؟ أم لا ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئا، لا عن النبي ﷺ ولا الصحابة، ولا التابعين، لا صحيحا ولا ضعيفا، لا في كتب الصحيح، ولا في السنن، ولا المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة، ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام، ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، وأمثال ذلك، ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء، ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم، واستواء السفينة على الجودي، ورد يوسف على يعقوب، وإنجاء إبراهيم من النار، وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك، ورووا في حديث موضوع مكذوب على النبي ﷺ: { أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة }، ورواية هذا كله عن النبي ﷺ كذب، ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه، قال: { بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر سنته } وإبراهيم بن محمد بن المنتشر من أهل الكوفة، وأهل الكوفة كان فيه طائفتان، طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت، وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة، وإما جهال، وأصحاب هوى، وطائفة ناضبة تبغض عليا، وأصحابه، لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: { سيكون في ثقيف كذاب ومبير }، فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان يظهر موالاة أهل البيت، والانتصار لهم، وقتل عبيد الله بن زياد أمير العراق الذي جهز السرية التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنهما ثم إنه أظهر الكذب، وادعى النبوة، وأن جبريل عليه السلام ينزل عليه، حتى قالوا لابن عمر وابن عباس، قالوا لأحدهما: إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه ينزل عليه، فقال صدق، قال الله تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم }، وقالوا للآخر: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال صدق: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم }، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان: منحرفا عن علي وأصحابه، فكان هذا من النواصب، والأول من الروافض، وهذا الرافضي كان: أعظم كذبا وافتراء، وإلحادا في الدين، فإنه ادعى النبوة، وذاك كان أعظم عقوبة لمن خرج على سلطانه، وانتقاما لمن اتهمه بمعصية أميره عبد الملك بن مروان، وكان في الكوفة بين هؤلاء وهؤلاء فتن وقتال فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية، وأكرم الله الحسين بالشهادة، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته، أكرم بها حمزة وجعفر، وأباه عليا، وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته، وأعلى درجته، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء، كما قال النبي ﷺ { لما سئل: أي الناس أشد بلاء فقال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة }، رواه الترمذي وغيره، فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق، من المنزلة العالية، ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب، فإنهما ولدا في عز الإسلام، وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما ويكرمونهما، ومات النبي ﷺ ولم يستكملا من التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلي من كان أفضل منهما، فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وقد قتل شهيدا وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس، كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلي اليوم، ولهذا جاء في الحديث { ثلاث من نجا منهن فقد نجا: موتي، وقتل خليفة مصطبر والدجال }، فكان موت النبي ﷺ من أعظم الأسباب التي افتتن بها خلق كثير من الناس، وارتدوا عن الإسلام، فأقام الله تعالى الصديق رضي الله عنه حتى ثبت الله به الإيمان، وأعاد به الأمر إلى ما كان، فأدخل أهل الردة في الباب الذي منه خرجوا، وأقر أهل الإيمان على الدين الذي ولجوا فيه وجعل الله فيه من القوة والجهاد والشدة على أعداء الله، واللين لأولياء الله ما استحق به وبغيره أن يكون خليفة رسول الله ﷺ، ثم استخلف عمر فقهر الكفار من المجوس، وأهل الكتاب، وأعز الإسلام، ومصر الأمصار، وفرض العطاء، ووضع الديوان، ونشر العدل، وأقام السنة، وظهر الإسلام في أيامه ظهورا بان به تصديق قوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا }، وقوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا }، وقول النبي ﷺ: { إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله }، فكان عمر رضي الله عنه هو الذي أنفق كنوزهما فعلم أنه أنفقها في سبيل الله، وأنه كان خليفة راشدا مهديا، ثم جعل الأمر شورى في ستة، فاتفق المهاجرون والأنصار على تقديم عثمان بن عفان من غير رغبة بذلها لهم، ولا رهبة أخافهم بها وبايعوه بأجمعهم طائعين غير كارهين، وجرى في آخر أيامه أسباب ظهر بالشر فيها أهل العلم والجهل والعدوان، وما زالوا يسعون في الفتن حتى قتل الخليفة مظلوما شهيدا بغير سبب يبيح قتله، وهو صابر محتسب، لم يقاتل مسلما، فلما قتل رضي الله عنه تفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذل الأخيار، وسعى في الفتنة من كان عاجزا عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته، فبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أحق الناس بالخلافة حينئذ، وأفضل من بقي، لكن كانت القلوب متفرقة، ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة، ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة من كل ما يريدونه من الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام، وكان ما كان، إلى أن ظهرت الحرورية المارقة، مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، فقاتلوا أمير المؤمنين عليا ومن معه، فقتلهم بأمر الله ورسوله، طاعة لقول النبي ﷺ لما وصفهم بقوله: { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة }، وقوله: { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } أخرجاه في الصحيحين، فكانت هذه الحرورية هي المارقة، وكان بين المؤمنين فرقة، والقتال بين المؤمنين لا يخرجهم من الإيمان، كما قال تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم }، فبين سبحانه وتعالى أنهم مع الاقتتال وبغي بعضهم على بعض مؤمنون إخوة، وأمر بإصلاح بينهم، فإن بغت إحداهما بعد ذلك قوتلت الباغية، ولم يأمر بالاقتتال ابتداء، وأخبر النبي ﷺ أن الطائفة المارقة يقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق، فكان علي بن أبي طالب ومن معه هم الذين قاتلوهم، فدل كلام النبي ﷺ على أنهم أدنى إلى الحق من معاوية ومن معه مع إيمان الطائفتين، ثم إن عبد الرحمن بن ملجم من هؤلاء المارقين، قتل أمير المؤمنين عليا فصار إلى كرامة الله ورضوانه شهيدا، وبايع الصحابة للحسن ابنه، فظهرت فضيلته التي أخبر بها رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح حيث قال: { إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين } فنزل عن الولاية وأصلح الله به بين الطائفتين، وكان هذا مما مدحه به النبي ﷺ وأثنى عليه، ودل ذلك على أن الإصلاح بينهما مما يحبه الله ورسوله ويحمده الله ورسوله، ثم إنه مات وصار إلى كرامة الله ورضوانه، وقامت طوائف كاتبوا الحسين ووعدوه بالنصر والمعاونة إذا قام بالأمر، ولم يكونوا من أهل ذلك، بل لما أرسل إليهم ابن عمه أخلفوا وعده، ونقضوا عهده، وأعانوا عليه من وعدوه أن يدفعوه عنه، ويقاتلوه معه، وكان أهل الرأي والمحبة للحسين كابن عباس وابن عمر وغيرهما أشاروا عليه بأن لا يذهب إليهم، ولا يقبل منهم، ورأوا أن خروجه إليهم ليس بمصلحة، ولا يترتب عليه ما يسر، وكان الأمر كما قالوا، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فلما خرج الحسين - رضي الله عنه - ورأى أن الأمور قد تغيرت، طلب منهم أن يدعوه يرجع، أو يلحق ببعض الثغور، أو يلحق بابن عمه يزيد، فمنعوه هذا وهذا، حتى يستأسر، وقاتلوه فقاتلهم فقتلوه، وطائفة ممن معه، مظلوما شهيدا شهادة أكرمه الله بها وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين، وأهان بها من ظلمه واعتدى عليه، وأوجب ذلك شرا بين الناس، فصارت طائفة جاهلة ظالمة: إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته، وموالاة أهل بيته تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهلية، والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة - إذا كانت جديدة - إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع، كما قال تعالى: { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية }، وقال: { أنا بريء من الصالقة، والحالقة، والشاقة }، وقال: { النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب }، وفي المسند عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين عن النبي ﷺ أنه قال: { ما من رجل يصاب بمصيبة، فيذكر مصيبته وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها }، وهذا من كرامة الله للمؤمنين، فإن مصيبة الحسين وغيره إذا ذكرت بعد طول العهد، فينبغي للمؤمن أن يسترجع فيها كما أمر الله ورسوله ليعطى من الأجر مثل أجر المصاب يوم أصيب بها، وإذا كان الله تعالى قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة، فكيف مع طول الزمان، فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتما، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن، والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا ولم يعرف طوائف الإسلام أكثر كذبا وفتنا ومعاونة للكفار على أهل الإسلام، من هذه الطائفة الضالة الغاوية، فإنهم شر من الخوارج المارقين، وأولئك قال فيهم النبي ﷺ: { يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان }، وهؤلاء يعاونون اليهود والنصارى والمشركين على أهل بيت النبي ﷺ وأمته المؤمنين كما أعانوا المشركين من الترك والتتار على ما فعلوه ببغداد، وغيرها، بأهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ولد العباس، وغيرهم من أهل البيت والمؤمنين، من القتل والسبي وخراب الديار، وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام، لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام، فعارض هؤلاء قوم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد، والكذب بالكذب، والشر بالشر، والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب، وتوسيع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسما كمواسم الأعياد والأفراح، وأولئك يتخذونه مأتما يقيمون فيه الأحزان والأتراح وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة، وإن كان أولئك أسوأ قصدا وأعظم جهلا، وأظهر ظلما، لكن الله أمر بالعدل والإحسان، وقد قال النبي ﷺ: { إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة }، ولم يسن رسول الله ﷺ ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئا من هذه الأمور، لا شعائر الحزن والترح، ولا شعائر السرور والفرح، { ولكنه ﷺ لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا ؟ فقالوا، هذا يوم نجى الله فيه موسى من الغرق فنحن نصومه، فقال: نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه } وكانت قريش أيضا تعظمه في الجاهلية، واليوم الذي أمر الناس بصيامه كان يوما واحدا، فإنه قدم المدينة في شهر ربيع الأول، فلما كان في العام القابل صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه ثم فرض شهر رمضان ذلك العام، فنسخ صوم عاشوراء، وقد تنازع العلماء: هل كان صوم ذلك اليوم واجبا ؟ أو مستحبا ؟ على قولين مشهورين أصحهما أنه كان واجبا، ثم إنه بعد ذلك كان يصومه من يصومه استحبابا، ولم يأمر النبي ﷺ العامة بصيامه، بل كان يقول: { هذا يوم عاشوراء، وأنا صائم فيه فمن شاء صام }، وقال: { صوم عاشوراء يكفر سنة، وصوم يوم عرفة يكفر سنتين }، { ولما كان آخر عمره ﷺ وبلغه أن اليهود يتخذونه عيدا، قال: لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع }، ليخالف اليهود، ولا يشابههم في اتخاذه عيدا، وكان من الصحابة والعلماء من لا يصومه، ولا يستحب صومه، بل يكره إفراده بالصوم، كما نقل ذلك عن طائفة من الكوفيين، ومن العلماء من يستحب صومه، والصحيح أنه يستحب لمن صامه أن يصوم معه التاسع ; لأن هذا آخر أمر النبي ﷺ لقوله: { لئن عشت إلى قابل، لأصومن التاسع مع العاشر } كما جاء ذلك مفسرا في بعض طرق الحديث، فهذا الذي سنه رسول الله ﷺ، وأما سائر الأمور: مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة، إما حبوب وإما غير حبوب، أو تجديد لباس وتوسيع نفقة، أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم، أو فعل عبادة مختصة، كصلاة مختصة به، أو قصد الذبح، أو ادخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب، أو الاكتحال والاختضاب، أو الاغتسال أو التصافح، أو التزاور أو زيارة المساجد والمشاهد، ونحو ذلك، فهذا من البدع المنكرة، التي لم يسنها رسول الله ﷺ ولا خلفاؤه الراشدون، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا الثوري، ولا الليث بن سعد، ولا أبو حنيفة، ولا الأوزاعي، ولا الشافعي، ولا أحمد بن حنبل، ولا إسحاق بن راهويه، ولا أمثال هؤلاء من أئمة المسلمين، وعلماء المسلمين وإن كان بعض المتأخرين، من أتباع الأئمة قد كانوا يأمرون ببعض ذلك، ويروون في ذلك أحاديث وآثارا، ويقولون: " إن بعض ذلك صحيح، فهم مخطئون غالطون بلا ريب عند أهل المعرفة بحقائق الأمور، وقد قال حرب الكرماني في مسائله: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث: { من وسع على أهله يوم عاشوراء } فلم يره شيئا، وأعلى ما عندهم أثر يروى عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه أنه قال: بلغنا { أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته } قال سفيان بن عيينة جربناه منذ ستين عاما فوجدناه صحيحا، وإبراهيم بن محمد كان من أهل الكوفة، ولم يذكر ممن سمع هذا ولا عمن بلغه، فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون عليا وأصحابه ويريدون أن يقابلوا الرافضة بالكذب: مقابلة الفاسد بالفاسد والبدعة بالبدعة، وأما قول ابن عيينة، فإنه لا حجة فيه، فإن الله سبحانه أنعم عليه برزقه، وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء، وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه، وهذا كما أن كثيرا من الناس ينذرون نذرا لحاجة يطلبها، فيقضي الله حاجته، فيظن أن النذر كان السبب، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: { أنه نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل }، فمن ظن أن حاجته إنما قضيت بالنذر، فقد كذب على الله ورسوله، والناس مأمورون بطاعة الله ورسوله، واتباع دينه وسبيله، واقتفاء هداه ودليله، وعليهم أن يشكروا الله على ما عظمت به النعمة، حيث بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: { إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة }، وقد اتفق أهل المعرفة والتحقيق أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يتبع إلا أن يكون موافقا لأمر الله ورسوله، ومن رأى من رجل مكاشفة أو تأثيرا فاتبعه في خلاف الكتاب والسنة كان من جنس أتباع الدجال، فإن الدجال يقول للسماء: أمطري فتمطر، ويقول للأرض، أنبتي فتنبت، ويقول للخربة أخرجي كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة، ويقتل رجلا ثم يأمره أن يقوم فيقوم، وهو مع هذا كافر ملعون عدو لله، قال النبي ﷺ: { ما من نبي إلا قد أنذر أمته الدجال: وأنا أنذركموه إنه أعور وإن الله ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر - ك ف ر - يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ، واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت }، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: { إذا قعد أحدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال }، وقال ﷺ: { لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون، كلهم يزعم أنه رسول الله }، وقال ﷺ: { يكون بين يدي الساعة كذابون دجالون، يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم }، هؤلاء تنزل عليهم الشياطين وتوحي إليهم، كما قال تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون }، ومن أول من ظهر من هؤلاء المختار بن أبي عبيد المتقدم ذكره، ومن لم يفرق بين الأحوال الشيطانية والأحوال الرحمانية: كان بمنزلة من سوى بين محمد رسول الله وبين مسيلمة الكذاب، فإن مسيلمة كان له شيطان ينزل عليه ويوحي إليه، ومن علامات هؤلاء أن الأحوال إذا تنزلت عليهم وقت سماع المكاء والتصدية أزبدوا وأرعدوا - كالمصروع - وتكلموا بكلام لا يفقه معناه، فإن الشياطين تتكلم على ألسنتهم، كما تتكلم على لسان المصروع، والأصل في هذا الباب: أن يعلم الرجل أن أولياء الله هم الذين نعتهم الله في كتابه، حيث قال: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون }، فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ { أنه قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه }، ودين الإسلام مبني على أصلين، على أن لا نعبد إلا الله، وأن نعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع، قال تعالى: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }، فالعمل الصالح ما أحبه الله ورسوله، وهو المشروع المسنون، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في دعائه، اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا .
====
 

إقامة الدليل على إبطال التحليل/14..

- سئل: في قراءة المؤتم خلف الإمام: جائزة أم لا ؟ وإذا قرأ خلف الإمام: هل عليه إثم في ذلك، أم لا ؟ الجواب: القراءة خلف الإمام في الصلاة لا تبطل عند الأئمة - رضوان الله عليهم - لكن تنازع العلماء أيهما أفضل في حق المأموم ؟ فمذهب مالك والشافعي وأحمد: أن الأفضل له أن يقرأ في حال سكوت الإمام: كصلاة الظهر، والعصر، والأخيرتين من المغرب والعشاء، وكذلك يقرأ في صلاة الجهر إذا لم يسمع قراءته، ومذهب أبي حنيفة: أن الأفضل أن لا يقرأ خلفه بحال، والسلف - رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين - منهم من كان يقرأ، ومنهم من كان لا يقرأ خلف الإمام، وأما إذا سمع المأموم قراءة الإمام فجمهور العلماء على أنه يستمع ولا يقرأ بحال، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم، ومذهب الشافعي أنه يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة، ومذهب طائفة كالأوزاعي وغيره من الشاميين يقرؤها استحبابا، وهو اختيار جدنا، والذي عليه جمهور العلماء هو الفرق بين حال الجهر وحال المخافتة، فيقرأ في حال السر، ولا يقرأ في حال الجهر، وهذا أعدل الأقوال ; لأن الله تعالى، قال: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } فإذا قرأ الإمام فليستمع، وإذا سكت فليقرأ فإن القراءة خير من السكوت الذي لا استماع معه، ومن قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، كما قال النبي ﷺ فلا يفوت هذا الأجر بلا فائدة بل يكون إما مستمعا، وإما قارئا، والله سبحانه وتعالى أعلم .

- مسألة: في مسجد يقرأ فيه القرآن والتلقين بكرة وعشية، ثم على باب المسجد شهود يكثرون الكلام ويقع التشويش على القراء، فهل يجوز ذلك أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، ليس لأحد أن يؤذي أهل المسجد أهل الصلاة أو القراءة أو الذكر أو الدعاء ونحو ذلك مما بنيت المساجد له، فليس لأحد أن يفعل في المسجد ولا على بابه قريبا منه ما يشوش على هؤلاء، بل قد { خرج النبي ﷺ على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال: يا أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة } "، فإذا كان قد نهى المصلي أن يجهر على المصلي فكيف بغيره ؟ ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع من ذلك، والله أعلم .

- مسألة: عن رجل دعا دعاء ملحونا، فقال له رجل: ما يقبل الله دعاء ملحونا، وأما من دعا الله مخلصا له الدين بدعاء جائز سمعه الله وأجاب دعاه، سواء كان معربا أو ملحونا، والكلام المذكور لا أصل له، بل ينبغي للداعي إذا لم يكن عادته الإعراب أن لا يتكلف الإعراب، قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع، وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به، فإن أصل الدعاء من القلب، واللسان تابع للقلب، ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه، ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه، لا يحضره قبل ذلك، وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه، والدعاء يجوز بالعربية وبغير العربية، والله سبحانه يعلم قصد الداعي ومراده، وإن لم يقوم لسانه فإنه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات .

فصل: وأما قول من قال: إن الله ينظر إلى الفقراء في ثلاثة مواطن: عند الأكل، والمناصفة، والسماع، فهذا القول روي نحوه عن بعض الشيوخ قال: إن الله ينظر إليهم عند الأكل فإنهم يأكلون بإيثار، وعند المجاراة في العلم لأنهم يقصون المناصحة، وعند السماع لأنهم يسمعون لله، أو كلاما يشبه هذا، والأصل الجامع في هذا: أن من عمل عملا يحبه الله ورسوله وهو ما كان لله بإذن الله فإن الله يحبه وينظر إليه فيه نظر محبة، والعمل الصالح هو الخالص الصواب، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان بأمر الله، ولا ريب أن كل واحد من المواكلة والمخاطبة والاستماع منها ما يحبه الله، ومنها ما يشتمل على خير، وشر، وحق، وباطل، ومصلحة، ومفسدة، وحكم كل واحد بحسبه، فصل: وما يفعله بعض الناس من تحري الصلاة والدعاء عند ما يقال إنه قبر نبي، أو قبر أحد من الصحابة والقرابة، أو ما يقرب من ذلك، أو إلصاق بدنه، أو شيء من بدنه بالقبر، أو بما يجاور القبر من عود وغيره، كمن يتحرى الصلاة والدعاء في قبلي شرقي جامع دمشق عند الموضع الذي يقال أنه قبر هود والذي عليه العلماء أنه قبر معاوية بن أبي سفيان أو عند المثال الخشب الذي يقال تحته رأس يحيى بن زكريا ونحو ذلك: فهو مخطئ مبتدع، مخالف للسنة، فإن الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس له مزية عند أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا كانوا يفعلون ذلك، بل كانوا ينهون عن مثل ذلك، كما نهاهم النبي ﷺ عن أسباب ذلك ودواعيه، وإن لم يقصدوا دعاء القبر، والدعاء به، فكيف إذا قصدوا ذلك .

فصل: وأما قوله: هل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت معين، أو مكان معين عند قبر نبي أو ولي، فلا ريب أن الدعاء في بعض الأوقات والأحوال أجوب منه في بعض، فالدعاء في جوف الليل أجوب الأوقات، كما ثبت في الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: { ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير - وفي رواية: نصف الليل - فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر } "، وفي حديث آخر: { أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الأخير } " والدعاء مستحب عند نزول المطر، وعند التحام الحرب، وعند الأذان، والإقامة، وفي أدبار الصلوات، وفي حال السجود، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم، وأمثال ذلك، فهذا كله مما جاءت به الأحاديث المعروفة في الصحاح والسنن، والدعاء بالمشاعر: كعرفة، ومزدلفة، ومنى، والملتزم، ونحو ذلك من مشاعر مكة، والدعاء بالمساجد مطلقا، وكلما فضل المسجد كالمساجد الثلاثة كانت الصلاة والدعاء أفضل، وأما الدعاء لأجل كون المكان فيه قبر نبي، أو ولي، فلم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها إن الدعاء فيه أفضل من غيره ولكن هذا مما ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين، فأصله من دين المشركين، لا من دين عباد الله المخلصين، كاتخاذ القبور مساجد، فإن هذا لم يستحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولكن ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة لمن لعنهم رسول الله ﷺ من اليهود والنصارى، فصل: وأما قول السائل هل يجوز أن يستغيث إلى الله في الدعاء بنبي مرسل، أو ملك مقرب، أو بكلامه تعالى، أو بالكعبة، أو بالدعاء المشهور باحتياط قاف، أو بدعاء أم داود، أو الخضر، ويجوز أن يقسم على الله في السؤال بحق فلان بحرمة فلان بجاه المقربين بأقرب الخلق، أو يقسم بأعمالهم وأفعالهم، فيقال هذا السؤال فيه فصول متعددة، فأما الأدعية التي جاءت بها السنة ففيها سؤال الله بأسمائه، وصفاته، والاستعاذة بكلامه كما في الأدعية التي في السنن، مثل قوله: { اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت الله، بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم } "، ومثل قوله: { اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } " . ومثل الدعاء الذي في المسند { اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك } "، وأما الأدعية التي يدعو بها بعض العامة ويكتبها باعة الحروز من الطرقية التي فيها: أسألك باحتياط قاف، وهو يوف المخاف، والطور، والعرش، والكرسي، وزمزم، والمقام، والبلد الحرام، وأمثال هذه الأدعية فلا يؤثر منها شيء لا عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه، ولا عن أئمة المسلمين، وليس لأحد أن يقسم بهذه بحال، بل قد ثبت عن النبي ﷺ: أنه قال: { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } "، وقال: { من حلف بغير الله فقد أشرك } " فليس لأحد أن يقسم بالمخلوقات ألبتة، وقد قال النبي ﷺ: { إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره } "، كما قال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، وكما قال البراء بن مالك: أقسمت عليك أي رب إلا فعلت كذا وكذا، وكلاهما كان ممن يبر الله قسمه، والعبد يسأل ربه بالأسباب التي تقتضي مطلوبه وهي الأعمال الصالحة التي وعد الثواب عليها، ودعا عباده المؤمنين الذين وعد إجابتهم كما كان الصحابة يتوسلون إلى الله تعالى بنبيه ثم بعمه وغير عمه من صالحيهم يتوسلون بدعائه وشفاعته، كما في الصحيح: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون فتوسلوا بعد موته بالعباس كما كانوا يتوسلون به، وهو توسلهم بدعائه وشفاعته، ومن ذلك ما رواه أهل السنن، وصححه الترمذي: أن رجلا قال للنبي ﷺ: ادع الله أن يرد علي بصري، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في، فهذا طلب من النبي ﷺ وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له في توجيهه بنبيه إلى الله هو كتوسل غيره من الصحابة به إلى الله، فإن هذا التوجه والتوسل هو توجه وتوسل بدعائه وشفاعته .

-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله، عن أهل مدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة، ولم يثبت عند حاكم المدينة: فهل لهم أن يصوموا اليوم الذي في الظاهر التاسع، وإن كان في الباطن العاشر ؟ فأجاب: نعم، يصومون التاسع في الظاهر المعروف عند الجماعة، وإن كان في نفس الأمر يكون عاشرا، ولو قدر ثبوت تلك الرؤية، فإن في السنن: عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: { صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون } "، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وصححه، وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله ﷺ: { الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس } " رواه الترمذي، وعلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم، فإن الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأ أجزأهم الوقوف بالاتفاق، وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم، ولو وقفوا الثامن خطأ ففي الإجزاء نزاع، والأظهر صحة الوقوف أيضا، وهو أحد القولين في مذهب مالك، ومذهب أحمد وغيره، قالت عائشة - رضي الله عنها - " إنما عرفة اليوم الذي يعرفه الناس " وأصل ذلك أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بالهلال والشهر، فقال تعالى: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } والهلال اسم لما يستهل به: أي يعلن به، ويجهر به فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالا، وكذا الشهر مأخوذ من الشهرة، فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل، وإنما يغلط كثير من الناس في مثل هذه المسألة ؟ لظنهم أنه إذا طلع في السماء كان تلك الليلة أول الشهر، سواء ظهر ذلك للناس واستهلوا به أو لا، وليس كذلك: بل ظهوره للناس واستهلالهم به لا بد منه: ولهذا قال النبي ﷺ: { صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون } "، أي: هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم، والفطر، والأضحى، فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم، وصوم اليوم الذي يشك فيه: هل هو تاسع ذي الحجة ؟ أو عاشر ذي الحجة ؟ جائز بلا نزاع بين العلماء ; لأن الأصل عدم العاشر، كما أنهم لو شكوا ليلة الثلاثين من رمضان ; هل طلع الهلال ؟ أم لم يطلع ؟ فإنهم يصومون ذلك اليوم المشكوك فيه باتفاق الأئمة، وإنما يوم الشك الذي رويت فيه الكراهة الشك في أول رمضان ; لأن الأصل بقاء شعبان، وإنما الذي يشتبه في هذا الباب مسألتان: إحداهما: لو رأى هلال شوال وحده، أو أخبره به جماعة يعلم صدقهم: هل يفطر ؟ أم لا ؟ والثانية: لو رأى هلال ذي الحجة، أو أخبره به جماعة يعلم صدقهم، هل يكون في حقه يوم عرفة، ويوم النحر هو التاسع، والعاشر بحسب هذه الرؤية التي لم تشتهر عند الناس ؟ أو هو التاسع والعاشر الذي اشتهر عند الناس ؟، فأما المسألة الأولى: فالمنفرد برؤية هلال شوال، لا يفطر علانية، باتفاق العلماء، إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر، وهل يفطر سرا على قولين للعلماء أصحهما لا يفطر سرا، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور في مذهبهما، وفيهما قول أنه يفطر سرا كالمشهور في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وقد روى أن رجلين في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأيا هلال شوال، فأفطر أحدهما، ولم يفطر الآخر، فلما بلغ ذلك عمر قال: للذي أفطر لولا صاحبك لأوجعتك ضربا، والسبب في ذلك أن الفطر يوم يفطر الناس، وهو يوم العيد، والذي صامه المنفرد برؤية الهلال ليس هو يوم العيد الذي نهى النبي ﷺ عن صومه، فإنه نهى عن صوم يوم الفطر، ويوم النحر، وقال: { أما أحدهما فيوم فطركم من صومكم، وأما الآخر فيوم تأكلون فيه من نسككم } "، فالذي نهى عن صومه هو اليوم الذي يفطره المسلمون، وينسك فيه المسلمون، وهذا يظهر بالمسألة الثانية، فإنه لو انفرد برؤية ذي الحجة لم يكن له أن يقف قبل الناس في اليوم الذي هو في الظاهر الثامن، وإن كان بحسب رؤيته هو التاسع، وهذا لأن في انفراد الرجل في الوقوف، والذبح، من مخالفة الجماعة ما في إظهاره للفطر، وأما صوم يوم التاسع في حق من رأى الهلال، أو أخبره ثقتان أنهما رأيا الهلال، وهو العاشر بحسب ذلك، ولم يثبت ذلك عند العامة، وهو العاشر بحسب الرؤية الخفية، فهذا يخرج على ما تقدم، فمن أمره بالصوم يوم الثلاثين الذي هو بحسب الرؤية الخفية من شوال، ولم يأمره بالفطر سرا، سوغ له صوم هذا اليوم، واستحبه ; لأن هذا هو يوم عرفة، كما أن ذلك من رمضان، وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة والاعتبار، ومن أمره بالفطر سرا لرؤيته، نهاه عن صوم هذا اليوم عند هذا القائل، كهلال شوال الذي انفرد برؤيته، فإن قيل: قد يكون الإمام الذي فوض إليه إثبات الهلال مقصرا، لرده شهادة العدول، إما لتقصيره في البحث عن عدالتهم، وإما رد شهادتهم لعداوة بينه وبينهم، أو غير ذلك من الأسباب، التي ليست بشرعية، أو لاعتماده على قول المنجم الذي زعم أنه لا يرى، قيل: ما يثبت من الحكم لا يختلف الحال فيه بين الذي يؤتم به في رؤية الهلال، مجتهدا مصيبا كان أو مخطئا، أو مفرطا، فإنه إذا لم يظهر الهلال ويشتهر بحيث يتحرى الناس فيه، وقد ثبت في الصحيح أن { النبي ﷺ قال: في الأئمة: يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم } "، فخطؤه وتفريطه عليه، لا على المسلمين الذين لم يفرطوا، ولم يخطئوا، ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: { إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته } "، والمعتمد على الحساب في الهلال، كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، وإنما غاية الحساب منهم إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلا ; لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة، فإنها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله، وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال، وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو وكدره، وقد يراه بعض الناس لثماني درجات، وآخر لا يراه لثنتي عشرة درجة ; ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعا مضطربا، وأئمتهم: كبطليموس، لم يتكلموا في ذلك بحرف، لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي، وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم، مثل كوشياز الديلمي، وأمثاله، لما رأوا الشريعة علقت الأحكام بالهلال، فرأوا الحساب طريقا تنضبط فيه الرؤية، وليست طريقة مستقيمة، ولا معتدلة، بل خطأها كثير، وقد جرب، وهم يختلفون كثيرا: هل يرى ؟ أم لا يرى ؟ وسبب ذلك: أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب، فأخطئوا طريق الصواب، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح، كما تكلمت على حد اليوم أيضا، وبينت أنه لا ينضبط بالحساب، لأن اليوم يظهر بسبب الأبخرة المتصاعدة، فمن أراد أن يأخذ حصة العشاء من حصة الفجر، إنما يصح كلامه لو كان الموجب لظهور النور وخفائه محاذاة الأفق التي تعلم بالحساب، فأما إذا كان للأبخرة في ذلك تأثير، والبخار يكون في الشتاء والأرض الرطبة أكثر مما يكون في الصيف والأرض اليابسة، وكان ذلك لا ينضبط بالحساب، فسدت طريقة القياس الحسابي، ولهذا توجد حصة الفجر في زمان الشتاء أطول منها في زمان الصيف، والآخذ بمجرد القياس الحسابي يشكل عليه ذلك، لأن حصة الفجر عنده تتبع النهار، وهذا أيضا مبسوط في موضعه، والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد .

- وسئل رحمه الله تعالى، عن المسافر في رمضان، ومن يصوم، ينكر عليه، وينسب إلى الجهل، ويقال له الفطر أفضل، وما هو مسافة القصر: وهل إذا أنشأ السفر من يومه يفطر ؟ ؟ وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر ؟ وما الفرق بين سفر الطاعة، وسفر المعصية ؟ فأجاب: الحمد لله: الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، سواء كان سفر حج، أو جهاد، أو تجارة، أو نحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله، وتنازعوا في سفر المعصية كالذي يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك، على قولين مشهورين كما تنازعوا في قصر الصلاة، فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة فإنه يجوز فيه الفطر مع القضاء باتفاق الأئمة، ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرا على الصيام، أو عاجزا، وسواء شق عليه الصوم، أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرا في الظل والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر، ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك من أنكر على المفطر، فإنه يستتاب من ذلك، ومن قال: إن المفطر عليه إثم، فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله ﷺ وخلاف إجماع الأمة، وهكذا السنة للمسافر أنه يصلي الرباعية ركعتين، والقصر أفضل له من التربيع، عند الأئمة الأربعة: كمذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد والشافعي، في أصح قوليه، ولم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر ; بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر، فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه بل عليه أن يقضي ويروى هذا عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهما من السلف وهو مذهب أهل الظاهر، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { ليس من البر الصوم في السفر } "، لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم، وأن يفطر، كما في الصحيحين { عن أنس قال: كنا نسافر مع النبي ﷺ في رمضان فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم } "، وقد قال الله تعالى: { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }، وفي المسند عن النبي ﷺ أنه قال: { إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته } "، وفي الصحيح أن رجلا قال للنبي ﷺ: إني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر ؟ فقال: { إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس } "، وفي حديث آخر: { خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون } "، وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه، ويفطر: فمذهب مالك والشافعي وأحمد أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخا، كما بين مكة وعسفان، ومكة وجدة، وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام، وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين، وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن { النبي ﷺ يصلي بعرفة، ومزدلفة، ومنى، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته }، لم يأمر أحدا منهم بإتمام الصلاة، وإذا سافر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر ؟ على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد، أظهرهما: أنه يجوز ذلك، كما ثبت في السنن أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة النبي ﷺ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ { أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه }، وأما اليوم الثاني: فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة، وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم، ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء ; لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك، ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه، كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكري دوابه من الجلاب وغيرهم، وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين، ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه، فأما من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر، ولا يفطر، وأهل البادية: كأعراب العرب، والأكراد، والترك، وغيرهم الذين يشتون في مكان، ويصيفون في مكان، إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف، ومن المصيف إلى المشتى: فإنهم يقصرون، وأما إذا نزلوا بمشتاهم، ومصيفهم، لم يفطروا، ولم يقصروا، وإن كانوا يتتبعون المراعي، والله أعلم .

- وسئل رحمه الله تعالى، عن إمام جماعة بمسجد مذهبه حنفي ذكر لجماعته أن عنده كتابا فيه أن الصيام في شهر رمضان إذا لم ينو بالصيام قبل عشاء الآخرة، أو بعدها أو وقت السحور، وإلا فما له في صيامه أجر: فهل هذا صحيح ؟ أم لا ؟ فأجاب: الحمد لله، على كل مسلم يعتقد أن الصوم واجب عليه، وهو يريد أن يصوم شهر رمضان النية، فإذا كان يعلم أن غدا من رمضان فلا بد أن ينوي الصوم، فإن النية محلها القلب، وكل من علم ما يريد فلا بد أن ينويه، والتكلم بالنية ليس واجبا بإجماع المسلمين، فعامة المسلمين إنما يصومون بالنية، وصومهم صحيح بلا نزاع بين العلماء والله أعلم . - وسئل رحمه الله تعالى عمن يكون مسافرا في رمضان، ولم يصبه جوع، ولا عطش، ولا تعب: فما الأفضل له، الصيام ؟ أم الإفطار ؟ فأجاب: أما المسافر فيفطر باتفاق المسلمين وإن لم يكن عليه مشقة، والفطر له أفضل، وإن صام جاز عند أكثر العلماء، ومنهم من يقول لا يجزئه .

كتاب الصيام - مسألة: سئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، عن صوم يوم الغيم هل هو واجب أم لا ؟ وهل هو يوم شك منهي عنه أم لا ؟ فأجاب: وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر، فللعلماء فيه عدة أقوال وهي في مذهب أحمد وغيره، أحدها: إن صومه منهي عنه، ثم هل هو نهي تحريم ؟ أو تنزيه ؟ على قولين، وهذا هو المشهور في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه، واختار ذلك طائفة من أصحابه: كأبي الخطاب وابن عقيل، وأبي القاسم بن منده الأصفهاني، وغيرهم، والقول الثاني: أن صيامه واجب كاختيار القاضي، والخرقي، وغيرهما من أصحاب أحمد، وهذا يقال إنه أشهر الروايات عن أحمد، لكن الثابت عن أحمد لمن عرف نصوصه، وألفاظه، أنه كان يستحب صيام يوم الغيم إتباعا لعبد الله بن عمر، وغيره من الصحابة، ولم يكن عبد الله بن عمر يوجبه على الناس، بل كان يفعله احتياطا، وكان الصحابة فيهم من يصومه احتياطا، ونقل ذلك عن عمر، وعلي، ومعاوية وأبي هريرة، وابن عمر، وعائشة، وأسماء، وغيرهم، ومنهم من كان لا يصومه مثل كثير من الصحابة، ومنهم من كان ينهى عنه، كعمار بن ياسر، وغيره، فأحمد رضي الله عنه كان يصومه احتياطا، وأما إيجاب صومه فلا أصل له في كلام أحمد، ولا كلام أحد من أصحابه: لكن كثير من أصحابه اعتقدوا أن مذهبه إيجاب صومه، ونصروا ذلك القول، والقول الثالث: إنه يجوز صومه، ويجوز فطره، وهذا مذهب أبي حنيفة، وغيره، وهو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين أو أكثرهم، وهذا كما أن الإمساك عند الحائل عن رؤية الفجر جائز، فإن شاء أمسك، وإن شاء أكل حتى يتيقن طلوع الفجر، وكذلك إذا شك هل أحدث ؟ أم لا ؟ إن شاء توضأ، وإن شاء لم يتوضأ، وكذلك إذا شك هل حال حول الزكاة ؟ أو لم يحل ؟ وإذا شك هل الزكاة الواجبة عليه مائة ؟ أو مائة وعشرون ؟ فأدى الزيادة، وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس بواجب، ولا محرم، ثم إذا صامه بنية مطلقة، أو بنية معلقة، بأن ينوي إن كان من شهر رمضان كان عن رمضان، وإلا فلا، فإن ذلك يجزيه في مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وهي التي نقلها المروزي وغيره، وهذا اختيار الخرقي في شرحه للمختصر، واختيار أبي البركات وغيرهما، والقول الثاني: إنه لا يجزيه إلا بنية أنه من رمضان، كإحدى الروايتين عن أحمد، اختارها القاضي، وجماعة من أصحابه، وأصل هذه المسألة أن تعيين النية لشهر رمضان: هل هو واجب ؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد: أحدها: أنه لا يجزيه، إلا أن ينوي رمضان، فإن صام بنية مطلقة، أو معلقة، أو بنية النفل أو النذر، لم يجزئه ذلك كالمشهور من مذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايات، والثاني: يجزئه مطلقا كمذهب أبي حنيفة، والثالث: أنه يجزئه بنية مطلقة، لا بنية تعيين، غير رمضان، وهذه الرواية الثالثة عن أحمد، وهي اختيار الخرقي، وأبي البركات، وتحقيق هذه المسألة: أن النية تتبع العلم، فإن علم أن غدا من رمضان فلا بد من التعيين في هذه الصورة، فإن نوى نفلا أو صوما مطلقا لم يجزه: لأن الله أمره أن يقصد أداء الواجب عليه، وهو شهر رمضان الذي علم وجوبه، فإذا لم يفعل الواجب لم تبرأ ذمته، وأما إذا كان لا يعلم أن غدا من شهر رمضان، فهنا لا يجب عليه التعيين، ومن أوجب التعيين مع عدم العلم فقد أوجب الجمع بين الضدين، فإذا قيل إنه يجوز صومه وصام في هذه الصورة بنية مطلقة، أو معلقة أجزأه، وأما إذا قصد صوم ذلك تطوعا، ثم تبين أنه كان من شهر رمضان، فالأشبه أنه يجزئه أيضا، كمن كان لرجل عنده وديعة، ولم يعلم ذلك، فأعطاه ذلك على طريق التبرع، ثم تبين أنه حقه، فإنه لا يحتاج إلى إعطائه ثانيا، بل ذلك الذي وصل إليك هو حق كان لك عندي، والله يعلم حقائق الأمور، والرواية التي تروى عن أحمد أن الناس فيه تبع للإمام في نيته، على أن الصوم والفطر بحسب ما يعلمه الناس، كما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: { صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون }، وقد تنازع الناس في " الهلال ": هل هو اسم لما يطلع في السماء وإن لم يره أحد ؟ أو لا يسمى هلالا حتى يستهل به الناس ويعلموه ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، وعلى هذا ينبني النزاع فيما إذا كانت السماء مطبقة بالغيم، أو في يوم الغيم مطلقا، هل هو يوم شك ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: أحدها: أنه ليس بشك، بل الشك إذا أمكنت رؤيته، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي، وغيرهم، والثاني: أنه شك لإمكان طلوعه، والثالث: أنه من رمضان حكما، فلا يكون يوم شك، وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، وقد تنازع الفقهاء في المنفرد برؤية هلال الصوم والفطر، هل يصوم ويفطر وحده ؟ أو لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس ؟ أو يصوم وحده ويفطر مع الناس ؟ على ثلاثة أقوال، معروفة في مذهب أحمد وغيره . وأما نكاح التحليل، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: { لعن الله المحلل والمحلل له }، ولا تجبر المرأة على نكاح التحليل باتفاق العلماء، والله أعلم .

- وسئل شيخ الإسلام، ما يقول سيدنا في صائم رمضان، هل يفتقر كل يوم إلى نية ؟ أم لا ؟ فأجاب: كل من علم أن غدا من رمضان، وهو يريد صومه، فقد نوى صومه، سواء تلفظ بالنية، أو لم يتلفظ، وهذا فعل عامة المسلمين، كلهم ينوي الصيام .

- سئل: عن بكاء الأم والإخوة على الميت: هل فيه بأس على الميت ؟ أجاب: أما دمع العين، وحزن القلب، فلا إثم فيه ; لكن الندب والنياحة منهي عنه، وأي صدقة تصدق بها عن الميت نفعه ذلك .

- مسألة: عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: { لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله كيف إذنها ؟ قال: أن تسكت }، متفق عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ، قال: { الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها } وفي رواية: { البكر يستأذنها أبوها في نفسها وصمتها إقرارها }، رواه مسلم في صحيحه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: { سألت رسول الله ﷺ عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا ؟ فقال لها رسول الله ﷺ: نعم تستأمر، قالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحي، فقال رسول الله ﷺ: فذلك إذنها إذا هي سكتت }، وعن خنساء ابنة خذام، أن { أباها زوجها وهي بنت، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله ﷺ فرد نكاحه } رواه البخاري ؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالمرأة لا ينبغي لأحد أن يزوجها، إلا بإذنها كما أمر النبي ﷺ فإن كرهت ذلك لم تجبر على النكاح، إلا الصغيرة البكر، فإن أباها يزوجها ولا إذن لها، وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين، وكذلك البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها بإجماع المسلمين، فأما الأب والجد فينبغي لهما استئذانها، واختلف العلماء في استئذانها، هل هو واجب أو مستحب ؟ والصحيح أنه واجب، ويجب على ولي المرأة أن يتقي الله فيمن يزوجها به، وينظر في الزوج هل هو كفؤ أو غير كفؤ ؟ فإنه إنما يزوجها لمصلحتها لا لمصلحته، وليس له أن يزوجها بزوج ناقص لغرض له، مثل أن يتزوج مولية ذلك الزوج بدلها، فيكون من جنس الشغار الذي نهى عنه النبي ﷺ، أو يزوجها بأقوام يخالفهم على أغراض له فاسدة، أو يزوجها لرجل لمال يبذله له، وقد خطبها من هو أصلح لها من ذلك الزوج، فيقدم الخاطب الذي برطله على الخاطب الكفء الذي لم يبرطله، وأصل ذلك أن تصرف الولي في بضع وليته كتصرفه في مالها، فكما لا يتصرف في مالها إلا بما هو أصلح، كذلك لا يتصرف في بعضها إلا بما هو أصلح لها، إلا أن الأب له من التبسط في مال ولده ما ليس لغيره، كما قال النبي ﷺ: { أنت ومالك لأبيك } بخلاف غير الأب .

- مسألة: في رجل تزوج امرأة على أنها بكر، فبانت ثيبا فهل له فسخ النكاح ويرجع على من غره أم لا ؟، الجواب: له فسخ النكاح، وله أن يطالب بأرش الصداق، وهو تفاوت ما بين مهر البكر والثيب فينقص بنسبته من المسمى، وإذا فسخ قبل الدخول سقط عنه المهر، والله أعلم .

- مسألة: في رجل له عبد وقد حبس نصفه، قصد الزواج، فهل له أن يتزوج أم لا ؟، الجواب: نعم له التزوج على أصل من يجبر السيد على تزويجه، كمذهب أحمد والشافعي على أحد قوليه، فإن تزويجه كالإنفاق عليه إذا كان محتاجا إلى ذلك، وقد قال تعالى: { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم }، فأمر بتزويج العبيد والإماء، كما أمر بتزويج الأيامى، وتزويج الأمة إذا طلبت النكاح من كفؤ واجب باتفاق العلماء، والذي يأذن له في النكاح مالك نصفه، أو وكيله، وناظر النصيب المحبس .

- مسألة: في رجل تزوج بالغة من جدها أبي أبيها وما رشدها ولا معه وصية من أبيها، فلما دنت وفاة جدها أوصى على البنت رجلا أجنبيا، فهل للجد المذكور على الزوجة ولاية بعد أن أصابها الزوج ؟ وهل له أن يوصي عليها ؟ الجواب: أما إذا كانت رشيدة فلا ولاية عليها لا للجد ولا غيره، باتفاق الأئمة، وإن كانت ممن يستحق الحجر عليها ففيه للعلماء قولان: أحدهما: أن الجد له ولاية وهذا مذهب أبي حنيفة، والثاني: لا ولاية له، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، وإذا تزوجت الجارية ومضت عليها سنة، وأولدها أمكن أن تكون رشيدة باتفاق العلماء . - مسألة: في رجل تحت حجر والده، وقد تزوج بغير إذن والده، وشهد المعروفون أن والده مات وهو حي، فهل يصح العقد أم لا ؟ وهل يجب على الولد إذا تزوج بغير إذن والده حق أم لا ؟ الجواب: إن كان سفيها محجورا عليه لا يصح نكاحه بدون إذن أبيه، ويفرق بينهما، وإذا فرق بينهما قبل الدخول فلا شيء عليه، وإن كان رشيدا صح نكاحه، وإن لم يأذن له أبوه، وإذا تنازع الزوجان هل نكح وهو رشد أو وهو سفيه ؟ فالقول قول مدعي صحة النكاح .

مسألة: في الرافضي، ومن يقول: لا تلزمه الصلوات الخمس، هل يصح نكاحه من الرجال والنساء ؟ فإن تاب من الرفض، ولزم الصلاة حينا، ثم عاد لما كان عليه، هل يقر على ما كان عليه من النكاح ؟ الجواب: لا يجوز لأحد أن ينكح موليته رافضيا، ولا يترك الصلاة، ومتى زوجوه على أنه صلى فصلى الخمس، ثم ظهر أنه رافضي لا يصلي، أو عاد إلى الرفض وترك الصلاة، فإنهم يفسخون النكاح .

- مسألة: في رجل متزوج بخالة إنسان، وله بنت فتزوج بها، فجمع بين خالته وابنته، فهل يصح ؟ الجواب: لا يجوز أن يتزوج خالة رجل وبنته بأن يجمع بينهما، فإن { النبي ﷺ: نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها } "، وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة، وهم متفقون على أن هذا الحديث يتناول خالة الأب، وخالة الأم، والجدة، ويتناول عمة كل من الأبوين أيضا، فليس له أن يجمع بين المرأة وخالة أبيها، ولا خالة أمها عند الأئمة الأربعة .

- مسألة: في رجل زوج ابنته لرجل، وأراد الزوج السفر إلى بلاده، فقال له وكيل الأب في قبول النكاح: لا تسافر، إما أن تعطي الحال من الصداق، وتنتقل بالزوجة، أو ترضي الأب، فسافر ولم يجب إلى ذلك، وهو غائب عن الزوجة المذكورة مدة سنة، ولم يصل منه نفقة، فهل لوالد الزوجة أن يطلب فسخ النكاح ؟ الجواب: نعم إذا عرضت المرأة عليه، فبذل له تسليمها وهي ممن يوطأ مثلها، وجب عليه النفقة بذلك، فإذا تعذرت النفقة من جهته كان للزوجة المطالبة بالفسخ وإذا كانت محجورا عليها على وجهين .

- مسألة: في رجل أملك على بنت، وله مدة سنين ينفق عليها، ودفع لهم وعزم على الدخول، فوجد والدها قد زوجها غيره ؟ الجواب: قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: { المسلم أخو المسلم، لا يحل للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه، ولا يستام على سوم أخيه، ولا يبيع على بيع أخيه }، فالرجل إذا خطب امرأة وركن إليه من إليه نكاحها، كالأب المجبر، فإنه لا يحل لغيره أن يخطبها، فكيف إذا كانوا قد ركنوا إليه وأشهدوا بالإملاك المتقدم للعقد، وقبضوا منه الهدايا، وطالت المدة، فإن هؤلاء فعلوا محرما يستحقون العقوبة عليه بلا ريب، لكن العقد الثاني هل يقع صحيحا أو باطلا ؟ فيه قولان للعلماء، أحدهما: وهو أحد القولين في مذهب مالك، وأحمد، أن عقد الثاني باطل فينزع منه ويرد إلى الأول، والثاني: أن النكاح صحيح، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، فيعاقب من فعل المحرم، ويرد إلى الأول جميع ما أخذ منه، والقول الأول أشبه بما في الكتاب والسنة .

- مسألة: في امرأة اعتاضت عن صداقها بعد موت الزوج، فباعت العوض وقبضت الثمن، ثم أقرت أنها قبضت الصداق من غير ثمن الملك، فهل يبطل حق المشتري أو يرجع عليها بالذي اعترفت أنها قبضته من غير الملك ؟ الجواب: لا يبطل حق بمجرد ذلك، وللورثة أن يطلبوا منها ثمن الملك الذي اعتاضت به، إذا أقرت بأن قبض صداقها قبل ذلك، وكان قد أفتى طائفة بأنه يرجع عليها بالذي اعترفت بقبضه من التركة، وليس بشيء ; لأن هذا الإقرار تضمن أنها استوفت صداقها، وأنها بعد هذا الاستيفاء له أحدثت ملكا آخر، فإنما فوتت عليهم العقار لا على المشتري .

وأما نكاح السر الذي يتواصون بكتمانه ولا يشهدون عليه أحدا، فهو باطل عند عامة العلماء، وهو من جنس السفاح، قال الله تعالى: { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } { ولا متخذي أخدان } ( )، وهذه المسائل مبسوطة في موضعها، وإنما المقصود هنا التنبيه على الفرق بين الأقوال الثابتة بالكتاب والسنة، وما فيها من العدل والحكمة والرحمة ; وبين الأقوال المرجوحة، وأن ما بعث الله به نبيه محمدا ﷺ من الكتاب والحكمة يجمع مصالح العباد في المعاش والمعاد على أكمل وجه ; فإنه ﷺ خاتم النبيين، ولا نبي بعده، وقد جمع الله في شريعته ما فرقه في شرائع من قبله من الكمال ; إذ ليس بعده نبي، فكمل به الأمر، كما كمل به الدين، فكتابه أفضل الكتب، وشرعه أفضل الشرائع، ومنهاجه أفضل المناهج، وأمته خير الأمم، وقد عصمها الله على لسانه فلا تجتمع على ضلالة ; ولكن يكون عند بعضها من العلم والفهم ما ليس عند بعض، والعلماء ورثة الأنبياء، وقد قال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فهذان نبيان كريمان حكما في قصة فخص الله أحدهما بالفهم ; ولم يعب الآخر ; بل أثنى عليهما جميعا بالحكم والعلم، وهكذا حكم العلماء المجتهدين ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل العاملين بالكتاب، وهذه القضية التي قضى فيها داود وسليمان لعلماء المسلمين فيها وما يشبهها أيضا قولان، منهم من يقضي بقضاء داود، ومنهم من يقضي بقضاء سليمان، وهذا هو الصواب، وكثير من العلماء أو أكثرهم لا يقول به ; بل قد لا يعرفه، وقد بسطنا هذا في غير هذا الجواب، والله أعلم بالصواب . ولهذا جوز أكثر العلماء الخلع في الحيض ; لأنه على قول فقهاء الحديث ليس بطلاق ; بل فرقة بائنة، وهو في أحد قوليهم تستبرأ بحيضة لا عدة عليها، وهذه إحدى الروايتين عند أحمد ; ولأنها تملك نفسها بالاختلاع فلهما فائدة في تعجيل الإبانة لرفع الشر الذي بينهما ; بخلاف الطلاق الرجعي فإنه لا فائدة في تعجيله قبل وقته ; بل ذلك شر بلا خير، وقد قيل: إنه طلاق في وقت لا يرغب فيها، وقد لا يكون محتاجا إليه، بخلاف الطلاق وقت الرغبة فإنه لا يكون إلا عن حاجة، { وقول النبي ﷺ لابن عمر: مره فليراجعها } مما تنازع العلماء فيه في مراد النبي ﷺ: ففهم منه طائفة من العلماء، أن الطلاق قد لزمه، فأمره أن يرتجعها ; ثم يطلقها في الطهر إن شاء، وتنازع هؤلاء: هل الارتجاع واجب أو مستحب ؟ وهل له أن يرتجعها في الطهر الأول أو الثاني ؟ وفي حكمة هذا النهي ; أقوال: ذكرناها وذكرنا مأخذها في غير هذا الموضع، وفهم طائفة أخرى: أن الطلاق لم يقع، ولكنه لما فارقها ببدنه كما جرت العادة من الرجل إذا طلق امرأته اعتزلها ببدنه واعتزلته ببدنها ; { فقال لعمر: مره فليراجعها }، ولم يقل: فليرتجعها، " والمراجعة " مفاعلة من الجانبين: أي ترجع إليه ببدنها فيجتمعان كما كانا ; لأن الطلاق لم يلزمه، فإذا جاء الوقت الذي أباح الله فيه الطلاق طلقها حينئذ إن شاء، قال هؤلاء: ولو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة ليطلقها طلقة ثانية فائدة ; بل فيه مضرة عليهما ; فإن له أن يطلقها بعد الرجعة بالنص والإجماع، وحينئذ يكون في الطلاق مع الأول تكثير الطلاق ; وتطويل العدة، وتعذيب الزوجين جميعا ; فإن النبي ﷺ لم يوجب عليه أن يطأها قبل الطلاق ; بل إذا وطئها لم يحل له أن يطلقها حتى يتبين حملها ; أو تطهر الطهر الثاني، وقد يكون زاهدا فيها يكره أن يطأها فتعلق منه ; فكيف يجب عليه وطؤها ؟، ولهذا لم يوجب الوطء أحد من الأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين ; ولكن أخر الطلاق إلى الطهر الثاني، ولولا أنه طلقها أولا لكان له أن يطلقها في الطهر الأول ; لأنه لو أبيح له الطلاق في الطهر الأول لم يكن في إمساكها فائدة مقصودة بالنكاح إذا كان لا يمسكها إلا لأجل الطلاق ; فإنه لو أراد أن يطلقها في الطهر الأول لم يحصل إلا زيادة ضرر عليهما، والشارع لا يأمر بذلك، فإذا كان ممتنعا من طلاقها في الطهر الأول ليكون متمكنا من الوطء الذي لا يعقبه طلاق: فإن لم يطأها، أو وطئها أو حاضت بعد ذلك: فله أن يطلقها ; ولأنه إذا امتنع من وطئها في ذلك الطهر ثم طلقها في الطهر الثاني: دل على أنه محتاج إلى طلاقها ; لأنه لا رغبة له فيها إذ لو كانت له فيها رغبة لجامعها في الطهر الأول، قالوا: لأنه لم يأمر ابن عمر بالإشهاد على الرجعة كما أمر الله ورسوله، ولو كان الطلاق قد وقع وهو يرتجعها لأمر بالإشهاد ; ولأن الله تعالى لما ذكر الطلاق في غير آية لم يأمر أحدا بالرجعة عقيب الطلاق ; بل قال: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف }، فخير الزوج إذا قارب انقضاء العدة بين أن يمسكها بمعروف - وهو الرجعة - وبين أن يسيبها فيخلي سبيلها إذا انقضت العدة ; ولا يحبسها بعد انقضاء العدة كما كانت محبوسة عليه في العدة، قال الله تعالى: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }، وأيضا فلو كان الطلاق المحرم قد لزم لكان حصل الفساد الذي كرهه الله ورسوله، وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يباح له الطلاق بعدها، والأمر برجعة لا فائدة فيها مما تنزه عنه الله ورسوله ; فإنه إن كان راغبا في المرأة فله أن يرتجعها، وإن كان راغبا عنها فليس له أن يرتجعها، فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية ; بل زيادة مفسدة: ويجب تنزيه الرسول ﷺ عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد، والله ورسوله إنما نهى عن الطلاق البدعي لمنع الفساد، فكيف يأمر بما يستلزم زيادة الفساد ؟، وقول الطائفة الثانية أشبه بالأصول والنصوص، فإن هذا القول متناقض ; إذ الأصل الذي عليه السلف والفقهاء: أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة، وهذا وإن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء ; لأن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها، وهذا متواتر عنهم، وأيضا فإن لم يكن ذلك دليلا على فسادها لم يكن عن الشارع ما يبين الصحيح من الفاسد، فإن الذين قالوا: النهي لا يقتضي الفساد، قالوا: نعلم صحة العبادات والعقود وفسادها بجعل الشارع هذا شرطا أو مانعا ونحو ذلك، وقوله هذا صحيح، وليس بصحيح، من خطاب الوضع والإخبار، ومعلوم أنه ليس في كلام الله ورسوله، وهذه العبارات مثل قوله: الطهارة شرط في الصلاة والكفر مانع من صحة الصلاة، وهذا العقد، وهذه العبادة لا تصح ونحو ذلك ; بل إنما في كلامه الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وفي نفي القبول والصلاح، كقوله: { لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول }، وقوله: " هذا لا يصلح "، وفي كلامه: " إن الله يكره كذا " وفي كلامه: الوعد، ونحو ذلك من العبارات فلم نستفد الصحة والفساد إلا بما ذكره، وهو لا يلزم أن يكون الشارع بين ذلك، وهذا مما يعلم فساده قطعا، وأيضا فالشارع يحرم الشيء لما فيه من المفسدة الخالصة، أو الراجحة، ومقصوده بالتحريم المنع من ذلك الفساد، وجعله معدوما، فلو كان مع التحريم يترتب عليه من الأحكام ما يترتب على الحلال فيجعله لازما نافذا كالحلال لكان ذلك إلزاما منه بالفساد الذي قصد عدمه، فيلزم أن يكون ذلك الفساد قد أراد عدمه مع أنه ألزم الناس به، وهذا تناقض ينزه عنه الشارع ﷺ، وقد قال بعض هؤلاء: إنه إنما حرم الطلاق الثلاث لئلا يندم المطلق ; دل على لزوم الندم له إذا فعله، وهذا يقتضي صحته، فيقال له: هذا يتضمن أن كلما نهى الله عنه يكون صحيحا، كالجمع بين المرأة وعمتها ; لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم، فيقال: إن كان ما قاله هذا صحيحا هنا دليل على صحة العقد ; إذ لو كان فاسدا لم تحصل القطيعة، وهذا جهل ; وذلك أن الشارع بين حكمته في منعه مما نهى عنه، وأنه لو أباحه للزم الفساد، فقوله تعالى: { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا }، وقوله عليه السلام: { لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها ; فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم }، ونحو ذلك: يبين أن الفعل لو أبيح لحصل به الفساد، فحرم منعا من هذا الفساد، ثم الفساد ينشأ من إباحته ومن فعله، وإذا اعتقد الفاعل أنه مباح، أو أنه صحيح فإما مع اعتقاد أنه محرم باطل والتزام أمر الله ورسوله فلا تحصل المفسدة وإنما تحصل المفسدة من مخالفة أمر الله ورسوله، والمفاسد فيها فتنة وعذاب، قال الله تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }، وقول القائل: لو كان الطلاق غير لازم لم يحصل الفساد، فيقال: هذا هو مقصود الشارع ﷺ فنهى عنه، وحكم ببطلانه، ليزول الفساد، ولولا ذلك لفعله الناس واعتقدوا صحته فيلزم الفساد، وهذا نظير قول من يقول: النهي عن الشيء يدل على أنه مقصود، وأنه شرعي، وأنه يسمى بيعا، ونكاحا، وصوما، كما يقولون في نهيه عن نكاح الشغار، ولعنه المحلل والمحلل له، ونهيه عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ونهيه عن صوم يوم العيدين، ونحو ذلك، فيقال: أما تصوره حسا فلا ريب فيه، وهذا كنهيه عن نكاح الأمهات والبنات، وعن بيع الخمر والميتة ولحم الخنزير والأصنام، كما في الصحيحين عن جابر { أن النبي ﷺ قال: إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام ثم قال: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها } فتسميته لهذا نكاحا وبيعا لم يمنع أن يكون فاسدا باطلا ; بل دل على إمكانه حسا، وقول القائل: إنه شرعي: إن أراد أنه يسمى بما أسماه به الشارع ; فهذا صحيح، وإن أراد أن الله أذن فيه: فهذا خلاف النص، والإجماع، وإن أراد أنه رتب عليه حكمه، وجعله يحصل المقصود، ويلزم الناس حكمه ; كما في المباح فهذا باطل بالإجماع في أكثر الصور التي هي من موارد النزاع، ولا يمكنه أن يدعي ذلك في صورة مجمع عليها ; فإن أكثر ما يحتج به هؤلاء بنهيه ﷺ عن الطلاق في الحيض ونحو ذلك مما هو من موارد النزاع ; فليس معهم صورة قد ثبت فيها مقصودهم ; لا بنص، ولا إجماع، وكذلك " المحلل " الملعون، لعنه لأنه قصد التحليل للأول بعقده ; لا لأنه أحلها في نفس الأمر فإنه لو تزوجها بنكاح رغبة لكان قد أحلها بالإجماع ; وهذا غير ملعون بالإجماع فعلم أن اللعنة لمن قصد التحليل، وعلم أن الملعون لم يحللها في نفس الأمر ودلت اللعنة على تحريم فعله، والمنازع يقول فعله مباح، فتبين أنه لا حجة معهم: بل الصواب مع السلف وأئمة الفقهاء، ومن خرج عن هذا الأصل من العلماء المشهورين في بعض المواضع فإن لم يكن له جواب صحيح وإلا فقد تناقض، كما تناقض في مواضع غير هذه، والأصول التي لا تناقض فيها ما أثبت بنص أو إجماع، وما سوى ذلك فالتناقض موجود فيه، وليس هو حجة على أحد، والقياس الصحيح الذي لا يتناقض هو موافق للنص والإجماع ; بل ولا بد أن يكون النص قد دل على الحكم ; كما قد بسط في موضع آخر، وهذا معنى العصمة ; فإن كلام المعصوم لا يتناقض، ولا نزاع بين المسلمين أن الرسول ﷺ معصوم فيما بلغه عن الله تعالى، فهو معصوم فيما شرعه للأمة بإجماع المسلمين، وكذلك الأمة أيضا معصومة أن تجتمع على ضلالة ; بخلاف ما سوى ذلك، ولهذا كان مذهب أئمة الدين أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ فإنه الذي فرض الله على جميع الخلائق الإيمان به وطاعته، وتحليل ما حلله وتحريم ما حرمه، وهو الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر، وأهل الجنة وأهل النار، والهدى والضلال، والغي والرشاد، فالمؤمنون أهل الجنة وأهل الهدى والرشاد ; هم متبعون، والكفار أهل النار، وأهل الغي، والضلال هم الذين لم يتبعوه، ومن آمن به باطنا، وظاهرا، واجتهد في متابعته: فهو من المؤمنين السعداء وإن كان قد أخطأ وغلط في بعض ما جاء به، فلم يبلغه أو لم يفهمه، قال الله تعالى عن المؤمنين: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }، وقد ثبت في الصحيح، عن النبي ﷺ: " قد فعلت "، وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: { العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم ; فمن أخذ به أخذ بحظ وافر }، وقد قال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما }، فقد خص أحد النبيين الكريمين بالتفهم مع ثنائه على كل منهما بأنه أوتي علما وحكما، فهكذا إذا خص الله أحد العالمين بعلم أمر وفهمه لم يوجب ذلك ذم من لم يحصل له ذلك من العلماء، بل كل من اتقى الله ما استطاع فهو من أولياء الله المتقين ; وإن كان قد خفي عليه من الدين ما فهمه غيره، وقد قال واثلة بن الأسقع - وبعضهم يرفعه إلى النبي ﷺ: { من طلب علما فأدركه فله أجران، ومن طلب علما فلم يدركه فله أجر }، وهذا يوافق ما في الصحيح عن عمرو بن العاص، وعن أبي هريرة: عن النبي ﷺ: { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر } ( )، وهذه الأصول لبسطها موضع آخر، وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا ; لأن الطلاق المحرم مما يقول فيه كثير من الناس: إنه لازم، والسلف أئمة الفقهاء والجمهور يسلمون: أن النهي يقتضي الفساد، ولا يذكرون في الاعتذار عن هذه الصورة فرقا صحيحا، وهذا مما تسلط به عليهم من نازعوهم في أن النهي يقتضي الفساد، واحتج بما سلموه له من الصور ; وهذه حجة جدلية لا تفيد العلم بصحة قوله ; وإنما تفيد أن منازعيه أخطئوا: إما في صورة النقض وإما في محل النزاع، وخطؤهم في إحداهما لا يوجب أن يكون الخطأ في محل النزاع ; بل هذا الأصل أصل عظيم عليه مدار كثير من الأحكام الشرعية، فلا يمكن نقضه بقول بعض العلماء الذين ليس معهم نص ولا إجماع ; بل الأصول والنصوص لا توافق ; بل تناقض قولهم، ومن تدبر الكتاب والسنة تبين له أن الله لم يشرع الطلاق المحرم جملة قط، وأما الطلاق البائن فإنه شرعه قبل الدخول، وبعد انقضاء العدة، وطائفة من العلماء يقول لمن لم يجعل الثلاث المجموعة إلا واحدة: أنتم خالفتم عمر ; وقد استقر الأمر على التزام ذلك في زمن عمر، وبعضهم يجعل ذلك إجماعا، فيقول لهم: أنتم خالفتم عمر في الأمر المشهور عنه الذي اتفق عليه الصحابة، بل وفي الأمر الذي معه فيه الكتاب والسنة، فإن منكم من يجوز التحليل، وقد ثبت عن عمر أنه قال: " لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما "، وقد اتفق الصحابة على النهي عنه، مثل: عثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وغيره ; ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه أعاد المرأة إلى زوجها بنكاح تحليل، وعمر وسائر الصحابة معهم الكتاب والسنة: { كلعن النبي ﷺ المحلل والمحلل له } وقد خالفهم من خالفهم في ذلك اجتهادا، والله يرضى عن جميع علماء المسلمين، وأيضا فقد ثبت، عن عمر، أنه كان يقول في الخلية والبرية ونحو ذلك: " إنها طلقة رجعية "، وأكثرهم يخالفون عمر في ذلك، وقد ثبت عن عمر: إنه خير المفقود إذا رجع فوجد امرأته قد تزوجت غيره بين امرأته وبين المهر، وهذا أيضا معروف عن غيره من الصحابة: كعثمان، وعلي، وذكره أحمد عن ثمانية من الصحابة، وقال: إلى أي شيء يذهب الذي يخالف هؤلاء ؟، ومع هذا فأكثرهم يخالفون عمر وسائر الصحابة في ذلك، ومنهم من ينقض حكم من حكم به، وعمر والصحابة جعلوا الأرض المفتوحة عنوة ; كأرض الشام، ومصر، والعراق، وخراسان، والمغرب، فيئا للمسلمين ; ولم يقسم عمر ولا عثمان أرضا فتحها عنوة، ولم يستطب عمر أنفس جميع الغانمين في هذه الأرضين ; وإن ظن بعض العلماء أنهم استطابوا أنفسهم في السواد، بل طلب منهم بلال والزبير وغيرهما قسمة أرض العنوة فلم يجبهم، ومع هذا فطائفة منهم يخالف عمر والصحابة في مثل هذا الأمر العظيم الذي استقر الأمر عليه من زمنهم ; بل ينقض حكم من حكم بحكمهم أيضا، فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يخمسوا قط مال فيء ولا خمسه رسول الله ﷺ ولا جعلوا خمس الغنيمة خمسة أقسام متساوية، ومع هذا: فكثير منهم يخالف ذلك، ونظائر هذا متعددة، والأصل الذي اتفق عليه علماء المسلمين: إنما تنازعوا فيه وجب رده إلى الله والرسول، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }، ولا يجوز لأحد أن يظن بالصحابة أنهم بعد رسول الله ﷺ أجمعوا على خلاف شريعته ; بل هذا من أقوال أهل الإلحاد ; ولا يجوز دعوى نسخ ما شرعه الرسول بإجماع أحد بعده، كما يظن طائفة من الغالطين ; بل كلما أجمع المسلمون عليه فلا يكون إلا موافقا لما جاء به الرسول ; لا مخالفا له ; بل كل نص منسوخ بإجماع الأمة فمع الأمة النص الناسخ له ; تحفظ الأمة النص الناسخ كما تحفظ النص المنسوخ، وحفظ الناسخ أهم عندها وأوجب عليها من حفظ المنسوخ، ويمنع أن يكون عمر والصحابة معه أجمعوا على خلاف نص الرسول ﷺ ; ولكن قد يجتهد الواحد وينازعه غيره، وهذا موجود في مسائل كثيرة، هذا منها، كما بسط في موضع غير هذا، ولهذا لما رأى عمر رضي الله عنه: أن المبتوتة لها السكنى والنفقة فظن أن القرآن يدل عليه نازعه أكثر الصحابة، فمنهم من قال: لها السكنى فقط، ومنهم من قال: لا نفقة لها ولا سكنى، وكان من هؤلاء ابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس، وهي التي روت عن النبي ﷺ أنه قال: { ليس لك نفقة ولا سكنى }، فلما احتجوا عليها بحجة عمر، وهي قوله تعالى: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }، قالت هي وغيرها من الصحابة - كابن عباس وجابر وغيرهما: هذا في الرجعية لقوله تعالى: { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟، وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه

وغيره من فقهاء الحديث مع فاطمة بنت قيس، وكذلك أيضا في: " الطلاق "، لما قال تعالى: { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا }، قال غير واحد من الصحابة والتابعين والعلماء: هذا يدل على أن الطلاق الذي ذكره الله هو الطلاق الرجعي ; فإنه لو شرع إيقاع الثلاث عليه لكان المطلق يندم إذا فعل ذلك، ولا سبيل إلى رجعتها: فيحصل له ضرر بذلك، والله أمر العباد بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم ; ولهذا قال تعالى أيضا بعد ذلك: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف }، وهذا إنما يكون في الطلاق الرجعي ; لا يكون في الثلاث، ولا في البائن، وقال تعالى: { وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله }، فأمر بالإشهاد على الرجعة ; والإشهاد عليها مأمور به باتفاق الأمة، قيل: أمر إيجاب، وقيل: أمر استحباب، وقد ظن بعض الناس: أن الإشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع، وهذا خلاف الإجماع، وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به ; فإن الطلاق أذن فيه أولا، ولم يأمر فيه بالإشهاد، وإنما أمر بالإشهاد حين قال: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ). والمراد هنا بالمفارقة: تخلية سبيلها إذا قضت العدة، وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح، والإشهاد في هذا باتفاق المسلمين، فعلم أن الإشهاد إنما هو على الرجعة، ومن حكمة ذلك: أنه قد يطلقها ويرتجعها، فيزين له الشيطان كتمان ذلك حتى يطلقها بعد ذلك طلاقا محرما ولا يدري أحد، فتكون معه حراما، فأمر الله أن يشهد على الرجعة ليظهر أنه قد وقعت به طلقة، كما أمر النبي ﷺ من وجد اللقطة أن يشهد عليها ; لئلا يزين الشيطان كتمان اللقطة ; وهذا بخلاف الطلاق، فإنه إذا طلقها ولم يراجعها بل خلى سبيلها فإنه يظهر للناس أنها ليست امرأته ; بل هي مطلقة ; بخلاف ما إذا بقيت زوجة عنده فإنه لا يدري الناس أطلقها أم لم يطلقها .

- مسألة: في رجل جرى منه كلام في زوجته وهي حامل، فقال: إن جاءت زوجتي ببنت فهي طالق، ثم إنه قبل الولادة جرى بينهم كلام فنزل عن طلقة، ثم أنها بعد ذلك وضعت بنتا، فهل يقع على الزوج الطلاق أم لا ؟ الجواب: إن كان قد أبانها بالطلقة بأن تكون الطلقة بعوض، أو ودعها حتى تنقضي عدتها فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، وفيها قولان للشافعي أحدهما يقع وهو رواية مخرجة في مذهب أحمد، وإن كان لم يبنها بل راجع في العدة فإن النكاح باق فإن وجدت الصفة المعلق بها وقع الطلاق .

- مسألة: في رجل حلف من زوجته بالطلاق أنه ما يطؤها لستة شهور، ولم يكن بقي لها غير طلقة ونيته أن لا يطأها حتى تنقضي المدة، فإذا انقضت المدة ماذا يفعل ؟ الجواب: إذا انقضت المدة فله وطؤها ولا شيء عليه إذا لم تطالبه بالوطء عند انقضاء أربعة أشهر ; هذا مذهب مالك وأحمد والشافعي والجمهور وهو يسمى موليا .

- مسألة: في رجل نوى أن يطلق زوجته إذا حاضت ولم يتلفظ بطلاق ; فلما أن حاضت علم أنها طلقت بمجرد النية فقال للشهود: آن طلقة زوجتي، قالوا: متى طلقتها ؟ قال: أول أمس ; بناء على ظنه، فلما مضى حيضتان غير الحيضة التي ظن أنها طلقت فيها زوجها الشهود برجل آخر، ثم مكثت عنده وطلقها، ثم وفت عدتها، ثم أراد الزوج الأول ردها: فهل هي حلال له بالنكاح الأول أم يجب عقد جديد ؟ الجواب: الحمد لله، أما إذا نوى أنه سيطلقها إذا حاضت فهذا لا يقع به طلاق باتفاق العلماء ; بل لا بد أن يطلقها بعد ذلك، فإذا لم يطلقها بعد ذلك لم يقع طلاق، وإذا اعتقد أن تلك النية طلاق فأقر أنه طلقها بتلك النية لم يقع بهذا الإقرار في الباطن ; ولكن يؤخذ به في الحكم، وإذا لم يقع به شيء فهي باقية على زوجيته في الباطن، والله أعلم .

- مسألة: في رجل طلق زوجته طلقة واحدة قبل الدخول بها في مرضه الذي مات فيه، فهل يكون ذلك طلاق الفار، ويعامل بنقيض قصده، وترثه الزوجة، وتستكمل جميع صداقها عليه، أم لا ترث، وتأخذ نصف الصداق والحالة هذه ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة مبنية على مسألة المطلق بعد الدخول في مرض الموت، والذي عليه جمهور السلف والخلف توريثها، كما قضى بذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه لامرأة عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ، وقد كان طلقها في مرضه، وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي في القديم، ثم على هذا هل ترث بعد انقضاء العدة، والمطلقة قبل الدخول على قولين العلماء، أصحهما أنها ترث أيضا، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، وقول الشافعي، لأنه قد روى أن عثمان ورثها بعد انقضاء العدة، ولأن هذه إنما ورثت لتعلق حقها بالتركة لما مرض مرض الموت، وصار محجورا عليه في حقها وحق سائر الورثة، بحيث لا يملك التبرع لوارث، ولا يملكه لغير وارث بزيادة على الثلث، كما لا يملك ذلك بعد الموت، فلما كان تصرفه في مرض موته بالنسبة إلى الورثة كتصرفه بعد الموت، لا يملك قطع إرثها، فكذلك لا يملك بعد مرضه، وهذا هو طلاق الفار المشهور بهذا الاسم عند العلماء، وهو القول الصحيح الذي أفتى به .

- مسألة: في رجل له زوجة طلبت منه الطلاق، وطلقها وقال: ما بقيت أعود إليها أبدا فوجده صاحبه، فقال: ما أصدق على هذا إلا إن قلت كلما تزوجت هذه كانت طالقا على مذهب مالك، ولم يرى الأحكام الشرعية، فهل أن يردها ؟ الجواب: الحمد لله، أما إن قصد كلما تزوجتها برجعة أو عقد جديد وهو ظاهر كلامه فمتى ارتجعها قبل انقضاء العدة طلقت ثانية، ثم إن ارتجعها طلقت ثالثة، وإن تركها حتى تنقضي عدتها بانت منه، فإذا تزوجها بعد ذلك فمن قال إن تعليق الطلاق بالنكاح يقع في مثل هذا كأبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية قال: إن هذه إذا تزوجها يقع بها الطلاق، وأما من لم يقل بذلك كالشافعي وأحمد في المشهور عنه فهذه لما علق طلاقها كانت رجعية، والرجعية كالزوجة في مثل هذا لكن تخلل البينونة، هل يقع حكم ؟ الصفة ظاهر مذهب أحمد أنه لا ينقطع، وقد نص على الفرق في تعليق الطلاق على النكاح بين أن يكون في عدة أو لا يكون، فعلى مذهبه يقع الطلاق بها إذا

تزوجها، وهو أحد قولي الشافعي، وعلى قوله الآخر الذي يقول فيه إن البينونة تقطع حكم الصفة، وهو رواية عن أحمد، فإن قوله: إذا تزوجها، كقوله: إذا دخلت الدار، وإذا بانت أحلت هذه اليمين فيجوز له أن يتزوجها ولا يقع به طلاق، وهو الذي يرجحه كثير من أصحاب الشافعي، وأما قوله على مذهب مالك، فإنه التزام منه لمذهب بعينه، وذلك لا يلزم بل له أن يقلد مذهب الشافعي، وإن كان بائنا بعوض والتعليق بعد هذا في العدة وغيره تعليق بأجنبية فلا يقع به شيء إذا تزوجها في مذهب الشافعي . - مسألة: في رجل له زوجة، فحلف أبوها أنه ما يخليها معه وضربها وقال لها أبوها: إبريه، فأبرأته، وطلقها طلقة، ثم ادعت أنها لم تبره إلا خوفا من أبيها، فهل تقع على الزوجة الطلقة أم لا ؟ الجواب: الحمد لله إن كانت أبرأته مكرهة بغير حق لم يصح الإبراء ولم يقع الطلاق المعلق به، وإن كانت تحت حجر الأب وقد رأى الأب أن ذلك جائز في مصلحة لها فإن ذلك أحد قولي العلماء كما في مذهب مالك وقول في مذهب أحمد .

- مسألة: في رجل حنق من زوجته، فقال: أنت طالق ثلاثا، قالت له زوجته: قل الساعة، قال الساعة، ونوى الاستثناء الجواب: إذا كان اعتقاده أنه إذا قال الطلاق يلزمني إن شاء الله أنه لا يقع به الطلاق، ومقصوده تخويفا بهذا الكلام لا إيقاع الطلاق لم يقع الطلاق، فإن كان قد قال في هذه الساعة إن شاء الله، فإن مذهب أبي حنيفة والشافعي أن الطلاق المعلق بالمشيئة لا يقع، ومذهب مالك وأحمد يقع، كما روى عن ابن عباس، لكن هذا إن كان مقصوده واعتقاده أنه لا يقع صار الكلام عنده كلاما لا يقع به طلاق، فلم يقصد التكلم بالطلاق، واذا قصد المتكلم بكلام لا يعتقد أنه يقع به الطلاق مثل ما لو تكلم العجمي بلفظ وهو لا يفهم معناه، وطلاق الهازل وقع لأن قصد المتكلم الطلاق وإن لم يقصد إيقاعه، وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا، وهو يشبه ما لو رأى امرأة فقال أنت طالق يظنها أجنبية فبانت امرأته، فإنه لا يقع به طلاق على الصحيح، والله أعلم .

- مسألة: في رجل تزوج بامرأة وجاءه منها ولد، وأوصاه الشهود أو غيرهم أنه إذا دخل على زوجته أن يقول لها: إذا طلقتك فأنت طالق قبل طلاقك ثلاثا، فهل يجوز ذلك العقد أم لا ؟ الجواب: الحمد لله النكاح صحيح لا يحتاج إلى استئناف، والتسريج الذي لا يتكلم به لا يفسد النكاح باتفاق العلماء، لكنه إن طلقها بعد ذلك وقع به الطلاق عند جماهير أهل العلم من أصحاب مالك وأحمد وأبي حنيفة وكثير من أصحاب الشافعي أو أكثرهم .

- مسألة: في رجل أكره على الطلاق ؟ الجواب: إذا أكره بغير حق على الطلاق لم يقع به عند جماهير العلماء: كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهو المأثور عن أصحاب رسول الله ﷺ: كعمر بن الخطاب، وغيره، وإذا كان حين الطلاق قد أحاط به أقوام يعرفون بأنهم يعادونه، أو يضربونه، ولا يمكنه إذ ذاك أن يدفعهم عن نفسه، وادعى أنهم أكرهوه على الطلاق: قبل قوله، فإن كان الشهود بالطلاق يشهدون بذلك، وادعى الإكراه: قبل قوله وفي تحليفه نزاع .

- مسألة: في رجل زوج بامرأتين إحداهما مسلمة والأخرى كتابية، ثم قال: إحداكن طالق، ومات قبل البيان فلمن تكون التركة من بعده ؟ وأيهما تعتد عدة الطلاق ؟ الجواب: هذه المسألة فيها تفصيل ونزاع بين العلماء فمنهم من فرق بين أن يطلق معينة وينساها أو يجهل عينها، وبين أن يطلق مبهمة ويموت قبل تمييزها بتعيينه أو يعرفه: ثم منهم من يقول: يقع الطلاق بالجميع كقول مالك، ومنهم من يقول: لا يقع إلا بواحدة، كقول الثلاثة، وإذا قدر تعينها ولم تعين، فهل تقسم التركة بين المطلقة وغيرها، كما يقوله أبو حنيفة، أو يوقف الأمر حتى يصطلحا، كما يقول الشافعي، أو يقرع بين المطلقة وغيرها، كما يقوله أحمد وغيره من فقهاء الحديث، على ثلاثة أقوال والقرعة بعد الموت هي قرعة على المال، فلهذا قال بها من لم يرد القرعة في المطلقات، والصحيح في هذه المسألة سواء كانت المطلقة مبهمة أو مجهولة أن يقرع بين الزوجتين، فإذا خرجت القرعة على المسلمة لم ترث هي ولا الذمية شيئا، أما هي فلأنها مطلقة، وأما الذمية فإن الكافر لا يرث المسلم، وإن خرجت القرعة على الذمية ورثت المسلمة ميراث زوجة كاملة، هذا إذا كان الطلاق طلاقا محرما للميراث مثل أن يبينها في صحته، فأما إن كان الطلاق رجعيا في الصحة، والمرض، ومات قبل انقضاء العدة فهذه زوجته ترث وعليها عدة الوفاة باتفاق الأئمة، وتنقضي بذلك عدتها عند جمهورهم كمالك والشافعي وأبي حنيفة وهو قول أحمد في إحدى الروايتين والمشهور عنه: أنها تعتد أطول الأجلين من مدة الوفاة والطلاق، وإن كان الطلاق بائنا في مرض الموت فإن جمهور العلماء على أن البائنة في مرض الموت ترث، إذا كان طلقها طلاقا فيه يقصد حرمانها الميراث، هذا قول مالك وهو يرثها وإن انقضت عدتها وتزوجت، وهو مذهب أبي حنيفة وهو يرثها ما دامت في العدة وهو المشهور عنه ما لم تتزوج، وللشافعي ثلاثة أقوال كذلك لكن قوله الجديد أنها لا ترث، وأما إذا لم يتهم بقصد حرمانها فالأكثرون على أنها لا ترث، فعلى هذا لا ترث هذه المرأة لأن مثل هذا الطلاق الذي لم يعين فيه لا يظهر فيه قصد الحرمان، ومن ورثها مطلقا كأحمد في إحدى الروايتين فالحكم عنده كذلك، وإذا ورثت المبتوتة فقيل تعتد أبعد الأجلين وهو ظاهر مذهب أحمد، وقول أبي حنيفة ومحمد،

وقيل: تعتد عدة الطلاق فقط، وهو قول مالك والشافعي المشهور عنه، ورواية عن أحمد وقول للشافعي، وأما صورة أنها لم تتبين المطلقة فإحداهما، وجبت عليها عدة الوفاة، والأخرى عدة الطلاق، وكل منهما وجبت عليه إحدى العدتين اشتبه الواجب بغيره، فلهذا كان الأظهر هنا وجوب العدتين على كل منهما، لأن الذمة لا تبرأ من أداء الواجب إلا بذلك . - مسألة: في رجل قال كل شيء أملكه علي حرام، فهل تحرم امرأته وأمته عليه أم لا ؟ الجواب: أما غير الزوجة فعليه كفارة يمين، وأما الزوجة فللعلماء فيها نزاع: هل تطلق ؟ أو توجب عليه كفارة ظهار ؟ فمذهب مالك هو طلاق ومذهب أبي حنيفة والشافعي في أظهر قوليه عليه كفارة يمين، ومذهب أحمد عليه كفارة ظهار، إلا أن ينوي غير ذلك ففيه نزاع والصحيح أنه لا يقع به طلاق .

- مسألة: في رجل تخاصم مع زوجته فأراد أن يقول: هي طالق طلقة واحدة فسبق لسانه فقال ثلاثة، ولم يكن ذلك نيته فما الحكم ؟ الجواب: الحمد لله إذا سبق لسانه بالثلات من غير قصد وإنما قصد واحدة لم يقع به إلا واحدة، بل لو أراد أن يقول طاهر فسبق لسانه بطالق لم يقع به الطلاق فيما بينه وبين الله، والله أعلم .

- مسألة: في رجل تخاصم هو وامرأته، وانجرح منها ; فقال: الطلاق يلزمني منك ثلاثا: إن قلت طلقني طلقتك، فسكتت، ثم قالت لأمها: أي شيء يقول ؟ قالت أمها: يقول كذا، قولي له: طلقني، ثم قالت المرأة: طلقني، فهل يقع طلاق بواحدة ; أو بثلاث ؟ أو لا يقع ؟ الجواب: الحمد لله: إذا لم ينو بقوله: إذا قلت طلقني طلقتك، أنه طلقها في المجلس ; بل يطلقها عند الشهود، وأما إذا لم ينو شيئا لم يحنث إذا افترقا من غير طلاق ; لكن يطلقها بعد ذلك الطلاق الذي قصد بيمينه، وأما إذا لم يقصد أن يطلقها ثلاثا، ولا اثنتين أجزأ أن يطلقها طلقة واحدة، هذا إن كان مقصوده إجابة سؤالها مطلقا، وأما إذا قصد إجابة سؤالها إذا كانت طالبة للطلاق، فإذا رجعت، وقالت: لا أريد الطلاق: لم يكن عليه شيء إذا لم يطلقها، والله أعلم .

- مسألة: فيمن طلق امرأته ثلاثا، وأفتاه مفت بأنه لم يقع الطلاق، فقلده الزوج ووطئ زوجته بعد ذلك، وأتت منه بولد: فقيل: إنه ولد زنا ؟ الجواب: من قال ذلك فهو في غاية الجهل والضلالة، والمشاقة لله ورسوله فإن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا في نفس الأمر باتفاق المسلمين، سواء كان الناكح كافرا أو مسلما، واليهودي إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منه يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين وإن كان ذلك النكاح باطلا باتفاق المسلمين، ومن استحله كان كافرا تجب استتابته، وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأة في عدتها كما يفعل جهال الأعراب ووطئها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين، ومثل هذا كثير، فإن " ثبوت النسب " لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر ; بل الولد للفراش، كما قال النبي ﷺ: { الولد للفراش وللعاهر الحجر } فمن طلق امرأته ثلاثا ووطئها يعتقد أنه لم يقع به الطلاق: إما لجهله، وإما لفتوى مفت مخطئ قلده الزوج، وإما لغير ذلك، فإنه يلحقه النسب، ويتوارثان بالاتفاق ; بل ولا تحسب العدة إلا من حين ترك وطأها ; فإنه كان يطؤها يعتقد أنها زوجته، فهي فراش له فلا تعتد منه حتى تترك الفراش، ومن نكح امرأة " نكاحا فاسدا، متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده أو ملكها ملكا متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده، أو وطئها يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة: فإن ولده منها يلحقه نسبه، ويتوارثان باتفاق المسلمين، والولد أيضا يكون حرا ; وإن كان الموطوءة مملوكة للغير في نفس الأمر ووطئت بدون إذن سيدها ; لكن لما كان الواطئ مغرورا بها زوج بها وقيل: هي حرة، أو بيعت فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع ; فإنما وطئ من يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة: فولده منها حر ; لاعتقاده، وإن كان اعتقاده مخطئا، وبهذا قضى الخلفاء الراشدون، واتفق عليه أئمة المسلمين، فهؤلاء الذين وطئوا وجاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا في نكاح فاسد متفق على فساده، وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين، وهم وطئوا يعتقدون أن النكاح باق ; لإفتاء من أفتاهم، أو لغير ذلك: كان نسب الأولاد بهم لاحقا، ولم يكونوا أولاد زنا ; بل يتوارثون باتفاق المسلمين، هذا في المجمع على فساده فكيف في المختلف في فساده ؟ وإن كان القول الذي وطئ به قولا ضعيفا: كمن وطئ في نكاح المتعة أو نكاح المرأة نفسها بلا ولي ولا شهود ; فإن هذا إذا وطئ فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب، فكيف بنكاح مختلف فيه، وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس، وظهر ضعف القول الذي يناقضه، وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام ; لانتفاء الحجة الشرعية ؟، فمن قال: إن هذا النكاح أو مثله يكون فيه الولد ولد زنا [ لا ] يتوارثان هو وأبوه الواطئ: مخالف لإجماع المسلمين، منسلخ من رتبة الدين، فإن كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله ﷺ وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع، ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين، فإن أصر على مشاقة الرسول من أصر على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فقد ظهر أن من أنكر الفتيا بأنه لا يقع الطلاق داعي الإجماع على وقوعه، أو قال إن الولد ولد زنا هو المخالف لإجماع المسلمين، مخالف لكتاب الله وسنة رسول رب العالمين، وأن المفتي بذلك أو القاضي بذلك لا يسوغ له بإجماع المسلمين وليس لأحد المنع من الفتيا بقوله ولا القضاء بذلك ولا الحكم بالمنع من ذلك باتفاق المسلمين، والأحكام باطلة بإجماع المسلمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

- مسألة: في رجل مسك وضرب، وسحبوه وغصبوه على طلاق زوجته، فطلقها طلقة واحدة، وراحت وهي حاملة منه ؟ الجواب: الحمد لله، هذا الطلاق لا يقع، وأما نكاحها وهي حامل من الزوج الأول فهو نكاح باطل بإجماع المسلمين: ولو كان الطلاق قد وقع، فكيف إذا لم يكن قد وقع ؟، ويعزر من أكرهه على الطلاق، ومن تولى هذا النكاح المحرم الباطل، ويجب التفريق بينهما حتى تقضي العدة من الأول بالوضع، والعدة من الثاني فيها خلاف، إن كان يعلم أن النكاح محرم، فالصحيح أنه لا بد من ذلك، وأما إن كان يعتقد صحة النكاح فلا بد أن تعتد من وطء الثاني .

مسألة: في رجل قال لزوجته وهو ساكن بها في منزل سكنها: إن قعدت عندكم فأنت طالق ; وإن سكنت عندكم فأنت طالق ; ثم قال أيضا: أنت علي حرام ; ثم انتقل بنفسه ومتاعه دون زوجته إلى مكان آخر ; وعادت زوجته إلى مكانها الأول ; فإذا عاد وقعد عند زوجته يقع عليه طلقة واحدة ؟ أم طلقتان ؟ وهل السكن هو القعود ؟ أو بينهما عموم وخصوص ؟ وإذا لم ينو بالحرام الطلاق: هل يقع عليه كما لو نوى ؟ وهل إذا كان مذهب تزول به هذه الصورة مخالفا لمذهبه هل يجوز له التقليد أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، أما قوله: إن قعدت عندكم وإن سكنت عندكم فإن كان نية الحالف بالقعود إذا انتقض سبب تلك الحال ; بمنزلة من دعي إلى غداء فحلف أنه لا يتغدى ; فإن سبب اليمين أنه أراد بذلك الغداء المعين، ولهذا كان الصحيح أنه لا يحنث بغداء غير ذلك: وهكذا إذا كان قد زار هو وامرأته قوما فرأى من الأحوال ما كره أن تقيم تلك المرأة عندهم فحلف أنه لا يقيم، ولا يسكن، وقصد على تلك الحال، أو كان سبب اليمين يدل على ذلك، وأما إن كان قد نوى العموم بحيث قصد أنه لا يقعد عندهم ولا يساكنهم بحال فإنه لا يحنث بالقعود، وإن أطلق اليمين ففيه نزاع مشهور بين العلماء، وحيث يحنث بالقعود فإنه إذا كان القعود الذي قصده هو السكنى لم يحنث بأكثر من طلقة ; إلا أن يقصد أكثر من ذلك ; كما لو كرر اليمين بالله على فعل واحد لم يلزمه إلا كفارة واحدة على الصحيح، وإن كان القعود داخلا في ضمن السكنى - كما هو ظاهر اللفظ المطلق - فهذه المسألة تداخل الصفات، كما لو قال: إن أكلت تفاحة واحدة: فقد قيل: تقع طلقتان ; لوجود الصفتين، وقيل: لا يقع إلا طلقة واحدة أيضا، وهو أقوى، فإن المفهوم من هذا الكلام أنك طالق سواء أكلت تفاحة كاملة أو نصفها، وكذلك إذا قال: إن قعدت، فالقعود " لفظ مشترك " يراد به السكنى مشتملا على القعود، ويكون أولا حلف أنه لا يقعد، ثم حلف على ما هو أعم من ذلك وهو السكنى فإذا سكن كان الأول بعض الثاني، فلا يقع أكثر من طلقة إذا قيل بوقوع الطلاق عليه على أقوى القولين، وأما قوله: " أنت علي حرام " فإن حلف أن لا يفعل شيئا ففعله: فعليه كفارة يمين، وإن لم يحلف ; بل حرمها تحريما: فهذا عليه كفارة ظهار، ولا يقع به طلاق في الصورتين، وهذا قول جمهور أهل العلم من أصحاب رسول الله ﷺ وأئمة المسلمين : يقولون: إن الحرام لا يقع به طلاق إذا لم ينوه، كما روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وإن كان من متأخري أتباع بعض الأئمة من زعم أن هذا اللفظ قد صار بحكم العرف صريحا في الطلاق: فهذا ليس من قول هؤلاء الأئمة المتبوعين، وقد كانوا في أول الإسلام يرون لفظ " الظهار " صريحا في الطلاق وهو قوله: أنت علي كظهر أمي، حتى تظاهر أوس بن الصامت من امرأته المجادلة، التي ثبت حكمها فيما أنزل الله { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله }، وأفتاها النبي أولا بالطلاق، حتى نسخ الله ذلك، وجعل الظهار موجبا للكفارة، ولو نوى به الطلاق، والحرام نظير الظهار، لأن ذلك تشبيه لها بالمحرمة، وهذا نطق بالتحريم، وكلاهما منكر من القول وزور، فقد دل كتاب الله على أن تحريم الحلال يمين بقوله: { لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، مع أن هذا ليس موضع بسط ذلك، وأما تقليد المستفتي للمفتي فالذي عليه الأئمة الأربعة وسائر أئمة العلم أنه ليس على أحد ولا شرع له التزام قول شخص معين في كل ما يوجبه ويحرمه ويبيحه ; إلا رسول الله لكن منهم من يقول: على المستفتي أن يقلد الأعلم الأروع ممن يمكنه استفتاؤه، ومنهم من يقول: بل يخير بين المفتين ; [ و ] إذا كان له نوع تمييز، فقد قيل: يتبع أي القولين أرجح عنده بحسب تمييزه، فإن هذا أولى من التخيير المطلق، وقيل: لا يجتهد إلا إذا صار من أهل الاجتهاد، والأول أشبه، فإذا ترجح عند المستفتي أحد القولين: إما لرجحان دليله بحسب تمييزه، وإما لكون قائله أعلم وأورع ; فله ذلك وإن خالف قوله المذهب . - مسألة: في رجل متزوج وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها ؟ الجواب: لا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه وليس تطليق امرأته من برها والله أعلم .

- مسألة: في رجل متزوج لامرأتين فاختارت إحداهن الطلاق فحلف بالطلاق من الاثنتين أنه يطلقها، ولا يوكل عنه في طلاقها، ثم حدث عرس لها فنكحت عليه، فحلف بالطلاق لا تروحي فقالت نزلني طلقة، فإن نزلها طلقة يقع عليه الطلاق الثلاث ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، متى طلقها الطلاق الذي حلف أنه لا يفعله وقع به الطلاق الذي حلف عليه، وحنث أيضا في الطلاق الذي حلف به والله أعلم .

- مسألة: في رجل تخاصم مع زوجته وهي معه بطلقة واحدة، فقالت له: طلقني، فقال: إن أبرأتيني فأنت طالق، فقالت: أبرأك الله مما يدعي النساء على الرجال، فقال لها: أنت طالق، وظن أنه يبرأ من الحقوق، وهو شافعي المذهب ؟ الجواب: نعم هو بريء مما تدعي النساء على الرجال إذا كانت رشيدة .

- مسألة: في رجل قال لصهره: إن جئت لي بكتابي وأبرأتني منه فبنتك طالق ثلاثا ; فجاء له بكتاب غير كتابه ; فقطعه الزوج ولم يعلم هل هو كتابه أم لا ؟ فقال أبو الزوجة: اشهدوا عليه أن بنتي تحت حجري، واشهدوا علي أني أبرأته من كتابها، ولم يبين ما في الكتاب، ثم إنه مكث ساعة وجاء أبو الزوجة بحضور الشهود ; وقال له: أي شيء قلت يا زوج ؟ فقال الزوج: اشهدوا علي أن بنت هذا طالق ثلاثا، ثم إن الزوج ادعى أن هذا الطلاق الصريح بناء على أن الإبراء الأول صحيح: فهل يقع ؟ أم لا ؟ الجواب: قوله الأول معلق على الإبراء، فإن لم يبره لم يقع الطلاق، وأما قوله الثاني فهو إقرار منه ; بناء على أن الأول قد وقع، فإن كان الأول لم يقع فإنه لم يقع بالثاني شيء .

- مسألة: في رجل قال لامرأته: هذا ابن زوجك لا يدخل لي بيتا ; فإنه ابني ربيته ; فلما اشتكاه لأبيه قال للزوج: إن أبرأتك امرأتك تطلقها ؟ قال: نعم، فأتى بها، فقال لها الزوج: إن أبرأتني من كتابك، ومن الحجة التي لك علي: فأنت طالق ؟ قالت: نعم، وانفصلا، وطلع الزوج إلى بيت جيرانه، فقال: هي طالق ثلاثا، ونزل إلى الشهود فسألوه كم طلقت ؟ قال: ثلاثا على ما صدر منه: فهل يقع عليه الطلاق الثلاث ؟، الجواب: الحمد لله، إذا كان إبراؤها على ما دل عليه سياق الكلام ليس مطلقا بل بشرط أن يطلقها بانت منه، ولم يقع بها بعد هذا طلاق، والشرط المتقدم على العقد كالشرط المقارن، والشرط العرفي كاللفظي، وقول هذا الذي من جهتها له: إن جاءت زوجتك وأبرأتك تطلقها ؟ وقوله اشتراط عليه أنه يطلقها إذا أبرأته، ومجيئه بها بعد ذلك، وقوله: أنت إن أبرأتيني قالت: نعم، متنزل على ذلك، وهو أنه إذا أبرأته يطلقها: بحيث لو قالت: أبرأته وامتنع لم يصح الإبراء ; فإن هذا إيجاب وقبول في العرف، لما تقدم من الشروط ودلالة الحال ; والتقدير: أبرأتك بشرط أن تطلقني .

- مسألة: في رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما، ثم طلقها الطلاق البائن، وتزوجت بعده بزوج آخر بعد إخبارها بانقضاء العدة من الأول ; ثم طلقها الزوج الثاني بعد مدة ست سنين، وجاءت بابنة، وادعت أنها من الزوج الأول: فهل يصح دعواها، ويلزم الزوج الأول، ولم يثبت أنها ولدت البنت، وهذا الزوج والمرأة مقيمان ببلد واحد، وليس لها مانع من دعوى النساء، ولا طالبته بنفقة ولا فرض ؟ الجواب: الحمد لله، لا يلحق هذا الولد الذي هو البنت بمجرد دعواها والحالة هذه باتفاق الأئمة ; بل لو ادعت أنها ولدته في حال يلحق به نسبه إذا ولدته وكانت مطلقة وأنكر هو أن تكون ولدته لم تقبل في دعوى الولادة بلا نزاع، حتى تقيم بذلك بينة، ويكفي امرأة واحدة: عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعند مالك وأحمد في الرواية الأخرى لا بد من امرأتين، وأما الشافعي فيحتاج عنده إلى أربع نسوة، ويكفي يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته، وأما إن كانت الزوجية قائمة ففيها قولان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يقبل قولها، كمذهب الشافعي، والثاني: يقبل، كمذهب مالك، وأما إذا انقضت عدتها ومضى لها أكثر الحمل، ثم ادعت وجود حمل من الزوج الأول المطلق: فهذه لا يقبل قولها بلا نزاع، بل لو أخبرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا ولدون مدة الحمل: فهل يلحقه ؟ على قولين مشهورين لأهل العلم، ومذهب أبي حنيفة وأحمد أنه يلحق، وهذا اختيار ابن سريج من أصحاب الشافعي ; لكن المشهور من مذهب الشافعي ومالك أنه لا يلحقه، وهذا النزاع إذا لم تتزوج، فأما إذا تزوجت بعد إخبارها بانقضاء عدتها، ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر ; فإن هذا لا يلحق نسبه بالأول قولا واحدا، فإذا عرفت مذهب الأئمة في هذين الأصلين فكيف يلحقه نسبه بدعواها بعد ست سنين، ولو قالت ولدته ذلك الزمن قبل أن يطلقني لم يقبل قولها أيضا ; بل القول قوله مع يمينه أنها لم تلدها على فراشه، ولو قالت هي: وضعت هذا الحمل قبل أن أتزوج بالثاني، وأنكر الزوج الأول ذلك: فالقول قوله أيضا أنها لم تضعها قبل تزوجها بالثاني ; لا سيما مع تأخر دعواها إلى أن تزوجت الثاني ; فإن هذا مما يدل على كذبها في دعواها ; لا سيما على أصل مالك في تأخر الدعوى الممكنة بغير عذر في هذه المسائل ونحوها .

- مسألة: في امرأة مبغضة لزوجها طلبت الانخلاع منه، وقالت له: إن لم تفارقني وإلا قتلت نفسي ; فأكرهه الولي على الفرقة، وتزوجت غيره، وقد طلبها الأول، وقال: إنه فارقها مكرها، وهي لا تريد إلا الثاني ؟ الجواب: إن كان الزوج الأول أكره على الفرقة بحق: مثل أن يكون مقصرا في واجباتها، أو مضرا لها بغير حق من قول أو فعل كانت الفرقة صحيحة، والنكاح الثاني صحيحا، وهي زوجة الثاني، وإن كان أكره بالضرب أو الحبس وهو محسن لعشرتها حتى فارقها لم تقع الفرقة ; بل إذا أبغضته وهو محسن إليها فإنه يطلب منه الفرقة من غير أن يلزم بذلك، فإن فعل وإلا أمرت المرأة بالصبر عليه إذا لم يكن ما يبيح الفسخ .

- مسألة: في رجل تزوج امرأة من مدة إحدى عشرة سنة، وأحسنت العشرة معه، وفي هذا الزمان تأبى العشرة معه، وتناشزه: فما يجب عليها ؟ الجواب: لا يحل لها أن تنشز عليه ولا تمنع نفسها، فقد قال النبي ﷺ: { ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح }، فإذا أصرت على النشوز فله أن يضربها، وإذا كانت المرأة لا تقوم بما يجب للرجل عليها فليس عليه أن يطلقها ويعطيها الصداق ; بل هي التي تفتدي نفسها منه، فتبذل صداقها ليفارقها، كما { أمر النبي ﷺ لامرأة ثابت بن قيس بن شماس أن يعطي صداقها فيفارقها }، وإذا كان معسرا بالصداق لم تجز مطالبته بإجماع المسلمين .

- مسألة: في رجل خاصم زوجته وضربها، فقالت له: طلقني، فقال: أنت علي حرام، فهل تحرم عليه أم لا ؟ وما يجب عليه إذا منعته من نفسها إذا طلبها ؟، الجواب: الحمد لله، لا يحل لها النشوز عنه ولا تمنع نفسها منه، بل إذا امتنعت منه وأصرت على ذلك فله أن يضربها ضربا غير مبرح، ولا تستحق نفقة ولا قسما، وأما قوله: أنت علي حرام، ففيه قولان للعلماء: قيل: عليه كفارة الظهار إذا أمكنته من نفسها، وقيل: لا شيء عليه ولا خلاف بين العلماء، أنه يجب عليها أن تمكنه، والله أعلم .

- مسألة: في رجل له امرأة كساها كسوة مثمنة: مثل مصاغ، وحلي وقلائد، وما أشبه ذلك خارجا عن كسوة القيمة، وطلبت منه المخالعة، وعليه مال كثير مستحق لها عليه، وطلب حليه منها ليستعين به على حقها أو على غير حقها، فأنكرته، ويعلم أنها تحلف وتأخذ الذي ذكره عندها، والثمن يلزمه ; ولم يكن له بينة عليها ؟ الجواب: إن كان قد أعطاها ذلك الزائد عن الواجب على وجه التمليك لها فقد ملكته، وليس له إذا طلقها هو ابتداء أن يطالبها بذلك ; لكن إن كانت الكارهة لصحبته، وأرادت الاختلاع منه: فلتعطه ما أعطاها من ذلك ومن الصداق الذي ساقه إليها، والباقي في ذمته ; ليخلعها، كما مضت { سنة رسول الله ﷺ في امرأة ثابت بن قيس بن شماس، حيث أمرها برد ما أعطاها }، وإن كان قد أعطاها لتتجمل به، كما يركبها دابته، ويحذيها غلامه، ونحو ذلك ; لا على وجه التمليك للعين: فهو باق على ملكه، فله أن يرجع فيه متى شاء ; سواء طلقها أو لم يطلقها، وإن تنازعا هل أعطاها على وجه التمليك ؟ أو على وجه الإباحة ؟ ولم يكن هناك عرف يقضى به: فالقول قوله مع يمينه أنه لم يملكها ذلك، وإن تنازعا هل أعطاها شيئا أو لم يعطها، ولم يكن حجة يقضى له بها ; لا شاهد واحد، ولا إقرار، ولا غير ذلك: فالقول قولها مع يمينها أنه لم يعطها .

- مسألة: ما هو الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة ؟ الجواب: الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة: أن تكون المرأة كارهة للزوج تريد فراقه فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها، كما يفتدي الأسير، وأما إذا كان كل منهما مريدا لصاحبه، فهذا الخلع محدث في الإسلام .

- مسألة: في رجل قالت له زوجته: طلقني وأنا أبرأتك من جميع حقوقي عليك ; وآخذ البنت بكفايتها، يكون لها عليك مائة درهم، كل يوم سدس درهم، وشهد العدول بذلك فطلقها على ذلك بحكم الإبراء أو الكفالة: فهل لها أن تطالبه بفرض البنت بعد ذلك ؟ أم لا ؟ الجواب: إذا خالعها على أن تبرئه من حقوقها، وتأخذ الولد بكفالته، ولا تطالبه بنفقة، صح ذلك عند جماهير العلماء: كمالك، وأحمد في المشهور من مذهبه وغيرهما ; فإنه عند الجمهور يصح الخلع بالمعدوم الذي ينتظر وجوده كما تحمل أمتها وشجرها، وأما نفقة حملها ورضاع ولدها، ونفقته، فقد انعقد سبب وجوده وجوازه ; وكذلك إذا قالت له: طلقني وأنا أبرأتك من حقوقي وأنا آخذ الولد بكفالته، وأنا أبرأتك من نفقته، ونحو ذلك مما يدل على المقصود، وإذا خالع بينهما على ذلك من يرى صحة مثل هذا الخلع - كالحاكم المالكي - لم يجز لغيره أن ينقضه، وإن رآه فاسدا، ولا يجوز له أن يفرض له عليه بعد هذا نفقة للولد ; فإن فعل الحاكم الأول كذلك حكم في أصح قولي العلماء، والحاكم متى عقد عقدا ساغ فيه الاجتهاد ; أو فسخ فسخا جاز فيه الاجتهاد: لم يكن لغيره نقضه .

مسألة: في رجل له زوجة، وهي ناشز تمنعه نفسها: فهل تسقط نفقتها وكسوتها وما يجب عليها ؟ الجواب: الحمد لله، تسقط نفقتها وكسوتها إذا لم تمكنه من نفسها، وله أن يضربها إذا أصرت على النشوز، ولا يحل لها أن تمنع من ذلك إذا طالبها به ; بل هي عاصية لله ورسوله، وفي الصحيح: { إذا طلب الرجل المرأة إلى فراشه فأبت عليه كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح } . - مسألة: في رجل له امرأة، وقد نشزت عنه في بيت أبيها من مدة ثمانية شهور، ولم ينتفع بها ؟ الجواب: إذا نشزت عنه فلا نفقة لها، وله أن يضربها إذا نشزت ; أو آذته، أو اعتدت عليه .

- مسألة: في قوله تعالى: { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن }، وفي قوله تعالى: { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } إلى قوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }، يبين لنا شيخنا هذا النشوز من ذاك ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، " النشوز " في قوله تعالى: { تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع } هو: أن تنشز عن زوجها فتنفر عنه بحيث لا تطيعه إذا دعاها للفراش، أو تخرج من منزله بغير إذنه، ونحو ذلك مما فيه امتناع عما يجب عليها من طاعته، وأما " النشوز " في قوله تعالى: { إذا قيل انشزوا فانشزوا } فهو النهوض والقيام والارتفاع، وأصل هذه المادة هو الارتفاع والغلظ، ومنه النشز من الأرض ; وهو المكان المرتفع الغليظ، ومنه قوله تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي نرفع بعضها إلى بعض، ومن قرأ ننشرها أراد نحييها، فسمى المرأة العاصية ناشزا لما فيها من الغلظ والارتفاع عن طاعة زوجها، وسمي النهوض نشوزا لأن القاعد يرتفع من الأرض، والله أعلم .

- مسألة: في رجل تزوج امرأة وكتب كتابها، ودفع لها الحال بكماله، وبقي القسط من ذلك، ولم تستحق عليه شيء، وطلبها للدخول فامتنعت ولها خالة تمنعها، فهل تجبر على الدخول ويلزم خالتها المذكورة تسليمها إليه ؟ الجواب: ليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها، والحال هذه، باتفاق الأئمة، ولا لخالتها ولا غير خالتها أن يمنعها، بل تعزر الخالة على منعها من فعل ما أوجب الله عليه، وتجبر المرأة على تسليم نفسها للزوج .

مسألة: في رجل شافعي المذهب بانت منه زوجته بالطلاق الثلاث، ثم تزوجت بعده وبانت من الزوج الثاني، ثم أرادت صلح زوجها الأول، لأن لها منه أولادا، فقال لها: إنني لست قادرا على النفقة وعاجز عن الكسوة فأبت ذلك، فقال لها: كلما حللت لي حرمت علي، فهل تحرم عليه ؟ وهل يجوز ذلك ؟ الجواب: الحمد لله، لا تحرم عليه بذلك، لكن فيها قولان: أحدهما: أن له أن يتزوجها ولا شيء عليه، والثاني: عليه كفارة، إما كفارة ظهار في قول وإما كفارة يمين في قول آخر، وكذلك مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، إن له أن يتزوجها ولا يقع به طلاق، لكن في التكفير نزاع، وإنما يقول بوقوع الطلاق بمثل هذه من يجوز تعليق الطلاق على النكاح كأبي حنيفة ومالك، بشرط أن يرى الحرام طلاقا، كقول مالك، وإذا نواه كقول أبي حنيفة، وأما الشافعي وأحمد فعندهما لو قال: كلما تزوجتك فأنت طالق لم يقع به الطلاق، فكيف في الحرام ؟ لكن أحمد يجوز عليه في المشهور عنه تصحيح الظهار قبل الملك بخلاف الشافعي، والله أعلم .

-مسألة: في رجل قالت له زوجته: أنت علي حرام مثل أبي وأمي، وقال لها: أنت علي حرام مثل أمي وأختي: فهل يجب عليه طلاق ؟ الجواب: لا طلاق بذلك ; ولكن إن استمر على النكاح فعلى كل منهما كفارة ظهار قبل أن يجتمعا، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ; فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا .

- مسألة: في رجل حنق من زوجته فقال: إن بقيت أنكحك أنكح أمي تحت ستور الكعبة، هل يجوز أن يصالحها ؟ الجواب: الحمد لله، إذا نكحها فعليه كفارة الظهار: عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، ولا يمسها حتى يكفر .

- مسألة: في رجلين قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، لا تفعل هذه الأمور بين يدي امرأتك، قبيح عليك، فقال: ما هي إلا مثل أمي، فقال: لأي شيء قلت ؟ سمعت أنها تحرم بهذا اللفظ، ثم كرر على نفسه، وقال: إي والله هي عندي مثل أمي: هل تحرم على الزوج بهذا اللفظ ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، إن أراد بقوله: إنها مثل أمي أنها تستر علي ولا تهتكني ولا تلومني، كما تفعل الأم مع ولدها، فإنه يؤدب على هذا القول، ولا تحرم عليه امرأته ; فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلا يقول لامرأته: يا أختي، فأدبه - وإن كان جاهلا لم يؤدب على ذلك، وإن استحق العقوبة على ما فعله من المنكر - وقال أختك هي ؟، فلا ينبغي أن يجعل الإنسان امرأته كأمه، وإن أراد بها عندي مثل أمي، أي في الامتناع عن وطئها، والاستمتاع بها، ونحو ذلك مما يحرم من الأم، فهي مثل أمي التي ليست محلا للاستمتاع بها: فهذا مظاهر يجب عليه ما يجب على المظاهر، فلا يحل له أن يطأها حتى يكفر كفارة الظهار فيعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، وإذا فعل ذلك حل له ذلك باتفاق المسلمين ; إلا أن ينوي أنها محرمة علي كأمي: فهذا يكون مظاهرا في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وحكي في مذهب مالك نزاع في ذلك: هل يقع به الثلاث ؟ أم لا ؟ والصواب المقطوع به أنه لا يقع به طلاق، ولا يحل له الوطء حتى يكفر باتفاقهم، ولا يقع به الطلاق بذلك، والله أعلم .

-مسألة: في رجل قال في غيظه لزوجته: أنت علي حرام مثل أمي، الجواب: هذا مظاهر من امرأته، داخل في قوله: { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور، والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا }، فهذا إذا أراد إمساك زوجته ووطأها فإنه لا يقربها حتى يكفر هذه الكفارة التي ذكرها الله .

-مسألة: في رجل قال لامرأته بائن عنه إن رددتك تكوني مثل أمي وأختي: هل يجوز أن يردها ؟ وما الذي يجب عليه ؟ الجواب: في أحد قولي العلماء عليه كفارة ظهار، وإذا ردها في الآخر لا شيء، والأول أحوط .

- مسألة: في رجل تزوج، وأراد الدخول الليلة الفلانية ; وإلا كانت عندي مثل أمي وأختي، ولم تتهيأ له ذلك الوقت الذي طلبها فيه: فهل يقع طلاق ؟ الجواب: لا يقع عليه طلاق في المذاهب الأربعة، لكن يكون مظاهرا فإذا أراد الدخول فإنه يكفر قبل ذلك الكفارة التي ذكرها الله في " سورة المجادلة " فيعتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ; فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا .

-مسألة: في امرأة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة، لما ثبت عنده من تضررها بانقطاع نفقة زوجها، وعدم تصرفه الشرعي عليها المدة التي يسوغ فيها فسخ النكاح لمثلها، وبعد ثلاثة شهور من فسخ النكاح رغب فيها من يتزوجها: فهل يجوز أن تعتد بالشهور ; إذ أكثر النساء لا يحضن مع الرضاعة أو يستمر بها الضرر إلى حيث ينقضي الرضاع ويعود إليها حيضها، أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، بل تبقى في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، وإن تأخر ذلك إلى انقضاء مدة الرضاع، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وبذلك قضى عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب بين المهاجرين والأنصار، ولم يخالفهما أحد، فإن أحبت المرأة أن تسترضع لابنها من يرضعه لتحيض، أو تشرب ما تحيض به، فلها ذلك، والله أعلم .

- مسألة: في امرأة شابت لم تبلغ سن الإياس، وكانت عادتها أن تحيض، فشربت دواء، فانقطع عنها الدم واستمر انقطاعه ; ثم طلقها زوجها وهي على هذه الحالة: فهل تكون عدتها من حين الطلاق بالشهور، أو تتربص حتى تبلغ سن الآيسات ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، إن كانت تعلم أن الدم يأتي فيما بعد فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كان يمكن أن يعود الدم ويمكن أن لا يعود فإنها تتربص بعد سنة ثم تتزوج، كما قضى به عمر بن الخطاب في المرأة يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فإنها تتربص سنة، وهذا مذهب الجمهور: كمالك، والشافعي، ومن قال: إنها تدخل في سن الآيسات: فهذا قول ضعيف جدا ; مع ما فيه من الضرر الذي لا تأتي الشريعة بمثله، أو تمنع من النكاح وقت حاجتها إليه ويؤذن لها فيه حين لا تحتاج إليه -مسألة: في رجل ادعت عليه مطلقته بعد ست سنين ببنت، وبعد أن تزوجت بزوج آخر، فألزمه بعض الحكام باليمين، فقال الرجل: أحلف أن هذه ما هي بنتي ؟ فقال الحاكم: ما تحلف إلا أنها ما هي بنتها، فامتنع أن يحلف، إلا أنها ما هي بنتي، وكان معه إنسان فقال للحاكم: هذا ما يحل له أن يحلف أنها ما هي بنت هذه المرأة، فضربه الحاكم بالدرة، وأحرق به فخاف الرجل فكتب عليه فرض البنت، فهل يصح هذا الفرض ؟، الجواب: الحمد لله، عليه اليمين أنها لم تلدها في العدة، أو أنها لم تلدها على فراشه أو أنها لم تلدها في بيته، بحيث أمكن لحوق النسب به، فأما إذا تزوجت بغيره، وأمكن أنها ولدتها من الثاني، فليس عليه اليمين أنها لم تلدها وإذا حلفت أنها لم تلدها قبل نكاح الثاني آخرا، وإذا أكره على الإقرار لم يصح إقراره .

- مسألة: في رجل طلق زوجته ثلاثا ولهما ولدان وهي مقيمة عند الزوج في بيته مدة سنتين ويبصرها وتبصره، فهل يحل لها الأكل الذي تأكل من عنده أم لا وهل له عليها حكم ؟ الجواب: المطلقة ثلاثا هي أجنبية من الرجل بمنزلة سائر الأجنبيات، فليس للرجل أن يخلو بها كما ليس له أن يخلو بالأجنبية، وليس له أن ينظر إليها إلى ما لا ينظر إليه من الأجنبية وليس له عليها حكم أصلا، ولا يجوز له أن يواطئها على أن تزوج غيره ثم تطلقه وترجع إليه، ولا يجوز أن يعطيها ما تنفقه في ذلك، فإنها لو تزوجت رجلا غيره بالنكاح المعروف الذي جرت به عادة المسلمين ثم مات زوجها أو طلقها ثلاثا لم يجز لهذا الأول أن يخطبها في العدة صريحا باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا }، ونهاه أن يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله أي حتى تقضي العدة فإذا كان قد نهاه عن هذه المواعدة والعزم في العدة، فكيف إذا كانت في عصمة زوجها، فكيف إذا كان الرجل لم يتزوجها بعد تواعد على أن تتزوجه ثم تطلقه ويتزوج بها المواعد، فهذا حرام باتفاق المسلمين، سواء قيل: إنه يصح نكاح المحلل أو قيل: لا، فلم يتنازعوا في أن التصريح بخطبة معتدة من غيره أو متزوجة بغيره أو بخطبة مطلقة ثلاثا أنه لا يجوز، ومن فعل ذلك يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة باتفاق الأئمة .

-مسألة: في امرأة طلقها زوجها في الثامن والعشرين من ربيع الأول، وأن دم الحيض جاءها مرة، ثم تزوجت بعد ذلك في الثالث والعشرين من جمادى الآخر من السنة، وادعت أنها حاضت ثلاث حيض، ولم تكن حاضت إلا مرة، فلما علم الزوج الثاني طلقها طلقة واحدة ثانيا في العاشر من شعبان من السنة، ثم أرادت أن تزوج بالمطلق الثاني، وادعت أنها آيسة: فهل يقبل قولها وهل يجوز تزويجها ؟ الجواب: الإياس لا يثبت بقول المرأة ; لكن هذه إذا قالت إنه ارتفع لا تدري ما رفعه فإنها تؤجل سنة، فإن لم تحض فيها زوجت، وإذا طعنت في سن الإياس فلا تحتاج إلى تأجيل، وإن علم أن حيضها ارتفع بمرض أو رضاع كانت في عدة حتى يزول العارض، فهذه المرأة كان عليها " عدتان ": عدة للأول، وعدة من وطء الثاني، ونكاحه، فاسد لا يحتاج إلى طلاق، فإذا لم تحض إلا مرة واستمر انقطاع الدم فإنها تعتد العدتين بالشهور ستة أشهر بعد فراق الثاني إذا كانت آيسة، وإذا كانت مستريبة كان سنة وثلاثة أشهر، وهذا على قول من يقول: إن العدتين لا تتداخلان: كمالك، والشافعي، وأحمد، وعند أبي حنيفة تتداخل العدتان من رجلين ; لكن عنده الإياس حد بالسن، وهذا الذي ذكرناه هو أحسن قولي الفقهاء وأسهلهما، وبه قضى عمر وغيره، وأما على القول الآخر فهذه المستريبة تبقى في عدة حتى تطعن في سن الإياس، فتبقى على قولهم تمام خمسين أو ستين سنة لا تتزوج، ولكن في هذا عسر وحرج في الدين، وتضييع مصالح المسلمين .

مسألة: في رجل تزوج ببنت بكر، ثم طلقها ثلاثا ولم يصبها فهل يجوز أن يعقد عليها، عقدا ثانيا أم لا ؟ الجواب: طلاق البكر ثلاثا كطلاق المدخول بها ثلاثا عند أكثر الأئمة . - مسألة: في مريض طلب من رجل أن يطببه وينفق عليه ففعل، فهل للمنفق أن يطالب المريض بالنفقة ؟ الجواب: إن كان ينفق طالبا للعوض لفظا أو عرفا فله المطالبة بالعوض والله أعلم .

والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده، فإن مقصوده الملك والعتق قد يكون مقصودا للعقد فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا، فثبوت الولاء لا ينافي مقصوده العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه، كما بينه النبي ﷺ بقوله: { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله، فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما إذا لم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله ; لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج، وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو إما أن يقال لا تحل ولا تصح إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور كما ذكرناه من القول الأول، أو يقال لا يحل ولا يصح حتى يدل على حلها دليل سمعي، وإن كان عاما، أو يقال تصح، ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام، والقول الأول باطل ; لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم، فقال سبحانه في آية الربا: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين }، فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل مفهوم الآية الذي اتفق العمل عليه يوجب أنه غير منهي عنه، وكذلك النبي ﷺ أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض، وقال النبي ﷺ: { أيما قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو قسم الإسلام }، وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل أحدا، هل عقد به في عدة أو غير عدة ؟ بولي أو بغير ولي ؟ بشهود أو بغير شهود ؟، ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأة إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام، كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن، كما أمر فيروز الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى، وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارقوا ذات المحارم، ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذ لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن شرعي، ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكون فيه بشرع، فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام، ثم أسلموا بعد زواله مضت ولم يؤمروا باستئنافها ; لأن الإسلام يجب ما قبله، وليس ما عقدوه بغير شرع بدون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء، قلنا: ليس كذلك بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به القبض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فسخ، بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده ; لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه، وإن لم يتصل به القبض من المصاهرة ونحوها، كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح، فلما كان كل واحد من العقود والوطء مقصودا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك، بخلاف الأموال، فإن المقصود بعقودها هو التقابض، ولم يحصل مقصودها فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود، فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم لا أنه لا يصححه إلا بتحليل، وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصحونها إذا لم يعتقدوا تحريمها وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها، لا باجتهاد ولا بتقليد ولا بقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد أن الشارع أحله، فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه، كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق، وأما إن قيل: لا بد من دليل شرعي يدل على حلها سواء كان عاما أو خاصا ففيه جوابان: أحدهما: المنع كما تقدم، والثاني: أن يقول قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة إلا ما استثناه الشارع .

وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود وأما قوله: { من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق }، فالشرط يراد به المصدر تارة والمفعول أخرى، وكذلك الوعد والخلف، ومنه قولهم درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا والله أعلم المشروط لا نفس التكلم، ولهذا قال: " وإن كان مائة شرط " أي وإن كان مائة مشروط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنما المراد تعديد المشروط، والدليل على ذلك قوله: { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق }، أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه بأن يكون المشروط مما حرم الله تعالى .

وكذلك فقهاء الحديث، وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره كالنخل المنورة فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح، وكذلك بيع العين المؤجرة كالدار والعبد عامتهم يجوزه ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر، وكذلك فقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد، كما في صور الوفاق، كاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا، وكذلك يجوز استثناء بعض أجزائه معينا إذا كانت العادة جارية بفصله كبيع الشاة، واستثناء شيء منها سوى قطعها من الرأس والجلد والأكارع، وكذلك الإجارة فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا للتجارة فيه أو صناعة أو أجير الخياطة أو بناء ونحو ذلك، فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص منه، فإنه يجوز بغير خلاف علمه في النكاح فإن العقد المطلق يقتضي ملكه الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث ثبت، ومتى ثبت فيملكه لكن حيث ثبت إذا لم يكن فيه ضرر إلا ما استثني من الاستمتاع المحرم أو كان فيه ضرر، فإن العرف لا يقتضيه ويقتضي ملكا للمهر الذي هو مهر المثل، وملكها الاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء المشاهير ولو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يف بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من لا يوجب عليه الوطء ويبر قسمه الابتدائي، بل يكتفي بالبعث الطبيعي، فمذهب أبي حنيفة والشافعي، ورواية عن أحمد فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء، والفسخ كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار، وهل يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر اعتبارا بالإيلاء، أو يجب أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها بالمعروف، فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره، والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد، وعليه أكثر السلف أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر، كالنفقة والاستمتاع، والمثبت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر بل المرجع في ذلك إلى العرف كما دل عليه الكتاب، في مثل قوله تعالى: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف }، في مثل قوله ﷺ لهند: { خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف }، فإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم ذلك باجتهاده، كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات متعددة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق، فهو كتقدير الشافعي النفقة، إذ كلاهما مما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد، وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء، بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار، والشافعي رضي الله عنه إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود، قياسا على المنع من بيع الغرر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا كذلك، وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل وكذلك يوجب العقد المطلق سلامة الزوج من الجب والعنة عند الفقهاء، وكذلك عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق وسلامتها من الجنون والجذام والبرص، وكذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله كخروج النجاسات منه ; ونحو ذلك في إحدى الوجهين في مذهب أحمد وغيره دون الجمال ونحو ذلك، وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك، ثم لو شرط أحد الزوجين على الآخر صفة مقصودة كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك، وملك بالشرط الفسخ عند فوته في أصح روايتي أحمد ; وأصح وجهي أصحاب الشافعي ; وظاهر مذهب مالك ; والرواية الأخرى لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين ; وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان ; وسواء كان المشترط هو المرأة في الرجل أو الرجل في المرأة، بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم ; وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك لا أصل له، وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين ; أو المرأة أنها رتقاء أو مجبوبة صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء، فقد اتفقوا على صحة شرط النقص عن موجب العقد، واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضوع كما ذكرته لك، فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح، وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص فيه جاز بالاتفاق ; وكذلك يجوز أكثر أو كثير منهم وفقهاء الحديث ومالك في إحدى الروايتين، أن تنقص ملك الزوج، فتشترط عليه أن لا ينقلها من ولدها ومن دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق، فيزيد عليها نفسه، فلا يتزوج عليها، ولا يتسرى، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى، لا يصح هذا الشرط لكنه عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر والقياس المستقيم في هذا الكتاب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث، أن اشتراط زيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع، فإذا كانت الزيادة في العين والمنفعة المعقود عليها والنقص من ذلك على ما ذكرته، فالزيادة في الملك المستحق بالعقد، والنقص منه كذلك، فإن اشترط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع، أو غيره، أو يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه أو نحو ذلك، هو اشتراط تصرف مقصود، ومثله التبرع والمفروض والتطوع، وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي تشوفه الشارع فضعيف، فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه، فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل من العتق كما نص عليه أحمد، فإن ميمونة زوج النبي أعتقت جارية لها، فقال النبي ﷺ: { لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك }، ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق، وما أعلم في ذلك خلافا وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية فإن فيه عن أحمد روايتين: ( إحداهما ): تجب، كقول طائفة من السلف والخلف، ( والثانية ): لا تجب كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم، ولو وصى لغيرهم دونهم فهل ترد تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له، أو يعطى ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه كما يقسم التركة الورثة والموصى له، على روايتين عن أحمد وإن كان المشهور عند أكثر الصحابة هو القول بنفوذ الوصية، فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة، وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري فعلا كما لو كان عليه دين لله من زكاة، أو كفارة، أو نذر، أو دين لآدمي، فاشترط عليه تأديته وكان بنيته من ذلك المبيع، أو اشتراط المشتري على البائع وعاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك، فهذا أوكد من اشتراط العتق وأما السراية، فإنما كان لتعميد الحرية، وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة، فإنها شرعت لتعميد الملك للمشتري، لما في الشركة من الضرر له، ونحن نقول شرع ذلك في جميع المشاركات ليمكن الشريك من المقاسمة، وإن أمكن قسمة العين وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك، فيكمل العتق نوع من ذلك، إذ الشركة تزول بالقسم تارة، وبالتكميل أخرى، وأصل ذلك أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة بمنزلة القدرة الحسية، فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا، كما يثبت ذلك حسا، ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا، فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة ويورث عنه، وفي منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمات عليه بالرضاع، فلا يملك منهن الاستمتاع ويملك المعاوضة عليه بالتزويج بأن يزوج المجوسية بمجوسي مثلا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا يورث عنه عند جماهير المسلمين، ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم، وكذلك يملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ويملك المرهون ويجب عليه مؤنته ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا بيعا ولا هبة، وفي العتق خلاف مشهور والعبد المنذور عتقه والهواء والمال الذي قد نذر للصدقة بعينه، ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا، وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق، فمن قال لم يزل ملكه عنه كما قد يقوله أكثر أصحابنا، فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة، وهو نظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة أو البدنة المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم، ومن قال زال ملكه عنه فإنه يقول هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به، وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضوع، كذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين هل يصير وقفه ملكا لله أوينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقيا على ملك الواقف، على ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره، وعلى كل تقدير فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره في البيع والهبة، وكذلك ملك الموهوب له حيث يجوز للواهب الرجوع كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء، كالشافعي وأحمد نوع مخالف لغيره، حيث يسلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد العاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، وكالبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز، وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين، فها هنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه وجنس الملك يجمعهما، وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذين اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة في طوائف من السلف، وهو مباح للأب مملوك للابن بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الابن ثابت عليه بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا، فإذا كان الملك يتنوع أنواعا وفيه من الإطلاق، والتقيد ما وصفته وما لم أصفه، لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة فيه، والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض، فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمرا بالمصلحة لم يخطره أبدا .

القاعدة الرابعة الشرط المتقدم على العقد الشرط المتقدم على العقد بمنزلة المقارن له في ظاهر مذهب فقهاء الحديث أحمد وغيره، ومذهب أهل المدينة وغيره، وهو قول في مذهب الشافعي نص عليه في صداق السر والعلانية، ونقلوه إلى شرط التحليل المتقدم وغيره، وإن كان المشهور من مذهبه، ومذهب أبي حنيفة أن المتقدم لا يؤثر بل يكون، كالوعد المطلق عندهم يستحيل الوفاء به، وهو قول في مذهب أحمد قد يختاره في بعض المواضع طائفة من أصحابه، كاختيار بعضهم أن التحليل المشروط قبل العقد لا يؤثر إلا أن يفوته الزوج وقت العقد، وكقول طائفة كثيرة منهم بما نقلوه عن أحمد من أن الشرط المتقدم على العقد في الصداق لا يؤثر، وإنما تؤثر التسمية في العقد، ومن أصحاب أحمد طائفة، كالقاضي أبي يعلى، يفرقون بين الشرط المتقدم الرافع لمقصود العقد أو المغير له، فإن كان رافعا، كالمواطأة على كون العقد تلجئته، أو تحليلا أبطله، وإن كان مغيرا كاشتراط كون المهر أقل من المسمى لم يؤثر فيه، لكن المشهور في نصوص أحمد وأصوله، وما عليه قدماء أصحابه، كقول أهل المدينة أن الشرط المتقدم كالشرط المقارن، فإذا اتفقا على شيء وعقد العقد بعد ذلك فهو مصروف إلى المعروف بينهما مما اتفقا عليه، كما تنصرف الدراهم والدنانير في العقود إلى المعروف بينهما، وكما أن جميع العقود إنما تنصرف إلى ما يتعارفه المتعاقدان . المقدمة الثانية: إن هذه الأيمان يحلف بها تارة بصيغة القسم، وتارة بصيغة الجزاء لا يتصور أن تخرج اليمين عن هاتين الصيغتين، فالأول: كقوله: والله لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني أن أفعل كذا، أو علي الحرام لا أفعل كذا، أو علي الحج لا أفعل، والثاني: كقوله: إن فعلت كذا فأنا يهودي، أو نصراني أو بريء من الإسلام، أو إن فعلت كذا فامرأتي طالق، أو إن فعلت كذا فامرأتي حرام أو فهي علي كظهر أمي، أو إن فعلت كذا فعلي الحج أو فمالي صدقة، ولهذا عقد الفقهاء لمسائل الأيمان بابين: أحدهما: بأن يعلق الطلاق بالشرط فيذكرون فيه الحلف بصيغة الجزاء كان ومتى وإذا وما أشبه ذلك، وإن دخل فيه صيغة القسم ضمنا وتبعا، والباب الثاني باب جامع الأيمان مما يشترك فيه الحلف بالله والطلاق والعتاق وغير ذلك، فيذكرون فيه الحلف بصيغة القسم وإن دخلت صيغة الجزاء ضمنا، ومسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الباب الآخر لاتفاقهما في المعنى كثيرا وغالبا، وكذلك طائفة من الفقهاء كأبي الخطاب وغيره لما ذكروا في كتاب الطلاق " باب تعليق الطلاق بالشروط أردفوه بباب جامع الأيمان، وطائفة أخرى كالخرقي والقاضي أبي يعلى، وغيرهما إنما ذكروا باب جامع الأيمان في كتاب الأيمان ; لأنه أمس، ونظير هذا باب حد القذف منهم من يذكره عند باب اللعان لاتصال أحدهما بالآخر، ومنهم من يؤخره إلى كتاب الحدود ; لأنه به أخص . والقول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدا أنه ليل فبان نهارا لا قضاء عليه، كما هو الصحيح عن عمر بن الخطاب، وإليه ذهب بعض التابعين وبعض الفقهاء .

قاعدة في الوقف الذي يشترى بعوضه ما يقوم مقامه وذلك مثل الوقف الذي أتلفه متلف فإنه يؤخذ منه عوضه يشترى به ما يقوم مقامه، فإن الوقف مضمون بالإتلاف باتفاق العلماء، ومضمون باليد، فلو غصبه غاصب تلف تحت يده العادية، فإن عليه ضمانه باتفاق العلماء، لكن قد تنازع بعضهم في بعض الأشياء هل تضمن بالغصب كالعقار، وفي بعضها هل يصح وقفه كالمنقول، ولكن لم يتنازعوا أنه مضمون بالإتلاف باليد كالأموال بخلاف أم الولد فإنهم وإن اتفقوا على أنها مضمونة بالإتلاف، فقد تنازعوا هل تضمن باليد أو لا، فأكثرهم يقول هي مضمونة باليد كمالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فيقول لا يضمن باليد، وضمان اليد هو ضمان العقد لضمان البائع تسليم المبيع وسلامته من العيب، وأنه بيع بحق وضمان دركه عليه بموجب العقد وإن لم يشترطه بلفظه، من أصول الاشتراء ببدل الوقف إذا تعطل نفع الوقف فإنه يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه في مذهب أحمد وغيره، وهل يجوز مع كونه فعلا أن يبدل بخير منه فيه قولان في مذهبه، والجواز مذهب أبي ثور وغيره، والمقصود أنه حيث جاز البدل هل يشترط أن يكون في الدرب أو البلد الذي فيه الوقف الأول أم يجوز أن يكون بغيره إذا كان ذلك أصلح لأهل الوقف، مثل أن يكونوا مقيمين ببلد غير بلد الوقف وإذا اشترى فيه البدل كان أنفع لهم لكثرة الربع ويسر التناول، فيقول: ما علمت أحدا اشترط أن يكون البدل في بلد الوقف الأول، بل النصوص عند أحمد وأصوله وعموم كلامه وكلام أصحابه وإطلاقه يقتضي أن يفعل في ذلك ما هو مصلحة أهل الوقف، فإن أصله في هذا الباب مراعاة مصلحة الوقف، بل أصله في عامة العقود اعتبار مصلحة الناس، فإن الله أمر بالصلاح ونهى عن الفساد وبعث رسله بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وقال موسى لأخيه هارون: { اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين }، وقال شعيب: { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت }، وقال تعالى: { فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }، وقال تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون }، وقد جوز أحمد بن حنبل إبدال مسجد بمسجد آخر للمصلحة، كما جوز تغييره للمصلحة، واحتج بأن عمر بن الخطاب أبدل مسجد الكوفة القديم بمسجد آخر، وصار المسجد الأول سوقا للمارين، وجوز أحمد إذا خرب المكان أن ينقل المسجد إلى قرية أخرى، بل ويجوز في أظهر الروايتين عنه أن يباع ذلك المسجد ويعمر بثمنه مسجد آخر في قرية أخرى إذا لم يحتج إليه في القرية الأولى، فاعتبر المصلحة بجنس المسجد وإن كان في قرية غير القرية الأولى إذا كان جنس المساجد مشتركة بين المسلمين، والوقف على قوم بعينهم أحق بجواز نقله إلى مدينتهم من المسجد، فإن الوقف على معينين حق لهم لا يشركهم فيه غيرهم، وغاية ما فيه أن يكون بعد انقضائهم لجهة عامة كالفقراء والمساكين فيكون كالمسجد، فإذا كان الوقف ببلدهم أصلح لهم كان اشتراء البدل ببلدهم هو الذي ينبغي فعله لمتولي ذلك وصار هذا كالفرس الحبيس الذي يباع ويشترى بقيمته ما يقوم مقامه إذا كان محبوسا على ناس ببعض الثغور ثم انتقلوا إلى ثغر آخر، فشراء البدل بالثغر الذي هو فيه مضمون أولى من شرائه بثغر آخر، وإن كان الفرس حبيسا على جميع المسلمين فهو بمنزلة الوقف على جهة عامة كالمساجد، والوقف على المساكين، ومما يبين هذا أن الوقف لو كان منقولا كالنور والسلاح وكتب العلم، وهو وقف على ذرية رجل يعينهم جاز أن يكون مقر الوقف حيث كانوا، بل كان هذا هو المتعين بخلاف ما لو أوقف على أهل بلد بعينه، لكن إذا صار له عوض هل يشترى به ما يقوم مقامه كان العوض منقولا، وكان أن يشترى بهذا العوض في بلد مقامهم أولى من أن يشترى به في مكان العقار الأول إذا كان ذلك أصلح لهم، إذ ليس في تخصيص مكان العقار الأول مقصود شرعي ولا مصلحة لأهل الوقف وما يأمر به الشارع، ولا مصلحة فيه للإنسان فليس بواجب ولا مستحب، فعلم أن تعيين المكان الأول ليس بواجب ولا مستحب لمن يشتري بالعوض ما يقوم مقامه، بل العدول عن ذلك جائز، وقد يكون مستحبا وقد يكون واجبا إذا تعينت المصلحة فيه والله أعلم .

والقول بأن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، كما في حق القارن والمفرد، وهو قول ابن عباس، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رواها عنه ابنه عبد الله، وكثير من أصحاب الإمام أحمد لا يعرفونها .

والقول بجواز عقد الرداء في الإحرام، وجواز طواف الحائض ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهرا .

-مسألة: عن قناة سبيل، لها فائض، ينزل على قناة الوسخ، وقريب منها قناة طاهرة قليلة الماء: فهل يجوز أن يساق ذلك الفائض إلى المطهرة، وهل يثاب فاعل ذلك ؟ وهل يجوز منعه ؟ الجواب: نعم، يجوز ذلك بإذن ولي الأمر، ولا يجوز منع ذلك إذا لم يكن فيه مصلحة شرعية، ويثاب الساعي في ذلك، والله أعلم .

-مسألة: في ناظرين، هل لهما أن يقتسما المنظور عليه بحيث ينظر كل منهما في نصفه فقط ؟، الجواب: لا يتصرفان إلا جميعا في جميع المنظور فيه، فإن أحدهما لو انفرد بالتصرف لم يجز، فكيف إذا وزع المفرد، فإن الشرع شرع جمع المتفرق بالقسمة، والشفعة فكيف يفرق المجتمع ؟، .

-مسألة: في مساجد وجوامع لهم أوقاف، وفيها قوام وأئمة، ومؤذنون، فهل لقاضي المكان أن يصرف منه إلى نفسه ؟ الجواب: بل الواجب صرف هذه الأموال في مصارفها الشرعية، فيصرف من الجوامع والمساجد إلى الأئمة والمؤذنين والقوام ما يستحقه أمثالهم، وكذلك يصرف في فرش المساجد وتنويرها كفايتها بالمعروف، وما فضل عن ذلك إما أن يصرف في مصالح مساجد أخر، ويصرف في المصالح، كأرزاق القضاة في أحد قولي العلماء، وأما صرفها للقضاة ومنع مصالح المساجد فلا يجوز، والله أعلم .
-مسألة: في وقف لمصالح الحرم وعمارته، ثم بعد ذلك يصرف في وجوه البر والصدقات، وعلى الفقراء والمساكين المقيمين بالحرم فهل يجوز أن يصرف من ذلك على القوام والفراشين القائمين بالوظائف ؟ الجواب: نعم القائمون بالوظائف مما يحتاج إليه المسجد: من تنظيف، وحفظ، وفرش، وتنويره، وفتح الأبواب ; وإغلاقها، ونحو ذلك: هم من مصالحه: يستحقون من الوقف على مصالحه .

-مسألة: في وقف على جماعة، وأن بعض الشركة قد دفع في الفاكهة مبلغا، وأن بعض الشركة امتنع من التضمين والضمان، وطلب أن يأخذ ممن يشتريه قدر حصته من الثمرة، فهل يحكم عليه الحاكم بالبيع مع الشركة أم لا ؟ الجواب: إذا لم تمكن قسمة ذلك قبل البيع بلا ضرر فعليه أن يبيع مع شركائه ويقاسمهم الثمن .

-مسألة: في واقف وقف وقفا على ولديه: عمر، وعبد الله، بينهما بالسوية نصفين: أيام حياتهما، أبدا ما عاشا، دائما ما بقيا، ثم على أولادهما من بعدهما، وأولاد أولادهما، ونسلهما، وعقبهما، أبدا، ما تناسلوا، بطنا بعد بطن، فتوفي عبد الله المذكور وخلف أولادا فرفع عمر ولد عبد الله إلى حاكم يرى الحكم بالترتيب، وسأله رفع يد ولد عبد الله عن الوقف، وتسليمه إليه، فرفع يد ولد عبد الله، وسلمه إلى عمر بحكم أنه من البطن الأول فهل يكون ذلك الحكم جاريا في جميع البطون أم لا ؟ ثم إن عمر توفي وخلف أولادا، فوضعوا أيديهم على الوقف بغير حكم حاكم، فطلب ولد عبد الله من حاكم يرى الحكم بالتشريك بينهم في الوقف تشريكهم ; لأن الواقف جمع بين الأولاد والنسل والعقب في الاستحقاق بعد عبد الله وعمر بالواو الذي يقتضي التشريك ; دون الترتيب، وأن قوله: بطنا بعد بطن لا يقتضي الترتيب فهل الحكم لهم بالمشاركة صحيح أم لا ؟ وهل حكم الأول لعمر متقدم على ولد عبد الله مناقضا للحكم بالتشريك بين أولاد عمر وأولاد عبد الله ؟ وهل لحاكم ثالث أن يبطل هذا الحكم والتنفيذ ؟ الجواب: مجرد الحكم لأحد الأخوين الأولين بجميع الوقف بعد موت أخيه المتوفى لا يكون جاريا في جميع البطون، ولا يكون حكما لأولاده بما حكم له به، فإن قوله: ثم على أولادهما، هل هو لترتيب المجموع على المجموع، أو لترتيب الأفراد على الأفراد، بحيث ينتقل نصيب كل ميت إلى ولده ؟ فيه قولان للفقهاء، وكذلك قوله: وأولادهما من بعدهما بطنا بعد بطن، هل هو للترتيب أو للتشريك ؟ فيه قولان، فإذا حكم الحاكم باستحقاق عمر الجميع بعد موت عبد الله كان هذا لاعتقاده لترتيب المجموع إلى المجموع، فإذا مات عمر فقد يرى ذلك الحاكم الترتيب في الطبقة الأولى، فقط كما قد يشعر به ظاهر اللفظ، وقد يكون يرى أن الترتيب في جميع البطون ; لكن ترتيب الجميع على الجميع، ويشترك كل طبقة من الطبقتين في الوقف دون من هو أسفل منها، وقد يرى غيره وأنه بعد ذلك لترتيب الأفراد على الأفراد ; فإذا حكم حاكم ثان فيما لم يحكم فيه الأول بما لا يناقض حكمه لم يكن نقضا لحكمه، فلا ينقض هذا الثاني إلا بمخالفة نص أو إجماع، والله أعلم .

-مسألة: فيمن عمن وقف وقفا مستغلا، ثم مات، فظهر عليه دين: فهل يباع الوقف في دينه، الجواب: إذا أمكن وفاء الدين من ريع الوقف لم يجز بيعه، وإن لم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف - وهو في مرض الموت - بيع باتفاق العلماء، وإن كان الوقف في الصحة: فهل يباع لوفاء الدين ؟ فيه خلاف بين العلماء في مذهب أحمد، وغيره، ومنعه قول قوي .

-مسألة: في رجل قال في مرضه: إذا مت فداري وقف على المسجد الفلاني، فتعافى، ثم حدث عليه ديون: فهل يصح هذا الوقف ويلزم، أم لا ؟، يجوز أن يبيعها في الدين الذي عليه ; وإن كان التعليق صحيحا كما هو أحد قولي العلماء، وليس هذا بأبلغ من التدبير، وقد ثبت عن { النبي ﷺ أنه باع المدبر في الدين }، والله أعلم .

-مسألة: في وقف على أربعة أنفس: عمرو، وياقوتة، وجهمة، وعائشة: يجري عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فمن توفي منهم عن ولد، أو ولد ولد، أو عن نسل وعقب، وإن سفل: عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده، ثم على ولد ولده، ثم على نسله وعقبه، ثم من بعده وإن سفل، بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ومن توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفا على إخوته الباقين، ثم على أنسالهم وأعقابهم، بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما، فإذا لم يبق لهؤلاء الإخوة الموقوف عليهم نسل ولا عقب، أو توفوا بأجمعهم ولم يعقبوا ولا واحد منهم عاد ذلك وقفا على الأسارى، ثم على الفقراء، ثم توفي عمر عن فاطمة، وتوفيت فاطمة عن عيناشى ابنة إسماعيل بن أبي يعلى، ثم توفيت عيناشى عن غير نسل ولا عقب، ولم يبق من ذرية هؤلاء الأربعة إلا بنت إسماعيل بن أبي يعلى، وكلاهما من ذرية جهمة، فهاتان الجهتان اللتان تليهما عيناشى بعد موت أبيها هل ينتقل إلى أختها رقية ؟ أو إليها، أو إلى ابنة عمها صفية ؟، الجواب: هذا النصيب الذي كان لعيناشى من أمها ينتقل إلى ابنتي العم المذكورتين، ولا يجوز أن تخص به أختها لأبيها ; لأن الواقف ذكر: أن من توفي من هؤلاء الإخوة الموقوف عليهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفا على إخوته، ثم على أنسالهم وأعقابهم، على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما، وهذه العبارة تعم من انقطع نسله أولا وآخرا، فكل من انقطع نسله من هؤلاء الإخوة كان نصيبه لإخوته، ثم لأولادهم ; لأن الواقف لو لم يرد هذا لكان قد سكت عن بيان حكم من أعقب أولا ثم انقطع عقبه ولم يبين مصرف نصيبه، وذلك غير جائز ; لأنه إنما نقل الوقف إلى الأسرى والفقراء إذا لم يبق له ولا لموقوف عليهم نسل ولا عقب، فمتى أعقبوا - ولو واحدا منهم - لم ينتقل إلى الأسرى شيء، ولا إلى الفقراء، وذلك يوجب أن ينتقل نصيب من انقطع نسله منهم إلى الإخوة الباقين، وهو المطلوب، وأيضا فإنه قسم حال المتوفى من الأربعة الموقوف عليهم إلى حالين ; إما أن يكون له ولد، أو نسل، وعقب، أو لا يكون، فإن كان له انتقل نصيبه إلى الولد، ثم إلى ولد الولد، ثم إلى النسل والعقب ; وإن لم يكن انتقل إلى الإخوة، ثم إلى أولادهم، فينبغي أن يعم هذا القسم ما لم يدخل في القسم الأول ليعم البيان جميع الأحوال ; لأنه هو الظاهر من حال المتكلم ; ولأنه لو لم يكن كذلك لزم الإهمال والإلغاء وإبطال الوقف على قول، ودلالة الحال تنفي هذا الاحتمال، وإذا عم ما لم يدخل في القسم الأول دخل فيه من لا ولد له ومن لا ولد لولده ومن لا عقب له، وإذا كان كذلك فأي هؤلاء الأربعة لم يكن له عقب كان نصيبه لإخوته ثم لعقبه، وأيضا فإن الواقف قد صرح بأن من مات منهم عن غير عقب انتقل نصيبه إلى إخوته، ثم إلى أولادهم، وهذا المقصود لا يختلف بين أن لا يخلف ولدا أو يخلف ولدا ثم يخلف ولده ولدا ; فإن العاقل لا يقصد الفرق بين هاتين الحالتين ; لأن التفريق بين المتماثلين قد علم بمطرد العادة أن العاقل لا يقصده، فيجب أن لا يحمل كلامه عليه ; بل يحمل كلامه على ما دل عليه دلالة الحال والعرف المطرد إذا لم يكن في اللفظ ما هو أولى منه، وإذا كان انقطاع النسل أولا وآخرا سواء بالنسبة إلى الانتقال إلى الإخوة وجب حمل الكلام عليه، واعلم أن من أمعن النظر علم قطعا أن الواقف إنما قصد هذا بدلالة الحال واللفظ سائغ له، وليس في الكلام وجه ممكن هو أولى منه، فيجب الحمل عليه قطعا، وأيضا فإن الوقف يراد للتأييد، فيجب بيان حال المتوفى في جميع الطبقات، فيكون قوله: ومن توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد، ولا نسل ولا عقب، في قوة قوله: ومن كان منهم ميتا ولا عقب له ; لأن عدم نسله بعد موته بمنزلة كونهم معدومين حال موته، فلا فرق في قوله هذا وقوله: ومن مات منهم ولا ولد له، وقوله: ومن مات منهم ولم يكن له ولد، وهذه العبارة وإن كان قد لا يفهم منها إلا عدم الذرية حين الموت في بعض الأوقات ; لكن اللفظ سائغ ; لعدم الذرية مطلقا ; بحيث لو كان المتكلم قال: قد أردت هذا لم يكن خارجا عن حد الإفهام، وإذا كان اللفظ سائغا له، ولم يتناول صورة الحادثة إلا هذا اللفظ: وجب إدراجها تحته ; لأن الأمر إذا دار بين صورة يحكم فيها بما يصلح له لفظ الواقف ودلالة حاله وعرف الناس كان الأول هو الواجب بلا تردد، إذا تقرر هذا: فعم جد عيناشى هو الآن متوفى عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب فيكون نصيبه لإخوته الثلاثة على أنسالهم وأعقابهم، والحال التي انقطع فيها نسله لم يكن من ذريته إلا هاتان المرأتان، فيجب أن تستويا في نصيب عيناشى .

وهكذا القول في كل واحد انقطع نسله ; فإن نصيبه ينتقل إلى ذرية إخوته إلا أن يبقى أحد من ذرية أبيهم الذي انتقل إليه الوقف منه، أو من ذرية أمه التي انتقل إليه الوقف منها: فيكون باقي الذرية هم المستحقين لنصيب أمهم أو أبيهم ; لدخولهم في قوله: فمن توفي منهم عن ولد أو ولد ولد، واعلم أن الكلام إن لم يحمل على هذا كان نصيب هذا وقفا منقطع الانتهاء ; لأنه قال: فمن توفي منهم عن ولد كان نصيبه لولده، ثم لولد ولده، ثم لنسله وعقبه، ولم يبين بعد انقراض النسل إلى من يصير ; لكن بين في آخر الشرط أنه لا ينتقل إلى الأسرى والفقراء حتى تنقرض ذرية الأربعة، فيكون مفهوم هذا الكلام صرفه إلى الذرية، وهاتان من الذرية، وهما سواء في الدرجة، ولم يبق غيرهما: فيجب أن يشتركا فيه وليس بعد هذين الاحتمالين إلا أن يكون قوله: ومن توفي منهم عائدا إلى الأربعة وذريتهم، فيقال حينئذ: عيناشى قد توفيت عن أخت من أبيها، وابنة عم، فيكون نصيبها لأختها، وهذا الحمل باطل قطعا، لا ينفذ حكم حاكم إن حكم بموجبه ; لأن الضمير أولا في قوله: فمن توفي منهم، عائد إلى الأربعة، فالضمير في قوله: ومن توفي منهم عائد ثانيا إلى هؤلاء الأربعة ; لأن الرجل إذا قال: هؤلاء الأربعة من فعل منهم كذا فافعل به كذا وكذا، ومن فعل منهم كذا فافعل لولده كذا، علم بالاضطرار أن الضمير الثاني هو الضمير الأول، ولأنه قال: ومن توفي منهم عن غير ولد عاد نصيبه إلى إخوته الباقين، وهذا لا يقال إلا فيمن له إخوة تبقى بعد موته، وإنا نعلم هذا في هؤلاء الأربعة ; ; لأن الواحد من ذريتهم قد لا يكون له إخوة باقون فلو أريد ذلك المعنى لقيل: على إخوته إن كان له إخوة، أو قيل: ومن مات منهم عن إخوة، كما قيل في الولد: ومن مات منهم عن ولد وهذا ظاهر لا خفاء به، وأيضا فلو فرض أن من مات من أهل الوقف عن إخوة كان نصيبه لإخوته فإنما ذلك في الإخوة الذين شركوه في نصيب أبيه وأمه ; لا في الإخوة الذين هم أجانب عن النصيب الذي خلفه - على ما هو مقرر في موضعه من كتب الفقه على المذاهب المشهورة - وهذا النصيب إنما تلقته عيناشى من أمها، وأختها رقية أجنبية من أمها ; لأنها أختها من أبيها فقط، فنسبة أختها لأبيها وابنة عمها إلى نصيب الأم سواء، وهذا بين لمن تأمله، والله أعلم .

-وسئل رحمه الله: عن رجل له جارية، وله ولد فزنى بالجارية، وهي تزني مع غيره، فجاءت بولد ونسبته إلى ولده، فاستلحقه، ورضي السيد، فهل يرث إذا مات مستلحقه ؟ أم لا ؟ فأجاب: إن كان الولد استلحقه في حياته، وقال: هذا ابني، لحقه النسب، وكان من أولاده، إذا لم يكن له أب يعرف غيره، وكذلك إن علم أن الجارية كانت ملكا للابن، فإن { الولد للفراش ; وللعاهر الحجر } .

-وسئل رحمه الله: عن رجل توفي، وخلف مستولدة له، ثم بعد ذلك توفيت المستولدة، وخلفت ولدا ذكرا، وبنتين، فهل للبنات ولاء مع الذكر ؟ وهل يرثن منه شيئا ؟ فأجاب: هذا فيه روايتان عن أحمد: إحداهما: وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي: أن الولاء يختص بالذكور، والثانية: أن الولاء مشترك بين البنين، والبنات، للذكر مثل حظ الأنثيين، والله أعلم .

-وسئل رحمه الله: عن رجل توفي وخلف أخا له ; وأختين شقيقين ; وبنتين، وزوجة وخلف موجودا، وكان الأخ المذكور غائبا، فما تكون القسمة ؟ فأجاب: للزوجة الثمن وللبنتين الثلثان ; وللإخوة خمسة قراريط بين الأخ والأخت أثلاثا، فتحصل للزوجة ثلاثة قراريط، ولكل بنت ثمانية قراريط ; وللأخ ثلاثة قراريط وثلث، وللأخت قيراط وثلثا قيراط .

-مسألة: عن قول الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد في آخر عقيدته: وأن خير القرون القرن الذي رأوا رسول الله ﷺ وآمنوا به، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر وعمر، وعثمان، وعلي، فما الدليل على تفضيل أبي بكر على عمر، وتفضيل عمر على عثمان، وعثمان على علي، فإذا تبين ذلك فهل تجب عقوبة من يفضل المفضول على الفاضل أم لا، بينوا لنا ذلك بيانا مبسوطا مأجورين إن شاء الله تعالى، الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأما تفضيل أبي بكر، ثم عمر على عثمان وعلي فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهو مذهب مالك، وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وأمثالهم من أهل العراق وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة، وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال: ما أدركت أحدا ممن اقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر، وهذا مستفيض عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وفي صحيح البخاري: عن محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه علي بن أبي طالب: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله ﷺ ؟ قال: يا بني أوما تعرف ؟ قلت: لا قال: أبو بكر، قلت: ثم من ؟ قال عمر، ويروى هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجها، وأنه كان يقوله على منبر الكوفة، بل قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري، فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه ثمانين سوطا، وكان سفيان يقول من فضل عليا على أبي بكر فقد أزرى بالمهاجرين، وما أرى أنه يصعد له إلى الله عمل وهو مقيم على ذلك، وفي الترمذي وغيره روي هذا التفضيل عن النبي ﷺ وأنه قال: { يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين }، وقد استفاض في الصحيحين وغيرهما عن النبي ﷺ من غير وجه من حديث أبي سعيد، وابن عباس، وجندب بن عبد الله بن الزبير، وغيرهم { أن النبي ﷺ قال: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله يعني بنفسه }، وفي الصحيح: { أنه قال على المنبر: إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله ألا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر }، وهذا صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض من يستحق المخالة لو كانت ممكنة من المخلوقين إلا أبا بكر، فعلم أنه لم يكن عنده أفضل منه ولا أحب إليه منه، وكذلك في الصحيح { أنه قال عمرو بن العاص: أي الناس أحب إليك ؟ قال عائشة قال: فمن الرجال ؟ قال: أبوها }، وكذلك في الصحيح: أنه قال { لعائشة ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر }، وفي الصحيح عنه { أن امرأة قالت يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك، كأنها تعني الموت، قال فأتي أبا بكر }، وفي السنن عنه: { أنه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر }، وفي الصحيح عنه { أنه كان في سفر فقال إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا }، وفي السنن عنه: قال { رأيت كأني وضعت في كفة والأمة في كفة فرجحت بالأمة ثم وضع أبو بكر في كفة والأمة في كفة فرجح أبو بكر، ثم وضع عمر في كفة والأمة في كفة فرجح عمر }، وفي الصحيح أنه: { كان بين أبي بكر وعمر كلام، فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فلم يفعل، فجاء أبو بكر إلى النبي ﷺ فذكر ذلك فقال اجلس يا أبا بكر يغفر الله لك وندم عمر فجاء إلى منزل أبي بكر فلم يجده، فجاء إلى النبي فغضب النبي ﷺ وقال: يا أيها الناس إني جئت إليكم فقلت إني رسول الله، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، فهل أنتم تاركو لي صاحبي فهل أنتم تاركو لي صاحبي فهل أنتم تاركو لي صاحبي } فما أوذي بعدها، فقد تواتر في الصحيح والسنن: { أن النبي ﷺ لما مرض قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس مرتين أو ثلاثا حتى قال: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس }، فهذا التخصيص والتكرير والتوكيد في تقديمه في الإمامة على سائر الصحابة مع حضور عمر وعثمان وعلي وغيرهم مما بين للأمة تقدمه عنده على غيره، وفي الصحيح: أن جنازة عمر لما وضعت جاء علي بن أبي طالب يتخلل الصفوف ثم قال: لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك فإني كثيرا ما كنت أسمع النبي ﷺ يقول: " دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر " -: فهذا يبين ملازمتهما للنبي ﷺ في مدخله ومخرجه وذهابه، ولذلك قال مالك للرشيد لما قال له: يا أبا عبد الله أخبرني عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي ﷺ فقال يا أمير المؤمنين منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد وفاته، فقال شفيتني يا مالك وهذا يبين أنه كان لهما من اختصاصهما بصحبته ومؤازرتهما له على أمره ومباطنتهما مما يعلمه بالاضطرار كل من كان عالما بأحوال النبي ﷺ وأقواله وأفعاله وسيرته مع أصحابه، ولهذا لم يتنازع في هذا أحد من أهل العلم بسيرته وسنته وأخلاقه وإنما ينفي هذا أو يقف فيه من لا يكون عالما بحقيقة أمور النبي ﷺ وإن كان له نصيب من كلام أو فقه أو حساب أو غير ذلك، أو من يكون قد سمع أحاديث مكذوبة تناقض هذه الأمور المعلومة بالاضطرار عند الخاصة من أهل العلم، فتوقف في الأمر أو رجح غير أبي بكر، وهذا كسائر الأمور المعلومة بالاضطرار عند أهل العلم بسنة رسول الله ﷺ وإن كان غيرهم يشك فيها أو ينفيها كالأحاديث المتواترة عندهم في شفاعته وحوضه، وخروج أهل الكبائر من النار، والأحاديث المتواترة عندهم في الصفات والقدر والعلو والرؤية وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته لما تواترت عندهم عنه، وإن كان غيرهم لا يعلم ذلك، كما تواترت عند الخاصة من أهل العلم عنه الحكم بالشفعة وتحليف المدعى عليه ورجم الزاني المحصن، واعتبار النصاب في السرقة، وأمثال ذلك من الأحكام التي ينازعهم فيها بعض أهل البدع، ولهذا كان أئمة الإسلام متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الأصول بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه، كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين، وفي القسامة والقرعة، وغير ذلك من الأمور التي لم تبلغ هذا المبلغ، وأما عثمان وعلي، فهذه دون تلك، فإن هذه كان قد حصل فيها نزاع، فإن سفيان الثوري وطائف من أهل الكوفة رجحوا عليا على عثمان، ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره، وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعلي، وهي إحدى الروايتين عن مالك، لكن الرواية الأخرى عنه تقديم عثمان على علي كما هو مذهب سائر الأئمة كالشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام حتى إن هؤلاء تنازعوا فيمن يقدم عليا على عثمان هل يعد من أهل البدعة، على قولين هما روايتان عن أحمد، وقد قال أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، والدارقطني: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وأيوب هذا إمام أهل السنة، وإمام أهل البصرة، روى عنه مالك في الموطإ، وكان لا يروي عن أهل العراق، وروي أنه سئل عن الرواية عنه فقال ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، وذكره أبو حنيفة فقال: لقد رأيته مقعدا في مسجد رسول الله ﷺ ما ذكرته إلا اقشعر جسمي، والحجة لهذا ما أخرجاه في الصحيحين وغيرهما: عن { ابن عمر أنه قال: كنا نفاضل على عهد رسول الله ﷺ كنا نقول أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان } وفي بعض الطرق: يبلغ ذلك النبي ﷺ فلا ينكره، وأيضا فقد ثبت بالنقل الصحيح في صحيح البخاري، وغير البخاري، أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جعل الخلافة شورى في ستة أنفس: عثمان ، وعلي وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، ولم يدخل معهم سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وكان من بني عدي قبيلة عمر، وقال عن ابنه عبد الله: يحضركم عبد الله وليس له في الأمر شيء، ووصى أن يصلي صهيب بعد موته حتى يتفقوا على واحد، فلما توفي عمر واجتمعوا عند المنبر قال طلحة: وما كان من هذا الأمر فهو لعثمان وقال الزبير: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعلي، وقال سعد: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف، فخرج ثلاثة وبقي ثلاثة، فاجتمعوا فقال عبد الرحمن: أنا أخرج، وروي أنه قال: عليه عهد الله وميثاقه أن يولي أفضلهما ثم قام عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها يشاور المهاجرين، والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمهات المؤمنين، ويشاور أمراء الأمصار، فإنهم كانوا في المدينة حجوا مع عمر، وشهدوا موته، حتى قال عبد الرحمن: إن لي ثلاثا ما اغتمضت بنوم، فلما كان اليوم الثالث قال لعثمان: عليك عهد الله وميثاقه إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت عليا لتسمعن ولتطيعن، قال: نعم، وقال لعلي: عليك عهد الله وميثاقه إن وليتك لتعدلن ولئن وليت عثمان لتسمعن ولتطيعن، قال: نعم، فقال: إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان، فبايعه علي وعبد الرحمن وسائر المسلمين بيعة رضى واختيار من غير رغبة أعطاهم إياها ولا رهبة خوفهم بها، وهذا إجماع منهم على تقديم عثمان على علي، فلهذا قال أيوب، وأحمد بن حنبل، والدارقطني: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، فإنه لو لم يكن هو أحق بالتقديم وقد قدموه كانوا جاهلين بفضله، وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني، ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم، ولو زعم زاعم أنهم قدموا عثمان لضغن كان في نفس بعضهم على علي وأن أهل الضغن كانوا ذوي شوكة ونحو ذلك مما يقوله أهل الأهواء، فقد نسبهم إلى العجز عن القيام بالحق، وظهور أهل الباطل منهم على أهل الحق هذا وهم في أعز ما كانوا وأقوى ما كانوا، فإنه حين مات عمر كان الإسلام من القوة والعز والظهور والاجتماع والائتلاف فيما لم يصيروا في مثله قط، وكان عمر أعز أهل الإيمان وأذل أهل الكفر والنفاق إلى حد بلغ في القوة والظهور مبلغا لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور، فمن جعلهم في مثل هذه الحال جاهلين أو ظالمين أو عاجزين عن الحق فقد أزرى بهم وجعل خير أمة أخرجت للناس على خلاف ما شهد الله به لهم، وهذا هو أصل مذهب الرافضة، فإن الذي ابتدع الرفض كان يهوديا أظهر الإسلام نفاقا ودس إلى الجهاد دسائس يقدح بها في أصل الإيمان، ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفا ثم يصير مفضلا ثم يصير سبابا ثم يصير غاليا ثم يصير جاحدا معطلا، ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية، والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة، والباطنية، والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة، والنفاق، فإن القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول قدح في الرسول ﷺ كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله ﷺ إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين، وأيضا فهؤلاء الذين نقلوا القرآن والإسلام وشرائع النبي ﷺ وهم الذين نقلوا فضائل علي وغيره، فالقدح فيهم يوجب أن لا يوثق بما نقلوه من الدين، وحينئذ فلا تثبت فضيلة لا لعلي ولا لغيره، والرافضة جهال ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين ولا دنيا منصورة، فإنه لو طلب منهم الناصبي الذي يبغض عليا ويعتقد فسقه أو كفره كالخوارج وغيرهم أن يثبتوا إيمان علي وفضله لم يقدروا على ذلك، بل تغلبهم الخوارج فإن فضائل علي إنما نقلها الصحابة الذين تقدح فيهم الرافضة، فلا يتيقن له فضيلة معلومة على أصلهم، فإذا طعنوا في بعض الخلفاء بما يفترونه عليهم من أنهم طلبوا الرياسة وقاتلوا على ذلك، كان طعن الخوارج في علي بمثل ذلك وأضعافه أقرب من دعوى ذلك على من أطيع بلا قتال، ولكن الرافضة جهال متبعون الزنادقة، القرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع كقوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه }، وقوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى }، وقال تعالى: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج

شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار }، وقال تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا }، وقد ثبت في صحيح مسلم: عن النبي ﷺ أنه قال { لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة }، وفي الصحيحين عن أبي سعيد { أن النبي ﷺ قال: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه }، وقد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه: أنه قال: { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم }، وهذه الأحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون، فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة، ولهذا تكلم الناس في تكفير الرافضة بما قد بسطناه في غير هذا الموضع والله سبحانه وتعالى أعلم .

=====
15


-مسألة: في قصة إبليس وإخباره النبي ﷺ وهو في المسجد مع جماعة من أصحابه، وسؤال النبي ﷺ له عن أمور كثيرة والناس ينظرون إلى صورته عيانا، ويسمعون كلامه جهرا، فهل ذلك حديث صحيح أم كذب مختلق ؟ وهل جاء ذلك في شيء من الصحاح، والمسانيد، والسنن أم لا ؟ وهل يحل لأحد أن يروي ذلك ؟ وماذا يجب على من يرى ذلك ويحدثه للناس ويزعم أنه صحيح شرعي ؟ الجواب: الحمد لله، بل هذا حديث مكذوب مختلق، ليس هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة، لا الصحاح ولا السنن ولا المسانيد، ومن علم أنه كذب على النبي ﷺ لم يحل له أن يرويه عنه، ومن قال إنه صحيح فإنه يعلم بحاله، فإن أصر عوقب على ذلك، ولكن فيه كلام كثير قد جمع أحاديث نبوية، فالذي كذبه واختلقه جمعه من أحاديث بعضها كذب، وبعضها صدق، فلهذا يوجد فيه كلمات متعددة صحيحة، وإن كان أصل الحديث، وهو مجيء إبليس عيانا إلى النبي ﷺ بحضرة أصحابه وسؤاله له كذبا مختلقا، لم ينقله أحد من علماء المسلمين، والله سبحانه وتعالى أعلم .

-مسألة: فيمن سمع رجلا يقول: لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا، فقال له رجل آخر سمعه: هذه الكلمة قد نهى النبي ﷺ عنها، وهي كلمة تؤدي قائلها إلى الكفر، فقال رجل آخر: قال النبي ﷺ في قصة موسى مع الخضر: { يرحم الله موسى وددنا لو كان صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما } واستدل الآخر بقوله ﷺ: { المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف إلى أن قال فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان } فهل هذا ناسخ لهذا أم لا ؟، الجواب: الحمد لله، جميع ما قاله الله ورسوله حق، " ولو " تستعمل على وجهين: أحدهما: على وجه الحزن على الماضي والجزع من المقدور، فهذا هو الذي نهى عنه، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم }، وهذا هو الذي نهى عنه النبي ﷺ حيث قال: { وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن - اللو - تفتح عمل الشيطان } أي تفتح عليك الحزن والجزع، وذلك يضر ولا ينفع بل اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، كما قال تعالى: { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه }، قالوا: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، والوجه الثاني: أن يقال " لو " لبيان علم نافع، كقوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }، ولبيان محبة الخير وإرادته، كقوله: " لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثل ما يعمل " ونحوه جائز، وقول النبي ﷺ: { وددت لو أن موسى صبر ليقص الله علينا من خبرهما } هو من هذا الباب، كقوله: { ودوا لو تدهن فيدهنون } فإن نبينا ﷺ أحب أن يقص الله خبرهما، فذكرها لبيان محبته للصبر المترتب عليه، فعرفه ما يكون لما في ذلك من المنفعة، ولم يكن في ذلك جزع ولا حزن ولا ترك لما يجب من الصبر على المقدور، وقوله: { وددت لو أن موسى صبر } قال النحاة: تقديره وددت أن موسى صبر، وكذلك قوله: { ودوا لو تدهن فيدهنون } تقديره ودوا أن تدهن وقال بعضهم بل هي لو شرطية وجوابها محذوف، والمعنى على التقديرين معلوم وهي محبة ذلك الفعل وإرادته، ومحبة الخير وإرادته محمود، والحزن والجزع وترك الصبر مذموم، والله أعلم . فصل وأما شرط البخاري ومسلم، فلهذا رجال يروي عنهم يختص بهم، ولهذا رجال يروي عنهم يختص بهم، وهما مشتركان في رجال آخرين، وهؤلاء الذين اتفقا عليهم مدار الحديث المتفق عليه، وقد يروي أحدهم عن رجل في المتابعات والشواهد دون الأصل، وقد يروي عنه ما عرف من طريق غيره ولا يروي ما انفرد به، وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه، فيظن من لا خبرة له أن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الصحيح، وليس الأمر كذلك، فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمة الفن، كيحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري صاحب الصحيح، والدارقطني وغيرهم، وهذه علوم يعرفها أصحابها، والله أعلم .

" والخلة " هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه، ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل، وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان متعبدا للمحبوب، والمتيم المتعبد، وتيم الله عبده، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد ﷺ ; ولهذا لم يكن له من أهل الأرض خليل ; إذ الخلة لا تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى، قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا بخلاف أصل الحب فإنه ﷺ قد قال في الحديث الصحيح { في الحسن وأسامة: اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما } { وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك ؟ قال: عائشة قال: فمن الرجال ؟ قال: أبوها وقال لعلي رضي الله عنه: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله } وأمثال ذلك كثير، وقد أخبر تعالى أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، وقال: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين، ومحبة المؤمنين له، حتى قال: { والذين آمنوا أشد حبا لله }، وأما الخلة فخاصة، وقول بعض الناس: إن محمدا حبيب الله، وإبراهيم خليل الله، وظنه أن المحبة فوق الخلة قول ضعيف، فإن محمدا أيضا خليل الله كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، وما يروى " أن العباس يحشر بين حبيب وخليل " وأمثال ذلك، فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها، وقد قدمنا أن من محبة الله تعالى محبة ما أحب، كما في الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار } أخبر النبي ﷺ أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ; لأن وجود الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئا أو اشتهاه إذا حصل له مراده، فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهي، ومن قال إن اللذة إدراك الملائم كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء، فقد غلط في ذلك غلطا مبينا ; فإن الإدراك يتوسط بين المحبة واللذة، فإن الإنسان مثلا يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة، فاللذة تتبع النظر إلى الشيء، فإذا نظر إليه التذ، فاللذة تتبع النظر ليس نفس النظر، وليست هي رؤية الشيء ; بل تحصل عقيب رؤيته، وقال تعالى: { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات، والآلام من فرح وحزن ونحو ذلك يحصل بالشعور بالمحبوب، أو الشعور بالمكروه، وليس نفس الشعور هو الفرح ولا الحزن، فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها، " فتكميلها " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم، " وتفريعها " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، " ودفع ضدها " أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار، فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة الله، وكان رسول الله يحب المؤمنين الذين يحبهم الله ; لأنه أكمل الناس محبة لله، وأحقهم بأن يحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، " والخلة " ليس لغير الله فيها نصيب، بل قال: { لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا } علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة، والمقصود هو أن " الخلة " " والمحبة لله " تحقيق عبوديته ; وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط، لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء، أو إذلال لا تحتمله الربوبية ; ولهذا يذكر عن " ذي النون " أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة، فقال: أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها، وكره من كره من أهل المعرفة والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية ; وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة، والدعوى التي تنافي العبودية وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا لله ; ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين، أو يطلبون من الله ما لا يصلح - بكل وجه - إلا لله لا يصلح للأنبياء والمرسلين، وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل وحررها الأمر والنهي الذي جاءوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته ; وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول: أنا محب فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عذر أو جهل، فهذا عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى: { نحن أبناء الله وأحباؤه } قال الله تعالى: { قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين ولا منسوبين إليه بنسبة البنوة، بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون، فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه، لا يفعل ما يبغضه الحق، ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر، وأصر عليها ولم يتب منها، فإن الله يبغض منه ذلك ; كما يحب منه ما يفعله من الخير ; إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، ومن ظن أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه مع إصراره عليها كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه، وعدم تداويه منه بصحة مزاجه، ولو تدبر الأحمق ما قص الله في كتابه من قصص أنبيائه ; وما جرى لهم من التوبة والاستغفار ; وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي فيه تمحيص لهم وتطهير بحسب أحوالهم ; علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها ولو كان أرفع الناس مقاما، فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفا بمصلحته ولا مريدا لها ; بل يعمل بمقتضى الحب - وإن كان جهلا وظلما - أن ذلك سببا لبغض المحبوب له ونفوره عنه ; بل لعقوبته .

وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعا من أمور الجهل بالدين ; إما من تعدي حدود الله ; وإما من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها، كقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحدا فأنا منه بريء ; فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحدا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء، فالأول جعل مريده يخرج كل من في النار ; والثاني جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار، ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد، وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين ; وهي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم ; ومثل هذا قد يصدر في حال سكر وغلبة وفناء يسقط فيها تمييز الإنسان ; أو يضعف حتى لا يدري ما قال، " والسكر " هو لذة مع عدم تمييز ولهذا كان بين هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام، والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب، والشوق، واللوم، والعذل، والغرام كان هذا أصل مقصدهم ; ولهذا أنزل الله للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية، وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته، ويدعي من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته، وطاعته، بل قد جعل محبة الله ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، " والجهاد " يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بغض ما نهى الله عنه، ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله }، ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها، وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم، وأكمل هذه الأمة في ذلك أصحاب محمد ﷺ ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل، فأين هذا من قوم يدعون المحبة ؟، ، [ وفي ] كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب، وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده، فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء، حتى الكفر والفسوق والعصيان، ولا يمكن لأحد أن يحب كل موجود بل يحب ما يلائمه وينفعه ويبغض ما ينافيه ويضره، ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم، فهم يحبون ما يهوونه كالصور والرئاسة وفضول المال، والبدع المضلة، زاعمين أن هذا من محبة الله، ومن محبة الله بغض ما يبغضه الله ورسوله، وجهاد أهله بالنفس والمال، وأصل ضلالهم أن هذا القائل الذي قال: " إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب " قصد بمراد الله تعالى الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه، فكأنه قال: تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله، وهذا معنى صحيح، فإن من تمام الحب أن لا يحب إلا ما يحبه الله، فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة، وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه، ويكرهه، ويسخطه، وينهى عنه، فإن لم أوافقه في بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محبا له، بل محبا لما يبغضه، فاتباع الشريعة، والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه، وبين من يدعي محبة الله ناظرا إلى عموم ربوبيته، أو متبعا لبعض البدع المخالفة لشريعته، فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله، بل قد تكون دعوى هؤلاء شرا من دعوى اليهود والنصارى لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الأسفل من النار، كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شر من دعواهم إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم، وفي التوراة والإنجيل من محبة الله ما هم متفقون عليه، حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس، ففي الإنجيل أن المسيح قال: " أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك "، والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة، وأن ما هم فيه من الزهد والعبادة هو من ذلك، وهم براء من محبة الله إذ لم يتبعوا ما أحبه، بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم، والله يبغض الكافرين ويمقتهم، ويلعنهم، وهو سبحانه يحب من يحبه، لا يمكن أن يكون العبد محبا لله والله تعالى غير محب له، بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له ; وإن كان جزاء الله لعبده أعظم، كما في الحديث الصحيح الإلهي عن الله تعالى أنه قال: { من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة }، وقد أخبر سبحانه أنه يحب المتقين، والمحسنين والصابرين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب، كما في الحديث الصحيح: { لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به } الحديث، وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياخا في " الزهد والعبادة " وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى: من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته، وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك، ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه، والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن قائلها معصوما، فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا، كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم دينا، ثم إنهم ينتقصون العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعي النصارى في المسيح، ويثبتون للخاصة من المشاركة في الله من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع، وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا ; وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله، وهو المشروع، فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله، وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب، كما قال: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }، فلا بد من العمل الصالح، وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصا لوجه الله تعالى، كما قال تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }، وقال النبي ﷺ: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وقال النبي ﷺ: { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ; فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه }، وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين وبه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول، وعليه جاهد ; وبه أمر، وفيه رغب ; وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه، والشرك غالب على النفوس، وهو كما جاء في الحديث، { وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل } وفي حديث آخر { قال أبو بكر: يا رسول الله، كيف ننجو منه، وهو أخفى من دبيب النمل ؟ فقال النبي ﷺ لأبي بكر: ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله ؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم }، وكان عمر يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، وكثيرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له، وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية، قيل لأبي داود السجستاني: وما الشهوة الخفية ؟ قال: حب الرئاسة، وعن كعب بن مالك عن النبي ﷺ أنه قال: { ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه } قال الترمذي حديث حسن صحيح، فبين ﷺ أن الحرص على المال والشرف في فساد الدين لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بين ; فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }، فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره، إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا، كما قال تعالى: { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب }، إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرغوبه، فلا يكون عبدا لله ومحبه إلا بين خوف ورجاء ; قال تعالى: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }، وإذا كان العبد مخلصا له اجتباه ربه فيحيي قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك ; بخلاف القلب الذي لم يخلص لله، فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق، فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه، كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة ; فيبقى أسيرا عبدا لمن لو اتخذه هو عبدا له لكان ذلك عيبا ونقصا وذما، وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق، وتارة يستعبدهم الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من الله، ومن لم يكن خالصا لله عبدا له قد صار قلبه معبدا لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلا له خاضعا وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه ; فالقلب إن لم يكن حنيفا مقبلا على الله معرضا عما سواه وإلا كان مشركا، قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } إلى قوله: { كل حزب بما لديهم فرحون }، وقد جعل الله سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة الله وعبادته وإخلاص الدين له ; كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم، قال تعالى في إبراهيم: { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين }، وقال في فرعون وقومه: { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين }، ولهذا يصير أتباع فرعون أولا إلى أن لا يميزوا بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما قدر الله وقضاه ; بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة، ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا وجود هذا، ويقول محققوهم الشريعة فيها طاعة ومعصية، والحقيقة فيها معصية بلا طاعة ;

والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية، وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من الأمر والنهي، وأما إبراهيم وآل إبراهيم الحنفاء والأنبياء فهم يعلمون أنه لا بد من الفرق بين الخالق والمخلوق، ولا بد من الفرق بين الطاعة والمعصية، وأن العبد كلما ازداد تحقيقا ازدادت محبته لله وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره، وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين الله وبين خلقه، والخليل يقول: { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشايخ كما فعلت النصارى، مثال ذلك اسم " الفناء " فإن " الفناء ثلاثة أنواع ": نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء ; ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين ; ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين، فأما الأول: فهو " الفناء عن إرادة ما سوى الله " بحيث لا يحب إلا الله، ولا يعبد إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب غيره ; وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبي يزيد حيث قال: أريد أن لا أريد إلا ما يريد، أي المراد المحبوب المرضي ; وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد أن لا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب ; ولا يحب إلا ما يحبه الله كالملائكة والأنبياء والصالحين، وهذا معنى قولهم في قوله: { إلا من أتى الله بقلب سليم }، قالوا: هو السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله، أو مما سوى إرادة الله، أو مما سوى محبة الله، فالمعنى واحد وهذا المعنى إن سمي فناء أو لم يسم هو أول الإسلام وآخره، وباطن الدين وظاهره، وأما النوع الثاني: فهو " الفناء عن شهود السوى "، وهذا يحصل لكثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد ; لا يخطر بقلوبهم غير الله ; بل ولا يشعرون ; كما قيل في قوله: { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } قالوا: فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف، وإما رجاء يبقى قلبه منصرفا عن كل شيء إلا عما قد أحبه أو خافه أو طلبه ; بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره، فإذا قوي على صاحب الفناء هذا فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه، كما يذكر: أن رجلا ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي قال: غبت بك عني، فظننت أنك أني، " وهذا الموضع " يزل فيه أقوام وظنوا أنه اتحاد، وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما، وهذا غلط ; فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلا، بل لا يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدا وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا، كما إذا اتحد الماء واللبن، والماء والخمر، ونحو ذلك، ولكن يتحد المراد والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة، فيحب هذا ما يحب هذا، ويبغض هذا ما يبغض هذا، ويرضى ما يرضى ويسخط ما يسخط ويكره ما يكره، ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي وهذا الفناء كله فيه نقص، وأكابر الأولياء كأبي بكر، وعمر، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: لم يقعوا في هذا الفناء، فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة، وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل والتمييز لما يرد على القلب من أحوال الإيمان ; فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم، أو يحصل لهم غشي أو صعق أو سكر أو فناء أو وله أو جنون، وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة، فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن ومنهم من يموت: كأبي جهير الضرير وزرارة بن أبي أوفى قاضي البصرة، وكذلك صار في شيوخ الصوفية من يعرض له من الفناء والسكر ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه، كما يحكى نحو ذلك عن مثل أبي يزيد، وأبي الحسن الثوري، وأبي بكر الشبلي، وأمثالهم، بخلاف أبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والفضيل بن عياض بل وبخلاف الجنيد وأمثالهم ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه، بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيها سوى محبة الله وإرادته وعبادته، وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمور على ما هي عليه، بل يشهدون المخلوقات قائمة بأمر الله مدبرة بمشيئته بل مستجيبة له قانتة له، فيكون لهم فيها تبصرة وذكرى، ويكون ما يشهدونه من ذلك مؤيدا وممدا لما في قلوبهم من إخلاص الدين، وتجريد التوحيد له، والعبادة له وحده لا شريك له، وهذه " الحقيقة " التي دعا إليها القرآن، وقام بها أهل تحقيق الإيمان، والكمل من أهل العرفان، ونبينا ﷺ إمام هؤلاء وأكملهم ; ولهذا لما عرج به إلى السموات وعاين ما هنالك من الآيات وأوحى إليه ما أوحى من أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله، ولا ظهر عليه ذلك، بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي - ﷺ أجمعين .

وخاتمة المجلس: " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك " إن كان مجلس رحمة كانت كالطابع عليه، وإن كان مجلس لغو كانت كفارة له، وقد روي أيضا أنها تقال في آخر الوضوء بعد أن يقال: { أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين }، وهذا الذكر يتضمن التوحيد والاستغفار ; فإن صدره الشهادتان اللتان هما أصلا الدين وجماعه ; فإن جميع الدين داخل في " الشهادتين " إذ مضمونهما أن لا نعبد إلا الله، وأن نطيع رسوله، " والدين " كله داخل في هذا في عبادة الله بطاعة الله وطاعة رسوله، وكل ما يجب أو يستحب داخل في طاعة الله ورسوله، وقد روي أنه يقول: { سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك } وهذا كفارة المجلس، فقد شرع في آخر المجلس وفي آخر الوضوء، وكذلك كان النبي ﷺ يختم الصلاة كما في الحديث الصحيح أنه { كان يقول في آخر صلاته: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت } وهنا قدم الدعاء وختمه بالتوحيد ; لأن الدعاء مأمور به في آخر الصلاة، وختم بالتوحيد ليختم الصلاة بأفضل الأمرين وهو التوحيد، بخلاف ما لم يقصد فيه هذا فإن تقديم التوحيد أفضل، فإن جنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب، وإن كان المفضول قد يفضل على الفاضل في موضعه الخاص، بسبب وبأشياء أخر، كما أن الصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر الذي هو ثناء، والذكر أفضل من الدعاء الذي هو سؤال، ومع هذا فالمفضول له أمكنة وأزمنة وأحوال يكون فيها أفضل من الفاضل، لكن أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد، وإخلاص الدين كله لله هو تحقيق قول لا إله إلا الله، فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها، فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلا لا نقدر أن نضبطه، حتى أن كثيرا منهم يظنون أن التوحيد المفروض هو الإقرار والتصديق بأن الله خالق كل شيء وربه ولا يميزون بين الإقرار بتوحيد الربوبية الذي أقر به مشركو العرب، وبين توحيد الإلهية الذي دعاهم إليه رسول الله ﷺ ولا يجمعون بين التوحيد القولي والعملي، فإن المشركين ما كانوا يقولون: إن العالم خلقه اثنان، ولا إن مع الله ربا ينفرد دونه بخلق شيء ; بل كانوا كما قال الله عنهم: { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } وقال تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } قال تعالى: { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون }، وكانوا مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة أخرى، يجعلونهم شفعاء لهم إليه، ويقولون: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }، ويحبونهم كحب الله، والإشراك في الحب والعبادة والدعاء والسؤال غير الإشراك في الاعتقاد والإقرار، كما قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله } فمن أحب مخلوقا كما يحب الخالق فهو مشرك به، قد اتخذ من دون الله أندادا يحبهم كحب الله، وإن كان مقرا بأن الله خالقه، ولهذا فرق الله ورسوله بين من أحب مخلوقا لله، وبين من أحب مخلوقا مع الله، فالأول يكون الله هو محبوبه ومعبوده الذي هو منتهى حبه وعبادته لا يحب معه غيره ; لكنه لما علم أن الله يحب أنبياءه وعباده الصالحين أحبهم لأجله، وكذلك لما علم أن الله يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك، فكان حبه لما يحبه تابعا لمحبة الله وفرعا عليه وداخلا فيه، بخلاف من أحب مع الله فجعله ندا لله يرجوه ويخافه، أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة لله، ويتخذه شفيعا له من غير أن يعلم أن الله يأذن له أن يشفع فيه قال تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } وقال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }، وقد { قال عدي بن حاتم للنبي: ما عبدوهم، قال: أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم }، وقال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى: { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا }، فالرسول وجبت طاعته ; لأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ومن سوى الرسول من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك إنما تجب طاعتهم إذا كانت طاعتهم طاعة لله، وهم إذا أمر الله ورسوله بطاعتهم فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }، فلم يقل وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم ; بل جعل طاعة أولي الأمر داخلة في طاعة الرسول ; وطاعة الرسول طاعة لله، وأعاد الفعل في طاعة الرسول دون طاعة أولي الأمر ; فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله ; فليس لأحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر الله به أم لا، بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية الله، فليس كل من أطاعهم مطيعا لله، بل لا بد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية لله، وينظر هل أمر الله به أم لا، سواء كان أولي الأمر من العلماء أو الأمراء، ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك، وبهذا يكون الدين كله لله قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وقال النبي ﷺ: { لما قيل له: يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله }، ثم إن كثيرا من الناس يحب خليفة أو عالما أو شيخا أو أميرا فيجعله ندا لله، وإن كان قد يقول: إنه يحبه لله، فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام الله ورسوله فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله }، فالتوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب، ويكون في أعمال القلب ; ولهذا قال الجنيد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق، فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله، وإذا أفرد لفظ التوحيد فهو يتضمن قول القلب وعمله، والتوكل من تمام التوحيد، وهذا كلفظ " الإيمان " فإنه إذا أفرد دخلت فيه الأعمال الباطنة والظاهرة، وقيل الإيمان قول وعمل، أي قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومنه قول النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: { الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان }، ومنه قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقوله: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا } وقوله: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } .

فصل وأما قول السائل: هل الاعتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة الصادرة عنها ; أم يحتاج إلى شيء آخر ؟ فجوابه: أن الموجب للغفران مع التوحيد هو التوبة المأمور بها ; فإن الشرك لا يغفره الله إلا بتوبة ; كما قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } في موضعين من القرآن وما دون الشرك فهو مع التوبة مغفور ; وبدون التوبة معلق بالمشيئة، كما قال تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذبوب جميعا } فهذا في حق التائبين، ولهذا عمم وأطلق، وختم أنه يغفر الذنوب جميعا، وقال في تلك الآية: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فخص ما دون الشرك وعلقه بالمشيئة فإذا كان الشرك لا يغفر إلا بتوبة ; وأما ما دونه فيغفره الله للتائب ; وقد يغفره بدون التوبة لمن يشاء، فالاعتراف بالخطيئة مع التوحيد إن كان متضمنا للتوبة أوجب المغفرة ; وإذا غفر الذنب زالت عقوبته ; فإن المغفرة هي وقاية شر الذنب، ومن الناس من يقول الغفر الستر، ويقول: إنما سمي المغفرة والغفار لما فيه من معنى الستر، وتفسير اسم الله الغفار بأنه الستار وهذا تقصير في معنى الغفر ; فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث لا يعاقب على الذنب فمن غفر ذنبه لم يعاقب عليه، وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن، ومن عوقب على الذنب باطنا أو ظاهرا فلم يغفر له، وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب، وأما إذا ابتلي مع ذلك بما يكون سببا في حقه لزيادة أجره فهذا لا ينافي المغفرة، وكذلك إذا كان من تمام التوبة أن يأتي بحسنات يفعلها فإن من يشترط في التوبة من تمام التوبة ; وقد يظن الظان أنه تائب ولا يكون تائبا بل يكون تاركا، والتارك غير التائب، فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضى لعجزه عنه، أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني، وهذا ليس بتوبة، بل لا بد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي الله عنه ويدعه لله تعالى: لا لرغبة مخلوق ولا لرهبة مخلوق ; فإن التوبة من أعظم الحسنات ; والحسنات كلها يشترط فيها الإخلاص لله وموافقة أمره، كما قال الفضيل بن عياض، في قوله: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ; حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، وبسط الكلام في التوبة له موضع آخر، وأما الاعتراف بالذنب على وجه الخضوع لله من غير إقلاع عنه فهذا في نفس الاستغفار المجرد الذي لا توبة معه، وهو كالذي يسأل الله تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه، وهذا يأس من رحمة الله، ولا يقطع بالمغفرة له فإنه داع دعوة مجردة، وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: { ما من داع يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها ; وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها قالوا: يا رسول الله، إذا نكثر قال: الله أكثر } فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة وإذا لم تحصل، فلا بد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر، فهو نافع كما ينفع كل دعاء، وقول من قال من العلماء: الاستغفار مع الإصرار توبة الكذابين، فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو يدعي أن استغفاره توبة، وأنه تائب بهذا الاستغفار فلا ريب أنه مع الإصرار لا يكون تائبا، فإن التوبة والإصرار ضدان: الإصرار يضاد التوبة، لكن لا يضاد الاستغفار بدون التوبة . وقول القائل: هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة أم لا بد من استحضار جميع الذنوب ؟ فجواب هذا مبني على أصول: أحدهما: أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر إذا كان المقتضي للتوبة من أحدهما أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر، أو كان المانع من أحدهما أشد، وهذا هو القول المعروف عند السلف والخلف، وذهب طائفة من أهل الكلام كأبي هاشم إلى أن التوبة لا تصح من قبيح مع الإصرار على الآخر، قالوا: لأن الباعث على التوبة إن لم يكن من خشية الله لم يكن توبة صحيحة، والخشية مانعة من جميع الذنوب لا من بعضها، وحكى القاضي أبو يعلى، وابن عقيل هذا رواية عن أحمد ; لأن المروذي نقل عنه أنه سئل عمن تاب من الفاحشة وقال: لو مرضت لم أعد لكن لا يدع النظر، فقال أحمد: أي توبة هذه ؟، قال { جرير بن عبد الله سألت رسول الله ﷺ عن نظرة الفجأة فقال: اصرف بصرك }، والمعروف عن أحمد وسائر الأئمة هو القول بصحة التوبة، وأحمد في هذه المسألة إنما أراد أن هذه ليست توبة عامة يحصل بسببها من التائبين توبة مطلقا، لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر، فإن نصوصه المتواترة عنه وأقواله الثابتة تنافي ذلك، وحمل كلام الإمام على ما يصدق بعضه بعضا أولى من حمله على التناقض، لا سيما إذا كان القول الآخر مبتدعا لم يعرف عن أحد من السلف، وأحمد يقول: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام، وكان في المحنة يقول: كيف أقول ما لم يقل، واتباع أحمد للسنة والآثار وقوة رغبته في ذلك وكراهته لخلافه من الأمور المتواترة عنه يعرفها من يعرف من الخاصة والعامة وما ذكروه من أن الخشية توجب العموم، فجوابه: أنه قد يعلم قبح أحد الذنبين دون الآخر، وإنما يتوب مما يعلم قبحه، وأيضا: فقد يعلم قبحها ولكن هواه يغلبه في إحداهما دون الآخر فيتوب من هذا دون ذاك، كمن أدى بعض الواجبات دون بعض ; فإن ذلك يقبل منه، ولكن المعتزلة لهم أصل فاسد وافقوا فيه الخوارج في الحكم وإن خالفوهم في الاسم، فقالوا: إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار ولا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها، وعندهم يمتنع أن يكون الرجل الواحد ممن يعاقبه الله ثم يثيبه ; ولهذا يقولون: بحبوط جميع الحسنات بالكبيرة، وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة فعلى أن أهل الكبائر يخرجون من النار ويشفع فيهم، وأن الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة، ولا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله أثابه الله على ذلك، وإن كان مستحقا للعقوبة على كبيرته، وكتاب الله عز وجل يفرق بين حكم السارق والزاني وقتال المؤمنين بعضهم بعضا، وبين حكم الكفار في " الأسماء، والأحكام "، والسنة المتواترة عن النبي ﷺ وإجماع الصحابة يدل على ذلك، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، وعلى هذا تنازع الناس في قوله: { إنما يتقبل الله من المتقين }، فعلى قول الخوارج والمعتزلة لا تقبل حسنة إلا ممن اتقاه مطلقا فلم يأت كبيرة، وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك، فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم " المتقين " وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصا لله موافقا لأمر الله، فمن اتقاه في عمل تقبله منه، وإن كان عاصيا في غيره، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعا في غيره، والتوبة من بعض الذنوب دون بعض كفعل بعض الحسنات المأمور بها دون بعض إذا لم يكن المتروك شرطا في صحة المفعول كالإيمان المشروط في غيره من الأعمال، كما قال الله تعالى: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا }، وقال تعالى { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة }، وقال: { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }، الأصل الثاني: أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضي مغفرة ما تاب منه أما ما لم يتب منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب، لا على حكم من تاب، وما علمت في هذا نزاعا إلا في الكافر إذا أسلم، فإن إسلامه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالإسلام الكفر الذي تاب منه، وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها في الإسلام ؟ هذا فيه قولان معروفان، أحدهما: يغفر له الجميع، لإطلاق قوله ﷺ { الإسلام يهدم ما كان قبله } رواه مسلم،. مع قوله تعالى: { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }، والقول الثاني: إنه لا يستحق أن يغفر له بالإسلام إلا ما تاب منه ; فإذا أسلم وهو مصر على كبائر دون الكفر فحكمه في ذلك حكم أمثاله من أهل الكبائر، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأصول والنصوص، فإن في الصحيحين: أن { النبي ﷺ: قال له حكيم بن حزام: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ فقال: من أحسن منكم في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر } فقد دل هذا النص على أنه إنما ترفع المؤاخذة بالأعمال التي فعلت في حال الجاهلية عمن أحسن لا عمن لا يحسن ; وإن لم يحسن أخذ بالأول والآخر، ومن لم يتب منه فلم يحسن، وقوله تعالى: { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } يدل على أن المنتهي عن شيء يغفر له ما قد سلف منه، لا يدل على أن المنتهي عن شيء يغفر له ما سلف من غيره ; وذلك لأن قول القائل لغيره: إن انتهيت غفرت لك ما تقدم، ونحو ذلك يفهم منه عند الإطلاق أنك إن انتهيت عن هذا الأمر غفر لك ما تقدم منه، وإذا انتهيت عن شيء غفر لك ما تقدم منه، كما يفهم مثل ذلك في قوله: " إن تبت "، لا يفهم منه أنك بالانتهاء عن ذنب يغفر لك ما تقدم من غيره، وأما قول النبي ﷺ: { الإسلام يهدم ما قبله } وفي رواية { يجب ما كان قبله } فهذا قاله لما أسلم عمرو بن العاص وطلب أن يغفر له ما تقدم من ذنبه فقال له: { يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها } ومعلوم أن التوبة إنما توجب مغفرة ما تاب منه، لا توجب التوبة غفران جميع الذنوب، الأصل الثالث: إن الإنسان قد يستحضر ذنوبا فيتوب منها وقد يتوب توبة مطلقة لا يستحضر معها ذنوبه، لكن إذا كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنبا ; لأن التوبة العامة تتضمن عزما عاما بفعل المأمور وترك المحظور، وكذلك تتضمن ندما عاما على كل محظور، " والندم " سواء قيل: إنه من باب الاعتقادات، أو من باب الإرادات، أو قيل: إنه من باب الآلام التي تلحق النفس بسبب فعل ما يضرها ; فإذا استشعر القلب أنه فعل ما يضره، حصل له معرفة بأن الذي فعله كان من السيئات، وهذا من باب الاعتقادات، وكراهية لما كان فعله، وهو من جنس الإرادات ; وحصل له أذى وغم لما كان فعله ; وهذا من باب الآلام، كالغموم والأحزان، كما أن الفرح والسرور هو من باب اللذات ليس هو من باب الاعتقادات والإرادات، ومن قال من المتفلسفة ومن اتبعهم: إن اللذة هي إدراك الملائم من حيث هو ملائم، وإن الألم هو إدراك المنافر من حيث هو منافر فقد غلط في ذلك، فإن اللذة والألم حالان يتعقبان إدراك الملائم والمنافر فإن الحب لما يلائمه، كالطعام المشتهى مثلا له ثلاثة أحوال، أحدها: الحب، كالشهوة للطعام، والثاني: إدراك المحبوب، كأكل الطعام، والثالث: اللذة الحاصلة بذلك، واللذة أمر مغاير للشهوة ولذوق المشتهي، بل هي حاصلة لذوق المشتهي ; ليست نفس ذوق المشتهى، وكذلك " المكروه " كالضرب مثلا، فإن كراهته شيء، وحصوله شيء آخر، والألم الحاصل به ثالث، وكذلك ما للعارفين أهل محبة الله من النعيم والسرور بذلك ; فإن حبهم لله شيء، ثم ما يحصل من ذكر المحبوب شيء، ثم اللذة الحاصلة بذلك أمر ثالث، ولا ريب أن الحب مشروط بشعور المحبوب، كما أن الشهوة مشروطة بشعور المشتهي ; لكن الشعور المشروط في اللذة غير الشعور المشروط في المحبة، فهذا الثاني يسمى إدراكا وذوقا ونيلا ووجدا ووصالا، ونحو ذلك مما يعبر به عن إدراك المحبوب، سواء كان بالباطن أو الظاهر، ثم هذا الذوق يستلزم اللذة، واللذة أمر يحسه الحي باطنا وظاهرا، وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح { ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد ﷺ نبيا } وفي الصحيحين: عنه ﷺ أنه قال: { ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه من سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار }، فبين ﷺ أن ذوق طعم الإيمان لمن رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وإن وجد حلاوة الإيمان حاصل لمن كان حبه لله ورسوله أشد من حبه لغيرهما، ومن كان يحب شخصا لله لا لغيره، ومن كان يكره ضد الإيمان، كما يكره أن يلقى في النار ; فهذا الحب للإيمان، والكراهية للكفر استلزم حلاوة الإيمان، كما استلزم الرضى المتقدم ذوق طعم الإيمان، وهذا هو اللذة ; وليس هو نفس التصديق والمعرفة الحاصلة في القلب، ولا نفس الحب الحاصل في القلب ; بل هذا نتيجة ذاك وثمرته ولازم له، وهي أمور متلازمة، فلا توجد اللذة إلا بحب وذوق، وإلا فمن أحب شيئا ولم يذق منه شيئا لم يجد لذة، كالذي يشتهي الطعام ولم يذق منه شيئا، ولو ذاق ما لا يحبه لم يجد لذة، كمن ذاق ما لا يريده، فإذا اجتمع حب الشيء وذوقه حصلت اللذة بعد ذلك، وإن حصل بغضه: وبذوق البغيض حصل الألم، فالذي يبغض الذنب ولا يفعله لا يندم، والذي لا يبغضه لا يندم على فعله، فإذا فعله وعرف أن هذا مما يبغضه ويضره ندم على فعله إياه، وفي المسند عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: { الندم توبة }، إذا تبين هذا، فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها، وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص، مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه ; لقوة إرادته إياه أو لاعتقاده أنه حسن ليس بقبيح، فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة، وأما ما كان لو حضر بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته، وأما " التوبة المطلقة ": وهي أن يتوب توبة مجملة، ولا تستلزم التوبة من كل ذنب، فهذه لا توجب دخول كل فرد من أفراد الذنوب فيها ولا تمنع دخوله كاللفظ المطلق ; لكن هذه تصلح أن تكون سببا لغفران المعين، كما تصلح أن تكون سببا لغفران الجميع ; بخلاف العامة فإنها مقتضية للغفران العام، كما تناولت الذنوب تناولا عاما، وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها أو بعض الظلم باللسان أو اليد، وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب لله عليه في باطنه وظاهره من شعب الإيمان وحقائقه أعظم ضررا عليه مما فعله من بعض الفواحش، فإن ما أمر الله به من حقائق الإيمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقا أعظم نفعا من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة، كحب الله ورسوله ; فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت في الصحيح { أنه كان على عهد النبي ﷺ رجل يدعى حمارا، وكان يشرب الخمر، وكان كلما أتي به إلى النبي ﷺ جلده الحد، فلما كثر ذلك منه أتي به مرة فأمر بجلده فلعنه رجل فقال النبي ﷺ: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله }، فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه ﷺ لعن في الخمر عشرة: { لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها وآكل ثمنها }، ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له، وكذلك " التكفير المطلق " " والوعيد المطلق "، ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطا بثبوت شروط وانتفاء موانع، فلا يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين، ولا يلحق من له حسنات تمحو سيئاته، ولا يلحق المشفوع له، والمغفور له ; فإن الذنوب تزول عقوبتها التي هي جهنم بأسباب التوبة والحسنات المادية والمصائب المكفرة - لكنها من عقوبات الدنيا - وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة، وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة، وتزول أيضا بدعاء المؤمنين: كالصلاة عليه وشفاعة الشفيع المطاع، كمن يشفع فيه سيد الشفعاء محمد ﷺ تسليما، وحينئذ فأي ذنب تاب منه ارتفع موجبه، وما لم يتب منه فله

حكم الذنوب التي لم يتب منها، فالشدة إذا حصلت بذنوب وتاب من بعضها خفف منه بقدر ما تاب منه، بخلاف ما لم يتب منه ; بخلاف صاحب التوبة العامة، والناس في غالب أحوالهم لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال ; لأنه دائما يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور، فعليه أن يتوب دائما، والله أعلم .

فصل في العيوب المثبتة للفسخ والاستحاضة عيب يثبت به فسخ النكاح في أظهر الوجهين وإذا كان الزوج صغيرا أو به جنون أو جذام أو برص فالمسألة التي في الرضاع تقتضي أن لها الفسخ في الحال ولا ينتظر وقت إمكان الوطء وعلى قياسه الزوجة إذا كانت صغيرة أو مجنونة أو عقلاء أو قرناء ويتوجه أن لا فسخ إلا عند عدم إمكان الوطء في الحال وإذا لم يقر بالعنة ولم ينكر أو قال لست أدري أعنين أنا أم لا، فينبغي أن يكون كما لو أنكر العنة ونكل عن اليمين فإن النكول عن الجواب كالنكول عن اليمين فإن قلنا يحبس الناكل عن الجواب فالتأجيل أيسر من الحبس ولو نكل عن اليمين فيما إذا ادعى الوطء قبل التأجيل فينبغي أن يؤجل هنا كما لو نكل عن اليمين في العنة، والسنة المعتبرة في التأجيل هي الهلالية هذا هو المفهوم من كلام العلماء لكن تعليلهم بالفصول يوهم خلاف ذلك لكن ما بينهما متقارب ويتخرج إذا علمت بعنته أو اختارت المقام معه على عسرته هل لها الفسخ على روايتين ولو خرج هذا في جميع العيوب لتوجه وترد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع ولو بان الزوج عقيما فقياس قولنا بثبوت الخيار للمرأة أن لها حقا في الولد ولهذا قلنا لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها وعن الإمام أحمد ما يقتضيه، وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا وتعليل أصحابنا توقف الفسخ على الحاكم باختلاف أهل العلم فإنه إن أريد كل خيار مختلف فيه قومه يتوقف على الحاكم فخيار المعتقة يجب وهو مختلف فيه وخيارها بعد الثلاث مختلف فيه وهما لا يتوقفان على الحاكم ثم خيار امرأة المجبوب متفق عليه وهو من جملة العيوب التي قال: لا تتوقف على الحاكم ولا لما يعني الاعتذار فإن أصل خيار العنت الشرط مختلف فيه بخلاف أصل خيار المعتقة لأن أصل خيار العيب ثم خيارات البيع لا تتوقف على الحاكم مع الاختلاف والواجب أولا التفريق بين النكاح والبيع ثم لو علل بخفاء الفسخ وظهوره فإن العيوب وفوات الشرط قد تخفى وقد يتنازعون فيها بخلاف إعتاق السيد لكان أولى من تعليله بالاختلاف، ولو قيل بأن الفسخ يثبت بتراضيهما تارة وبحكم الحاكم أخرى أو بمجرد فسخ المستحق ثم الآخر إن أمضاه وإلا أمضاه الحاكم لتوجه وهو الأقوى ومتى أذن الحاكم أو حكم لأحد باستحقاق عقد أو فسخ مأذون لم يحتج بعد ذلك إلى حكم بصحته بلا نزاع لكن لو عقد الحاكم أو فسخ فهو فعله وإلا صح أنه حكم وإذا اعتبر تفريق الحاكم ولم يكن في الموضع حاكم، فالأشبه أن لها الامتناع، وكذلك تملك الانتقال من منزله، فإن من ملك الفسخ ملك الامتناع من التسليم وينبغي أن تملك النفقة في هذه المدة لأن المانع منه وإذا أعتقت الأمة تحت عبد ثبت لها الخيار اتفاقا وكذلك تحت حر وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وإن كان الزوج عبدا لملكها رفقها وبضعها ولو شرط عليها سيدها دوام النكاح تحت حر أو عبد فرضيت لزمها ذلك ومذهب الإمام أحمد يقتضيه فإنه يجوز العتق بشرط، ذكر أبو محمد المقدسي إذا أسلمت الأمة أو ارتدت أو أرضعت من يفسخ نكاحها إرضاعه قبل الدخول سقط المهر وجعله أصلا قائما عليه ما إذا أعتقت قبل الدخول واختارت الفراق معه أن المهر يسقط على رواية لنا، قال أبو العباس: والتنصيف في مسألة الإسلام ونظائرها أولى فإنها إنما فسخت لإعتاقه لها فالإعتاق سبب للفسخ ومن أتلف حقه متسببا سقط وإن كان المباشر غيره بخلاف ما إذا كان السبب والمباشرة من الغير فإذا قيل في مسألة العتق بالتنصيف فالردة والإسلام والرضاع أولى بلا شك وإذا دخل النقص على الزوج بالمرأة وفوات صفة أو شرط صحيح أو باطل فإنه ينقص من المسمى بنسبة ما نقص وهذا النقص من مهر المثل لو لم يسلم لها ما شرطته أو كان الزوج معيبا فيقال ألف درهم وإذا أسلم لها ذلك أو كان الزوج سليما فيقال ثمانمائة درهم فيكون فوات الصفة والعيب قد صار من مهر المثل الخمس فينقصها من المسمى بحسب ذلك فيكون بقيمته مال ذهب منه فيزاد عليه مثل ربعه فإذا كان ألفين استحق ألفين وخمسمائة وهذا هو المهر الذي رضيت به ولو كان الزوج معيبا أو لم يشترط صفة وهذا هو العدل ويرجع الزوج المغرور بالصداق على من غره من المرأة أو الولي في أصح قول العلماء .

ويتحرر لأصحابنا فيما إذا زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أزيد روايات، إحداهن: أنه على الابن مطلقا إلا أن يضمنه الأب فيكون عليهما، الثانية: أن يضمنه فيكون عليه وحده، الثالثة: أنه على الأب ضمانا، الرابعة: أنه عليه أصالة، الخامسة: أنه إذا كان الابن مقرا فهو على الأب أصالة، السادسة: الفرق بين رضا الابن وعدم رضاه وضمان الأب المهر والنفقة على الابن قد يكون بلفظ الضمان وقد يكون بلفظ آخر، مثل أن يقول الذي لي لابني أو أنا وابني شيء واحد، وهل يترك والد ولده ونحو ذلك من الألفاظ التي تغرهم حتى يزوجوا ابنه، وقد يكون بدلالة الكلام وقد يذكر الأب ما يقتضي أنه قد ملك ابنه مالا أو يخبرهم بذلك فيزوجوه على ذلك، مثل أن يقول أنا أعطيته عشرة آلاف درهم أو له عشرة آلاف درهم ونحو ذلك، فهذا ينبغي أن يتعلق حقهم بهذا القدر من مال الأب ونفقة الزوجة قبل بلوغ الزوج أو قبل رضاه ينبغي أن تكون كالمهر قال القاضي في الجامع إذا مات الأب الذي عليه مهر ابنه فأخذ من تركته فإنه يرجع به على الابن نص عليه في رواية ابن منصور والبرزلي قال القاضي: يحتمل أن يكون أثبت له ذلك بناء على الرواية الأخرى وأنه تطوع بذلك لكن لم يحصل القبض منه وعلى هذا حمله أبو حفص، قال أبو العباس: ولا يتم الجواب إلا بالمأخذين جميعا وذلك أن الأب قائم مقام ابنه فلو ضمنه أجنبي بإذنه صح فإذا ضمنه هو فأولى أن يكون ضمانا لازما للابن وإذا كان له أن يثبت المال في ذمته بدون ضمانه فضمانه وقضاؤه أولى قال القاضي في الجامع إذا ضمنه الأب لزمه كما لو ضمنه أجنبي وإذا أقبضها إياه فهل يملك الرجوع به على الأب على روايتين أصلهما ضمان الأجنبي عن غيره بغير إذنه، قال أبو العباس: بل يرجع قولا واحدا لأنه قائم مقام ابنه في الإذن لنفسه كما لو ضمن أجنبي بإذن نفسه وإذا وفى الإنسان عن غيره دينا من صداق أو غيره كان للمستوفي أخذه له وفاء عن دينه وبدلا عنه وأما الموفى عنه إذا لم يرجع به عليه فهو متبرع عليه ثم هل يقال لو انفسخ يثبت الاستحقاق أو بعضه كالطلاق قبل الدخول وفسخ البيوع للموفى عنه أو لم يملك فيعود إلى الموفى، الراجح أن لا يجب انتقاله ويتقرر المهر بالخلوة وإن منعته الوطء وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب، وقيل له فإن أخذها وعندها نسوة وقبض عليها ونحو ذلك من غير أن يخلو بها قال: إذا نال منها شيئا لا يحل لغيره فعليه المهر، وإن قلنا لا مهر بالخلوة في النكاح الفاسد على قولنا بوجوب العدة فيه والفسخ لاعتبار الزوج بالمهر أو النفقة نظير الفسخ لعنة بالزوج فيتخرج منه التنصيف على الرواية المنصوصة عنه فيه فإن لها نصف المهر لكونها معذورة في الفسخ ويتخرج ذلك ويلزم من قال إن خروج البضع من ملك الزوج يتقوم وتجب المتعة لكل مطلقة وهو رواية عن الإمام أحمد نقلها حنبل وهو ظاهر دلالة القرآن، واختار أبو العباس في " الاعتصام بالكتاب والسنة ": أن لكل مطلقة متعة إلا التي لم يدخل بها وقد فرض لها وهو رواية عن الإمام أحمد وقاله عمر وإذا أوجبنا المتعة للمدخول بها وكان الطلاق بائنا أو رجعيا فينبغي أن تجب لها أيضا مع نفقة العقد حيث أوجبناها وتكون نفقة الرجعية متعينة عن متاع آخر بحيث لا تجب لها كسوتان، ولا بد من اعتبار العصر في مهر المثل فإن الزمان إن كان زمان رخص رخص وإن زادت المهور، وإن كان زمن غلاء وخوف نقص وقد تعتبر عادة البلد والقبيلة في زيادة المهر ونقصه وينبغي أيضا اعتبار الصفات المعتبرة في الكفاءة فإذا كان أبوها موسرا ثم افتقر أو ذا صنعة جيدة ثم تحول إلى دونها أو كانت له رئاسة أو ملك ثم زالت عنه تلك الرئاسة والملك فيجب اعتبار مثل هذا وكذلك لو كان أهلهما لهم عز في أوطانهم ورئاسة فانقلبوا إلى بلد ليس لهم عز فيه ولا رئاسة فإن المهر يختلف بمثل ذلك في العادة وإن كانت عادتهم يسمون مهرا ولكن لا يستوفونه قط مثل عادة أهل الجفاء مثل الأكراد وغيرهم فوجوده كعدمه والشرط المتقدم كالمقارن والإطراد العرفي كالمقضي، وقال أبو العباس: وقد سئلت عن مسألة من هذا وقيل لي ما مهر مثل هذه فقلت ما جرت العادة بأنه يؤخذ من الزوج فقالوا إنما يؤخذ المنحل قبل الدخول فقلت هو مهر مثلها .

ولا يقع الطلاق بالكناية إلا بنية إلا مع قرينة إرادة الطلاق فإذا قرن الكنايات بلفظ يدل على أحكام الطلاق مثل أن يقول: فسخت النكاح وقطعت الزوجية ورفعت العلاقة بيني وبين زوجتي وقال الغزالي في المستصفى في ضمن مسألة القياس يقع الطلاق بالكناية حتى ينويه، قال أبو العباس: هذا عندي ضعيف على المذاهب كلها فإنهم مهدوا في كتاب الوقف أنه إذا قرن بالكناية بعض أحكامه صارت كالصريح ويجب أن يفرق بين قول الزوج لست لي بامرأة وما أنت لي بامرأة وبين قوله ليس لي امرأة وبين قوله إذا قيل له لك امرأة فقال لا فإن الفرق ثابت بينهما وصفا وعددا إذ الأول نفي لنكاحها ونفي النكاح عنها كإثبات طلاقها ويكون إنشاء ويكون إخبارا بخلاف نفي المنكوحات عموما فإنه لا يستعمل إلا إخبارا وفي المغني والكافي وغيرهما أنه لو باع زوجته لا يقع به طلاق وقال ابن عقيل وعندي أنه كناية، قال أبو العباس: وهذا متوجه إذا قصد الخلع لا بيع الرقبة، قال القاضي: إن قال لها: اختاري نفسك، فذكرت أنها اختارت نفسها، فأنكر الزوج فالقول قوله ; لأن الاختيار مما يمكنها إقامة البينة عليه فلا يقبل قوله في اختيارها، قال أبو العباس : يتوجه أن يقبل قولها كالوكيل على ما ذكره أصحابنا في أن الوكيل يقبل قوله في كل تصرف وكل فيه ولو ادعى الزوج أنه رجع قبل إيقاع الوكيل لم يقبل قوله إلا ببينة نص عليه الإمام أحمد في رواية أبي الحارث ذكره القاضي في المجرد وإذا قال لزوجته إن أبرأتيني فأنت طالق فقالت أبرأك الله مما تدعي النساء على الرجال إذا كانت رشيدة .

باب الوليمة وتختص بطعام العرس في مقتضى كلام أحمد في رواية المروزي وقيل تطلق على كل طعام لسرور حادث وقاله في " الجامع ": وقيل: تطلق على ذلك إلا أنه في العرس أظهر ووقت الوليمة في حديث زينب وصفته تدل على أنه عقب الدخول والأشبه جواز الإجابة لا وجوبها إذا كان في مجلس الوليمة من يهجر وأعدل الأقوال أنه إذا حضر الوليمة وهو صائم إن كان ينكسر قلب الداعي بترك الأكل فالأكل أفضل وإن لم ينكسر قلبه فإتمام الصوم أفضل ولا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في الطعام للمدعو إذا امتنع فإن كلا الأمرين جائز فإذا ألزمه بما لا يلزمه كان من نوع المسألة المنهي عنها ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع فإن فطره جائز، فإن كان ترك الجائز مستلزما لأمور محذورة ينبغي أن يفعل ذلك الجائز وربما يصير واجبا وإن كان في إجابة الداعي مصلحة الإجابة فقط وفيها مفسدة الشبهة فالمنع أرجح، قال أبو العباس: هذا فيه خلاف فيما أظنه والدعاء إلى الوليمة إذن في الأكل والدخول قاله في المغني وقال في المحرر لا يباح الأكل إلا بصريح إذن أو عرف، وكلام الشيخ عبد القادر يوافقه وما قالاه مخالف قاله عامة الأصحاب: والحضور مع الإنكار المزيل على قول عبد القادر هو حرام، وعلى قول القاضي والشيخ أبي محمد هو واجب وإلا قيس بكلام الإمام أحمد في التخيير عند المنكر المعلوم غير المحسوس أن يتخيرهما أيضا وإن كان الترك أشبه بكلامه لزوال المفسدة بالحضور والإنكار لكن لا يجب لما فيه من تكليف الإنكار ولأن الداعي أسقط حرمته باتخاذه المنكر ونظير هذا إذا مر بمتلبس بمعصية هل يسلم عليه أو يترك التسليم وإن خافوا أن يأتوا بالمحرم ولم يغلب على ظنهم أحد الطرفين فقد تعارض الموجب وهو الدعوة والمبيح وهو خوف شهود الخطيئة فينبغي أن لا يجب لأن الموجب لم يسلم عن المعارض المساوي ولا يحرم لأن المحرم كذلك فينتفي الوجوب والتحريم وينبغي الجواز، ونصوص الإمام أحمد كلها تدل على المنع من اللبث في المكان المضر وقاله القاضي وهو لازم للشيخ أبي محمد حيث جزم بمنع اللبث في مكان فيه الخمر وآنية الذهب والفضة ولذلك مأخذان أحدهما أن إقرار ذلك في المنزل منكر فلا يدخل إلى مكان فيه ذلك وعلى هذا فيجوز الدخول إلى دور أهل الذمة وكنائسهم وإن كانت فيها صور لأنهم يقرون على ذلك فإنهم لا ينهون عن ذلك كما ينهون عن إظهار الخمر وبهذا يخرج الجواب عن جميع ما احتج به أبو محمد ويكون منع الملائكة سببا لمنع كونها في المنزل وعلى هذا فلو كان في الدعوة كلب لا يجوز اقتناؤه لم تدخل الملائكة أيضا بخلاف الجنب فإن الجنب لا يطول بقاؤه جنبا فلا تمتنع الملائكة عن الدخول إذا كان هناك زمنا يسيرا والثاني أن يكون نفس اللبث محرما أو مكروها ويستثنى من ذلك أوقات الحاجة كما في حديث عمر وغيره وتكون العلة ما يكتسبه المنزل من الصورة المحرمة حتى أنه لا يدخل منازل أهل الذمة، ورجح أبو العباس في موضع آخر عدم الدخول إلى بيعة فيها صور وأنها كالمسجد على القبر، والكنائس ليست ملكا لأحد وأهل الذمة ليس لهم منع من يعبد الله فيها لأنا لحناهم عليه والعابد بينهم وبين الغافلين أعظم أجرا ويحرم شهود عيد اليهود والنصارى ونقله مهنا عن أحمد وبيعة لهم فيه ويخرج من رواية منصوصة عن الإمام أحمد في منع التجارة إلى دار الحرب إذا لم يلزموه بفعل محرم أو ترك واجب وينكر ما يشاهده من المنكر بحسبه ويحرم بيعهم ما يعلمونه كنيسة أو تمثالا ونحوه وكل ما فيه تخصص لعيدهم أو ما هو بمنزلته، قال أبو العباس: لا أعلم خلافا أنه من التشبه بهم والتشبه بهم منهي عنه إجماعا وتجب عقوبة فاعله ولا ينبغي إجابة هذه الدعوة، ولما صارت العمامة الصفراء أو الزرقاء من شعارهم حرم لبسها ويحرم الأكل والذبح الزائد على المعتاد في بقية الأيام ولو العادة فعله أو لتفريح أهله ويعزر إن عاد ويكره موسم خاص: كالرغائب، وليلة القدر، وليلة النصف من شعبان، وهو بدعة، وأما ما يروى في الكحل يوم عاشوراء، أو الخضاب أو الاغتسال، أو المصافحة، أو مسح رأس اليتيم، أو أكل الحبوب، أو الذبح، ونحو ذلك: فكل ذلك كذب على النبي ﷺ ومثل ذلك بدعة لا يستحب منه شيء عند أئمة الدين، وما يفعله أهل البدع فيه من النياحة والندب والمأتم، وسب الصحابة رضي الله عنهم هو أيضا من أعظم البدع والمنكرات وكل بدعة ضلالة، هذا وهذا وإن كان بعض البدع والمنكرات أغلظ من بعض والخلاف في كسوة الحيطان إذا لم تكن حريرا أو ذهبا، فأما الحرير والذهب فيحرم كما تحرم سيور الحرير والذهب على الرجال والحيطان والأثواب التي تختص بالمرأة ففي كون ستورها وكسوتها كفرشها نظر إذ ليس هو من اللباس ولا ريب في تحريم فرش الثياب تحت دابة الأمير لا سيما إن كانت خزا أو مغصوبة ورخص أبو محمد ستر الحيطان لحاجة من وقاية حر أو برد ومقتضى كلام القاضي المنع لإطلاقه على مقتضى كلام الإمام أحمد ويكره تعليق الستور على الأبواب من غير حاجة لوجود أغلاق غيرها من أبواب ونحوها، وكذلك الستور في الدهليز لغير حاجة فإن ما زاد على الحاجة فهو سرف وهل يرتقي إلى التحريم ؟ فيه نظر قال المروزي: سألت أبا عبد الله عن الجوز ينثر فكرهه وقال يعطون أو يقسم عليهم وقال في رواية إسحاق بن هانئ لا يعجبني انتهاب الجوز وأن يوكل السكر كذلك قال القاضي يكره الأكل التقاطا من النثار سواء أخذه أو أخذه ممن أخذه، وقول الإمام أحمد هذه نهبة تقتضي التحريم وهو قوي وأما الرخصة المحضة فتبعد جدا ويكره الأكل والشرب قائما لغير حاجة ويكره القران فيما جرت العادة بتناوله إفرادا واختلف كلام أبي العباس في أكل الإنسان حتى يتخم هل يكره أو يحرم، وجزم أبو العباس: في موضع آخر بتحريم الإسراف وفسر بمجاوزة الحد وإذا قال عند الأكل بسم الله الرحمن الرحيم كان حسنا فإنه أكمل بخلاف الذبح فإنه قد قيل إن ذلك لا يناسب ويلم الإنسان من بيت صديقه وقريبه بغير إذنه إذا لم يحزه عنه . وإرضاع الطفل واجب على الأم بشرط أن تكون مع الزوج، وهو قول ابن أبي ليلى وغيره من السلف ولا تستحق أجرة المثل زيادة على نفقتها وكسوتها وهو اختيار القاضي في المجرد، وقول الحنفية ; لأن الله تعالى يقول: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن، بالمعروف } فلم يوجب لهن إلا الكسوة والنفقة بالمعروف وهو الواجب بالزوجية وما عساه يتجرد من زيادة خاصة للمرتضع كما قال في الحامل: { فإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }، فدخلت نفقة الولد في نفقة أمه لأنه يتغذى بها، وكذلك المرتضع وتكون النفقة هنا واجبة بشيئين حتى لو سقط الوجوب فأحدهما ثبت الآخر، كما لو نشزت وأرضعت ولدها فلها النفقة للإرضاع لا للزوجية، فأما إذا كانت بائنا وأرضعت له ولده فإنها تستحق أجرها بلا ريب، كما قال الله تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وهذا الأجر هو النفقة والكسوة وقاله طائفة منهم الضحاك وغيره، وإذا كانت المرأة قليلة اللبن وطلقها زوجها فله أن يكتري

مرضعة لولده وإذا فعل ذلك فلا فرض للمرأة بسبب الولد ولها حضانته، ويجب على القريب افتكاك قريبه من الأسر وإن لم يجب عليه استنقاذه من الرق وهو أولى من حمل العقل . كتاب الديات المعروف أن الحر يضمن بالإتلاف لا باليد إلا الصغير ففيه روايتان كالروايتين في سرقته فإن كان الحر قد تعلق برقبته حق لغيره مثل أن يكون عليه حق قود أو في ذمته مال أو منفعته أو عنده أمانات أو غصوب تلفت بتلفه مثل أن يكون حافظا عليها وإذا تلف زال الحفظ فينبغي أنه إن أتلف فما ذهب لإتلافه من عين أو منفعة مضمونة ضمنت كالقود فإنه مضمون لكن هل ينتقل الحق إلى القاتل فيخير الأولياء بين قتله والعفو عنه أو إلى ترك الأول ففيه روايتان، وأما إذا تلف تحت اليد العادية فالمتوجه أن يضمن ما تلف بذلك من مال أو بدل قود بحيث يقال إذا كان عليه قود فحال بين أهل الحق والقود حتى مات ضمن لهم الدية ومن جنى على سنه اثنان واختلفوا فالقول قول المجني عليه في قدر ما أتلفه كل منهما، قاله أصحابنا ويتوجه أن يقترعا على القدر المتنازع فيه لأنه ثبت على أحدهما لا بعينه كما لو ثبت الحق لأحدهما لا بعينه .

وإذا أخذ من لحيته ما لا جمال فيه فهل يجب القسط أو الحكومة .

كتاب الحدود قوله تعالى: { فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } قد يستدل بذلك على أن المذنب إذا لم يعرف فيه حكم الشرع فإنه يمسك فيحبس حتى يعرف فيه الحكم الشرعي فينفذ فيه وإذا زنى الذمي بالمسلمة قتل ولا يصرف عنه القتل الإسلام ولا يعتبر فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم، بل يكفي استفاضته واشتهاره، وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سبب حدت إن لم تدع الشبهة، وكذا من وجد منه رائحة الخمر، وهو رواية عن أحمد فيهما وغلظ المعصية وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان والكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات لكن قد تحبط ما يقابلها عند أهل السنة، ولا يشترط في القطع بالسرقة مطالبة المسروق منه بماله وهو رواية عن أحمد اختارها أبو بكر ومذهب مالك كإقراره بالزنا بأمة غيره ومن سرق تمرا أو ماشية من غير حرز أضعفت عليه القيمة وهو مذهب أحمد وكذا غيرها وهو رواية عنه، واللص الذي غرضه سرقة أموال الناس ولا غرض له في شخص معين فإن قطع يده واجب ولو عفا عنه رب المال .

لا يجوز التداوي بالخمر ولا بغيرها من المحرمات وهو مذهب أحمد ويجوز شرب لبن الخيل إذ لم يصر مسكرا، والصحيح في حد الخمر أحد الروايتين الموافقة لمذهب الشافعي وغيره أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه بالجريد والنعال وأطراف الثياب في بقية الحدود، ومن التعزير الذي جاءت به السنة ونص عليه أحمد والشافعي: نفي المخنث، وحلق عمر رأس نصر بن حجاج ونفاه لما افتتن به النساء، فكذا من افتتن به الرجال من المردان ولا يقدر التعزير، بل بما يردع المعزر، وقد يكون بالعمل والنيل من عرضه مثل أن يقال له: يا ظالم يا معتدي وبإقامته من المجلس، والذين قدروا التعزير من أصحابنا إنما هو فيما إذا كان تعزيرا على ما مضى من فعل أو ترك فإن كان تعزيرا لأجل ترك ما هو فاعل له فهو بمنزلة قتل المرتد والحربي وقتال الباغي والعادي وهذا التعزير ليس يقدر بل ينتهي إلى القتل، كما في الصائل لأخذ المال يجوز أن يمنع من الأخذ ولو بالقتل وعلى هذا فإذا كان المقصود دفع الفساد ولم يندفع إلا بالقتل قتل، وحينئذ فمن تكرر منه فعل الفساد ولم يرتدع بالحدود المقدرة بل استمر على ذلك الفساد فهو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل فيقتل قيل ويمكن أن يخرج شارب الخمر في الرابعة على هذا، ويقتل الجاسوس الذي يكرر التجسس وقد ذكر شيئا من هذا الحنفية والمالكية وإليه يرجع قول ابن عقيل وهو أصل عظيم في صلاح الناس، وكذلك تارك الواجب فلا يزال يعاقب حتى يفعله، ومن قفز إلى بلاد العدو أو لم يندفع ضرره إلا بقتله قتل والتعزير بالمال سائغ إتلافا وأخذا وهو جار على أصل أحمد لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها وقول الشيخ أبي محمد المقدسي ولا يجوز أخذ مال المعزر فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة .

وإن اشترى اليهودي نصرانيا فجعله يهوديا عزر على جعله يهوديا ولا يكون مسلما ولا يجوز للجذماء مخالطة الناس عموما ولا مخالطة الناس لهم بل يسكنون في مكان مفرد لهم ونحو ذلك كما جاءت به سنة رسول الله وخلفائه وكما ذكره العلماء، وإذا امتنع ولي الأمر من ذلك أو المجذوم أثم بذلك وإذا أصر على ترك الواجب مع علمه به فسق ومن دعا عليه ظلما له أن يدعو على ظالمه بمثل ما دعا به عليه نحو أخزاك الله أو لعنك أو يشتمه بغير فرية نحو يا كلب يا خنزير فله أن يقول له مثل ذلك وإذا كان له أن يستعين بالمخلوق من وكيل ووال وغيرهما فاستعانته بخالقه أولى بالجواز ومن وجب عليه الحد بقتل أو غيره يسقط عنه بالتوبة وظاهر كلام أصحابنا لا يجب عليه التعزير كقولهم هو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وذكر أبو العباس: في موضع آخر أن المرتد إذا قبلت توبته ساغ تعزيره بعد التوبة .

كتاب القاضي إلى القاضي ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص وهو قول مالك وأبي ثور في الحدود وقول مالك والشافعي وأبي ثور ورواية عن أحمد في القصاص، والمحكوم إذا كان عينا في بلد الحاكم فإنه يسلمه إلى المدعي ولا حاجة إلى كتاب وأما إن كان دينا أو عينا في بلد أخرى فهنا يقف على الكتاب وههنا ثلاث مسائل متداخلات مسألة إحضار الخصم إذا كان غائبا ومسألة الحكم على الغائب ومسألة كتاب القاضي إلى القاضي ولو قيل: إنما نحكم على الغائب إذا كان المحكوم به حاضرا لأن فيه فائدة وهي تسليمه، وأما إذا كان المحكوم به غائبا فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عنده من شهادة الشهود حتى يكون الحكم في بلد التسليم لكان متوجها وهل يقبل كتاب القاضي بالثبوت أو الحكم من حاكم غير معين مثل أن يشهد شاهدان أن حاكما نافذ الحكم حكم بكذا وكذا، القياس أنه لا يقبل بخلاف ما إذا كان المكاتب معروفا لأن مراسلة الحاكم ومكاتبته بمنزلة شهادة الأصول للفروع وهذا لا يقبل في الحكم والشهادات وإن قبل في الفتاوى والإخبارات، وقد ذكر صاحب " المحرر ": ما ذكره القاضي من أن الخصمين إذا أقر بحكم حاكم عليهما خير الثاني بين الإمضاء والاستئناف لأن ذلك بمنزلة قول الخصم شهد علي شاهدان ذوي عدل فهنا قد يقال بالتخيير أيضا ومن عرف خطه بإقراره أو إنشاء أو عقد أو شهادة عمل به كالميت، فإن حضر وأنكر مضمونه فكاعترافه بالصوت وإنكار مضمونه وللحاكم أن يكتب للمدعى عليه إذا ثبت براءته محضرا بذلك إن تضرر بتركه وللمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة ليتمكن من القدح فيها باتفاق .

ومن وطئ امرأة مشركة قدح ذلك في عدالته وأدب والتعزير يكون على فعل المحرمات وترك الواجبات فمن جنس ترك الواجبات من كتم ما يجب بيانه كالبائع المدلس والمؤجر والناكح وغيرهم من العاملين وكذا الشاهد والمخبر والمفتي والحاكم ونحوهم فإن كتمان الحق مشبه بالكذب وينبغي أن يكون سببا للضمان كما أن الكذب سبب للضمان فإن الواجبات عندنا في الضمان كفعل المحرمات حتى قلنا لو قدر على إنجاء شخص بإطعام أو سقي فلم يفعل فمات ضمنه فعلى هذا فلو كتم شهادة كتمانا أبطل بها حق مسلم ضمنه مثل أن يكون عليه حق بينه وقد أداه حقه وله بينة بالأداء فكتم الشهادة حتى يغرم ذلك الحق، وكما لو كانت وثائق لرجل فكتمها أو جحدها حتى فات الحق ولو قال أنا أعلمها ولا أؤديها فوجوب الضمان ظاهر، وظاهر نقل ابن حنبل وابن منصور سماع الدعوى من الأعداء والتحليف في الشهادة، ومن هذا الباب لو كان في القرية أو المحلة أو البلدة رجل ظالم فسأل الوالي أو الغريم عن مكانه ليأخذ منه الحق فإنه يجب دلالته عليه بخلاف ما لو كان قصده أكثر من الحق فعلى هذا إذا كتموا ذلك حتى تلف الحق ضمنوه ويملك السلطان تعزير من ثبت عنده أنه كتم الخبر الواجب كما يملك تعزير المقر قرارا محمولا حتى يفسره أو من كتم الإقرار وقد يكون التعزير بتركه المستحب كما يعزر العاطس الذي لم يحمد الله بترك تشميته، وقال أبو العباس: في موضع آخر والتعزير على الشيء دليل على تحريمه من هذا الباب ما ذكره أصحابنا وأصحاب الشافعي من قتل الداعية من أهل البدع كما قتل الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان القدري وقتل هؤلاء له مأخذان، أحدهما: كون ذلك كفرا كقتل المرتد أو جحودا أو تغليظا وهذا المعنى يعم الداعي إليها وغير الداعي وإذا كفروا فيكون قتلهم من باب قتل المرتد، والمأخذ الثاني: لما في الدعاء إلى البدعة من إفساد دين الناس ولهذا كان أصل الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث وعلمائهم يفرقون بين الداعي إلى البدعة وغير الداعي في رد الشهادة وترك الرواية عنه والصلاة خلفه وهجره، ولهذا ترك في الكتب الستة ومسند أحمد الرواية عن مثل عمر وابن عبيد ونحوه ولم يترك عن القدرية الذين ليسوا بدعاة وعلى هذا المأخذ فقتلهم من باب قتل المفسدين المحاربين لأن المحاربة باللسان كالمحاربة باليد ويشبه قتل المحاربين للسنة بالرأي قتل المحاربين لها بالرواية وهو قتل من يتعمد الكذب على رسول الله ﷺ كما قتل النبي الذي كذب عليه في حياته، وهو حديث جيد لما فيه من تغيير سنته، وقد قرر أبو العباس هذا مع نظائر له في " الصارم المسلول " كقتل الذي يتعرض لحرمه أو يسبه ونحو ذلك وكما أمر النبي بقتل المفرق بين المسلمين لما فيه من تفريق الجماعة، ومن هذا الباب الجاسوس المسلم الذي يخبر بعورات المسلمين ومنه الذي يكذب بلسانه أو بخطه أو يأمر بذلك حتى يقتل به أعيان الأمة علماءها وأمراءها فتحصل أنواع من الفساد كثيرة فهذا متى لم يندفع فساده إلا بقتله فلا ريب في قتله وإن جاز أن يندفع وجاز أن لا يندفع قتل أيضا وعلى هذا جاء قوله تعالى {: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض } وقوله: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } وأما إن اندفع الفساد الأكبر بقتله لكن قد بقي فساد دون ذلك فهو محل نظر، قال أبو العباس: وأفتيت أميرا مقدما على عسكر كبير في الحربية إذ نهبوا أموال المسلمين ولم ينزجروا إلا بالقتل أن يقتل من يكفون بقتله ولو أنهم عشرة إذ هو من باب دفع الصائل قال وأمر أميرا خرج لتسكين الفتنة الثائرة بين قيس يمن وقد قتل بينهم ألفان أن يقتل من يحصل بقتله كف الفتنة ولو أنهم مائة، قال: وأفتيت ولاة الأمور في شهر رمضان سنة أربع بقتل من أمسك في سوق المسلمين وهو سكران وقد شرب الخمر مع بعض أهل الذمة وهو مجتاز بشقة لحم يذهب بها إلى ندمائه وكنت أفتيتهم قبل هذا بأنه يعاقب عقوبتين: عقوبة على الشرب وعقوبة على الفطر فقالوا ما مقدار التعزير فقلت هذا يختلف باختلاف الذنب وحال المذنب وحال الناس، وتوقفت عن القتل فكبر هذا على الأمراء والناس حتى خفت أنه إن لم يقتل ينحل نظام الإسلام على انتهاك المحارم في نهار رمضان فأفتيت بقتله فقتل ثم ظهر فيما بعد أنه كان يهوديا وأنه أظهر الإسلام، والمطلوب له ثلاثة أحوال: أحدها: براءته في الظاهر فهل يحضره الحاكم على روايتين، وذكر أبو العباس في موضع آخر أن المدعي حيث ظهر كذبه في دعواه بما يؤذي به المدعى عليه عزر لكذبه ولأذاه وأن طريقة القاضي رد هذه الدعوى على الروايتين بخلاف ما إذا كانت ممكنة، ونص أحمد في رواية عبد الله فيما إذا علم بالعرف المطرد أنه لا حقيقة للدعوى لا يعذبه وفيما لم يعرف واحد من الأمرين يعذبه، كما في رواية الأثرم وهذا التفريق حسن، والحال الثاني: احتمال الأمرين وأنه يحضره بلا خلاف، والحال الثالث: تهمته وهو قياس سبب يوهم أن الحق عنده فإن الاتهام افتعال من الوهم وحبسه هنا بمنزلة حبسه بعد إقامة البينة وقبل التعزير أو بمنزلة حبسه بعد شهادة أحد الشاهدين فأما امتحانه بالضرب كما يجوز ضربه لامتناعه من أداء الحق الواجب دينا أو عينا ففي المسألة حديث النعمان بن بشير في سنن أبي داود لما قال: { إن شئتم ضربته، فإن ظهر الحق عنده وإلا ضربتكم }، وقال: هذا قضاء الله ورسوله، وهذا يشبه تحليف المدعي إذا كان معه لون فإن اقتران اللون بالدعوى جعل جانبه مرجحا فلا يستبعد أن يكون اقترانه بالتهمة يبيح مثل ذلك والمقصود أنه إذا استحق التعزير وكان متهما بما يوجب حقا واحدا مثل أن يثبت عليه هتك الحرز ودخوله ولم يقر بأخذ المال وإخراجه ويثبت عليه الحراب خروجه بالسلاح وشهره له ولم يثبت عليه القتل والأخذ فهذا يعزر لما فعله من المعاصي وهل يجوز أن يفعل ذلك أيضا امتحانا لا غير فيجمع بين المصلحتين ؟، هذا قوي في حقوق الآدميين، فأما في حدود الله تعالى عند الحاجة إلى إقامتها فيحتمل ويقوي ذلك أن يعاقب الإمام من استحق العقوبة بقتل وتوهم العامة أنه عاقبه على بعض الذنوب التي يريد الحذر عنها وهذا شبه أنه إذا أراد غزوا ورى بغيرها والذي لا ريب فيه أن الحاكم إذا علم كتمانه الحق عاقبه حتى يقر به كما يعاقب كاتم المال الواجب أداؤها فأما إذا احتمل أن يكون كاتما فهذا كالمتهم سواء، وخبر من قال له جني بأن فلانا سرق كذا كخبر إنسي مجهول فيفيد تهمة، وإذا طلب المتهم بحق فمن عرف مكانه دل عليه .

فأما طلاق الهازل فيقع عند العامة، وكذلك نكاحه صحيح كما هو في متن الحديث المرفوع وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وهو قول الجمهور، وحكاه أبو حفص العكبري عن أحمد بن حنبل نفسه وهو قول أصحابه، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن نص الشافعي أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه، ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم ; فلو خطب رجل امرأة ووليها حاضر وكانت فوضت ذلك إليه، فقال: قد فعلت، أو كانت بكرا وخطبت إلى أبيها، فقال: قد أنكحت، فقال: لا أرضى لزمه النكاح بخلاف البيع، وروي عن علي بن زياد في السليمانية، عن مالك أنه قال: نكاح الهازل لا يجوز، قال سليمان: إذا علم الهزل، وإن لم يعلم فهو جائز، وقال بعض المالكية: فإن قام دليل الهزل لم يلزمه عتق ولا طلاق ولا نكاح، ولا شيء عليه من الصداق، وإن قام دليل ذلك في الباطن لزمه نصف الصداق ولم يمكن منها لإقراره على نفسه أن لا نكاح بينهما، وأما بيع الهازل ونحوه من التصرفات المالية المحضة، فإنه لا يصح عند القاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه، وهذا قول الحنفية فيما أظن ، وهو قول المالكية، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الصغير وقال في خلافه الكبير وهو الانتصار يصح بيعه كطلاقه، وكذلك خرج بعض أصحاب الشافعي هذه المسألة على وجهين، ومن قال بالصحة قاس سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة، والفقه فيه أن الهازل أتى بالقول غير ملتزم لحكمه، وترتب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء، أو أبى ; لأن ذلك لا يقف على اختياره، وذلك أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه وقصد اللفظ المتضمن المعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما إلا أن يعارضه قصد آخر، كالمكره والمحلل، فإنهما قصدا شيئا آخر غير معنى القول، وموجبه، فكذلك جاء الشرع بإبطالهما، ألا ترى أن المكره قصد دفع العذاب عن نفسه، فلم يقصد المسبب ابتداء، والمحلل قصده إعادتها إلى المطلق، وذلك ينافي قصده لموجب السبب، والهازل قصد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافي حكمه، ولا ينتقض هذا بلغو اليمين فإنه في لغو اليمين لم يقصد اللفظ، وإنما جرى على لسانه من غير قصد لكثرة اعتياد اللسان لليمين، وأيضا فإن الهزل أمر باطن لا يعلم إلا من جهته، فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد الآخر، ومن فرق بين النكاح وبابه وبين البيع وبابه، قال: الحديث والآثار تدل على أن من العقود ما يكون جده وهزله سواء، ومنها ما لا يكون كذلك، وإلا لقيل: إن العقود كلها والكلام كله جده وهزله سواء، وفرق من جهة المعنى بأن النكاح والطلاق والعتق والرجعة ونحو ذلك فيها حق الله سبحانه وهذا في العتق ظاهر وكذلك في الطلاق فإنه يوجب تحريم البضع في الجملة على وجه لا يمكن استباحته، ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه، وإن لم تطلبها الزوجة، وكذلك في النكاح فإنه يفيد حل ما كان حراما على وجه لو أراد العبد حله بغير ذلك الطريق لم يمكن ولو رضي الزوجان ببذل البضع لغير الزوج لم يجز ويفيد حرمة ما كان حلالا وهو التحريم الثابت بالمصاهرة فالتحريم حق لله سبحانه ولهذا لم يستبح إلا بالمهر، وإذا كان كذلك لم يكن للعبد مع تعاطي السبب الموجب لهذا الحكم أن يقصد عدم الحكم، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر قال سبحانه: { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } لأن الكلام المتضمن لمعنى فيه حق لله سبحانه لا يمكن قبوله مع دفع ذلك الحق، فإن العبد ليس له أن يهزل مع ربه ولا يستهزئ بآياته، ولا يتلاعب بحدوده ولعل حديث أبي موسى عن النبي ﷺ: { ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته } في الهازلين بمعنى أنهم يقولونها لعبا غير ملتزمين لحكمها، وحكمها لازم لهم، بخلاف البيع ونحوه، فإنه تصرف في المال الذي هو محض حق الآدمي، ولهذا يملك بذله بعوض وبغير عوض، والإنسان قد يلعب مع الإنسان ويتبسط معه، فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجاد ; لأن المزاح معه جائز، وحاصل الأمرين اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله غير جائز فيكون جد القول في حقوقه وهزله سواء بخلاف جانب العباد، ألا ترى أن النبي ﷺ قال لأعرابي يمازحه: { من يشتري مني العبد ؟ فقال: تجدني رخيصا، فقال: بل أنت عبد الله غال } وقصد النبي ﷺ أنه عبد الله والصيغة صيغة استفهام، فلا يضر، لأنه يمزح ولا يقول إلا حقا، ولو أن أحدا قال على سبيل المزاح: من يتزوج امرأتي، ونحو ذلك لكان من أقبح الكلام، بل قد عاب الله من جعل امرأته كأمه، وكان عمر رضي الله عنه يضرب من يدعو امرأته أخته، وجاء ذلك في حديث مرفوع، وإنما جاز ذلك لإبراهيم ﷺ عند الحاجة لا في المزاح، فإذا كان المزاح في البيع في غير محله جائزا، وفي النكاح ومثله لا يجوز فظهر الفرق، ومما يوضح ذلك: أن عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه بل هو مقدم على النوافل ألا ترى أنه يستحب عقده في المساجد - والبيع قد نهي عنه في المسجد - ولهذا اشترط من اشترط له العربية من الفقهاء إلحاقا له بالأذكار المشروعة مثل الأذان والتكبير في الصلاة والتلبية والتسمية على الذبيحة، ونحو ذلك، ومثل هذا لا يجوز الهزل فيه، فإذا تكلم الرجل فيه رتب الشارع على كلامه وحكمه، وإن لم يقصد هو الحكم بحكم ولاية الشارع على العبد، فالمكلف قصد القول والشارع قصد الحكم له فصار الجميع مقصودا، وفي الجملة فهذا لا ينقض ما ذكرناه من أن القصد في العقود معتبر ; لأنا إنما قصدنا بذلك أن الشارع لا يصحح بعض الأمور إلا مع العقد، وبعض الأمور يصححها إلى أن يقترن بها قصد يخالف موجبها، وهذا صحيح في الجملة كما قد تبين، وبهذا يظهر أن نكاح المحلل إما بطل ; لأن الناكح قصد ما يناقض النكاح، لأنه قصد أن يكون نكاحه لها وسيلة إلى ردها إلى الأول، والشيء إذا فعل لغيره كان المقصود بالحقيقة هو ذلك الغير لا إياه، فيكون المقصود بنكاحها أن تكون منكوحة للغير لا أن تكون منكوحة له، وهذا القدر ينافي قصد أن تكون منكوحة له، إذ الجمع بينهما متناف، وهو لم يقصد أن تكون منكوحة له بحال حتى يقال: قصد أن تكون منكوحة له في وقت ولغيره في وقت آخر، إذ لو كان كذلك يشبه قصد المتعة من غير شرط، ولهذا لو فعله فقد قيل هو كقصد التحليل وهو المشهور عندنا كما تقدم، وقيل ليس كذلك، وإذا لم يكن كذلك لم يصح إلحاقه بمن لم يقصد ما ينافي النكاح في الحال، ولا في المآل بوجه، مع كونه قد أتى بالقول المتضمن في الشرع لقصد النكاح، وسيأتي تحرير الكلام في هذا الموضع إن شاء الله تعالى، وأما التلجئة: فالذي، عليه أصحابنا أنهما إذا اتفقا على أن يتبايعا شيئا بثمن ذكراه على أن ذلك تلجئة لا حقيقة معها، ثم تعاقدا البيع قبل أن يبطلا ما تراضيا عليه، فالبيع تلجئة وهو باطل، وإن لم يقولا في العقد قد تبايعناه تلجئة، قال القاضي: وهذا قياس قول أحمد ; لأنه قال فيمن تزوج امرأة، واعتقد أنه يحلها للأول لم يصح هذا النكاح .

وكذلك إذا باع عنبه ممن يعلم أنه يعصره خمرا، وقال: وقد قال أحمد في رواية ابن منصور - إذا أقر لامرأة بدين في مرضه، ثم تزوجها ومات وهي وارثة فهذه قد أقر لها وليست بزوجة يجوز ذلك إلا أن يكون أراد تلجئة فيرد، ونحو هذا نقل إسحاق بن إبراهيم المروزي، وهذا قول أبي يوسف ومحمد، وهو قياس قول مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يكون تلجئة حتى يقولا في العقد قد تبايعنا هذا العقد تلجئة، ومأخذ من أبطله أنهما لم يقصدا العقد حقيقة والقصد معتبر في صحته وأنهما يمكنهما أن يجعلاه هزلا بعد وقوعه فكذلك إذا اتفقا عليه قبل وقوعه، ومأخذ من يصححه أن هذا شرط متقدم على العقد والمؤثر في العقد إنما هو الشرط المقارن، والأولون منهم من يمنع المقدمة الأولى، ويقول لا فرق بين الشرط المقارن والمتقدم، ومنهم من يقول إنما ذاك في الشرط الزائد على العقد بخلاف الرافع له، فإن التشارط هنا يجعل العقد غير مقصود وهناك هو مقصود، وقد أطلق عن شرط مقارن، فأما نكاح التلجئة فذكر القاضي وغيره أنه صحيح، كنكاح الهازل، لأن أكثر ما فيه أنه غير قاصد للعقد بل هازل له، ونكاح الهازل يصح .

ويؤيد هذا أن المشهور عندنا أنه لو شرط في العقد رفع موجبه، مثل: أن يشرط أن لا يطأها أو أنها لا تحل له، أو أنه لا ينفق عليها ونحو ذلك يصح العقد دون الشرط فالإنفاق على التلجئة حقيقته أنهما اتفقا على أن يعقدا عقدا لا يقتضي موجبه وهذا لا يبطله بخلاف المحلل فإنه قصد رفعه بعد وقوعه وهذا أمر ممكن فصار قصده مؤثرا في رفع العقد وهذا فرق ثان وهو في الحقيقة تحقيق للفرق الأول بين نكاح المحلل والهازل، فإن الهازل قصد قطع موجب السبب عن السبب وهذا غير ممكن فإن ذلك قصد لإبطال حكم الشارع فيصح النكاح ولا يقدح هذا القصد في مقصود النكاح إذا لم يترتب عليه حكم، والمحلل قصد رفع الحكم بعد وقوعه وهذا ممكن فيكون قصدا مؤثرا فيقدح في مقصود النكاح فيبطل النكاح ; لأنه قصد فيه على وجه ممكن، ألا ترى أن الهازل يلزمه النكاح فإن أحب قطعه احتاج إلى قصد ثان، والمحلل من أول الأمر قد عزم على رفعه، ويوضح هذا أنهما لو شرطا في العقد رفع العقد وهو نكاح المحلل، أو المتعة كان باطلا، ولو شرطا فيه رفع حكمه، مثل عدم الحيل ونحوه لكان يصححه من لم يصحح الأول ومن قال هذا فينبغي أن يقول: لو قال زوجتك هازلا فقال قبلت أن يصح النكاح كما لو قال طلقت هازلا ويتخرج في نكاح التلجئة أنه باطل ; لأن الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد في أظهر الطريقين لأصحابنا ولو اشترطا في العقد أنه نكاح تلجئة لا حقيقة لكان نكاحا باطلا، وإن قيل: إن فيه خلافا فإن أسوأ الأحوال أن يكون كما لو شرطا أنها لا تحل له وهذا الشرط مفسد للعقد على الخلاف المشهور وهذا بخلاف الهزل فإنه قصد محض لم يتشارطا عليه، وإنما قصده أحدهما وليس للرجل أن يهزل فيما يخاطب به غيره والمسألة محتملة .

الوجه الثاني عشر، أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعادات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات، فيجعل الشيء حلالا، أو حراما، أو صحيحا، أو فاسدا أو صحيحا من وجه، فاسدا من وجه، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة، أو مستحبة أو محرمة، أو صحيحة، أو فاسدة، ودلائل هذه القاعدة كثيرة جدا، منها قوله سبحانه: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا }، وقوله سبحانه: { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } فإن ذلك نص في أن الرجعة إنما ثبتت لمن قصد الصلاح دون الضرار، ومنها قوله سبحانه: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } - إلى قوله: - { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } - إلى قوله - { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } فإنه دليل على أن الخلع المأذون فيه إذا خيف أن لا يقيم الزوجان حدود الله، وأن النكاح الثاني إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله، ومنها قوله سبحانه: { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار }، فإن الله سبحانه إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة بها، فإذا وصى ضرارا كان ذلك حراما، وكان للورثة إبطاله، وحرم على الموصى له أخذه بدون رضاهم، ولذلك قال بعد ذلك: { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله } إلى قوله: { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا }، وإنما ذكر الضرار في هذه الآية دون التي قبلها ; لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف من الزوجين والإخوة والعادة أن الموصي قد يضار زوجته، وإخوته، ولا يكاد يضار ولده لكن الضرار نوعان حيف، وإثم، فإنه قد يقصد مضارتهم وهو الإثم وقد يضارهم من غير قصد، وهو الحيف فمتى أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار قصد، أو لم يقصد، فترد هذه الوصية، وإن وصى بدونه ولم يعلم أنه قصد الضرار فيمضيها، فإن علم الموصى له إنما أوصى له ضرارا لم يحل له الأخذ، ولو اعترف الموصي: إني إنما أوصيت ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية ووجب ردها في مقتضى هذه الآية، ومن ذلك أن جذاذ النخل عمل مباح في أي وقت شاء صاحبه، ولما قصد أصحابه به في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله بإهلاكه، وقال: { ولعذاب الآخرة أكبر } ثم جاءت السنة، عن النبي عاقبهم بكراهة الجذاذ في الليل لكونه مظنة لهذا الفساد وذريعة إليه ونص عليه العلماء أحمد وغيره، ومن ذلك ما روى وكيع بن الجراح، عن العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن أبي طعمة مولاهم وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله ﷺ: { لعنت الخمر على عشرة وجوه: لعنت الخمر لعينها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها } رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، وأبو داود، ولفظه: { لعن الله الخمر } - ولم يذكر " وآكل ثمنها "، ولم يقل عشرة، وقال بدل أبي طعمة، أو علقمة، والصواب أبو طعمة، وأبو طعمة هذا قال فيه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي: ثقة، ولم نعلم أحدا طعن فيه، وعبد العزيز ووكيع ثقتان نبيلان، فثبت أنه حديث جيد، وقد رواه الجوزجاني وغيره من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ومن حديث ثابت بن يزيد عفير عن ابن عمر، وهذه طرق يصدق بعضها بعضا، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ مثل هذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه، وعن ابن عباس نحوه رواه الإمام أحمد، وفي الباب ابن مسعود أيضا، فوجه الدلالة أن النبي ﷺ لعن عاصر الخمر ومعتصرها، ومعلوم أنه إنما يعصر عنبا فيصير عصيرا، ثم بعد ذلك قد يخمر، وقد لا يخمر، ولكن لما قصد بالاعتصار تصييره خمرا استحق اللعنة، وذلك إنما يكون على فعل محرم، فثبت أن عصير العنب لمن يتخذه خمرا محرم، فتكون الإجارة عليه باطلة والأجرة محرمة، وإذا كانت الإجارة على منفعته التي يعين بها غيره في شيء قصد به المعصية إجارة محرمة باطلة، فبيع نفس العنب، أو العصير لمن يتخذه خمرا أقرب إلى التحريم والبطلان ; لأنه أقرب إلى الخمر من عمل العاصر، وقد يدخل ذلك في قوله: { وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها } يدخل في هذا عين الخمر وعصيرها وعنبها، كما دخل العنب والعصير في العاصر والمعتصر، لأن من هؤلاء الملعونين من لا يتصرف إلا في عين الخمر، كالساقي، والشارب، ومنهم من لا يتصرف إلا في العنب والعصير كالعاصر والمعتصر، ومنهم من يتصرف فيهما جميعا، يبين ذلك ما روى الإمام أحمد بإسناده، عن مصعب بن سعيد، قال: قيل لسعد يعني ابن أبي وقاص أحد العشرة: تبيع عنبا لك لمن يتخذه عصيرا، فقال: بئس الشيخ

أنا إن بعت الخمر، وعن محمد بن سيرين قال: كانت لسعد بن مالك أرض فيها عنب فجاء قيمه عليها، فقال: إن عنبها قد أدرك فما نصنع به، قال: بيعوه، قال: إنه أكثر من ذلك، قال: اصنعوه زبيبا، قال: إنه لا يجيء زبيب، قال: فركب سعد وركب معه ناس حتى إذا أتوا الأرض التي فيها العنب أمر بعنبها فنزع من أصوله وحرثها، وعن عقار بن المغيرة بن شعبة قال: سألت ابن عمر: أتبيع عنبا لي عصيرا ؟ فقال: لا، ولكن زببه، ثم بعه، وفي رواية أن عبد الله بن عمر سئل عن بيع العصير، فقال: لا يصلح قال: فقلت: فشربه، قال: لا بأس به، وقال أحمد { نهى رسول الله ﷺ عن بيع السلاح في الفتنة }، ثم في معنى هؤلاء كل بيع، أو إجارة، أو هبة، أو إعارة تعين على معصية إذا ظهر القصد، وإن جاز أن يزول قصد المعصية، مثل بيع السلاح للكفار، أو للبغاة، أو لقطاع الطريق، أو لأهل الفتنة، وبيع الرقيق لمن يعصي الله فيه إلى غير ذلك من المواضع، فإن ذلك قياس بطريق الأولى على عاصر الخمر، ومعلوم أن هذا إنما استحق اللعنة وصارت إجارته وبيعه باطلا إذا ظهر له أن المشتري، أو المستأجر يريد التوسل بماله ونفعه إلى الحرام فيدخل في قوله - سبحانه وتعالى -: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }، ومن لم يراع المقاصد في العقود يلزمه أن لا يلعن العاصر، وأن يجوز له أن يعصر العنب لكل أحد، وإن ظهر له أن قصده التخمير لجواز تبدل القصد، ولعدم تأثير القصد عنده في العقود، وقد صرحوا بذلك، وهذا مخالف بنيته لسنة رسول الله ﷺ، ويؤيد هذا ما رواه الإمام أبو عبد الله بن بطة بإسناده، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: { قال رسول الله ﷺ: من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي، أو نصراني، أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة }، ومن ذلك ما روي عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن جابر بن عبد الله، عن النبي ﷺ أنه قال: { صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه، أو يصاد لكم } رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وقال الشافعي رضي الله عنه هذا أحسن حديث في هذا الباب وأقيس، وهو كما قال الشافعي، فإنه قد صح عن النبي ﷺ حديث الصعب بن جثامة، أنه أهدى له لحم حمار وحشي فرده وقال: { إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم }، وكذلك صح هذا المعنى من حديث زيد بن أرقم، وصح عنه حديث أبي قتادة، لما صاد لحم الحمار الوحشي، فأذن النبي ﷺ لأصحابه المحرمين في الأكل منه، وكذلك صح هذا المعنى من حديث طلحة وغيره ولا محمل لهذه الأحاديث المختلفة إلا أن يكون أباحه لمحرم لم يصد له، ورده حيث ظن أنه قد صيد له، ولهذا ذهب طائفة من السلف إلى تحريم لحم الصيد على المحرم مطلقا، وذهب آخرون منهم أبو حنيفة إلى إباحته للمحرم مطلقا، وكان هذا القول أقيس عند من لم يعتبر المقاصد ; لأن الله سبحانه قال: { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما }، فحرم على المحرم صيد البر دون طعامه، وصيده ما صيد منه حيا وطعامه ما كان قد مات فظهر أنه لم يحرم أكل لحمه لا سيما، وقد قال: { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا }، وإنما أراد بالصيد نفس الحيوان الحي، فعلم أنه هو المحرم ولو قصد تحريمه مطلقا لقال: لحم الصيد، كما قال: لحم الخنزير، فلما بينت سنة رسول الله ﷺ معنى كتاب الله، ودلت على أن الصيد إذا صاده الحلال للحرام وذبحه لأجله، كان حراما على المحرم، ولو أنه اصطاده اصطيادا مطلقا، وذبحه لكان حلالا له، وللمحرم مع أن الاصطياد والزكاة عمل حسي أثرت النية فيه بالتحليل والتحريم، علم بذلك أن القصد مؤثر في تحريم العين التي تباح بدون القصد، وإذا كان هذا في الأفعال الحسية ففي الأقوال والعقود أولى، يوضح ذلك أن المحرم إذا صاد الصيد، أو أعان عليه بدلالته، أو إعارة آلة، أو نحو ذلك صدر منه فعل ظهر به تحريم الصيد عليه، لكونه استحل بفعل محرم، فصار كذكاته مع القدرة عليه في غير الحلق، أما إذا لم يعلم ولم يشعر، وإنما الحلال قصد أن يصيده ليضيفه به، أو ليهبه له أو ليبيعه إياه فإن الله سبحانه حرمه عليه بنية صدرت من غيره لم يشعر بها، لئلا يكون للمحرم سبب في قتل الصيد بوجه من الوجوه، وليتم حرمة الصيد وصيانته من جهة المحرم بكل طريق، فإذا ذبح الصيد بغير سبب منه ظاهرا ولا باطنا جاز له أن يأكل لحمه ضمنا وتبعا لا أصلا وقصدا، فإذا كان هذا في الصيد فمعلوم أن من حرم الله سبحانه عليه امرأته بعد الطلاق وأباحها له إذا تزوجت بغيره، فهو بمنزلة من حرم الله سبحانه عليه الصيد وأحله له إذا ذبحه غيره، فإذا كان ذلك الغير إنما قصد بالنكاح أن تعود إلى الأول، فهو كما إذا قصد ذلك الغير بالذبح أن يحل للمحرم، فإن المناكح والذبائح من باب واحد كل منهما على الحظر حتى يفعل السبب المبيح على الوجه المشروع، ويتأيد هذا من وجه آخر وهو أن الذبح لا يحلل البهيمة حتى يقصد به أكلها فلو قصد به جعلها غرضا ونحو ذلك لم يحل فكذلك النكاح والبيع وغيرهما إن لم يقصد به الملك المقصود بهذه العقود لم يفد حكمه إذا قصد الإحلال للغير، أو إجازة قرض بمنفعة، أو غير ذلك، ومن ذلك ما روي، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: { من تزوج امرأة بصداق ينوي أن لا يؤديه إليها فهو زان ومن أدان دينا ينوي أن لا يقضيه فهو سارق }، رواه أبو حفص العكبري، بإسناده، فجعل النبي ﷺ المشتري والمستنكح إذا قصدا أن لا يؤديا العوض بمنزلة من استحل الفرج والمال بغير عوض، فيكون كالزاني والسارق في الإثم، ويؤيد هذا ما خرجه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: { من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله }، فهذه النصوص كلها تدل على أن المقاصد تفيد أحكام التصرفات من العقود وغيرها، والأحكام تقتضي ذلك أيضا، فإن الرجل إذا اشترى، أو استأجر، أو اقترض ونوى أن ذلك لموكله، أو لموليه كان له، وإن لم يتكلم به في العقد، وإن لم ينوه له وقع الملك للعاقد، وكذلك لو تملك المباحات من الصيد والحشيش وغير ذلك، ونوى أنه لموكله وقع الملك له عند أكثر الفقهاء، والدليل عليه حديث سعد لما اشترك هو وابن مسعود وعمار في غنيمة بدر، نعم لا بد في النكاح من تسمية الموكل، لأنه معقود عليه بمنزلة السلعة في البيع فافتقر العقد إلى تعيينه لذلك، لا لأجل كونه معقودا له، وإذا كان القول والفعل الواحد يوجب الملك لمالكين مختلفين عند تغير النية ثبت أن للنية تأثيرا في التصرفات، ومن ذلك أنه لو قضى عن غيره دينا، أو أنفق عليه نفقة واجبة ونحو ذلك ينوي التبرع والهبة لم يملك الرجوع بالبذل، وإن لم ينو فله الرجوع إن كان قد علم بإذنه وفاقا، وبغير، إذنه على خلاف فيه، فصورة الفعل واحدة، وإنما اختلف، هل هو من باب المعاوضات، أو من باب أكثر التبرعات بالنية ؟ ومن ذلك أن الله سبحانه حرم أن يدفع الرجل إلى غيره مالا ربويا بمثله على وجه البيع إلا أن يتقابضا، وجوز الدفع على وجه القرض، وقد اشتركا في أن هذا يقبض دراهم، ثم يعطي مثلها بعد العقد، وإنما فرق بينهما للمقاصد، فإن مقصود القرض إرفاق المقترض ونفعه ليس مقصوده المعاوضة والربح، ولهذا شبه بالعارية حتى سماه رسول الله ﷺ منيحة ورق، فكأنه أعاره الدراهم، ثم استرجعها منه لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل، فهو بمنزلة من تبرع لغيره بمنفعة حاله، ثم استعاد العين، وكذلك لو باعه درهما بدرهمين كان ربا محرما، ولو باعه درهما بدرهم ووهبه درهما هبة مطلقة لا تعلق لها بالبيع ظاهرا ولا باطنا كان ذلك جائزا، فلولا اعتبار المقاصد والنيات لأمكن كل مرب إذا أراد أن يبيع ألفا بألف وخمسمائة لاختلاف النقد أن يقول: بعتك ألفا بألف، ووهبتك خمسمائة لكن باعتبار المقاصد، فعلم أن هذه الهبة إنما كانت لأجل اشترائه منه تلك الألف فتصير داخلة في المعاوضة، وذلك أن الواهب لا يهب إلا للأجر فتكون صدقة، أو لكرامة الموهوب له فتكون هدية، أو لمعنى آخر فيعتبر ذلك المعنى كما لو وهب للمقرض، أو وهب لعامل الزكاة شيئا ونحو ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى في حديث ابن اللتبية، والمقرض المحض ليس له غرض أن يرجع إليه إلا مثل ماله جنسا ونوعا وقدرا بخلاف البائع، فإنه لا يبيع درهما بدرهم يساويه من كل جهة نسيئة، فإن العاقل لا غرض له في مثل هذا، وإنما يبيع أحدهما بالآخر لاختلاف الصفة، مثل أن يكون أحدهما أرفع سكة، أو مصوغا، أو أجود فضة إلى غير ذلك من الصفات، فإذا قابلت الصفة جنسها في البيع لم يكن لها قيمة - في باب الغصب والإتلاف والقرض - يعتبرها الشارع لأن العوض هناك ثبت شرعا لا شرطا فصار ما اعتبره الشارع في القرض والإتلاف لا يقصد في البيع وما يقصد في البيع أهدره الشارع، ثم الذي يميز بين هذا التصرف وهذا هو القصد والنية، فلولا مقاصد العباد ونياتهم لما اختلفت هذه الأحكام ثم الأسماء تتبع المقاصد، ولا يجوز لأحد أن يظن أن الأحكام اختلفت بمجرد اختلاف ألفاظ لم تختلف معانيها ومقاصدها، بل لما اختلفت المقاصد بهذه الأفعال اختلفت أسماؤها وأحكامها، وإنما المقاصد حقائق الأفعال وقوامها، وإنما الأعمال بالنيات، ومما يدل على عقود المكره وأقواله مثل: بيعه، وقرضه، ورهنه، ونكاحه، وطلاقه، ورجعته، ويمينه، ونذره، وشهادته، وحكمه، وإقراره، وردته، وغير ذلك من أقواله، فإن هذه الأقوال كلها منه ملغاة مهدرة وأكثر ذلك مجمع عليه، وقد دل على بعضه القرآن مثل قوله: { إلا من أكره } وقوله سبحانه: { إلا أن تتقوا منهم تقاة }، والحديث المأثور: { عفي لأمتي عن الخطإ والنسيان وما استكرهوا عليه }، وقوله ﷺ: { لا طلاق ولا عتاق في غلاق } - أي إكراه، إلى ما في ذلك من آثار الصحابة، فنقول: معلوم أن المكره قد أتى باللفظ المقتضي للحكم، ولم يثبت حكم اللفظ ; لأنه لم يقصد الحكم، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه فصار عدم الحكم لعدم قصده، وإرادته بذلك اللفظ وكونه إنما قصد به شيئا آخر غير حكمه، فعلم أن نفس اللفظ ليس مقتضيا للحكم اقتضاء الفعل أثره، فإنه لو قتل، أو غصب، أو أتلف أو بخس البائع مكرها لم نقل إن ذلك القتل أو الغصب، أو الإتلاف، أو البخس فاسد بخلاف ما لو عقد، فكذلك المحتال لم يقصد الحكم المقصود بذلك اللفظ الذي احتال به، وإنما قصد معنى آخر مثل البيع الذي يتوسل به إلى الربا والتحليل الذي يتوسل به إلى رد المرأة إلى زوجها لكن المكره قصده دفع الظلم عن نفسه وهذا قصده التوسل إلى غرض رديء فالمكره والمحتال يشتركان في أنهما لم يقصدا بالسبب حكمه ولا باللفظ معناه، وإنما قصدا التوسل بذلك اللفظ وظاهر ذلك السبب إلى شيء آخر غير حكم السبب لكن أحدهما راهب - قصده دفع الضرر - ولهذا يحمد على ذلك والآخر راغب - قصده إبطال حق، أو إثبات باطل ولهذا يذم على ذلك، فالمكره يبطل حكم السبب فيما عليه وفيما له ; لأنه لم يقصد واحدا منهما، وأما المحتال فيبطل حكم السبب فيما احتال عليه، وأما فيما سوى ذلك فقد تختلف الحال فيه كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى، ومن ظهر أنه محتال كمن ظهر أنه مكره ومن ادعى ذلك كمن ادعى ذلك، لكن المكره لا بد أن يظهر كراهة بخلاف المحتال، ومما يدخل في هذا الباب عقود الهزل، وعقود التلجئة، إلا أن في ذلك تفصيلا وخلافا يحتاج بعضه إلى أن يحتج له لا أن يحتج به، ويحتاج بعضه إلى أن يجاب عنه، فنقول: الهازل هو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه، وإرادة لحقيقة معناه بل على وجه اللعب، ونقيضه الجاد: وهو الذي يقصد حقيقة الكلام - كأنه مشتق من جد فلان إذا عظم واستغنى وصار ذا حظ، والهزل من هزل إذا ضعف وضؤل، كأن الكلام الذي له معنى بمنزلة الذي له قوام من مال، أو شرف والذي لا معنى له بمنزلة الخلق فما يقيمه ويمسكه - والتلجئة هو: أن يتواطأ اثنان على إظهار العقد، أو صفة فيه، أو الإقرار ونحو ذلك صورة من غير أن يكون له حقيقة، مثل الرجل الذي يريد ظالم أن يأخذ ماله فيواطئ بعض من يخاف على أن يبيعه إياه صورة ليندفع ذلك الظالم ولهذا سمي تلجئة - وهو في الأصل مصدر ألجأته إلى هذا الأمر تلجئة - ; لأن الرجل ألجئ إلى هذا الأمر، ثم صار كل عقد قصد به السمعة دون الحقيقة يسمى تلجئة وإن قصد به دفع حق، أو قصد به مجرد السمعة عند الناس، وأما الهازل فقد جاء في الحديث المشهور عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: { ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة }، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن غريب، وعن الحسن قال: قال رسول الله ﷺ: { من نكح لاعبا، أو طلق لاعبا، أو أعتق لاعبا فقد جاز }، وعن عمر بن الخطاب قال: أربع جائزات إذا تكلم بهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر، وعن علي: ثلاث لا لعب فيهن الطلاق والعتاق والنكاح، وعن أبي الدرداء قال: ثلاث اللعب فيهن كالجد الطلاق والنكاح والعتق، وعن عبد الله بن مسعود قال: النكاح جده ولعبه سواء، رواهن أبو حفص العكبري .

الوجه الثالث عشر أن عائشة رضي الله عنها، روت عن النبي ﷺ أنه قال: { من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد } رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وفي صحيح مسلم، عن جابر أن رسول الله ﷺ كان يقول في خطبته: { أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة }، وفي لفظ كان يخطب الناس فيحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول { من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة } رواه النسائي بإسناد صحيح وزاد: " { فكل بدعة في النار } وكان عمر رضي الله عنه يخطب بهذا الخطبة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا أنه كان يقول: { إنما هما اثنتان الكلام والهدي فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد ألا، وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها وإن كل محدثة بدعة } وفي لفظ: { غير أنكم ستحدثون ويحدث لكم فكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار }، وهذا مشهور، عن ابن مسعود، وكان يخطب به كل خميس، كما كان النبي ﷺ يخطب به في الجمع، وقد رواه ابن ماجه، وابن أبي عاصم بأسانيد جيدة إلى محمد بن جعفر بن أبي كثير، عن موسى بن عقبة، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، { أن رسول الله ﷺ قال: إياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة }، وهذا إسناد جيد لكن المشهور أنه موقوف على ابن مسعود - وعن العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه }، الآية: قال: صلى بنا رسول الله ﷺ ذات يوم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا، فقال: { أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي سيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة }، رواه الإمام أحمد وأبو داود، وابن ماجه ، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح في لفظ: { تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك - وفيه - عليكم بما عرفتم من سنتي }، فهذه الأحاديث وغيرها تبين أن رسول الله ﷺ حذر الأمة الأمور المحدثة وبين أنها ضلالة وأن من أحدث في أمر الدين ما ليس منه فهو مردود وهذه الجملة لا تنحصر دلائلها وكثرة وصايا السلف بمضمونها وكذلك الأدلة على لزوم طريقة الصحابة والتابعين لهم ومجانبة ما أحدث بعدهم مما يخالف طريقهم من الكتاب والسنة، والآثار كثيرة جدا، وإذا كان كذلك فهذه الحيل من الأمور المحدثة ومن البدع الطارئة، أما الإفتاء بها وتعليمها للناس، وإنفاذها في الحكم واعتقاد جوازها فأول ما حدث في الإسلام في أواخر عصر صغار التابعين بعد المائة الأولى بسنين كثيرة، وليس فيها - ولله الحمد - حيلة واحدة تؤثر عن أصحاب رسول الله ﷺ بل المستفيض عن الصحابة أنهم كانوا إذا سئلوا عن فعل شيء من ذلك أعظموه وزجروا عنه، وفي هذا الكتاب عن الصحابة في مسألتين العينة والتحليل وغيرهما ما بين قولهم في هذا الجنس، وأما فعلها من بعض الجهال، فقد كان يصدر القليل منه في العصر الأول، لكنه ينكره الفقهاء من الصحابة والتابعين على من يفعله كما كانوا ينكرون عليهم الكذب والربا وسائر المحرمات ويرونها داخلة في قوله ﷺ: { من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد } . وأما إذا اتفقا في السر من غير عقد على أن الثمن ألف وأظهرا في العقد ألفين فقال القاضي في التعليق القديم والشريف أبو جعفر وغيرهما الثمن ما أظهراه على قياس المشهور عنه في المهر أن العبرة بما أظهراه وهو الأكثر، وفرقوا بين التلجئة في الثمن والتلجئة في البيع بأن التلجئة في البيع تجعله في نفسه غير مقصود والقصد معتبر في صحته وهنا العقد مقصود وما تقدمه شرط مفسد متقدم على العقد فلم يؤثر فيه وهذا هو المشهور عن الشافعي بناء على أن العبرة في الجميع بما أظهراه، وفي المهر عنه خلاف مشهور، وقال القاضي في التعليق الجديد هو وأكثر أصحابه مثل أبي الخطاب وأبي الحسين وغيرهم: الثمن ما أسراه والزيادة سمعة ورياء بخلاف المهر إلحاقا للعوض في البيع بنفس البيع، وإلحاقا للمهر بالنكاح، وجعلا الزيادة فيه بمنزلة الزيادة بعد العقد وهي لاحقة، وقال أبو حنيفة عكس هذا بناء على أن تسمية العوض شرط في صحة البيع دون النكاح، وقال صاحباه: العبرة في الجميع بما أسراه، وإنما يتحرر الكلام في هذا بمسألة المهر، ولها في الأصل صورتان ; وكلام عامة الفقهاء فيها عام فيهما، أو مجمل، إحداهما: أن يعقدوه في العلانية بألفين وقد اتفقوا قبل ذلك أن المهر ألف وأن الزيادة سمعة من غير أن يعقدوه بالأقل، فالذي عليه القاضي وأصحابه من بعده من الأصحاب أن المهر هو المسمى في العقد ولا اعتبار بما اتفقوا عليه قبل ذلك، وإن قامت به البينة، أو تصادقوا عليه وسواء كانت العلانية من جنس السر، وهو أكثر منه أو كانت من غير جنسه، وهو ظاهر كلام كثير من المتقدمين، قالوا: وهذا ظاهر كلام أحمد في مواضع، قال في رواية ابن المنذر في الرجل يصدق صداقا في السر وفي العلانية شيئا آخر يؤاخذ بالعلانية، وقال في رواية أبي الحارث: إذا تزوجها في العلانية على شيء وأسر غير ذلك أوخذ بالعلانية، وإن كان قد أشهر في السر بغير ذلك، وقال في رواية الأثرم في رجل أصدق صداقا سرا وصداقا علانية يؤاخذ بالعلانية إذا كان قد أقر به قيل له فقد أشهد شهودا في السر بغيره قال: وإن ; أليس قد أقر بهذا أيضا عند شهود ؟ يؤاخذ بالعلانية ومعنى قوله - رضي الله عنه - أقر به أي رضي به والتزمه لقوله سبحانه: { أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري }، وهذا يعم التسمية في العقد والاعتراف بعده ويقال أقر بالجزية وأقر للسلطان بالطاعة وهذا كثير في كلامهم، وقال في رواية صالح في الرجل يعلن مهرا ويخفي آخر أوخذ بما يعلن ; لأنه بالعلانية قد أشهد على نفسه وينبغي لهم أن يفوا له بما كان أسره، وقال في رواية ابن منصور إذا تزوج امرأة في السر وأعلنوا مهرا آخر ينبغي لهم أن يفوا، وأما هو فيؤاخذ بالعلانية، قال القاضي وغيره: قد أطلق القول بمهر العلانية، وإنما قال ينبغي لهم أن يفوا بما أسر على طريق الاختيار لئلا يحصل منهم غرور له في ذلك وهذا القول هو قول الشعبي وأبي قلابة وابن أبي ليلى وابن شبرمة والأوزاعي، وهو قول الشافعي المشهور عنه، وقد نص في موضع على أنه يؤاخذ بمهر السر، فقيل في هذه المسألة قولان، وقيل: بل ذاك في الصورة الثانية كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقال كثير من أهل العلم أو أكثرهم: إذا علم المشهود أن المهر الذي يظهره سمعة، وأن أصل المهر كذا وكذا ثم تزوج وأعلن الذي قال فالمهر هو السر والسمعة باطلة، وهذا قول الزهري، والحكم بن عتبة، ومالك والثوري، والليث، وأبي حنيفة وأصحابه، وإسحاق، وعن شريح والحسن كالقولين، وذكر القاضي في موضع عن أبي حنيفة أنه يبطل المهر ويجب مهر المثل وهو خلاف ما حكاه عنه أصحابه وغيرهم، ونقل عن أحمد ما يقتضي أن الاعتبار بالسر إذا ثبت أن العلانية تلجئة، فقال: إذا كان الرجل قد أظهر صداقا وأسر غير ذلك نظر في البينات والشهود وكان الظاهر أوكد إلا أن تقوم بينة تدفع العلانية، قال القاضي: وقد تأول أبو حفص العكبري هذا على أن بينة السر عدول وبينة العلانية، غير عدول حكم بالعدول قال القاضي وظاهر هذا أنه حكم بنكاح السر إذا لم تقم بينة عادلة بنكاح العلانية، وقال أبو حفص: إذا تكافأت البينات وقد شرطوا في السر أن الذي يظهر في العلانية للرياء والسمعة فينبغي لهم أن يفوا له بهذا الشرط ولا يطالبوه بالظاهر لقول النبي ﷺ: { المؤمنون عند شروطهم } فإن القاضي، وظاهر هذا الكلام من أبي حفص أنه قد جعل للسر حكما قال والمذهب على ما ذكرناه، قلت: كلام أبي حفص الأول فيما إذا قامت البينة بأن النكاح عقد في السر بالمهر القليل ولم يثبت نكاح العلانية، وكلامه الثاني فيما إذا ثبت نكاح العلانية، ولكن تشارطوا إنما يظهرون الزيادة على ما اتفقوا عليه للرياء والسمعة، وهذا الذي ذكره أبو حفص أشبه بكلام الإمام أحمد وأصوله، فإن عامة كلامه في هذه المسألة إنما هو إذا اختلف الزوج والمرأة، ولم يثبت بينة ولا اعتراف أن مهر العلانية سمعة، بل شهدت البينة أنه تزوجها بالأكثر، وادعي عليه ذلك، فإنه يجب أن يؤاخذ بما أقر به إنشاء، أو إخبارا، وإذا أقام شهودا يشهدون أنهم تراضوا بدون ذلك حكم بالبينة للأولى ; لأن التراضي بالأقل في وقت لا يمنع التراضي بما زاد عليه في وقت آخر، ألا ترى أنه قال: " أوخذ بالعلانية ; لأنه بالعلانية قد أشهد على نفسه وينبغي لهم أن يفوا بما كان أسره "، فقوله: " لأنه أشهد على نفسه " دليل على أنه إنما يلزمه في الحكم فقط، وإلا فما يجب فيما بينه وبين الله لا يعلل بالإشهاد، وكذلك قوله: " ينبغي لهم أن يفوا له وأما هو فيؤاخذ بالعلانية " دليل على أنه يحكم عليه به وأن أولئك يجب عليهم الوفاء، وقوله " ينبغي " تستعمل في الواجب أكثر مما تستعمل في المستحب ويدل على ذلك أنه قد قال أيضا في امرأة زوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة فاختلفوا في ذلك فإن كانت البينة في السر والعلانية سواء أخذنا بالعلانية ; لأنه أحوط وهو خرج: يؤاخذ بالأكثر وقيدت المسألة بأنهم اختلفوا وأن كليهما قامت به بينة عادلة، وإنما يظهر ذلك بالكلام في الصورة الثانية: وهو ما إذا تزوجها في السر بألف، ثم تزوجها في العلانية بألفين مع بقاء النكاح الأول، فهنا قال القاضي، - في المجرد والجامع: إن تصادقا على نكاح السر لزم نكاح السر بمهر السر ; لأن النكاح المتقدم قد صح ولزوم النكاح المتأخر عنه لا يتعلق به حكم، وحمل مطلق كلام أحمد والخرقي على مثل هذه الصورة، وهذا مذهب الشافعي، وقال الخرقي: إذا تزوجها على صداقين سر وعلانية أخذنا بالعلانية، وإن كان السر قد انعقد النكاح به، وهذا منصوص كلام الإمام أحمد في قوله: تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة، وعموم كلامه المتقدم يشمل هذه الصورة والتي قبلها، وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه وعليه أكثر الأصحاب، ثم طريقه وطريقة جماعة في ذلك أن يجعلوا ما أظهراه زيادة في المهر والزيادة فيه بعد لزومه لازمة، وعلى هذا فلو كان السر هو الأكثر، أوخذ به أيضا، وهو معنى قول أحمد أوخذ بالعلانية يؤاخذ بالأكثر، ولهذا القول طريقة ثانية: وهو أن نكاح السر إنما يصح إذا لم يكتموه على إحدى الروايتين بل أنصهما، فإذا تواصوا بكتمان النكاح الأول كانت العبرة إنما هي بالثاني فقد تحرر أن أصحابنا مختلفون، هل يؤاخذ بصداق العلانية ظاهرا وباطنا أو ظاهرا فقط فيما إذا كان السر تواطئا من غير عقد ؟ وإن كان السر عقدا، فهل هي كالتي قبلها أو يؤاخذ هنا بالسر في الباطن بلا تردد على وجهين: فمن قال: إنه يؤاخذ به ظاهرا فقط، وإنهم في الباطن لا ينبغي لهم أن يؤاخذوا إلا بما اتفقوا عليه لم يرد نقضا، وهذا قول قوي له شواهد كثيرة، ومن قال: إنه يؤاخذ به ظاهرا وباطنا بنى ذلك على أن المهر من توابع النكاح وصفاته فيكون ذكره سمعة كذكره هزلا والنكاح جده وهزله سواء فكذلك ذكر ما هو فيه، يحقق ذلك أن حل البضع مشروط بالشهادة على العقد والشهادة وقعت على ما أظهراه فيكون وجوب المشهود به شرطا في الحل، فهذا الذي ذكرناه من عقود الهزل والتلجئة قد يعارض بما يصح منها على قولنا: إن المقاصد معتبرة في العقود والتصرفات فإنها تصح مع عدم قصد الحكم، وهي في الحقيقة تحقيق ما مهدناه من اعتبار المقاصد، فنقول: الجواب عن ذلك من وجوه، أحدها: أن السنة وأقوال الصحابة فرقت بين قصد التحليل وبين نكاح الهازل، وقد ذكرنا هنا السنة والآثار الدالة على صحة نكاح الهازل، ثم السنة وأقوال الصحابة نصوص في أن قصد التحليل مانع من حلها للزوج الأول على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وممن نقل عنه الفرق عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم مع السنة، ونكاح المحلل من أجود الحيل عند القائلين بها فإذا بطل فما سواه من الحيل أبطل، فعلم أن الهزل لا يقدح في اعتبار القصد لئلا تتناقض الأدلة الشرعية، الثاني: إنما ذكرنا أن القصد معتبر في، العقود ومؤثر فيها، ولم نقل إن عدم القصد مؤثر فيها، والهازل ونحوه لم يوجد منهم قصد يخالف موجب العقد، ولكن لم يوجد منهم القصد إلى موجب العقد، وفرق بين عدم قصد الحكم وبين وجود قصد ضده، وهذا ظاهر، فإنه لا بد في العقود وغيرها من قصد التكلم، وإرادته، فلو فرض أن الكلمة صدرت من نائم، أو ذاهل، أو قصد كلمة فجرى على لسانه بأخرى، أو سبق بها لسانه من غير قصد لها لم يترتب على مثل هذا حكم في نفس الأمر قط، وأما في الظاهر ففيه تفصيل ليس هذا موضعه، والكلام يكون بقدرة الله تعالى عن عمل اللسان وحركته، وإن كان نفس الحركة المقتضية تسمى كلاما أيضا، فإذا عمله لم يقصد موجبه ومقتضاه كان هازلا لاعبا، فإنه عمل عملا لم يقصد به شيئا من فوائده الشرعية ولم يقصد ما ينافي فوائده الشرعية، فهنا أمكن ترتب الفائدة على قوله من غير قصد ; لأنه أتى بالقول المقتضي فترتب عليه مقتضاه ترتبا شرعيا لوجود المقتضي السالم عن المعارض، وإذا قصد المنافي فقد عارض المقتضي ما يخرجه عن أن يكون مقتضيا، فكذلك لم يصح، وقد تقدم بسط هذا الوجه، الثالث: أن الهازل لو وصل قوله بلفظ الهزل مثل أن يقول: طلقتك هازلا، أو طلقتك غير قاصد لوقوع الطلاق، ونحو ذلك لم يمتنع وقوع الطلاق، وكذلك على قياسه لو قال: زوجتك هازلا، أو زوجتك غير قاصد لأن تملك المرأة، فأما لو قال زوجتك على أن تحلها بالطلاق بعد الدخول، أو على أن تطلقها إذا أحللتها لم يصح، فإذا ثبت الفرق بينهما لفظا فثبوته بالبينة مثله سواء بل أولى، وسر هذا الفرق مبني على ما قبله فإن الهازل مع عدم قصد مقتضى اللفظ والعدم لو أظهره لم يكن شرطا في العقد، والمحلل ونحوه معه قصد ينافي المقتضي وما ينافي المقتضي لو أظهره كان شرطا فالهازل عقد عقدا ناقصا فكمله الشارع، والمحلل زاد على العقد الشرعي ما أوجب عدمه، الوجه الرابع: أن نكاح الهازل ونحوه حجة لاعتبار القصد، وذلك أن الشارع منع أن تتخذ آيات الله هزوا، وأن يتكلم الرجل بآيات الله التي هي العقود إلا على وجه الجد الذي يقصد به موجباتها الشرعية، ولهذا ينهى عن الهزل بها، وعن التلجئة، كما ينهى عن التحليل، وقد دل على ذلك قوله سبحانه { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } وقول النبي ﷺ: { ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك }، فعلم أن اللعب بها حرام، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ومعنى فساده عدم ترتب أثره الذي يريده المنهي، مثل نهيه عن البيع والنكاح المحرم، فإن فساده عدم حصول الملك، والهازل اللاعب بالكلام غرضه التفكه والتلهي والتمضمض بمثل هذا الكلام من غير لزوم حكمه له، فأفسد الشارع عليه هذا الغرض بأن ألزمه الحكم متى تكلم بها، فلم يترتب غرضه من التلهي بها واللعب والخوض، بل لزمه النكاح وثبت في حقه النكاح ومتى ثبت النكاح في حقه تبعته أحكامه، والمحتال كالمحلل مثل غرضه إعادة المرأة إلى الأول فيجب فساد هذا الغرض عليه بأن لا يحل عودها، وإنما لا يحل عودها إذا كان نكاحه فاسدا فيجب إفساد نكاحه، فتبين أن اعتبار الشارع للمقاصد هو الذي أوجب صحة نكاح الهازل وفساد نكاح المحلل، وإيضاح هذا: أن الله حرم أن تتخذ آياته هزوا بعد أن ذكر النكاح والخلع والطلاق، وفسر النبي ﷺ أن من المحرمات أن يلعب بحدود الله ويستهزأ بآياته فيقال: طلقتك، راجعتك، خلعتك، راجعتك، ومعلوم أن الاستهزاء بالكلام الحق المعتبر أن يقال لا على هذا الوجه، إما أن يقصد به مقصود غير حقيقة ككلام المنافق، أو لا يقصد إلا مجرد ذكره على وجه اللعب، ككلام السفهاء، وكلام الوجهين حرام وهو كذب ولعب، فيجب أن يمنع من هذا الفساد، فيمنع الأول من حصول مقصوده المباين لمقصود الشارع، ويمنع الثاني من حصول مقصوده الذي هو اللعب، ثم إن كان منعه من مقصوده بإبطال العقد من جميع الوجوه، أو من بعضها، أو بصحة العقد شرع ذلك، والمحلل إنما يمنع المقصود الباطل بإبطال العقد مطلقا، وإلا فتصحيح النكاح مستلزم لحصول مقصوده، ولما لحظ بعض أهل الرأي هذا رأى أن يصحح النكاح ويمنع حصول الحل، كما يوقع الطلاق في المرض ويوجب الميراث، لكن هذا ضعيف هنا، لأنه كان ينبغي أن لا يلعن إلا المحلل له فقط، إذا كان نكاح المحلل صحيحا مفيدا للحل لنفسه، ولكان لا ينبغي أن يسمى تيسا مستعارا ; لأنه زوج من الأزواج، غير أن نكاحه لم يفد الحل المطلق كالنكاح قبل الدخول، ثم إن مادة الفساد إنما تنحسم بتحريم العقدين معا، والطلاق لا ينقسم إلى صحيح وفاسد، ولهذا إذا وقع مع التحريم وقع كطلاق البدعة بخلاف النكاح، فإنه إذا وقع مع التحريم كان فاسدا كالنكاح في العدة، فلما منع الشارع مقصود المحلل منع أيضا مقصود الهازل وهو اللعب بالعقود من غير اقتضاء لأحكامها فأوجب أحكامها معها، وهذا كلام متين إذا تأمله اللبيب تفقه في الدين وعلم أن من أمعن النظر وجد الشريعة متناسبة، وأن تصحيح نكاح الهازل ونحوه من أقوى الأدلة على بطلان الحيل، وكذلك نكاح التلجئة إذا قيل بصحته، فإن

التلجئة نوع من الحيل بإظهار صورة العقد لسمعة، ولا يلتزمون موجبها بإبطال هذه الحيل، بأن يلتزموا موجبه حتى لا يجترئ أحد أن يعقد العقد إلا على وجه لرغبة في مقصودها دون الاحتيال بها إلى غير مقاصدها، ومما يقارب هذا أن كلمتي الكفر والإيمان إذا قصد الإنسان بهما غير حقيقتهما صح كفره ولم يصح إيمانه، فإن المنافق قصد بالإيمان مصالح دنياه من غير حقيقة لمقصود الكلمة فلم يصح إيمانه، والرجل لو تكلم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير حقيقة اعتقاد صح كفره باطنا وظاهرا ; وذلك لأن العبد مأمور بأن يتكلم بكلمة الإيمان معتقدا لحقيقتها، وأن لا يتكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادا ولا هازلا، فإذا تكلم بالكفر أو الكذب جادا، أو هازلا كان كافرا، أو كاذبا حقيقة ; لأن الهزل بهذا الكلمات غير مباح، فيكون وصف الهزل مهدرا في نظر الشرع ; لأنه محرم فتبقى الكلمة موجبة لمقتضاها، ونظير هذا الذي ذكرناه أن قصد اللفظ بالعقود معتبر عند جميع الناس، بحيث لو جرى اللفظ في حال نوم، أو جنون، أو سبق اللسان بغير ما أراده القلب لم يترتب عليه حكم في نفس الأمر، ثم إن أكثرهم صححوا عقود السكران مع

عدم قصده اللفظ قالوا: لأنه لما كان محرما عليه أن يزيل عقله كان في حكم من بقي عقله، ومما يوضح هذا: أن كل واحد من الهازل والمخادع لما أخرجا العقد عن حقيقته، فلم يكن مقصودهما منه مقصود الشارع عوقبا بنقيض قصدهما، ومقصود الهازل نفي ثبوت الملك لنفسه فيثبت، ومقصود المحلل ثبوت الحل للمطلق، وثبوت الحل له ليكون وسيلة فلا يثبت شيء من ذلك، واعلم أن من الفقهاء من قال بعكس السنة في هاتين المسألتين فصحح نكاح المحلل دون نكاح الهازل، نظرا إلى أن الهازل لم يقصد موجب العقد، فصار كلامه لغوا والمحلل قصد موجبه ليتوصل به إلى غرض آخر، وهذا مخيل في بادئ الرأي، لكن يصد عن اعتباره مخالفته للسنة، وبعد إمعان النظر يتبين فساده نظرا كما تبين أثرا، فإن التكلم بالعقد مع عدم قصده محرم، فإذا لم يترتب عليه الحكم فقد أعين على التحريم المحرم، فيجب أن يترتب عليه إفساد لهذا الهزل المحرم وإبطال اللعب يجعل الهزل بآيات الله جدا، كما جعل مثل ذلك في الاستهزاء بالله وبآياته ورسوله، وقصد المحلل في الحقيقة ليس بقصد الشارع، فإنه إنما قصد الرد إلى الأول، وهذا لم يقصده الشارع، فقد قصد ما لم يقصده الشارع، ولم يقصد ما قصده، فيجب إبطال قصده بإبطال وسيلته، والله سبحانه أعلم، وإذا ثبت بما ذكرنا من الشواهد أن المقاصد معتبرة في التصرفات من العقود وغيرها، فإن هذا يجتث قاعدة الحيل ; لأن المحتال هو الذي لا يقصد بالتصرف مقصودها الذي جعل لأجله، بل يقصد به إما استحلال محرم، أو إسقاط واجب أو نحو ذلك، مثل المحلل الذي لا يقصد مقصود النكاح من الألفة والسكن التي بين الزوجين، وإنما يقصد نقيض النكاح وهو الطلاق لتعود إلى الأول، وكذلك المعين لا يقصد مقصود البيع من نقل الملك في المبيع إلى المشتري، وإنما يقصد أن يعطي ألفا حالة بألف ومائتين مؤجلة، وكذلك المخالع خلع اليمين لا يقصد مقصود الخلع من الفرقة والبينونة، وإنما يقصد حل يمينه بدون الحنث بفعل المحلوف عليه وليس هذا مقصود الخلع وهذا بين في جميع التصرفات، وهذا يوجب فساد الحيل من وجهين: أحدهما: أنه لم يقصد بتلك التصرفات موجباتها الشرعية، بل قصد خلافها ونقيضها، الثاني: أنه قصد بها إسقاط واجب واستحلال محرم دون سببه الشرعي، لكن من التصرف ما يمكن إبطاله كالعقود التي قد تواطأ المتعاقدان عليها ونحو ذلك، ومنه ما يمكن إبطاله بالنسبة إلى المحتال عليه دون غيره فيبطل الحكم الذي احتيل عليه، مثل أن يبيع النصاب فرارا من الزكاة، أو يطلق زوجته فرارا من الإرث، فإن البيع صحيح في حق المشتري، وكذلك الطلاق واقع لكن تجب الزكاة ويثبت الإرث إبطالا للتصرف في هذا الحكم، وإن صح في حكم آخر، كما أن صيد الحلال للمحرم وذبحه يجعل اللحم ذكيا في حق الحلال ميتا في حق المحرم، وكما أن بيع المعيب والمدلس إذا صدر ممن يعلم بذلك لمن لا يعلمه كان حراما في حق البائع حلالا في حق المشتري، وكذلك رشوة العامل لدفع الظلم ومن هذا إعطاء النبي ﷺ لمن كان يسأله ما لا يستحقه فيعطيه العطية يخرج بها يتأبطها نارا تأليفا لقلبه ونظائره كثيرة، والله سبحانه أعلم، واعلم أنا إنما ذكرنا هنا اعتقاد الفعل الذي هو العزم والإرادة، فأما اعتقاد الحكم بأن يعتقد أن الفعل حلال أو حرام فتأثير هذا في الحكم في الجملة مجمع عليه، فإن من وطئ فرجا يعتقده حلالا له، وليس هو في الحقيقة حلالا، مثل أن يشتري جارية اشتراها، أو اتهبها، أو ورثها، ثم تبين أنها غصب ، أو حرة، أو يتزوجها تزوجا فاسدا لا يعلم فساده، إما بأن لا يعلم السبب المفسد، مثل أن تكون أخته من الرضاعة ولم يعلم، أو علم السبب ولم يعلم أنه مفسد لجهل كمن يتزوج المعتدة معتقدا أنه جائز، أو لتأويل، كمن يتزوج بلا ولي، أو وهو محرم، فإن حكم هذا الوطء حكم الحلال في درء الحد ولحوق النسب وحرية الولد ووجوب المهر وفي ثبوت المصاهرة والعدة بالاتفاق، وكذلك لو اعتقد أنها زوجته، أو سريته ولم تكن كذلك، وكذلك لهذا الاعتقاد تأثير في سقوط ضمان الدم والمال على المشهور الذي دل عليه اتفاق الصحابة فيما أتلفه أهل البغي على أهل العدل حال القتال، وكذلك له تأثير في ثبوت الملك وسقوط العزم فيما ملكه الكفار وأتلفوه، ثم أسلموا فإنهم لا يضمنون ما أتلفوه وفاقا ولا يسلبون ما ملكوه على المشهور الذي دلت عليه السنة في ديار المهاجرين وغيرها، وله تأثير في الأقوال فيما إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فبان بخلافه فإنه لا كفارة عليه عند الجمهور، وهذا كثير في أبواب الفقه لكن هذا الاعتقاد ليس هو الذي قصدنا الكلام فيه هنا وإن كان يقوي ما ذكرناه في الجملة .

وهذا الذي ذكرناه من حدوث الفتوى بهذه الحيل، وكونها بدعة أمر لا يشك فيه أدنى من له علم بآثار السلف وأيام الإسلام وترتيب طبقات المفتين والحكام ويستبان ذلك بأشياء، منها: أن الكتب المصنفة في أحاديث رسول الله ﷺ وفتاوى الصحابة والتابعين، وقضاياهم ليس فيها عن أحد منهم شيء من ذلك ولو كانوا يفتون بشيء من ذلك لنقل كما نقل غيره، والذين صنفوا في الحيل من المتأخرين حرصوا على أثر يقتدون به في ذلك، فلم يجدوا شيئا من ذلك إلا ما حكي عن بعضهم من التعريض واللحن، وقولهم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، والكلام أوسع من أن يكذب ظريف، وليس هذا من الحيل التي قلنا إنها محدثة ولا من جنسها، فإن المعاريض عند الحاجة والتأويل في الكلام، وفي الحلف للمظلوم بأن ينوي بكلامه ما يحتمله اللفظ، وهو خلاف الظاهر، كما فعل الخليل ﷺ، وكما فعل الصحابي الذي حلف أنه أخوه وعنى أخوه في الدين، وكما قال أبو بكر رضي الله عنه، عن النبي ﷺ: " رجل يهديني السبيل "، وكما قال النبي ﷺ للكافر الذي سأله ممن أنت ؟ فقال: { نحن من ماء } إلى غير ذلك أمر جائز، وليس هو من الأمر الذي نحن فيه بسبيل فإن أكثر ما في ذلك أنه كتم عن المخاطب ما أراد معرفته، أو فهمه خلاف ما في نفسه مع أنه صادق فيما عناه والمخاطب ظالم في تعرف ذلك الشيء بحيث يكون جهله به خيرا له من معرفته به، وهذا فعل خير ومعروف مع نفسه، ومع المخاطب وسيأتي إن شاء الله عقيب هذا الوجه والذي يلي هذا ذكر أقسام الحيل، وأن هذا الضرب المأثور عن السلف من المعاريض جائز، وأنه ليس مثل الحيل التي تكلمنا عليها التي مضمونها الاحتيال على محرم، إما بسبب لا يباح به قط، أو يباح به إذا قصد بذلك السبب مقصوده الأصلي وكانت له حقيقة، أو الاحتيال على مباح بسبب محرم أو الاحتيال على محرم بحرام، وما أشبه هذه الأصول، فهذه الحيل التي قلنا لم يكن في أصحاب رسول الله ﷺ من يفتي بها، أو يعلمها بل كانوا ينهون عنها، وأما تعريف الطريق الذي ينال به الحلال، والاحتيال للتخلص من المأثم بطريق مشروع يقصد به ما شرع له، فهذا هو الذي كانوا يفتون به وهو من الدعاء إلى الخير، والدلالة عليه، كما قال النبي ﷺ لبلال: { بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا }، وكما قال عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب: " إن أوراقنا تزيف علينا أفنزيد عليها ونأخذ ما هو أجود منها قال: لا، ولكن ائت النقيع فاشتري بها سلعة، ثم بعها بما شئت، وكما قال علي رضي الله عنه: " إذا كان لأحدكم دراهم لا تنفق فليبتع بها ذهبا وليبتع به ما شاء " رواهما سعيد، فهذا يبيع بيعا بتاتا مقصودا، ويستوفي الثمن، ثم يشتري به ما أحب من غير ذلك المشتري، فأما إن كان من ذلك المشتري فإنهم كرهوه حيث يكون في مظنة أن يبتاع البيع الأول، ورخص فيه من لم يعتبر ذلك، قال محمد بن سيرين: كان يكره للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير، ثم يشتري منه بالدراهم دنانير، والبيع طريق مشروع لحصول الملك ظاهرا وباطنا بحيث لا يبقى للبائع فيه علاقة فإذا سلك وقصد به ذلك، فهذا جائز، وليس مما نحن فيه فإنه يقصد به المقصود الشرعي، وليس هذا موضع تفصيل ذلك فإنه سيأتي إن شاء الله إيضاح ذلك .

فإن قيل: فإذا ملك الرجل غيره شيئا ليقفه عليه، ثم على جهة متصلة من بعده فما حكم هذا في نفس الأمر، وكيف حكم على من علم أن هذا هو حقيقة هذا الوقف ؟ قيل: هذا التمليك والشرط يضمن شيئين، أحدهما: لا حقيقة له وهو انتقال الملك إلى المالك، والثاني: الإذن له في الوقف على هذا الوجه وموافقته عليه، وهذا في المعنى توكيل له في الوقف: فحكم هذا الملك قبل التمليك وبعده سواء لم يملكه المملك، ولو مات قبل وقفه لم يحل لورثته أخذه، ولو أخذه ولم يقفه على صاحبه ولم يرده إليه كان ظالما عاصيا، ولو تصرف فيه صاحبه بعد هذا التمليك لكان تصرفه فيه نافذا لنفوذه قبل التمليك - وهذا كله فيما بينه وبين الله، وكذلك في الظاهر إن قامت بينة بما تواطآ عليه، أو اعترف له المملك بذلك، أو كانت دلالة الحال تقتضي ذلك، لكن المالك قد أذن لهذا في أن يقفه وهو راض بذلك، وهذا الإذن والتوكيل، وإن كان قد حصل في ضمن عقد فاسد فإنه لا يفسد بفساد العقد كما لو فسدت الشركة، أو المضاربة، فإن تصرف الشريك والعامل صحيح بما تضمنه العقد مع الإذن مع فساد العقد، بل الإذن في مثل هذه الهبة الباطلة أولى من وجهين: أحدهما: أنهما قد اتفقا قبل العقد على أن يقفه على صاحبه وتراضيا على ذلك واتفقا على أن هذه الهبة ليست هبة بتاتا بل هي مثل هذه التلجئة فيكون الاتفاق للأول إذنا صحيحا، ورده بعده عقد فاسد، وكان مثل هذا مثل أن يتفقا على بيع تلجئة، أو هبة تلجئة، وإن لم يفعل في المبيع والموهوب كذا وكذا، فإن جميع تلك التصرفات المأذون فيها تقع صحيحة ; لأنها وكالة صحيحة في الباطن لم يرد بعدها ما يناقضها في الحقيقة، الثاني: أنا إنما أبطلنا هذا العقد لكونه قد اشترط على الموهب له أنه لا يتصرف فيه إلا بالوقف الذي هو في الظاهر واهب، والتصرف في العين لا يتوقف على الملك، بل يصح بطريق الوكالة وبطريق الولاية، فلا يلزم من بطلان الملك بطلان الإذن الذي تضمنه الشرط ; لأن الإذن مستند غير الملك ولا يقال: لما بطل الملك بطل التصرف الذي هو من توابعه التصرف في مثل هذه الصورة، وليس هو من توابع الملك وإنما هو من توابع ما هو في الظاهر ملك للثاني وفي الحقيقة ليس ملكا للثاني، بل هو باق على ملك الأول، وإذا كان من توابع ما هو في الحقيقة باق على ملك الأول، وفي الظاهر ملك للثاني فبطلان هذا

الثاني لا يستلزم بطلان الملك الحقيقي، ولا بطلان توابعه، يؤيد هذا أن الحيل التي استحلت بأسماء باطلة يجب أن تسلب تلك الأسماء المنحولة وتعطى الأسماء الحقيقية كما يسلب منها ما يسمى بيعا، أو نكاحا، أو هدية وهذه الأسماء تسمى ربا وسفاحا ورشوة، فكذلك هذه الهبة تسلب اسم الهبة وتسمى توكيلا، وإذنا، فإن صحة الوكالة لا تتوقف على لفظ مخصوص بل بكل قول دل على الإذن في التصرف فهو وكالة، وهذه المواطأة على هذه الهبة لا ريب أنها تدل على الإذن في هذا الوقف فتكون وكالة، وإذا كان كذلك فمن اعتقد صحة وقف الإنسان على نفسه كما بينا مأخذه، واعتقد صحة هذا الوقف، كان هذا الوقف لازما إذا وقفه ذلك المالك الموكل كلزومه لو وقفه المالك نفسه، أو وكيل محض، وينبني، على ذلك سائر أحكام الوقف الصحيح من حل التناول منه ونحو ذلك، ومن اعتقد وقف الإنسان على نفسه باطلا كان هذا وقفا منقطع الابتداء لكونه وقف على نفسه والوقف لا يجوز عليها، ثم على غيره والوقف جائز عليه، وفي هذه المسألة خلاف مشهور فقيل لا يصح الوقف بخلاف المنقطع الانتهاء ; لأن الطبقة الثانية والثالثة تبع للأولى فإذا لم تصح الأولى فما بعدها أولى، ولأن الواقف لم يرض أن يصير للثانية إلا بعد الأولى وما رضي به لم يرض به الشارع فالذي رضيه الشارع لم يرضه والذي رضيه لم يرضه الشارع، ولا بد في صحة التصرف من رضى المتصرف وموافقة الشرع، فعلى هذا هو باق على ملك الواقف، فإذا مات انبنى على أنه إذا قال هذا وقف بعد موتي صح، أو هو كالمعلق بالشرط، فإن قيل: هو كالمعلق بشرط، فلا كلام، وإن قيل بصحته أمكن أن يقال بصحة هذا الوقف بعد موته من الثلث، وأنه فيما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة بخلاف ما لو وقف على حربي، أو مرتد وبعد موته على من يصح لأنه إذا وقف على نفسه وبعد موته على جهة متصلة أمكن أن يلغى قوله " على نفسي " ويجعل كأنه قال بعد موتي على كذا وهذا يصححه من لا يصحح الوقف على تلك الجهة بعد موت فلان إلحاقا للوقف بالوصية فإنه من جنس العطايا، والعطية يصح تعليقها بشرط، وإنما جاز هذا في الوصايا إلحاقا بالميراث، وقيل إن هذا الوقف المنقطع الابتداء صحيح، ثم فيه وجهان: أحدهما: أنه يصرف في الحال مصرف الوقف المنقطع الابتداء فإذا مات هذا الواقف صرف إلى تلك الجهة الباطلة .

والثاني: أنه يصرف في الحال فإذا مات الواقف صرف إلى تلك الجهة الصحيحة جعلا له بمنزلة المعلق على شرط - وكذلك جعل في تعليق الواقف بالشرط وجهان لتردده بين شبه العتق والتحرير وبين شبه الهبة والتمليك، فإن قيل: فإن أقر من في يده عقار أنه وقف عليه من غيره، ثم على جهة متصلة وكان قد جعل هذا حيلة لوقفه على نفسه من غير أن يكون قد وقفه عليه أحد فما حكم ذلك في الباطن وحكم من علم ذلك من الموقوف عليه ؟ قيل: هذا أيضا إنما قصد إنشاء الوقف فيكون كمن أقر بطلاق، أو عتاق ينوي به الإنشاء ; لأن الوقف ينعقد باللفظ الصريح وباللفظ الكناية مع النية ويصح أيضا بالفعل مع النية عند الأكثرين، فإذا كان مقصوده هو الوقف على نفسه وتكلم بقوله هذا وقف علي، ثم على كذا وكذا وميزه بالفعل عن ملكه صار كما لو قال وقفته على نفسي، ثم على كذا وكذا ; لأن الإقرار يجوز أن يكون كتابة في الإنشاء، يجوز أن يقصد به الإخبار فإذا قصد به دين، بخلاف ما لو كان إقرارا محضا وهو يعلم كذب نفسه فيه كان وجود هذا الإقرار كعدمه فيما بينه وبين الله: ففرق بين إقرار قصد به الإخبار عما مضى، وإقرار قصد به الإنشاء وإنما ذكر بصيغة الإخبار لغرض من الأغراض، ومما يوضح هذا أن صيغ العقود قد قيل: هي إنشاءات، وقيل: إخبارات - وهي في الحقيقة إخبار عن المعاني التي في القلب وتلك المعاني أنشئت فاللفظ خبر والمعنى إنشاء إنما يتم حكمه باللفظ، فإذا أخبر أن هذا المكان وقف عليه وهو يعلم أن غيره لم يقفه عليه بل هو كاذب في هذا، وإنما مقصوده أن يصير هو واقفا له فقد أجمع لفظ الإخبار، وإرادته الوقف، فلو كان أخبر عن هذه الإرادة لم يكن فيه ريب أنه إنشاء وقف، لكن لما كان اللفظ إخبارا عن غير ما عناه والذي عناه لم يلفظ به صارت المسألة محتملة، لكن هذه النية مع هذا اللفظ ونحوه ومع الفعل الذي لو تجرد عن لفظ لكان مع النية بمنزلة المتكلم بالوقف يوجب جعل هذا وقفا، وهذا المعنى ينبني على ما تقدم قبل هذا -، وإذا كان هذا إنشاء للوقف فحكمه على ما تقدم والله سبحانه أعلم، وإذا كان الرجل ممن يعتقد مثلا بطلان وقف الإنسان على نفسه، وبطلان استثناء منفعة الوقف، فالواجب مع هذا الاعتقاد إما الوقف على غيره ظاهرا وباطنا، أو الوصية بالوقف بعد موته فيما يسوغ الوصية فيه والإمساك عما زاد، أو ترك الوقف وكذلك كل من اعتقد اعتقادا يرى أنه لا يسوغ له الخروج عنه فإنه يجب الوفاء بموجبه كالأمور التي لا شك في تحريمها من الربا والسفاح وغير ذلك، فإنه يجب الإمساك عما حرم الله سبحانه وأنه لا يستحل محارمه بأدنى الحيل ولا يتوهم الإنسان أن في الإمساك عن المحرم ضيقا، أو ضررا، أو في فعل الواجب فإنه من يتق الله تعالى يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ولا بد أن يبتلى المرء في أمر الله ونهيه تارة يترك ما يهوى وتارة يفعل ما يكره، كما يبتلى في الحوادث المقدرة بمثل ذلك، وقد قال سبحانه: { الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }، وقال سبحانه: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }، وقال سبحانه: { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون }، وقال تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } الآيات ومن هنا ينشأ . 

==================

16-


أقسام الحيل فنقول هي أقسام: أحدها: الطرق الخفية التي يتوسل بها إلى ما هو محرم في نفسه بحيث لا تحل بمثل ذلك السبب بحال فمتى كان المقصود بها حراما في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين وصاحبها يسمى داهية ومكارا وذلك من جنس الحيل على هلاك النفوس وأخذ الأموال وفساد ذات البين وحيل الشيطان على إغواء بني آدم وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض حق، وإظهار باطل في الأمور الدينية والخصومات الدنيوية، وبالجملة فكل ما هو محرم في نفسه فالتوسل إليه بالطرق الظاهرة محرم فكيف بالطرق الخفية التي لا تعلم وهذا مجمع عليه بين المسلمين، ثم من هذه الحيلة ما يقصد بها حصول المقصود، وإن ظهر أنه محرم كحيل اللصوص ولا مدخل لهذا في الفقه، ومنها ما يقصد به مع ذلك إظهار الحيل في الظاهر وهذه الحيل لا يظهر صاحبها أن مقصوده بها شر وقد لا يمكن الاطلاع على ذلك غالبا ففي مثل هذا قد تسد الذرائع إلى تلك المقاصد الخبيثة ومثال هذا إقرار المريض لوارث لا شيء له عنده، فيجعله حيلة إلى الوسيلة له وهذا محرم باتفاق المسلمين، وتعليمه هذا الإقرار حرام والشهادة عليه مع العلم بكذبه حرام والحكم بصحته مع العلم ببطلانه حرام فإن هذا كاذب غرضه تخصيص بعض الورثة بأكثر من حقه، فالحيلة نفسها محرمة والمقصود بها محرم، لكن لما أمن أن يكون صادقا اختلف العلماء في إقرار المريض لوارث: هل هو باطل سدا للذريعة وردا لإقرار الذي صادف حق المورث فيما هو متهم فيه، لأنه شاهد على نفسه فيما يتعلق به حقهم فترد التهمة كالشاهد على غيره، أو هو مقبول إحسانا للظن بالمقر عند الخاتمة، ؟، ومن هذا الباب احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج مع إمساكه بالمعروف بإنكارها للإذن للولي، أو بإساءة عشرته بمنع بعض حقوقه أو فعل ما يؤذيه، أو غير ذلك، واحتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه كان محجوزا عليه، أو احتيال المشتري بدعواه أنه لم ير المبيع، واحتيال المرأة على مطالبة الرجل بمال بإنكارها الإنفاق أو إعطاء الصداق إلى غير ذلك من الصور فهذا لا يستريب أحد في أن هذا من كبائر الإثم ومن أقبح المحرمات وهي بمنزلة لحم خنزير ميت حرام من جهة أنها في نفسها محرمة، لأنها كذب على مسلم، أو فعل معصية ومن جهة أنها ترسل بها إلى إبطال حق ثابت، أو إثبات باطل، ويندرج في هذا القسم ما هو من نفسه مباح لكن بقصد المحرم صار حراما كالسفر لقطع الطريق ونحو ذلك فصار هذا القسم مشتملا على قسمين .

وأما بيان الوجه الثاني فإن المحلل إنما يقصد أن ينكحها ليطلقها وكذلك المختلعة إنما تختلع، لأن تراجع العقد لا يقصد به ضده ونقيضه فإن الطلاق ليس مما يقصد في النكاح أبدا كما أن البيع لا يعقد للفسخ قط والهبة لا تعقد للرجوع فيها قط ولهذا قلنا: إنه ليس للإنسان أن يحرم منفردا، أو قارنا لقصد فسخ الحج والتمتع بالعمرة إلى الحج فإن الفسخ إعدام العقد ورفعه فإذا عقد العقد لأن يفسخه كان المقصود هو عدم العقد وإذا كان المقصود عدمه لم يقصد وجوده فلا يكون العقد مقصودا أصلا فيكون عبثا إذ العقود إنما تعقد لفوائدها وثمراتها والفسوخ رفع للثمرات والفوائد فلا يقصد أن يكون الشيء الواحد موجودا معدوما، فعلم أنه إنما قصد التكلم بصورة العقد والفسخ ولم يقصد حكم العقد فلا يثبت حكمه، ولهذا جاء في الآثار تسميته مخادعا ومدلسا، ولا يقال: مقصوده ما يحصل بعد الفسخ من الحل للمطلق لأن الحل إنما يثبت إذا ثبت العقد ثم انفسخ ومقصود العقد حصول موجبه ومقصود الفسخ زوال موجب العقد فإذا لم يقصد ذلك فلا عقد فلا فسخ فلا يترتب عليه تابعه وهذا بين لمن تأمله ولهذا يسمى مثل هذا متلاعبا مستهزئا بآيات الله سبحانه، وبهذا يظهر الجواب عن المقاصد الفرعية في النكاح مثل مصاهرة الأول وتربية الأخوات فإن تلك المقاصد لا تنافي النكاح بل تستدعي بقاءه ودوامه فهي مستلزمة لحصول موجب العقد وهكذا كل ما يذكر من هذا الباب فإن الشيء يفعل لأغلب فوائده ولا تزال فوائده بحيث لا تكون تلك المقاصد مبينة لحقيقته بل مجامعة لها مستلزمة إياها أما أن تفعل لرفع حقيقته وتوجد لمجرد أن تعدم فهذا هو الباطل وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين شراء العبد ليعتقه، أو الطعام ليتلفه فإن قصد العتق والإتلاف لا ينافي قصد البيع ولهذا لا يقال: إن هذا رفع للعقد وفسخ له، وإنما ينافي بقاء الملك ودوامه والأموال لا يقصد بملكها بقاؤها فإن الانتفاع بأعيانها ومنافعها لا يكون إلا بإزالة المالية عن الشيء المنتفع به، فإنها تقصد للانتفاع بذاتها كالأكل، أو ببذلها الديني أو الدنيوي كالبيع والعتق، أو بمنفعتها كالسكن، وجميع هذه الأشياء لا توجب فسخ العقد والإيضاح ولا ينتفع بها إلا مع بقاء الملك عليها فلهذا امتنع أن يقصد بملكها الانتفاع بتلف عينها، أو ببذل العين، وإن ذلك غير واقع في الشريعة، وقصد الفسخ في العقد محال في النكاح والبيع لم يبق إلا قصد الانتفاع مع بقاء الملك ونكاح المحلل ليس كذلك على ما لا يخفى، وقولهم: إن قصد تراجعهما قصد صالح لما فيه المنفعة، قلنا: هذه مناسبة شهد لها الشارع بالإلغاء والإهدار ومثل هذا القياس والتعليل هو الذي يحل الحرام ويحرم الحلال، والمصالح والمناسبات التي جاءت الشريعة بما يخالفها إذا اعتبرت فهي مراغمة بينة للشارع مصدرها عدم ملاحظة حكمة التحريم، وموردها عدم مقابلته بالرضى والتسليم وهي في الحقيقة لا تكون مصالح، وإن ظنها مصالح، ولا تكون مناسبة للحكم، وإن اعتقدها معتقد مناسبة بل قد علم الله ورسوله ومن شاء من خلقه خلاف ما رآه هذا القاصر في نظره ولهذا كان الواجب على كل مؤمن طاعة الله ورسوله فيما ظهر له حسنه وما لم يظهر، وتحكيم علم الله وحكمه على علمه وحكمه فإن خير الدنيا والآخرة وصلاح المعاش والمعاد في طاعة الله ورسوله، ومن رأى أن الشارع الحكيم قد حرم هذه عليه حتى تنكح زوجا غيره وعلم أن النكاح الحسن الذي لا ريب في حله هو نكاح الرغبة علم قطعا أن الشارع ليس متشوقا إلى رد هذه إلى زوجها إلا أن يقضي الله سبحانه ذلك بقضاء ييسره ليس للخلق فيه صنع وقصد لذلك، ولو كان هذا معنى مطلوبا لسنه الله - سبحانه - وندب إليه، كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين وكما كره الاختلاع والطلاق الموجب لزوال الألفة، وقد قال من لا ينطق عن الهوى ﷺ: { ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا تركت من شيء يباعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك }، وقد علم الله سبحانه كثرة وقوع الطلقات الثلاث فهلا ندب إلى التحليل وحض عليه كما حض على الإصلاح بين الناس، وإصلاح ذات البين ولما زجر النبي ﷺ وخلفاؤه الراشدون عن ذلك ولعنوا فاعله من غير استثناء نوع ولا ندب إلى شيء من أنواعه -، ثم لو كان مقصود الشارع تيسير عودها إلى الأول لم يحرمها عليه ولم يحوجه إلى هذا العناء فإن الدفع أسهل من الرفع - وأما ما يحصل من ذلك من الضرر فالمطلق هو الذي جلبه على نفسه { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير }، وقد ذكر ذلك غير واحد من الصحابة منهم ابن عباس لما سألوا عن المطلق ثلاثا فقالوا: لو اتقى الله لجعل له فرجا ومخرجا ولكنه لم يتق الله فلم يجعل له فرجا ومخرجا ومن فعل فعلا جر على نفسه به ضررا مثل قتل، أو قذف، أو غير ذلك مما يوجب عقوبة مطلقة، أو عقوبة محدودة لم يمكن الاحتيال في إسقاط تلك العقوبة ولو فعل ما عليه فيه كفارة لم يكن إلى رفعها سبيل، ولو ظاهر من امرأته وبه شبق وهو لا يجد رقبة لم يمكن وطؤها حتى يصوم شهرين متتابعين إلى غير ذلك من الأمور، فإنما يسعى الإنسان في مصلحة أخيه بما أحله الله وأباحه وأما مساعدته على أغراضه ما كرهه الله فهو إضرار به في دينه ودنياه وما هذه إلا بمنزلة أن يعين الرجل من يهوى امرأة محرمة على نيل غرضه، والخير كله في لزوم التقوى واجتناب المحرمات ألا ترى أن أهل السبت استحلوا ما استحلوا لما قامت في نفوسهم هذه الشهوات والشبهات ولعل الزوجين إذا اتقيا الله سبحانه جمع بينهما على ما أذن الله به ورسوله كما هو الواقع لعامة المتقين، وهذا الكلام كله إنما هو في التحليل المكتوم وهو الذي حكي وقوع الشبهة فيه عن بعض المتقدمين فأما إذا ظهر ذلك وتواطآ عليه فالأمر فيه ظاهر كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وبهذا الكلام ظهر أن هذا القسم من الحيل ملحق بالأول منها لكن الأول كل واحد من المحتال به، والمحتال عليه محرم في نفسه لو فرض تجرده عن الآخر وهنا إنما صار المحتال به محرما لاقترانه بالآخر فإنه لو جرد النكاح مثلا عن هذا القصد لكان حلالا والمحتال عليه لو حصل السبب المبيح له مجردا عن الاحتيال لكان مباحا، ثم هذا القسم فيه أنواع، أحدها: الاحتيال لحل ما هو يحرم في الحال كنكاح المحلل، الثاني: الاحتيال لحل ما انعقد سبب تحريمه وهو ما يحرم إن تجرد عن الحيلة كالاحتيال على حل اليمين فإن يمين الطلاق يوجب تحريم المرأة إذا حنث فإن المحتال يريد إزالة التحريم مع وجود السبب المحرم وهو الفعل المحلوف عليه وكذلك الحيل الربوية كلها فإن المحتال يريد مثلا أخذ مائة مؤجلة ببذل ثمانين حالة فيحتال ليزيل التحريم مع بقاء السبب المحرم وهو هذا المعنى .

النوع الثالث: الاحتيال على إسقاط واجب قد وجب، مثل أن يسافر في أثناء يوم في رمضان ليفطر، ومثل الاحتيال على إزالة ملك مسلم من نكاح، أو مال، أو نحوهما، الرابع: الاحتيال لإسقاط ما انعقد سبب وجوبه، مثل الاحتيال لإسقاط الزكاة، أو الشفعة أو الصوم في رمضان وفي بعضها يظهر أن المقصود خبيث، مثل الاحتيال لإسقاط الزكاة، أو صوم الشهر بعينه، أو الشفعة لكن شبهة المرتكب أن هذا منع للوجوب لا رفع له وكلاهما في الحقيقة واحد وفي بعضها يظهر أن السبب المحتال به لا حقيقة له، مثل الإفراد لابنه أو تمليكه ناويا للرجوع، أو تواطؤ المتعاقدين على خلاف ما أظهراه كالتواطؤ على التحليل وفي بعضها يظهر كلا الأمرين وفي بعضها يخفى كلاهما كالتحليل وخلع اليمين .

الوجه الثالث والعشرون: إنك إذا تأملت عامة الحيل وجدتها رفعا للتحريم أو الوجوب مع قيام المعنى المقتضي للوجوب أو التحريم فتصير حراما من وجهين، من جهة أن فيها فعل المحرم وترك الواجب، ومن جهة أنها مع ذلك تدليس وخداع وخلابة ومكر ونفاق واعتقاد فاسد وهذا الوجه أعظمها إثما فإن الأول بمنزلة سائر العصاة وأما الثاني فبمنزلة البدع والنفاق، ولهذا كان التغليظ على من يأمر بها ويدل عليها متبوعا في ذلك أعظم من التغليظ على من يعمل بها مقلدا، فأما إذا عمل بها معتقدا جوازها فهذا هو النهاية في الشر وهذا معنى قول أيوب لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون علي وإن كان المجتهد معذورا إذا استفرغ وسعه في طلب الحق فذاك من باب المانع للحوق الذم وإلا فالمقتضي للذم قائم في مثل هذا الموضع، إذا خفي على بعض الناس ما في الفعل من القبح كان ذلك مؤكدا لإيضاح قبحه وهذا الوجه مما اعتمد عليه الإمام أحمد رضي الله عنه قال أبو طالب سمعت أبا عبد الله قال له رجل في كتاب الحيل إذا اشترى الرجل أمة فأراد أن يقع بها يعتقها ثم يتزوجها فقال أبو عبد الله: بلغني أن المهدي اشترى جارية فأعجبته فقيل له أعتقها وتزوجها فقال سبحان الله ما أعجب هذا أبطلوا كتاب الله والسنة جعل الله على الحرائر العدة من جهة الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من جهة الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقه على المكان فيتزوجها فيطأها فإن كانت حائلا كيف يصنع يطؤها رجل اليوم ويطأها الآخر غدا هذا نقض للكتاب والسنة، قال النبي ﷺ: { لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض }، ولا يدرى حامل أم لا سبحان الله ما أسمج هذا، وقال في رواية أبي داود وذكر الحيل من أصحاب الرأي فقال يحتالون لنقض سنن رسول الله ﷺ وقال في رواية صالح وأبي الحارث هذه الحيل التي وضعوها عمدوا إلى السنن فنقضوها والشيء الذي قيل لهم إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه وسبق تمام كلامه وهذا كثير في كلامه، وبيان ذلك: أنا نعلم باضطرار أن النبي ﷺ لما نهى عن وطء الحبالى وقال: { لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرئ بحيضة }، إن من أكثر المقاصد بالاستبراء أن لا يختلط الماءان ولا يشتبه النسب، ثم إن الشارع بالغ في هذه الصيانة حتى جعل العدة ثلاثة قروء وأوجب العدة على الكبيرة والصغيرة وإن كان له مقصود آخر غير استبراء الرحم، فإذا ملك أمة يطؤها سيدها وأعتقها عقب ملكها وتزوجها ووطئها الليلة صار الأول قد وطئها البارحة وهذا قد وطئها الليلة وباضطرار نعلم أن المفسدة التي من أجلها وجب الاستبراء قائمة في هذا الوطء، ومن توقف في هذا كان في الشرعيات بمنزلة التوقف في الضروريات من العقليات، وكذلك نعلم أن الشارع حرم الربا لما فيه من أخذ فضل على ماله مع بقاء ماله في المعنى فيكون أكلا للمال بالباطل كأخذه بالقمار وهو يسد طريق المعروف والإحسان إلى الناس، فإنه متى جوز لصاحب المال الربا لم يكن أحد يفعل معروفا من قرض ونحوه إذا أمكنه أن يبذل له كما يبذل القروض مع أخذ فضل له ولهذا قال سبحانه: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } فجعل الربا نقيض الصدقة ; لأن المربي يأخذ فضلا في ظاهر الأمر يزيد به ماله والمتصدق ينقص ماله في الظاهر لكن يمحق الله الربا ويربي الصدقات، وقال سبحانه في الآية الأخرى: { وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون }، فكما أن الشارع أوجب الصدقة التي فيها الإعطاء للمحتاجين حرم الربا الذي فيه أخذ المال من المحتاجين ; لأنه سبحانه علم أن صلاح الخلق في أن الغني يؤخذ منه ما يعطى للفقير وأن الفقير لا يؤخذ منه ما يعطى للغني، ثم رأيت هذا المعنى مأثورا على علي بن موسى الرضى رضي الله عنه وعن آبائه أنه سئل لم حرم الله الربا ؟ فقال: لئلا يتمانع الناس المعروف، فهذا في الجملة ينبه على بعض علل الربا، فحرم أن يعطي الرجل آخر ألفا على أن يأخذ منه بعد شهر ألفا ومائة وعلى أن يأخذ منه كل شهر مائة غير الألف، وربا النساء هو الذي يتم به غرض المربي في أكثر الأمور، وإنما حرم ربا الفضل ; لأنه قد يفضي إلى الربا ولهذا روي عن النبي ﷺ أنه قال: { لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الدينار بالدينارين إني أخاف عليكم الرماء } - والرما هو الربا - رواه الإمام أحمد، وهذه الزيادة وهي قوله، إني أخاف عليكم الرما محفوظة عن عمر بن الخطاب من غير وجه، وأسقط اعتبار الصفات مع إيجاد الجنس وإن كانت مقصودة لئلا يفضي اعتبارها إلى الربا ولهذا قال ﷺ: { إنما الربا في النسيئة } متفق عليه، وبالجملة فلا يشك المؤمن أن الله إنما حرم على الرجل أن يعطي درهما ليأخذ درهمين إلى أجل إلا لحكمة فإذا جاز أن يقول بعني ثوبك بألف حالة ثم يبيعه إياه بألف ومائتين ومؤجلة بالغرض الذي كان للمتعاقدين في إعطاء ألف بألف ومائتين هو بعينه موجود هاهنا وما أظهراه من صورة العقد لا غرض لهما فيه بحال وليس عقدا ثابتا، ومعلوم أن الله سبحانه إنما حرم الربا وعظمه زجرا للنفوس عما تطلبه من أكل المال بالباطل فإذا كانت هذه الحيلة يحصل معها غرض النفوس من الربا علم قطعا أن مفسدة الربا موجودة فيها فتكون محرمة، وكذلك السفاح حرمه الله تعالى بحكم كثيرة وقطع تشبيهه بالنكاح بكل طريق فأوجب في النكاح الولي والشاهدين والعدة وغير ذلك، ومعلوم أن الرجل لو تزوج المرأة ليقيم معها ليلة أو ليلتين ثم يفارقها بولي وشاهدين وغير ذلك كان سفاحا وهو المتعة المحرمة فإذا لم يكن له غرض معها ألم يكن أولى باسم السفاح ؟ وكذلك نعلم أن الله سبحانه إنما أوجب الشفعة للشريك لعلمه بأن مصير هذا الشقص للشريك مع حصول مقصود البائع من الثمن خير من حصوله لأجنبي ينشأ بسببه ضرر الشركة والقسمة فأوجب هذا الخير الذي لا شر فيه، فإذا سوغ الاحتيال على إسقاطها ألم يكن فيه بقاء فساد الشركة والقسمة وعدم صلاح الشفعة والتكميل مع وجود حقيقة سببها وهو البيع، وهذا كثير في جميع الشرعيات فكل موضع ظهرت للمكلفين حكمته أو غابت عنهم لا يشك مستبصر أن الاحتيال يبطل تلك الحكمة التي قصدها الشارع فيكون المحتال مناقضا للشارع مخادعا في الحقيقة لله ورسوله وكلما كان المرء أفقه في الدين وأبصر بمحاسنه كان فراره عن الحيل أشد، واعتبر هذا بسياسة الملوك بل بسياسة الرجل أهل بيته فإنه لو عارضه بعض الأذكياء المحتالين في أوامره ونواهيه بإقامة صورها دون حقائقها لعلم أنه ساع في فساد أوامره، وأظن كثيرا من الحيل إنما استحلها من لم يفقه حكمة الشارع ولم يكن له بد من التزام ظاهر الحكم فأقام رسم الدين دون حقيقته ولو هدي رشده لسلم لله ورسوله وأطاع الله ظاهرا وباطنا في كل أمره وعلم أن الشرائع تحتها حكم وإن لم يهتد هو لها فلم يفعل سببا يعلم أنه مزيل لحكمة الشارع من حيث الجملة وإن لم يعلم حقيقة ما أزال إلا أن يكون منافقا يعتقد أن رأيه أصلح في هذه القضية خصوصا أو فيها وفي غيرها عموما لما جاءت به الشريعة أو صاحب شهوة قاهرة تدعوه إلى تحصيل غرضه ولا يمكنه الخروج عن ظاهر رسم الإسلام، أو يكون ممن يحب الرياسة والشرف بالفتيا التي ينقاد له بها الناس ويرى أن ذلك لا يحصل عند الذين اتبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين إلا بهذه الحيل أو يعتقد أن الشيء ليس محرما في هذه القضية المخصوصة لمعنى رآه لكنه لا يمكنه إظهار ذلك ; لأن الناس لا يوافقونه عليه ويخاف الشناعة فيحتال بحيلة يظهر بها ترك الحرام ومقصوده استحلاله فيرضي الناس ظاهرا أو يعمل بما يراه باطنا ولهذا قال ﷺ: { من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين }، وإنما الفقه في الدين فهم معاني الأمر والنهي ليستبصر الإنسان في دينه ألا ترى قوله تعالى: { ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فقرن الإنذار بالفقه فدل على أن الفقه ما وزع عن محرم أو دعا إلى واجب وخوف النفوس مواقعه المحظورة لا ما هون عليها استحلال المحارم بأدنى الحيل ومما يقضي منه العجب أن الذين ينتسبون إلى القياس واستنباط معاني الأحكام والفقه من أهل الحيل هم أبعد الناس عن رعاية مقصود الشارع وعن معرفة العلل والمعاني وعن الفقه في الدين، فإنك تجدهم يقطعون عن الإلحاق بالأصل ما يعلم بالقطع أن معنى الأصل موجود فيه، ويهدرون اعتبار تلك المعاني، ثم يربطون الأحكام بمعاني لم يومئ إليها شرع ولم يستحسنها عقل، { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } وإنما سبب نسبة بعض الناس لهم إلى الفقه والقياس ما انفردوا به من الفقه وليس له أصل في كتاب ولا سنة، وإنما هو رأي محض صدر عن فطنة وذكاء كفطنة أهل الدنيا في تحصيل أغراضهم فتسموا بأشرف صفاتهم وهو الفهم الذي هو مشترك في الأصل بين فهم طرق الخير وفهم طرق الشر إذ أحسن ما فيهم من هذا الوجه فهمهم لطرق تلك الأغراض والتوصل إليها بالرأي، فأما أهل العلم بالله وبأمره فعلمهم متلقى عن النبوة إما نصا أو استنباطا فلا يحتاجون إلى أن يضيفوه إلى أنفسهم وإنما لهم فيه الاتباع فمن فهم حكمة الشارع منهم كان هو الفقيه حقا ومن اكتفى بالاتباع لم يضره أن لا يتكلف علم ما لا يلزمه إذا كان على بصيرة من أمره مع أنه هو الفقه الحقيقي والرأي السديد والقياس المستقيم - والله سبحانه أعلم .

واعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع سد الطريق إلى ذلك المحرم بكل طريق، والمحتال يريد أن يتوسل إليه، ولهذا لما اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطا سد ببعضها التذرع إلى الزنا والربا وكمل بها مقصود العقود لم يمكن المحتال الخروج عنها في الظاهر، فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع الشارع منه أتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع ذريعته فلا يبقى لتلك الشروط التي تأتي بها فائدة ولا حقيقة، بل يبقى بمنزلة العبث واللعب وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة، ولهذا تجد الصحيح الفطرة لا يحافظ على تلك الشروط لرؤيته أن مقصود الشروط تحقيق حكم ما شرطت له والمنع من شيء آخر وهو إنما قصده ذاك لا الآخر ولا ما شرطت له، ولهذا تجد المحتالين على الربا وعلى حل المطلقة وعلى حل اليمين لا يتمسكون بشروط البيع والنكاح والخلع لعدم فائدة تتعلق لهم بذلك ولتعلق رغبتهم بما منعوا منه من الربا وعود المرأة إلى زوجها وإسقاط الثمن المعقودة، واعتبر هذا بالشفعة فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه وهو لا يخرج الملك عن مالكه بقيمة أو بغير قيمة إلا لمصلحة راجحة، وكانت المصلحة هنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرار الشركة والقسمة وليس في هذا التكميل ضرر على الشريك البائع ; لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشتري والشريك أو الأجنبي والذي يحتال لإسقاطها بأن يكون البائع غرضه بيعه للأجنبي دون الشريك إما ضرارا للشريك أو نفعا للأجنبي ليس هو مناقضا لمقصود الشارع مضادا له في حكمه، فالشارع يقول لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك ; وهذا يقول لا تلتفت إلى الشريك وأعطه لمن شئت، ثم إذا كان الثمن مثلا ألف درهم فعاقده على ألفين وقبض منه تسعمائة وصارفه عن الألف ومائة بعشرة دنانير فتعذر على الشريك الأخذ أليس عين مقصود الشارع فوته مع إظهاره أنه إنما فعل ما أذن الشارع فيه وهذا بين لمن تأمله، واعلم أن المقصود هنا بيان تحريم الحيل وأن صاحبها متعرض لسخط الله سبحانه وأليم عقابه، ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان وذلك في كل حيلة بحسبها، فلا يخلو الاحتيال أن يكون من واحد أو من اثنين فأكثر، فإن كان الاحتيال من اثنين فأكثر، فإن كانا عقدا بيعين تواطآ عليهما تحيلا إلى الربا كما في العينة حكم بفساد ذينك العقدين ويرد إلى الأول رأس ماله كما ذكرت عائشة لأم زيد بن أرقم، وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا لا يحل الانتفاع به بل يجب رده إن كان باقيا وبدله إن كان فائتا، وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض، أو إجارة وقرض، أو مضاربة أو شركة، أو مساقاة أو مزارعة مع قرض حكم بفسادهما فيجب أن يرد عليه بدل ماله فيما جعلاه قرضا، والعقد الآخر فاسد له حكم الأنكحة الفاسدة، وكذلك إن كان نكاحا تواطآ عليه كان نكاحا فاسدا له حكم الأنكحة الفاسدة، وكذلك إذا تواطآ على بيع أو هبة لإسقاط الزكاة، أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد أو وقف فساد، مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتواطئ رجلا على أن تهبه العبد فيزوجها به ثم يهبها إياه لينفسخ النكاح فإن هذا البيع والهبة فاسدان في جميع الأحكام، فإن كان الاحتيال من واحد فإن كانت حيلة يستقل بها لم يحصل بها غرضه، فإن كانت عقدا كان عقدا فاسدا مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا تجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة في شيء من الأحكام، لكن إن ظهر المقصود ترتب عليه الحكم ظاهرا وباطنا وإلا بقيت فاسدة في الباطن فقط، وإن كانت حيلة لا يستقل بها مثل أن ينوي التحليل ولا يظهر للزوجة، أو يرتجع المرأة ضرارا بها، أو يهب ماله ضرارا لورثته ونحو ذلك كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت، وإذا علم الموهوب له أو الموصى له غرضه لم يحصل له الملك في الباطن فلا يحل الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه لولا العقد المحتال به، وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذي لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة، ولهذا نظائر في الشريعة كثيرة، وإن كانت الحيلة له وعليه كطلاق المريض صحح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصحح من حيث إنه يمنع الإرث، فإنه إنما منع من قطع الإرث لا من إزالة ملك البضع، وأما إذا كانت الحيلة فعلا يفضي إلى غرض له مثل أن يسافر في الصيف ليتأخر عنه للصوم إلى الشتاء لم يحصل غرضه، بل يجب عليه الصوم في هذا السفر، فإن كان يفضي إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه لينفسخ نكاحه، أو مثل أن يباشر المرأة ابن زوجها أو أبوه عند من يرى ذلك محرما فهذه الحيلة بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها ; لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق لله يترتب عليها فسخ النكاح ضمنا، والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد، وصار هذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة دهنه أو خله أو دبسه بأن يلقي فيه نجاسة، فإن نجاسة المائعات بالمخالطة وتحريم المصاهرة بالمباشرة أحكام تنبت بأمور حسية لا ترفع الأحكام مع وجوب تلك الأسباب .

الطريق الثاني: إبطال التحليل في النكاح، فصل: وأما الطريق الثاني في إبطال التحليل في النكاح فهو الدلالة على عين المسألة وذلك من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس، الواجب عند تساوي الدلالة الابتداء بالكتاب، ولكن لكون دلالة السنة أبين ابتدأنا بها، وفي هذا الطريق مسالك، المسلك الأول ما رواه سفيان الثوري عن ابن قيس الأزدي عن هذيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: { لعن رسول الله الواشمة والموشومة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا، وموكله }، رواه أحمد والنسائي، وروى الترمذي منه: { لعن المحلل والمحلل له } وقال: حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس، ورواه أحمد من حديث أبي الواصل عن ابن مسعود عن النبي: { لعن الله المحلل والمحلل له } وعن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث عن ابن مسعود قال: { آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوي الصدقة والمتعدي فيها والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته والمحلل والمحلل له ملعونون على لسان محمد ﷺ يوم القيامة } رواه أحمد، والنسائي، ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث الشعبي عن الحارث عن علي عن النبي ﷺ: { أنه لعن المحلل والمحلل له }، وروي عن عثمان بن يثعب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: { لعن الله المحلل والمحلل له } رواه أحمد وابن أبي شيبة والجوزجاني وإسناده جيد، وقال يحيى بن معين وعثمان بن الأخنس ثقة، والذي رواه عن عبد الله بن جعفر القرشي وهو ثقة من رجال مسلم وثقه الإمام أحمد ويحيى وعلي وغيرهم، وعن ابن عباس عن النبي ﷺ نحو ذلك رواه ابن ماجه، وروى ابن ماجه والجوزجاني من حديث عثمان بن صالح قال سمعت الليث بن سعد يقول قال مشرح بن هاعان قال عقبة بن عامر قال رسول الله ﷺ: { ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له }، وفي لفظ الجوزجاني: " الحال " بدل " المحلل " رواه الجوزجاني عن عثمان، وقال كانوا ينكرون على عثمان هذا الحديث إنكارا شديدا، قلت: وإنكار من أنكر هذا الحديث على عثمان غير جيد إنما هو لتوهم انفراده به عن الليث وظنهم أنه لعله أخطأ فيه حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث، كما قد يتوهم بعض من يكتب الحديث أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل من ليس بالمشهور من أصحابه كان ذلك شذوذا فيه وعلة قادحة - وهذا لا يتوجه هاهنا لوجهين، أحدهما: أنه قد تابعه عليه أبو صالح كاتب الليث عنه، رويناه من حديث أبي بكر القطيعي أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي: حدثني العباس المعروف بابن فريق: وحدثنا أبو صالح: حدثني الليث به فذكره، ورواه أيضا الدارقطني في سننه، وحدثنا أبو بكر الشافعي: حدثنا إبراهيم بن الهيثم: أخبرنا أبو صالح فذكر، الثاني: أن عثمان بن صالح هذا المصري ثقة، روى عنه البخاري في صحيحه، وروى عنه ابن معين وأبو حاتم الرازي، وقال الشيخ صالح سليم الناحية قيل له: كان يلقن قال: لا، ومن كان بهذه المثابة كان ما ينفرد به حجة، وإنما الشاذ ما خالف به الثقات لا ما انفرد به عنهم، فكيف إذا تابعه مثل أبي صالح وهو كاتب الليث وأكثر الناس حديثا عنه وهو ثقة أيضا وإن كان قد وقع في بعض حديثه غلط، ومشرح بن هاعان قال فيه ابن معين، ثقة، وقال الإمام أحمد هو معروف، فثبت أن هذا الحديث جيد وإسناده حسن، وقال سعيد في سننه حدثنا محمد بن نشيط البصري: سألت بكر بن عبد الله المزني عن رجل طلق امرأته ألبتة قال: { لعن المحلل والمحلل له } أولئك كانوا يسمون في الجاهلية بالتيس المستعار، وعن الحسن البصري قال كان المسلمون يقولون هو التيس المستعار، وقياس العربية أن يقال أو محل كما يجيء في أكثر الروايات وأما ما وقع في بعضها من لفظ الحال ووقع مثله في كلام أحمد فإن كان لغة لم تبلغنا، وإلا فيجوز أن يسمى حالا لأنه قصد حل عقدة التحريم فيكون الاسم الأول من التحليل الذي هو ضد التحريم وهذا الاسم من الحل الذي هو ضد العقد، ويحتمل أن يسمى حالا على معنى النسب من الحل كما يقال لابن وتامر نسبة إلى التمر واللبن ولم يقصد به اسم الفاعل من التحليل، ويؤيد هذا: أنه إذا قيل والمحلل له ولم يقل المحلول له، ويجوز أن يكون سمي بذلك لأنه قصد تحليلها لغيره بواسطة حلها له وحله لها فيكون اسم الفاعل من حل يحل فهو حال ضد حرم يحرم، ولأنه توسط أن يكون حلالا لها إلى أن تصير حلالا للغير ثم وجدناه لغة منقولة ذكرها ابن القطاع في أفعاله وغيره يقال حل المرأة لزوجها وأحلها وحلها له إذا تزوجها ليحلها، فهذه سنن رسول الله ﷺ بينة في أنه لعن المحلل والمحلل له وذلك من أبين الأدلة على أن التحليل حرام باطل ; لأنه لعن المحلل فعلم أن فعله حرام ; لأن اللعن لا يكون إلا على معصية، بل لا يكاد يلعن إلا على فعل كبيرة إذ الصغيرة تقع مكفرة بالحسنات إذا اجتنبت الكبائر، - واللعنة هي الإقصاء والإبعاد عن رحمة الله ولن يستوجب ذلك إلا بكبيرة، وكذلك روي عن ابن عباس أنه قال: كل ذنب ختم بغضب أو لعنة أو عذاب أو نار فهو كبيرة رواه عنه ابن أبي طلحة، وهذا دليل على بطلان العقد ; لأن النكاح المحرم باطل باتفاق الفقهاء، كيف وقد حملوا نهيه أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها على التحريم والفساد، وليس هذا موضع استقصاء ذلك، ثم إنه لعن المحلل له فتبين بذلك أيضا أنها لم تحل له بذلك التحليل إذ لو حلت له لكان نكاحه مباحا فلم يستحق اللعن عليه، فعلم أن الذي فعله المحلل حرام باطل، وأن تزوج المطلق ثلاثا لأجل هذا التحليل حرام باطل، ومع أن مجرد تحريم عقد النكاح كاف في بطلانه ففي خصوص هذا الحديث ما يدل على فساد العقدين لأنه ﷺ لعن المحلل له، فلا يخلو إما أن يكون حل للثاني تزوجها، وإما أن لا يكون حل، والأول باطل ; لأن النبي ﷺ لعنه ولو كانت قد حلت له لكان تزوجه بها جائزا ولم يجز لعنه فتعين الثاني، وإذا لم تكن حلالا للثاني فكل امرأة يحرم التزوج بها فالعقد عليها باطل، وهذا ثابت بالإجماع المتيقن بل بالعلم الضروري من الدين، وذلك أن محل العقد كالمبيع والمنكوحة إذا لم يكن مباحا كالميتة والدم والمعتدة والمزوجة كان العقد عليه باطلا بالضرورة والإجماع، وإذا ثبت أنها لم تحل للثاني وجب أن يكون العقد الأول عليه باطلا ; لأنه لو كان صحيحا لحصل به الحل كسائر الأنكحة الصحيحة والكلام المحفوظ لفظا ومعنى في قوله: { حتى تنكح زوجا غيره } ومن قال إن النكاح صحيح وهي لا تحل به فقد أثبت حكما بلا أصل ولا نظير، وهذا لا يجوز، وقولهم تعجل ما أجل الله فعوقب بنقيض قصده، قلنا إن كان المتعجل به مما لا يمكن إبطاله كالقتل قطعنا عنه حكمه، وكذلك إن كان مما لا يمكن رفعه كالطلاق في المرض فإنا نقطع عنه حكمه، والمقصود رفعه وهو الإرث ونحوه، وأما النكاح فإنه عقد قابل للإبطال فيبطل، ثم إذا عاقبنا المحلل له ; لأنه تعجل المؤجل فكيف لا نعاقب المحلل الذي هو معجل المؤجل، وهو أحق بالعقوبة لعدم الغرض له في هذا الفعل، وإذا انتفى الداعي إلى المعصية كانت أقبح كزنا الشيخ وزهو الفقير وكذب الملك، فإن قيل: إلا أن التحريم وإن اقتضى فساد العقد فإنما ذاك إذا كان التحريم ثابتا من الطرفين، فإذا كان التحريم من أحدهما لم يوجب الفساد كبيع المصراة والمدلس ونحو ذلك، وهنا التحليل المكتوم إنما هو حرام على الزوج المحلل، فأما المرأة ووليها فليس حراما عليهما إذا لم يعلما بقصد الزوج فلا يكون العقد فاسدا كما ذكرنا من النظائر، إذ في إفساده إضرار المغرور من المرأة والولي، وصار هذا كما لو اشترى سلعة ليستعين بها على معصية والبائع لا يعلم قصده فإن هذا العقد لا يحكم بفساده وإن حرم على المشتري وكذلك المستأجر ونحوه، فالموجب للتحريم كتمان أحدهما لنقص المعقود عليه أو كذبه في وصفه، وإذا كان هذا العقد غير فاسد أثبت الحل ; لأنه مقتضى العقد الصحيح، ثم قد يقال تحل به للأول عملا بالعموم اللفظي والمعنوي وطردا للنظام القياسي، وقد يقال بل لا تحل له كما قاله محمد بن الحسن وغيره، بناء على أن السبب معصية والمعصية لا تكون سببا للاستحقاق، والحل وإن حكم بصحة العقد ووقوع السبب إذا كان ممكنا لا يمكن إبطاله كالطلاق والقتل للمورث، ولا يلزم من حلها للزوج المحلل حلها للزوج المطلق ; لأن الحل الأول حصل ضرورة تصحيح العقد لأجل حق العاقد الآخر ومتى صح بالنسبة إلى المرأة فقد استحقت الصداق والنفقة واستحلت الاستمتاع ; ولا يثبت هذا إلا مع استحقاق الزوج ملك النكاح واستحلاله الاستمتاع بخلاف المطلق فإنه لا ضرورة هناك تدعو إلى تصحيح عقده، ويؤيد هذا القول: أن بعض السلف منهم عمر وعطاء وقد روي عنهم جواز إمساك الثاني لها إذا حدثت له الرغبة ومنعوا عودها للأول، قلنا: إذا انفرد أحد العاقدين بعلمه بسبب التحريم ; فإما أن يكون التحريم لأجل حق العاقد الآخر، وإما أن يكون لحق الله مثلا، فإن كان لأجل حق العاقد الآخر كما في بيع المدلس والمصراة ونكاح المعيبة المدلسة ونحو ذلك فهذا العقد صحيح في حق هذا المغرور باطنا وظاهرا بحيث يحل له ما ملكه بالعقد وإن علم فيما بعد أنه كان مغرورا، وإما في حق القار فهل يكون باطلا في الباطن بحيث يحرم عليه الانتفاع أو لا يكون باطلا أو يقال ملكه ملكا حسيا ؟ هذا مما قد يختلف فيه الفقهاء، ومسألتنا ليست من هذا الضرب، وإن كان التحريم لغير حق المتعاقدين بل لحق الله سبحانه، أو لحق غيرهما مثل أن يبيعه ما لا يملكه والمشتري لا يعلم، أو يبيعه لحما يقول هو ذكي وهو ذبيحة مجوسي أو وثني، ومثل أن يتزوج امرأة وهو يعلم أنها أخته من الرضاعة وهي لا تعلم ذلك ; أو يكون أحد المبايعين محجورا عليه وهو يعلم بالحجر والآخر لا يعلم أو بالعكس، أو لا يعلم أن هذا الحجر يبطل التصرف، أو يكون العقد مشتملا على شرط أو وقت أو وصف، أو أحدهما لا يعلم حكمه والآخر يعلم، إلى نحو هذه الصور التي يكون العقد ليس محلا في نفس الأمر، أو العاقد ليس أهلا من الطرفين فهنا العقد باطل في حق العالم بالتحريم باطنا وظاهرا، وإن كان الفقهاء قد اختلفوا هل تستحق المرأة في مثل هذا مهرا، وفيه عن أحمد روايتان، إحداهما: تستحقه وأظنه قول الشافعي، والأخرى: لا تستحقه وأظنه قول مالك فإنما ذاك عند من أوجبه لئلا يخلو الوطء الملحق للنسب عن عوض، ووجوب المهر والعدة والنسب ليست من خصائص العقد الصحيح فإنما يثبت في وطء الشبهة، أفلم يكن في إيجاب من أوجب المهر ما يقتضي صحة العقد بوجه ما كما أنهم يوجبون العدة في مثل هذا ويلحقون بهم النسب مع بطلان العقد، بل كل نكاح فاسد يثبت فيه ذلك وإن كان مجمعا على فساده، وأما في حق من يعلم التحريم كالزوج والمشتري المغرورين فالعقد في حقهما باطل وإن لم يعلما بطلانه، وما علمت أحدا من العلماء يصفه بالصحة من وجه ما، وإن كان مقتضى أصول بعض الكلاميين أن يكون صحيحا في حق المشتري إما ظاهرا وإما باطنا، لكن الفقهاء على أنه فاسد، فلا يثبت له بهذا العقد ملك ولا إباحة شيء كان حراما عليه في الباطن، لكنه لا يعاقب بالوطء ولا بان بالانتفاع بما ابتاعه ; لأنه لا يعلم التحريم، وكونه لم يعلم التحريم لا يوجب أن يكون مباحا له كما أن من لم يعلم تحريم الزنا والخمر وتناولهما لا نقول إنه فعل مباحا له فإن الله سبحانه ما أباح هذا لأحد قط لكن نقول فعل ما لم يعلم تحريمه، ويتحرر الكلام في مثل هذا بنظرين، أحدهما: في الفعل في الباطن هل هو حرام أو ليس بحرام بل مباح ؟ والثاني: في الظاهر هل هو مباح أو ليس بحرام بل عفو ؟ النظر الأول: هل يقال الفعل حرام عليه في الباطن لكنه لما لم يعلم التحريم عذر لعدم علمه، والفقهاء من أصحابنا وغيرهم ومن يخوض معهم من أهل الكلام ونحوهم يتنازعون في مثل هذا، فكثير من المتكلمين وبعض الفقهاء يقولون: هذا ليس بحرام عليه في هذه الحال أصلا، وإن كان حراما في الأصل وفي غير هذه الحال كالميتة للمضطر ; لأن التحريم هو المنع من الفعل والمنع لا يثبت حكمه إلا بإعلام الممنوع أو تمكنه من العلم وهذا لم يعلم التحريم ولا أمكنه علمه فلا تحريم في حقه، قالوا والتحريم الثابت في الباطن دون الظاهر لا يعقل فإن حد المحرم ما ذم فاعله أو عوقب أو ما كان سببا للذم أو العقاب أو ما استحق به ذما أو عقابا، وهذا الفعل لم يثبت فيه شيء من هذه الخصائص، نعم وهذا القول يقوى عند من لا يرى التحريم والتحليل يوجب إلا مجرد نسبة وإضافة تثبت للفعل لتعلق الخطاب به، وهذا أيضا قول من يقول كل مجتهد مصيب باطنا وظاهرا، ثم إن كان قد استحله بناء على إمارة شرعية قالوا هو حلال باطنا وظاهرا حلا شرعيا، وإن استحله لعدم المحرم قالوا ليس بحرام باطنا ولا ظاهرا، ولم يقولوا هو حلال، وأما أكثر الفقهاء والمتكلمين فيقولون إنه حرام عليه في الباطن، لكن عدم التحريم منع من الذم والعقاب لفوات شرط الذم والعقاب الذي هو العلم، وتخلف المقتضي عن المقتضى لفوات شرط أو وجود مانع لا يقدح في كونه مقتضيا، وهذا ينبني على حكم العلة إذا تخلف عنها لفوات شرط أو وجود مانع هل يقدح في كونها علة ويؤخذ من الشرط وعدم المانع قيود تضم إلى تلك الأوصاف فيجعل الجميع علة ولكن يضاف التخلف إلى المانع وفوات الشرط .

المسلك الخامس: أن الله سبحانه قال بعد قوله الطلاق مرتان وبعد ذكر الخلع: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره }، ونكاح المحلل والمتعة ليس بنكاح عند الإطلاق، وليس المحلل والمتمتع بزوج، وذلك ; لأن النكاح في اللغة الجمع والضم على أتم الوجوه، فإن كان اجتماعا بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع البدنين، وإن كان اجتماعا بالعقود فهو الجمع بينهما على وجه الدوام واللزوم، ولهذا يقولون استنكحه المذي إذا لازمه وداومه، يدل على ذلك أن ابن عباس سئل عن المتعة وكان يبيحها أنكاح هي أم سفاح فقال ليست بنكاح ولا سفاح ولكنها متعة، فأخبر عمر رضي الله عنه أنها ليست بنكاح لما لم يكن مقصودها الدوام واللزوم، ولهذا لم يكن يثبت فيها أحكام النكاح المختصة بالعقد من الطلاق والعدة والميراث وإنما كان يثبت فيها أحكام الوطء وكذلك قال غير ابن عباس مثل ابن مسعود وغيره من الصحابة والتابعين نسخ المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث فإذا كان المستمتع الذي له قصد في الاستمتاع بها إلى أجل ليس بناكح حيث لم يقصد دوام الاستمتاع ولزومه، فالمحلل الذي لم يقصد شيئا من ذلك، أولى أن لا يكون ناكحا وقوله بعد هذا نكحت أو تزوجت وهو يقصد أن يطلقها بعد ساعة أو ساعتين، وليس له فيها غرض أن تدوم معه ولا تبقى، كذب منه وخداع، وكذلك قول الولي له زوجتك أو أنكحتك وقد شارطه أنه يطلقها إذا وطئها، وهذا هو المعنى الذي ذكره ابن عمر رضي الله عنه حين سئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال، ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكل بكم، وقال لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم الله أنهما أرادا أن يحلها له، وهو معنى قول عمر لو أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، وبين هذا أن الزوج المطلق في الخطاب إنما يعقل منه الرجل الذي يقصد مقامه ودوامه مع المرأة، بحيث نرضى مصاهرته وتعتبر كفاءته وتطيق المرأة ووليها أن يملكها، وهذا المحلل الذي جيء به للتحليل ليس بزوج وإنما هو تيس استعير لضرابه، والله عز وجل قد علم من المرأة ووليها أنهم لا يرضونه زوجا فإذا أظهروا في العقد قولهم زوجناك وأنكحناك وهم غير راضين بكونه زوجا، كان هذا خداعا واستهزاء بآيات الله سبحانه، يؤيد هذا: أن الله سبحانه حرم هذه المطلقة حتى تنكح زوجا غيره، والنكاح

المفهوم في عرف أهل الخطاب إنما هو نكاح الرغبة، لا يعقلون عند الإطلاق إلا هذا، ولو أن الرجل قال لابنه اذهب فانكح فصار محللا لعده أهل العرف غير ممتثل لأمر أبيه، وإنما يسمى ما دون هذا نكاحا بالتقييد، مثل أن يقال نكاح المتعة نكاح المحلل كما يقال بيع الخمر وبيع الخنزير وفرق بين ما يقتضيه مطلق اللفظ وما يقتضيه مع التقييد، والله سبحانه قد قال { حتى تنكح زوجا غيره }، ولم يرد به كل ما يسمى نكاحا مع الإطلاق أو التقييد بإجماع الأمة، فإن ذلك يدخل فيه نكاح ذوات المحارم، فلا بد أن يراد به ما يفهم من لفظ النكاح عند الإطلاق في عرف المسلمين، يقوي هذا: أن التحريم قبل هذا النكاح ثابت بلا ريب، ونكاح الرغبة رافع لهذا التحريم بالاتفاق، وأما نكاح المحلل فلم نعلمه مرادا من هذا الخطاب ولا هو مفهوم منه عند الإطلاق، فيبقى التحريم ثابتا حتى يقول الدليل على أنه نكاح مباح، ومعلوم أنه لا يمكن أحد أن يذكر نصا يحل هذا النكاح، ولم يثبت دخوله في اسم النكاح المطلق، ولا يمكن حله بالقياس، فإنه لا يلزم من حل نكاح الرغبة حل نكاح المحلل، كما لا يخفى فإن الراغب مريد للنكاح، فناسب أن يباح له ذلك، وأما المحلل فليس له غرض في النكاح، ولا إرادة فلا يلزم أن يباح له ما لا رغبة له فيه، إذ الإرادة مظنة الحاجة، فلا يلزم من إباحة الشيء للمحتاج إليه، أو لمن هو في مظنة الحاجة إليه إباحته لم يعلم من نفسه أنه لا إرادة له، ولا قصد في ذلك، بل هو راغب عنه زاهد فيه، لولا تطليق ذلك المطلق الأول وإعادتها إليه، لم يكن له غرض في أن ينكح، وحل المرأة للمطلق الأول ليس هو المقصود بالنكاح حتى يقول هذه حاجة للناكح، وإنما الحاجة هنا للمطلق، وذلك قد حرم عليه هذا، ثم إن تلك الحاجة لا تحصل بالنكاح وإنما تحصل برفعه بعد وقوعه، فلم يكن له غرض في النكاح ولا فيما هو من توابع زائل، وإنما غرضه نكاح زائل، والنكاح ليس مما يقصد بعقده الانتفاع بإزالة الملك كعقد البيع وإنما منفعته منوطة بوجوده فإذا لم يقصد به إلا أن يزيله لمنفعة الأول فليس عاقدا لشيء من مقاصد النكاح، فلا يصح إلحاقه بمن يعقد النكاح لمقاصده أو بعضها، يوضح ذلك: أن ما هو محظور في الأصل لا يباح منه إلا ما فيه منفعة، كذبح الحيوان فإنه قبل القتل محرم وإنما أبيح مثله لمنفعة الأكل ونحوها، فإذا قتل لا للانتفاع به كان ذلك القتل محرما، وكذلك الإبضاع حرام قبل العقد، وإنما أبيحت بعد العقد، وأبيح العقد عليها للانتفاع بمقاصد النكاح والنفع بها فإذا عقد لغير شيء من مقاصد النكاح كان ذلك حراما عبثا، وإن كان قد قصد بهذا تحليلها لمن حرمت عليه، فإن التحليل فرع لزوال النكاح، وزوال النكاح فرع لحصول النكاح، والنكاح فرع لإرادة مقاصده، فإذا جعل مقصوده التحليل الذي هو فرع فرعه صار فرع فرع الفرعي أصلا، وصار هذا كرجل قال لامرأته أنت علي كظهر أمي حتى تذبح هذه الشاة، أو آلى من امرأته حتى تذبح هذه الشاة، فقام هو أو غيره فذبحها لغير الأكل ولم يقصد بها التذكية المبيحة للحم، وإنما قصد مجرد حل اليمين، فإن هذا الذبح لا يبيح اللحم ; لأن الذبح إنما أباحه الشارع لمقصود حل اللحم، ثم قد يحصل في ضمن ذلك حل يمين وغيرها، فإن فات ذلك المقصود لم يثبت الحل بحال وإن قصد شيء آخر كذلك هذا النكاح له مقصود فإذا لم يقصد كان الفرج حراما وإن قصد باستحلال الفرج شيء آخر، وقد سوى الله سبحانه بين الفروج والذبائح في قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب }، وكذلك سوت السنة والإجماع القديم بينهما في تحريمهما من المجوس ونحوهم، وفي الاحتياط فيهما إذا اشتبه مباح أحدهما بمحظوره أو اشتبه السبب المبيح بغيره، أو اختلط كما دل عليه حديث عدي بن حاتم وغيره، بل مسألة التحليل أقبح من هذا فإن الذبائح هنا يمكنه أن يقصد الذبح المشروع، ويحصل في ضمنه حل اليمين، وحيث لم تقصد التذكية المبيحة فلم يقصد بالذبح أن يزيل التذكية بعد هذا، والمحلل لم يقصد شيئا من مقاصد النكاح، بل قصد رفع النكاح وإزالته، يقرر هذا أن الله سبحانه أطلق النكاح في هذه الآية وفسره رسول الله ﷺ المبين مراده بأن النكاح التام الذي يحصل فيه مقصود النكاح، وهو الجماع المتضمن ذوق العسيلة فعلم أنه لم يكتف بمجرد ما يسمى نكاحا مع التقييد، وإنما أراد ما هو النكاح المعروف، الذي يفهم عند الإطلاق، وذلك إنما هو نكاح الرغبة المتضمن ذوق العسيلة، وهذا بين إن شاء الله تعالى، وإذا ثبت أن هذا ليس بنكاح ثبت أنه حرام ; لأن الفرج حرام إلا بنكاح أو ملك يمين، وثبت أنها لا تحل للمطلق إذ الله حرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره .

المسلك الحادي عشر أن الله سبحانه حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، ومعلوم أن الله سبحانه إنما حرم ذلك لاشتمال هذا التحريم على مصلحة لعباده، وحصول مفسدة في حلها له بدون الزوج الثاني، وابتلاء وامتحانا لهم ليميز من يطيعه ممن يعصيه، وقد قيل كان الطلاق في الجاهلية من غير عدد كلما شاء الرجل طلق المرأة ثم راجعها فقصر الله الأزواج على ثلاث تطليقات ليكف الناس عن الطلاق إلا عند الضرورة فإذا علم الرجل أن المرأة تحرم عليه بالطلاق كف عن ذلك، إلا إذا كان زاهدا في المرأة، فإذا كان هذا التحريم يزول بأن يرغب إلى بعض الأراذل في أن يطأ المرأة ويعطي شيئا على ذلك، كان زوال هذا التحريم من أيسر الأشياء، فما أكثر من يريد أن يطأ ويبذل، فكيف إذا أعطي على ذلك جعلا، ولهذا قال ﷺ: { لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل }، فإن أدنى الحيلة من الحيل يمكن استحلال المحارم بها، وإذا كان التحريم المتضمن لجلب مصالح خلقه ودفع المفاسد عنهم يزول بأدنى سعي غير مقصود، لم يكن فيه كبير فائدة ولا مصلحة، وكان إلى اللعب أقرب منه إلى الجد كما تقدم تقرير ذلك في الأدلة العامة، فإذا قيل: إن هذا حلال كان حقيقته أن المرأة تحرم على زوجها حتى ينزل عليها فحل من الفحول، وإن لم يكن له رغبة في نكاحها بل يعطى على ذلك جعلا، لكن لا بد أن يظهر صورة العقد والتزام المهر، والأعمال بالنيات فيكون قائل هذا قد ادعى أن الله حرم المطلقة ثلاثا حتى توطأ وطئا شبيها بالزنا بل هو زنا، فإن هذا معناه معنى الزنا إذ الزاني هو من يريد وطء المرأة، بدون النكاح الذي هو النكاح، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وقد سئل عن التحليل، هو السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم، وفي رواية عنه { كنا نعده على عهد رسول الله ﷺ سفاحا }، وقال عمر رضي الله عنه لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وشبهه النبي ﷺ بالتيس المستعار إذ المقصود وطؤه لا ملكه، كذلك هذا المحلل إنما يقصد منه الوطء المجرد لا أحكام العقد الذي هو الملك، ولما رأى كثير من أهل الكتاب أن بعض المسلمين يقول إن المطلقة تحرم حتى توطأ على هذا الوجه، وقد رأى أن معنى هذا معنى الزنا، وحسب أن هذا من الدين المأخوذ عن رسول الله ﷺ أو تجاهل بإظهار ذلك أخذ يعير المسلمين بهذا ويقول، إن دينهم أن المطلقة تحرم حتى تزني فإذا زنت حلت، ذكر ذلك أبو يعقوب الجوزجاني وبعض المالكية وغيرهم حتى اعتمد بعض أعداء الله النصارى فيما يهجو به شرائع الإسلام على مسألة التحليل، وأخذ ينفر أهل دينه عن الإسلام بالتشنيع بها، ولم يعلم عدو الله أن هذا لا أصل له في الدين ولا هو مأخوذ عن السابقين، ولا عن التابعين لهم بإحسان، بل قد حرمه الله ورسوله، قال أبو يعقوب الجوزجاني وأقول إن الإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهره، وهو حقيق بالتوقير والصيانة من علة تشينه، وأن ينزه عما أصبح أمناء الملل من أهل الذمة، يعيرون به المسلمين على ما تقدم فيه من النهي عن رسول الله ﷺ، وبالجملة: فهذا بين لمن تأمل وأنصف فإن دين الله أزكى وأطهر من أن يحرم فرجا من الفروج حتى يستعار له من تيس من التيوس، لا يرغب في نكاحه ولا في مصاهرته ولا يرغب بقاؤه مع المرأة أصلا فينزو عليها وتحل بذلك، فإن هذا بالسفاح أشبه منه بالنكاح، بل هو سفاح وزنا كما سماه أصحاب رسول الله ﷺ فكيف يكون الحرام محللا ؟ أم كيف يكون الخبيث مطيبا ؟ أو كيف يكون النجس مطهرا، ؟ وغير خاف على من شرح الله صدره للإسلام ونور قلبه بالإيمان أن هذا من أقبح القبائح التي لا تأتي بها سياسة عاقل فضلا عن شرائع الأنبياء لا سيما أفضل الشرائع وأشرف المناهج والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يشرع مثل هذا ولما رأت القلوب السليمة والفطر المستقيمة أن حقيقة هذا حقيقة السفاح لا النكاح، لم تلق له بالا فصار يتولد من فعل هذا من المفاسد أضعاف مفاسد المتعة .

المسلك السادس أنه سبحانه قال: { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون }، يعني فإن طلقها هذا الزوج الثاني الذي نكحته فلا جناح عليهما، وعلى المطلق الأول أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله، وحرف إن في لسان العرب لما يمكن وقوعه وعدم وقوعه، فأما ما يقع لازما أو غالبا فيقولون فيه إذا فإنهم يقولون إذا احمر البسر فائتني ولا يقولون إن احمر البسر ; لأن احمراره واقع فلما قال فإن طلقها علم أن ذلك النكاح المتقدم نكاح يقع فيه الطلاق تارة ولا يقع أخرى، ونكاح المحلل يقع فيه الطلاق لازما أو غالبا، وإنما يقال في مثله فإذا طلقها ولا يقال فالآية عمت كل نكاح، فلهذا قيل فإن طلقها إذ من الناكحين أن يطلق ومنهم من لا يطلق، وإن كان غالب المحللين يطلق ; لأنا نقول لو أراد سبحانه ذلك لقال فإن فارقها ; لأنه قد يموت عنها، وقد تفارقه بانفساخ النكاح بحدوث مهر أو رضاع أو لعان أو بفسخه لعسرة أو غيرها فتحل، لكن هذه الأشياء ليست بيد الزوج وإنما بيده الطلاق خاصة، فهو الذي إذا قيل فيه إن طلق حلت للأول، دل على أن النكاح نكاح رغبة قد يقع فيه الطلاق وقد لا يقع، لا نكاح دلسة يستلزم وقوع الطلاق إلا نادرا، ولو قيل فإن فارقها دل ذلك على أن النكاح تقع فيه الفرقة تارة ولا تقع أخرى، ومعلوم أن نكاح الرغبة والدلسة بهذه المثابة، فيشبه - والله أعلم - أن يكون إنما عدل عن لفظ فارق إلى لفظ طلق للإيذان بأنه نكاح قد يكون فيه الطلاق، لا نكاح معقود لوقوع الطلاق، يؤيد هذا: أن لفظة الفراق أعم فائدة وبه جاء القرآن في مثل قوله سبحانه: { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } فلو لم يكن في لفظ الطلاق خصيصة لكان ذكره أولى، وما ذكرناه فائدة مناسبة يتبين بملاحظتها كمال موضع الخطاب، يبين هذا: أن الغاية المؤقتة بحرف حتى تدخل في حكم المحدود المغيا لا نعلم بين أهل اللغة خلافا فيه، وإنما اختلف الناس في الغاية المؤقتة بحرف إلى ولهذا قالوا في قولهم أكلت السمكة حتى رأسها وقدم الحاج حتى الشاة وغير ذلك أن الغايات داخلة في حكم ما قبلها فقوله سبحانه: { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يقتضي أنها لا تحل له حتى توجد الغاية التي هي نكاح زوج غيره، وأن هذه الغاية إذا وجدت انتهى ذلك التحريم المحدود إليها، وانقضى، وهذا القدر وحده كاف في بيان حلها للأول إذا فارقها الثاني بموت أو فسخ أو طلاق ; لأنه إذا نكحها زوج غيره فقد زال التحريم الذي كان وجد بالطلقات الثلاث، وبقيت كسائر المحصنات فيها تحريم آخر من غير جهة الطلاق، فإذا زال هذا التحريم بالفرقة لم يبق فيها واحد من التحريمين، فتعود كما كانت، أو أنه أريد بنكاح زوج غيره، مجموع مدة النكاح بناء على أن النكاح اسم لمجموع ذلك، كما يقال لا أكلمك حتى تصلي، فإن كان المراد هذا كان التقدير أنها لا تحل له إلا بعد انقضاء نكاح زوج غيره، ومعناه كمعنى الأول، فلما قيل بعد هذا فإن طلقها فلا بد أن يكون فيه فائدة جديدة غير بيان توقف الحل على الطلاق، وهو - والله أعلم - التنبيه على أن ذلك الزوج موصوف بجواز التطليق، وعدم جوازه أعني وقوعه تارة وعدم وقوعه أخرى، وإذا أردت وضوح ذلك فتأمل قوله سبحانه: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } لما كان التطهير فعلا مقصودا جيء فيه بحرف التوقيت ; ولما كان الطلاق هنا غير مقصود جيء فيه بحرف التعليق، فلو كان نكاح المحلل ما يدخل في قوله حتى تنكح لكان هو الغالب على نكاح المطلقات، وكان الطلاق فيه مقصودا فكان بمنزلة تلك الآية، لكن لما لم يكن كذلك فرق الله بينهما في تلك الآية، إلا أنه لما توقف الحل على شرطين قال: { ولا تقربوهن حتى يطهرن }، فبين أن ذلك التحريم الثابت بفعل الله زال بوجود الطهر، ثم بقي نوع آخر أخف منه، يمكن زواله بفعل الآدمي بين حكمه بقوله: { فإذا تطهرن فأتوهن }، وهنا لم يرد بقوله فإن طلقها بيان توقف الحل على طلاقها ; لأن ذلك معلوم قد بينه بقوله في المحرمات { والمحصنات من النساء } ; ولأن الطلاق ليس هو الشرط وإنما الشرط أي فرقة حصلت ولأن الطلاق وحده لا يكفي في الحل حتى تنقضي عدة المطلق، وعلم الأئمة بأن المتزوجة لا تحل أظهر من علمهم بأن المعتدة لا تحل، فلو أريد هذا المعنى لكان ذكره العدة أوكد، فظهر أنه لا بد من فائدة في ذكر هذا الشرط، ثم في تخصيص الطلاق، ثم ذكره بحرف إن وما ذاك - والله أعلم - إلا لبيان أن النكاح المتقدم المشروط هو الذي يصح أن يقال فيه، فإن طلقها ونكاح المحلل ليس كذلك والله أعلم .

المسلك الثاني عشر وهذا هو المسلك الثاني عشر وهو أن جواز التحليل قد أفضى إلى مفاسد كثيرة وصار مظنة لها ولما هو أكبر منها، وهو أن بعض التيوس المستعارة صار يحلل الأم وبنتها على ما أخبرني به من صدقته ; لأنه قد نصب نفسه لهذا السفاح، فلا يميز من المنكوحة ولا له غرض في المصاهرة حتى يجتنب ما حرمته، ومنها: أنه يجمع ماءه في أكثر من أربع نسوة بل أكثر من عشر وهو ما أجمع الصحابة على تحريمه، كما رواه عبيدة السلماني وغيره وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز إذا كان الطلاق رجعيا، ومنها: أن كثيرا ما يتواطؤ هو والمرأة على أن لا يطأها إذ ليس له رغبة في ذلك، والمرأة لا تعده زوجا فتنكشف أو تستحي أو تهاب أن تمكنه من نفسها لاستشعارها أنه لم يتخذ زوجا، ومنها: أنه غالبا لا يكون كفئا للمرأة ونكاح المرأة من غير كفء مكروه أو مشروط فيه رضا الأولياء، أو باطل وغالبا لا يراعى فيه شيء من ذلك، ومنها: أن المطلقين لما ألقي إليهم خفة مئونة الطلاق المحرم، إذا كان التحريم يزول بتيس يعطي ثلاثة دراهم أو أقل أو أكثر، حتى لقد بلغني ممن صدقته أن بعض التيوس طلب أكثر ما بذل له، فقالت له المرأة وأي شيء تريد فعلت وأخذت سامح الناس في ذلك، حتى ربما كتم الزوج الطلاق وحللها بدون إذن الولي لعلمه بأن الولي لا يزوجها من ذلك الرجل، ونكاح المرأة من غير كفء بدون إذن الولي من أبطل النكاح وأعظمه مراغمة للشريعة ومما آل به استخفاف شأن التحليل أن الأمر أفضى إلى أن صار كثير من الناس يحسب أن مجرد وطء الذكر مبيح حتى اعتقدوا أنها إذا ولدت ذكرا حلت، واعتقد بعضهم أنه إذا وطئها بقدمه حلت، واعتقد بعضهم أنه إذا صب دهنا فوق رأسها حلت كأنهم شبهوه بصب المني، حدثني بهذه الأشياء من له خبرة بهذه الأشياء من النساء اللواتي تفضي النساء إليهن أسرارهن، وحله بالأول مستقر في نفوس كثير من الجهال، حتى بلغني أن الشيخ أبا حكيم النهرواني صاحب أبي الخطاب حضر حلقة شيخ نبيل الصورة فأكرمه، وسأل الشيخ أبو حكيم عن المطلقة ثلاثا إذا ولدت ولدا ذكرا هل تحل فقال لا، فقال له الشيخ أنا أفتي أنها تحل من البصرة إلى هنا فقال له الشيخ أبو حكيم ما زلت تفتي بغير دين الإسلام، أو كما قال، فانظر إلى هذه الفضائح التي فيها انهدام شريعة الإسلام عند كثير من العامة، أصلها والله أعلم ما ألقي إليهم ابتداء من أن المطلقة ثلاثا تحل بنكاح خارج عن النكاح المعروف، وإلا فلو أن المطلقة لا تنكح إلا كما تنكح المرأة ابتداء لم يشتبه النكاح الذي هو النكاح بشيء من هذه القبائح كاشتباه التحليل به، ومن مفاسده أن المرأة المطلقة إذا لم تنكح التيس نكاح رغبة لم يكن لها غرض في الولادة منه، ولا في أن يبقى بينهما علاقة، فربما قتلت الولد بل لعل هذا أوقع كثيرا ودائما وكثير منهن يستطيل العدة فإما أن تكذب أو تكتم، وما ذاك إلا ; لأنه يتوالى عليها عدتان ليس بينهما نكاح وهي شديدة الرغبة في العودة إلى الأول، ولو أنها ألقي إليها اليأس من العود إلى الأول، إلا بعد نكاح تام كالنكاح المبتدإ لم يكن شيء من هذا، ومن ذاك ما بلغني أن رجلا ترك من حلل امرأة في بيته فلما خرج دعته نفسه إلى أن راود المرأة عن نفسها وقال إن الحل لا يتم إلا برجلين، وما ذاك إلا لأنه رأى غيره قد أتى بالسفاح دعته نفسه إلى التشبه به إذ النفوس مجبولة على التشبه، ولو أن ذلك الرجل أحصن فرج المرأة ونكحها نكاح المسلمين لم يحدث هذا نفسه بالتشبه به في تلك المرأة .

فصل وقد أخرج الشيطان للتحليل حيلة أخرى وهي أن يزوجها الرجل المطلق من عبده بنية أن يبيعه منها أو يهبه لها، فإذا وطئها العبد باعها ذلك العبد أو بعضه أو وهبها ذلك والمرأة إذا ملكت زوجها أو شقصا منه انفسخ النكاح، والمخادعون يؤثرون هذه الحيلة لشيئين: أحدهما: أن الفرقة هنا تكون بيد الزوج المطلق أو الزوجة، فلا يتمكن الزوج من الامتناع من الفرقة، بخلاف الصورة الأولى فإنه قد يمتنع من الطلاق، فيمكنه ذلك على القول بصحة النكاح، الثاني: زعموا أنه أستر لهما من إدخال أجنبي على المرأة، فإن إيطاء عبده ليس كإيطاء من يساميه في الحرية، ثم ذهب بعد الشذوذ إلى أن وطء الصغير الذي لا يجامع مثله يحلها، فإذا انضم إلى ذلك أنه يجبره على النكاح صار بيد المطلق العقد والفسخ من غير ما يعارضه، وإن كان كبيرا فمنهم من يجبره على النكاح فيصير بيد السيد العقد والفسخ أيضا، وجعل بعض أصحابنا في هذه الصورة أعني فيما إذا زوجها من عبده الكبير احتمالا ; لأن الزوج لم ينو التحليل وإنما نواه غيره، والعبرة في التحليل بنية الزوج لا بنية غيره، وهذه الصورة أبلغ في المخادعة لله تبارك وتعالى والاستهزاء بآيات الله والتلاعب بحدود الله، فإنه هناك كان المحلل هو الذي بيده الفرقة لا بيد غيره، وهنا جعلت الفرقة بيد المطلق والمرأة، لا سيما إن كانت الزوجة تحت حجر الزوج بأن يكون وصيا لها، فيرى أن يهبها العبد ويقبله هو أو يبيعها إياه إن كان ممن يستحل أن يبيع الوصي لليتيم، فإن من فتح باب المخادعة لم يقف عند حد يتعدى ما أمكنه من حدود الله، وينتهك ما استطاع من محارم الله، فإنه في مثل هذه الصورة يبقى المطلق مستقلا بفسخ النكاح، ثم إنه من المعلوم أن العبد لا يمكنه النكاح الصحيح إلا بإذن سيده، فإذا أذن السيد له في النكاح ومن نية هذا السيد أن يفسخ نكاحه كان الزوج أيضا مخدوعا ممكورا به، حيث أذن له في نكاح باشره وليس القصد به نكاحا، وإنما القصد به سفاح، فهناك إنما وقعت المخادعة في حق الله فقط، وهنا وقعت المخادعة في حق الله وحق آدمي وهذا هو الزوج، واللعنة التي وجبت هناك على المحلل والمحلل له يصير كلتاهما هنا على المطلق وهو المحلل له وعلى الزوجة فيقتسمان لعنة المحلل، وينفرد المطلق بلعنة المحلل له أو تشركه المرأة فيها، ومن أسرار الحديث أنه يعم هذا لفظا كما يعمه معنى، فإن العطف قد يكون للتغاير في الصفات كما يكون للتغاير في الذوات، فيقال لهذا لعن الله المحلل والمحلل له وإن كانا وصفين لشيء واحد، فلهذا قلنا هذا أغلظ في التحريم، حيث اجتمع عليه لعنتان، فإن كان هذا العبد قد واطأهم أخذ بنصيبه من اللعنة من غير أن ينقص من نصيب السيد شيئا ; لأن عقد التحليل إنما تم برضاه ورضا السيد، كما لو كان المحلل عبدا لغير المطلق، فإنه إذا حلل بإذن السيد حقت اللعنة عليهما، ويزيده قبحا أن الزوج هنا عبد ليس بكفء ونكاحه إما منقوص أو باطل على ما فيه من الاختلاف، ومن يصححه فمنهم من يشترط رضا جميع الأولياء، ثم اعلم أن التحليل بالعبد قد يكون من غير المطلق بل من صديق له يزوجها بعبده، ويواطئها على أن يملكها إياه، فإن لم يعلم الزوج المطلق بذلك فهو كما لو اعتقد الزوج التحليل هناك وعلمت به المرأة دون المطلق، وإن علم فهو كما لو علم هناك، وكما ذكرناه من الأدلة على التحليل فهي حاصلة هنا، فإن قول النبي ﷺ { لعن الله المحلل }، وإن كان الغالب إنما يقصد به الزوج فالسيد هنا بمنزلته واللفظ يشمله، وإن كان النبي ﷺ لم يقصده بلفظ المحلل فلا ريب أنه في معناه وأولى ونظير هذا أن يزوجها رجل بعبده الصغير أو ابنه الصغير أو المجنون، بقصد أن يطلق عليهما عند من يقول إن له أن يطلق على عبده وابنه الصغيرين أو المجنونين، أو بنية أن يخلعها منه، بأن يواطئها أو يواطئ غيرها على الخلع، فإن جواز الخلع لولي الصبي والمجنون أقوى من جواز الطلاق، ونظير هذا أن يعقد ولي الصبي والمجنون له عقود حيل من بيع أو إجارة أو قرض، فإن الحيل التي يحتالها الولي لليتيم في ماله بمنزلة ما يحتاله المرء في مال نفسه، وقريب منه إذا أذن السيد لعبده في معاملات من الحيل، فإنه بمنزلة أن يعامل السيد نفسه تلك المعاملة، حيث حصل غرضه بفعل عبده، كحصوله بفعل نفسه، والاحتمال الذي جعل في مذهبنا غير محتمل أصلا فإن قوله المعتبر في التحليل بنية الزوج كلام غير سديد فمن الذي سلم ذلك، أو ما الذي دل على ذلك بل المعتبر نية من يملك فرقة بقول أو فعل، فإن التحليل دائر مع ذلك، وإذا كان الزوج الذي يقصد التحليل ملعونا، فالذي يقصد أن يحلل بالزوج ويفسخ نكاحه أولى أن يكون ملعونا، فإنه يخادع الله ورسوله وعبده المؤمن، وهو نظير الرجل يقدم إلى العطشاء الماء فإذا شرب منه قطرة انتزعه من فيه، ولو أن السيد أنكح عبده نكاحا يقصد به أن يفرق بينهما بعد يوم من غير تحليل لكان خادعا له ماكرا به ملعونا، فكيف إذا قصد مع ذلك التحليل، واعلم أن التحليل هنا لا يتم إلا بأن يتواطأ السيد المطلق أو غيره مع المرأة على أن يملكها الزوج، أو يعلم أن حال المرأة تقتضي أنه إذا عرض عليها ملك الزوج لينفسخ النكاح ملكته، فإنا قد ذكرنا أن العرف في الشروط كاللفظ، فأما لو لم يكن للمرأة رغبة في العود إلى المطلق، ولا هي ممن يغلب على الظن ملكها للعبد إذا عرض عليها فهنا نية السيد وحده نية من لا فرقة بيده، ثم العبد إذا لم يعلم بما تواطأ عليه الزوجان، يكون كالمرأة إذا لم تعلم بنية الزوج التحليل لا إثم عليه، فإن علم ووافق فهو آثم وعلى التقديرين فنكاحه باطل ; لأن إذن السيد شرط في صحة النكاح، والسيد إنما أذن في نكاح تحليل لا في نكاح صحيح، فيكون النكاح الذي أجازه الشرع وقصده العبد لم يأذن فيه السيد، والذي أذن فيه السيد لم يجزه الشرع ثم إن أخبر العبد فيما بعد بما تواطأ عليه الزوجان وغلب على ظنه أن الأمر كذلك لم يحل له المقام على هذا النكاح لكن لا يقبل قول السيد وحده في إبطال نكاحه، وسائر الفروع التي ذكرناها في نية الزوج بالنسبة إلى المرأة تجيء في نية الزوجين بالنسبة إلى العبد والله أعلم .

الوجه الثاني: أن القصد لا يقدح في اقتضاء السبب حكمه ; لأنه وراء ما يتم به العقد، فيصير كما لو اشترى عصيرا ومن نيته أن يتخذه خمرا أو جارية ومن نيته أن يكرهها على البغاء أو يجعلها مغنية قنية أو سلاحا ومن نيته أن يقتل به معصوما، فكل ذلك لا أثر له من جهة أنه منقطع عن السبب، فلا يخرج المسبب عن اقتضاء حكمه، وبهذا يظهر الفرق بين هذا القصد وبين الإكراه، فإن الرضا شرط في صحة العقد، والإكراه ينافي الرضا، وبه يظهر الفرق بينه وبين الشروط المقترنة، فإنها تقدح في مقصود العقود وصاحب هذا الوجه يقول هب أنه قصد محرما لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك كما ذكرناه، وكما لو تزوجها ليضارها أو ليضار زوجة له أخرى، الوجه الثالث: أن النية إنما تعلم في اللفظ المحتمل، مثل أن يقول اشتريت هذا فإنه متردد بين الاشتراء له أو لموكله، وإذا نوى أحدهما صح، واللفظ هنا صريح في المقصود الصحيح، والنية الباطنة لا أثر لها في مقتضيات الأسباب الظاهرة، الوجه الرابع: أن النية إما أن تكون بمنزلة الشروط أو لا تكون، فإن كانت بمنزلة الشرط لزم أنه إذا نوى أن لا يبيع المشترى ولا يهبه ولا يخرجه عن ملكه، أو نوى أن يخرجه عن ملكه أو نوى أن لا يطلق الزوجة أو أن يبيت عندها كل ليلة أو لا يسافر عنها بمنزلة أن يشترط ذلك في العقد وهو خلاف الإجماع، وإن لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير لها حينئذ وهذا عمدة بعض الفقهاء، الوجه الخامس: أنا إنما أمرنا أن نحكم بالظاهر والله عز وجل يتولى السرائر فهذه خلاصة ما قيل في هذه المسألة ولولا أنه كلام يخيل لمن لا فقه له حقيقة لكان الإضراب عنه أولى، فإنه كلام مبناه على دعاوى محضة لم يعضد بحجة، فنقول في الجواب: لا نسلم أن هذا تصرف شرعي ولا نسلم وجود الإيجاب والقبول، وذلك لأن الإيجاب والقبول إن عنى به مجرد اللفظ فيجب أن يقيد حكمه، وإن صدر عن معتوه أو مكره أو نائم أو أعجمي لا يفقهه، وإن عنى به اللفظ المقصود لم يخرج عن المكره ; لأنه قصد اللفظ أيضا، ثم لا نسلم أن هذا بمجرد تصرف شرعي ولا إيجاب ولا قبول، بل اللفظ المراد به خلاف معناه مكر وخداع وتدلس ونفاق، فإن كان من الألفاظ الشرعية فالتكلم به بدون معناه استهزاء بآيات الله سبحانه وتلاعب بحدوده ومخادعة الله ورسوله كما تقدم تقريره، وإن عنى بالسبب اللفظ الذي يقصد به معناه الذي وضع اللفظ له في الشرع، سواء كان المعنى اللغوي مقررا أو مغيرا، أو عنى به اللفظ لم يقصد به ما يخالف معناه، أو اللفظ الذي قصد معناه حقيقة أو حكما، وذكرنا هذين ليدخل فيهما الهازل، فهذا صحيح لكن هذا حجة لنا ; لأن المحلل إذا قال تزوجت فلانة وهو لا يقصد إلا أن يطلقها ليحلها فلم يقصد بلفظ التزوج المعنى الذي جعل له في الشرع ; لأننا نعلم أن هذا اللفظ لم يقع في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصده رد المطلقة إلى زوجها وليس له قصد في النكاح الذي هو النكاح، ولا في شيء من توابعه حقيقة ولا حكما، فإن النكاح مقصوده الاستمتاع والصلة والعشرة والصحبة، بل هو أعلى درجات الصحبة، فمن ليس قصده أن يصحب ولا يستمتع ولا أن يواصل ويعاشر بل أن يفارق لتعود إلى غيره فهو كاذب في قوله تزوجت بإظهاره خلاف ما في قلبه، وإنما هو بمنزلة من قال لرجل وكلتك أو شاركتك أو ضاربتك أو ساقيتك، وهو يقصد رفع هذا العقد وفسخه ليس له غرض في شيء من مقاصد هذه العقود، فإنه كاذب في هذا القول بمنزلة قول المنافقين نشهد إنك لرسول الله وقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، فإن هذه الصيغ إخبارات عما في النفس من المعاني التي هي أصل العقود، ومبدأ الكلام والحقيقة التي بها يصير اللفظ قولا، ثم إنها إنما تتم قولا وكلاما باللفظ المقترن بذلك المعنى، فتصير الصيغ إنشاءات للعقود، والتصرفات من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم وبها تم، وهي إخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس، فهي تشبه في اللفظ أحببت وأبغضت وأردت وكرهت، وهي تشبه في المعنى قم واقعد، وهذه الأقوال إنما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها حقيقة أو حكما ما جعلت له، أو إذا لم يقصد بها ما يناقض معناها، وهذا فيما بينه وبين الله سبحانه، وأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة الذي هو الأصل والغالب، وإلا لما تم تصرف، فإذا قال: بعت وتزوجت كان هذا اللفظ دليلا على أنه قصد به معناه الذي هو المقصود به، وجعله الشارع بمنزلة القاصد إذا هزل، وباللفظ والمعنى جميعا يتم الحكم، وإن كان العبرة في الحقيقة بمعنى اللفظ حتى ينعقد النكاح بالإشارة إذا تعذرت العبارة، وينعقد بالكتابة أيضا، ومعلوم أن حقيقة العقد لم يختلف وإنما اختلفت دلالته وصفته، وهذا شأن عامة أنواع الكلام، فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق، لا سيما الأسماء الشرعية، أعني التي علق الشارع بها أحكاما، فإن المتكلم عليه أن يقصد تلك المعاني الشرعية، والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني، فإن فرض أن المتكلم لم يقصد بها ذلك لم يضر ذلك المستمع شيئا وكان معذورا في حملها على معناها المعروف، وكان المتكلم آثما فيما بينه وبين الله تعالى، إنما يبطل الشارع معه ما نهاه عنه فإن كان لاعبا أبطل لعبه وجعله جادا وإن كان مخادعا أبطل خداعه، فلم يحصل له موجب ذلك القول عند الله ولا شيء منه كالمنافق الذي قال أشهد أن محمدا رسول الله وقلبه لا يطابق لسانه، وتحرير هذا الموضع يقطع مادة الشغب فإن لفظ الإنكاح والتزويج موضوعهما ومفهومهما شرعا وعرفا نكاح وانضمام وازدواج، موجبه التأبيد إلا لمانع وحقيقته نكاح مؤبد يقبل الانقطاع أو القطع، ليس مفهومهما وموضوعهما نكاحا يقصد به رفعه ووصلا المطلوب منه قطعه، وفرق بين اتصال يقبل الانقطاع واتصال يقصد به الانقطاع وكما أن هذا المعنى ليس هو معنى اللفظ ومفهومه، فلا يجوز أن يراد به أصلا ولا يجوز أن يكون موضوعا له حقيقة ولا مجازا بخلاف استعماله في المتعة، فإنه يصح مجازا، وذلك ; لأن اللفظ الواحد لا يجوز أن يكون موضوعا لإثبات الشيء ونفيه، على سبيل الجمع باتفاق العقلاء، وإن كان كثير منهم أو أكثرهم يحيله على سبيل البدل أيضا ; لأن الجمع بين الإثبات والنفي جمع بين النقيضين وهو محال، واللفظ لا يوضع لإرادة المحال، والنكاح هو صلة بين الزوجين يتضمن عشرة ومودة ورحمة وسكنا وازدواجا، وهو مثل الأخوة والصحبة والموالاة ونحو ذلك من الصلات التي تقتضي رغبة كل واحد من المتواصلين في الآخر، بل هو من أوكد الصلات فإن صلاح الخلق وبقاءه لا يتم إلا بهذه الصلة، بخلاف تلك الصلات فإنها مكملات للمصالح، فإذا كان مقصود الزوج حين عقده فسخه ورفعه صار قوله تزوجت معناه قصدت أن أصل إلى قطع وأوالي لا أعادي وأحب لا أبغض، ومعلوم أن من قصد القطع والمعاداة والبغض لم يقصد الوصل والموالاة والمحبة، فلا يكون اللفظ دالا على شيء من معناه إلا على جهة التهكم والتشبه في الصورة، بخلاف نكاح المتعة فإن غرضه وصل إلى حين وهذا نوع وصل مقصود فجاز أن يراد باللفظ، ثم إن الشارع جعل موجب اللفظ هو الوصل المؤبد، ومنع التوقيت لما أنه يخل بمقاصد النكاح، ويشبه الإجارة والسفاح فكيف بالتحليل، فالمنع من دلالة هذا اللفظ على المتعة شرعي، ولهذا جاز ورود الشرع بإباحة نكاح المتعة، والمنع من دلالته على التحليل عقلي، ولهذا لم يرد به الشرع بل لعن فاعله، فهذا يبين فقه المسألة ويبين أن القول بجواز مثل هذا النكاح في غاية الفساد والمناقضة للشرع والعقل واللغة والعرف، وأنه ليس له حظ من نظر ولا أثر أصلا خلاف ما ظنه بعض من لم يتفقه في الدين من أن القياس جوازه، وكان هذا اعتقاد أن الحلال والحرام فيما بين العبد وبين ربه عز وجل إنما يرتبط بمجرد لفظ يخذل به لسانه، وإن قصد بقلبه خلاف ما دل عليه لفظه بلسانه، وهذا ظن من يرى النفاق نافعا عند الله تعالى، ونظير هذا ما يذكر أن بعض الناس بلغه أنه من أخلص لله أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، فأخلص في ظنه أربعين صباحا لينال الحكمة، فلم ينلها فشكا ذلك إلى بعض حكماء الدين فقال إنك لم تخلص لله سبحانه وإنما أخلصت للحكمة يعني أن الإخلاص لله سبحانه وتعالى إرادة وجهه فإذا حصل ذلك حصلت الحكمة تبعا، فإذا كانت الحكمة هي المقصود ابتداء لم يقع الإخلاص لله سبحانه، وإنما وقع ما يظن أنه إخلاص لله سبحانه، وكذلك قوله ﷺ { ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله } فلو تواضع ليرفعه الله سبحانه لم يكن متواضعا، فإنه يكون مقصوده الرفعة، وذلك ينافي التواضع، وهكذا إذا تزوجها ليطلقها كان مقصوده هو الطلاق، فلم يكن ما يقتضيه وهو النكاح مقصودا فلم يكن اللفظ مطابقا للقصد، واعلم أن الكذب وإن كان يغلب في صيغ الأخبار وهذه صيغ إنشاء فإن الصيغ الدالة على الطلب والإرادة إذا لم يكن المتكلم بها طالبا مريدا كان عابثا مستهزئا أو ماكرا خادعا، وأن الرجل لو قال لعبده اسقني ماء وهو لا يطلبه بقلبه ولا يريده فأتاه، فقال ما طلبت ولا أردت، كان مستهزئا به كاذبا في إظهاره خلاف ما في قلبه، وإن قصد أن يجيبه ليضربه كان ماكرا خادعا، فكيف بمن يقول تزوجت ونكحت وفي قلبه أنه ليس مريدا للنكاح ولا راغبا فيه، وإنما هو مريد للإعادة إلى الأول فهو متصور بصورة المتزوج كما أن الأول متصور بصورة الآمر، وبصورة المؤمن، وبهذا ظهر الجواب عن قوله إن السبب تام، فإنها مجرد دعوى باطلة، وقوله لم يبق إلا القصد المقترن بالعقد قلنا: لا نسلم أن هنا عقدا أصلا وإنما هو صورة عقد، أما إن كانا متواطئين فلا عقد أصلا وإن كان الزوج عازما على التحليل فليس بعاقد، بل هذا القصد يمنع العقد أن يكون عقدا في الحقيقة، وإن كانت صورته صورة العقد، وقوله وذلك لا تأثير له في الأسباب الظاهرة، قلنا إن عنيت بالأسباب الظاهرة اللفظ المجرد كان التقدير أن المقاصد والنيات لا تأثير لها في الألفاظ، وبطلان هذا معلوم بالاضطرار فإن المؤثر في صفاته اللفظ وأحكامه، إنما هو عناية المتكلم وقصده وإلا فاللفظ وحده لا يقتضي شيئا، وإن عنيت بالأسباب الظاهرة الألفاظ الدوال على معان فلا ريب أن القصد يؤثر فيها أيضا ; لأنه إذا قصد بها خلاف تلك المعاني كان صاحبها مدلسا ملبسا، لكن الحكم في الظاهر يتبع الظاهر وليس القصد إشاعة الحكم بالصحة ظاهرا، وإنما الكلام في الحل فيما بينه وبين الله سبحانه، وقوله إنما نوى الطلاق وهو مملوك له بالعقد فهو كما لو نوى إخراج البيع عن ملكه وإحراقه أو إتلافه ونحو ذلك، قلنا: هذا منشأ الغلط فإن قصد الطلاق لم يناف النكاح من حيث هو قصد تصرفه في المملوك بإخراجه عن الملك ، وإنما نافاه من حيث إن قصد النكاح وقصد الطلاق لا يجتمعان، فإن النكاح معناه الاجتماع والانضمام على سبيل انتفاع كل من المجتمعين بصاحبه وألفه به وسكونه إليه، وهذا ممن ليس له قصد إلا قطع هذا الوصل وفرق هذا الجمع مع عدم الرغبة في المؤالفة، وانتفاء الغرض من المعاشرة لا يصح، والطلاق ليس هو التصرف المقصود بالملك ولا شيئا منه، وإنما هو رفع سبب الملك، فلا يقاس بتلك التصرفات وإنما ليرها من النكاح، أن يقصد بالنكاح بعض مقاصده من النفع بها أو نفعها ونحو ذلك، ونظير الطلاق أن لا يعقد البيع إلا لأن يفسخه بخيار شرط أو مجلس أو عيب أو فوات صفة أو إقالة، فهل يجوز أن يقصد بالبيع أن يفسخ بعد عقده بأحد هذه الأسباب،

المرتبة الثانية: إن تسبب إلى أن يفارقها من غير معصية غير الاختلاع، ولا خديعة توجب فراقها مثل أن تسأله أن يطلقها أو أن يخلعها، وتبذل له مالا على الفرقة أو تظهر له محبتها للأول أو بغضها المقام معه حتى يفارقها، فهذا ينبني على الانتزاع والاختلاع من الرجل، فنقول إذا كانت المرأة تخاف أن لا تقيم حدود الله جاز لها الاختلاع، وإلا نهيت عنه نهي تحريم أو تنزيه، فإن كانت لم تنو هذا الفعل إلا بعد العقد فهي كسائر المختلعات يصح الخلع ويباح أن تتزوج بغيره، هذا إذا كان مقصودها مجرد فرقته، وهنا مقصودها التزوج بغيره فتصير بمنزلة المرأة التي تختلع من زوجها لتتزوج بغيره وهذا أغلظ من غيره كما سيأتي، وإن كانت حين العقد تنوي أن تتسبب إلى الفرقة بهذه الطرق فهذه أسوأ حالا من التي حدث لها إرادة الاختلاع لتتزوج بغيره، مع استقامة الحال، فإذا كان النبي ﷺ قد قال { المختلعات والمنتزعات هن المنافقات }، فالتي تختلع لتتزوج بغيره، لا لكراهته أشد وأشد، ومن كانت من حين العقد تريد أن تختلع وتنتزع لتتزوج بغيره، فهي أولى بالذم والعقوبة ; لأن هذه غارة للرجل مدلسة عليه، ولو علم أنها تريد أن تتسبب في فرقته لم يتزوجها، فكيف إذا علم أن غرضها أن تتزوج بغيره، بخلاف التي حدث لها الانتزاع، فإنها لم تخدعه ولم تغره، وهذا نوع من الخلابة بل هو أقبح الخلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم، وهذه الصورة لا يجب إدخالها في كلام أحمد رضي الله عنه، فإنه إنما رخص في مطلق نية المرأة ونية المرأة المطلقة إنما تتعلق بأن تتزوج الأول، وذلك لا يستلزم أن تنوي اختلاعا من الثاني لتتزوج الأول، فإن هذا نية فعل محرم في نفسه لو حدث وغايته أن يقال هو نية مكروهة تسوية بينه وبين الاختلاع المطلق على إحدى الروايتين فأما إذا قارن العقد فتحريمه ظاهر ; لأن ذلك يمنع رغبتها في النكاح وقصدها له، والزوجة أحد المتعاقدين، فإذا قصدت بالعقد أن تسعى في فسخه لم يكن العقد مقصودا، بخلاف من قصدت أن العقد إذا انفسخ تزوجت الأول، وتحريم هذا أشد من تحريم نية الرجل من وجه، وذلك التحريم أشد من وجه آخر، فإن المحلل إذا نوى الطلاق، فقد نوى شيئا يملكه، والمرأة تعلم أنه يملك ذلك، وهذه المرأة نوت الاختلاع والانتزاع لتعود إلى غيره، وكراهة الاختلاع أشد من كراهة طلاق الرجل ابتداء، والاختلاع لتتزوج غيره أشد من مطلق الاختلاع، وإرادة الرجل الطلاق لا يوقعه في محرم، فإنه يملك ذلك فيفعله، وإرادة المرأة الاختلاع قد يوقعها في محرم، فإنها إذا لم تختلع ربما تعدت حدود الله، ونية التحليل ليس فيها من خديعة المرأة ما في نية المرأة من خديعة الرجل، وإنما حرمت تلك النية لحق الله سبحانه، فإن الله حرم استباحة البضع إلا بملك بنكاح أو ملك يمين، والعقد الذي يقصد رفعه ليس بعقد نكاح، وهذا حال المرأة إذا تزوجت بمن تريد أن يطلقها كحالها إذا تزوجت بمن بدا له طلاقها فيما بعد، من حيث إنه في كلا الموضعين قطع النكاح عليها، وهذا جائز له وليس تعلق حقها بعينه كتعلق حقه بعينها، فإن له أن يتزوج غيرها ولا حرام عليه إذا كانت محبته لتلك واستمتاعه بها أكثر إذا عدل بينهما في القسم، والمرأة إذا تزوجت قاصدة للتسبب في الفرقة فهذا التحريم لحق الزوج لما في ذلك من الخلابة والخديعة له، وإلا فهو يملكها بهذا العقد ويملك أن لا يطلقها بحال، ومن هذا الوجه صارت نية التحليل أشد، فإن تلك النية تمنع كون العقد ثابتا من الطرفين وهنا العقد ثابت من جهة الزوج، بأنه نكح نكاح رغبة، ومن جهة المرأة فإنها لا تملك الفرقة، فصار الذي يملك الفرقة لم يقصدها، والذي قصدها لم يملكها، لكن لما كان من نية المرأة التسبب إلى الفرقة، صار هذا بمنزلة العقد الذي حرم على أحد المتعاقدين لإضراره بالآخر، مثل بيع المصراة وبيع المدلس من المعيب وغيره، وهذا النوع صحيح لمجيء السنة بتصحيح بيع المصراة، ولم نعلم مخالفا في أن أحد الزوجين إذا كان معيبا بعيب مشترك كالجنون والجذام والبرص أو مختص كالجب والعنة أو الرتق والفتق ولم يعلم الآخر أن النكاح صحيح مع أن تدليس هذا العيب عليه حرام، وإن كان أحد الزوجين هو المدلس، حتى قلنا على الصحيح إنه يرجع بالمهر على من غره، فإن كان الغرور من الزوجة سقط المهر، مع أن العقد حرام على المدلس بلا تردد، ولكن التدليس هناك وقع في المعقود عليه، وهنا وقع في نفس العقد، والخلل في العقد قد يؤثر في فساده ما لا يؤثر في بعض حله، فأما المطلق الأول إذا طلب منه أن يطلقها أو يخلعها أو دس إليه من يفعل ذلك فهذا بمنزلة ما لو حدث إرادة ذلك للمرأة بعد العقد، فإن المطلق ليس له سبب في العقد الثاني، وقد نص أحمد على أن ذلك لا يحل، فنقل ههنا عنه في رجل قال للرجل طلق امرأتك حتى أتزوجها ولك ألف درهم، فأخذ منه الألف ثم قال لامرأته أنت طالق فقال سبحان الله رجل يقول لرجل طلق امرأتك حتى أتزوجها لا يحل هذا، فقد نص على أنه لو اختلعها ليتزوجها لم يحل له، وإن كان يجوز أن يختلعها ليتخلص من النكاح، لكن إذا سمى في عقد الخلع أنه يريد التزوج بها فهو أقبح من أن يقصد ذلك بقلبه، والصورة الأولى هي التي دل عليها كلام أحمد، فالمرأة إذا اختلعت لأن تتزوج أشد فإن الأذى بطلب المرأة ذلك أكثر من الأذى بطلب الأجنبي، فإذا كان هذا الفعل حراما لو حدث القصد فكيف إذا كان مقصودا من حين العقد وفعل بعده فظهر أنه لا يجوز اختلاعها رغبة في نكاح غيره، ولا العقد بهذه النية، ولا يحل أمرها بذلك ولا تعليمها إياه، ولكن لو فعلته لم يقدح في صحة العقد فيما ذكره بعض أصحابنا لما تقدم، فلو رجعت عن هذه النية جاز لها المقام معه، فإن اختلعت منه ففارقها وقعت الفرقة، وأما العقد الثاني فنقل عن بعض أصحابنا أنه صحيح، ولأصحابنا في صحة نكاح الرجل إذا خطب على خطبة أخيه وبيعه إذا ابتاع على بيع أخيه قولان، والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى معرفة تلك، فنقول قد صح عن النبي ﷺ من غير وجه النهي عن أن يستام الرجل على سوم أخيه أو يخطب على خطبة أخيه، وعن أن يبيع على بيع أخيه، أو تنكح المرأة بطلاق أختها، فروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي { نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيع أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها أو إنائها، فإنما رزقها على الله }، وفي رواية أن النبي ﷺ: { نهى عن التلقي، وعن أن يبيع حاضر لباد، وأن تشترط المرأة طلاق أختها، وأن يستام الرجل على سوم أخيه، ونهى عن النجش والتصرية }، وفي رواية أن النبي ﷺ قال: { لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سومه } متفق عليهن، وفي رواية لأحمد: { لا يبتاع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه } وعن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: { المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته حتى يذره }، رواه مسلم وأحمد، وفي لفظ: { لا

يحل لمؤمن أن يبيع على بيع أخيه حتى يذره }، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: { لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن } متفق عليه، وهذا نهي تحريم في ظاهر المذهب المنصوص، وهو قول الجماعة ; لأنه قد جاء مصرحا { لا يحل لمؤمن } كما تقدم، ومن أصحابنا من حمله على أنه نهي تأديب لا تحريم وهو باطل ; فإذا ثبت أنه حرام فهل العقد الثاني صحيح أو فاسد ؟ ذكر القاضي في غير موضع وجماعة مع المسألة على روايتين، ومن أصحابنا من يحكيها على وجهين: أحدهما: أنه باطل وهو الذي ذكره أبو بكر في الخلاف ورواه عن أحمد في مسائل محمد بن الحكم في البيع على بيع أخيه، وهو الذي ذكره ابن أبي موسى أيضا، والثانية: أنه صحيح قال أحمد في رواية علي بن سعيد لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يستام على سوم أخيه، هذا للمسلمين، قيل له فإن خطب على خطبة أخيه فتزوجها يفرق بينهما ؟ قال: لا، وهذا اختيار أبي حفص، لكن بناه على أن النهي تأديب، وهو اختيار القاضي وابن عقيل وغيرهما، وقد خرج القاضي جواب أحمد في مسألة البيع إلى مسألة الخطبة فجعلهما على روايتين كما

تقدم عنه، ويتوجه إقرار النصين مكانهما كما سنذكره، والقول بصحة العقد مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقول بفساده محكي عن مالك وغيره، وحكي عنه الصحة، ودليل هذا النهي عنه فإنه يقتضي الفساد على قاعدة الفقهاء المقررة في موضعها كسائر عقود الأنكحة والبياعات أو للأولين طرق: أحدها: حمل النهي على التأديب كما ذهب إليه أبو حفص، وأومأ إليه ابن عقيل، إذا كثر ما فيه أن للخاطب رغبة في المرأة، وهذا لا يحرمها على غيره كما لو علم أن له رغبة ولم يتم ولم يخطب، وهذا القول مخالف لنص الرسول، الطريق الثانية: أن هذا التحريم لم يقارن النكاح الثاني والبيع الثاني، وإنما هو متقدم عليهما ; لأن المحرم إنما هو منع للأول من النكاح والبيع، وهذا متقدم على بيع الثاني ونكاحه، والتحريم المقتضي للفساد، وهو ما قارن العقد كعقود الربا وبيع الحاضر للبادي والبيع وقت النداء، ألا ترى أنها لو قالت لا أتزوجك حتى أراك مجردا لم يقدح ذلك في صحة العقد، وكذلك لو ذهب على الجمعة على دابة مغصوبة وهذه طريقة القاضي وغيره، ولهذا فرقوا بين هذا وبين البيع وقت النداء، قالوا ولو خطبها في العدة وتزوجها بعد العدة صح ; لأن المحرم متقدم على العقد، الطريقة الثالثة: أن التحريم هنا حق لآدمي فلم يقدح في صحة العقد كبيع المصراة بخلاف التحريم لحق الله تعالى كبيوع الغرر والربا، والمعنى لحق الآدمي المعين الذي لو رضي بالعقد لصح كالخاطب الأول هنا، فإنه لو أذن للثاني جاز فإن التحريم إذا كان لآدمي معين أمكن أن يزول برضاه، ولو فيما بعد، فلم يكن التحريم في نفس العقد، ولهذا جوز في مواضع التصرف في حق الغير موقوفا على إجازته كالوصية، وإذا كان بحق الله صار بمنزلة الميتة والدم، لا سبيل إلى حلها بحال، فيكون التحريم في العقد، وهذه طريقة القاضي في الفرق بين بيعه على بيع أخيه، وبين بيع الحاضر للبادي، والبيع وقت النداء أيضا، الطريقة الرابعة: أن التحريم هنا ليس لمعنى في العاقد، ولا في المعقود عليه، كما في بيع المحرمات أو بيع الصيد للمحرم، وبيع المسلم للكافر، وإنما هو لمعنى خارج عنهما، وهو الضرر الذي لحق الخاطب والمستام أولا، وهذه طريقة من يفرق بين أن يكون النهي لمعنى في المنهي عنه، أو لمعنى في غيره فيصحح الصلاة في الدار المغصوبة بناء على هذا، ومن ينصر الأول يقول لا نسلم أن التحريم ليس مقارنا للعقد، فإن النبي ﷺ { نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وعن أن يبتاع أيضا }، وهذا نهي عن نفس العقد، { ونهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه }، منبها بذلك على النهي عن عقد النكاح، فإنه هو المقصود الأكبر بالنهي، كما أنه لما { نهى عن قربان مال اليتيم } كان ذلك تنبيها على النهي عن أخذه فإن النهي عن مقدمات الفعل أبلغ من النهي عن عينه، وهذا بخلاف النهي عن التصريح بخطبة المعتدة فإنه إذا تزوجها بعد العدة لم يكن حينئذ قد حرم عليه العقد، ولا الخطبة، وكذلك في رؤيته متجردا قبل النكاح، أو المشي إلى الجمعة على حمار مغصوب فإن تلك المحرمات انتقضت أسبابها، وهذا سبب التحريم تعلق حق الغير بهذه المرأة، وهو موجود، فإن عودها إليه ممكن، ثم لو سلمنا أن المحرم متقدم فلم قيل إن الفرق مؤثر، فإن الأدلة الدالة على كون العقود المحرمة فاسدة لا تفرق، والفعل المحرم يتضمن مفسدة، فتصحيحه يقتضي إيقاع تلك المفسدة، وهذا غير جائز، ومعصية الله فساد لا صلاح فيها، فإن الله سبحانه لا ينهى عن الصلاح، وهذا العقد هنا مستلزم لوجود المفسدة، وهو إضرار الأول، بخلاف صلاة الجمعة فإنها في نفسها غير مستلزمة لركوب ولا مشي، ونقول أيضا لا فرق بين ما حرم لحق الله تعالى أو لحق عباده، إذ الأدلة لا تفرق ونقول التفريق بين ما حرم الله لنفسه أو لغيره غير مسلم، وبتقدير تسليمه فالنهي هنا لمعنى في المعقود عليه، وهو تعلق حق الأول بالعين المعقود عليها، فإن الشارع جعل تقدم خطبته وبيعه حقا له مانعا من مزاحمة الثاني له ; كمن سبق إلى مباح فجاء آخر يزاحمه ; وصار هذا لحق المرتهن وغيره ; وإذا كان سبب النهي تعلق حق للأول بهذه العين فإذا أزيل على الوجه المحرم لم يؤثر هذا في الحل المزيل، فإنه كالقاتل لموروثه فإنه لما أزال تعلق حق الموروث بالمال بفعله المحرم، لم يؤثر هذا الزوال في الحل له ولهذا لا يبارك لأحد في شيء قطع حق غيره عنه بفعل محرم، ثم اقتطعه لنفسه، وقد تقدم في أقسام الحيل تنبيه على هذا النوع، ومن فرق بين أن يخطب على خطبة أخيه ويستام على سومه وبين أن يبيع على بيعه أو يبتاع على بيعه، فإن الخاطب والمستام لم يثبت لهما حق، وإنما ثبت لهما رغبة ووعد بخلاف الذي قد باع أو ابتاع فإن حقه قد ثبت على السلعة أو الثمن، فإذا تسبب الثاني في فسخ هذا العقد كان قد زال حقه الذي انعقد، وهذا يؤثر ما لا يؤثر الأول فإن تصرف الإنسان متى استلزم إبطال حق غيره بطل كرجوع الأب فيما وهبه لولده وتعلق به حق مرتهن أو مشتر أو نحو ذلك، وكذلك رجوع البائع في المبيع إذا أفلس المشتري وتعلق به حق ذي جناية أو مرتهن أو نحو ذلك، بخلاف تعلق رغبة الغرماء بالسلعة فإنها لا تمنع رجوع البائع وفي رجوع الواهب خلاف معروف، ثم اعلم أن بيع الإنسان على بيع أخيه أن يقول لمن اشترى من رجل شيئا أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون هذا الثمن، وأبيعك خيرا منها بمثل هذا الثمن، فيفسخ المشتري بيع الأول ويبتاع منه، وكذلك ابتياعه على ابتياع أخيه أن يقول لمن باع رجلا شيئا أنا اشتريه منك بأكثر من هذا الثمن، وقد اشترط طائفة من متأخري أصحابنا أن يقول ذلك في مدة الخيار خيار المجلس أو الشرط ليتمكن الآخر من الفسخ، وإلا فبعد لزوم العقد لا يؤثر هذا القول شيئا، وكذلك ذكره القاضي في موضع من الجامع، وفي كلام الشافعي رضي الله عنه ما يدل عليه، وأما قدماء أصحابنا فأطلقوا البيع على بيع أخيه ولم يقيدوه بهذا الخيار، وكذلك ذكر القاضي في موضع آخر، وأبو الخطاب فسخ البيع الثاني من غير تقييد بهذا الخيار، وكلام أحمد أيضا مطلق لم يقيده بهذه الصورة، وهذا أجود لوجهين: أحدهما: أن المشتري قد يمكنه الفسخ بأسباب غير خيار المجلس والشرط مثل خيار العيب والتدليس والخلف في الصفة والغبن وغير ذلك، ثم لا يريد الفسخ فإذا جاء البائع على بيع أخيه ورغبته في أن يفسخ ويعقد معه، كان هذا بمنزلة أن يأتيه في زمن خيار المجلس، الثاني: أن العقد الأول وإن لم يمكن أحدهما فسخه فإنه قد يجيء إليه فيقول له قايل هذا البيع وأنا أبيعك ; فيحمله على استقالة الأول، والإلحاح عليه في المقايلة فيجيبه عن غير طيب نفس كما هو الواقع كثيرا إن لم يخدعه خديعة توجب فسخ البيع، وهذا قد يكون أشد تحريما لما فيه من مسألة الغني ما لا حاجة له به، ومخالفة قوله { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } وغير ذلك، وقد يقال المستقال غير راض فلا يبارك للمستقيل، كالذين كانوا يسألون النبي ﷺ أشياء فيعطيهم إياها، فيخرج بها أحدهم يتأبطها نارا وقد بين ذلك في غير حديث، فيكون المعطي مثابا والسائل معاقبا وهذا بيع حقيقة على بيع أخيه، وهو واقع فلا معنى لإخراجه من الحديث، وإذا كان النبي ﷺ من جملة ما نهى عنه في هذا الحديث { أن تسأل المرأة طلاق أختها، لتكتفئ ما في صحفتها }، فمسألة البائع للمشتري أن يقيله البيع ليبيعها البائع لغيره كذلك، وقول الرجل البائع استقل المشتري هذا البيع لتبيعه لهذا، كما يقال للمرأة سلي هذا الخاطب أن يطلق تلك ليتزوجك، إذا تقرر هذا فتقول إذا كان النبي ﷺ قد حرم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه وأن يستام على سومه لما فيه من المزاحمة المخرجة له عما قد وعد به ; فكيف بمن نكح على نكاح أخيه، بأن يقول للمرأة طلقي هذا الرجل وأنا أتزوجك ; أو أزوجك فلانا، إن أمكنها أن تفسخ النكاح بأن يكون الرجل قد جعل أمرها بيدها، أو علق طلاقها بأمر يمكنها فعله، فهذه بمنزلة البائع في مدة الخيار، وإلا فاختلاعها منه بمنزلة استقالة المشتري، وهذا أعظم من حيث إنها قد تسيء عشرته إساءة تحمله على طلاقها ; بخلاف البيع فإن حقوق العقد لا تنقضي بالتقابض منهما فكل من قال إن ابتياع الإنسان على بيع أخيه باطل قال هنا إن نكاح الثاني باطل بطريق الأولى ; ومن قال بالصحة هناك فقد يقول هنا بالبطلان ; لأن الزوج خدع حين العقد وتسبب في إزالة نكاحه، وزوال النكاح أشد ضررا من الإقالة في بيع أو فسخه، ولو أن الرجل طلب من الرجل أن يبيعه سلعة لجاز ; ولو طلب أن يخلع امرأته ليتزوجها لكان من القبيح المنكر، وقد نص أحمد على أنه لا يجوز، واعلم أنه إذا قيل لا يصح البيع الثاني ولا نكاح الثاني لم يقدح ذلك في فسخ العقد الأول، ولكن تعود السلعة إلى صاحبها، والمرأة إلى يد نفسها، ويعاقب الثاني بأن يبطل عقده مناقضة لقصده، وهذا نظير منع القاتل الميراث، ونظير توريث المبتوتة في المرض، فإن ملك النكاح والمال زال حقيقة عن الميت والمطلق، ولم يؤثر ذلك في انتقال المال إلى القاتل، ومنع ميراث المطلقة، وهو نظير المسائل التي ذكرناها في أثناء أقسام الحيل، مثل أن يقتل الرجل رجلا ليتزوج امرأته وبينا وجه تحريمها على هذا القاتل مع حلها لغيره، وكذلك ذبيحة الغاصب والسارق كذلك هنا يحرم شراء العين بعد الفسخ على هذا المتسبب في ذلك مع حله لغيره، وقد يضر هذا بالذي فسخ البيع، لكن هذا جزاء فعله فإنه وإن جاز له الفسخ ابتداء، لكن ما كان له أن يعين هذا على ما طلبه فإن الإعانة على الحرام حرام، فإذا كان هذا فيمن يجوز له الاستقالة فكيف المرأة المنهية عن الانتزاع والاختلاع، ومما هو كالبيع بطريق الأولى إجارته على إجارة أخيه، مثل أن يكون الرجل مستقلا في داره حانوت أو مزدرع، وأهله قد ركنوا إلى أن يؤجروه السنة الثانية فيجيء الرجل فيستأجر على إجارته، فإن ضرره بذلك أشد من ضرر البيع غالبا، وأقبح منه أن يكون متوليا ولاية أو منزلا في مكان يأوي إليه أو يرتزق منه، فيطلب آخر مكانه والله أعلم . قال حنبل: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله يرى وأن الله يضع قدمه، وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله ولا يوصف الله تبارك وتعالى بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية { ليس كمثله شيء }، وقال حنبل في موضع آخر قال: ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه وقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فنعبد الله بصفات غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، قال الله تبارك وتعالى: { وهو السميع البصير }، قال حنبل في موضع آخر: وهو سميع بصير، بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغه الواصفون وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت ووصف وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة، والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا بما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلما عالما غفورا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، فهذه صفات وصف بها نفسه لا ترد ولا تدفع وهو على العرش بلا حد، كما قال تعالى { ثم استوى على العرش } كيف شاء، المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له، { ليس كمثله شيء }، وهو خالق كل شيء، وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير، وقال تعالى حكاية عن قول إبراهيم لأبيه، { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر بضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول وتبيين القرآن، لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشتبهة قلت له: والمشبهة ما يقولون ؟ قال: من قال بصر كبصري، ويد كيدي - وقال حنبل في موضع آخر - وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده، وهذا كلام سوء وهذا محدود الكلام في هذا لا أحبه، قال: عبد الله جردوا القرآن، وقال النبي - ﷺ - " يضع قدمه "، نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول ﷺ - بل نؤمن به، قال الله تبارك وتعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء والنهي عما نهى، وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة، ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير، قال الخلال: وناداني أبو القاسم بن الجبلي من حنبل في هذا الكلام وقال تبارك وتعالى: { لا إله إلا هو الحي القيوم } { لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى .

وقد روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رجل لابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون }، { ولا يكتمون الله حديثا } { والله ربنا ما كنا مشركين }، فقد كتموا في هذه الآية وقال { أم السماء بناها } - إلى قوله - { دحاها } فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } - إلى - { طائعين } فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء وقال: { وكان الله غفورا رحيما } { عزيزا حكيما } { سميعا بصيرا } فكأنه كان ثم مضى، فقال لا أنساب في النفخة الأولى { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قوله: { ما كنا مشركين } { ولا يكتمون الله حديثا }، فإن الله لا يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم قال المشركون تعالوا نقل لم نكن مشركين فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا وعنده { يود الذين كفروا، .، } الآية، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض ودحاها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك، وذلك قوله إني لم أزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب فيه الذي أراد فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله هكذا رواه البخاري مختصرا ورواه البرقاني في صحيحه من الطريق الذي أخرجها البخاري بعينها من طريق شيخ البخاري بعينه بألفاظه التامة أن ابن عباس جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي فقد وقع ذلك في صدري فقال ابن عباس: أتكذيب ؟ فقال الرجل: ما هو بتكذيب ولكن اختلاف قال: فهلم ما وقع في نفسك فقال له الرجل: اسمع، الله يقول: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }، وقال في آية أخرى: { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون }، وقال في آية أخرى: { ولا يكتمون الله حديثا }، وقال في آية أخرى: { والله ربنا ما كنا مشركين } فقد كتموا في هذه الآية وفي قول: { أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها } فذكر في هذه الآية: " خلق السماء قبل الأرض "، وقال في الآية الأخرى: { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } وقوله: { وكان الله غفورا رحيما } { وكان الله عزيزا حكيما } { وكان الله سميعا بصيرا }، وكأن كان ثم انقضى، فقال ابن عباس: هات ما في نفسك من هذا، فقال السائل: إذا أنبأتني بهذا فحسبي، قال ابن عباس، قوله: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }، فهذا في النفخة الأولى ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ثم إذا كان في النفخة الأخرى قاموا فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قول الله عز وجل: { والله ربنا ما كنا مشركين } وقوله: { ولا يكتمون الله حديثا } فإن الله تعالى يوم القيامة يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم لا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره ولا يغفر شركا، فلما رأى المشركون قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك تعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله تعالى أما إذا كتموا الشرك فاختم على أفواههم فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك عرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا، فذلك قوله { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا }، وأما قوله: { أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها } فإنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين يعني ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشق فيها الأنهار وجعل فيها السبل وخلق الجبال والرمال والآكام وما فيها في يومين آخرين، فذلك قوله: { والأرض بعد ذلك دحاها } وقوله: { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } وجعلت السماوات في يومين آخرين، وأما قوله: { وكان الله سميعا بصيرا }، { غفورا رحيما } { وكان الله عزيزا حكيما }، فإن الله جعل نفسه ذلك، وسمى نفسه ذلك ولم ينحله أحد غيره وكان الله أي لم يزل كذلك، ثم قال ابن عباس: احفظ عني ما حدثتك واعلم أن ما اختلف عليك من القرآن أشباه ما حدثتك، فإن الله لم ينزل شيئا إلا أصاب به الذي أراد ولكن الناس لا يعلمون، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله، وهكذا رواه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن شيخ البخاري كما رواه البرقاني وإنما يختلفان في يسير من الأحرف، وما ذكره أئمة السنة والحديث متعين لما جاء في الآثار من أنه سبحانه لم يزل كاملا بصفاته، لم تحدث له صفة ولا تزول عنه صفة، ليس هو بمخالف لقولهم أنه ينزل كما يشاء ويجيء يوم القيامة كما يشاء وأنه استوى على العرش بعد أن خلق السماوات، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه خلق آدم بيديه ونحو ذلك من الأفعال القائمة بذاته فإن الفعل الواحد من هذه الأفعال ليس مما يدخل في مطلق صفاته ; ولكن كونه بحيث يفعل إذا شاء هو صفته، والفرق بين الصفة والفعل ظاهر، فإن تجدد الصفة أو زوالها يقتضي تغير الموصوف واستحالته، ويقتضي تجدد كمال له بعد نقص، أو تجدد نقص له بعد كمال، كما في صفات الموجودات كلها إذا حدث للموصوف ما لم يكن عليه من الصفات، مثل تجدد العلم بما لم يكن يعلمه، والقدرة على ما لم يكن يقدر عليه، ونحو ذلك، أو زال عنه ذلك بخلاف الفعل، وهكذا يقوله طوائف من أهل الكلام المخالفين للمعتزلة، والذين هم أقرب إلى السنة منهم، من المرجئة والكرامية وطوائف من الشيعة كما نقلوا عن الكرامية الذين يقولون إنه تحله الحوادث من القول والإرادة والاستمتاع والنظر، ويقولون مع ذلك: لم يزل الله متكلما ولم يزل بمشيئته القديمة ولم يزل سميعا بصيرا أجمعوا على أن هذه الحوادث لا توجب لله سبحانه وصفا ولا هي صفات له سبحانه، والذين ينازعون في هذا من المعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم، فيقولون لو قام فعل حادث بذات القديم لاتصف به وصار الحادث صفة له إذ لا معنى لقيام المعاني واختصاصها بالذوات إلا كونها صفات لها، فلو قامت الحوادث من الأفعال والأقوال والإرادات بذات القديم لاتصف بها كما اتصف بالحياة والقدرة والعلم والمشيئة، ولو اتصف بها لتغير بها، والتغير عليه ممتنع، وهذا نزاع لفظي فإن تسمية هذا صفة وتغيرا لا يوافقهم الأولون عليه وليست اللغة أيضا موافقة عليه، فإنها لا تسمي قيام الإنسان وقعوده تغيرا له، ولا يطلق القول بأنه صفة له وإن أطلق ذلك فالنزاع اللفظي لا يضر إلا إذا خولفت ألفاظ الشريعة، وليس في الشريعة ما يخالف ذلك ولكن هؤلاء كثيرا ما يتنازعون في الألفاظ المجملة المتشابهة وقد قيل أكبر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، قال الإمام أحمد في وصف أهل البدع فهم مخالفون الكتاب مختلفون في الكتاب مجتمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم ويتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم والذي يبين أن مجرد الحركة في الجهات ليست تغيرا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي أنه قال: { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ; فإن لم يستطع فبلسانه ; فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } ( ) فأمر بتغيير المنكر باليد أو اللسان ومعلوم أن تغيير المنكر هو ما يخرجه عن أن يكون منكرا وذلك لا يحصل إلا بإزالة صورته وصفته بتحريكه من حيز إلى حيز، فتغيير الخمر لا يحصل بمجرد نقلها من حيز إلى حيز، بل بإراقتها أو إفسادها مما فيه استحالة صورتها وذلك من رأى من يقتل غيره لم يكن تغيير ذلك بمجرد النقل الذي ليس فيه زوال صورة القتل بل لا بد من زوال صورة القتال وكذلك الزانيان وكذلك المتكلم بالبدعة والداعي ليس تغيير هذا المنكر بمجرد التحويل من حيز إلى حيز وأمثال ذلك كثيرة فإذا كان النبي قد أمر بتغيير المنكر وذلك لا يحصل قط بمجرد النقل في الأحياز والجهات إذ الأحياز والجهات متساوية فهو منكر هنا كما أنه منكر هناك علم أن هذا لا يدخل في مسمى التغيير بل لا بد في التغيير من إزالة صورة موجودة وإن ذاك قد يحصل بالنقل لكن العرض أن مجرد الحركة كحركة الشمس والقمر والكواكب لا يسمى تغيرا بخلاف ما يعرض للجسد من الخوف والمرض والجوع ونحو ذلك مما يغير صفته .

وقد جاء في الأحاديث المرفوعة في تجليه سبحانه للجبل ما رواه الترمذي في جامعه، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن يعني الدارمي أنبأنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس { أن النبي ﷺ - قرأ هذه الآية: { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } قال حماد هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة أصبعه اليمنى قال فساخ الجبل وخر موسى صعقا }، قال الترمذي هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، وقال أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة حدثنا حسين بن الأسود، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، حدثنا أسباط عن السدي عن عكرمة عن ابن عباس: { فلما تجلى ربه للجبل } قال ما تجلى منه إلا مثل الخنصر قال فجعله دكا، قال ترابا وخر موسى صعقا، غشي عليه، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك عن أن أسألك الرؤية وأنا أول المؤمنين، قال: أول من آمن بك من بني إسرائيل، ورواه الطبراني قال حدثنا محمد بن إدريس بن عاصم الحمال، حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا عمرو بن محمد العنقري فذكره عن ابن عباس: { فلما تجلى ربه للجبل }، قال ما تجلى منه إلا مثل الخنصر فجعله دكا قال ترابا، ورواه البيهقي في كتاب إثبات الرؤية له أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق يعني العدفاني، حدثنا عمرو بن طلحة في التفسير، حدثنا أسباط عن السدي عن عكرمة عن ابن عباس، أنه قال: تجلى منه مثل طرف الخنصر فجعله دكا، والصفاني ومن فوقه إلى عكرمة روى لهم مسلم في صحيحه ؟ وعكرمة روى له البخاري في صحيحه، وروى الثوري وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة بعضهم عن ابن أبي نجيح وبعضهم عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله في قصة داود: { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } قال يدنيه حتى يمس بعضه، وهذا متواتر عن هؤلاء، وممن رواه الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب السنة حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير { وإن له عندنا لزلفى } قال ذكر الدنو منه حتى أنه يمس بعضه، وقال حدثنا أبو بكر حدثنا ابن فعنيل عن ليث عن مجاهد: { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال: يقعده معه على العرش، وقال الإمام أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة، حدثنا فضيل بن سهل، حدثنا عمرو بن طلحة القناد، حدثنا أسباط بن نصر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: { ولقد رآه نزلة أخرى } قال إن النبي ﷺ - رأى ربه فقال له رجل أليس قد قال الله تعالى: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } فقال له عكرمة أليس ترى السماء ؟ قال بلى، قال أفكلها ترى ؟ ففي هذه أن عكرمة أخبر قدام ابن عباس، أن إدراك البصر هو رؤية المدرك كله دون رؤية بعضه، فالذي يرى السماء ولا يراها كلها ولا يكون مدركا لها، وجعل هذا تفسيرا لقوله: { لا تدركه الأبصار } وأقره ابن عباس على ذلك ومع هذا هؤلاء الذين نقل عنهم هذا اللفظ فقد نقل عنهم أيضا إنكار تبعضه سبحانه وتعالى، وبين الناقلون معنى ذلك، قال الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة حدثني عبد الرحمن بن محمد الآملي عن موسى بن عيسى بن حماد بن زغبة، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا نوح ابن مريم عن إبراهيم بن ميمون عن عكرمة قال: جاء نجدة الحروري إلى ابن عباس فقال يا أبا عباس، نبئنا كيف معرفتك بربك تبارك وتعالى فإن من قبلنا اختلفوا علينا فقال ابن عباس: من نصب دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس، مائلا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير جميل، أعرفه بما عرف به نفسه تبارك وتعالى من غير رؤية، قال نعيم يعني في الدنيا وأصفه بما وصف به نفسه، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير شبيه، ومتدان في بعده، قال نعيم: يقول هو على العرش، ولا يخفى عليه خافية، لا تتوهم ديمومته ولا يمثل بخليقته، ولا يجور في قضية، الخلق إلى ما علم منقادون، وعلى ما سطر في المكنون من كتابه ماضون، لا يعلمون بخلاف ما منهم علم ولا غيره، يريدون فهو قريب غير ملتزق يعني قريبا بعلمه وبعيدا غير منقض يحقق ولا يمثل ويوجد ولا يبعض، قال نعيم لا يقال بعضه على العرض وبعضه على الأرض يدرك بالآيات، ويثبت بالعلامات، هو الكبير المتعال تبارك وتعالى، قلت: هذا الكلام في صحته عن ابن عباس نظر والذي يغلب على الظن أنه ليس من كلام ابن عباس، ونوح بن أبي مريم له مفاريد من هذا النمط، ولكن لا ريب أن نعيم بن حماد ذكر ذلك في كتبه التي صنفها في الرد على الجهمية، وهو قد نفى تبعيضه بالمعنى الذي فسره، وهذا ما لا يستريب فيه المسلمون، وهذا مما دل عليه قوله تعالى: { قل هو الله أحد، الله الصمد } كما قد بسطنا الكلام فيه في موضعه في الكلام على من تأول هذه السورة على غير تأويلها ولا ريب أن لفظ البعض والجزء والغير ألفاظ مجملة فيها إيهام وإبهام فإنه قد يقال ذلك على ما يجوز أن يوجد منه شيء دون شيء بحيث يجوز أن يفارق بعضه بعضا، وينفصل بعضه عن بعض أو يمكن ذلك فيه، كما يقال: حد الغيرين ما جاز مفارقة أحدهما للآخر كصفات الأجسام المخلوقة من أجزائها وأعراضها فإنه يجوز أن تتفرق وتنفصل، والله سبحانه منزه عن ذلك كله مقدس عن النقائص والآفات، وقد يراد بذلك ما يعلم منه شيء دون شيء فيكون المعلوم ليس هو غير المعلوم وإن كان لازما له لا يفارقه والتغاير بهذا المعنى ثابت لكل موجود فإن العبد قد يعلم وجود الحق ثم يعلم أنه قادر ثم أنه عالم ثم أنه سميع بصير وكذلك رؤيته تعالى كالعلم به فمن نفى عنه وعن صفاته التغاير والتبعيض بهذا المعنى فهو معطل جاحد للرب فإن هذا التغاير لا ينتفي إلا عن المعدوم، وهذا قد بسطناه في كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية في الكلام على سورة الإخلاص وغير ذلك بسطا بينا ومن علم ذلك زالت عنه الشبهات في هذا الباب، فقول السلف والأئمة ما وصف الله من الله وصفاته منه، وعلم الله من الله وله نحو ذلك مما استعملوا فيه لفظ من، وإن قال قائل معناها التبعيض فهو تبعيض بهذا الاعتبار كما يقال إنه تغاير بهذا الاعتبار ثم كثيرا من الناس يمتنع أو ينفي لفظ التغاير والتبعيض ونحو ذلك، وبعض الناس لا يمتنع من لفظ التغاير ويمتنع من لفظ التبعيض، وبعضهم لا يمتنع من اللفظين إذا فسر المعنى وأزيلت عنه الشبهة والإجمال الذي في اللفظ، ولا ريب أن الجهمية تقول في هذا الباب ما هم متناقضون فيه تناقضا معلوما بالبديهة ثم إن الذين ينفون أن لا يتصف إلا بالمعدوم فيتناقضون ويعطلون فإنهم يقولون إن كونه واحدا يمتنع أن يكون له صفة بوجه من الوجوه، لأن ذلك يوجب الكثرة والعددية قالوا ويجب تنزيهه عن ثبوت عدد وكثرة في وصف أو قدرة ثم إنهم يضطرون إلى أن يقولوا هو قديم حق رب حي عليم قدير ونحو ذلك من المعاني التي يمكن علمنا ببعضها دون بعض والمعلوم ليس هو الذي ليس بمعلوم، وذلك يقتضي ما فروا منه مما سموه تعددا وكثرة وتبعيضا وتغايرا، فهذا تناقضهم ثم إن سلب ذلك لا يكون إلا عن المعدوم وأما الموجود فإما قديم وإما محدث وإما موجود بنفسه وإما ممكن مفتقر إلى غيره وأن الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره إلى غير ذلك من المعاني التي تميز بها الموجودات بعضها عن بعض إذ لكل موجود حقيقة خاصة يميز بها يعلم منها شيء دون شيء وذلك هو التبعيض والتغاير الذي يطلقون إنكاره وهذا أصل نفاة الجهمية المعطلة وهم كما قال الأئمة لا يثبتون شيئا في الحقيقة، ولهذا قال الإمام أبو عمر بن عبد البر الذي أقول إنه إذا نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين وبإعلام النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة ولا سكون ولا من باب الكل والبعض ولا من باب كان ويكون ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبا وفي الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازما ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجبات لما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم ولو كان ذلك من علمهم مشهورا ومن أخلاقهم معروفا لاستفاض عنهم واشتهروا به كما اشتهروا بالقرآن والروايات وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { ينزل ربنا إلى سماء الدنيا } عندهم مثل قول الله: { فلما تجلى ربه للجبل } ومثل قوله: { وجاء ربك والملك صفا صفا } كلهم يقول ينزل ويتجلى ويجيء بلا كيف، ولا يقولون كيف يجيء وكيف يتجلى وكيف ينزل، وفي قوله { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } دلالة واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجليا للجبل، وفي ما يفسر لك حديث التنزيل ومن أراد أن يقف على أقاويل العلماء في قوله { فلما تجلى ربه للجبل } فلينظر في تفسير بقي بن مخلد وتفسير محمد بن جرير وليقف على ما ذكرا من ذلك والله أعلم، وقد ذكر القاضي أبو يعلى في كتاب أبطال التأويلات لأخبار الصفات ما رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أبو المغيرة الخولاني حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال: إن الله إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تزلزل، وإذا أراد أن يدمر على قوم تجلى لها قال ورواه ابن فورك عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخوف أهل الأرض أبدى عن بعضه، وإذا أراد أن يدمر عليها تجلى لها ثم قال أما قوله أبدى عن بعضه فهو على ظاهره وأنه راجع إلى الذات إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحق، فإن قيل بل في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته لأنه يستحيل وصفه بالكل والبعض والجزء فوجب حمله على إبداء بعض آياته وعلاماته تحذيرا وإنذارا قيل لا يمتنع إطلاق هذه الصفة على وجه لا يفضي إلى التجزئة والتبعيض، كما أطلقنا تسمية يد ووجه لا على وجه التجزئة والتبعيض وإن كنا نعلم أن اليد في الشاهد بعض الجملة قال: وجواب آخر وهو أنه لو جاز أن يحمل قوله وإذا أبدى عن بعضه على بعض آياته لوجب أن يحمل قوله أراد أن يدمر على قوم تجلى لها على جميع آياته ومعلوم أنه لم يدمر قرية بجميع آياته لأنه قد أهلك بلادا كل بلد بغير ما أهلك به الآخر وكذلك قال الإمام أحمد فيما أخرجه في الرد على الجهمية لما ذكر قول جهم قال فتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث النبي ﷺ - وزعم أن من وصف من الله شيئا مما يصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا فبين أحمد في كلامه أن من الله ما يوصف وأنه يوصف بذلك فذلك موصوف والرب موصوف به وهذا كلام سديد، فإن الله في كلامه وصف ما وصف من علمه وكلامه وخلقه بيديه وغير ذلك، وهو موصوف بهذه المعاني التي وصفها ولذلك سميت صفات فإن الصفة أصلها وصفة مثل جهة أصلها وجهة وعدة وزنة أصلها وعدة ووزنة وهذا المثال وهو فعله قد يكون في الأصل مصدرا كالعدة والوعد فكذلك الصفة وموصف وقد يكون بمعنى المفعول كقولهم، حلية ووجهة وشرعة وبدعة فإن فعلا يكون بمعنى المفعول كقوله { بذبح عظيم } أي بمذبوح والشرعة المشروعة والبدعة والوجه هي الجهة التي يتوجه إليها، فكذلك قد يقال في لفظ الصفة إن لم تنقل عن المصدر أنهما الموصوفة، وعلى هذا ينبني نزاع الناس هل الوصف والصفة في الأصل بمعنى واحد بمعنى الأقوال ثم استعملا في المعاني تسمية للمفعول باسم المصدر إذ الوصف هو القول الذي هو المصدر والصفة هي المفعول الذي يوصف بالقول وأكثر الصفاتية على هذا الثاني، وقولهم أيضا يصح على القول الأول كما كنا نقرره قبل ذلك، إذ أهل العرف قد يخصون أحد اللفظين بالنقل دون الآخر، لكن تقرير قولهم على هذه الطريقة الثانية أكمل وأتم كما ذكرناه هنا، فقول أحمد وغيره: فمن وصف من الله شيئا مما يصف به نفسه فالشيء الموصوف هو الصفة كعلمه ويديه، وهذه الصفة الموصوفة وصف الله بها نفسه أي أخبر بها عن نفسه وأثبتها لنفسه، كقوله: { أنزله بعلمه } وقوله: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }، ثم قال أحمد: فإذا قيل لهم من تعبدون ؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة ؟ قالوا: نعم، فقلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون إلى أن قال لهم فقد جمعتم في مسألة الكلام كما تقدم ذكر لفظه بين كفر وتشبيه فتعالى عن هذه الصفة إلى قوله قال فقالوا: لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء، فقلنا نحن نقول قد كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى خلق فعلم والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: { ذرني ومن خلقت وحيدا } وقد كان الله سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد فقد بين أن ما لا يعرف بصفة فهو معدم وهذا حق وبين أنه متعال عن الصفة التي وصفه بها الجهمية وذكر أنه إذا قلنا لم يزل بصفاته كلها إنما نصف إلها واحدا وبين أن النبات والحيوان يسمى واحدا وإن كان له صفات هي كالجذع والكرب من النخلة، وكاليد والرجل من الإنسان فالرب أولى أن يكون واحدا وإن كان له صفات، إذ هو أحق بالوحدانية واسم الواحد من المخلوقات التي قد تتفرق صفاتها وتتبعض وتكون مركبة منها، والرب تعالى " أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " والمقصود أنه سمى هذه الأمور صفات أيضا، ونظير ذلك ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في التمهيد في شرح الموطإ بعد أن قال: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم يكيفون شيئا من ذلك ولا يجدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود بلا سوف، والحق فيما قاله القائلون بما ينطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله، روى حرملة بن يحيى سمعت عبد الله بن وهب يقول سمعت مالك بن أنس يقول: من وصف شيئا من ذات الله مثل قوله { وقالت اليهود يد الله مغلولة } فأشار بيده إلى عنقه، ومثل قوله { وهو السميع البصير } فأشار إلى عينه وأذنه أو شيئا من يديه قطع ذلك منه لأنه شبه الله بنفسه، ثم قال مالك: أما سمعت قول البراء حين حدث { أن النبي ﷺ - لا يضحي بأربع من الضحايا وأشار البراء بيده كما أشار النبي ﷺ - قال البراء ويدي أقصر من يد رسول الله ﷺ } فكره البراء أن يصف يد رسول الله ﷺ - إجلالا له وهو مخلوق فكيف الخالق الذي ليس كمثله شيء انتهى، والمقصود قوله من وصف شيئا من ذات الله فجعل الموصوف من ذات الله وغالب كلام السلف على هذا، كقول عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون نظير مالك في كلامه المشهور في الصفات، وقد رواه بالإسناد أبو بكر الأثرم وأبو عمرو الطلمنكي وأبو عبد الله بن بطة في كتبهم وغيرهم قال: أما بعد فقد فهمت ما سئلت فيما تتابعت الجهمية ومن خلفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره ردت عظمته العقول فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير وإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف، على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر مخلوقاته لا تكاد تراه صغيرا يحول ويزول ولا يرى له سمع ولا بصر لما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير،

الوجه السادس والعشرون: أن ثبوت الكلام لله بالأمر والنهي والخبر أثبتموه بالإجماع والنقل المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام ومن المعلوم أن هذا المعنى الذي ادعيتم أنه معنى كلام الله لم يظهر في الأمة إلا من حين حدوث ابن كلاب ثم الأشعري بعده إذ قبل قول ابن كلاب لا يعرف في الأمة أحد فسر كلام الله بهذا ولهذا لما ذكر الأشعري اختلاف الناس في القرآن وذكر أقوالا كثيرة فلم يذكر هذا القول إلا عن ابن كلاب وجعل له ترجمة فقال وهذا قول عبد الله بن كلاب، قال عبد الله بن كلاب إن الله لم يزل متكلما وإن كلام الله صفة له قائمة به وإنه قديم بكلامه وإن كلامه قائم به كما إن العلم قائم به والقدرة قائمة به وهو قديم بعلمه وقدرته وإن الكلام ليس بحرف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا تتغاير وإنه معنى واحد قائم بالله تعالى وإن الرسم هو الحروف المتغايرة وهو قراءة القارئ وإنه خطأ أن يقال إن كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره وإن العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله مختلف ومتغاير والمذكور لا يختلف ولا يتغاير وإنما سمي كلام الله عربيا لأن الرسم الذي هو العبارة عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيا لعلة وكذلك سمي عبرانيا لعلة وكذلك سمي أمرا لعلة وسمي نهيا لعلة وخبرا لعلة ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمى كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي بها سمي أمرا وكذلك القول في تسميته نهيا وخبرا وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرا ولم يزل ناهيا ثم يقال ولو قدر أنه لم يحدثه فلا ريب أنه معنى خفي مشكل متنازع في وجوده وإنما يتصور وجوده بالأدلة الخفية وإذا كان كذلك فالذين نقلوا عن الأنبياء عليهم السلام أن الله يتكلم ويأمر وينهى والذين أجمعوا على ذلك إذا لم يذكر أحد منهم أنه أراد هذا المعنى الخفي المشكل الذي ليس يتصور بحال أو لا يتصور إلا بشدة عظيمة لم يجز أن يقال إنهم كانوا متفقين على نقل هذا المعنى والإجماع عليه ولم يجز أن يقال إنهم أجمعوا على ثبوت معنى لا يفهمونه ونقلوا عن الأنبياء عليهم السلام أن الله تعالى يتكلم ويقول وهم لا يفهمون معنى لفظ الكلام والقول فإن هذا أيضا معلوم الفساد بالضرورة وإذا بطل القسمان على أن الذي انعقد عليه الإجماع ونقله أهل التواتر عن المرسلين هو الكلام الذي تسميه الخاصة والعامة كلاما دون هذا المعنى والله سبحانه أعلم، وهذا بين واضح يدل على فساد مذهب المخالف وعلى صحة مذهب أهل السنة وبمثل هذا الوجه يبطل أيضا مذهب الجهمية من المعتزلة ونحوهم فإن كون الكلام يكون منفصلا عن المتكلم قائما بغيره مما لا تعرف العامة والخاصة أنه يكون كلاما للمتكلم وإن أثبت ذلك فإنما يثبت بأدلة خفية مشكلة وإذا كان أهل التواتر نقلوا أن الله تكلم بالقرآن وأجمع المسلمون على ذلك ولم يجز إرادة هذا المعنى علم أن التواتر والإجماع إنما هو على المعنى المعروف وهو أنه سبحانه تكلم بالقرآن كله حروفه ومعانيه وأن المتكلم لا بد أن يقوم به كلامه وإن كان يتكلم إذا شاء .

الوجه الخامس والثلاثون: إنهم قد ذكروا حجتهم على ذلك وإذا تدبرها الإنسان علم فسادها وبناءها على أصل فاسد، وتناقضهم فيها، قال الأستاذ أبو بكر بن فورك أمره سبحانه للمؤمنين بالإيمان هو نهيه عن الكفر وأمره بالصلاة إلى بيت المقدس في وقت بعينه هو نهيه عن الصلاة إليه في وقت غيره، قال: وكذلك يقول إن مدحه المؤمن على إيمانه بكلامه الذي هو ذم للكافرين ولا يتغير القول بتغاير كلامه واختلاف أنواعه بل نقول فيه كما نقول في علمه وقدرته وسمعه وبصره، فنقول إن علمه بوجود الموجود هو علمه بعدمه إذا عدم وقدرته عليه قبل أن يوجده هي قدرته عليه في حال إيجاده ولا يقال إنها قدرة عليه في حال بقائه ورؤيته لآدم وهو في الجنة هي رؤيته له هو في الدنيا وسمعه لكلام زيد هو سمعه لكلام عمرو من غير تغير واختلاف في شيء من أوصافه ونعوته لذاته، وقال: فإن قيل: كيف يعقل كلام واحد يجمع أوصافا مختلفة حتى يكون أمرا نهيا خبرا استخبارا ووعدا ووعيدا قيل يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا على خلاف كلام المحدثين كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات والذي أوجب كونه كذلك قدمه ووجب مخالفته للمتكلمين المحدثين، وإن كان لا يعقل متكلم هو شيء واحد لا ينقسم ولا يتجزأ في المحدثات فيقال له هذا ليس جوابا عن السؤال فإن السائل قال كيف يعقل أن يكون الواحد الذي لا اختلاف فيه مختلفا، فإن هذا مثل قول النصارى هو جوهر واحد وهو ثلاثة جواهر، وما ذكره إنما هو إقامة الدليل على ثبوت ما ادعاه ليس جوابا عن المعارضة وهذه عادة ابن فورك وأصحابه فإنه لما نوظر قدام محمود بن سبكتكين أمير المشرق فقيل له لو وصف المعدوم لم يوصف إلا بما وصفت به الرب من كونه لا داخل العالم ولا خارجه كتب إلى أبي إسحاق الإسفراييني في ذلك، ولم يكن جوابهما إلا أنه لو كان خارج العالم للزم أن يكون جسما، فأجابوا لمن عارضهم بضرورة العقل بدعوى الحجة، قلت: فنظره كذلك في هذا المقام، فإن كون الواحد الذي لا اختلاف فيه ولا تعدد ولا تغاير أصلا يكون أشياء مختلفة هو جمع بين النقيضين وذلك معلوم الفساد ببديهة العقل، فإذا قبل للشخص، هذا الكلام معلوم الفساد ببديهة العقل هل يكون جوابه أن يقيم دليلا على صحته بل يبين أنه لا يخالف بديهة العقل وضرورته وهو لم يفعل ذلك ولا يمكن أحد أن يفعل ذلك بحق فإن البديهات لا تكون باطلة بل القدح فيها سفسطة وهم دائما ينكرون على غيرهم مخالفتهم ما هو دون هذا كما سننبه على بعضه . وذكر طوائف من المتكلمين كابن الزاغوني عنهم أنهم جميعا يقولون بالاتحاد والحلول، لكن الاتحاد في المسيح والحلول في مريم، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام وذكروا اختلافا بينهم ثم قالوا وزعموا أن الجوهر هو الأب والأقانيم الحياة وهي روح القدس والعلم والقدرة وأن الله اتحد بأحد الأقانيم الذي هو الابن بعيسى ابن مريم وكان مسيحا عند الاتحاد لاهوتيا وناسوتيا حمل وولد ونشأ وقتل وصلب ودفن، ثم ذكروا اليعقوبية والنسطورية والملكية، قال الناقلون عنهم واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم فقالت طائفة منهم أن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة كما يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه، وقالت طائفة منهم أنها حلت في مريم من غير ممازجة وزعمت طائفة من النصارى أن اللاهوت مع الناسوت كمثل الخاتم مع الشمع يؤثر فيه بالنقش ثم لا يبقى منه شيء إلا أثر فيه، ثم ذكر هؤلاء عنهم في الاتحاد نحو ما حكى الأولون فقالوا قد اختلف قولهم في الاتحاد اتحادا متباينا، فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت قبل جسد المسيح وهذا قول الأكثرين منهم وزعم قوم منهم أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج، وقال قوم من اليعقوبية هو أن كلمة الله انقلبت لحما ودما بالاتحاد، وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا فامتزجا كاختلاط الماء بالخمر والخمر باللبن وقال قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلا ومحلا، وقال قوم منهم الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة والطابع في المطبوع مثل الخاتم في الشمع، وقال قوم منهم الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة كما نقول إن الله في السماء وعلى العرش من غير مماسة ولا ممازجة، وقال الملكية الاتحاد هو أن الاثنين صارا واحدا وصارت الكثرة قلة فزعم بعض الناس أن الذين قالوا هو المسيح ابن مريم الذين قالوا اتحدا حتى صارا شيئا واحدا والذين قالوا هما جوهر واحد له طبيعتان فيقولون هو ولده بمنزلة الشعاع المتولد عن الشمس، والذين قالوا بجوهرين وطبيعتين وأقنومين مع الرب قالوا ثالث ثلاثة وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بشيء فإن الله أخبر أن النصارى يقولون إنه ثالث ثلاثة وأنهم يقولون إنه ابن الله وقال لهم لا تقولوا ثلاثة مع إخباره أن النصارى افترقوا وألقي بينهم العداوة والبغضاء بقوله: { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيمة }، وقد ذكر المفسرون أن هذا إخبار بتفرقهم إلى هذه الأصناف الثلاثة وغير ذلك، وقد أخبر سبحانه عقب قوله ثالث ثلاثة بما يقتضي أن هؤلاء اتخذوه ولدا بقوله تعالى: { ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد } وذكر أيضا ما يقتضي أن قولهم إن الله هو المسيح ابن مريم من الشرك، فقال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } فهذا يقتضي أن هذا القول من الشرك، وذلك لأنهم مع قولهم إن الله هو المسيح ابن مريم فلا يخصونه بالمسيح بل يثبتون أن له وجودا وهو الأب ليس هو الكلمة التي في المسيح فإن عبادتهم إياه معه إشراك وذلك مضموم إلى قوله إنه هو وقولهم إنه ولده وقد نزه الله نفسه عن هذا وهذا في غير موضع من القرآن، نزه نفسه عن الشريك والولد كما في قوله تعالى: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } وقال تعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا }، وقال تعالى: { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون } وأيضا فهذه الأقوال لا تنطبق على ما ذكر فإن الذين يقولون إنهما اتحدا وصارا شيئا واحدا يقولون أيضا إنما اتحد الكلمة التي هي الابن، والذين يقولون هما جوهر واحد له طبيعتان يقولون إن المسيح إله وإنه الله والذين يقولون إنه حل فيه يقولون حلت فيه الكلمة التي هي الابن وهي الله أيضا بوجه آخر كما سنذكره، وأيضا فقوله ثالث ثلاثة ليس المراد به الله واللاهوت الذي في المسيح وجسد المسيح فإن أحدا من النصارى لا يجعل لاهوت المسيح وناسوته إلهين ويفصل الناسوت عن اللاهوت بل سواء قال بالاتحاد أو بالحلول فهو تابع للاهوت، وأيضا فقوله عن النصارى { ولا تقولوا ثلاثة } { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة }، قد قيل إن المراد به قول النصارى باسم الأب والابن والروح القدس إله واحد وهو قولهم بالجوهر الواحد الذي له الأقانيم الثلاثة التي يجعلونها ثلاثة جواهر وثلاثة أقانيم أي ثلاثة صفات وخواص، وقولهم إنه هو الله وابن الله هو الاتحاد والحلول، فيكون على هذا تلك الآية على قولهم تثليث الأقانيم، وهاتان في قولهم بالحلول والاتحاد، فالقرآن على هذا القول رد في كل آية على صنف منهم، والقول الثاني وهو الذي عليه أن المراد بذلك جعلهم للمسيح إلها، ولأمه إلها مع الله، كما ذكر ذلك في قوله: { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } إلى قوله: { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } الآية، ويدل على ذلك قوله: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } فقوله تعالى: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة } عقب قوله: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } يدل على أن التثليث الذي ذكره الله عنهم اتخاذ المسيح ابن مريم وأمه إلهين، وهذا واضح على قول من حكى من النصارى أنهم يقولون بالحلول في مريم والاتحاد بالمسيح، وهو أقرب إلى تحقيق مذهبهم، وعلى هذا فتكون كل آية مما ذكره الله من الأقوال تعم جميع طوائفهم، وتعم أيضا بتثليث الأقانيم، وبالاتحاد والحلول، فتعم أصنافهم وأصناف كفرهم، ليس يختص كل آية بصنف، كما قال من يزعم ذلك، ولا تختص آية بتثليث الأقانيم، وآية بالحلول والاتحاد، بل هو سبحانه ذكر في كل آية كفرهم المشترك، ولكن وصف كفرهم بثلاث صفات وكل صفة تستلزم الأخرى: أنهم يقولون المسيح هو الله، ويقولون هو ابن الله، ويقولون إن الله ثالث ثلاثة، حيث اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، هذا بالاتحاد، وهذه بالحلول، وتبين بذلك إثبات ثلاثة آلهة منفصلة غير الأقانيم، وهذا يتضمن جميع كفر النصارى، وذلك أنهم يقولون: الإله جوهر واحد له ثلاث أقانيم، وهذه الأقانيم يجعلونها تارة جواهر وأشخاصا، وتارة صفات وخواصا، فيقولون: الوجود الذي هو الأب، والابن الذي هو العلم، وروح القدس التي هي الحياة عند متقدميهم، والقدرة عند متأخريهم، فيقولون موجود حي عالم ناطق أو موجود عالم قادر، لكن يقولون أيضا إن الكلمة التي هي الابن جوهر، وروح القدس أيضا جوهر، وأن المتحد بالمسيح هو جوهر الكلمة دون جوهر الأب وروح القدس وهذا مما لا نزاع بينهم فيه، ومن هنا قالوا كلهم المسيح هو الله، وقالوا كلهم هو ابن الله، لأنه من حيث إن الأب والابن وروح القدس إله واحد وجوهر واحد وقد اتحد بالمسيح كان المسيح هو الله، ومن حيث إن الأب جوهر والابن جوهر وروح القدس جوهر والذي اتحد به هو جوهر الابن الذي هو الكلمة، كان المسيح هو ابن الله عندهم، ولا ريب أن هذين القولين - وإن كان كل منهما متضمنا لكفرهم كما ذكره الله - فإنهما متناقضان، إذ كونه هو يناقض كونه ابنه، لكن النصارى يقولون هذا كلهم، ويقولون هذا كلهم، كما ذكر الله ذلك عنهم، ولهذا كان قولهم معلوم التناقض في بديهة العقول، عند كل من تصوره، فإن هذه الأقانيم إذا كانت صفات أو خواصا وقدر أن الموصوف له بكل صفة اسم كما مثلوه بقولهم " زيد الطبيب " " وزيد الحاسب " " وزيد الكاتب " لكن لا يمكن أن بعض هذه الصفات يتحد بشيء دون الجوهر، ولا أن بعض هذه الصفات يفارق بعضا فلا يتصور مفارقة بعضها بعضا ولا مفارقة شيء منها للموصوف حتى يقال المتحد بالمسيح بعض هذه الصفات، وهم لا يقولون ذلك أيضا بل هم متفقون على أن المتحد به جوهر قائم بنفسه، فإن لم يكن جوهر إلا جوهر الأب كان جوهر الأب هو المتحد، وإن كان جوهر الابن غيره فهما جوهران منفصلان وهم لا يقولون بذلك، والموصوف أيضا لا يفارق صفاته، كما لا تفارقه، فلا يمكن أن يقال: اتحد الجوهر بالمسيح بأقنوم العلم دون الحياة، إذ العلم والحياة لازمان للذات، لا يتصور أن تفارقهما الذات ولا يفارقهما واحد منهما، ومن هنا قيل: النصارى غلطوا في أول مسألة من الحساب الذي يعلمه كل أحد، ، وهو قولهم الواحد ثلاثة، وأما قول بعضهم: أحدي الذات، ثلاثي الصفات، فهم لا يكتفون بذلك - كما تقدم - بل يقولون الثلاثة جواهر والمتحد بالمسيح واحد منها دون الآخر ، وبهذا يتبين أن كل من أراد أن يذكر قولهم على قول يعقل فقد قال الباطل، كقول المتكايسين منهم هذا كما تقول: زيد الطبيب، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب فهم ثلاثة رجال باعتبار الصفات، وهم رجل واحد باعتبار الذات، فإنه يقال: من يقول هذا لا يقول بأن زيدا الطبيب فعل كذا أو اتحد بكذا أو حل به دون زيد الحاسب والكاتب، بل أي شيء فعله أو وصف به زيد الطبيب في هذا المثال فهو الموصوف به زيد الكاتب الحاسب، والنصارى يثبتون هذا المثلث في الأقانيم مع قولهم إن المتحد هو الواحد فيجعلون المسيح هو الله لأنهم يقولون الموصوف اتحد به، ويجعلونه هو ابن الله، لأنهم يقولون إنما اتحد به الجوهر الذي هو الكلمة، أو إنما اتحد به الكلمة دون الأب الذي هو الموجود، ودون روح القدس وهما أيضا جوهران، فقد تبين أن قول النصارى بهذا وبهذا جمع بين النقيضين، وهو أفسد شيء في بداهة العقول، وكل منهما كفر كما كفرهم الله، وأما قولهم: ثالث ثلاثة، فإنهم مع ذلك يعبدون الأم التي هي والدة الإله عندهم، وهذا كفر آخر مستقل بنفسه غير تثليث الأقانيم والاتحاد بالمسيح، فالقرآن يتناول جميع أصناف كفرهم في هذا الباب تناولا تاما، والمقصود هنا التنبيه على مضاهاة الجهمية لهم دون تفصيل الكلام عليهم، والجهمية الغلاظ يضاهونهم مضاهاة عظيمة، لكن المقصود هنا ذكر مضاهاة هؤلاء الذين يقولون: الكلام معنى واحد قائم بذات الرب ; فيقال: أنتم قلتم الكلام معنى واحد لا ينقسم ولا يختلف، وهذا المعنى الواحد هو بعينه أمر ونهي وخبر، فجعلتم الواحد ثلاثة، وجعلتم الواحد الذي لا اختلاف فيه ثلاث حقائق مختلفة، وهذا مضاهاة قوية لقول النصارى: الرب إله واحد، وهو مع ذلك ثلاثة جواهر، فجعلوه واحدا، وجعلوه ثلاثة، ثم قلتم: هذا الكلام الذي هو واحد وهو أمر ونهي وخبر، ينزل تارة فيكون أمرا ; وتارة فيكون خبرا، وتارة فيكون نهيا ; وإذا نزل فكان أمرا، لم يكن خبرا، وإنما نزل فكان خبرا لم يكن أمرا ; فإنه إذا أنزله الله فكان آية الكرسي وهي خبر لم يكن آية الدين التي هي أمر، وهذا لعله من أعظم المضاهاة كقول النصارى: إن الجوهر الواحد الذي هو ثلاثة جواهر ثلاثة أقانيم، وإذا اتحد فإنما يكون كلمة وابنا لا يكون أبا ولا روح قدس، فإن هؤلاء كما جعلوا الشيء الذي هو واحد يتحد ولا يتحد ما يتحد من جهة كونه كلمة ، ولا يتحد من جهة كونه وجودا، أجعل أولئك الذي هو كلام واحد ينزل ولا ينزل، ينزل من جهة كونه أمرا، ولا ينزل من جهة كونه خبرا، وأيضا فإنهم ضاهوا النصارى في تحريف مسمى الكلمة والكلام، فإن المسيح سمي كلمة الله لأن الله خلقه بكلمته: { كن فيكون }، كما يسمى متعلق الصفات بأسمائها فيسمى المقدور قدرة، والمعلوم علما، وما يرحم به رحمة، والمأمور به أمرا وهذا كثير قد بسطناه في غير هذا الموضع، لكن هذه الكلمة نادرة يجعلونها صفة لله، ويقولون هي العلم، وتارة يجعلونها جوهرا قائما بنفسه، وهي المتحد بالمسيح، وهؤلاء حرفوا مسمى الكلمة فزعموا أنه ليس إلا مجرد المعنى، وأن ذلك المعنى ليس هو العلم ولا الإرادة، ولا هو من جنس ذلك، ولكن هو شيء واحد، وهو حقائق مختلفة، لكن ليس في غير المسلمين من يقول الكلام جوهر قائم بنفسه ; إلا ما يذكر عن النظام أنه قال: الكلام الذي هو الصوت جسم من الأجسام، وأيضا فهم في لفظ القرآن الذي هو حروفه واشتماله على المعنى لهم مضاهاة قوية بالنصارى في جسد المسيح الذي هو متدرع للاهوت، فإن هؤلاء متفقون على أن حروف القرآن ليست من كلام الله بل هي مخلوقة، كما أن النصارى متفقون على أن جسد المسيح لم يكن من اللاهوت بل هو مخلوق، ثم يقولون: المعنى القديم لما أنزل بهذه الحروف المخلوقة، فمنهم من يسمي الحروف كلام الله حقيقة كما يسمي المعنى كلام الله حقيقة، ومنهم من يقول بل هي كلام الله مجازا، كما أن النصارى منهم من يجعل جسد المسيح لاهوتا حقيقة لاتحاده باللاهوت، واختلاطه به، ومنهم من يقول: هو محل اللاهوت ووعاؤه، ثم النصارى تقول: هذا الجسد إنما عبد لكونه مظهر اللاهوت، وإن لم يكن هو إياه، ولكن صار هو إياه بطريق الاتحاد، وهو محله بطريق الحلول، فعظم كذلك، وهؤلاء يقولون: هذه الحروف ليست من كلام الله، ولا يجوز أن يتكلم الله بها، ولكن خلقها وأظهر بها المعنى القديم ودل بها عليه، فاستحقت الإكرام والتحريم لذلك، حيث يدخل في حكمه بحيث لا يفصل بينهما، أو يفصل بأن يقال: هذا مظهر هذا دليله، وجعلوا ما ليس هو كلام الله ولا تكلم الله به قط كلاما لله معظما تعظيم كلام الله، كما جعلت النصارى الناسوت الذي ليس هو بإله قط، ولا هو الكلمة إلها وكلمة، وعظموه تعظيم الإله الذي هو كلمة الله عندهم، ومنها: أن النصارى

على ما حكى عنهم المتكلمون كابن الباقلاني أو غيره ينفون الصفات ويقولون: إن الأقانيم التي هي الوجود والحياة والعلم، هي خواص، هي صفات نفسية للجوهر، ليست صفات زائدة على الذات، ويقولون: إن الكلمة هي العلم، ليست هي كلام الله، فإن كلامه صفة فعل، وهو مخلوق، فقولهم في هذا كقول نفاة الصفات من الجهمية، المعتزلة وغيرهم، وهذا يكون قول بعضهم ممن خاطبهم متكلمو الجهمية من النسطوريين وغيرهم، وممن تفلسف منهم على مذهب نفاة الصفات من المتفلسفة، ونحو هؤلاء، وإلا فلا ريب أن في النصارى مثبتة للصفات، بل غالية في ذلك، كما أن اليهود أيضا فيهم المثبتة والنفات، والمقصود هنا أن تسميتهم للعلم كلمة دون الكلام الذي هو الكلام، ثم ذلك العلم ليس هو أمرا معقولا، كما تعقل الصفات القائمة بالموصوف، ضاهاهم في ذلك هؤلاء الذين يقولون: الكلام هو ذلك المعنى القائم بالنفس دون الكلام الذي هو الكلام، ثم ذلك المعنى ليس هو المعقول من معاني الكلام، فحرفوا اسم الكلام ومعناه، كما حرفت النصارى اسم الكلمة ومعناها، وهذا الكلام ذكرته من مضاهاة هؤلاء النصارى من بعض الوجوه، [ وقد ] رأيت بعد ذلك الناس قد نبهوا على ذلك، قال أبو الحسن بن الزاغوني: في مسألة وحدة الكلام دليل آخر، يقال لهم: ما الفرق بينكم في قولكم إن الأمر والنهي اثنان وهما واحد، والقول بذلك قول صحيح غير مناف للصحة والإمكان، وبين من قال: إن الكلمة والناسوت واللاهوت ثلاثة واحد، فإن هذا مما اتفقنا على قبحه شرعا وعقلا، من جهة أن الكلمة غير الناسوت واللاهوت، وكذلك الآخران صفة ومعنى، كما أن الأمر يخالف النهي صفة ومعنى ؟ قال: وهذا مما لا محيد لهم عنه، ولا انفصال لهم منه إلا بزخارف عاطلة عن صحة لا يصلح مثلها أن يكون شبهة توقف معها، وقد قال ابن الزاغوني قبل ذلك لو جاز أن يقال: إن عين الأمر هو النهي، مع كون الأمر يخالف النهي في وصفه ومعناه، فإن الأمر استدعاء الفعل، والنهي استدعاء الترك، وموضوع الأمر إنما يراد منه تحصيل ما يراد بطريق الوجوب أو الندب، وموضوع النهي يراد منه مجانبة ما يكره إما بطريق التحريم أو الكراهة والتنزيه ; وما يدخل تحت الأمر يقتضي الصحة، وما يدخل تحت النهي يقتضي الفساد، إما بنفسه أو بدليل يتصل به أو ينفصل عنه، وكذلك من المحال أن يقتضي النهي الصحة إما بنفسه أو بدليل يتصل به، ولو قال قائل: إن المنهي عنه نهي عنه لكونه محبوبا عند الناهي عنه، والمأمور به أمر به لكونه مبغوضا عند الآمر به، لكان هذا قولا باطلا يشهد العقل بفساده، ويعرف جري العادة على خلافه، وهذا يوجب أن يكون الأمر في نفسه وعينه غير النهي بنفسه وعينه، ولو ادعى مدع أن ذلك مقطوع به غير مسوغ حصوله لكان ذلك جائزا ممكنا، قلت: ما ذكره من فساد هذا القول هو كما ذكره لكن يقال له ولمن وافقه: وأنتم أيضا قد قلتم في مقابلة هؤلاء ما هو في الفساد ظاهر، كذلك قال ابن الزاغوني في مسألة الحروف والصوت، قالوا: إذا قلتم إن القرآن صوت ندركه بأسماعنا، والذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي إنما هو صوته الذي يحدث عنه، وهو عرض وجد بعد عدمه وعدم بعد وجوده، وهو مما يقوم به ويتقدر بقدر حركاته، فإن قلتم: هذا هو القديم، فنقول لكم: هذا هو صوت الله، فإن قلتم: نعم، فهذا محال لأنا نعلمه ونتحققه صوت القارئ، وإن قلتم: إنه صوت القارئ، فقد أقررتم بأنه محدث وهو خلاف قولكم، قال: قلنا: قولكم إن الصوت الذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي للقرآن إنما هو صوته الذي يحدث عنه على ما ذكرتم هو دعوى مسألة الخلاف، بل نقول: إن هذا الذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي هو الكلام القديم، فلا نسلم لكم ما قلتم وما ذكرتموه من العدم والوجود بعد العدم، والفناء بعد الوجود، ليس لأمر كذلك بل نقول: إنه ظهر عند حركات التالي بالآية في محل قدرته، فأما عدمه قبل وبعد، فلا، وأما قولكم: إنه يتعذر بحركاته فقد أسلفنا الجواب عنه، وأما سؤالكم لنا: هل هذا الذي نسمعه صوت الله تعالى ؟ أم صوت الآدمي ؟ فقد ذكر أصحابنا في هذا جوابين: أحدهما: ما قلنا إنه ظهر عند حركات آلات الآدمي في محل قدرته من الأصوات فإنما هو القرآن الذي هو كلام الله، وليس هو بالعبد ولا منه، ولا هو مضاف إليه على طريق التولد والانفعال ونتائج العقل، وإنما يضاف إلى الله تعالى بقدر ما توجبه الإضافة، والذي توجبه الإضافة أن يكون قرآنا وكلاما لله، وقد اتفقنا أن القرآن الذي هو كلام الله قديم غير مخلوق، فوجب لذلك أن نقول: إن ما يصل إلى السمع هو صوت الله تعالى لأنه لا فعل للعبد فيه، وهو جواب حسن مبني على هذا الأصل الذي ثبت بالأدلة الجلية القاطعة،

والجواب الثاني: أنهم قالوا: لما جرت العادة أن زيادة الأصوات تكثر عند كثرة الاعتمادات، وقد يختلف الناس في الأداء، فمنهم من يقول: القرآن على وجه لا زيادة فيه، بل هو كاف في إيصاله إلى السمع على وجه، فإن نقص لم يصل وإن زاد أكثر منه وصل عما يحتاج إليه، إما في واقع رفع الصوت وإما في الأداء من المد والهمز والتشديد، إلى غير ذلك من حلية التلاوة، وتصفية الأداء بالقوة والتحسين، فما لا غناء عنه في تحصيل الاستماع وتكملة الفهم فذلك هو القديم، وما قارنه مما اقتضى الزيادة في ذلك مما لو أسقط لما أثر في شيء مما يحتاج إليه من الاستماع والفهم فذلك مضاف إلى العبد، فهذا يبين أنه اقترن القديم بالمحدث على وجه يعسر تمييزه إلا بعد التلفظ والتأني في التدبر ليصل بذلك إلى مقام الفهم والتبيين لما ذكرناه، وهو عند الوصول إليه يمضي العقل بتحصيل مطلوبه، قلت: دعوى أن هذا الصوت المسموع من العبد، أو بعضه، هو صوت الله، أو هو قديم، بدعة منكرة مخالفة لضرورة العقل لم يقلها أحد من أئمة الدين، بل أنكرها أئمة المسلمين من أصحاب الإمام أحمد وغيره، وإنما قال ذلك شرذمة قليلة من الطوائف، وهي أقبح وأنكر من قول الذين قالوا : لفظنا بالقرآن غير مخلوق، فإن أولئك لم يقولوا صوتنا ولا قالوا قديم، ومع هذا فقد اشتد نكير الإمام أحمد عليهم، وتبديعه لهم، وقد صنف الإمام أبو بكر المروزي صاحبه في ذلك مصنفا جمع فيه مقالات علماء الوقت من أهل الحديث والسنة، من أصحاب أحمد وغيرهم، على إنكار ذلك ; وقد ذكر ذلك أبو بكر الخلال في كتاب السنة، وهذا الذي ذكره ابن الزاغوني عن أصحابه إنما هم أتباع القاضي أبي يعلى في ذلك، فإن هذا تصرف القاضي والله يغفر له، وقد كان ابن حامد يقول: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق على ما ذكر عنه، والقاضي، أنكر هذا كما ثبت إنكاره عن أحمد، وذهب في إنكار ذلك إلى ما ذهب إليه الأشعري وابن الباقلاني وغيرهما أنهم كرهوا أن يقال لفظت بالقرآن، وأن القرآن لا يلفظ، قالوا: لأن القديم لا يلفظ إذ اللفظ هو الطرح والرمي، ولكن يتلى أو يقرأ، فإن الأشعري لما ذكر في مقالة أهل السنة أنهم منعوا أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وكان هو وأئمة أصحابه منتسبين إلى الإمام أحمد خصوصا، وإلى غيره من أهل الحديث عموما في السنة، والإنكار على الطائفتين كما اشتهر عن الإمام أحمد وطائفة من الأئمة في زمانه وافقوه على ذلك وفسروه بكراهة لفظ القرآن ووافقهم القاضي أبو يعلى في ذلك، ثم إن القاضي وأتباعه يقولون: أبلغ من قول من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق ; وأولئك يقولون: أبلغ من قول من قال: لفظي بالقرآن مخلوق مع دعوى الطائفتين اتباع أحمد، وقد صنف الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر المشهور، وكان في عصر أبي الحسن بن الزاغوني الفقيه وفي بلده، مصنفا يتضمن إنكار قول من يقول: إن المسموع صوت الله، وأبطل ذلك بوجوه متعددة، وكان ما قام به في ذلك المكان والزمان قياما لغرض رد هذه البدعة وإنكارها، وهو من أعيان أصحاب أحمد وعلمائهم، ومن أعلم علماء وقته بالحديث والآثار . - سئل: المصافحة عقيب الصلاة: هل هي سنة أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، المصافحة عقيب الصلاة ليست مسنونة، بل هي بدعة، والله أعلم .

====
 17*


- مسألة: في التوسل بالنبي ﷺ هل يجوز أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، أما التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته والصلاة والسلام عليه وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك، مما هو من أفعاله، وأفعال العباد المأمور بها في حقه، فهو مشروع باتفاق المسلمين، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون به في حياته، وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه كما كانوا يتوسلون به، وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك به، فللعلماء فيه قولان، كما لهم في الحلف به قولان، وجمهور الأئمة: كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة على أنه لا يسوغ الحلف به، كما لا يسوغ الحلف بغيره من الأنبياء والملائكة، ولا تنعقد اليمين بذلك باتفاق العلماء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى تنعقد اليمين به خاصة دون غيره، ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي صاحبه إنه يتوسل بالنبي ﷺ في دعائه، ولكن غير أحمد قال: إن هذا إقسام على الله به، ولا يقسم على الله بمخلوق، وأحمد في إحدى الروايتين قد جوز القسم به، فلذلك جوز التوسل به، ولكن الرواية الأخرى عنه هي قول جمهور العلماء أنه لا يقسم به، فلا يقسم على الله به كسائر الملائكة والأنبياء، فإنا لا نعلم أحدا من السلف والأئمة قال إنه يقسم على الله، كما لم يقولوا إنه يقسم بهم مطلقا، ولهذا أفتى أبو محمد بن عبد السلام أنه لا يقسم على الله بأحد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، لكن ذكر له أنه روي عن النبي ﷺ حديث في الإقسام به، فقال: إن صح الحديث كان خاصا به، والحديث المذكور لا يدل على الإقسام به، وقد قال النبي ﷺ: { من كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت } "، وقال: { من حلف بغير الله فقد أشرك } "، والدعاء عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، والله أعلم .

وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلام تظهر بالكلام في المقام الثاني وهو قول القائل كائنا من كان: " الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار "، وتقدم قبل ذلك مقدمة تبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الاشتباه والاضطراب، وذلك أن قوما كثيرا من الناس من المتفقهة، والمتصوفة، والمتكلمة وغيرهم، ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق، من أكل، وشرب، ونكاح، ولباس، وسماع أصوات طيبة، وشم روائح طيبة، ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيما غير ذلك، ثم صاروا ضربين: ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم، كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم، ومنهم من أقر بالرؤية إما الرؤية التي أخبر بها النبي ﷺ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وإما برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم، أو جعلها بحاسة سادسة، ونحو ذلك من الأقوال التي ذهب إليها ضرار بن عمرو، وطوائف من أهل الكلام المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية، وإن كان ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية، والنزاع بينهم لفظي، ونزاعهم مع أهل السنة معنوي، ولهذا كان بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلاء، والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه، قالوا: لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم، كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية، وكما ذكره أبو الوفا بن عقيل في بعض كتبه، ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجلا يقول: أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال: يا هذا هب أن له وجها، أله وجه يتلذذ بالنظر إليه، وذكر أبو المعالي أن الله يخلق لهم نعيما ببعض المخلوقات مقارنا للرؤية، فأما النعيم بنفس الرؤية فأنكره، وجعل هذا من أسرار التوحيد، وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم، وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها ومشايخ الطريق، كما في الحديث الذي في النسائي وغيره، عن النبي ﷺ: { اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضا، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين }، وفي صحيح مسلم وغيره، عن صهيب، عن النبي ﷺ قال: { إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار، قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه }، وكلما كان الشيء أحب، كانت اللذة بنيله أعظم، وهذا متفق عليه بين السلف والأئمة ومشايخ الطريق، كما روي عن الحسن البصري أنه قال: " لو علم العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في الدنيا شوقا إليه "، وكلامهم في ذلك كثير، ثم هؤلاء الذين وافقوا السلف والأئمة والمشايخ على التنعم بالنظر إلى الله تعالى، تنازعوا في مسألة المحبة التي هي أصل ذلك، فذهب طوائف من الفقهاء إلى أن الله لا يحب نفسه، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته، وقالوا: هو أيضا لا يحب عباده المؤمنين، وإنما محبته إرادته للإحسان إليهم وولايتهم، ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكلام، حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي الجويني، وأمثال هؤلاء، وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال، فإن أول من أنكر المحبة في الإسلام: الجعد بن درهم أستاذ الجهم بن صفوان، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: " أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم "، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، ثم نزل فذبحه، والذي دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشايخ الطريق، أن الله يحب ويحب، ولهذا وافقهم على ذلك من تصوف من أهل الكلام، كأبي القاسم القشيري، وأبي حامد الغزالي، وأمثالهما، ونصر ذلك أبو حامد في الإحياء وغيره، وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في الرسالة على طريق الصوفية، كما في كتاب أبي طالب المسمى " بقوت القلوب "، وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية، استند في ذلك لما وجده من كتب الفلاسفة من إثبات نحو ذلك حيث قالوا: يعشق ويعشق، وقد بسط الكلام على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه، وقد قال تعالى: { يحبهم ويحبونه }، وقال تعالى: { والذين آمنوا أشد حبا لله }، وقال: { أحب إليكم من الله ورسوله }، وفي الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار }، والمقصود هنا أن هؤلاء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم الذين ينكرون حقيقة المحبة، يلزمهم أن ينكروا التلذذ بالنظر إليه، ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إلا التنعم بالأكل والشرب ونحو ذلك، وهذا القول باطل بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة ومشايخها، فهذا أحد الحزبين الغالطين، والحزب الثاني: طوائف من المتصوفة، والمتفقرة، والمتبتلة وافقوا هؤلاء على أن المحبة ليست إلا هذه الأمور التي يتنعم فيها المخلوق، ولكن وافقوا السلف والأئمة على إثبات رؤية الله، والتنعم بالنظر إليه، وأضافوا من ذلك، وجعلوا يطلبون هذا النعيم وتسمو إليه همتهم، ويخافون فوته، وصار أحدهم يقول: " ما عبدتك شوقا إلى جنتك أو خوفا من نارك، ولكن لأنظر إليك وإجلالا لك "، وأمثال هذه الكلمات مقصودهم بذلك هو أعلى من الأكل والشرب، والتمتع بالمخلوق، لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة، وقد يغلطون أيضا في ظنهم أنهم يعبدون الله بلا حظ ولا إرادة، وأن كل ما يطلب منه فهو حظ النفس، وتوهموا أن البشر يعمل بلا إرادة ولا مطلوب ولا محبوب، ومن سوء معرفة بحقيقة الإيمان والدين والآخرة، وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تنفيه عن نفسه، حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها، فيظن أنه يفعل لغير مراده، والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه، وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات، يكون لأحدهم وجد صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين كلامه، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب، مع صحة مقصوده، وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده، فهؤلاء الذين قالوا مثل هذا الكلام إذا عنوا به طلب رؤية الله تعالى أصابوا في ذلك، لكن أخطئوا من جهة أنهم جعلوا ذلك خارجا عن الجنة فأسقطوا حرمة اسم الجنة، ولزم من ذلك أمور منكرة، نظير ما ذكره عن الشبلي رحمه الله أنه سمع قارئا يقرأ: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة }، فصرخ، وقال: أين مريد الله، فيحمد منه كونه أراد الله، ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الآخرة ما أرادوا الله، وهذه الآية في أصحاب النبي ﷺ الذين كانوا معه بأحد وهم أفضل الخلق، فإن لم يريدوا الله، أفيريد الله من هو دونهم كالشبلي وأمثاله ؟ ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشايخ أنه سئل مرة عن قوله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون }، قال: فإذا كان الأنفس والأموال في ثمن الجنة، فالرؤية بم تنال ؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال، والواجب أن يعلم أن كل ما أعده الله للأولياء من نعيم بالنظر إليه، وما سوى ذلك هو في الجنة، كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار، وقد قال تعالى: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون }، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: { يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما أطلعتهم عليه }، وإذا علم أن جميع ذلك داخل في الجنة، فالناس في الجنة على درجات متفاوتة، كما قال: { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا }، وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غير ذلك من مطالب الآخرة هو في الجنة .

وسئل قدس الله روحه، عن رجل رأى الهلال وحده، وتحقق الرؤية: فهل له أن يفطر وحده ؟ أو يصوم وحده ؟ أو مع جمهور الناس ؟ فأجاب: الحمد لله، إذا رأى هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه ؟ أو يفطر برؤية نفسه ؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس ؟ عليه ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد: أحدها: أن عليه أن يصوم، وأن يفطر سرا، وهو مذهب الشافعي، والثاني: يصوم ولا يفطر إلا مع الناس، وهو المشهور من مذهب أحمد، ومالك، وأبي حنيفة، والثالث: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال: لقول النبي ﷺ: { صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون } "، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، ورواه أبو داود، وابن ماجه، وذكر الفطر والأضحى فقط ورواه الترمذي من حديث عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: { الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون } "، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، قال: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة، وعظم الناس ورواه أبو داود بإسناد آخر: فقال حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد من حديث أيوب، عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة، ذكر النبي ﷺ فيه فقال: { وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف } "، ولأنه لو رأى هلال النحر لما اشتهر، والهلال اسم استهل به، فإن الله جعل الهلال مواقيت للناس والحج، وهذا إنما يكون إذا استهل به الناس، والشهر بين، وإن لم يكن هلالا ولا شهرا، وأصل هذه المسألة أن الله سبحانه وتعالى علق أحكاما شرعية بمسمى الهلال، والشهر: كالصوم والفطر والنحر، فقال تعالى: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج }، فبين سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس والحج، قال تعالى: { كتب عليكم الصيام } - إلى قوله - { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس }، أنه أوجب صوم شهر رمضان، وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء ؟ وإن لم يعلم به الناس ؟ وبه يدخل ؟ الشهر، أو الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم ؟ على قولين: فمن قال بالأول يقول: من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم، ودخل شهر رمضان في حقه، وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان، وإن لم يعلم غيره، ويقول من لم يره إذا تبين له أنه كان طالعا قضى الصوم، وهذا هو القياس في شهر الفطر، وفي شهر النحر، لكن شهر النحر ما علمت أن أحدا قال من رآه يقف وحده، دون سائر الحاج، وأنه ينحر في اليوم الثاني، ويرمي جمرة العقبة، ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر: فالأكثرون ألحقوه بالنحر، وقالوا لا يفطر إلا مع المسلمين ; وآخرون قالوا بل الفطر كالصوم، ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يوما، وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة، وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرا شهرته بين الناس، واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد، لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين، فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين، وهذا معنى قوله: { صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون } "، ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم، قال أحمد: يد الله على الجماعة، وعلى هذا تفترق أحكام الشهر: هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم ؟ أو ليس شهرا في حقهم كلهم ؟ يبين ذلك قوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }، فإنما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس، حتى يتصور شهوده، والغيبة عنه، وقول النبي ﷺ: { إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وصوموا من الوضح إلى الوضح } "، ونحو ذلك خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إذا رآه صامه، فإنه ليس هناك غيره، وعلى هذا فلو أفطر ثم تبين أنه رئي في مكان آخر أو ثبت نصف النهار، لم يجب عليه القضاء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، فإنه إنما صار شهرا في حقهم من حين ظهر، واشتهر، ومن حينئذ وجب الإمساك كأهل عاشوراء: الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم، ولم يؤمروا بالقضاء على الصحيح، وحديث القضاء ضعيف، والله أعلم .

- مسألة: في رجل اعتقد مسألة الدور المسندة لابن سريج، ثم حلف بالطلاق على شيء لا يفعله ثم فعله، ثم رجع عن المسألة وراجع زوجته، ثم بعد ذلك حلف على شيء بالطلاق الثلاث أن لا يفعله، ثم بعد ذلك قال لزوجته: أنت طالق: فهل يقع عليه الطلاق الثلاث ؟ أم يستعمل المسألة الأولى: المشار إليها ؟ الجواب: المسألة السريجية باطلة في الإسلام، محدثة، لم يفت بها أحد من الصحابة والتابعين ولا تابعيهم ; وإنما ذكرها طائفة من الفقهاء بعد المائة الثالثة، وأنكر ذلك عليهم جمهور فقهاء المسلمين، وهو الصواب ; فإن ما قاله أولئك يظهر فساده من وجوه، منها أنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله أباح الطلاق كما أباح النكاح، وأن دين المسلمين مخالف لدين النصارى الذي لا يبيحون الطلاق، فلو كان في دين المسلمين ما يمتنع معه الطلاق لصار دين المسلمين مثل دين النصارى، وشبهة هؤلاء أنهم قالوا: إذا قال لامرأته: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم طلقها بعد ذلك طلاقا منجزا: لزم أن يقع المعلق، ولو وقع المعلق يقع المنجز، فكان وقوعه يستلزم عدم وقوعه: فلا يقع ; وهذا خطأ ; فإن قولهم: لو وقع المنجز لوقع المعلق، إنما يصح لو كان التعليق صحيحا ; فأما إذا كان التعليق باطلا لا يلزم وقوع التعليق، والتعليق باطل، لأن مضمونه وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث باطل في دين المسلمين، ومضمونه أيضا إذا وقع عليك طلاقي لم يقع عليك طلاقي، وهذا جمع بين النقيضين ; فإنه إذا لم يقع الشرط لم يقع الجزاء، وإذا وقع الشرط لزم الوقوع، فلو قيل: لا يقع مع ذلك، لزم أن يقع ولا يقع، وهذا جمع بين النقيضين، وأيضا فالطلاق إذا وقع لم يرتفع بعد وقوعه، فلما كان كلام المطلق يتضمن محالا في الشريعة - وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث - ومحالا في العقل، وهو الجمع بين وقوع الطلاق وعدم وقوعه: كان القائل بالتسريج مخالفا للعقل والدين ; لكن إذا اعتقد الحالف صحة هذا اليمين باجتهاد أو تقليد، وطلق بعد ذلك معتقدا أنه لا يقع به الطلاق: لم يقع به الطلاق ; لأنه لم يقصد التكلم بما يعتقده طلاقا ; فصار كما لو تكلم العجمي بلفظ الطلاق وهو لا يفهمه ; بل وكذلك لو خاطب من يظنها أجنبية بالطلاق فتبين أنها امرأته ; فإنه لا يقع به على الصحيح، ولو تبين له فساد التسريج بعد ذلك ، وأنه يقع المنجز لم يكن ظهور الحق له فيما بعد موجبا لوقوع الطلاق عليه، وكذلك إن احتاط فراجع امرأته خوفا أن يكون الطلاق وقع به، أو معتقدا وقوع الطلاق به لم يقع، ولو أقر بعد ما تبين له فساد التسريج أن الطلاق وقع لم يقع بهذا الإقرار شيء، ولو اعتقد وقوع الطلاق فراجع امرأته، ثم فعل المحلوف عليه معتقدا أنه قد حنث فيه مرة فلا يحنث فيه مرة ثانية: لم يقع به: فهذا الفعل شيء واليمين التي حلف بها أنه لا يفعل ذلك الشيء باقية، فإن كان سبب اليمين باقيا فهي باقية، وإن زال سبب اليمين فله فعل المحلوف عليه ; بناء على ذلك، ولم يحنث، وكذلك لو تزوجها ثم فعل المحلوف عليه معتقدا أن البينونة حصلت وانقطع حكم اليمين الأولى لم يحنث ; لاعتقاده زوال اليمين، كما لا يحنث الجاهل بأن ما فعله هو المحلوف عليه في أصح قولي العلماء، وأما قوله لزوجته بعد ذلك: أنت طالق، فإنه تقع هذه الطلقة، وإذا اعتقد أنه بهذه الطلقة قد كملت ثلاثا، وأقر أنه طلقها ثلاثا، لم يقع بهذا الاعتقاد شيء، ولا بهذا الإقرار .

- مسألة: في رجل كان له زوجة وطلقها ثلاثا، وله منها بنت ترضع وقد ألزموه بنفقة العدة، فكم تكون مدة العدة التي لا تحيض فيها لأجل الرضاعة ؟ الجواب: الحمد لله، أما جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد فعندهم لا نفقة للمعتدة البائن المطلقة ثلاثا، وأما أبو حنيفة فيوجب لها النفقة ما دامت في العدة، وإذا كانت ممن تحيض فلا تزال في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، والمرضع يتأخر حيضها في الغالب، وأما أجر الرضاع فلها ذلك باتفاق العلماء، كما قال تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ولا تجب النفقة إلا على الموسر فأما المعسر فلا نفقة عليه .

-مسألة: في رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين، ورزق منها ولدا له من العمر سنتان، وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين، وصدقها الزوج، وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور: فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ ؟ الجواب: إن صدقها الزوج في كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل، وعليه أن يفارقها، وعليها أن تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني، فإن كانت حاضت الثالثة قبل أن يطأها الثاني فقد انقضت عدة الأول ; ثم إذا فارقها الثاني اعتدت له ثلاث حيض، ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد، وولده ولد حلال يلحقه نسبه ; وإن كان قد ولد بوطء في عقد فاسد لا يعلم فساده .

-مسألة: في رجل طلق زوجته ثلاثا وألزمها بوفاء العدة في مكانها، فخرجت منه قبل أن توفي العدة وطلبها الزوج ما وجدها، فهل لها نفقة العدة ؟ الجواب: لا نفقة لها وليس لها أن تطالب بنفقة الماضي في مثل هذه العدة في المذاهب الأربعة، والله أعلم .

-مسألة: في امرأة كانت تحيض وهي بكر، فلما تزوجت ولدت ستة أولاد ولم تحض بعد ذلك، ووقعت الفرقة من زوجها وهي مرضع، وأقامت عند أهلها نصف سنة ولم تحض، وجاء رجل يتزوجها غير الزوج الأول، فحضروا عند قاض من القضاة، فسألها عن الحيض ؟ فقالت: لي مدة سنين ما حضت فقال القاضي: ما يحل لك عندي زواج، فزوجها حاكم آخر ولم يسألها عن الحيض، فبلغ خبرها إلى قاض آخر، فاستحضر الزوج والزوجة، فضرب الرجل مائة جلدة، وقال: زنيت، وطلق عليه، ولم يذكر الزوج الطلاق فهل يقع به طلاق ؟ الجواب: إن كان قد ارتفع حيضها بمرض أو رضاع فإنها تتربص حتى يزول العارض وتحيض باتفاق العلماء ; وإن كان ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فهذه في أصح قولي العلماء على ما قال عمر: تمكث سنة، ثم تزوج، وهو مذهب أحمد المعروف في مذهبه، وقول للشافعي: وإن كانت " في القسم الأول " فنكاحها باطل، والذي فرق بينهما أصاب في ذلك، وأصاب في تأديب من فعل ذلك، وإن كانت من " القسم الثاني " قد زوجها حاكم لم يكن لغيره من الحكام أن يفرق بينهما، ولم يقع بها طلاق، فإن فعل الحاكم لمثل ذلك يجوز في أصح الوجهين .

-مسألة: في رجل طلق زوجته ثلاثا وأوفت العدة عنده وخرجت بعد وفاء العدة تزوجت وطلقت في يومها، ولم يعلم مطلقها إلا ثاني يوم، فهل يجوز له أن يتفق معهما إذا أوفت عدتها أن يراجعها ؟ الجواب: ليس له في زمن العدة من غيره أن يخطبها ولا ينفق عليها ليتزوجها وإذا كان الطلاق رجعيا لم يجز له التعريض أيضا، وإن كان بائنا ففي جواز التعريض نزاع، هذا إذا كانت قد تزوجت بنكاح رغبة، وأما إن كانت قد تزوجت بنكاح محلل، فقد { لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له } .

-مسألة: في مرضع استبطأت الحيض، فتداوت لمجيء الحيض، فحاضت ثلاث حيض وكانت مطلقة: فهل تنقضي عدتها ; أم لا ؟ الجواب: نعم إذا أتى الحيض المعروف لذلك اعتدت به، كما أنها لو شربت دواء قطع الحيض أو باعد بينه: كان ذلك طهرا، وكما لو جاعت أو تعبت ; أو أتت غير ذلك من الأسباب التي تسخن طبعها وتثير الدم فحاضت بذلك، والله أعلم .

-مسألة: في رجل طلق زوجته ثلاثا وانقضت عدتها فمنعها أن تتزوج إلا بمن يختار هو وتوعدها على مخالفته، فما يجب عليه ؟ الجواب: ليس له ذلك، بل هو بذلك عاص آثم معتد ظالم، والمرأة إذا تزوجت بكفء لم يكن لوليها الاعتراض عليها بقول أو فعل بل يزوجها به فكيف مطلقها ؟ وإن اعتدى عليها بقول أو عمل عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله من المعتدين عن مثل هذا .

-مسألة: في رجل طلق زوجته ثلاثا ثم أوفت العدة ثم تزوجت بزوج ثان، وهو المستحل، فهل الاستحلال يجوز بحكم ما جرى لرفاعة مع زوجته في أيام النبي ﷺ أم لا ؟ ثم إنها أتت لبيت الزوج الأول طالبة لبعض حقها فغلبها على نفسها، ثم أنها قعدت أياما وخافت فادعت أنها حاضت لكي يردها الزوج الأول، فراجعها إلى عصمته بعقد شرعي، وأقام معها أياما فظهر عليها الحمل وعلم أنها كانت كاذبة في الحيض، فاعتزلها إلى أن تهتدي بحكم الشرع الشريف ؟ الجواب: أما إذا تزوجها زوج ليحلها لزوجها المطلق، فهذا المحلل، وقد صح عن النبي أنه قال: { لعن الله المحلل والمحلل له }، وأما حديث رفاعة فذاك كان قد تزوجها نكاحا ثابتا، لم يكن قد تزوجها ليحلها للمطلق، وإذا تزوجت بالمحلل، ثم طلقها، فعليها العدة باتفاق العلماء، إذ غايتها أن تكون موطوءة في نكاح فاسد، فعليها العدة منه، وما كان يحل للأول وطؤها وإذا وطئها فهو زان عاهر، ونكاحها بالأول قبل أن تحيض ثلاثا باطل باتفاق الأئمة، وعليه أن يعتزلها فإذا جاءت بولد لحق بالمحلل، فإنه هو الذي وطئها في نكاح فاسد . ولا يلحق الولد بالواطئ في النكاح الأول، لأن عدته انقضت وتزوجت بعد ذلك لمن وطئها، وهذا يقطع حكم الفراش بلا نزاع بين الأئمة ; ولا يلحق بوطئه زنا لأن النبي ﷺ قال: { الولد للفراش وللعاهر الحجر }، لكن إن علم المحلل أن الولد ليس منه بل من هذا العاهر فعليه أن ينفيه باللعان فيلاعنها لعانا ينقطع فيه نسب الولد، ويلحق نسب الولد بأمه ولا يلحق بالعاهر بحال .

مسألة: في أمة متزوجة وسافر زوجها وباعها سيدها، وشرط أن لها زوجا فقعدت عند الذي اشتراها أياما، فأدركه الموت فأعتقها، فتزوجت ولم يعلم أن لها زوجا، فلما جاء زوجها الأول من السفر أعطى سيدها الذي باعها الكتاب لزوجها الذي جاء من السفر، الكتاب بعقد صحيح شرعي، فهل يصح العقد بكتاب الأول أو الثاني ؟ الجواب: إن كان تزوجها نكاحا شرعيا، إما على قول أبي حنيفة بصحة نكاح الحر بالأمة، وإما على قول مالك والشافعي وأحمد بأن يكون عادما الطول خائفا من العنت نكاحه لا يبطل بعتقها، بل هي زوجته بعد العتق، لكن عند أبي حنيفة في رواية لها الفسخ، فلها أن تفسخ النكاح، فإذا قضت عدته تزوجت بغيره، إن شاءت، وعند مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه لا خيار لها بل هي زوجته، ومتى تزوجت قبل أن ينفسخ النكاح، فنكاحها باطل باتفاق الأئمة، وأما إن كان نكاحها الأول فاسدا فإنه يفرق بينهما، وتتزوج من شاءت بعد انقضاء العدة .

-مسألة: في امرأة أبرأت زوجها من جميع صداقها، ثم بعد ذلك أشهد الزوج على نفسه أنه طلق زوجته المذكورة على البراءة، وكانت البراءة تقدمت على ذلك، فهل يصح الطلاق ؟ وإذا وقع يقع رجعيا أم لا ؟ الجواب: إن كانا قد تواطأ على أن توهبه الصداق وتبريه على أن يطلقها فأبرأته ثم طلقها كان ذلك طلاقا بائنا، وكذلك لو قال لها: أبرئيني وأنا أطلقك أو إن أبرأتني طلقتك ونحو ذلك من عبارات الخاصة والعامة التي يفهم منها أنه سأل الإبراء على أن يطلقها أو أنها أبرأته على أن يطلقها، وأما إن كانت برأته براءة لا تتعلق بالطلاق ثم طلقها بعد ذلك، فالطلاق رجعي، ولكن هل لها أن ترجع في الإبراء إذا كان يمكن لكون مثل هذا الإبراء لا يصدر في العادة إلا لأن يمسكها أو خوفا من أن يطلقها أو يتزوج عليها أو نحو ذلك، فيه قولان هما روايتان عن أحمد، وأما إذا كانت قد طابت نفسها بالإبراء مطلقا وهو أن يكون ابتداء منها لا بسبب منه ولا عوض فهنا لا ترجع فيه بلا ريب، والله أعلم .

مسألة: في رجل تزوج عند قوم مدة سنة، ثم جرى بينهم كلام، فادعوا عليه بكسوة سنة، فأخذوها منه، ثم ادعوا عليه بالنفقة، وقالوا: هي تحت الحجر ; وما أذنا لك أن تنفق عليها: فهل يجوز ذلك ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، إذا كان الزوج تسلمها التسليم الشرعي وهو أو أبوه أو نحوهما يطعمها كما جرت به العادة: لم يكن للأب ولا لها أن تدعي بالنفقة ; فإن هذا هو الإنفاق بالمعروف الذي كان على عهد رسول الله ﷺ وأصحابه وسائر المسلمين في كل عصر ومصر، وكذلك نص على ذلك أئمة العلماء ; بل من كلف الزوج أن يسلم إلى أبيها دراهم ليشتري لها بها ما يطعمها في كل يوم فقد خرج عن سنة رسول الله ﷺ والمسلمين ; وإن [ كان ] هذا قد قاله بعض الناس، فكيف إذا كان قد أنفق عليها بإقرار الأب لها بذلك ; وتسليمها إليهم ; مع أنه لا بد لها من الأكل ; ثم أراد أن يطلب النفقة ; ولا يعتد بما أنفقوا عليها ; فإن هذا باطل في الشريعة لا تحتمله أصلا، ومن توهم ذلك معتقدا أن النفقة حق لها كالدين، فلا بد أن يقبضه الولي، وهو لم يأذن فيه: كان مخطئا من وجوه، منها: أن المقصود بالنفقة إطعامها ; لا حفظ المال لها، الثاني: أن قبض الولي لها ليس فيه فائدة، الثالث: أن ذلك لا يحتاج إلى إذنه ; فإنه واجب لها بالشرع، والشارع أوجب الإنفاق عليها، فلو نهى الولي عن ذلك لم يلتفت إليه، الرابع: إقراره لها مع حاجته إلى النفقة إذن عرفي ولا يقال، إنه لم يأمن الزوج على النفقة ; لوجهين: إحداهما: أن الائتمان بها حصل بالشرع، كما أوتمن الزوج على بدنها، والقسم لها، وغير ذلك من حقوقها ; فإن الرجال قوامون على النساء، والنساء عوان عند الرجال، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، الثاني: أن الائتمان العرفي كاللفظي، والله أعلم .

-مسألة: فيمن قال من تبع هذه الفتيا وعمل بها فولده بعد ذلك ولد زنا، فإنه في غاية الجهل والضلال، والمشاقة لله ولرسوله، فإن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا في نفس الأمر باتفاق المسلمين، سواء كان الناكح كافرا أو مسلما، واليهودي إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منها يلحقه بنسبه ويرثه باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا، باتفاق المسلمين، ومن استحله كان كافرا تجب استتابته، وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأته في عدتها كما يفعل جهال الأعراب ووطئها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه بنسبه ويرثه باتفاق المسلمين، ومثل هذا كثير، فإن ثبوت النسب لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر، بل الولد للفراش كما قال النبي ﷺ { الولد للفراش، وللعاهر الحجر } فمن طلق امرأته ثلاثا ووطئها، يعتقد أنه لم يقع بها الطلاق إما لجهله، وإما لمفت مخطئ قلده الزوج، وإما لغير ذلك، فإنه يلحقه النسب ويتوارثان بالاتفاق، بل ولا تحسب العدة إلا من حين ترك وطأها، فإنه كان يطؤها معتقدا أنها زوجته فهي فراش له، فلا تعتد له حتى يزول الفراش، ومتى نكح امرأة نكاحا فاسدا، متفقا على فساده أو مختلفا في فساده لو ملكها ملكا فاسدا متفقا على فساده أو مختلفا في فساده، ووطئها يعتقدها زوجته الحرة أو أمته المملوكة، فإن ولده منها يلحقه نسبه ويتوارثان باتفاق المسلمين، والولد يكون أيضا حرا وإن كانت الموطوءة مملوكة للغير في نفس الأمر، ووطئت بدون إذن سيدها، لكن لما كان الواطئ مغرورا زوج بها وقيل له هي حرة، أو بيعت منه فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع فإنما وطئ من يعتقدها زوجته الحرة أو أمته المملوكة، فولده منها حر لأجل اعتقاده، وإن كان اعتقاده مخطئا، وبهذا قضى الخلفاء الراشدون، واتفق عليه أئمة المسلمين، فهؤلاء الذين وطئوا أو جاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا في نكاح فاسد متفق على فساده، وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين، وهم وطئوا يعتقدون أن النكاح باق، لأجل فتيا من أفتاهم أو لغير ذلك كان نسب الأولاد بهم لاحقا، ولم يكونوا أولاد زنا، بل يتوارثون باتفاق المسلمين، هذا في المجمع على فساده، فكيف في المختلف في فساده، وإن كان القول الذي وطئ به ضعيفا، كمن وطئ في نكاح المتعة، أو نكاح المرأة نفسها بلا ولي ولا شهود، فإن هذا إذا وطئ فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب ; فكيف بنكاح مختلف فيه، وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس، وظهر ضعف القول الذي يناقضه، وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام لانتفاء الحجة الشرعية، فمن قال إن هذا النكاح أو مثله يكون الولد فيه ولد زنا لا يلحقه نسبه ولا يتوارث هو وأبوه الواطئ فإنه مخالف لإجماع المسلمين، منسلخ من ربقة الدين، فإن كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله ﷺ وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع، ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين فإن أصر على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتباع غير سبيل المؤمنين فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فقد ظهر أن من أنكر الفتيا بأنه لا يقع الطلاق، وادعى الإجماع على وقوعه وقال إن الولد ولد زنا، هو مخالف لإجماع المسلمين، مخالف لكتاب الله وسنة رسول رب العالمين، وأن المفتي بذلك أو القاضي به فعل ما يسوغ بإجماع المسلمين، وليس لأحد المنع من الفتيا بقوله أو القضاء بذلك، ولا الحكم بالمنع من ذلك باتفاق المسلمين، والأحكام المخالفة للإجماع باطلة بإجماع المسلمين والله أعلم .

مسألة: في رجل تزوج بامرأة ودخل بها وهو مستمر [ في ] النفقة وهي ناشز، ثم إن ولدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج فماذا يجب عليهما ؟ الجواب: الحمد لله، إذا سافر بها بغير إذن الزوج فإنه يعزر على ذلك، وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها، ولا نفقة لها من حين سافرت، والله أعلم .

-مسألة: في رجل تزوج بامرأة ودخل بها، وهو مستمر النفقة، وهي ناشز، ثم إن والدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج: فما يجب عليهما ؟ الجواب: الحمد لله، إذا سافر بها بغير إذن الزوج فإنه يعزر على ذلك، وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها، ولا نفقة لها من حين سافرت، والله أعلم، .

- مسألة: في رجل ماتت زوجته، وخلفت له ثلاث بنات: فأعطاهم لحميه وحماته وقال: روحوا بهم إلى بلدكم، حتى أجيء إليهم ; فغاب عنهم ثلاث سنين فهل على والدهم نفقتهم وكسوتهم في هذه المدة أم لا ؟، الجواب: ما أنفقوه عليهم بالمعروف بنية الرجوع به على والدهم فلهم الرجوع به عليه، إذا كان ممن تلزمه نفقتهم، والله أعلم .

- مسألة: في رجل رأى رجلا قتل ثلاثة من المسلمين في شهر رمضان، ولحس السيف بفمه، وأن ولي الأمر لم يقدر عليه ليقيم عليه الحد، وأن الذي رآه قد وجده في مكان لم يقدر على مسكه: فهل له أن يقتل القاتل المذكور بغير حق ؟ وإذا قتله هل يؤجر على ذلك أو يطالب بدمه ؟

الجواب: إن كان قاطع طريق قتلهم لأخذ أموالهم وجب قتله، ولا يجوز العفو عنه، وإن كان قتلهم لغرض خاص مثل خصومة بينهم، أو عداوة: فأمره إلى ورثة القتيل: إن أحبوا قتله قتلوه، وإن أحبوا عفوا عنه، وإن أحبوا أخذوا الدية فلا يجوز قتله إلا بإذن الورثة الآخرين، وأما إن كان قاطع طريق: فقيل: بإذن الإمام ; فمن علم أن الإمام أذن في قتله بدلائل الحال جاز أن يقتله على ذلك، وذلك مثل أن يعرف أن ولاة الأمور يطلبونه ليقتلوه، وأن قتله واجب في الشرع: فهذا يعرف أنهم آذنون في قتله ; وإذا وجب قتله كان قاتله مأجورا في ذلك .

- مسألة: في رجلين قبض أحدهما لواحد، والآخر ضربه فشلت يده ؟ الجواب: الحمد لله، هذا فيه نزاع، والأظهر أنه يجب على الاثنين القود إن وجب، وإلا فالدية عليهما، والله أعلم .

مسألة: في قوله تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها } إلى قوله: { واعلموا أن الله بما تعملون بصير }، مع قوله: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } إلى قوله: { سيجعل الله بعد عسر يسرا }، في ذلك أنواع من الأحكام بعضها مجمع عليه، وبعضها متنازع فيه، وإذا تدبرت كتاب الله تبين أنه يفصل النزاع بين من يحسن الرد إليه، وأن من لم يهتد إلى ذلك ; فهو إما لعدم استطاعته، فيعذر، أو لتفريطه فيلام، وقوله تعالى: { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } يدل على أن هذا تمام الرضاعة، وما بعد ذلك فهو غذاء من الأغذية، وبهذا يستدل من يقول: الرضاع بعد الحولين بمنزلة رضاع الكبير، وقوله: { حولين كاملين } يدل على أن لفظ " الحولين " يقع على حول وبعض آخر، وهذا معروف في كلامهم، يقال: لفلان عشرون عاما إذا أكمل ذلك، قال الفراء والزجاج وغيرهما: لما جاز أن يقول: " حولين " ويريد أقل منهما، كما قال تعالى: { فمن تعجل في يومين }، ومعلوم أنه يتعجل في يوم وبعض آخر ; وتقول: لم أر فلانا يومين، وإنما تريد يوما وبعض آخر، قال: { كاملين } ليبين أنه لا يجوز أن ينقص منهما، وهذا بمنزلة قوله تعالى: { تلك عشرة كاملة }، فإن لفظ " العشرة " يقع على تسعة وبعض العاشر، فيقال: أقمت عشرة أيام، وإن لم يكملها، فقوله هناك { كاملة } بمنزلة قوله هنا { كاملين }، وفي الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه: قال { الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفورا طيبة به نفسه أحد المتصدقين }، فالكامل الذي لم ينقص منه شيء ; إذ الكمال ضد النقصان، وأما الموفر " فقد قال: أجرهم موفرا، يقال: الموفر، للزائد ; ويقال: لم يكلم، أي يجرح، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في " كتاب الزهد " { عن وهب بن منبه: أن الله تعالى قال لموسى: وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا ; لم تكلمه الدنيا ولم تكلمه نطعة الهوى }، وكان هذا تغيير الصفة، وذاك نقصان القدر، وذكر " أبو الفرج " هل هو عام في جميع الوالدات ؟ أو يختص بالمطلقات ؟ على قولين، والخصوص قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل، في آخرين، والعموم قول أبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلى في آخرين، قال القاضي: ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة، قلت: الآية حجة عليهم ; فإنها أوجبت للمرضعات رزقهن وكسوتهن بالمعروف ; لا زيادة على ذلك، وهو يقول: تؤجر نفسها بأجرة غير النفقة، والآية لا تدل على هذا ; بل إذا كانت الآية عامة دلت على أنها ترضع ولدها مع إنفاق الزوج عليها، كما لو كانت حاملا فإنه ينفق عليها وتدخل نفقة الولد في نفقة الزوجية ; لأن الولد يتغذى بغذاء أمه، وكذلك في حال الرضاع فإن نفقة الحمل هي نفقة المرتضع، وعلى هذا فلا منافاة بين القولين ; فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع، كما ذكر في " سورة الطلاق " وهذا مختص بالمطلقة، وقوله تعالى: { حولين كاملين } قد علم أن مبدأ الحول من حين الولادة والكمال إلى نظير ذلك، فإذا كان من عاشر المحرم كان الكمال في عاشر المحرم في مثل تلك الساعة ; فإن الحول المطلق هو اثنا عشر شهرا من الشهر الهلالي، كما قال تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } وهكذا ما ذكره من العدة أربعة أشهر وعشرا، أولها من حين الموت وآخرها إذا مضت عشر بعد نظيره ; فإذا كان في منتصف المحرم فآخرها خامس عشر المحرم، وكذلك الأجل المسمى في البيوع وسائر ما يؤجل بالشرع وبالشرط، وللفقهاء هنا قولان آخران ضعيفان: أحدهما: قول من يقول: إذا كان في أثناء الشهر كان جميع الشهور بالعدد، فيكون الحولان ثلثمائة وستين، وعلى هذا القول تزيد المدة اثني عشر يوما، وهو غلط بين، والقول الثاني: قول من يقول: منها واحد بالعدد، وسائرها بالأهلة، وهذا أقرب ; لكن فيه غلط ; فإنه على هذا إذا كان المبدأ عاشر المحرم وقد نقص المحرم كان تمامه تاسعه، فيكون التكميل أحد عشر، فيكون المنتهى حادي عشر المحرم، وهو غلط أيضا، وظاهر القرآن يدل على أن على الأم إرضاعه لأن قوله: { يرضعن } خبر في معنى الأمر، وهي مسألة نزاع ; ولهذا تأولها من ذهب إلى القول الآخر، قال القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء ; لأن عليهم الاسترضاع ; لا على الوالدات ; بدليل قوله: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } وقوله: { فآتوهن أجورهن } فلو كان متحتما على الوالدة لم يكن عليه الأجرة، فيقال: بل القرآن دل على أن للابن على الأم الفعل، وعلى الأب النفقة ولو لم يوجد غيرها تعين عليها، وهي تستحق الأجرة، والأجنبية تستحق الأجرة ولو لم يوجد غيرها، وقوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } دليل على أنه لا يجوز أن يريد إتمام الرضاع ويجوز الفطام قبل ذلك إذا كان مصلحة، وقد بين ذلك بقوله تعالى: { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما }، وذلك يدل على أنه لا يفصل إلا برضى الأبوين، فلو أراد أحدهما الإتمام والآخر الفصال قبل ذلك كان الأمر لمن أراد الإتمام ; لأنه قال تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن }، وقوله تعالى: { يرضعن } صيغة خبر، ومعناه الأمر، والتقدير والوالدة مأمورة بإرضاعه حولين كاملين إذا أريد إتمام الرضاعة ; فإذا أرادت الإتمام كانت مأمورة بذلك، وكان على الأب رزقها وكسوتها، وإن أراد الأب الإتمام كان له ذلك ; فإنه لم يبح الفصال إلا بتراضيهما جميعا، يدل على ذلك قوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة }، ولفظة { من } إما أن يقال: هو عام يتناول هذا وهذا ويدخل فيه الذكر والأنثى، فمن أراد الإتمام أرضعن له .

وإما أن يقال: قوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } إنما هو المولود له وهو المرضع له، فالأم تلد له وترضع له، كما قال تعالى: { فإن أرضعن لكم }، والأم كالأجير مع المستأجر، فإن أراد الأب الإتمام أرضعن له، وإن أراد أن لا يتم [ فله ذلك ] وعلى هذا التقدير فمنطوق الآية أمرهن بإرضاعه عند إرادة الأب، ومفهومها أيضا جواز الفصل بتراضيهما، يبقى إذا أرادت الأم دون الأب مسكوتا عنه ; لكن مفهوم قوله تعالى: { عن تراض } أنه لا يجوز، كما ذكر ذلك مجاهد وغيره ; ولكن تناوله قوله تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }، فإنها إذا أرضعت تمام الحول فله أرضعت، وكفته بذلك مؤنة الطفل، فلولا رضاعها لاحتاج إلى أن يطعمه شيئا آخر، ففي هذه الآية بين أن على الأم الإتمام إذا أراد الأب، وفي تلك بين أن على الأب الأجر إذا أبت المرأة قال مجاهد: " التشاور " فيما دون الحولين: إن أرادت أن تفطم وأبى فليس لها، وإن أراد هو ولم ترد فليس له ذلك حتى يقع ذلك على تراض منهما وتشاور، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما ولا رضيعهما، وقوله تعالى: { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف }، قال إذا أسلمتم أيها الآباء إلى أمهات الأولاد أجر ما أرضعن قبل امتناعهن ; روي عن مجاهد والسدي وقيل: إذا أسلمتم إلى الظئر أجرها: بالمعروف، روي عن سعيد بن جبير ومقاتل، وقرأ ابن كثير: { أتيتم } بالقصر، وقوله تعالى: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولم يقل: وعلى الوالد كما قال والوالدات لأن المرأة هي التي تلده، وأما الأب فلم يلده ; بل هو مولود له لكن إذا قرن بينهما قيل: { وبالوالدين إحسانا } فأما مع الإفراد فليس في القرآن تسميته والدا، بل أبا، وفيه بيان أن الولد ولد للأب ; لا للأم ; ولهذا كان عليه نفقته حملا وأجرة رضاعه، وهذا يوافق قوله تعالى: { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور }، فجعله موهوبا للأب، وجعل بيته في قوله: { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } وإذا كان الأب هو المنفق عليه جنينا ورضيعا، والمرأة وعاء: فالولد زرع للأب قال تعالى: { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم }، فالمرأة هي الأرض المزروعة، والزرع فيها للأب، وقد { نهى النبي ﷺ أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره }، يريد به النهي عن وطء الحبالى، فإن ماء الواطئ يزيد في الحمل كما يزيد الماء في الزرع، وفي الحديث الآخر الصحيح: { لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه من قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له، وكيف يستعبده وهو لا يحل له ؟ }، وإذا كان الولد للأب وهو زرعه كان هذا مطابقا لقوله ﷺ: { أنت ومالك لأبيك }، وقوله ﷺ: { إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه } فقد حصل الولد من كسبه، كما دلت عليه هذه الآية ; فإن الزرع الذي في الأرض كسب المزدرع له الذي بذره وسقاه وأعطى أجرة الأرض، فإن الرجل أعطى المرأة مهرها، وهو أجر الوطء، كما قال تعالى: { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن }، وهو مطابق لقوله تعالى: { ما أغنى عنه ماله وما كسب }، وقد فسر { ما كسب } بالولد، فالأم هي الحرث وهي الأرض التي فيها زرع، والأب استأجرها بالمهر كما يستأجر الأرض، وأنفق على الزرع بإنفاقه لما كانت حاملا، ثم أنفق على الرضيع، كما ينفق المستأجر على الزرع والثمر إذا كان مستورا وإذا برز ; فالزرع هو الولد، وهو من كسبه، وهذا يدل على أن للأب أن يأخذ من ماله ما لا يضر به ; كما جاءت به السنة، وإن ماله للأب مباح، وإن كان ملكا للابن فهو مباح للأب أن يملكه وإلا بقي للابن ; فإذا مات ولم يتملكه ورث عن الابن، وللأب أيضا أن يستخدم الولد ما لم يضر به، وفي هذا وجوب طاعة الأب على الابن إذا كان العمل مباحا لا يضر بالابن ; فإنه لو استخدم عبده في معصية أو اعتدى عليه لم يجز فالابن أولى، ونفع الابن له إذا لم يأخذه الأب ; بخلاف نفع المملوك فإنه لمالكه، كما أن ماله لو مات لمالكه لا لوارثه، ودل ما ذكره على أنه لا يجوز للرجل أن يطأ حاملا من غيره، وأنه إذا وطئها كان كسقي الزرع يزيد فيه وينميه ويبقى له شركة في الولد، فيحرم عليه استعباد هذا الولد، فلو ملك أمة حاملا من غيره ووطئها حرم استعباد هذا الولد ; لأنه سقاه ; ولقوله ﷺ: { كيف يستعبده وهو لا يحل له }، " وكيف يورثه " أي يجعله موروثا منه " وهو لا يحل له "، ومن ظن أن المراد: كيف يجعله وارثا، فقد غلط ; لأن تلك المرأة كانت أمة للواطئ، والعبد لا يجعل وارثا، إنما يجعل موروثا، فأما إذا استبرئت المرأة علم أنه لا زرع هناك، ولو كانت بكرا أو عند من لا يطؤها ففيه نزاع، والأظهر جواز الوطء ; لأنه لا زرع هناك، وظهور براءة الرحم هنا أقوى من براءتها من الاستبراء بحيضة ; فإن الحامل قد يخرج منها من الدم مثل دم الحيض ; وإن كان نادرا، وقد تنازع العلماء هل هو حيض أو لا ؟ فالاستبراء ليس دليلا قاطعا على براءة الرحم ; بل دليل ظاهر، والبكارة وكونها كانت مملوكة لصبي أو امرأة أدل على البراءة وإن كان البائع صادقا وأخبره أنه استبرأها حصل المقصود، واستبراء الصغيرة التي لم تحض والعجوز والآيسة في غاية البعد، ولهذا اضطرب القائلون هل تستبرأ بشهر ؟ أو شهر ونصف ؟ أو شهرين ؟ أو ثلاثة أشهر ؟ وكلها أقوال ضعيفة، وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يستبرئ البكر، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، والنبي ﷺ لم يأمر بالاستبراء إلا في المسبيات، كما قال في سبايا أوطاس: { لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة } لم يأمر كل من ورث أمة أو اشتراها أن يستبرئها مع وجود ذلك في زمنه، فعلم أنه أمر بالاستبراء عند الجهل بالحال ; لإمكان أن تكون حاملا، وكذلك من ملكت وكان سيدها يطؤها ولم يستبرئها ; لكن النبي ﷺ لم يذكر مثل هذا ; إذ لم يكن المسلمون يفعلون مثل هذا ; لا يرضى لنفسه أحد أن يبيع أمته الحامل منه ; بل لا يبيعها إذا وطئها حتى يستبرئها، فلا يحتاج المشتري إلى استبراء ثان، ولهذا لم ينه عن وطء الحبالى من [ السادات ] إذا ملكت ببيع أو هبة ; لأن هذا لم يكن يقع ; بل هذه دخلت في نهيه ﷺ: { أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره }، وقوله تعالى: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف }، وقال تعالى في تلك الآية: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } يدل على أن هذا الأجر هو رزقهن وكسوتهن بالمعروف إذا لم يكن بينهما مسمى يرجعان إليه، " وأجرة المثل " إنما تقدر بالمسمى إذا كان هناك مسمى يرجعان إليه، كما في البيع والإجارة لما كان السلعة هي أو مثلها بثمن مسمى وجب ثمن المثل إذا أخذت بغير اختياره، وكما قال: النبي ﷺ: { من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد } فهناك أقيم العبد ; لأنه ومثله يباع في السوق، فتعرف القيمة التي هي السعر في ذلك الوقت، وكذلك الأجير والصانع كما نهى النبي ﷺ في الحديث الصحيح لعلي: { أن يعطي الجازر من البدن شيئا وقال: نحن نعطيه من عندنا }، فإن الذبح وقسمة اللحم على المهدي ; فعليه أجرة الجازر الذي فعل ذلك، وهو يستحق نظير ما يستحقه مثله إذا عمل ذلك ; لأن الجزارة معروفة، ولها عادة معروفة، وكذلك سائر الصناعات: كالحياكة، والخياطة، والبناء، وقد كان من الناس من يخيط بالأجرة على عهده فيستحق هذا الخياط ما يستحقه نظراؤه، وكذلك أجير الخدمة يستحق ما يستحقه نظيره ; لأن ذلك عادة معروفة عند الناس، وأما " الأم المرضعة " فهي نظير سائر الأمهات المرضعات بعد الطلاق وليس لهن عادة مقدرة إلا اعتبار حال الرضاع بما ذكر، وهي إذا كانت حاملا منه وهي مطلقة استحقت نفقتها وكسوتها بالمعروف، وهي في الحقيقة نفقة على الحمل، وهذا أظهر قولي العلماء، كما قال تعالى: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }، وللعلماء هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن هذه النفقة نفقة زوجة معتدة، ولا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا، وهذا قول من يوجب النفقة للبائن كما يوجبها للرجعية، كقول طائفة من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره ; ويروى عن عمر وابن مسعود ; ولكن على هذا القول ليس لكونها حاملا تأثير، فإنهم ينفقون عليها حتى تنقضي العدة ; سواء كانت حاملا أو حائلا، القول الثاني: أنه ينفق عليها نفقة زوجة ; لأجل الحمل ; كأحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا قول متناقض ; فإنه إن كان نفقة زوجة فقد وجب لكونها زوجة ; لا لأجل الولد، وإن كان لأجل الولد فنفقة الولد تجب مع غير الزوجة، كما يجب عليه أن ينفق على سريته الحامل إذا أعتقها، وهؤلاء يقولون: هل وجبت النفقة للحمل ؟ أو لها من أجل الحمل ؟ على قولين، فإن أرادوا لها من أجل الحمل، أي لهذه الحامل من أجل حملها فلا فرق، وإن أرادوا - وهو مرادهم - أنه يجب لها نفقة زوجة من أجل الحمل: فهذا تناقض، فإن نفقة الزوجة تجب وإن لم يكن حمل، ونفقة الحمل تجب وإن لم تكن زوجة، والقول الثالث: وهو الصحيح: أن النفقة تجب للحمل ; ولها من أجل الحمل ; لكونها حاملا بولده ; فهي نفقة عليه، لكونه أباه، لا عليها لكونها زوجة، وهذا قول مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد ; والقرآن يدل على هذا ; فإنه قال تعالى: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }، ثم قال تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }، وقال هنا: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف }، فجعل أجر الإرضاع على من وجبت عليه نفقة الحامل ; ومعلوم أن أجر الإرضاع يجب على الأب لكونه أبا، فكذلك نفقة الحامل ; ولأن نفقة الحامل ورزقها وكسوتها بالمعروف ; وقد جعل أجر المرضعة كذلك ; ولأنه قال: { وعلى الوارث مثل ذلك } أي وارث الطفل، فأوجب عليه ما يجب على الأب، وهذا كله يبين أن نفقة الحمل والرضاع من " باب نفقة الأب على ابنه " ; لا من " باب نفقة الزوج على زوجته "، وعلى هذا فلو لم تكن زوجة بل كانت حاملا بوطء شبهة يلحقه نسبه أو كانت حاملا منه وقد أعتقها وجب عليه نفقة الحمل، كما يجب عليه نفقة الإرضاع ; ولو كان الحمل لغيره، كمن وطئ أمة غيره بنكاح أو شبهة أو إرث فالولد هنا لسيد الأمة، فليس على الواطئ شيء وإن كان زوجا، ولو تزوج عبد حرة فحملت منه فالنسب ههنا لاحق ; لكن الولد حر ; والولد الحر لا تجب نفقته على أبيه العبد ; ولا أجرة رضاعه ; فإن العبد ليس له مال ينفق منه على ولده، وسيده لا حق له في ولده ; فإن ولده: إما حر، وإما مملوك لسيد الأمة، نعم، لو كانت الحامل أمة والولد حر مثل المغرور الذي اشترى أمة فظهر أنها مستحقة لغير البائع، أو تزوج حرة فظهر أنها أمة ; فهنا الولد حر، وإن كانت أمة مملوكة لغير الواطئ ; لأنه إنما وطئ من يعتقدها مملوكة له أو زوجة حرة، وبهذا قضت الصحابة لسيد الأمة بشراء الولد وهو نظيره فهنا الآن ينفق على الحامل كما ينفق على المرضعة له، والله سبحانه وتعالى أعلم .

فصل والذين جوزوا المزارعة، منهم من اشترط أن يكون البذر من المالك، وقالوا: هذه هي المزارعة، فأما إن كان البذر من العامل لم يجز، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، وأصحاب مالك، والشافعي، حيث يجوزون المزارعة، وحجة هؤلاء قياسها على المضاربة، وبذلك احتج أحمد أيضا، قال الكرماني: قيل لأبي عبد الله: رجل دفع أرضه إلى الإكراء على الثلث أو الربع، قال: لا بأس بذلك إذا كان البذر من رب الأرض، والبقر والعمل والحديد من الأكار، فذهب فيه مذهب المضاربة، ووجه ذلك أن البذر هو أصل الزرع، كما أن المال هو أصل الربح، فلا بد أن يكون البذر ممن له الأصل ليكون من أحدهما العمل ومن الآخر الأصل، والرواية الثانية: لا يشترط ذلك، بل يجوز أن يكون البذر من العامل، وقد نقل عنه جماهير أصحابه أكثر من عشرين نصا أنه يجوز أن يكري أرضه بالثلث أو الربع ; كما عامل النبي ﷺ أهل خيبر، فقالت طائفة من أصحابه، كالقاضي أبي يعلى: إذا دفع أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك فإن كان على وجه الإجارة جاز، وإن كان على وجه المزارعة لم يجز، وجعلوا هذا التفريق تقريرا لنصوصه ; لأنهم رأوا عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا في جواز كراء الأرض بجزء من الخارج منها، ورأوا أن ما هو ظاهر مذهبه عنده من أنه لا يجوز في المزارعة أن يكون البذر من المالك، كالمضاربة، ففرقوا بين باب المزارعة والمضاربة، وباب الإجارة وقال آخرون، منهم أبو الخطاب معنى قوله في رواية الجماعة يجوز كراء الأرض ببعض ما يخرج منها أراد به المزارعة والعمل من الأكار، قال أبو الخطاب: ومتبعوه فعلى هذه الرواية إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج منها، وإن كان من صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل بما شرط له، فقالوا فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره، وما يأخذه من الأجرة يأخذه بالشرط، وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكاراة ببعض الخارج هو المزارعة على أن يبذر الأكار هو الصحيح، ولا يحتمل الفقه إلا هذا، أو أن يكون نصه على جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولى وجواز هذه المعاملة مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرا ونظرا وهو ظاهر نصوص أحمد المتواترة عنه، واختيار طائفة من أصحابه، والقول الأول: قول من اشترط أن يبذر رب الأرض، أو فرق بين أن تكون إجارة أو مزارعة هو في الضعف نظير من سوى الإجارة الخاصة والمزارعة أو أضعف، أما بيان نص أحمد فهو أنه إنما جوز المؤاجرة ببعض الزرع، استدلالا بقصة معاملة النبي ﷺ لأهل خيبر، ومعاملته لهم إنما كانت مزارعة، ولم تكن بلفظ لم ينقل ويمنع فعله باللفظ المشهور، وأيضا فقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ شارط أهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم كما تقدم، ولم يدفع النبي ﷺ بذرا، فإذا كانت المعاملة التي فعلها النبي ﷺ إنما كانوا يبذرون فيها من أموالهم، فكيف يجوز أن يحتج بها أحمد على المزارعة، ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الإجارة، ثم يمنع الأصل الذي احتج به من المزارعة التي بذر فيها العامل، والنبي ﷺ قد قال، لليهود: { نقركم فيها ما أقركم }، لم يشترط مدة معلومة حتى قال: كانت إجارة لازمة، لكن أحمد حيث قال في إحدى الروايتين إنه يشترط كون البذر من الملك، فإنما قاله متابعة لمن أوجبه قياسا على المضاربة وإذا أفتى العالم بقول الحجة ولها معارض راجح لم يستحضرها حينئذ ذلك المعارض الراجح، ثم لما أفتى بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلالا بمزارعة خيبر، فلا بد أن يكون في خيبر كان البذر عنده من العامل، وإلا لم يصح الاستدلال، فإن فرضنا أن أحمد فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج وبين المزارعة ببذر العامل، كما فرق طائفة من أصحابه، فمستند هذا الفرق ليس مأخذا شرعيا، فإن أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات، كما يراه طائفة من أصحابه الذين يجوزون هذه المعاملة بلفظ الإجارة ويمنعونها بلفظ المزارعة، وكذلك يجوزون بيع ما في الذمة بيعا حلالا بلفظ البيع، ويمنعونه بلفظ السلم ; لأنه يصير سلما حالا، ونصوص أحمد وأصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه في مسألة مبيع العقود، فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا يحمل على الألفاظ، كما يشهد به أجوبته في الأيمان والنذور والوصايا وغير ذلك من التصرفات، وإن كان هو قد فرق بينهما كما فرقت طائفة من أصحابه فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة، كالرواية المانعة من الأمرين، أما الدليل: على جواز ذلك: فالسنة، والإجماع، والقياس، أما السنة: فما تقدم من معاملة النبي ﷺ لأهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم، وما دفع إليهم بذرا، وكما عامل المهاجرون الأنصار على أن البذر من عنده، قال حرب الكرماني: حدثنا محمد بن نصر، حدثنا حسان بن إبراهيم، عن حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن حكيم، أن عمر بن الخطاب استعمل يعلى بن أمية فأعطاه العنب والنخل على أن لعمر الثلثان ولهم الثلث، وأعطاه البياض إن كان البقر والبذر والحديد من عند عمر فلعمر الثلثان ولهم الثلث، وإن كان منهم فلعمر الشطر ولهم الشطر، فهذا عمر رضي الله عنه ويعلى بن أمية عامله صاحب رسول الله ﷺ قد عمل خلافه بتجويز كلا الأمرين، أن يكون البذر من رب الأرض وأن يكون من العامل، وقال حرب: حدثنا أبو معمر حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن الحارث بن حضير عن صخر بن الوليد، عن عمر بن خليع المحاربي، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فقال: إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها وفعل فيها، فدعاه علي، فقال: ما هذه الأرض التي أخذت، قال: أرض أخذتها أكري أنهارها، وأعمرها، وأزرعها، فما أخرج الله من شيء فلي النصف وله النصف، فقال: لا بأس بهذا، فظاهره أن البذر من عنده ولم ينهه عن غير ذلك، ويكفي إطلاق سؤاله وإطلاق علي الجواب، وأما القياس: فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة ليست من الإجارة الخاصة وإن جعلت إجارة ; فهي من الإجارة العامة التي يدخل فيها الجعالة والسبق والرمي على التقديرين، فيجوز أن يكون البذر منهما، وذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي يرجع إلى ربها كالثمن في المضاربة، بل البذر يتلف كما تتلف المنافع، وإنما يرجع الأرض أو بدن الأرض والعامل، فلو كان البذر مثل رأس المال، لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه ثم يقتسمان وليس الأمر كذلك بل يشتركان في جميع الزرع، فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها وهوائهم وبدن العامل والبقر، وأكثر الحرث والبذر يذهب كما تذهب المنافع وكما يذهب أجزاء من الماء والهواء والتراب فيستحيل زرعا، والله سبحانه يخلق الزرع من نفس الحب والتراب والماء والهواء، كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين، بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب، والحب يستحيل فلا يبقى، بل يخلقه الله ويحيله كما يحيل أجزاء من الهواء والماء، وكما يحيل المني وسائر مخلوقاته من الحيوان والمعدن والنبات، ولما وقع ما وقع من رأي كثير من الفقهاء اعتقدوا أن الحب والنوى في الزرع والشجر هو الأصل، والباقي تبع حتى قضوا في مواضع بأن يكون الزرع والشجر لرب النوى والحب، مع قلة قيمته ولرب الأرض أجرة أرضه، والنبي ﷺ إنما قضى بضد هذا حيث قال: { من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته }، فأخذ أحمد وغيره من فقهاء الحديث بهذا الحديث، وبعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس وأنه من صور الاستحسان، وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم، وهو أن الزرع تبع للبذر والشجر تبع للنوى، وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة، فإن إلقاء الحب في الأرض يعادله إلقاء المني في الرحم سواء، ولهذا سمى الله النساء حرثا في قوله: { نساؤكم حرث لكم } كما سمى الأرض المزروعة حرثا، والمغلب في ملك الحيوان إنما هو جانب الأم، ولهذا يتبع الولد الآدمي أمه في الحرية والرق دون أبيه، ويكون جنين البهيمة لمالك الأم دون العجل الذي نهى عن عسبه، وذلك ; لأن الأجزاء التي استمدها من الأم أضعاف الأجزاء التي استمدها من الأب، وإنما للأب حق الابتداء فقط، ولا ريب أنه مخلوق منهما جميعا، وكذلك الحب والنوى، فإن الأجزاء التي خلق منها الشجر والزرع أكثرها من التراب والماء والهواء، وقد يؤثر ذلك في الأرض فيضعف بالزرع فيها، لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما فإن الله سبحانه لا يزال يمد الأرض بالماء وبالهواء وبالتراب، إما مستحيلا من غيره وإما بالموجود، ولا يؤثر في الأرض بعض الأجزاء الترابية شيئا إما للخلف بالاستحالة وإما للكثرة، ولهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض في معنى المنافع بخلاف الحب والنوى الملقى فيها، فإنه عين ذاهبة متخلفة ولا يعوض عنها، لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الأصل فقط، فإن العامل هو وبقره لا بد له مدة العمل من قوت وعلف يذهب أيضا ورب الأرض لا يحتاج إلى مثل ذلك، ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع في القراض، ولو جرى عندهم مجرى الأصول لرجع، فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء أصول باقية، وهي: الأرض، وبدن العامل، والبقر، والحديد، ومنافع فانية، وأجزاء فانية أيضا، وهي البذر، وبعض أجزاء الأرض، وبعض أجزاء العامل وبقره، فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء، فتكون الخيرة إليهما فيمن يبدل هذه الأجزاء ويشتركان على أي وجه شاء ما لم يفض إلى بعض ما نهى عنه النبي ﷺ من أنواع الغرر أو الربا وأكل المال بالباطل، ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة، مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليهما والأجرة بينهما، فصل وهذا الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه ذلك يجمع النشر في هذه الأبواب، فإنك تجد كثيرا ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يظنها عامة أو مطلقة أو يضرب من القياس المعنوي أو الشبهي، فرضي الله عن أحمد حيث يقول ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين المجمل والقياس، ثم هذا التمسك يفضي إلى ما يمكن اتباعه ألبتة، وهذا الباب بيع الديون دين السلم وغيره وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك، لولا أن الغرض ذكر قواعد كلية تجمع أبوابا لذكرنا أنواعا من هذا .

القاعدة الثالثة في العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا، والذي يمكن ضبطه منها قولان: أحدهما: أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك، الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته، فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تبنى على هذا، وكثير من أصول الشافعي، وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد، فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد به أثر، ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهو باطل، أما أهل الظاهر فلم يصححوا، لا عقدا، ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع، وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه، واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك طردا جاريا، لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم، وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه لا يصحح في العقود شرطا يخالف مقتضاها المطلق، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه، ولهذا له أن يشرط في البيع خيارا ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال، ولهذا منع بيع العين المؤجرة، وإذا ابتاع شجرا عليه ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته، وإنما جوز الإجارة المؤخرة ; لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة، أو عتق العبد المبيع، أو الانتفاع به، أو يشرط المشتري بقاء الثمر على الشجر، وسائر الشروط التي يبطلها غيره، ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا ; لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ، لهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار ونحوهما، ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاث للأثر، وهو عنده موضع استحسان، والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثنى مواضع الدليل الخاص، فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع حتى منع الإجارة المؤخرة ; لأن موجبها، وهو القبض لا يلي العقد، ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق لما فيه من السنة والمعنى، ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤخرة على الصحيح في مذهبه، وكبيع الشجر مع استبقاء الثمرة المستحقة البقاء ونحو ذلك فلو أراد رجل أن يعير أمته للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة، فإنه جائز، وكذلك الولاء، نهى النبي ﷺ عن بيع الولاء وعن هبته، وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد، وقال ﷺ: { من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا } أبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، أو انتساب المعتق إلى غير مولاه، فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط ما كان حراما، وأما ما كان مباحا بدون الشرط فالشرط وجبه كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والرهن وتأخير الاستيفاء، فإن الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن وبالاستيفاء ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجبا وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه ; لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط، فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حراما وحلالا مطلقا فالشرط لا يغيره، وأما ما أباحه الله قد حرم ما أحله الله، وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا، لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب، فلا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر رضي الله عنه مقاطع الحقوق عند الشروط، وأما الاعتبار فمن وجوه: أحدها: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية، والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم، كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم، وقوله تعالى: { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } عام في الأعيان والأفعال، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة ; لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين إن شاء الله تعالى معنى حديث عائشة ، ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، ولا يجوز اشتراطها دارها، أو بلدها، أو أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه، وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار، وانفساخه بالشروط التي تنافيه، وكاشتراط الأجل والطلاق وكنكاح الشغار بخلاف فساد المهر ونحوه، وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة أن لا ينقلها، وأن لا يزاحمها بغيرها، وذلك من المصالح فيقولون: كل شرط ينافي مقتضى العقد، فهو باطل، إلا إذا كان فيه مصلحة للعاقد، وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثني، كما قد يوافق هو أبا حنيفة ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض، وهؤلاء الفرق الثلاثة يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة رضي الله عنهم، ولما قد يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر ويتوسعون في الشروط أكثر منهم، وعمدة هؤلاء قصة بريرة المشهورة، وهو ما أخرجاه في الصحيحين ; عن عائشة قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقالت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم: فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله ﷺ جالس، فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم، فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي ﷺ فقال: { خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله ﷺ في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق }، وفي رواية للبخاري: { اشتريها فاعتقيها وليشترطوا ما شاءوا }، فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها، فقال النبي ﷺ: { الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط }، وفي رواية لمسلم: { شرط الله أحق وأوثق }، وفي الصحيحين، عن عبد الله بن عمر، أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية فتعتقها، فقال أهلها: نبيعها على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: { لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق }، وفي مسلم عن أبي هريرة قال: أرادت عائشة أم المؤمنين أن تشتري جارية تعتقها، فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: { لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق }، ولهم من هذا الحديث حجتان: إحداهما: قوله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، فكل شرط ليس في القرآن، ولا في الحديث، ولا في الإجماع فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع، ومن قال بالقياس وهم الجمهور قالوا إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله فهو في كتاب الله، والحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي مقتضى العقد على اشتراط الولاء ; لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد، وذلك ; لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع، فإذا إرادة تغييرها تغيير لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادات، وهذا نكتة القاعدة، وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع، ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد القولين، لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها، فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر متابعة لعبد الله بن عمر، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج، ويقول أليس حسبكم سنة نبيكم، وقد استدلوا على هذا الأصل، بقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم }، وقوله: { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه }، { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون }، قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله وزيادة في الدين، وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا ذلك منسوخ، كما قاله بعضهم في شروط النبي ﷺ مع المشركين عام الحديبية، أو قالوا هذا عام أو مطلق فيخص بالشروط التي في كتاب الله، واحتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وشريك أن النبي ﷺ نهى عن بيع وشرط ، وقد ذكره جماعات من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه، وإذا تبين أن لليمين صيغتين صيغة القسم وصيغة الجزاء فالمقسوم عليه في صيغة القسم مؤخر في صيغة الجزاء، والمؤخر في صيغة الجزاء مقدم في صيغة القسم والشرط المثبت في صيغة الجزاء منفي في صيغة القسم، فإنه إذا قال الطلاق يلزمني لا أفعل كذا فقد حلف بالطلاق، أن لا يفعل، فالطلاق مقدم مثبت والفعل مؤخر منفي فلو حلف بصيغة الجزاء قال إن فعلت كذا فامرأتي طالق، وكان يقدم الفعل مثبتا ويؤخر الطلاق منفيا، كما أنه في القسم قدم الحكم وأخر الفعل وبهذه القاعدة تنحل مسائل من مسائل الأيمان فأما صيغة الجزاء فهي جملة فعلية في الأصل، فإن أدوات الشرط لا يتصل بها في الأصل إلا الفعل وأما صيغة القسم فتكون فعلية كقوله أحلف بالله أو تالله أو والله ونحو ذلك، وتكون اسمية كقوله لعمر الله لأفعلن والحيلة علي حرام لأفعلن، ثم هذا التقسيم ليس من خصائص الأيمان التي بين العبد وبين الله، بل غير ذلك من العقود التي تكون بين الآدميين تارة تكون بصيغة التعليق الذي هو الشرط والجزاء كقوله في الجعالة من رد عبدي الآبق فله كذا، وقوله في السبق من سبق فله كذا، وتارة بصيغة التنجيز إما صيغة خبر كقوله بعت وزوجت وإما صيغة طلب كقوله بعني واخلعني . وأما إذا لم يكن المشروط مما حرمه الله فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال كتاب الله أحق وشرط الله أوثق، فيكون المعنى من اشترط أمرا ليس في حكم الله أو في كتابه بواسطة أو بغير واسطة فهو باطل ; لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه، ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط وهو ثبوت الولاء لغير المعتق شرطا ليس في كتاب الله، فانظر إلى المشروط إن كان فعلا أو حكما فإن كان الله قد أباحه جاز اشتراطه ووجب، وإن كان الله تعالى لم يبحه لم يجز اشتراطه، فإذا اشترط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله ; لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها، فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله، فمضمون الحديث أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال ليس في كتاب الله أي ليس في كتاب الله نفيه، كما يقال { سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم } أي تعرفوا خلافه أو لا يعرف كثير منكم، ثم يقول لم يرد النبي ﷺ أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء، لا إيجاب ولا تحريم، فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام، فإن الله حرم عقد الظهار وسماه منكرا من القول وزورا، ثم إنه أوجب به على من عاد الكفارة ومن لم يعد جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء وترك العقد، وكذلك النذر، فإن النبي ﷺ نهى عن النذر كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وقال: { إنه لا يأت بخير }، ثم أوجب الوفاء إذا كان طاعة في قوله ﷺ: { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه }، فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم، نعم، لا يكون سببا لإباحة، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر، وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم، ونحو ذلك، لم يستفد المنهي بفعله لما نهي عن الاستباحة ; لأن النهي عن معصية، والأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته، والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سببا للآلاء ولفتح أبواب الدنيا، لكن ذاك قدر ليس بشرع بل قد يكون سببا لعقوبة الله تعالى، والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة، كما قال تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }، وإن كان قد يكون رحمة أيضا، كما جاءت شريعتنا الحنيفية، والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه، وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم، وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية، إن كان النبي ﷺ أراد أن الشروط التي لم يبحها الله، وإن كان لم يحرمها باطلة، فنقول قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما، والمقصود هو وجوب الوفاء بها على هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة، وذلك ; لأن قوله " ليس في كتاب الله " إنما يشتمل ما ليس في كتاب لا بعمومه ولا بخصوصه، وإنما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله على ; لأن قولنا هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم، وعلى هذا معنى قوله تعالى: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }، وقوله: { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء }، وقوله: { ما فرطنا في الكتاب من شيء }، على قول من جعل الكتاب هو القرآن وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ فلا يخفى هذا، يدل على ذلك أن الشرط الذي ثبت جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله، وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين، فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار ; لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل، فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما، فشرط الولاء داخل في العموم، فيقال العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص، فإن الخاص يفسر العام، وهذا المشروط قد نفاه النبي ﷺ بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته، وقوله: { من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين }، ودل الكتاب على ذلك بقوله: { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه }، إلى قوله: { وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } فأوجب علينا الدعاء لأبيه الذي ولده دون الذي تبناه وحرم التبني، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعي أخا في الدين ومولى كما قال النبي ﷺ لزيد بن حارثة أنت أخونا ومولانا، وقال ﷺ: { إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس }، فجعل سبحانه الولاء نظير النسب وبين سبب الولاء في قوله تعالى: { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك }، فبين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد، فإذا كان حرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق ; لأنه في معناه .

وقال الأثرم: حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا عمران، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، أن امرأة سألت ابن عباس أن امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته، فقال ابن عباس: في غضب أم في رضى ؟ قالوا: في غضب، قال: إن الله تبارك وتعالى لا يتقرب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها، قال: وحدثني ابن الطباع، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن العلاء بن المسيب، عن يعلى بن النعمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، سئل عن رجل جعل ماله في المساكين فقال: أمسك عليك مالك، وأنفقه على عيالك، واقض به دينك، وكفر عن يمينك، وروى الأثرم عن أحمد حدثنا عبد الرزاق بن جريج سئل عطاء عن رجل قال علي ألف بدنة، قال يمين، وعن رجل قال علي ألف حجة قال يمين، وعن رجل قال مالي في المساكين قال يمين .

وقال حرب الكرماني: حدثنا المسيب بن واضح، حدثنا يوسف بن أبي الشعر، عن الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح سألت ابن عباس عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله الحرام، قال: إنما المشي على من نواه فأما من حلف في الغضب فعليه كفارة يمين، وأيضا فإن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه، وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله، وإنما مقصوده الحض على فعل أو المنع منه، وهذا معنى اليمين، فإن الحالف يقصد الحض على فعل أو المنع منه ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة فلا تجزئه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى ; لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك أيمانه بالله حيث لم يف بعهده، وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم، ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي، فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضى الحنث في التوحيد فساده ونحو ذلك، وخيره فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى وأيضا فإنا نقول إن موجب صيغة القسم مثل موجب صيغة التعليق والنذر نوع من اليمين، وكل نذر فهو يمين نقول الناذر لله على أن أفعل بمنزلة قوله احلف بالله لأفعلن، موجب هذين القولين التزام الفعل معلقا بالله، والدليل على هذا قول النبي: { النذر والحلف } فقوله: إن فعلت كذا فعلي الحج لله بمنزلة قوله إن فعلت كذا فوالله لأحجن، وطرد هذا أنه إذا حلف ليفعلن برا لزمه فعله، ولم يكن له أن يكفر، فإن حلفه ليفعلنه نذر لفعله، وكذلك طرد هذا أنه إذا نذر ليفعلن معصية أو مباحا فقد حلف على فعلها بمنزلة ما لو قال: والله لأفعلن كذا ولو حلف بالله ليفعلن معصية أو مباحا لزمته كفارة يمين، فكذلك لو قال لله علي أن أفعل كذا، ومن الفقهاء من أصحابنا، وغيرهم من يفرق بين الناس . فمعلوم أن من حلف بصفاته كالحلف به، كما لو قال: وعزة الله تعالى، أو لعمر الله، أو والقرآن العظيم، فإنه قد ثبت جواز الحلف بالصفات ونحوها عن النبي والصحابة، ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها، وإن كانت الاستعاذة لا تكون إلا بالله، في مثل قول النبي: { أعوذ بوجهك }، و { أعوذ بكلمات الله التامات }، و { أعوذ برضاك من سخطك } ونحو ذلك، وهذا أمر متقرر عند العلماء، وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو الحلف بصفات الله، فإنه إذا قال إن فعلت كذا فعلي الحج فقد حلف بإيجاب الحج عليه، وإيجاب الحج عليه حكم من أحكام الله تعالى وهو من صفاته، وكذلك لو قال: فعلي تحرير رقبة وإذ قال: فامرأتي طالق، وعبدي حر، فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه، والتحريم من صفات الله، كما أن الإيجاب من صفات الله تعالى، وقد جعل الله ذلك من آياته في قوله: { ولا تتخذوا آيات الله هزوا }، فجعل صدوره في النكاح والطلاق والخلع من آياته، لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم فقد عقد اليمين لله كما يعقد النذر لله، فإن قوله علي الحج والصوم عقد لله، ولكن إذا كان حالفا فهو لم يقصد العقد لله بل قصد الحلف به، فإذا حنث ولم يوف به فقد ترك ما عقد لله، كما أنه إذا فعل المحلوف فقد ترك ما عقده بالله، يوضح ذلك: أنه إذا حلف بالله أو بغير الله مما يعظمه بالحلف فإنما حلف به ليعقد به المحلف عليه، ويربطه منه ; لأنه يعظمه في قلبه إذا ربط به شيئا لم يجده، فإذا حل ما ربطه به فقد انتقصت عظمته من قلبه، وقطع السبب الذي بينه وبينه، وكما قال بعضهم اليمين العقد على نفسه لحق من له حق، ولهذا إذا كانت اليمين غموسا كانت من الكبائر الموجبة للنار، كما قال تعالى: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } }، وذكرها النبي في عد الكبائر، وذلك أنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقدا به فقد نقص الصلة التي بينه وبين ربه، بمنزلة من أخبر عن الله بما هو منزه عنه، أو تبرأ من الله، بخلاف ما إذا حلف على المستقبل فإنه عقد بالله فعلا قاصدا لعقده على وجه التعظيم لله، لكن الله أباح له حل هذا العقد الذي عقده، كما يبيح له ترك بعض الواجبات لحاجة، أو يزيل عنه وجوبها، ولهذا قال أكثر أهل العلم: إذا قال هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل ذلك فهي يمين، بمنزلة قوله والله لأفعلن ; لأنه ربط عدم الفعل بكفره الذي هو براءته من الله، فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله، وهذا هو حقيقة الحلف بالله، فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب والتحريم أدنى حالا من ربطه بالله، يوضح ذلك: أنه إذا عقد اليمين بالله فهو عقد لها بإيمانه بالله، وهو ما في قلبه من حلال الله وإكرامه الذي هو حد الله، ومثله الأعلى في السماوات والأرض، كما أنه إذا سبح لله وذكره فهو مسبح لله وذاكرا له بقدر ما في قلبه من معرفته وعبادته، ولذلك جاء التسبيح تارة لاسم الله كما في قوله: { سبح اسم ربك الأعلى }، وتارة كما في قوله: { وسبحوه بكرة وأصيلا } وكذلك الذكر كما في قوله: { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا }، مع قوله: { اذكروا الله ذكرا كثيرا }، فحيث عظم العبد ربه بتسبيح اسمه أو الحلف به أو الاستعاذة به فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلى الذي في قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته، علما وفضلا وإجلالا وإكراما، وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلى ما كسبه قلبه من ذلك ; كما قال سبحانه: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }، وكما في موضع آخر: { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان }، فلو اعتبر الشارع ما في لفظة القسم من انعقاده بالأيمان وارتباطه به دون قصد الحلف ; لكان موجبه أنه إذا حنث بغير أيمانه وتزول حقيقته، كما قال { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن }، وكما أنه إذا حلف على ذلك يمينا فاجرة كانت من الكبائر ; وإذا اشترى بها مالا معصوما فلا خلاق له في الآخرة، ولا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم، لكن الشارع علم أن الحالف بها ليفعلن أو لا يفعلن، ليس غرضه الاستخفاف بحرمة اسم الله والتعلق به لغرض الحالف اليمين الغموس، فشرع له الكفارة، وحل هذا العقد وأسقطها عن لغو اليمين ; لأنه لم يعقد قلبه شيئا من الجناية على إيمانه، فلا حاجة إلى الكفارة، وإذا ظهر أن موجب لفظ اليمين انعقاد الفعل بهذا اليمين الذي هو إيمانه بالله، فإذا عدم الفعل كان مقتضى لفظه عدم إيمانه هذا لولا ما شرع الله من الكفارة، كما أن مقتضى قوله: إن فعلت كذا أوجب علي كذا أنه عند الفعل يجب ذلك الفعل لولا ما شرع الله من الكفارة .

يوضح ذلك: أن النبي قال: { من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال } أخرجاه في الصحيحين، فجعل اليمين الغموس في قوله ويهودي أو نصراني إن فعل كذا كالغموس في قوله والله ما فعلت كذا، إذ هو في كلا الأمرين قد قطع عهده من الله، حيث علق الأيمان بأمر معدوم، والكفر بأمر موجود، بخلاف اليمين على المستقبل، وطرد هذا المعنى أن اليمين الغموس إذا كانت في النذر الطلاق أو العتاق وقع المعلق به، ولم ترفعه الكفارة، كما يقع الكفر بذلك في أحد قولي العلماء، وبهذا يحصل الجواب عن قولهم المراد به اليمين المشروعة، وأيضا قوله سبحانه وتعالى: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم }، فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين على أن معناها أنكم لا تجعلوا الله مانعا لكم إذا حلفتم به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، بأن يحلف الرجل أن يفعل معروفا مستحبا أو واجبا أو ليفعل مكروها أو حراما ونحوه، فإذا قيل له افعل ذلك أو لا تفعل هذا قال قد حلفت بالله، فيجعل الله عرضة ليمينه، فإذا كان قد نهى عباده أن يجعلوا نفسه مانعا لهم في الحلف من البر والتقوى، والحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف به وجب أن لا يكون مانعا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه إذا نهى عن أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي فغيره أولى، أن نكون منهيين عن جعله عرضة لأيماننا، وإذا تبين أننا منهيون عن أن نجعل شيئا من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي ونصلح بين الناس، فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوى والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به .

فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس أو ليقطعن رحمه أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها، فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس أكثر مما يجعل الله عرضة ليمينه، ثم إن وفى يمينه كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه، وإن طلق امرأته ففي الطلاق أيضا من ضرر الدين والدنيا ما لا خفاء فيه، أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة مع استقامة حال الزوجين، إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم، فكيف إذا كانا في غاية الاتصال وبينهما من الأولاد والعشيرة ما يكون في طلاقهما من ضرر الدين أمر عظيم، وكذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع بحيث لو خير أحدهما بين أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لاختار فراق ماله ووطنه على الطلاق، وقد قرن الله فراق الوطن بقتل النفس ولهذا قال الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه متابعة لعطاء أنها إذا أحرمت بالحج فحلف عليها زوجها بالطلاق أنها لا تحج صارت محصرة وجاز لها التحلل لما عليها في ذلك من الضرر الزائد على ضرر الإحصار بالعدو أو القريب منه، وهذا ظاهر فيما إذا قال إن فعلت كذا فعلي أن أطلقك أو أعتق عبيدي، فإن هذا في نذر اللجاج والغضب بالاتفاق كما لو قال والله لأطلقنك أو لأعتق عبيدي، وإنما الفرق بين وجود العتق ووجوبه هو الذي اعتمده، المفرقون، وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى، وأيضا فإن الله قال: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم }، وذلك يقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله إلا والله غفور لفاعله رحيم به، وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم ; لأن قوله لأي شيء استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك والله غفور رحيم، فلو كان الحالف بالنذور والعتاق والطلاق أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له، لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال، ولا يبقى موجب المغفرة والرحمة على هذا الفاعل، وأيضا قوله سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } إلى قوله: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم }، والحجة منها كالحجة من الأولى، وأقوى علم، فإنه لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم وهذا لتحريمها بالأيمان من الطلاق وغيرها، ثم بين وجه المخرج من ذلك بقوله: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } أي فكفارة تعقيدكم أو عقدكم الأيمان وهذا عام، ثم قال: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم }، وهذا عام كعموم قوله: { واحفظوا أيمانكم }، مما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم قوله: " من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك " فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله وإنما لم يدخل مالك وأحمد وغيرهما تنجيزا بالطلاق موافقة لابن عباس، ; لأن إيقاع الطلاق ليس بحلف، وإنما الحلف المنعقد ما تضمن محلوفا به ومحلوفا عليه إما بصيغة القسم وإما بصيغة الجزاء، وما كان في معنى ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وهذه الأدلة تنبيه على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهم في مسألة نذر اللجاج والغضب، فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذا الآية وجعلوا، قوله: { تحلة أيمانكم }، كفارة أيمانكم عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر، ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما سواء، فإن قيل المراد في الآية اليمين بالله فقط فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين، ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام والإضافة في قوله { عقدتم الأيمان } و { تحلة أيمانكم } منصرفا إلى اليمين المعهودة عليهم وهي اليمين بالله، وحينئذ فلا يعلم اللفظ إلا المعروف عندهم والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم، ولو كان اللفظ عاما فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة كاليمين بالمخلوقات، فلا يدخل الحلف بالطلاق ونحوه ; لأنه ليس من اليمين المشروعة، لقوله { من كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت }، وهذا سؤال، من يقول كل يمين غير مشروعة فلا كفارة لها ولا حنث، فيقال: لفظ اليمين شمل هذا كله بدليل استعمال النبي والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله، كقوله: { النذر حلف }، وقول الصحابة لمن حلف بالهدي بالعتق كفر يمينك، وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبي كما سنذكره، ولإدخال العلماء كذلك في قوله: { من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك } ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال: { لم تحرم ما أحل الله لك }، ثم قال: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين، كما استدل به ابن عباس وغيره، وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية، وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يمينا بالله، ولهذا أفتى جمهور الصحابة كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم أن تحريم الحلال يمين مكفرة إما كفارة كبرى كالظهار وإما كفارة صغرى كاليمين بالله، وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا، وأيضا فإن قوله: { لم تحرم ما أحل الله لك }، إما أن يراد به لم تحرم بلفظ الحرام، وإما لم تحرمه باليمين بالله تعالى ونحوها، وإما لم تحرمه مطلقا، فإن أريد الأول والثالث، فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله، ثم فيعم، وإن أريد به تحريمه بالحلف بالله فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال، ومعلوم أن اليمين بالله لم يوجب الحرمة الشرعية، لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيا لا شرعيا، فكل يوجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل، فيدخل في قوله: { لم تحرم ما أحل الله لك }، وحينئذ فقوله: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، لا بد أن يعم كل يمين حرمت الحلال، لأن هذا حكم ذلك الفعل، فلا بد أن يطابق صوره ; لأن تحريم الحلال هو سبب قوله: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض مع قيام السبب المقتضي للتعميم، وهذا التقدير في قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } إلى قوله: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وأيضا فإن الصحابة فهمت العموم، وكذلك العلماء عامتهم حملوا الآية على اليمين بالله وغيرها، وأيضا فنقول على الرأس سلمنا أن اليمين المذكورة في الآية المراد بها اليمين بالله تعالى، وأن ما سوى اليمين بالله تعالى لا يلزم بها حكم،

فصل موجب نذر اللجاج والغضب عندنا أحد شيئين على المشهور، إما التكفير وإما فعل المعلق، ولا ريب أن موجب اللفظ في مثل قوله إن فعلت كذا فعلي صلاة ركعتين أو صدقة ألف أو فعلي الحج أو صوم شهر هو الوجوب عند الفعل، فهو مخير بين هذا الوجوب وبين وجوب الكفارة، فإذا لم يلتزم الوجوب المعلق ثبت وجوب الكفارة، فاللازم له أحد الوجهين كل منهما ثابت بتقدير عدم الآخر، كما في الواجب المخير وكذلك إن قال إن فعلت كذا فعلي عتق هذا العبد أو تطليق هذه المرأة أو علي أن أتصدق أو أهدي فإن ذلك يوجب استحقاق العبد للإعتاق والمال للتصدق والبدنة للهدي، ولو أنه نجز ذلك فقال هذا المال صدقة وهذه البدنة هدي وعلي عتق هذا العبد، فهل يخرج عن ملكه بذلك أو يستحق الإخراج، فيه خلاف، وهو يشبه قوله هذا وقف، فأما إذا قال هذا العبد حر وهذه المرأة طالق فهو إسقاط بمنزلة قوله ذمة فلان بريئة من كذا أو من دم فلان، أو من قذفي، فإن إسقاط حق الدم والمال والغرض من باب إسقاط حق الملك بملك البضع وملك اليمين، فإن قال إن فعلت فعلي الطلاق أو فعلي العتق أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار، وقلنا إن موجبه أحد الأمرين فإنه يكون مخيرا بين وقوع ذلك وبين وجوب الكفارة، كما لو قال: فهذا المال صدقة أو هذه البدنة هدي، ونظير ذلك ما لو قال: إذا طلعت الشمس فعبيدي أحرار أو نسائي طوالق، وقلنا التخيير إليه فإنه إذا اختار أحدهما كان ذلك بمنزلة اختياره أحد الأمرين من الوقوع أو وجوب الكفارة، ومثال ذلك أيضا إذا أسلم وتحته أكثر من أربع أو أختان فاختار إحداهما فهذه المواضع التي تكون الفرقة أحد اللازمين، إما فرقة معين أو نوع الفرقة لا يحتاج إنشاء طلاق لكن لا يتعين الطلاق إلا بما يوجب تعيينه كما في النظائر المذكورة، ثم إذا اختار الطلاق فهل يقع من حين الاختيار أو من حين الحنث يخرج على نظير ذلك ؟ فلو قال في جنس مسائل نذر اللجاج والغضب اخترت التكفير، أو اخترت فعل المنذور، هل يعين بالقول أو لا يتعين إلا بالفعل ؟ إن كان التخيير بين الوجوبين تعين بالقول كما في التخيير بين الإنشاء وبين الطلاق والعتق وإن كان بين الفعلين لم يتعين إلا بالفعل، كالتخيير بين خصال الكفارة وإن كان بين الفعل والحكم كما في قوله إن فعلت كذا فعبدي حر، أو امرأتي طالق، أو دمي هدر، أو مالي صدقة، أو بدنتي هدي، تعين الحكم بالقول ولم يتعين الفعل إلا بالفعل .

المسائل التي انفرد بها شيخ الإسلام ابن تيمية عن الأئمة الأربعة أو اتبع فيها بعض مذاهبهم القول بقصر الصلاة: تقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا طويلا كان أو قصيرا كما هو مذهب الظاهرية، وقول بعض الصحابة .

وقال إسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى، وهما مكيان: فقد فرق بين الحلف بالطلاق والعتق، والحلف بالنذر وبأنهما لا يكفران، واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه عارض ما روي من الكفارة عن ابن عمر وحفصة وزينب، مع انفراد التيمي بهذه الزيادة، وقال صالح بن أحمد قال أبي وإذا قال جاريتي حرة إن لم أصنع كذا وكذا قال: قال ابن عمر، وابن عباس: يعتق، وإذا قال بل مالي في المساكين فيه كفارة، فإن ذا لا يشبه ذا ألا ترى أن ابن عمر فرق بينهما العتق والطلاق لا يكفران، وأصحاب أبي حنيفة يقولون إذا قال الرجل مالي في المساكين أنه يتصدق به على المساكين، وإذا قال مالي على فلان صدقة، وفرقوا بين قوله إن فعلت كذا فمالي صدقة، أو فعلي الحج، وبين قوله فامرأتي طالق أو فعبدي حر، بأنه هناك موجب القول وجوب الصدقة والحج لا وجود الصدقة والحج، فإذا اقتضى الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلا عن هذا الواجب كما يكون بدلا عن غيره من الواجبات، كما كانت في أول الإسلام بدلا عن الصوم الواجب، وبقيت بدلا عن الصوم على العاجز عنه، وكما يكون بدلا عن الصوم الواجب في ذمة الميت، فإن الواجب إذا كان في الذمة أمكن أن يخير بين أدائه وبين أداء غيره، وأما العتق والطلاق فإن موجب الكلام وجودهما، فإذا وجد الشرط وجد العتق والطلاق، وإذا وقعا لم يرتفعا بعد وقوعهما ; لأنهما لا يقبلان الفسخ، بخلاف ما لو قال: إن فعلت كذا فوالله علي أن أعتق فإنه هنا لم يعلق العتق، وإنما علق وجوبه بالشرط، فيخير بين فعل هذا الإعتاق الذي أوجبه على نفسه وبين الكفارة التي هي بدل عنه، ولهذا لو قال: إذا مت فعبدي حر عتق بموته من غير حاجة إلى الإعتاق، ولم يلزمه فسخ هذا التدبير عند الجمهور إلا قولا للشافعي ورواية عن أحمد، وفي بيعه الخلاف المشهور، ولو وصى بعتقه فقال: إذا مت فأعتقوه، كان له الرجوع في ذلك كسائر الوصايا، وكان له بيعه هنا وإن لم يجز بيع المدبر، وذكر أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة في تاريخه، أن المهدي لما روى ما أجمع عليه رأي أهل بيته من العهد إلى أنه وزع عيسى بن موسى الذي كان ولي العهد عزمه على خلع عيسى، ودعاهم إلى البيعة لموسى فامتنع عيسى من الخلع، وزعم أن عليه أيمانا تخرجه من أملاكه، ويطلق نساءه، فأحضر له المهدي ابن غلامة ومسلم بن خالد، وجماعة من الفقهاء، فأفتوه بما يخرجه عن يمينه، واعتاض عما لزمه في يمينه بمال كثير ذكره، ولم يزل إلى أن خلع وبويع للمهدي ولموسى الهادي بعده، وأما أبو ثور قال في العتق على وجه اليمين يجزئه كفارة يمين كنذر اللجاج والغضب لأجل ما تقدم من حديث ليلى بنت العجماء التي أفتاها عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله في قولها إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل لي محرر، وهذه القصة هي مما اعتمدها الفقهاء المستدلون في مسألة نذر اللجاج والغضب، لكن توقف أحمد وأبو عبيد عن العتق فيها لما ذكرته من الفرق، وعارض أحمد ذلك، وأما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر فتوقف عنه، مع أن القياس عنده مساواته للعتق، لكن خاف أن يكون مخالفا للإجماع، والصواب أن الخلاف في الجميع الطلاق وغيره لما سنذكره، ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتى من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه على الحلف بالطلاق، فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة، فالحلف بالطلاق الذي ليس بقربة إما أن تجزي فيه الكفارة أو لا يجب فيه شيء قول على قول من يقول نذر غير الطاعة لا شيء فيه، ويكون قوله: إن فعلت كذا فأنت طالق بمنزلة قوله: فعلي أن أطلقك، كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم، قوله: فعبيدي أحرار بمنزلة قوله فعلي أن أعتقهم، على أني إلى الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق، وذلك والله أعلم ; لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم، وإنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم، فاختلف فيه التابعون ومن بعدهم، فأحد القولين إنه يقع به كما تقدم، والقول الثاني إنه لا يلزم الوقوع، ذكر عبد الرزاق عن طاوس عن أبيه أنه كان يقول الحلف بالطلاق ليس شيئا، قلت: أكان يراه يمينا، قال لا أدري فقد أخبر ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعا للطلاق، وتوقف في كونه يمينا يوجب الكفارة ; لأنه من باب نذر ما لا قربة فيه، وفي كون مثل هذا يمينا خلاف مشهور، وهذا قول أهل الظاهر، وكذا أبي محمد بن حزم لكن بناء على أنه لا يقع طلاق معلق ولا عتق معلق، واختلفوا في المؤجل وهو بناء على ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا ما دل نص أو إجماع على وجوبه أو جوازه، وهو مبني على ثلاث مقدمات يخالفون فيها: أحدها: كون الأصل تحريم العقود، الثاني: أنه لا يباح ما كان في معنى النصوص، الثالث: أن الطلاق المؤجل والمعلق لم يتدرج في عموم النصوص، وأما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج والغضب، فهذا قياس قول الذين جوزوا التكفير في نذر اللجاج والغضب، وفرقوا بين نذر التبرر ونذر الغضب، فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذي يقصد وقوعه عند الشرط، وبين المعلق المحلوف به الذي يقصد عدم وقوعه، إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب وسنتكلم عليه، وقد ذكرنا هذا القول يخرج من أصول أحمد على مواضع قد ذكرناها، وكذلك هو أيضا لازم لمن قال في نذر اللجاج والغضب بكفارة كما هو ظاهر مذهب، الشافعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة التي اختارها أكثر متأخري أصحابه، وإحدى الروايتين عن ابن القاسم التي اختارها كثير من متأخري المالكية، فإن التسوية بين الحلف بالنذر والعتق هو المتوجه، ولهذا كان هذا من أقوى حجج القائلين بوجوب الوفاء في الحلف بالنذر، فإنهم قاسوه على الحلف بالطلاق والعتاق، واعتقده بعض المالكية مجمعا عليه، وأيضا إذا حلف بصيغة القسم كقوله عبيدي أحرار لأفعلن أو نسائي طوالق لأفعلن، فهو بمنزلة قوله مالي صدقة لأفعلن وعلي الحج لأفعلن والذي يوضح التسوية أن الشافعي إنما اعتمد في الطلاق المعلق على فدية الخلع، قاله في البويطي وهو كتاب متحرى، من أجود كلامه، وذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب طلاقا بصفة، ويسمون ذلك الشرط صفة، ويقولون إذا وجدت الصفة في زمان البينونة وإذا لم توجد الصفة ونحو ذلك، وهذا التشبيه لها وجهان: أحدهما: أن هذا الطلاق موصوف بصفة ليس طلاقا مجردا عن صفة، فإنه إذا قال أنت طالق في أول السنة، وإذا ظهرت فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص فإن الظرف صفة للمظروف، وكذلك إذا قال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فقد وصفه بعوضه، والثاني: أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر ونحوها حروف الصفات، فلما كان هذا فلما كان معلقا بالحروف التي قد تسمى حروف الصفات سمي طلاقا بصفة كما لو قال أنت طالق بألف، والوجه الأول، هو الأصل، فإن هذا يعود إليه، إذ النحاة إذ سموا حروف الجر حروف الصفات ; لأن الجار والمجرور يصير في المعنى صفة لما تعلق به، فإذا كان الشافعي وغيره إنما اعتمدوا في الطلاق الموصوف على الطلاق المذكور في القرآن وقاسوا كل طلاق بصفة عليه صار هذا، كما أن النذر المعلق بشرط مذكور في قوله تعالى: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين }، ومعلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة، فقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه وبين النذر المقصود عدم شرطه الذي خرج مخرج اليمين، فلذلك يفرق بين الطلاق المقصود وصفه كالخلع حيث المقصود فيه العوض والطلاق المحلوف به الذي يقصد عدمه وعدم شرطه فإنه إنما يقاس بما في الكتاب والسنة وما أشبهه، ومعلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة وبين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها، كما فرق بينهما في النذر سواء، والدليل على هذا القول الكتاب، والسنة، والأثر، والاعتبار، أما الكتاب: فقوله سبحانه: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم }، فوجه الدلالة أن الله قال: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، وهذا نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون، إن الله قد فرض لها تحلة وذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي ﷺ، مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى، فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة لكان مخالفا للآية، كيف وهذا عام لم تخص فيه صورة واحدة لا بنص ولا بإجماع، بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي، فإن اليمين معقود يوجب منع المكلف من الفعل، فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة، وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب،

قاعدة فيما يشترط الناس في الوقف فإن فيها ما فيه عوض دنيوي وأخروي وما ليس كذلك، وفي بعضها تشديد على الموقوف عليه فنقول الأعمال المشروطة في الوقف على الأمور الدينية مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين والمشتغلين بالعلم من القرآن والحديث والفقه ونحو ذلك، أو بالعبادات أو بالجهاد في سبيل الله، تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: عمل يتقرب به إلى الله تعالى وهو الواجبات المستحبات التي رغب رسول الله فيها، وحض على تحصيلها فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به، ويقف استحقاق الوقف على جهة حصوله في الجملة، والثاني: عمل نهى النبي عنه، نهي تحريم أو نهي تنزيه، فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء لما قد استفاض، عن النبي، أنه خطب على منبره، فقال: { ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق }، وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء، وهو مجمع عليه في هذا الحديث، وكذا ما كان من الشروط مستلزما وجود ما نهى عنه الشارع فهو بمنزلة ما نهى عنه، وما علم أنه نهى عنه ببعض الأدلة الشرعية فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه، لكن قد اختلف العلماء في بعض الأعمال هل هو من باب المنهي عنه فيختلف اجتهادهم في ذلك الشرط بناء على هذا، وهذا أمر لا بد منه في الأمة، ومن هذا الباب أن يكون العمل المشترط ليس محرما في نفسه لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به، ومثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته، وهذا مكروه في الشريعة مما أحدثه الناس، أو يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة، أو بعض الأقوال المحرمة، أو يشترط على الإمام أو المؤذن ترك بعض سنن الصلاة أو الأذان، أو فعل بعض بدعهما مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل، أو أن يصل الأذان بذكر غير مشروع، أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة أو المسجد مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم، ومن هذا الباب أن يشترط عليهم أن يصلوا وحدانا، ومما يلحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزما ترك ما ندب إليه الشارع، مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم، فإن هذا دعاء إلى ترك الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى الله ورسوله فلا يلتفت إلى مثل هذا، بل الصلاة في المسجد الأعظم هو الأفضل، بل الواجب هدم مساجد الضرائر، مما ليس هذا موضع تفصيله، ومن هذا الباب اشتراط الإيقاد على القبور، إيقاد الشمع أو الدهن ونحو ذلك، فإن { النبي قال لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج }، وبناء المسجد أو إسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم فيه خلافا أنه معصية لله ورسوله، وتفاصيل هذه الشروط يطول جدا وإنما نذكر هاهنا جماع الشروط، القسم الثالث: عمل ليس بمكروه في الشرع ولا مستحب، بل هو مباح مستوي الطرفين، فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به، والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أن شرطه باطل، فلا يصح عندهم أن يشرط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى، وذلك لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما فيه منفعة في الدين أو الدنيا، فما دام الإنسان حيا فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة، لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه أو أهدى إليه ونحو ذلك، فأما الأعمال التي ليست طاعة لله ورسوله فلا ينتفع بها الميت بحال، فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملا أو صفة لا ثواب فيها كان السعي في تحصيلها سعيا فيما لا ينتفع به في دنياه ولا في آخرته، ومثل هذا لا يجوز، وهذا إنما مقصده بالوقف التقرب، والله أعلم . والقول بأن سجود التلاوة لا يشترط لها وضوء كما يشترط للصلاة وهو مذهب ابن عمر واختاره البخاري أيضا .

-مسألة: فيمن وقف مدرسة بيت المقدس، وشرط على أهلها الصلوات الخمس فيها فهل يصح هذا الشرط ؟ وهل يجوز للمنزلين الصلوات الخمس في المسجد الأقصى دونها، ويتناولون ما قرر لهم ؟ أم لا يحل التناول إلا بفعل هذا الشرط، الجواب: ليس هذا شرطا صحيحا يقف الاستحقاق عليه، كما كان يفتي بذلك في هذه الصورة بعينها الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وغيره من العلماء ; لأدلة متعددة، وقد بسطناها في غير هذا الموضع مع ما في ذلك من أقوال العلماء، ويجوز للمنزلين أن يصلوا في المسجد الأقصى الصلوات الخمس، ولا يصلوها في المدرسة، ويستحقون مع ذلك ما قدر لهم، وذلك أفضل لهم من أن يصلوا في المدرسة، والامتناع من أداء الفرض في المسجد الأقصى، لأجل حل الجاري ورع فاسد، يمنع صاحبه الثواب العظيم في الصلاة في المسجد، والله أعلم .

والقول باستبراء المختلعة بحيضة، وكذلك الموطوءة بشبهة، والمطلقة آخر ثلاث تطليقات . 

 

 
==================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل المقحمات هي الذنوب العظام كما قال النووي أم أنها ذنوب أرتكبت بقصد طاعة الله لكن التسرع والاندفاع دافع للخطأ من غير قصد

تعقيب علي المقحمات يتبين من تعريف المقحمات بين النووي ومعاجم اللغة العتيدة أن النووي أخطأ جدا في التعريف { المقحمات مفتوح للكتابة...