معاني كلمات القران الكريم




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بؤامج نداء الايمان

النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق/مدونة ديوان الطلاق//المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني / / /*الـذاكـر / /القرآن الكريم مع الترجمة / /القرآن الكريم مع التفسير / /القرآن الكريم مع التلاوة / / /الموسوعة الحديثية المصغرة/الموسوعة الفقهية الكبرى //برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم //برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية / /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة / /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين / /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر / /برنامج مكتبة السنة / /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية / /برنامج موسوعة شرح الحديث الشريف فتح البارى لشرح صحيح البخارى وشرح مسلم لعبد الباقى وشرح مالك للإمام اللكنوى / /خلفيات إسلامية رائعة / /مجموع فتاوى ابن تيمية / /مكتبة الإمام ابن الجوزي / /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني / /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي / /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي / /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي / /مكتبة الإمام ابن كثير / /مكتبة الإمام الذهبي / /مكتبة الإمام السيوطي / /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني / /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي / /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي / /مكتبة الشيخ حمود التويجري / /مكتبة الشيخ ربيع المدخلي / /مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ / /مكتبة الشيخ صالح الفوزان / /مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي / /مكتبة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم / /مكتبة الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان / /مكتبة الشيخ عبد المحسن العباد / /مكتبة الشيخ عطية محمد سالم / /مكتبة الشيخ محمد أمان الجامي /مكتبة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي / /مكتبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / /مكتبة الشيخ مقبل الوادعي / /موسوعة أصول الفقه / /موسوعة التاريخ الإسلامي / /موسوعة الحديث النبوي الشريف / /موسوعة السيرة النبوية / /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية / موسوعة توحيد رب العبيد / موسوعة رواة الحديث / موسوعة شروح الحديث / /موسوعة علوم الحديث / /موسوعة علوم القرآن / /موسوعة علوم اللغة / /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

الجمعة، 4 مارس 2022

ج 4. إقامة الدليل على إبطال التحليل من اول صفحة /18. حتي { آخر صفحة 22. }

صفحة 18=


مسألة: في واقف وقف رباطا على الصوفية، وكان هذا الرباط قديما جاريا على قاعدة الصوفية في الربط: من الطعام، والاجتماع بعد العصر فقط ؟ فتولى نظره شخص، فاجتهد في تبطيل قاعدته، وشرط على من به شروطا ليست في الرباط أصلا، ثم إنهم يصلون الصلوات الخمس في هذا الرباط، ويقرءون بعد الصبح قريبا من ثلاثة أجزاء، حتى أن أحدهم إذا غاب عن صلاة أو قراءة كتب عليه غيبة، مع أن هذا الرباط لم يعرف له كتاب وقف ; ولا شرط، فهل يجوز إحداث هذه الشروط عليهم ؟ أم لا ؟ وهل يأثم من أحدثها أم لا ؟ وهل يحل للناظر الآن أن يكتب عليهم غيبة أم لا ؟ وهل يجب إبطال هذه الشروط أم لا ؟ وهل يثاب ولي الأمر إذا أبطلها، أم لا ؟ وإذا كانت هذه الشروط قد شرطها الواقف: هل يجب الوفاء بها أم لا ؟ وما الصور في الذي يستحق ذلك ؟ وهل إذا كان في الجماعة من هو مشتغل بالعلوم الشرعية يكون أولى ممن هو مترسم برسم ظاهر لا علم عنده ؟ ومن لم يكن متأدبا بالآداب الشرعية، هل يجوز له تناول شيء من ذلك، أم لا ؟ وإذا كان فيهم من هو مشتغل بالعلم الشريف، وله من الدنيا ما لا يقوم ببعض كفايته، هل يكون أولى ممن ليس متأدبا بالآداب الشرعية، ولا عنده شيء من العلم ؟ أفتونا مأجورين، وبينوا لنا ذلك بيانا شافيا، بالدليل من الكتاب والسنة رضي الله عنكم، الجواب: رحمه الله: لا يجوز للناظر إحداث هذه الشروط ولا غيرها، فإن الناظر إنما هو منفذ لما شرطه الواقف، ليس له أن يبتدئ شروطا لم يوجبها الواقف، ولا أوجبها الشارع، ويأثم من أحدثها فإنه منع المستحقين حقهم حتى يعملوا أعمالا لا تجب، ولا يحل أن يكتب على من أخل بذلك غيبة ; بل يجب إبطال هذه الشروط، ويثاب الساعي في إبطالها مبتغيا بذلك وجه الله تعالى، وأما الصوفي الذي يدخل في الوقف على الصوفية ; فيعتبر له ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون عدلا في دينه يؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، الثاني: أن يكون ملازما لغالب الآداب الشرعية، في غالب الأوقات وإن لم تكن واجبة، مثل آداب الأكل والشرب واللباس والنوم والسفر والركوب والصحبة والعشرة والمعاملة مع الخلق ; إلى غير ذلك من الآداب الشريفة، قولا وفعلا، ولا يلتفت إلى ما أحدثه بعض المتصوفة من الآداب التي لا أصل لها في الدين ; من التزام شكل مخصوص في اللبسة ونحوها مما لا يحتسب في الشريعة، فإن مبنى الآداب على اتباع السنة، ولا يلتفت أيضا إلى ما يهدره بعض المتفقهة من الآداب المشروعة، يعتقد - لقلة علمه - أن ذلك ليس من آداب الشريعة ; لكونه ليس فيما بلغه من العلم أو طالعه من كتبه ; بل العبرة في الآداب بما جاءت به الشريعة: قولا وفعلا وتركا ; كما أن العبرة في الفرائض والمحارم بذلك أيضا، والشرط الثالث في الصوفي: قناعته بالكفاف من الرزق، بحيث لا يمسك من الدنيا ما يفضل عن حاجته ; فمن كان جامعا لفضول المال لم يكن من الصوفية الذين يقصد إجراء الأرزاق عليهم ; وإن كان قد يفسح لهم في مجرد السكنى في الربط ونحوها، فمن حمل هذه الخصال الثلاث كان من الصوفية المقصودين بالربط والوقف عليها، وما فوق هؤلاء من أرباب المقامات العلية والأحوال الزكية، وذوي الحقائق الدينية، والمنح الربانية: فيدخلون في العموم ; لكن لا يختص الوقف بهم لقلة هؤلاء ; ولعسر تمييز الأحوال الباطنة على غالب الخلق ; فلا يمكن ربط استحقاق الدنيا بذلك ; ولأن مثل هؤلاء قد لا ينزل الربط إلا نادرا، وما دون هذه الصفات من المقتصرين على مجرد رسم في لبسة أو مشية ونحو ذلك: لا يستحقون الوقف ; ولا يدخلون في مسمى الصوفية، لا سيما إن كان ذلك محدثا لا أصل له في السنة ; فإن بذل المال على مثل هذه الرسوم فيه نوع من التلاعب بالدين ; وأكل لأموال الناس بالباطل ; وصدود عن سبيل الله، ومن كان من الصوفية المذكورين المستحقين فيه قدر زائد، مثل اجتهاد في نوافل العبادات ; أو سعي في تصحيح أحوال القلب ; أو طلب شيء من الأعيان ; أو علم الكفاية، فهو أولى من غيره، ومن لم يكن متأدبا بالآداب الشرعية ; فلا يستحق شيئا ألبتة ; وطالب العلم الذي ليس له تمام الكفاية: أولى ممن ليس فيه الآداب الشرعية ; ولا علم عنده ; بل مثل هذا لا يستحق شيئا .

-مسألة: عن الروح المؤمنة أن الملائكة تتلقاها وتصعد بها من سماء إلى السماء التي فيها الله، وعن الشيخ عبد القادر أنه أفضل المشايخ، والإمام أحمد أنه أفضل الأئمة فهل هذا صحيح أم لا ؟ الجواب: أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض، مثل من يرجح إمامه الذي تفقه على مذهبه، أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره، كمن يرجح الشيخ عبد القادر، أو الشيخ أبا مدين، أو أحمد، أو غيرهم، فهذا الباب أكثر الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس، فإنهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة والمشايخ، ولا يقصدون اتباع الحق المطلق، بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح متبوعه، فيرجحه بظن يظنه وإن لم يكن معه برهان على ذلك، وقد يفضي ذلك إلى تحاجهم وتقاتلهم وتفرقهم، وهذا مما حرمه الله ورسوله كما قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه }، قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة، فما دخل في هذا الباب مما نهى الله عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف التكلم بغير علم، فإنه يجب النهي عنه، فليس لأحد أن يدخل فيما نهى الله عنه ورسوله، وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام، أو شيخ على شيخ، بحسب اجتهاده، كما تنازع المسلمون أيما أفضل الترجيع في الأذان أو تركه، وإفراد الإقامة أو إثناؤها وصلاة الفجر بغلس أو الإسفار بها، والقنوت في الفجر أو تركه، والجهر بالتسمية أو المخافتة بها، أو ترك قراءتها، ونحو ذلك، فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة، فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده من كان فيها أصاب الحق فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور له، فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك، ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم ينكر على من ترجح عنده تقليد الشافعي، ونحو ذلك، ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام أن فلانا أفضل من فلان فيقبل منه هذا الجواب، لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها، فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه، كما أن من يرجح قولا أو عملا لا يقبل قول من يفتي بخلاف ذلك، لكن إن كان الرجل مقلدا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق، وإن كان مجتهدا اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقد قال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }، لكن عليه أن لا يتبع هواه ولا يتكلم بغير علم، قال تعالى: { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم }، وقال تعالى: { يجادلونك في الحق بعد ما تبين }، وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره، ولا يعرف هذا التفاضل إلا من خاض في تفاصيل العلم .

وهؤلاء الدهرية ينكرون أيضا حقيقة تكليمه لموسى، ويقولون إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال، وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء، وحقيقة قولهم: إن القرآن قول البشر، لكنه صدر عن نفس صافية شريفة، وإذا كان المعتزلة خيرا من هؤلاء، وقد كفر السلف من يقول بقولهم، فكيف هؤلاء ؟ وكلام السلف والأمة في مثل هؤلاء لا يحصى، قال حرب بن إسماعيل الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: ليس بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكيف يكون شيء من الرب عز ذكره مخلوقا، ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا كان الله تبارك اسمه ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة، وهو الكفر المحض الواضح، لم يزل الله عالما متكلما له المشيئة والقدرة في خلقه، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر، وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئا من الله مخلوق، فقيل له من أين قلت هذا ؟ قال: لأن الله يقول: { ولكن حق القول مني } ولا يكون من الله شيء مخلوق، وهذا القول قاله غير واحد من السلف، وقال أحمد بن حنبل: كلام الله من الله، ليس ببائن منه، وهذا معنى قول السلف: القرآن كلام الله منه بدأ ومنه خرج وإليه يعود، كما في الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله ﷺ: { إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه }، يعني القرآن، وقد روي أيضا عن أبي أمامة مرفوعا، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأصحاب مسيلمة الكذاب لما سمع قرآن مسيلمة: " ويحكم أين يذهب بعقولكم، إن هذا كلام لم يخرج من آن "، أي من رب، وليس معنى قول السلف والأئمة إنه منه خرج ومنه بدأ: أنه فارق ذاته وحل بغيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله قال تعالى: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم، ومع هذا فلم تفارق ذاتهم، وأيضا فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق، والناس إذا سمعوا كلام النبي ﷺ ثم بلغوه عنه، كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله ﷺ وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم، فالقرآن أولى بذلك فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ، قال تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله }، وقال ﷺ: { زينوا القرآن بأصواتكم }، ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية، فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما يقولون كلامه لموسى خرج من الشجرة، فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج، وذكروا قوله: { ولكن حق القول مني }، فأخبر أن القول منه لا من غيره من المخلوقات، " ومن " هي لابتداء الغاية، فإن كان المجرور بها عينا يقوم بنفسه لم يكن صفة لله كقوله: { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه }، وقوله في المسيح روح منه، وكذلك ما يقوم بالأعيان كقوله: { وما بكم من نعمة فمن الله }، وأما إذا كان المجرور بها صفة ولم يذكر لها محل كان صفة لله كقوله: { ولكن حق القول مني }، ولذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن نزل منه، وأنه نزل به جبريل منه، رد على هذا المبتدع المفتري وأمثاله ممن يقول إنه لم ينزل منه، قال تعالى: { أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي

أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق }، وقال تعالى: { قل نزله روح القدس من ربك بالحق }، وروح القدس هو جبريل، كما قال في الآية الأخرى: { نزل به الروح الأمين على قلبك } وقال: { من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله }، وقال هنا: { نزله روح القدس من ربك }، فبين أن جبريل نزله من الله لا من هواه ولا من لوح ولا من غير ذلك، وكذلك سائر آيات القرآن كقوله: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }، وقوله: { حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم }، وقوله: { حم، تنزيل من الرحمن الرحيم }، وقوله: { الم، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } وقوله: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك }، فقد بين في غير موضع أنه منزل من الله، فمن قال إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح أو الهواء فهو مفتر على الله، مكذب لكتاب الله، متبع لغير سبيل المؤمنين، ألا ترى أن الله فرق بين ما نزله منه، وما نزله من بعض المخلوقات كالمطر بأنه قال: { أنزل من السماء ماء }، فذكر المطر في غير موضع وأخبر أنه نزله من السماء، والقرآن أخبر أنه منزل منه، وأخبر بتنزيل مطلق في مثل قوله: { وأنزلنا الحديد } لأن الحديد ينزل من رءوس الجبال لا ينزل من السماء، وكذلك أنزل الحيوان، فإن الذكر ينزل الماء في الإناث، فلم يقل فيه من السماء، ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد، لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح أن الله كتب لموسى التوراة وأنزلها مكتوبة، فيكون بنو إسرائيل قد قرءوا الألواح التي كتبها الله، وأما المسلمون فأخذوه عن محمد، ومحمد أخذه عن جبريل عن اللوح، ، فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل، وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد ﷺ على قول هؤلاء الجهمية، والله سبحانه جعل من فضائل أمة محمد ﷺ أنه أنزل عليهم كتابا لا يغسله الماء، وأنه أنزله عليه تلاوة لا كتابة، وفرقه عليهم لأجل ذلك فقال: { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا } وقال تعالى: { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا }، ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله، وإنما وجده مكتوبا، كانت العبارة عبارة جبريل، وكان القرآن كلام جبريل، ترجم به عن الله، كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلاما ولم يقدر أن يتكلم به، وهذا خلاف دين المسلمين، وإن احتج محتج بقوله: { إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين } ) قيل له: فقد قال في الآية الأخرى: { إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون }، فالرسول في هذه الآية جبريل، والرسول في الآية الأخرى محمد، فلو أريد به أن الرسول أحدث عبارته لتناقض الخبران، فعلم أنه أضافه إليه إضافة تبليغ لا إضافة إحداث، ولهذا قال: { لقول رسول }، ولم يقل ملك ولا نبي، ولا ريب أن الرسول بلغه، كما قال: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك }، فكان النبي ﷺ يعرض نفسه على الناس في الموسم ويقول: { ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي }، ولما أنزل الله: { الم، غلبت الروم } ) خرج أبو بكر الصديق فقرأها على الناس، فقالوا: هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله، وإن احتج بقوله: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }، قيل له: هذه الآية حجة عليك، فإنه لما قال: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } علم أن الذكر منه محدث، ومنه ما ليس بمحدث ; لأن النكرة إذا وصفت ميزتها بين الموصوف وغيره، كما لو قال: ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاما حلالا ونحو ذلك، ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي، ولكنه الذي أنزل جديدا، فإن الله كان ينزل القرآن شيئا بعد شيء، فالمنزل أولا هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخرا، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال: { كالعرجون القديم } وقال: { تالله إنك لفي ضلالك القديم }، وقال: { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم }، وقال: ( { أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون } وكذلك قوله: { جعلناه قرآنا عربيا } لم يقل ( جعلناه ) فقط حتى يظن أنه بمعنى خلقناه ولكن قال: { جعلناه قرآنا عربيا }، أي صيرناه عربيا، لأنه قد كان قادرا على أن ينزله عجميا وينزله عربيا، فلما أنزله عربيا، كان قد جعله عربيا دون عجمي، وهذه المسألة من أصول أهل الإيمان والسنة التي فارقوا بها الجهمية من المعتزلة والفلاسفة ونحوهم، والكلام عليها مبسوط في غير هذا الموضع، والله أعلم .

مسألة: في رجل قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما، وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة، وموسى عليه السلام سمع من الشجرة، لا من الله، وإن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن، وإنما أخذه من اللوح المحفوظ، فهل هو على الصواب أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، ليس هذا الصواب، بل هو ضال مفتر كاذب باتفاق الأمة وأئمتها، بل هو كافر يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإذا قال: لا أكذب بلفظ القرآن وهو قوله: { وكلم الله موسى تكليما } بل أقر بأن هذا اللفظ حق، لكن أنفي معناه وحقيقته، فإن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع، حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الاثنين وسبعين فرقة، وأول من قال هذه المقالة في الإسلام كان يقال له: جعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم أضحى، فإنه خطب الناس فقال في خطبته: ضحوا أيها الناس يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه وكان ذلك في زمن التابعين، فشكروا ذلك، وأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان وقتله بخراسان سلمة بن أحوز، وإليه نسبت هذه المقالة التي تسمى مقالة الجهمية، وهي نفي صفات الله تعالى، فإنهم يقولون: إن الله لا يرى في الآخرة، ولا يكلم عباده وإنه ليس له علم، ولا حياة ولا قدرة ونحو ذلك من الصفات ويقولون القرآن مخلوق، ووافق الجهم على ذلك المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد، وضموا إليها أخرى في القدر وغيره لكن عند المعتزلة أنهم يقولون إن الله كلم موسى حقيقة، وتكلم حقيقة، لكن حقيقة ذلك عندهم أنه خلق كلاما في غيره: إما في شجرة وإما في هواء وإما في غير ذلك من غير أن يقوم بذات الله عندهم كلام، ولا علم، ولا قدرة، ولا رحمة ولا مشيئة ولا حياة، ولا شيء من الصفات، والجهمية تارة يبوحون بحقيقة القول فتقول إن الله لم يكلم موسى ولا يتكلم، وتارة لا يظهرون هذا اللفظ، لما فيه من الشناعة المخالفة لدين الإسلام واليهود والنصارى، فيقرون باللفظ، ولكن يقولون بأنه خلق في غيره كلاما، وأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة من أن الله كلم موسى تكليما ; وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة كما تواترت به الأحاديث عن النبي ﷺ وأن لله علما وقدرة ونحو ذلك ونصوص الأئمة في ذلك مشهورة متواترة، حتى إن أبا القاسم الطبري الحافظ لما ذكر في كتابه في شرح أصول السنة مقالات السلف والأئمة في الأصول، ذكر من قال القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال هؤلاء، خمسمائة وخمسون نفسا أو أكثر من التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم، وتذهبوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول أهل الحديث لبلغت أسماؤهم ألوفا، لكني اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر، لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو حبسه، قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق: جعد بن درهم في سنة نيف وعشرين ومائة ثم جهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القسري، وأما جهم فقتل بمرو في خلافة هشام بن عبد الملك، وروي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجهين أنهم قالوا له يوم صفين حكمت رجلين، فقال: ما حكمت مخلوقا، ما حكمت إلا القرآن، وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده قام رجل وقال: اللهم رب القرآن اغفر لي، فوثب إليه ابن عباس فقال: مه القرآن منه، وعن عبد الله بن مسعود قال: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، وهذا ثابت عن ابن مسعود، وعن سفيان بن عيينة قال سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، وفي لفظ يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال حرب الكرماني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه، عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة، أدركت أصحاب النبي ﷺ فمن دونهم يقولون: الله الخالق، وما سواه مخلوق، إلا القرآن، فإنه كلام الله، منه خرج وإليه يعود، وهذا قد رواه عن ابن عيينة إسحاق، وإسحاق إما أن يكون قد سمعه منه أو من بعض أصحابه عنه، وعن جعفر بن محمد وهو مشهور عنه أنهم سألوه عن القرآن أخالق هو أم مخلوق فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله، وهكذا روي عن الحسن البصري وأيوب السختياني، وسليمان التيمي وخلق من التابعين، وعن مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثال هؤلاء من الأئمة، وكلام هؤلاء الأئمة وأتباعهم في كثير مشهور، بل اشتهر عن أئمة السلف تكفير من قال القرآن مخلوق، وأنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كما ذكروا ذلك عن مالك بن أنس وغيره، ولذلك قال الشافعي لحفص الفرد، وكان من أصحاب ضرار بن عمرو ممن يقول القرآن مخلوق، فلما ناظر الشافعي وقال له القرآن مخلوق، قال له الشافعي كفرت بالله العظيم، ذكره ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، قال: كان في كتاب عن الربيع بن سليمان قال حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب إلا أني أعلم حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد، فسأل حفص: عبد الله قال: ما تقول في القرآن ؟ فأبى أن يجيبه، فسأل، يوسف بن عمرو فلم يجبه، وكلاهما أشار إلى الشافعي فسأل الشافعي، فاحتج عليه وطالت فيه المناظرة، فقال الشافعي بالحجة، بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكفر حفصا الفرد، قال الربيع: فلقيت حفصا في المسجد بعد هذا فقال : أراد الشافعي قتلي، وأما مالك بن أنس فنقل عنه من غير وجه الرد على من يقول القرآن مخلوق، واستتابه، وهذا المشهور عنه متفق عليه بين أصحابه، وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي في الاعتقاد الذي قال في أوله " ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة " على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، قال فيه: وإن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده عذابه، وتواعده حيث قال: سأصليه سقر، فلما أوعد الله سقر لمن قال { إن هذا إلا قول البشر } علمنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر، وأما أحمد بن حنبل فكلامه في مثل هذا مشهور متواتر، وهو الذي اشتهر بمحنة هؤلاء الجهمية، فإنهم أظهروا القول بإنكار صفات الله تعالى وحقائق أسمائه، وأن القرآن مخلوق حتى صار حقيقة قولهم تعطيل الخالق سبحانه وتعالى، ودعوا الناس إلى ذلك، وعاقبوا لمن لم يجبهم إما بالقتل، وإما بقطع الرزق، وإما بالعزل عن الولاية، وإما بالحبس أو الضرب، وكفروا من خالفهم، فثبت الله تعالى الإمام أحمد حتى أظهر الله به باطلهم، ونصر أهل الإيمان والسنة عليهم، وأذلهم بعد العز، وأخملهم بعد الشهرة، واشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإطلاق القول بأن من قال إنه مخلوق فقد كفر، وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى، فهذه مناقضة لنص القرآن، فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب ; فإن تاب وإلا قتل فإنه أنكر نص القرآن ; وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله ; والذي يقول القرآن مخلوق ; هو في المعنى موافق له فلذلك كفره السلف، قال البخاري في كتاب " خلق الأفعال " قال سفيان الثوري: من قال القرآن مخلوق فهو كافر قال: وقال عبد الله بن المبارك من قال { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } مخلوق فهو كافر، ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك، قال: وقال ابن المبارك: لا تقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى، وقيل له: كيف نعرف ربنا ؟ قال: فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، وقال: من قال لا إله إلا الله مخلوق فهو كافر، وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية قال: وقال علي بن عاصم: أما الذين قالوا: إن لله ولدا أكفر من الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، قال البخاري: وكان إسماعيل بن أبي إدريس يسميهم زنادقة العراق، وقيل له: سمعت أحدا يقول: القرآن مخلوق ؟ فقال: هؤلاء الزنادقة، قال: وقال أبو الوليد: سمعت يحيى بن سعيد وذكر له أن قوما يقولون القرآن مخلوق، فقال: كيف يصنعون بقل هو الله أحد ؟ كيف يصنعون بقوله: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } قال: وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم، إلا من لا يعرف كفرهم، قال: وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال: { أنا ربكم الأعلى } وزعموا أن هذا مخلوق، والذي قال: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } هذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون فلم صار فرعون أولى أن يخلد في النار من هذا، وكلاهما عنده مخلوق، فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه، ومعنى كلام هؤلاء السلف رضي الله عنهم أن من قال: إن كلام الله مخلوق، خلقه في الشجرة أو غيرها كما قال هذا الجهمي المعتزلي المسئول عنه كان حقيقة قوله: إن الشجرة هي التي قالت لموسى: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } ومن قال: إن مخلوقا قال ذلك، فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال: { أنا ربكم الأعلى } كلاهما مخلوق وكلاهما قال ذلك، فإن كان قول فرعون كفرا فقول هؤلاء أيضا كفر، ولا ريب أن قول هؤلاء يئول إلى قول فرعون وإن كانوا لا يفهمون ذلك، فإن فرعون كذب موسى فيما أخبر به من أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه، كما قال تعالى: { وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } وهو قد كذب موسى في أن الله كلمه، ولكن هؤلاء يقولون إذا خلق كلاما في غيره صار هو المتكلم به، وذلك باطل وضلال من وجوه كثيرة: أحدها: أن الله سبحانه أنطق الأشياء نطقا معتادا ونطقا خارجا عن المعتاد، قال تعالى: { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } وقال تعالى : (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } وقال تعالى: { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } وقد قال تعالى: { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق }، وقد ثبت أن الحصى كان يسبح في يد النبي ﷺ وأن الحجر كان يسلم عليه، وأمثال ذلك من إنطاق الجمادات، فلو كان إذا خلق كلاما في غيره كان هو المتكلم به، فإن هذا كله كلام الله تعالى، ويكون قد كلم من سمع هذا الكلام، كما كلم موسى بن عمران، بل قد ثبت أن الله خالق أفعال العباد، فكل ناطق فالله خالق نطقه وكلامه، فلو كان متكلما بما خلفه من الكلام لكان كل كلام في الوجود كلامه، حتى كلام إبليس والكفار وغيرهم، وهذا يقوله غلاة الجهمية كابن عربي وأمثاله يقولون: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وهكذا أشباه هؤلاء من غلاة المشبهة الذين يقولون إن كلام الآدميين غير مخلوق، فإن كل واحد من الطائفتين يجعلون كلام المخلوق بمنزلة كلام الخالق، فأولئك يجعلون الجميع مخلوقا، وأن الجميع كلام الله، وهؤلاء يجعلون الجميع كلام الله، وهو غير مخلوق، ولهذا كان قد حصل اتصال بين شيخ الجهمية الحلولية، وشيخ المشبهة الحلولية، وبسبب هذه البدع وأمثالها من النكرات المخالفة لدين الإسلام، سلط الله أعداء الدين، فإن الله يقول: { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور }، وأي معروف أعظم من الإيمان بالله وأسمائه وآياته ؟ وأي منكر أعظم من الإلحاد في أسمائه وآياته ؟ الوجه الثاني: أن يقال لهؤلاء الضالين: ما خلقه الله في غيره من الكلام وسائر الصفات، فإنما يعود حكمه على ذلك المحل، لا على غيره، فإذا خلق الله في بعض الأجسام حركة أو طعما أو لونا أو ريحا، كان ذلك الجسم هو المتحرك المتلون المتروح المطعوم، وإذا خلق بمحل حياة أو علما أو قدرة أو إرادة أو كلاما، كان ذلك المحل هو الحي العالم القادر المريد المتكلم، فإذا خلق كلاما في الشجرة أو في غيرها من الأجسام ; كان ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام، كما لو خلق فيه إرادة وحياة أو علما، ولا يكون الله هو المتكلم به ; كما أنه إذا خلق فيه حياة أو قدرة أو سمعا أو بصرا فإن ذلك المحل هو الحي به والقادر به والسميع به ; والبصير به ; فكما أنه سبحانه لا يجوز أن يكون متصفا بما خلقه من الصفات المشروطة بالحياة وغير المشروطة بالحياة، فلا يكون هو المتحرك بما خلقه في غيره من الحركات ولا المصوت بما خلقه في غيره من الأصوات، ولا سمعه ولا بصره وقدرته ما خلقه في غيره من السمع والبصر والقدرة، فكذلك لا يكون كلامه ما خلقه ما في غيره من الكلام، ولا يكون متكلما بذلك الكلام، الوجه الثالث: أن الاسم المشتق من معنى لا يتحقق بدون ذلك المعنى، فإن اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعال التفضيل يمنع ثبوت معناها دون ثبوت معنى المصدر التي هي مشتقة منه، والناس متفقون على أنه لا يكون متحرك ولا متكلم إلا بحركة وكلام، فلا يكون مريد إلا بإرادة، وكذلك لا يكون عالم إلا بعلم، ولا قادر إلا بقدرة، ونحو ذلك، ثم هذه الأشياء المشتقة من المصدر إنما يسمى بها من قام به مسمى المصدر، فإنه يسمى بالحي من قامت به الحياة، وبالمتحرك من قامت به الحركة، وبالعالم من قام به العلم، وبالقادر من قامت به القدرة، فأما من لم يقم به مسمى المصدر فيمتنع أن يسمى باسم الفاعل ونحوه من الصفات، وهذا معلوم بالاعتبار في جميع النظائر، وذلك أن اسم الفاعل ونحوه من المشتقات هو مركب يدل على الذات وعلى الصفة، والمركب يمتنع تحققه بدون تحقق مفرداته، وهذا كما أنه ثابت في الأسماء المشتقة، فكذلك في الأفعال، مثل تكلم وكلم ويتكلم ويكلم، وعلم ويعلم، وسمع ويسمع، ورأى ويرى، ونحو ذلك سواء قيل إن الفعل مشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل، لا نزاع بين الناس أن فاعل الفعل هو فاعل المصدر، فإذا قيل كلم وعلم أو تكلم أو تعلم، ففاعل التكليم والتعليم هو المكلم والمعلم، وكذلك التعلم والتكلم، والفاعل هو الذي قام به المصدر الذي هو التكليم والتعليم، والتكلم والتعلم، فإذا قيل تكلم فلان، أو كلم فلان فلانا ففلان هو المتكلم والمكلم، فقوله تعالى: { وكلم الله موسى تكليما }، وقوله: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } وقوله: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } يقتضي أن الله هو المكلم، فكما يمتنع أن يقال: هو متكلم بكلام قائم بغيره، يمتنع أن يقال كلم بكلام قائم بغيره فهذه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يلزم الجهمية على قولهم أن يكون كل كلام خلقه الله كلاما له، إذ لا معنى لكون القرآن كلام الله إلا كونه خلقه، وكل من فعل كلاما ولو في غيره كان متكلما به عندهم، وليس للكلام عندهم مدلول يقوم بذات الرب تعالى لو كان مدلول قائم يدل لكونه خلق صوتا في محل، والدليل يجب طرده، فيجب أن يكون كل صوت بخلقه له لذلك، وهم يجوزون أن يكون الصوت المخلوق على جميع الصفات، فلا يبقى فرق بين الصوت الذي هو كلام الله على قولهم، والصوت الذي ليس هو بكلام، الثاني: أن الصفة إذا قامت بمحل كالعلم والقدرة والكلام والحركة عاد حكمه إلى ذلك المحل، ولا يعود حكمه إلى غيره، الثالث: أن مشتق المصدر منه اسم الفاعل والصفة المشبهة به ونحو ذلك، ولا يشتق ذلك لغيره، وهذا كله ظاهر بين، وهو ما يبين قول السلف والأئمة إن من قال: إن الله خلق كلاما في غيره، لزمه أن يكون حكم التكلم عائدا إلى ذلك المحل لا إلى الله، الرابع: أن الله وكد تكليم موسى بالمصدر فقال: ( تكليما ) قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يظن أنه أرسل غيره، ممن لم يكلمه، وقال: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا } الآية فكان تكليم موسى من وراء حجاب وقال: { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } وقال: ( { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } إلى قوله: { وكلم الله موسى تكليما }، والوحي هو ما نزله على قلوب الأنبياء بلا واسطة، فلو كان تكليمه لموسى إنما هو صوت خلقه في الهواء لكان وحي الأنبياء أفضل منه، لأن أولئك عرفوا المعنى المقصود بلا واسطة، وموسى إنما عرفه بواسطة، ولهذا كان غلاة الجهمية من الاتحادية ونحوهم يدعون أن ما يحصل لهم من الإلهام أفضل مما حصل لموسى بن عمران، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين، ولما فهم السلف حقيقة مذهب هؤلاء، وأنه يقتضي تعطيل الرسالة، فإن الرسل إنما بعثوا ليبلغوا كلام الله، بل يقتضي تعطيل التوحيد، فإن من لا يتكلم ولا يقوم به علم ولا حياة هو كالموات، بل من لا يقوم به الصفات فهو عدم محض، إذ ذات لا صفة لها إنما يمكن تقديرها في الذهن لا في الخارج كتقدير وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص . فكان قول هؤلاء مضاهيا لقول المتفلسفة الدهرية الذين يجعلون وجود الرب وجودا مطلقا بشرط الإطلاق لا صفة له، وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن . وأما النوع الثالث: مما قد يسمى فناء: فهو أن يشهد أن لا موجود إلا الله، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بين الرب والعبد فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد، والمشايخ المستقيمون إذا قال أحدهم: ما أرى غير الله، أو لا أنظر إلى غير الله، ونحو ذلك فمرادهم بذلك ما أرى ربا غيره، ولا خالقا غيره ولا مدبرا غيره، ولا إلها غيره ولا أنظر إلى غيره محبة له أو خوفا منه أو رجاء له، فإن العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب، فمن أحب شيئا أو رجاه أو خافه التفت إليه، وإذا لم يكن في القلب محبة له ولا رجاء له ولا خوف منه ولا بغض له ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه ولا أن ينظر إليه ولا أن يراه وإن رآه اتفاقا رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطا ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به، والمشايخ الصالحون - رضي الله عنهم - يذكرون شيئا من تجريد التوحيد وتحقيق إخلاص الدين كله بحيث لا يكون العبد ملتفتا إلى غير الله ولا ناظرا إلى ما سواه: لا حبا له، ولا خوفا منه، ولا رجاء له بل يكون القلب فارغا من المخلوقات خاليا منها لا ينظر إليها إلا بنور الله، فبالحق يسمع وبالحق يبصر وبالحق يبطش وبالحق يمشي، فيحب منها ما يحبه الله، ويبغض منها ما يبغضه الله، ويوالي منها ما والاه الله، ويعادي منها ما عاداه الله، ويخاف الله فيها ولا يخافها في الله، ويرجو الله فيها ولا يرجوها في الله، فهذا هو القلب السليم الحنيف الموحد المسلم المؤمن العارف المحقق الموحد بمعرفة الأنبياء والمرسلين، وبحقيقتهم وتوحيدهم، وأما النوع الثالث: وهو الفناء في الموجود: فهو تحقيق آل فرعون ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم، وهذا النوع الذي عليه اتباع الأنبياء هو " الفناء المحمود " الذي يكون صاحبه به ممن أثنى الله عليهم من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، وليس مراد المشايخ والصالحين بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد ؟ إما فساد العقل ; وإما فساد الاعتقاد، فهو متردد بين الجنون والإلحاد. وكل المشايخ الذين يقتدى بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث ; وتمييز الخالق عن المخلوق، وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا، وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الأمراض والشبهات ; وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات فيظنه خالق الأرض والسموات لعدم التمييز والفرقان في قلبه: بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء، وهم قد يتكلمون في " الفرق والجمع " ويدخل في ذلك من العبارات المتلفة نظير ما دخل في الفناء فإن العبد إذا شهد التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقا بها، متشتتا ناظرا إليها متعلقا بها: إما محبة وإما خوفا وإما رجاء ; فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له فالتفت قلبه إلى الله بعد التفاته إلى المخلوقين فصارت محبته لربه وخوفه من ربه ورجاؤه لربه واستعانته بربه، وهو في هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر إلى المخلوق ليفرق بين الخالق والمخلوق، فقد يكون مجتمعا على الحق معرضا عن الخلق نظرا وقصدا وهو نظير النوع الثاني من الفناء، ولكن بعد ذلك، " الفرق الثاني " وهو: أن يشهد أن المخلوقات قائمة بالله مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية الله سبحانه وتعالى وأنه سبحانه رب المصنوعات وإلهها وخالقها ومالكها فيكون مع اجتماع قلبه على الله - إخلاصا له ومحبة وخوفا ورجاء واستعانة وتوكلا على الله وموالاة فيه ومعاداة فيه وأمثال ذلك - ناظرا إلى الفرق بين الخالق والمخلوق مميزا بين هذا وهذا يشهد تفرق المخلوقات وكثرتها مع شهادته أن الله رب كل شيء ومليكه، وخالقه، وأنه هو الله لا إله إلا هو وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم وذلك واجب في علم القلب وشهادته وذكره ومعرفته: في حال القلب وعبادته وقصده وإرادته ومحبته وموالاته وطاعته، وذلك تحقيق " شهادة أن لا إله إلا الله " فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق ويثبت في قلبه ألوهية الحق فيكون نافيا لألوهية كل شيء من المخلوقات مثبتا لألوهية رب العالمين رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب على الله وعلى مفارقة ما سواه، فيكون مفرقا: في علمه وقصده في شهادته وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالما بالله تعالى ذاكرا له عارفا به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه وانفراده عنهم وتوحده دونهم، ويكون محبا لله معظما له عابدا له راجيا له خائفا منه مواليا فيه معاديا فيه مستعينا به متوكلا عليه، ممتنعا عن عبادة غيره والتوكل عليه والاستعانة به والخوف منه والرجاء له والموالاة فيه والمعاداة فيه والطاعة لأمره وأمثال ذلك مما هو من خصائص إلهية الله سبحانه وتعالى، وإقراره بألوهية الله تعالى دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته، وهو أنه رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره، فحينئذ يكون موحدا لله، ويبين ذلك أن أفضل الذكر " لا إله إلا الله " كما رواه الترمذي، وابن أبي الدنيا وغيرهما مرفوعا إلى النبي ﷺ قال: { أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله } وفي الموطإ وغيره عن طلحة بن عبد الله بن كثير أن النبي ﷺ قال: { أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير }، ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة هو الاسم المضمر، فهم ضالون غالطون، واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله: { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } من أبين غلط هؤلاء، فإن الاسم هو مذكور في الأمر بجواب الاستفهام، وهو قوله: { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } إلى قوله: { قل الله } أي الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، فالاسم مبتدأ وخبره قد دل عليه الاستفهام، كما في نظائر ذلك تقول: من جاره فيقول زيد وأما الاسم المفرد مظهرا أو مضمرا فليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي، ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول الله، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة ولا حالا نافعا، وإنما يعطيه تصورا مطلقا لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه، وإلا لم يكن فيه فائدة، والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره، وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد وأنواع من الاتحاد كما قد بسط في غير هذا الموضع وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات، حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به ; إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي ﷺ { أمر بتلقين الميت لا إله إلا الله، وقال: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة } ولو كان ما ذكره محذورا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتا غير محمود بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد، والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة، وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان، فإن من قال: يا هو يا هو، أو: هو هو، ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدا إلا إلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل، وقد صنف صاحب الفصوص كتابا سماه " كتاب الهو " وزعم بعضهم أن قوله: { وما يعلم تأويله إلا الله } معناه وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو " الهو "، وقيل هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل، فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت ( وما يعلم تأويل هو) منفصلة، ثم كثيرا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل: " الله " بقوله: { قل الله ثم ذرهم } ويظن أن الله أمر نبيه بأن يقول الاسم المفرد، وهذا غلط باتفاق أهل العلم، فإن قوله: { قل الله } معناه الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهو جواب لقوله: { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله } أي الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال: { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ثم قال: { قل الله } أنزله { ثم ذرهم } هؤلاء المكذبين { في خوضهم يلعبون }، ومما يبين ما تقدم: ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلاما، لا يحكون به ما كان قولا، فالقول لا يحكى به إلا كلام تام، أو جملة اسمية أو فعلية، ولهذا يكسرون إن إذا جاءت بعد القول، فالقول لا يحكى به اسم، والله تعالى لا يأمر أحدا بذكر اسم مفرد، ولا شرع للمسلمين اسما مفردا مجردا، والاسم المجرد لا يفيد الإيمان باتفاق أهل الإسلام، ولا يؤمر به في شيء من العبادات، ولا في شيء من المخاطبات، ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول: " أشهد أن محمدا رسول الله " بالنصب فقال: ماذا يقول هذا ؟ هذا الاسم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام ؟ وما في القرآن من قوله: { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } وقوله: { سبح اسم ربك الأعلى } وقوله: { قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى } وقوله: { فسبح باسم ربك العظيم } ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفردا بل في السنن { أنه لما نزل قوله: { فسبح باسم ربك العظيم } قال اجعلوها في ركوعكم ولما نزل قوله: { سبح اسم ربك الأعلى } قال اجعلوها في سجودكم } فشرع لهم أن يقولوا في الركوع سبحان ربي العظيم، وفي السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الصحيح: { أنه كان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى } وهذا هو معنى قوله: { اجعلوها في ركوعكم وسجودكم } باتفاق المسلمين، فتسبيح اسم ربه الأعلى وذكر اسم ربه ونحو ذلك هو بالكلام التام المفيد، كما في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: { أفضل الكلام بعد القرآن أربع - وهن من القرآن - سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر }، وفي الصحيح: عنه ﷺ أنه قال: { كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم }، وفي الصحيحين: عنه ﷺ أنه قال: { من قال في يومه مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه }، { ومن قال في يومه مائة مرة: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر }، وفي الموطإ وغيره: عن النبي ﷺ أنه قال: { أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير }، وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه ﷺ أنه قال: { أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله }، ومثل هذه الأحاديث كثيرة في أنواع ما يقال من الذكر والدعاء، وكذلك ما في القرآن من قوله تعالى: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه )

وقوله: { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } إنما هو قوله: بسم الله، وهذا جملة تامة إما اسمية على أظهر قولي النحاة ; أو فعلية ; والتقدير ذبحي باسم الله، أو اذبح باسم الله، وكذلك قول القارئ فتقديره: قراءتي بسم الله ; أو اقرأ بسم الله، ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي بسم الله ; أو ابتدأت بسم الله، والأول أحسن ; لأن الفعل كله مفعول بسم الله، ليس مجرد ابتدائه كما أظهر المضمر في قوله: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وفي قوله: { بسم الله مجراها ومرساها }، وفي قول النبي ﷺ: { من كان ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم الله }، ومن هذا الباب قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح لربيبه عمر بن أبي سلمة: { سم الله وكل بيمينك ; وكل مما يليك } فالمراد أن يقول بسم الله، ليس المراد أن يذكر الاسم مجردا، وكذلك قوله في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم { إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل } وكذلك قوله ﷺ { إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم الله عند دخوله ; وعند خروجه، وعند طعامه، قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء } وأمثال ذلك كثير، وكذلك ما شرع للمسلمين في صلاتهم وآذانهم وحجهم وأعيادهم من ذكر الله تعالى إنما هو بالجملة التامة كقول المؤذن: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله ; أشهد أن محمدا رسول الله، وقول المصلي: الله أكبر، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، التحيات لله، وقول الملبي: لبيك اللهم لبيك، وأمثال ذلك، فجميع ما شرعه الله من الذكر إنما هو كلام تام لا اسم مفرد لا مظهر ولا مضمر، وهذا هو الذي يسمى في اللغة كلمة، كقوله: { كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن ; سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم } وقوله: { أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل } ومنه قوله تعالى: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } الآية وقوله: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } وأمثال ذلك مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة، بل وسائر كلام العرب فإنما يراد به الجملة التامة، كما كانوا يستعملون الحرف في الاسم، فيقولون: هذا حرف غريب أي لفظ الاسم غريب، وقسم سيبويه الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، ليس باسم وفعل، وكل من هذه الأقسام يسمى حرفا لكن خاصة الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ; وسمي حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء، ولفظ الحرف يتناول هذه الأسماء وغيرها ; كما قال النبي ﷺ: { من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات: أما إني لا أقول: { الم } حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف } وقد سأل الخليل أصحابه عن النطق بحرف الزاي من زيد فقالوا: زاي، فقال: جئتم بالاسم، وإنما الحرف " ز "، ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة، وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى، ليس باسم ولا فعل، كحروف الجر ونحوها، وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من اللفظ، وتارة باسم ذلك الحرف، ولما غلب هذا الاصطلاح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب، ومنهم من يجعل لفظ الكلمة في اللغة لفظا مشتركا بين الاسم مثلا وبين الجملة، ولا يعرف في صريح اللغة من لفظ الكلمة إلا الجملة التامة، والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الله سبحانه هو ذكره " بجملة تامة " وهو المسمى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، والقرب إلى الله ومعرفته ومحبته وخشيته، وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية، وأما الاقتصار على " الاسم المفرد " مظهرا أو مضمرا فلا أصل له، فضلا عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد، وأهل الاتحاد، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع، وجماع الدين " أصلان " أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }، وذلك تحقيق " الشهادتين ": شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله، ففي الأولى أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية أن محمدا هو رسوله المبلغ عنه، فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بين لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة، قال تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }، كما أنا مأمورون أن لا نخاف إلا الله ولا نتوكل إلا على الله، ولا نرغب إلا إلى الله، ولا نستعين إلا بالله: وأن لا تكون عبادتنا إلا لله، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى: { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فجعل الإيتاء لله والرسول، كما قال: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وجعل التوكل على الله وحده بقوله: { وقالوا حسبنا الله } ولم يقل ورسوله، كما قال في الآية الأخرى: { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } ومثله قوله: { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي حسبك وحسب المؤمنين كما قال: { أليس الله بكاف عبده }، ثم قال: { سيؤتينا الله من فضله ورسوله } فجعل الإيتاء لله والرسول، وقدم ذكر الفضل ; لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين، وقال: { إنا إلى الله راغبون } فجعل الرغبة إلى الله وحده كما في قوله { فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب } وقال النبي ﷺ لابن عباس: { إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله }، والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع، فجعل العبادة والخشية والتقوى لله، وجعل الطاعة والمحبة لله ورسوله، كما في قول نوح عليه السلام: { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } وقوله: { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } وأمثال ذلك فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه، والطاعة لهم، فأضل الشيطان النصارى وأشباههم فأشركوا بالله وعصوا الرسول فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، فجعلوا يرغبون إليهم ويتوكلون عليهم ويسألونهم، مع معصيتهم لأمرهم ومخالفاتهم لسنتهم، وهدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين، فأخلصوا دينهم لله، وأسلموا وجوههم لله، وأنابوا إلى ربهم، وأحبوه ورجوه وخافوه وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه، وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم، واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم، وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينا إلا إياه، وهو حقيقة العبادة لرب العالمين، فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه، ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

وإذا تبين قول الجمهور الذين يثبتون التحليل والتحريم باطنا لا ظاهرا أو ظاهرا لا باطنا وظاهرا أو باطنا، فخذ في النظر الثاني وهو أن هذه المنكوحة أو المبيع الذي هو حرام في الباطن، أو انعقد بسبب تحريمه في الباطن والمشتري والمستنكح لم يعلما ذلك فإن هذا وطئ المرأة أو أكل هذا الطعام لم يعاقبا على ذلك، وهل يقال هو مباح ظاهرا أو يقال ليس بمباح بل هو عفو عفا الله عنه هذا قد تنازع فيه من أثبت التحريم الباطن ومن نفاه، وإن كانوا يطلقون تارة عليه أنه حلال في الظاهر ومباح، فإنهم يتنازعون هل الحل هنا بمعنى أن الله أذن فيه كما أذن في لحوم الأنعام أو أن الله عفا عنه كما عفا عما لم ينطق بتحريمه ولا تحليله، وكما عفا عن فعل الصبي والمجنون وعن فعل من لم تبلغه الرسالة، وإنما يقع النزاع في النوع مطلقا وهو أن يقال ما لم يظهر تحريمه إن تعين عمل واحد قد ظهر أنه كان حراما في الباطن فأما ما قام دليل حله ولم يعلم خلافه فلا نقول إلا أنه حلال، ثم إن لم يكن كذلك فحكم قولنا حكم فعلنا فمن قال بالأول قال ; لأن الله نصب دليل الحل وهو العقد وكلام البائع والزوجة الذي سوغ الشارع تصديقهما .

وخطأ الدليل لا يلزم المستدل إذا كان الشارع قد أذن له في اتباعه، والتحقيق أن يقال هذا مما عفا الله عنه فلم يؤاخذ فيه ; لأنه من الخطإ الذي عفا الله عنه، وهكذا يقال في كل من استحل شيئا لم يعلم الله حرمه، وذلك ; لأن هذا لما لم يعلم السبب الموجب للتحريم كان بمنزلة من لم يبلغه خطاب الشارع، كلاهما عادم للعلم بما يدل له على التحريم، ومثل هذا قد عفا الله عنه، إلا أن الله أباح له إباحة شرعية بمعنى أنه أذن له في ذلك، نعم، قد يفرق بين ما استبيح بأمارة شرعية فاختلفت، وبين ما فعل لعدم العلم بالتحريم الشرعي، كما فرق قوم من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم في قتل من لم تبلغه الدعوة من المتمسكين بشريعة منسوخة، فأوجبوا ديته وغير المتمسكين فلم يوجبوا ديته .

وكذلك مسألة اشتباه الواجب بغيره كمن نسي إحدى صلاتين لا يعلم عينها، فإن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يطلقون أنه يحرم عليه العينان، وتجب عليه الصلاتان، ومنهم من يقول المحرم أحدهما وإن وجب الكف عنهما والواجب أحدهما وإن كان عليه فعلهما، ثم من الأولين من أصحابنا وغيرهم من ينكر هذا القول ويقول انتفاء التحريم ملزوم انتفاء الحرج والحرج هنا حاصل في كل منهما فكيف يكون الوجوب والتحريم منتفيان ؟ وهذا الإنكار مستقيم ممن ينكر الوجوب والتحريم في الباطن دون الظاهر كما ذهبت إليه النافية للحكم الباطن الجاعلة حكم الله تعالى في حق كل مجتهد ما اقتضاه اجتهاده وأنه يتبع الاعتقاد ويكون من موجباته ومقتضياته، وهذا أصل فاسد مخالف لما كان عليه القرون الماضية الفاضلة وتابعوهم، وأما من أقر بالإيجاب والتحريم الباطنين فمعنى قول من قال الحرام أحدهما والواجب أحدهما يعني به الحرام في نفس الأمر أحدهما والواجب في نفس الأمر أحدهما، كما إذا اشتبه الطاهر بالنجس فإن النجس في نفس الأمر أحدهما وكما أن الميت في نفس الأمر أحدهما والأخت في نفس الأمر أحدهما والآخر إنما حرم ظاهرا فقط، نعم يبالغ هذا القائل فيقول لا أصف المشتبهة بتحريم ألبتة وإن أوجبت الإمساك عنها كما لا أصفها بنجاسة ولا بنوة ولا موت، فهنا ثلاث منازل طرفان ووسط، إما أن يقال هما جميعا حرامان مطلقا واجبان مطلقا، أو يقال ليس الواجب والمحرم إلا أحدهما، أو يقال الواجب والمحرم باطنا وظاهرا أحدهما والآخر محرم أو واجب ظاهرا لا باطنا، على أنه والله أعلم من وصف بالتحريم إحداهما فقط مطلقا مع إيجابه الكف عنهما أقرب ممن أنكر عليه وأنكر على من خص بالتحريم إحداهما، وذلك أنه لو تناولهما معا لم يعاقب عقوبة من فعل محرمين بل من فعل محرما واحدا، وكذلك من لم يفعل الصلاة المشتبهة إنما يعاقب على ترك صلاة واحدة، والمسألة وإن كان قد يظن أنها مستمدة من مسألة ما لا يتم الواجب إلا به هل يوصف بالوجوب فنفي الوجوب عن إحداهما هنا ليس كنفي الوجوب عن الزيادة ; لأن سبب الوجوب هنا عدم علمه وسببه هناك عجزه وعدم العلم إنما يؤثر في الأحكام ظاهرا لا باطنا عند عامة الناس، بخلاف العجز فإنه يؤثر فيها باطنا وظاهرا، ومن استقرأ أحكام الشريعة استبان له هذا، وحقيقة الأمر أن المتناول لأحدهما يعاقب على المخاطرة والعمل بالجهل بالمقتضي للعقوبة به معنى فيه لا معنى في المحل بخلاف المتناول للميتة فإنه يعاقب لمعنى في الميتة وليست العقوبة والأحكام على ذلك الجنس مثل هذا، فإنه لو خاطر ووطئ من لا يظنها زوجته وكانت إياها لم يحد وإن أثم، وكذلك من شرب ما يعتقده خمرا فلم يكنه لم يحد وإن كان آثما، وكذلك من حكم بجهل فصادف الحق هل يبتدئ الحكم في تلك القضية أو ينفذ حكمه ؟ للأصحاب فيه وجهان مع الاتفاق على تأثيمه، ومن باع واشترى قابضا مقبضا لا يعلم أنه مالك ولا وكيل ثم تبين أنه وارث أو وكيل هل يصح تصرفه ؟ على وجهين مع كونه كان آثما ولو فعله الوكيل بعد العزل قبل أن يعلم به لم يأثم، وفي صحة التصرف روايتان وقولان مشهوران للناس، وكذا على قياس هذا لو عقد على المشتبهة ثم تبين أنها الأجنبية أو المذكى هل يصح العقد على الوجهين إذ الجهل بالمحلية كالجهل بالأهلية، فإن قلت: أنتم تختارون فيما كان محرما ولم يعلم المكلف تحريمه أنه عفو في حقه لا مباح ظاهرا ولا باطنا فكيف تقولون فيمن اعتقد تحريمه ولم يكن حراما أنه حرام ظاهرا أو حرام مطلقا ؟، قلت: لأن ما حرمه الله تحريما مطلقا لا يباح إلا إذا وجد سبب حله، وجهل المكلف لا يكون سببا للحل بل غايته أنه سبب للعذر، وأما ما أحله الله حلا مطلقا فقد تعرض له أسباب تحريمه، وجهل المكلف قد يكون سببا للتحريم فإنه مناسب له من جهة أن عدم العلم بانتقاء الضرر الذي انعقد بسببه أو خيف وجوده مناسب للمنع من الإقدام شرعا وعقلا وعرفا، فإن المريض يمنع ما يخاف ضرره، ومن جهة أن الجهل وصف نقص فترتب التحريم عليه ملائم، أما ترتب الحل عليه فغير ملائم ألا ترى أن المعصية تكون سببا لشرع التحريم كما دل عليه قوله { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } ويكون سببا للابتلاء بوجود المحرم والحاجة إليه كما دل عليه قصة أصحاب السبت، ولا تكون المعصية سببا للحل مع أني قد بينت أني إذا قلت حرمنا عليك فمعناه حرم عليك المخاطرة والإقدام بلا علم، لا أن نفس العين محرمة في الحقيقة، كما لو اشتبه على المريض الداء بالدواء فإن أهله يمنعونه منهما لا لأنهما داءان مضران بل لما في المخاطرة من مفسدة مواقعة الضرر، وهذا الوصف يشمل العينين جميعا بحيث لو خاطر وتناول إحداهما فكانت هي الحرمة لكان عليه عقوبة المخاطرة وعقوبة آكل الميتة ولو خاطر فصادفت مخاطرته المباحة لما كان عليه إلا عقوبة المخاطرة فقط، لكن قد يقال إذا صادف الميتة فإن حرمة المخاطرة خشية أن يقع في الميتة فإذا صادف الميتة فهو المحذور فلا يبقى للمخاطرة حكم إذ لا حكم للخوف بعد حصول المخوف، ويمكن أن يقال بل هما ذنبان لهما مفسدتان فإن المخاطرة تفتح جنسين من الشر لا تختص هذه القضية وبالجملة فإنما يحسن إطلاق الإنكار بأن المحرم أحدهما ممن يقول لكل مجتهد نصيب بناء على ما قدمته من الشبهة الضعيفة التي تنحل بفهم ما ذكرناه وغيره من جهة أنه ليس يعتقد في الباطن حكما غير الظاهر، ولكن من وافقه في هذا الإنكار من الموحدين للصواب من أصحابنا وغيرهم لم يهتدوا لباطن مأخذه الذي يبطل حقيقة قولهم، وإنما أنكروا كون المحرمة واحدة باطنا وظاهرا، فهذا قريب ; لأنها محرمة من وجهين ولا يتسع هذا المقام لأكثر من هذا وتلخيص الفرق بين من يقول إن التحريم ليس ثابتا لا باطنا ولا ظاهرا وبين من يثبته باطنا وأن أولئك الأقلين يقولون: البلاغ شرط في التحريم الذي هو سبب الذم والعقاب وغيرهما من الأمور .

فعدمه ينفي نفس التحريم والأكثرين يقولون البلاغ شرط في موجب التحريم ومقتضاه لا في نفسه فعدمه ينفي أثره لا عينه، ويسمى نظير الأول مانع السبب، ونظير الثاني مانع الحكم بمنزلة السهم المفرق تارة ينكر في نفسه وتارة لا يصادف غرضا يخرقه أو يكون الغرض مصفحا بحديد .

قال وحدثنا سفيان حدثنا عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة بهذا قال سفيان قال عمرو سمعت عكرمة حدثنا أبو هريرة قال علي قلت لسفيان قال سمعت عكرمة قال سمعت أبا هريرة قال نعم قلت لسفيان إن إنسانا روى عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يرفعه أنه قرأ فزع قال سفيان هكذا قرأ عمرو فلا أدري سمعه هكذا أم لا قال سفيان وهي قراءاتنا، وما ذكره أحمد من الفترة وتكلمه بالوحي بعدها قاله طوائف من السلف كما ذكره عبد الرزاق في تفسيره أنبأنا معمر عن قتادة والكلبي في قوله { حتى إذا فزع عن قلوبهم } قالا لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد فنزل الوحي قال قتادة نزل مثل صوت الحديد على الصخر فأفزع الملائكة ذلك فقال حتى إذا فزع عن قلوبهم يقول إذا خلى عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير وهذه الآية وما فيها من الأحاديث المتعددة في الصحاح والسنن والمساند والآثار المأثورة عن السلف في تفسيرها فيها أصول من أصول الإيمان يبين بها ضلال من خالف ذلك من المتفلسفة الصابئة والجهمية ونحو هؤلاء ففيها ما دل عليه القرآن من أن الملائكة لا يشفعون إلا بعد أن يأذن الله لهم فضلا عن أن يتصرفوا ابتداء، كما قال تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }، وقال سبحانه: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } وقال: { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال: { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا }، فأخبر سبحانه أنهم لا يسبقونه بالقول ولا يعملون إلا بأمره وأنهم لا يتكلمون بالشفاعة إلا بعد أن يأذن الله لهم وأنهم مع ذلك لا يعلمون ما قال حتى إذا فزع عن قلوبهم أي خلي عن قلوبهم فأزيل الفزع كما يقال قردت البعير إذا أزلت قراده وتحرب وتحرج وتأثم وتحنث إذا أزال عن نفسه الحرب والإثم والحرج والحنث فإذا أزيل الفزع عن قلوبهم قالوا حينئذ ماذا قال ربكم قالوا الحق وفي كل ذلك تكذيب للمتفلسفة من الصائبة ونحوهم ومن أتباعهم من أصناف المتكلمة والمتصوفة والمتعففة الذين خلطوا الحنيفية بالصابئة فيما يزعمونه من تعظيم العقول أو النفوس التي يزعمون أنها هي الملائكة وأنها متولدة عن الله لازمة لذاته وهي المدبرة للعالم بطريق التولد والتعليل لا بأمر من الله وإذن يكون إذا شاء بل يجعلون الذي يسمونه العقل الفعال هو المدبر لهذا العالم من غير أن يحدث الله نفسه شيئا أصلا وهذا عبد هؤلاء الملائكة والكواكب وعظموا ذلك جدا وهذه النصوص المتواترة تكذبهم وتبين بعدهم عن الحق بمراتب متعددة خمسة وأكثر، فإن المرتبة الأولى: أن الملائكة هل تتصرف وتتكلم كما يفعل ذلك سائر الأحياء بغير إذن من الله وأمر وقول وإن كان الله خالق أفعالهم كما هو خالق أفعال الحيوان كله فإن الحيوان من الجن والإنس والبهائم وإن كان الله خالق أفعالهم فإن أفعالهم قد تكون معصية وقد تكون غير مأمور بها ولا منهي عنها بل يتصرفون بموجب إرادتهم وإن كانت مخلوقة والملائكة ليسوا كذلك بل لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون فلا يفعلون ما يكون من جنس المباحات والمنهيات بل لا يفعلون إلا ما هو من الطاعات، والمرتبة الثانية: أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى فلا يشفعون عنده لمن لا يحب الشفاعة له كما قد يفعله بعض من يدعو الله بما لا يحبه، والمرتبة الثالثة :

أنهم أيضا لا يبتدئون بالشفاعة فلا يشفعون إلا بعد أن يأذن لهم في الشفاعة، والمرتبة الرابعة: أنهم لا يستأذنون في أن يشفعوا إذ هم لا يسبقونه بالقول بل هو يأذن لهم في الشفاعة ابتداء فيأمرهم بها فيفعلونها عبادة لله وطاعة، والمرتبة الخامسة: أنهم يسجدون إذا سمعوا كلامه وأمره وإذنه ولم يطيقوا فهمه ابتداء بل خضعت وفزعت وضربت بأجنحتها وضعفت وسجدت فإذا فزع عن قلوبهم فجلى عنهم الفزع قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير فهذه حالهم عند تكلمه بالوحي أما وحي كلامه الذي يبعث به رسله كما أنزل القرآن وأما أمره الذي، يقضي به من أمر يكونه فذلك حاصل في أمر التشريع وأمر التكوين ولهذا قال سبحانه وتعالى: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم } وحتى حرف غاية يكون ما بعدها داخلا فيما قبلها ليست بمنزلة إلى التي قد يكون ما بعدها خارجا عما قبلها كما في قوله: { ثم أتموا الصيام إلى الليل } وهي سواء كانت حرف عطف أو حرف جر تتضمن ذلك وما بعدها يكون النهاية التي ينبه بها على ما قبلها فتقول قدم الحجاج حتى المشاة فقدوم المشاة تنبيه على قدوم الركاب وتقول أكلت السمكة حتى رأسها فأكل رأسها تنبيه على غيره فإن أكل رءوس السمك قد يبقى في العادة وهذه الآية أخبر فيها سبحانه أنه ليس لغيره ملك ولا شرك في الملك ولا معاونة له ولا شفاعة إلا بعد إذنه فقال تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له }، ثم قال: { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم } والضمير في قوله ( عن قلوبهم ) يعود إلى ما دل عليه وله من أذن له فإن الملائكة يدخلون في قوله { من أذن له } ودل عليه قوله { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون }، فإن الملائكة تدخل في ذلك فسلبهم الملك والشركة والمعاونة والشفاعة إلا بإذنه ثم بين ذلك حتى أنه إذا تكلم لا يثبتون لكلامه ولا يستقرون بل يفزعون ولا يفهمون ثم إذا أزيل عنهم الفزع يقولون ماذا قال ربكم قالوا الحق وذلك أن ما بعد حتى هنا جملة تامة وهو قوله { إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم } والعامل في إذا هو قوله قالوا ماذا وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان متضمن معنى الشرط أي لما زال الفزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم والغاية بعد حتى يكون مفردا كما تقدم ويكون جملة ومنه قوله: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين }، وقوله تعالى: { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم } فأخبر عن ضلال أولئك إلى تلك الغاية وعن تسيير هؤلاء إلى هذه الغاية وكذلك قوله: { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا } الآية، وكذلك قوله: { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة }، وكذلك قوله: { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض } إلى قوله: { للذين اتقوا أفلا تعقلون } { حتى إذا استيأس الرسل } . قيل تقول في الجواب عن هذا وهو، الوجه السابع عشر: إن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله، وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات الكلام له يجوز أن يكون صدقا أو كذبا بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلا وهو كذب فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب، فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني إلا ما كان كذبا، فإن أثبتوا لله ذلك كان كفرا باطلا خلاف مقصودهم وخلاف إجماع الخلائق إذ أحد لا يثبت لله كلاما لازما لذاته هو كذب، وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال، لأنا حينئذ لم نعلم وجود معنى نفساني صدقا غير العلم ونحوه لا شاهدا ولا غائبا فإن خبر الله لا ينفعك عن العلم، وإذا امتنع إثبات ما ادعوه من الخبر امتنع حينئذ وصفه بكونه صدقا، فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف محال، فعلم أن الطريقة التي سلكوها في إثبات صدق الخبر يبطل عليهم إثبات أصل الخبر النفساني، فلا يثبت حينئذ لا خبر نفساني ولا صدقه، والطريقة التي سلكوها في إثبات الكلام النفساني إنما يثبت بها لو قدر صحتها خبر هو كذب، وذلك ممتنع في حقه، فعلم أنهم مع التناقض لم يثبتوا لا الكلام النفساني ولا صدقه فلم يثبتوا واحدا من المتناقضين، فإن قيل: كيف يخلو الأمر عن النقيضين ويمكن رفعهما جميعا، قيل: هذا لا يمكن في الحقائق الثابتة ولكن يمكن في المقدرات الممتنعة، فإن من فرض تقديرا ممتنعا لزمه اجتماع النقيضين وانتفاؤهما وذلك محال لأنه لازم للمحال الذي قدره وهذا دليل آخر وهو، الوجه الثامن عشر: وهو أنهم أثبتوا للخبر معنى ليس هو العلم وبابه فهذا إثبات أمر ممتنع، وإذا كان ممتنعا من صفة بأنه صدق أو كذب ممتنع أيضا لا حقيقة له فقولهم بعد هذا العلم يستلزم الصدق منه وينافي الكذب، وإن كان يناقض قولهم العلم لا يستلزم الصدق ولا ينافي الكذب، فهذان النقيضان كلاهما منتف لأن كلاهما إنما يلزم على تقدير ثبوت معنى للخبر ليس هو العلم وبابه، فإذا كان ذلك تقديرا باطلا ممتنعا كان ما يلزمه من نفي أو إثبات قد يكون باطلا إذ حاصله لزوم اجتماع النقيضين ولزم الخلو عن النقيضين على هذا التقدير، وهذه اللوازم تدل على فساد الملزوم الذي هو معنى للخبر ليس هو العلم ونحوه، ولهذا يجعل فساد اللوازم دليلا على فساد الملزوم، وإذا أريد تحرير الدليل بهذا الوجه قيل لو كان للخبر معنى ليس هو العلم ونحوه فإما أن يكون العلم مستلزما لصدقه أو لا يكون، فإن كان مستلزما لصدقه لم يعلم حينئذ أنه غير العلم إذ لا دليل على ذلك إلا إمكان تقدير الكذب مع العلم فإذا كان العلم مستلزما للصدق النفساني منافيا للكذب النفساني كان هذا التقدير ممتنعا فلا يعلم حينئذ ثبوت معنى للخبر غير العلم لا في حق الخالق ولا في حق العباد، فيكون قائل ذلك قائلا بلا علم ولا دليل أصلا في باب كلام الله وخبره وهذا محرم بالاتفاق، وهذا بعينه يبطل ببطلان قولهم، أي أنهم قالوا بلا حجة أصلا، وإن لم يكن العلم مستلزما للصدق النفساني ولا منافيا للكذب النفساني لم يكن لهم طريق إلى إثبات كلام نفساني هو صدق، لأن العلم لا يستلزمه ولا ينافي ضده، فلا يستدل عليه بالعلم وسائر ما يذكر غير العلم، فيدل على أن الله صادق في الجملة وأن الكذب ممتنع عليه وهذا مما لا نزاع بين الناس فيه، ولكنهم لا يمكنهم إثبات كلام نفساني هو صدق وقيام دليل على أن الله صادق كقيام دليل على أن الله متكلم، وهذا لا ينفعهم في إثبات الكلام النفساني، الذي ادعوه منفردين به فكذلك هذا لا ينفعهم في إثبات معنى الخبر النفساني الصادق الذي انفردوا بإثباته من بين فرق الأمة وابتدعوه وفارقوا به جماعة المسلمين كما أقروا هم بهذا الشذوذ والانفراد كما ذكره في المحصول، الوجه التاسع عشر: وهو متضمن للجواب عما ذكرناه من السؤال عن أن المتناقضين لا يعين الصادق وهو أن نقول لا ريب أن قولهم إن العلم ينافي الكذب النفساني هو الصواب دون قولهم أنه قد يجامع الكذب النفساني، وإن لم يكن العلم مستلزما لخبر نفساني صدق وهذا أمر يجده المرء من نفسه ويعلمه بالضرورة أن ما علمه لا يمكن أن يقوم بنفسه خبر ينافي ذلك، بل لو كلف ذلك كلف الجمع بين النقيضين، ولهذا لم يتنازع الناس في أنه يمتنع تكليف الإنسان أن يعتقد خلاف ما يعلمه ولو كان في الإمكان خبر نفساني ينافي العلم لأمكن أن يطلب ذلك من الإنسان، فإنه يمكن أن يطلب منه كل ما يقدر عليه سواء قيل إن ذلك جائز في الشريعة أو لم يمكن كما أن طلب الكذب ممكن والتكليف به ممكن، وأما طلب كذب نفساني يخالف العلم فهذا مما لا يمكن طلبه والتكليف به إذ هو أمر لا حقيقة له فتبين أن قولهم أن الجحد إنما يتصور من العلم بالشيء في العبارة باللسان دون القلب، وصاحب الجحد وإن جحده باللسان هو معترف بالقلب فلا يصح الجحد منه بالقلب، هو أصدق من قولهم العالم بالشيء قد يقوم بقلبه كذب نفساني ينافي علمه وإذا كان كذلك بطل ما احتجوا به على إثبات الخبر النفساني الذي ادعوه وراء العلم وهو المقصود، الوجه العشرون: أن يقال لا ريب أن الإنسان قد يخبر بما لا يعلمه ولا يظنه وبما يعلم أو يظن خلافه ولا ريب أن هذا الخبر له معنى يقوم بنفسه وراء العلم ولهذا يمكن تقدير هذا المعنى قبل تقدير العبارة عنه فضلا عن وجود التعبير عنه فإن من يريد أن يخبر بخلاف علمه ويعتقد ذلك يقدره ويصوره في نفسه قبل التعبير عنه، ويدل على ذلك أن الكذب لفظ له معنى كما أن الصدق لفظ له معنى ولو كان لفظا لا معنى له في النفس لكان بمنزلة الأصوات والألفاظ المهملة وليس الأمر كذلك لكن يقال هذا لا يخرجه عن أن يكون من جنس الاعتقاد الذي يكون من جنس العلم والجهل المركب فإن المعتقد للشيء بخلاف ما هو به لا ريب أنه ليس بعالم به وإن اعتقد أنه عالم به فالكذب من هذا الجنس، لكن الكذب يعلم صاحبه أنه باطل والجهل المركب لا يعلم صاحبه أنه باطل، ومعلوم أن الاعتقادات في كونها حقا أو باطلا أو معلومة أو مجهولة لا يخرج عن الاشتراك في مسمى الاعتقاد والخبر النفساني كما لا تخرج العبارة عنها بكونها حقا أو باطلا أو معلومة أو مجهولة عن أن تكون لفظا وعبارة وكلاما فإذا كانت العبارات على اختلاف أنواعها يجمعها النطق اللساني فالمعنى الذي هو الاعتقاد على اختلاف أنواعه يجمعه النطق النفساني والخبر النفساني وهذا كما أن الإرادة أو الطلب سواء كانت إرادة شر أو كان صاحبها عالما بحقيقة مراده وعاقبته أو كان جاهلا بعاقبته فإن ذلك لا يخرجها عن الاشتراك في مسمى الإرادة أو الطلب، الوجه الحادي والعشرون: أنه تعالى قال: { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } فنفى عنهم التكذيب وأثبت الجحود ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفيا عنهم فعلم أنه نفى عنهم تكذيب القلب ولو كان المكذب الجاحد علمه يقوم بقلبه خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم فلما نفى عنهم تكذيب القلوب علم أن الجحود الذي هو ضرب من الكذب والتكذيب بالحق المعلوم ليس هو كذبا في النفس ولا تكذيبا فيها وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به ولا يخير في نفسه بخلاف علمه فإن قيل العالم بالشيء العارف به قد يؤمن بذلك وقد يكفر كما قال الله تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وذلك مثل المعاندين من المشركين وأهل الكتاب وليس كفرهم لمجرد لفظهم فإنهم أيضا قد يقولون بألسنتهم ما يعلمونه ولا يكونون مؤمنين مثل ما كان يقوله أبو طالب من الإخبار بأن محمدا رسول الله ومثل إخبار كثير من اليهود والنصارى بعضهم لبعض برسالته ومع هذا فليسوا مؤمنين ولا مصدقين ومنهم اليهود الذين جاوروه وقالوا نشهد أنك رسول الله قيل الجواب عن هذا هو، الوجه الثاني والعشرون: وهو أن ما أخبرت به الرسل من الحق ليس إيمان القلب مجرد العلم بذلك فإنه لو علم بقلبه أن ذلك حق وكان مبغضا له وللرسول الذي جاء به ولمن أرسله معاديا لذلك مستكبرا عليهم ممتنعا عن الانقياد لذلك الحق لم يكن هذا مؤمنا مثابا في الآخرة باتفاق المسلمين مع تنازعهم الكثير في مسمى الإيمان ولهذا لم يختلفوا في كفر إبليس مع أنه كان عالما عارفا بل لا بد في الإيمان من علم في القلب وعمل في القلب أيضا ولهذا كان عامة أئمة المرجئة الذين يجعلون الإيمان مجرد ما في القلب أو ما في القلب واللسان يدخلون في ذلك محبة القلب وخضوعه للحق لا يجعلون ذلك مجرد علم القلب، ولفظ التصديق يتناول العلم الذي في القلب ويتناول أيضا ذلك العمل في القلب الذي هو موجب العلم ومقتضاه فإنه يقال صدق علمه بعمله وذلك لأن وجود العلم مستلزم لوجود هذا العمل الذي في القلب الذي هو إسلام القلب بمحبته وخشوعه فإذا عدم مقتضى العلم فإنه قد يزول العلم من القلب بالكلية ويطبع على القلب حتى يصير منكرا لما عرفه جاهلا بما كان يعلمه وهذا العلم وهذا العمل كلاهما يكون من معاني الألفاظ، فلفظ الشهادة والإقرار والإيمان والتصديق ينظم هذا كله لكن لفظ الخبر والبناء وأحد ذلك هو العلم وإن استلزم هذه الأعمال فهو كما يستلزم العلم لذلك فإذا قال أحد هؤلاء العالمين الجاحدين الذين ليسوا مؤمنين بمحمد رسول الله كقول أولئك اليهود وغيرهم فهذا خبر محض مطابق لعلمهم الذي قال الله فيه: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } لكن كما لا ينفعهم مجرد العلم لا ينفعهم مجرد الخبر بل لا بد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك كما أنه لا بد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد لأهل الطاعة فهؤلاء الذين يعلمون الحق الذي بعث الله به رسوله ولا يؤمنون به ويقرون به يوصفون بأنهم كفار وبأنهم جاحدون ويوصفون بأنهم مكذبون بألسنتهم وأنهم يقولون بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم وقد أخبر الله في كتابه أنهم ليسوا بمكذبين بما علموه أي مكذبين بقلوبهم وإن لم يكونوا مؤمنين مقرين مصدقين إذ العبد يخلو في الشيء الواحد عن التصديق والتكذيب والكفر أعم من التكذيب فكل من كذب الرسول كافر وليس كل كافر مكذبا، بل من يعلم صدقه ويقر به وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه كافر أو من أعرض فلم يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر وليس بمكذب وكذلك العالم بالشيء قد يخلو عن التكذيب وعن التصديق به الذي هو مستلزم لعمل القلب وإن لم يخل عن التصديق الذي هو مجرد علم القلب فأما أن يقوم بالقلب تصديق قولي غير العلم فهذا هو الذي ادعاه هؤلاء الشذاذ عن الجماعة وهو مورد النزاع، ولهذا قال الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب والتوكل عمل القلب، وقال الحسن البصري ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقه العمل: وقال الحسن أيضا: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت، فإذا لها أسماع وأبصار فنطقت بالحكمة وأورثت العلم . فصل فلما قالوا ولا نقول إن كلام الله حرف وصوت قائم به بل هو معنى قائم بذاته قلت إخبارا عما وقع مني قبل ذلك ليس في كلامي هذا أيضا بل قول القائل إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة وقوله إنه معنى قائم به بدعة لم يقل أحد من السلف لا هذا ولا هذا وأنا ليس في كلامي شيء من البدع بل في كلامي ما أجمع عليه السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق وهذا كلام صحيح فلم أقل أن الحروف ليست من كلام الله وأن المعاني ليست من كلام الله ولا أن الله تعالى لم يتكلم بالحروف والأصوات ومعان قائمة في نفسه ولكن بينت أن من جعل القرآن مجرد حرف وصوت قائم بالله فإنه مبتدع وقوله يتضمن أن المعاني ليست من القرآن ولا من كلام الله ومن جعل القرآن مجرد معنى قائم به مبتدع وقوله يتضمن أن حروف القرآن ليست من القرآن ولم يتكلم الله بها وأن جميع كلام الله ليس إلا معنى واحدا، وقد قلت قبل هذا في جواب الفتيا المصرية وقد قيل فيها المسئول بيان ما يجب على الإنسان أن يعتقده ويصير به مسلما بأوضح عبارة وأبينها من أن ما في المصاحف هل هو كلام الله القديم أم هو عبارة عنه لا نفسه وأنه حادث أو قديم وأن كلام الله حرف وصوت أم كلامه صفة قائمة به لا تفارقه وأن قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } حقيقة أم لا وأن الإنسان إذا أجرى القرآن على ظاهره من غير أن يتأول شيئا منه ويقول أومن به كما أنزل هل يكفيه ذلك في الاعتقاد أم يجب عليه التأويل، فقلت في الجواب الذي يجب على الإنسان اعتقاده في ذلك وغيره ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ واتفق عليه سلف المؤمنين الذين أثنى الله تعالى على من اتبعهم وذم من اتبع غير سبيلهم وهو أن القرآن الذي أنزله الله على عبده ورسوله كلام الله تعالى وأنه منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون } وأنه { قرآن مجيد في لوح محفوظ } وأنه كما قال: { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } وأنه في الصدور كما قال النبي ﷺ { استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها } وقال النبي ﷺ { الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب } وأن ما بين لوحي المصحف الذي كتبته الصحابة رضي الله عنهم كلام الله كما قال النبي ﷺ { لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم } فهذه الجملة تكفي المسلم في هذا الباب، وأما تفصيل ما وقع في ذلك من النزاع فكثير منه يكون كالإطلاقين خطأ ويكون الحق في التفصيل ومنه ما يكون مع كل من المتنازعين نوع من الحق ويكون كل منهما ينكر حق صاحبه وهذا من التفريق والاختلاف الذي ذمه الله تعالى ونهى عنه فقال: { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } وقال: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقال: { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وقال: { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم } .

وكذلك المعتزلة قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد بل العبد هو الذي يحدث أفعاله فضلوا بقولهم إن الله لم يخلق أفعال العباد، وقلتم أنتم إن العبد لا يفعل أفعاله بل هي فعل الله تعالى، ولكن هي كسب للعبد، ولم تفرقوا بين الكسب والفعل بفرق معقول وادعيتم العلم الضروري بأن كون العبد فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا أمر محدث ممكن، فلا بد له من محدث واجب، وهذا حق أصبتم فيه دون المعتزلة، لكن من المعتزلة من ادعى العلم الضروري بأن العبد يحدث أفعاله وهذا أيضا حق أصابوا فيه دونكم، ولهذا كان أهل السنة والجماعة على أن العبد فاعل لأفعاله حقيقة والله خلق الفاعل فاعلا كما قال الله تعالى: { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا } وليس كونه قادرا مريدا فاعلا بألزم له من كونه طويلا قصيرا والله خلقه على هذه الصفة، فليس ما ذكره الله في كتابه من أن العباد يفعلون ويصنعون بمناف أن يكون الله خلقهم على هذه الصفة، وكون العبد فاعلا لما جعل الله فيه من القدرة هو كسائر ما خلقه الله بقوة فيه وقدرته سبب في حصول مقدوره كسائر الأسباب والأسباب لا ينكر وجودها ولا ينكر أن الله خلقها وخلق المسبب بها، فمن قال قدرة العبد مؤثرة في المقدور كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها لم ينكر قوله، ومن قال ليست مؤثرة أي ليست مستقلة وليس مبتدعة، كما أن سائر الأسباب ليست كذلك لم ينكر قوله، فإن السبب ليس علة مستقلة بمسببه، بل لا بد من أسباب أخر ولا بد من صرف الموانع والله خالق مجموع الأسباب وصارف جميع الموانع، وهذا هو الخلق المطلق الذي ليس إلا لله وحده وكل ما سواه مما يجعل سببا ومؤثرا فإنه جزء مسبب فلا ينفى هذا الجزء ولا يعطى ما لا يستحقه من كونه مبدعا خالقا ومن كونه واحدا لا شريك له، فهو رب كل شيء ومليكه، وأنتم قد خالفتم نصوص الكتاب والسنة وسلف الأمة في مسائل الصفات والقرآن والرؤية، ومسائل الأسماء والأحكام والقدر ما تأولتموه، فالمعتزلة ونحوهم إذا خالفوا من ذلك ما تأولوه لم يكن لكم عليهم حجة وإذا قدحتم في المعتزلة بما ابتدعوه من المقالات وخالفوه في السنن والآثار، قدحوا فيكم بمثل ذلك وإذا نسبتموهم إلى القدح في السلف والأئمة نسبوكم إلى مثل ذلك فيما تذمونهم به من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع يذمونكم بنظيره، ولا محيص لكم عن ذلك إلا بترك ما ابتدعتموه، وما وافقتموه عليه من البدعة وما ابتدعتموه أنتم، وحينئذ فيكون الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها سليما من التناقض والتعارض محفوظا، قال الله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، وبالجملة فعامة ما ذمه السلف والأئمة وعابوه على المعتزلة من الكلام المخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم لكم منه أوفر نصيب، بل تارة تكونون أشد مخالفة لذلك من المعتزلة، وقد شاركتموهم في أصول ضلالهم التي فارقوا بها سلف الأمة وأئمتها، ونبذوا بها كتاب الله وراء ظهورهم، فإنهم لا يثبتون شيئا من صفات الله تعالى، ولا ينزهونه من شيء بالكتاب والسنة، والإجماع موقوف على العلم بذلك، والعلم بذلك لا يحصل به لئلا يلزم الدور فيرجعون إلى مجرد رأيهم في ذلك، وإذا استدلوا بالقرآن كان ذلك على وجه الاعتقاد والاستشهاد، لا على وجه الاعتماد والاعتقاد، وما خالف قولهم في القرآن تأولوه على مقتضى آرائهم، واستخفوا بالكتاب والسنة وسموهما ظواهر، وإذا استدلوا على قولهم بمثل قوله: { لا تدركه الأبصار }، وقوله: { ليس كمثله شيء }، أو قوله: { وهو معكم أينما كنتم } ونحو ذلك، لم تكن هذه النصوص هي عمدتهم ولكن يدفعون بها عن أنفسهم عند المسلمين، وأما الأحاديث النبوية فلا حرمة لها عندهم، بل تارة يردونها بكل طريق ممكن وتارة يتأولونها، ثم يزعمون أن ما وضعوه برأيهم قواطع عقلية، وأن هذه القواطع العقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والسنة، إما بالتأويل، وإما بالتفويض، وإما بالتكذيب، وأنتم شركاؤهم في هذه الأصول كلها، ومنهم أخذتموها، وأنتم فروخهم فيها، كما يقال: الأشعرية مخانيث المعتزلة، والمعتزلة مخانيث الفلاسفة، لكن لما شاع بين الأمة فساد مذهب المعتزلة، ونفرت القلوب عنهم، صرتم تظهرون الرد عليهم في بعض المواضع مع مقاربتكم أو موافقتكم لهم في الحقيقة، وهم سموا أنفسهم أهل التوحيد، لاعتقادهم أن التوحيد هو نفي الصفات وأنتم وافقتموهم على تسمية أنفسكم أهل التوحيد، وجعلتم نفي بعض الصفات من التوحيد، وسموا ما ابتدعوه من الكلام الفاسد إما في الحكم وإما في الدليل أصول الدين، وأنتم شاركتموهم في ذلك، وقد علمتم ذم السلف والأئمة لهذا الكلام، بل علم من يعرف دين الإسلام وما بعث الله به نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ما فيه من المخالفة لكتب الله وأنبيائه ورسله، وقد بسطنا الكلام على فساد هذه الأصول في غير هذا الموضع، وبينا أن دلالة الكتاب والسنة التي يسمونها دلالة السمع ليست مجرد الخبر كما تظنونه أنتم وهم حتى جعلتم ما دل عليه السمع إما هو بطريق الخبر الموقوف على تصديق المخبر، ثم جعلتم تصديق المخبر وهو الرسول موقوفا على هذه الأصول التي سميتموها أنتم وهم العقليات، وجعلوا منها نفس الصفات والتكذيب بالقدر ووافقتموهم على أن منها نفي كثير من الصفات، وأنتم لم تثبتوا القدر حتى أبطلتم ما في أمر الله ونهيه، بل ما في خلقه وأمره من الحكم والمصالح والمناسبات، وزعمتم أن الرد على القدرية لا يتم إلا بنفي تحسين العقل وتقبيحه مطلقا، وأن تجعل الأفعال كلها سواء في أنفسها، لا فرق في نفس الأمر بين الصلاة والزنا إلا من جهة حكم الشارع بإيجاب أحدهما وتحريم الآخر فصار قولكم مدرجة إلى فساد الدين والشريعة، وذلك أعظم فسادا من التكذيب بالقدر، وقد بينا في غير هذا الموضع أن القرآن ضرب الله فيه الأمثال، وهي المقاييس العقلية التي يثبت بها ما يخبر به من أصول الدين : كالتوحيد وتصديق الرسل وإمكان المعاد، وأن ذلك مذكور في القرآن على أكمل وجه ; وإن عامة ما يثبته النظار من المتكلمين والفلاسفة في هذا الباب يأتي القرآن بخلاصته وبما هو أحسن منه على أتم الوجوه، بل لا نسبة بينهما لعظم التفاوت، ومعلوم أن هذا أمر عظيم وخطب جسيم، فإنكم والمعتزلة تثبتون كثيرا مما يثبتونه من أصول الدين بطرق ضعيفة أو فاسدة، مع ما يتضمنه ذلك من التكذيب بكثير من أصول الدين، وحقيقة قولهم الذي وافقتموه عليه أنه لا يمكن تصديق الرسول في بعض ما أخبر به إلا بتكذيبه في شيء مما أخبر به فلا يمكن الإيمان بالكتاب كله، بل يكفر ببعضه ويؤمن ببعضه فيهدم من الدين جانب ويبنى منه جانب على غير أساس ثابت، ولولا أن هذا الموضع لا يسع ذلك لفصلناه، فإنا قد بسطناه في مواضع، مثل ما يقال من أنه لا يمكن الإقرار بالصانع إلا بنفي صفاته أو بعضها التي يستلزم نفيها تعطيله في الحقيقة، فيبقى الإنسان مثبتا له نافيا له، مقرا بوجوده مستلزما لعدمه، وإن كان لا يشعر بالتناقض، وأما العقليات فإنكم وافقتم المعتزلة والفلاسفة على أصول يلزم من تسليمها فساد ما بينتموه، فإنكم لما سلمتم لهم أن الأعراض وهي صفات تدل على حدوث ما قامت به أو تدل على إمكانه كانوا مستدلين بهذا على نفي الصفات عن الرب سبحانه وتعالى فتنقطعون معهم، ثم أنتم إنما استدللتم على المتفلسفة بأن ما قامت به الحوادث فهو حادث فإنهم يزعمون أن القديم تقوم به الحوادث، ولما ادعيتم أن ما قامت به الحوادث فهو حادث ألزموكم أول الحوادث فقالوا ذلك الحادث إما أن يكون لحدوثه سبب، فإن كان لحدوثه سبب لزم تسلسل الحوادث، وذلك يبطل دليلكم عليهم إذ هو مبني على تسلسل الحوادث، وامتناع حوادث لا أول لها، وإن لم يكن لحدوثها سبب جاز ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح، وهذا يبطل جميع أصولكم وأصول المعتزلة والفلاسفة، ويبطل إثباتكم بوجود الصانع، فأنتم مع الفلاسفة بين أمرين: إما أن تجوزوا حوادث لا أول لها فيبطل دليلكم عليهم الذي أثبتم به حدوث العالم وهو أصل الأصول عندكم، وإما أن لا تجوزوا ذلك فيبطل أيضا دليلكم على حدوث العالم، فعلى كلا التقديرين دليلكم الذي هو أصل أصولكم على حدوث العالم باطل، وأما المعتزلة فهم يوافقونكم على هذا الأصل، لكن خطاب الفلاسفة لهم كخطاب الفلاسفة لكم ; وأما خطاب المعتزلة فإنهم يقولون لكم: إذا ما سلمتم أن ما تقوم به الحوادث لا يكون إلا جسما إذ لا فرق في المعقول بين قيام الأعراض والحوادث، وإذا كان ما قام به الأعراض لا يكون إلا جسما، وأنتم قد قلتم تقوم به الصفات، وهي في الحقيقة الأعراض، لزم أن يكون جسما، والجسم حادث فيلزم أن يكون حادثا، ويقول لكم المعتزلي: إن قيام الكلام والحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك بمحل ليس بجسم ; ودعوى أن هذه الصفات ليست أعراضا أمر معلوم الفساد بالضرورة، وكان جوابكم للمعتزلة في هذا المقام أن قلتم لهم: كما اتفقنا نحن وأنتم على أن الله حي عالم قادر وليس بجسم، فكذلك يجب أن تكون له حياة وعلم وقدرة، وليست أعراضا وتقوم به، ولا يكون جسما، ومعلوم أن هذا الجواب ليس بعلمي، ولا يحمل به انقطاع المعتزلة ولا غيرهم، إذ يقال لكم: المعتزلة مخطئون إما في قولكم إن هذه الأسماء تثبت لغير جسم، وإما في قولهم إن هذه الصفات لا تقوم إلا بجسم ; فلم قلتم: إن خطأهم في الثاني دون الأول ؟، فإن قلتم: قد قام الدليل على نفي الجسم، قيل لكم: ذلك الدليل بعينه ينفي قيام الصفات التي هي الأعراض به ، إذ لا يعقل ما يقوم به الأعراض إلا الجسم، ويقال لكم: الدليل الذي نفيتم به الجسم إنما هو الاستدلال على حدوثه بحدوث الأعراض، وهذا الدليل آخره بعد تقرير كل مقدمة هو منع حوادث لا أول لها، وهذه المقدمة إن صحت لزمكم إثبات حوادث بلا سبب ; وذلك يبطل أصل دليلكم على إثبات الصانع، فإنه متى جوز الحدوث بلا مرجح تام يلزم منه الحدوث لزم ترجيح أحد طرفي الممكن، على الآخر بلا مرجح، وهذا يسد باب إثبات الصانع، بل يستلزم أن لا يكون في الوجود موجود واجب، وهو في نفسه من أفسد ما يقال، ولهذا لم يقله عاقل .

قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه " ذم الكلام ": باب في ذكر كلام الأشعرية ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما أودعته من رموز الفلاسفة ولم نقف منهم إلا على التعطيل البحت، وأن قطب مذهبهم ومنتهى عقيدتهم ما صرحت به رءوس الزنادقة قبلهم أن الفلك دوار والسماء خالية، وأن قولهم: إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء، ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشاه، فرارا من الإثبات وذهابا عن التحقيق، وإن قولهم: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة ; ثم قالوا: لا حياة له، ثم قالوا: لا شيء، فإنه لو كان شيئا لأشبه الأشياء، حاموا حول مقال رءوس الزنادقة القدماء إذ قالوا: الباري لا صفة ولا لا صفة، خافوا على قلوب ضعفاء المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم ; إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن، وإن كان اعتصاما به من السيف واجتنابا به ; وإذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين ويحملون الطيالسة، فأفصحوا بمعانيهم وصاحوا بسوء ضمائرهم، ونادوا على خبايا نكتهم، فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسن العلماء وهجران الدهماء، فقد شحنت كتب تكفير الجهمية من مقالات علماء الإسلام فيهم، ودأب الخلفاء فيهم، ودق أهل السنة عليهم، وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة، ثقلت عليهم الوحشة، وطالت عليهم الذلة، وأعيتهم الحيلة، إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم، ويصفوا كلامهم صفا يكون ألوح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أولهم، ليجدوا بذلك المساغ ويتخلصوا من خزي الشناعة، فجاءت بمخاريق تتراءى للغبي بغير ما في الحشايا، ينظر الناظر الفهم في حذرها فيرى مخ الفلسفة يكسو لحاء السنة، وعقد الجهمية ينحل ألقاب الحكمة، ، يردون على اليهود قولهم: { يد الله مغلولة } فينكرون الغل، وينكرون اليد، فيكونون أسوأ حالا من اليهود، لأن الله أثبت الصفة ونفى العيب واليهود أثبتت الصفة وأثبتت العيب، وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب، ويردون على النصارى في مقالهم في عيسى وأمه، فيقولون: لا يكون في المخلوق غير المخلوق، فيبطلون القرآن، فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أوليهم وكلام آخريهم كخيط السحارة، ، فاسمعوا الآن يا أولي الألباب، وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك: أولئك قالوا - قبح الله مقالتهم - إن الله موجود بكل مكان، وهؤلاء يقولون: ليس هو في مكان، ولا يوصف بأين، وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية بن الحكم " أين الله " ؟، وقالوا: هو من فوق كما هو من تحت، لا يدرى أين هو ولا يوصف بمكان، وليس هو في السماء وليس هو في الأرض، وأنكروا الجهة والحد ; وقال أولئك: ليس له كلام إنما خلق كلاما، وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به مذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به، ثم تقولون: ليس هو في مكان: ثم قالوا: ليس هو صوت ولا حروف، وقالوا هذا زاج وورق، وهذا صوف وخشب، وهذا إنما قصد به النفس وأريد به النقر، وهذا صوت القارئ ما ترى منه حسن ومنه قبيح ; وهذا لفظه أو ما تراه يجازي به حتى قال رأس من رءوسهم: أو يكون قرآن من لبد ؟ وقال آخر من خشب ; فراعوا فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن، والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك، ثم قالوا: غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة، وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود لفظته الجهمية الذكور بمرة، والأشعرية الإناث بعشر مرات، وهؤلاء قالوا: لا صفة، وهؤلاء يقولون: وجه كما يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث، وعين كعين المتاع، وسمع كأذن الجدار، وبصر كما يقال جدارهما يتراءان، ويد كيد المنة والعطية، والأصابع كقولهم خراسان بين أصابع الأمير، والقدمان كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي، والقبضة كما قيل فلان في قبضتي، أي: أملك أمره، وقالوا: الكرسي العلم ; والعرش الملك ; والضحك الرضا ; والاستواء الاستيلاء والنزول القبول، والهرولة مثله ; فشبهوا من وجه وأنكروا من وجه ; وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر وردوا الأصل ولم يثبتوا شيئا ولم يبقوا موجودا، ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة ; فقالوا لا نفسرها بجريها عربية كما وردت، وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة أرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد غيابا عنها وأعيا ذهابا منها ليكونوا أوحش عند ذكرها وأشمس عند سماعها وكذبوا، بل التفسير أن يقال وجه، ثم يقال: كيف ؟ وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين، فأما العبارة فقد قال الله تعالى: { وقالت اليهود يد الله مغلولة } ( ) وإنما قالوا هم بالعبرانية فحكاها عنهم بالعربية، وكان يكتب لرسول الله كتابة بالعربية فيها أسماء الله وصفاته، فيعبر بالألسنة عنها، ويكتب إليه بالسريانية فيعبر له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية، والله تعالى يدعى بكل لسان بأسمائه فيجيب ويحلف بها فيلزم وينشد فيجازي، ويوصف فيعرف، ثم قالوا: ليس ذات الرسول بحجة، وقالوا: ما هو بعدما مات بمبلغ فيلزم به الحجة، فسقط من أقاويلهم ثلاثة أشياء: أنه ليس في السماء رب، ولا في الروضة رسول ولا في الأرض كتاب، كما سمعت يحيى بن عمار يحكم به عليهم، وإن كانوا موهوها ووروا عنها واستوحشوا من تصريحها، فإن حقائقها لازمة لهم ; وأبطلوا التقليد، فكفروا آباءهم وأمهاتهم، وعوام المسلمين، وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم، فكفروا السلف وسموا الإثبات تشبيها، فعابوا القرآن وضللوا رسول الله، فلا يكاد يرى منهم رجلا ورعا، ولا للشريعة معظما ولا للقرآن محترما ولا للحديث موقرا، سلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع، واستفضلوا الرسول فانظر أنت إلى أحدهم إذ لا هو طالب أثره ولا متبع أخباره ولا مناضل عن سنته ولا هو راغب في أسوته يتلقب بمرتبة العلم وما عرف حديثا واحدا، تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلا من العلم، لا تنقر لهم عن بطانة إلا خانتك، ولا عن عقيدة إلا أرابتك، أليسوا ظلمة الهوى وسلبوا هيبة الهدى، فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب وقد شاع بين المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي، قال: وقد سمعت محمد بن زيد العمري النسابة أخبرنا المعافي سمعت أبا الفضل الحارثي القاضي بسرخس يقول سمعت زاهر بن أحمد يقول: أشهد لمات أبو الحسن الأشعري متحيرا لمسألة تكافؤ الأدلة، فلا هدى الله أناط مخاريقه بمذهب الإمام المطلبي رحمه الله، وكان من أبر خلق الله قلبا وأصوبهم صمتا وأهداهم هديا وأعمقهم قلبا وأقلهم تعمقا وأقربهم للدين وأبعدهم من التنطع وأنصحهم لخلق الله جزاه الله خيرا، قال: ورأيت منهم قوما يجتهدون في قراءة القرآن وتحفظ حروفه والإكثار من ختمه، ثم اعتقادهم فيه ما قد بيناه اجتهاد روغان كالخوارج، وروى بإسناده عن حرشة بن الحر عن حذيفة قال: إنا آمنا ولم نقرأ القرآن وسيجيء قوم يقرءون القرآن ولا يؤمنون، قال وقال ابن عمر: كنا نؤتى الإيمان قبل القرآن، وروى بإسناده عن ابن عمر قال: لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وفي لفظ: إنا كنا صدور هذه الأمة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله وصالحيهم ما يقيم إلا سورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلا عليهم ورزقوا علما به وعملا، وإن آخر هذه الأمة يخف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون منه شيئا، أو قال لا يسلمون منه الشيء، قال الحافظ أبو القاسم اللالكائي في كتابه المشهور في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لما ذكر عقوبات الأئمة لأهل البدع، قال: واستتاب أمير المؤمنين القادر بالله، حرس الله مهجته وأمد بالتوفيق أموره ووفقه من القول والعمل لما يرضى مليكته فقهاء المعتزلة الحنفية في سنة ثمان وأربعمائة فأظهروا الرجوع وتبروا من الاعتزال، ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرقصة والمقالات المخالفة للإسلام والسنة وأخذ خطوطهم بذلك، وأنهم مهما خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به، وامتثل يمين الدولة وأمين الملة أبو القاسم محمود يعني ابن سبكتكين، أعز الله نصره أمر أمير المؤمنين القادر بالله واستن بسننه في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر باللعن عليهم على منابر المسلمين، وإبعاد كل طائفة من أهل البدع، وطردهم عن ديارهم، وصار ذلك في الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وجرى ذلك على يد الحاجب أبي الحسن علي بن عبد الصمد في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة عمم الله ذلك وثبته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، قلت: وقد ذكر شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب ذم الكلام وأهله في الطبقة الثامنة، قال: وفيها نجحت الأشعرية، ثم ذكر الطبقة التاسعة، وذكر فيها كلام من ذكره فيهم، ثم قال: قرأت كتاب محمود الأمير بحث فيه على كشف أستار هذه الطائفة والإفصاح بعيبهم ولعنهم حتى كان قد قال فيه: أنا ألعن من لا يلعنهم فطاروا لله في الآفاق للحامدين كل مطار، وساروا في المادحين كل مسار، لا ترى عاقلا إلا وهو ينسبه إلى متانة الدين وصلابته، ويصفه بشهامة الرأي ونجابته فما ظنك بدين يخفى فيه ظلم العيوب وتتجلى عنه بهم القلوب، ودين يناجي به أصحابه، وتبرى منه أربابه، وما خفي عليكم أن القرآن مصرح به في الكتاتيب، ويجهر به في المحاريب، وحديث المصطفى يقرأ في الجوامع، ويستمع في المجامع وتشد إليه الرحال، ويتبع في البراري، والفقهاء في القلانس يفصحون في المجالس، وإن الكلام في الخفايا يرسل به الزوايا، قد ألبس أهله الذلة واستعر بهم ظلمه يرمون بالألحاظ، ويخرجون من الحفاظ، يسب بهم أولادهم، وتبرأ منهم أوداؤهم يلعنهم المسلمون وهم عند المسلمين يتلاعنون، ثم إنه جرى بعد ذلك في خلافة القائم في مملكة السلاجقة ظفرلنك وذويه لعن المبتدعة أيضا، وأنه أدخل فيهم الأشعرية لقصد التشفي والتسلي فإنه ذكر رسالة أبي بكر البيهقي إلى الوزير في استدراك ذلك، قال فيها: " ثم إن السلطان - أعز الله نصره وصرف همته العالية إلى نصرة دين الله وقمع أعداء الله - بعد ما تقرر للكافة حسن اعتقاده بتقرير خطباء أهل مملكته على لعن من استوجب اللعن من أهل البدع ببدعته، وأيس أهل الزيغ عن زيغه عن الحق وميله عن القصد، فألقوا في سمعه ما فيه مساء أهل السنة والجماعة كافة ومصيبتهم عامة من الحنفية والمالكية والشافعية الذين لا يذهبون في التعطيل مذهب المعتزلة ولا يسلكون في التشبيه طرق المجسمة في مشارق الأرض ومغاربها ليلبسوا بالأسوة معهم في هذه المساءة عما يسوءهم من اللعن والقمع في هذه الدولة المنصورة " وذكر تمام الرسالة في بيان أنهم من أهل السنة ومساءلته المنع من إدخالهم في اللعنة، قال أبو القاسم بن عساكر: وإنما كان انتشار ما ذكره أبو بكر البيهقي من المحنة، وإشعار ما أشار بإطفائه في رسالته من الفتنة مما تقدم به من سب حزب أبي الحسن الأشعري في دولة السلطان ظفرلنك ووزيره أبي نصر منصور بن محمد الكندري، وكان السلطان حنفيا سنيا، وكان وزيره معتزليا رافضيا، فلما أمر السلطان بلعن المبتدعة على المنابر في الجمع، قرن الكندري للتسلي والتشفي اسم الأشعرية بأسماء أرباب البدع، وامتحن الأئمة الأماثل وقصد الصدور الأفاضل، وعزل أبا عثمان الصابوني عن الخطابة بنيسابور، وفوضها إلى بعض الحنفية، وخرج الأستاذ أبو القاسم والإمام أبو المعالي الجويني عن البلد، فلم يكن إلا يسيرا حتى مات ذلك السلطان وتولى ابنه البارسلان واستوزر الوزير الكامل أبا علي الحسن بن علي بن إسحاق فأعز أهل السنة وقمع أهل النفاق وأمر بإسقاط ذكرهم من السب، وإفراد من عداهم باللعن والسب، واسترجع من خرج منهم إلى وطنه، واستقدمه مكرما بعد بعده وظعنه، وذكر قصة أبي القاسم القشيري التي سماها " شكاية أهل السنة "، بحكاية ما نالهم من المحنة "، قال فيها: ومما ظهر بنيسابور في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمائة ما دعا أهل الدين إلى سوء ضر أضرهم وكشف قناع صبرهم، إلى أن قال: ذلك بما أحدث من لعن إمام الدين وسراج قدم ذوي اليقين محيي السنة وقامع البدعة ناصر الحق وناصح الخلق أبي الحسن الأشعري، قال فيها: ولما من الله الكريم على أهل الإسلام بزمام الملك المعظم المحكم بالقوة السماوية في رقاب الأمم الملك الأجل شاهنشاه يمين خليفة الله وغياث عباد الله ظفرلنك أبي طالب محمد بن ميكائيل وقام بإحياء السنة والمناضلة عن الملة حتى لم يبق من أصناف المبتدعة إلا سل لاستئصالهم سيفا عضبا وإذاقتهم ذلا وخسفا، وعقب لآرائهم نسفا، حرجت صدور أهل البدع عن تحمل هذه النقم وضاق صبرهم عن مقاساة هذا الألم، وغموا بلعن أنفسهم على رءوس الأشهاد بألسنتهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت بانفرادهم بالوقوع في مهواة محبتهم فسولت لهم أنفسهم أمرا فظنوا أنهم بنوع تلبيس أو ضرب تدليس يجدون لعسرهم يسرا فسعوا إلى عالي مجلس السلطان بنوع نميمة، ونسبوا الأشعري إلى مذاهب ذميمة، وحكوا عنه مقالات لا يوجد في كتبه منها حرف ولم نر في المقالات المصنفة للمتكلمين الموافقين والمخالفين من وقت الأوائل إلى زماننا هذا لشيء منها حكاية ولا وصفا، بل كل ذلك تصوير تزوير وبهتان بغير تقدير، وما نقموا من الأشعري إلا أنه قال بإثبات القدر لله خيره وشره، نفعه وضره، وإثبات صفات الجلال من قدرته وعلمه وإرادته وحياته وبقائه وسمعه وبصره وكلامه ووجهه ويده وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه تعالى موجود تجوز رؤيته، وأن إرادته نافذة في مراداته، وما لا يخفى من مسائل الأصول التي تخالف طريقة المعتزلة والجهمية، وذكر تمام الكلام في المسائل التي نسبت إليه، وهو كلام طويل ليس هذا موضعه، وإنما الغرض التنبيه على سبب لعنهم على ما نقله أصحابه المعظمون له، وأما بغداد فلم تجر فيها لعنة أحد على المنابر، بل كانت الأشعرية منتسبة إلى الإمام أحمد وسائر أئمة المساجد كما ذكره الأشعري في كتاب الإبانة " وهذا هو الذي اعتمد عليه الحافظ ابن عساكر في وصف اعتقاد الأشعري، قال بعد أن ذكر ما ذكره من وصف من وصف من العلماء: والأشعري بالرد على البدع والانتصار للسنة وما يشبه ذلك، فإذا كان أبو الحسن رحمه الله ذكر عنه من حسن الاعتقاد مستصوب المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد، فلا بد أن يحكي عن معتقده على وجه الأمانة، ويجتنب أن يزيد فيه أو ينقص منه تركا للخيانة، ليعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما ذكر، في أول كتابه الذي سماه الإبانة "، فإنه قال: الحمد لله الأحد الواحد العزيز الماجد، وساق الخطبة إلى أن قال: أما بعد، فإن كثيرا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا ولا أوضح به برهانا، ولا نقلوه عن رسول الله ولا عن السلف المتقدمين، فخالفوا رواية الصحابة عن النبي في رؤية الله بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفة، وتواترت بها الآثار وتتابعت بها الأخبار، وأنكروا شفاعة رسول الله للمؤمنين، وردوا الرواية في ذلك عن السلف المتقدمين، وجحدوا عذاب القبر وأن الكفار في قبورهم يعذبون، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون، ودانوا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا: { إن هذا إلا قول البشر }، فزعموا أن القرآن كقول البشر ; وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر نظيرا لقول المجوس الذين يثبتون خالقين: أحدهما يخلق الخير، والآخر يخلق الشر، وزعمت القدرية أن الله يخلق الخير وأن الشيطان يخلق الشر، وزعموا أن الله شاء ما لا يكون خلافا لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون، وردا لقول الله: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله }، فأخبر أنا لا نشاء شيئا، إلا وقد شاء أن نشاءه، ولقوله: { ولو شاء الله ما اقتتلوا }، ولقوله: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها }، ولقوله تعالى: { فعال لما يريد }، ولقوله مخبرا عن شعيب أنه قال: { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } ( )، ولهذا سماهم رسول الله مجوس هذه الأمة، لأنهم دانوا بديانة المجوس، وضاهوا قولهم، وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس، وأنه يكون من الشر ما لا يشاؤه الله كما قالت المجوس ذلك ; وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم ردا لقول الله: { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله }، وانحرافا عن القرآن وعما أجمع المسلمون عليه، وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، وأثبتوا لأنفسهم غنى عن الله ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه، كما أثبتت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله عز وجل، فكانوا مجوس هذه الأمة إذ دانوا بديانة المجوس وتمسكوا بأقوالهم ومالوا إلى أضاليلهم، وقنطوا الناس من رحمة الله وآيسوهم من روحه، وحكموا على العصاة بالنار والخلود خلافا لقول الله: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وزعموا أن من دخل النار لا يخرج منها خلافا لما جاءت الرواية عن رسول الله: { إن الله يخرج قوما بعد ما امتحشوا فيها وصاروا حمما } ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله: { لما خلقت بيدي } وأنكروا أن يكون لله عينان مع قوله { تجري بأعيننا }، وقوله: { ولتصنع على عيني }، ونفوا ما روي عن رسول الله من قوله: { إن الله ينزل إلى سماء الدنيا }، وأنا ذاكر ذلك إن شاء الله بابا بابا، وبه المعونة ومنه التوفيق والتسديد . فصل: وأما قوله: { يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا }، وفي رواية: { وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم }، فالمغفرة العامة لجميع الذنوب نوعان، أحدهما: المغفرة لمن تاب، كما في قوله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }، إلى قوله: { ثم لا تنصرون }، فهذا السياق مع سبب نزول الآية يبين أن المعنى لا ييأس مذنب من مغفرة الله ولو كانت ذنوبه ما كانت، فإن الله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب، وقد دخل في هذا العموم الشرك وغيره من الذنوب، فإن الله تعالى يغفر ذلك لمن تاب منه، قال تعالى: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } إلى قوله: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم }، وقال في الآية الأخرى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين }، وقال: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة }، إلى قوله: { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم }، وهذا القول الجامع بالمغفرة لكل ذنب للتائب منه، كما دل عليه القرآن والحديث، هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب، كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنا للحديث الإسرائيلي الذي فيه: " فكيف من أضللت "، وهذا غلط، فإن الله قد بين في كتابه وسنة رسوله أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع، وقد قال تعالى: { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق }، قال الحسن البصري: " انظروا إلى هذا الكرم عذبوا أولياءه وفتنوهم ثم وهو يدعوهم إلى التوبة " وكذلك توبة القاتل ونحوه، وحديث أبي سعيد المتفق عليه، في الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، يدل على قبول توبته، وليس في الكتاب والسنة، ما ينافي ذلك، ولا نصوص الوعيد فيه وفي غيره من الكبائر بمنافية لنصوص قول التوبة، فليست آية الفرقان بمنسوخة بآية النساء إذ لا منافاة بينهما، فإنه قد علم يقينا أن كل ذنب فيه وعيد، فإن لحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة، إذ نصوص التوبة مبينة لتلك النصوص، كالوعيد في الشرك، وأكل الربا وأكل مال اليتيم والسحر، وغير ذلك من الذنوب، ومن قال من العلماء توبته غير مقبولة، فحقيقة قوله التي تلائم أصول الشريعة أن يراد بذلك أن التوبة المجردة تسقط حق الله من العقاب، وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة، وهذا حق، ولا فرق في ذلك بين القاتل وسائر الظالمين، فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فلا بد له من العوض في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات حتى إذا استوفى المظلومون حقوقهم لم يبق مفلسا، ومع هذا فإذا شاء الله أن يعوض المظلوم من عنده فلا راد لفضله، كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، ولهذا في حديث القصاص الذي ركب فيه جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس شهرا حتى شافهه به، وقد رواه الإمام أحمد وغيره، واستشهد به البخاري في صحيحه، وهو من جنس حديث الترمذي، صحاحه أو حسانه قال فيه: { إذا كان يوم القيامة فإن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار قبله مظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة حتى أقصه منه }، فبين في الحديث العدل والقصاص بين أهل الجنة وأهل النار، وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد: { أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة }، وقد قال سبحانه لما قال: { ولا يغتب بعضكم بعضا }، والاغتياب من ظلم الأعراض، قال: { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم }، فقد نبههم على التوبة من الاغتياب وهو من الظلم، وفي الحديث الصحيح: { من كان عنده لأخيه مظلمة في دم أو مال أو عرض فليأته فليستحل منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار إلا الحسنات والسيئات فإن كان له حسنات وإلا أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم يلقى في النار } أو كما قال، وهذا فيما علمه المظلوم من العوض، فأما إذا اغتابه أو قذفه ولم يعلم بذلك، فقد قيل: من شرط توبته إعلامه، وقيل: لا يشترط ذلك، وهذا قول الأكثرين، وهما روايتان عن أحمد، لكن قوله مثل هذا أن يفعل مع المظلوم حسنات، كالدعاء له، والاستغفار وعمل صالح يهدي إليه يقوم مقام اغتيابه وقذفه، قال الحسن البصري: " كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته "، وأما الذنوب التي يطلق الفقهاء فيها نفي قبول التوبة، مثل قول أكثرهم: لا تقبل توبة الزنديق وهو المنافق، وقولهم: إذا تاب المحارب قبل القدرة عليه تسقط عنه حدود الله، وكذلك قول كثير منهم أو أكثرهم في سائر الجرائم، كما هو أحد قولي الشافعي وأصح الروايتين عن أحمد، وقولهم في هؤلاء إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام لم تقبل توبتهم، فهذا إنما يريدون به رفع العقوبة المشروعة عنهم، أي لا تقبل توبتهم بحيث يخلى بلا عقوبة، بل يعاقب، إما لأن توبته غير معلومة الصحة، بل يظن به الكذب فيها، وإما لأن رفع العقوبة بذلك يفضي إلى انتهاك المحارم وسد باب العقوبة على الجرائم، ولا يريدون بذلك أن من تاب من هؤلاء توبة صحيحة فإن الله لا يقبل توبته في الباطن، إذ ليس هذا قول أحد من أئمة الفقهاء، بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } الآية، قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد ﷺ عن ذلك، فقالوا لي: " كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب "، وأما من تاب عند معاينة الموت، فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله، فلما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، قال الله: { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين }، وهذا استفهام إنكار، بين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها، فإن استفهام الإنكار إما بمعنى النفي إذا قابل الإخبار، وإما بمعنى الذم والنهي إذا قابل الإنشاء، وهذا من هذا، ومثله قوله تعالى: { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا }، الآية، بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده كفرعون وغيره، وفي الحديث: { إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر }، وروي: { ما لم يعاين }، وقد ثبت في الصحيحين، أنه ﷺ عرض على عمه التوحيد في مرضه الذي مات فيه، وقد عاد يهوديا كان يخدمه، فعرض عليه الإسلام فأسلم، فقال: { الحمد لله الذي أنقذه بي من النار ثم قال لأصحابه: آووا أخاكم }، ومما يبين أن المغفرة العامة في الزمر هي للتائبين، أنه قال في سورة النساء: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }، فقيد المغفرة بما دون الشرك، وعلقها على المشيئة، وهناك أطلق وعمم، فدل هذا التقييد والتعليق على أن هذا في حق غير التائب، ولهذا استدل أهل السنة بهذه الآية على جواز المغفرة لأهل الكبائر في الجملة خلافا لمن أوجب نفوذ الوعيد بهم من الخوارج والمعتزلة، وإن كان المخالفون لهم قد أسرف فريق منهم من المرجئة حتى توقفوا في لحوق الوعيد بأحد من أهل القبلة، كما يذكر عن غلاتهم أنهم نفوه مطلقا، ودين الله وسط بين الغالي فيه، والجافي عنه، نصوص الكتاب والسنة مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر من يعذب، وأنه لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان .

=================

 19


-كتاب الملاهي مسألة: عن اللعب بالشطرنج، أحرام هو أم مكروه أم مباح ؟ فإن قلتم حرام، فما الدليل على تحريمه، وإن قلتم مكروه فما الدليل على كراهته، أو يباح فما الدليل على إباحته ؟، الجواب: الحمد لله رب العالمين، اللعب بها منه ما هو محرم متفق على تحريمه ومنه ما هو محرم عند الجمهور، ومكروه عند بعضهم، وليس من اللعب بها ما هو مباح مستوي الطرفين عند أحد من أئمة المسلمين، فإن اشتمل اللعب بها على العوض كان حراما بالاتفاق، قال أبو عمر بن عبد البر إمام المغرب: أجمع العلماء على أن اللعب بها على العوض قمار لا يجوز، وكذلك لو اشتمل اللعب بها على ترك واجب، أو فعل محرم مثل أن يتضمن تأخير الصلاة عن وقتها، أو ترك ما يجب فيها من أعمالها الواجبة باطنا أو ظاهرا، فإنها حينئذ تكون حراما باتفاق العلماء، وقد ثبت في الصحيح: عن { النبي ﷺ أنه قال: تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا صارت بين قرني شيطان قام، فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا }، فجعل النبي ﷺ هذه الصلاة صلاة المنافقين، وقد ذم الله صلاتهم بقوله: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }، وقال تعالى: { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون }، وقد فسر السلف السهو عنها بتأخيرها عن وقتها، وبترك ما يؤمر به فيه، كما بين النبي ﷺ أن صلاة المنافق تشتمل على التأخير والتطفيف، قال سلمان الفارسي: إن الصلاة مكيال، فمن وفى وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين، وكذلك فسروا قوله: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة }، قال: إضاعتها تأخيرها عن وقتها وإضاعة حقوقها، كما جاء في الحديث: { إن العبد إذا أكمل الصلاة بطهورها وقراءتها وخشوعها صعدت ولها برهان كبرهان الشمس، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا لم يكمل طهورها وقراءتها وخشوعها فإنها تلف كما يلف الثوب، ويضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني }، والعبد وإن أقام صورة الصلاة الظاهرة فلا ثواب إلا على قدر ما حضر قلبه فيه منها، كما جاء في السنن لأبي داود، وغيره: عن { النبي ﷺ أنه قال : إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها }، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، وإذا غلب عليها الوسواس ففي براءة الذمة منها ووجوب الإعادة قولان معروفان للعلماء: أحدهما: لا تبرأ الذمة، وهو قول أبي عبد الله بن حامد، وأبي حامد الغزالي وغيرهما "، والمقصود أن الشطرنج متى شغل عما يجب باطنا أو ظاهرا حرام باتفاق العلماء وشغله عن إكمال الواجبات أوضح من أن يحتاج إلى بسط، وكذلك لو شغل عن واجب من غير الصلاة من مصلحة النفس أو الأهل، أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو صلة الرحم أو بر الوالدين، أو ما يجب فعله من نظر في ولاية أو إمامة أو غير ذلك من الأمور، وقل عبد اشتغل بها إلا شغلته عن واجب، فينبغي أن يعرف أن التحريم في مثل هذه الصورة متفق عليه، وكذلك إذا اشتملت على محرم أو استلزمت محرما، فإنها تحرم بالاتفاق، مثل اشتمالها على الكذب واليمين الفاجرة، أو الخيانة التي يسمونها المغاضاة أو على الظلم، أو الإعانة عليه، فإن ذلك حرام باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك في المسابقة والمناضلة، فكيف إذا كان في الشطرنج، والنرد، ونحو ذلك، وكذلك إذا قدر أنها مستلزمة فسادا غير ذلك مثل اجتماع على مقدمات الفواحش، أو التعاون على العدوان، أو غير ذلك، أو مثل أن يفضي اللعب بها إلى الكثرة والظهور الذي يشتمل معه على ترك واجب أو فعل محرم فهذه الصور وأمثالها مما يتفق المسلمون على تحريمها فيها، وإذا قدر خلوها عن ذلك كله فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك، وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ شبههم بالعاكفين على الأصنام، كما في المسند عن { النبي أنه قال: شارب الخمر كعابد وثن }، والخمر والميسر قرينان في كتاب الله تعالى، وكذلك النهي عنها معروف عن ابن عمر وغيره من الصحابة، والمنقول عن أبي حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وأصحابه تحريمها، وأما الشافعي فإنه قال: أكره اللعب بها للخبر، واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد، وهكذا نقل عنه غير هذا اللفظ مما مضمونه أنه يكرهها ويراها دون النرد ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم فإنه قال للخبر، ولفظ الخبر الذي رواه هو عن مالك { من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله }، فإذا كره الشطرنج وإن كانت أخف من النرد وقد نقل عنه أنه توقف في التحريم وقال لا يتبين لي أنها حرام، وما بلغنا أن أحدا نقل عنه لفظا يقتضي نفي التحريم، والأئمة الذين لم تختلف أصحابهم في تحريمها أكثر ألفاظهم الكراهة، قال ابن عبد البر: أجمع مالك وأصحابه على أنه لا يجوز اللعب بالنرد، ولا بالشطرنج، وقالوا: لا تجوز شهادة المدمن المواظب على لعب الشطرنج، وقال يحيى: سمعت مالكا يقول: لا خير في الشطرنج وغيرها، وسمعته يكره اللعب بها وبغيرها من الباطل، ويتلو هذه الآية { فماذا بعد الحق إلا الضلال }، وقال أبو حنيفة: أكره اللعب بالشطرنج والنرد، فالأربعة تحرم كل اللهو، وقد تنازع الجمهور في مسألتين: إحداهما: هل يسلم على اللاعب بالشطرنج، فمنصوص أبي حنيفة، وأحمد والمعافى بن عمران، وغيرهم: أنه لا يسلم عليه، ومذهب مالك، وأبي يوسف، ومحمد: أنه يسلم عليه، ومع هذا أن مذهب مالك أن الشطرنج شر من النرد، ومذهب أحمد: أن النرد شر من الشطرنج كما ذكره الشافعي .

والتحقيق في ذلك أنهما إذا اشتملا على عوض، أو خلوا عن عوض فالشطرنج شر من النرد ; لأن مفسدة النرد فيها وزيادة مثل صد القلب عن ذكر الله، وعن الصلاة، وغير ذلك، ولهذا يقال: إن الشطرنج على مذهب القدر والنرد على مذهب الجبر، واشتغال القلب بالتفكر في الشطرنج أكثر، وأما إذا اشتمل النرد على عوض فالنرد شر وهذا هو السبب في كون أحمد والشافعي وغيرهما جعلوا النرد شرا لاستشعارهم أن العوض يكون في النرد دون الشطرنج، ومن هنا تبين الشبهة التي وقعت في هذا الباب، فإن الله تعالى حرم الميسر في كتابه، واتفق المسلمون على تحريم الميسر، واتفقوا على أن المغالبات المشتملة على القمار من الميسر، سواء كان بالشطرنج، أو بالنرد، أو بالجوز، أو بالكعاب، أو البيض، قاله غير واحد من التابعين كعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز، فالذين لم يحرموا الشطرنج كطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم اعتقدوا أن لفظ الميسر لا يدخل فيه إلا ما كان قمارا، فيحرم لما فيه من أكل المال بالباطل، كما يحرم مثل ذلك في المسابقة، والمناضلة لو أخرج كل منهما السبق ولم يكن بينهما محلل حرموا ذلك لأنه قمار، وفي السنن: عن { النبي ﷺ أنه قال: من أدخل فرسا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار }، والنبي ﷺ حرم بيوع الغرر، لأنها من نوع القمار، مثل: أن يشتري العبد الآبق، والبعير الشارد، فإن وجده كان قد قمر البائع وإن لم يجده كان البائع قد قمره، فلما اعتقدوا أن هذه المغالبات إنما حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل لم يحرموها إذا خلت عن العوض، ولهذا طرد هذا طائفة من أصحاب الشافعي المتقدمين في النرد فلم يحرموها إلا مع العوض، لكن المنصوص عن الشافعي وظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا، وإن لم يكن فيها عوض، ولهذا قال: أكرهها للخبر، فبين أن مستنده في ذلك الخبر لا القياس عنده، وهذا مما احتج به الجمهور عليه، فإنه إذا حرم النرد ولا عوض عليه فيها، فالشطرنج إن لم يكن مثلها فليس دونها، وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها، فإن ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن إيقاع العداوة والبغضاء هو في الشطرنج أكثر بلا ريب، وهي تفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس، فتصد عقولهم وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة، وقليلها يدعو إلى كثيرها فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج، مثل تحريم الفطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة، وكما أن ذلك القول في غاية التناقض من جهة الاعتبار، والقياس، والعدل، فهكذا القول في الشطرنج والنرد، وتحريم النرد ثابت بالنص، كما في السنن عن أبي موسى عن { النبي ﷺ أنه قال: من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله } وقد رواه مالك في الموطإ، وروايته عن عائشة رضي الله عنها أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا لها عندهم نرد فأرسلت إليهم إن لم تخرجوها لأخرجكم من داري، وأنكرت ذلك عليهم، ومالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا وجد من أهله من يلعب بالنرد ضربه وكسرها، وفي بعض ألفاظ الحديث: عن أبي موسى قال: { سمعت رسول الله ﷺ وذكرت عنده فقال: عصى الله ورسوله من ضرب بكعابها يلعب بها } فعلق المعصية بمجرد اللعب بها ولم يشترط عوضا بل فسر ذلك بأنه الضرب بكعابها .

وقد روى مسلم في صحيحه: عن أبي بريدة رضي الله عنه، عن { النبي ﷺ أنه قال: من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه }، وفي لفظ آخر: { فليشقص الخنازير } فجعل النبي ﷺ في هذا الحديث الصحيح اللاعب بها كالغامس يده في لحم الخنزير ودمه، والذي يشقص الخنازير، يقصبها ويقطع لحمها كما يصنع القصاب، وهذا التشبيه متناول اللعب بها باليد، سواء وجد أكل أو لم يوجد، كما أن غمس اليد في لحم الخنزير ودمه وتشقيص لحمه متناول لمن فعل ذلك سواء كان معه أكل بالفم، أو لم يكن فكما أن ذلك ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل، وهذا يتقرر بوجوه يتبين بها تحريم النرد والشطرنج ونحوهما: أحدها: أن يقال: النهي عن هذه الأمور ليس مختصا بصورة المقامرة فقط، فإنه لو بذل العوض أحد المتلاعبين أو أجنبي لكان من صور الجعالة، ومع هذا فقد نهي عن ذلك إلا فيما ينفع: كالمسابقة، والمناضلة، كما في الحديث الأسبق: { إلا في خف أو حافر أو نصل } لأن بذل المال فيما لا ينفع في الدين، ولا في الدنيا منهي عنه وإن لم يكن قمارا، وأكل المال بالباطل حرام بنص القرآن وهذه الملاعب من الباطل لقول النبي ﷺ: { كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق }، قوله: " من الباطل " أي مما لا ينفع، فإن الباطل ضد الحق: والحق يراد به الحق الموجود اعتقاده والخبر عنه، ويراد به الحق المقصود الذي ينبغي أن يقصد، وهو الأمر النافع، فما ليس من هذا فهو باطل ليس بنافع، وقد يرخص في بعض ذلك إذا لم يكن فيه مضرة راجحة لكن لا يؤكل به المال، ولهذا جاز السباق بالأقدام، والمصارعة، وغير ذلك، وإن نهي عن أكل المال به، وكذلك رخص في الضرب بالدف في الأفراح، وإن نهي عن أكل المال به، فتبين أن ما نهي عنه من ذلك ليس مخصوصا بالمقامرة، فلا يجوز قصر النهي على ذلك، ولو كان النهي عن النرد ونحوه لمجرد المقامرة لكان النرد مثل سباق الخيل، ومثل الرمي بالنشاب، ونحو ذلك، فإن المقامرة إذا دخلت في هذا حرموه، مع أنه عمل صالح، واجب أو مستحب، كما في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: { ارموا واركبوا، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا }، { ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا }، وكان هو وخلفاؤه يسابقون بين الخيل، وقرأ على المنبر: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الآية ثم قال: { ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي }، فكيف يشبه ما أمر الله به ورسوله، واتفق المسلمون على الأمر به، بما نهى الله عنه ورسوله وأصحابه من بعده، وإذا لم يجعل الموجب للتحريم إلا مجرد المقامرة كان النرد، والشطرنج، كالمناضلة، الوجه الثاني: أن يقال هب أن علة التحريم في الأصل هي المقامرة، لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم فقال تعالى: { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون }، فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها، ثم خص الخمر والميسر بأنه { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة }، ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: { فهل أنتم منتهون } كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله : ( فاجتنبوه لعلكم تفلحون }، ولهذا يقال إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه، ومعلوم أن الخمر لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه، فلا يجوز اقتناؤها ولا شرب قليلها، بل كان النبي ﷺ قد أمر بإراقتها، وشق ظروفها، وكسر دنانها، ونهى عن تخليلها، وإن كانت ليتامى مع أنها اشتريت لهم قبل التحريم، ولهذا كان الصواب الذي هو المنصوص عن أحمد، وابن المبارك، وغيرهما أنه ليس في الخمر شيء محترم، لا خمرة الخلال ولا غيرها، وأنه من اتخذ خلا فعليه أن يفسده قبل أن يتخمر بأن يصب في العصير خلا وغير ذلك مما يمنع تخميره، بل كان { النبي ﷺ نهى عن الخليطين } لئلا يقوى أحدهما على صاحبه فيفضي إلى أن يشرب الخمر المسكر من لا يدري، ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي يدب السكر فيها ولا يدرى ما به: كالدباء والحنتم والظرف المزفت والمنقور من الخشب وأمر بالانتباذ في السقاء الموكئ لأن السكر ينظر، إذا كان في الشراب انشق الظرف، وإن كان في نسخ ذلك أو بعضه نزاع ليس هذا موضع ذكره، فالمقصود سد الذرائع المفضية إلى ذلك بوجه من الوجوه، وكذلك كان يشرب النبيذ ثلاثا، وبعد الثلاث يسقيه أو يريقه ; لأن الثلاث مظنة سكره، بل كان أمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة فهذا كله، لأن النفوس لما كانت تشتهي ذلك وفي اقتنائها ولو للتخليل ما قد يفضي إلى شربها، كما أن شرب قليلها يدعو إلى كثيرها فنهي عن ذلك، فهذا الميسر المقرون بالخمر إذا قدر أن علة تحريمه أكل المال بالباطل، وما في ذلك من حصول المفسدة وترك المنفعة، ومن المعلوم أن هذه الملاعب تشتهيها النفوس، وإذا قويت الرغبة فيها أو دخل فيها العوض كما جرت به العادة، وكان من حكم الشارع أن ينهى عما يدعو إلى ذلك، لو لم يكن فيه مصلحة راجحة، وهذا بخلاف المغالبات التي قد تنفع مثل: المسابقة والمصارعة، ونحو ذلك، فإن تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الأبدان، فلم ينه عنها لأجل ذلك ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها .

"والجهاد " هو بذل الوسع وهو القدرة في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلا على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبا إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة، فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير الله مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم لله إذا كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل، ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبا لله، كما قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله }، نعم، قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقا لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة والطريق غير موصل، كما يفعله المتهورون في طلب المال، والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضررا، ولا تحصل لهم مطلوبا، وإنما المقصود الطرق التي يسلكها العقل لحصول مطلوبه، وإذا تبين هذا فكلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من " وجهين ": من جهة العبادة وهي العلة الغائبة ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا يفلح، ولا يلتذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائما مفتقر إلى حقيقة { إياك نعبد وإياك نستعين } فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه يريده، ولم يحصل له عبادته لله بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئا لذاته إلا الله، فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة " لا إله إلا الله " ولا حقق التوحيد، والعبودية، والمحبة، وكان فيه من النقص والعيب، بل من الألم، والحسرة، والعذاب، بحسب ذلك، ولو سعى في هذا المطلوب ولم يكن مستعينا بالله، متوكلا عليه، مفتقرا إليه في حصوله لم يحصل له، فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود، ومن حيث هو المسئول المستعان به المتوكل عليه، فهو إلهه لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه، ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين " فمتى كان يحب غير الله لذاته أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه كان عبدا لما أحبه، وعبدا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه، وإذا لم يحب لذاته إلا الله، وكلما أحب سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئا إلا الله وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها كان مشاهدا أن الله هو الذي خلقها وقدرها وأن كل ما في السموات والأرض فالله ربه، ومليكه، وخالقه، وهو مفتقر إليه، كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك، والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصي طرفيها إلا الله، فأكمل الخلق، وأفضلهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى الله، وأقواهم، وأهداهم: أتمهم عبودية لله من هذا الوجه، وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ: { أن الجنة لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر كما أن النار لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان } فجعل الكبر مقابلا للإيمان، فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، كما ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: { يقول الله: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته } فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة ; ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار، ولهذا كان شعار الصلوات، والأذان، والأعياد هو: التكبير، وكان مستحبا في الأمكنة العالية كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفا أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يهرب الشيطان، قال تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }، وكل من استكبر من عبادة الله لا بد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: { أصدق الأسماء حارث وهمام } فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائما، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلها من دون الله: كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء، والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء، الذين يتخذهم أربابا، أو غير ذلك مما عبد من دون الله، وإذا كان عبدا لغير الله يكون مشركا، وكل مستكبر فهو مشرك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارا عن عبادة الله، وكان مشركا، قال تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب } إلى قوله: { وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } إلى قوله: { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار }، وقال تعالى: { وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين } وقال تعالى: { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم } وقال: { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين }، ومثل هذا في القرآن كثير، وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك }، بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارا عن عبادة الله كان أعظم إشراكا بالله ; لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركا بما استعبده من ذلك، ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئا إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك، والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال تعالى في النصارى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقال في اليهود: { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون }، وقال تعالى: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا }، ولما كان الكبر مستلزما للشرك، والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره الله - قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما } وقال: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } - كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، قال نوح: { فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال في حق إبراهيم: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } إلى قوله: { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }، وقال يوسف: { توفني مسلما وألحقني بالصالحين } وقال موسى: { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين، فقالوا على الله توكلنا } وقال تعالى: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وقالت بلقيس { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقال: { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأنا مسلمون } وقال { إن الدين عند الله الإسلام } وقال: { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه }، وقال تعالى: { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } فذكر إسلام الكائنات طوعا وكرها، لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون مدبرون، فهم مسلمون له طوعا وكرها، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين، ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب، مصنوع، مفطور، فقير، محتاج، معبد، مقهور، وهو الواحد القهار الخالق البارئ المصور، وهو وإن كان قد خلق ما خلق بأسباب، فهو خالق السبب والمقدر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه ويمانعه، وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه، قال تعالى: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } وقال تعالى عن الخليل: { يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا } إلى قوله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }، وفي الصحيحين: { عن ابن مسعود رضي الله عنه إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يلبس إيمانه بظلم، فقال: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: { إن الشرك لظلم عظيم } }، وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين حيث بعث وقد طبق الأرض دين المشركين، قال الله تعالى: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم، فلم يأمر الله سبحانه أن يكون الظالم إماما، وأعظم الظلم الشرك، وقال تعالى: { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين }، " والأمة " هو معلم الخير الذي يؤتم به، كما أن " القدوة " الذي يقتدى به، والله تعالى جعل في ذريته النبوة والكتاب، وإنما بعث الأنبياء بعده بملته قال تعالى: { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } وقال تعالى: { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين }، وقال تعالى: { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين } وقال تعالى: { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } - إلى قوله - { ونحن له مسلمون }، وقد ثبت في الصحيح: { عن النبي ﷺ أن إبراهيم خير البرية } فهو أفضل الأنبياء بعد النبي وهو خليل الله تعالى، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ من غير وجه أنه قال: { إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا } وقال: { لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله } - يعني نفسه - وقال { لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر }، وقال: { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك } وكل هذا في الصحيح، وفيه أنه قال: ذلك قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته. فإن في ذلك تحقيق تمام مخاللته لله التي أصلها محبة الله تعالى للعبد، ومحبة العبد لله خلافا للجهمية، وفي ذلك تحقيق توحيد الله، وأن لا يعبدوا إلا إياه، ورد على أشباه المشركين، وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر .

ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام: { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } فوصف نفسه ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره وهي صيغة خبر تضمنت السؤال، وهذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء، فقول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه: أنا جائع، أنا مريض، حسن أدب في السؤال، وإن كان في قوله: أطعمني وداوني ونحو ذلك مما هو بصيغة الطلب طلب جازم من المسئول، فذاك فيه إظهار حاله، وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال، وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب، وهذه الصيغة " صيغة الطلب والاستدعاء " إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك، فإنها تقال على وجه الأمر: إما لما في ذلك من حاجة الطالب، وإما لما فيه من نفع المطلوب، فأما إذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار وإظهار الحال، ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال، وهو أبلغ من جهة العلم والبيان، وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة، فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني، لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه ويسأله فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول، وتصريح به باللفظ، وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسئول، فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين، فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضي للسؤال والإجابة، ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال، فيتضمن السؤال والمقتضى له والإجابة { كقول النبي لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم }، أخرجاه في الصحيحين، فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان المقتضي للإجابة وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب، وكثير من الأدعية يتضمن بعد ذلك، كقول موسى عليه السلام: { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة، وقوله: { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } فيه وصف حال النفس والطلب، وقوله: { إني لما أنزلت إلي من خير فقير } فيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال، فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة، يبقى أن يقال فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب ؟، فيقال: لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي، فأصل الشر هو الذنب، والمقصود دفع الضر والاستغفار جاء بالقصد الثاني، فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه، ولم يذكر صيغة طلب المغفرة لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني ; بخلاف كشف الكرب فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول، إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني، والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر، فهذا مقدم في قصده وإرادته، وأبلغ ما ينال به رفع سببه فجاء بما يحصل مقصوده، وهذا يتبين بالكلام على قوله: { سبحانك } فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه، والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب، يقول: أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب ; بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي، قال تعالى: { وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } وقال تعالى: { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } وقال: { وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين } وقال آدم عليه السلام: { ربنا ظلمنا أنفسنا }، وكذلك قال النبي في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الاستفتاح { اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت }، وفي صحيح البخاري { سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة }، فالعبد عليه أن يعترف بعدل الله وإحسانه فإنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يعاقب أحدا إلا بذنبه، وهو يحسن إليهم فكل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل، فقوله: { لا إله إلا أنت } فيه إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد فإن " الإله " هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع ; والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل، وقوله: { سبحانك } يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم وغيره من النقائص ; فإن التسبيح وإن كان يقال: يتضمن نفي النقائص، وقد روي في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي ﷺ في { قول العبد: سبحان الله: إنها براءة الله من السوء } فالنفي لا يكون مدحا إلا إذا تضمن ثبوتا وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه، ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله، ولله الأسماء الحسنى، وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله، كقوله تعالى: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته وقوله: { وما مسنا من لغوب } يتضمن كمال قدرته، ونحو ذلك، فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء، ونفي النقص عنه يتضمن تعظيمه، ففي قوله: { سبحانك } تبرئته من الظلم، وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم، فإن الظالم إنما يظلم لحاجته إلى الظلم أو لجهله، والله غني عن كل شيء، عليم بكل شيء، وهو غني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه، وهذا كمال العظمة، وأيضا ففي هذا الدعاء التهليل والتسبيح فقوله: { لا إله إلا أنت } تهليل، وقوله: { سبحانك } تسبيح، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر }، والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له، والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له، وفي الصحيح { عن النبي ﷺ أنه سئل أي الكلام أفضل ؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده } وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم }، وفي القرآن: { فسبح بحمد ربك } وقالت الملائكة: { ونحن نسبح بحمدك }، وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد، والأخرى بالتعظيم، فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص المتضمن إثبات المحاسن والكمال، والحمد إنما يكون على المحاسن، وقرن بين الحمد والتعظيم كما قرن بين الجلال والإكرام، إذ ليس كل معظم محبوبا محمودا، ولا كل محبوب محمودا معظما، وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب المتضمن معنى الحمد، وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم، ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن، وفيها الذل الناشئ عن عظمته وكبريائه، ففيها إجلاله وإكرامه، وهو سبحانه المستحق للجلال والإكرام، فهو مستحق غاية الإجلال وغاية الإكرام، ومن الناس من يحسب أن " الجلال " هو الصفات السلبية " والإكرام " الصفات الثبوتية، كما ذكر ذلك الرازي ونحوه والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية، وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص، لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن يحب وما يستحق أن يعظم: كقوله: { إن الله هو الغني الحميد } وقول سليمان عليه السلام: { فإن ربي غني كريم } وكذلك قوله: { له الملك وله الحمد } فإن كثيرا ممن يكون له الملك والغنى لا يكون محمودا بل مذموما، إذ الحمد يتضمن الإخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة، فيتضمن إخبارا بمحاسن المحبوب محبة له، وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك، فالأول يهاب ويخاف ولا يحب، وهذا يحب ويحمد، ولا يهاب ولا يخاف، والكمال اجتماع الوصفين، كما ورد في الأثر { أن المؤمن رزق حلاوة ومهابة } وفي نعت النبي ﷺ { كان من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه }، فقرن التسبيح بالتحميد، وقرن التهليل بالتكبير ; كما في كلمات الأذان، ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الآخر إذا أفرد: فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم ; ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم الإلهية فإن الإلهية تتضمن كونه محبوبا ; بل تتضمن أنه لا يستحق كمال الحب إلا هو، والحمد هو الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق أن يحب فالإلهية تتضمن كمال الحمد ; ولهذا كان " الحمد لله " مفتاح الخطاب ; وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم " وسبحان الله " فيها إثبات عظمته كما قدمناه ; ولهذا قال: { { فسبح باسم ربك العظيم } وقد قال النبي ﷺ: اجعلوها في ركوعكم } رواه أهل السنن، وقال: { أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فقمن أن يستجاب لكم } رواه مسلم فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود والتسبيح يتضمن التعظيم، ففي " قوله " سبحان الله وبحمده " إثبات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده، وأما قوله: " لا إله إلا الله والله أكبر " ففي لا إله إلا الله [ إثبات ] محامده، فإنها كلها داخلة في إثبات إلهيته وفي قوله: " الله أكبر " إثبات عظمته فإن الكبرياء يتضمن العظمة ولكن الكبرياء أكمل، ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول: " الله أكبر " فإن ذلك أكمل من قول الله أعظم، كما ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: { يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما عذبته } فجعل العظمة كالإزار، والكبرياء كالرداء، ومعلوم أن الرداء أشرف، فلما كان التكبير أبلغ من التعظيم صرح بلفظه، وتضمن ذلك التعظيم، وفي قوله: سبحان الله، صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم، فصار كل من الكلمتين متضمنا معنى الكلمتين الأخريين من إذا أفردتا، وعند الاقتران تعطي كل كلمة خاصيتها، وهذا كما أن كل اسم من أسماء الله فإنه يستلزم معنى الآخر ; فإنه يدل على الذات، والذات تستلزم معنى الاسم الآخر، لكن هذا باللزوم، وأما دلالة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة، ودلالتها على أحدهما بالتضمن، فقول الداعي: { لا إله إلا أنت سبحانك } يتضمن معنى الكلمات الأربع اللاتي هن أفضل الكلام بعد القرآن، وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ففيها كمال المدح، وقوله: { إني كنت من الظالمين } فيه اعتراف بحقيقة حاله، وليس لأحد من العباد أن يبرئ نفسه عن هذا الوصف، لا سيما في مقام مناجاته لربه، وقد ثبت في الصحاح: عن النبي ﷺ أنه قال: { لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى }، وقال: { من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب } فمن ظن أنه خير من يونس بحيث يعلم أنه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب، ولهذا كان سادات الخلائق لا يفضلون أنفسهم على يونس في هذا المقام، بل يقولون: كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد .

-وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - عن قول النبي ﷺ: { دعوة أخي ذي النون: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }، ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته } ما معنى هذه الدعوة ؟ ولم كانت كاشفة للكرب ؟ وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها ؟ وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها، حتى يوجب كشف ضره ؟ وما مناسبة ذكره: { إني كنت من الظالمين } مع أن التوحيد يوجب كشف الضر ؟ وهل يكفيه اعترافه، أم لا بد من التوبة والعزم في المستقبل ؟ وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق والتعلق بهم ؟ وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين والتعلق بهم بالكلية، وتعلقه بالله تعالى ورجائه وانصرافه إليه بالكلية، وما السبب المعين على ذلك ؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين لفظ " الدعاء والدعوة " في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة، قال الله تعالى: { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين } وقال تعالى: { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } وقال تعالى: { ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو } وقال: { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } وقال: { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا } وقال تعالى: { له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه } وقال تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } وقال في آخر السورة: { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم }، قيل: لولا دعاؤكم إياه، وقيل: لولا دعاؤه إياكم، فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة، وإلى المفعول تارة، ولكن إضافته إلى الفاعل أقوى ; لأنه لا بد له من فاعل، فلهذا كان هذا أقوى القولين، أي ما يعبأ بكم لولا أنكم تدعونه فتعبدونه وتسألونه: { فقد كذبتم فسوف يكون لزاما } أي عذاب لازم للمكذبين، ولفظ " الصلاة في اللغة " أصله الدعاء، وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معنى الدعاء، وهو العبادة والمسألة، وقد فسر قوله تعالى: { ادعوني أستجب لكم }، بالوجهين، قيل: اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم، كما قال تعالى: { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي يستجيب لهم، وهو معروف في اللغة، يقال: استجابه واستجاب له كما قال الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب وقيل: سلوني أعطكم، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له } فذكر أولا لفظ الدعاء، ثم ذكر السؤال والاستغفار، والمستغفر سائل كما أن السائل داع ; لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير، وذكرهما جميعا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما فهو من باب عطف الخاص على العام، وقال تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }، وكل سائل راغب راهب، فهو عابد للمسئول، وكل عابد له فهو أيضا راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل عابد سائل وكل سائل عابد، فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما: فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال، والعابد الذي يريد وجه الله والنظر إليه هو أيضا راج خائف راغب راهب: يرغب في حصول مراده، ويرهب من فواته، قال تعالى: { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا } وقال تعالى: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا } ولا يتصور أن يخلو داع لله - دعاء عبادة أو دعاء مسألة - من الرغب والرهب من الخوف والطمع، وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة، فهذا قد يفسر مراده بأن المقربين يريدون وجه الله فيقصدون التلذذ بالنظر إليه، وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به، وهؤلاء يرجون حصول هذا المطلوب ويخافون حرمانه، فلم يخلو عن الخوف والرجاء لكن مرجوهم ومخوفهم بحسب مطلوبهم، ومن قال من هؤلاء: لم أعبدك شوقا إلى جنتك ولا خوفا من نارك، فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات، والنار اسم لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات، وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة، بل كل ما أعده الله لأوليائه فهو من الجنة، والنظر إليه هو من الجنة، ولهذا { كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته قال: إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال: حولها ندندن }، وقد أنكر على من قال هذا الكلام يعني أسألك لذة النظر إلى وجهك فريق من أهل الكلام، ظنوا أن الله لا يتلذذ بالنظر إليه، وأنه لا نعيم إلا بمخلوق، فغلط هؤلاء في معنى الجنة كما غلط أولئك، لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن يطلب، وهؤلاء أنكروا ذلك، وأما التألم بالنار فهو أمر ضروري، ومن قال: لو أدخلني النار لكنت راضيا، فهو عزم منه على الرضا، والعزائم قد تنفسخ عند وجود الحقائق ومثل هذا يقع في كلام طائفة مثل سمنون الذي قال: وليس لي في سواك حظ فكيف ما شئت فامتحني فابتلي بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب، قال تعالى: { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون }، وبعض من تكلم في علل المقامات جعل الحب والرضا والخوف والرجاء من مقامات العامة بناء على مشاهدة القدر، وأن من شهد القدر فشهد توحيد الأفعال حتى فني من لم يكن وبقي من لم يزل، يخرج عن هذه الأمور، وهذا كلام مستدرك حقيقة وشرعا، أما الحقيقة فإن الحي لا يتصور أن لا يكون حساسا محبا لما يلائمه مبغضا لما ينافره، ومن قال إن الحي يستوي عنده جميع المقدورات فهو أحد رجلين: إما أنه لا يتصور ما يقول بل هو جاهل، وإما أنه مكابر معاند ولو قدر أن الإنسان حصل له حال أزال عقله - سواء سمي اصطلاما أو محوا أو فناء أو غشيا أو ضعفا - فهذا لم يسقط إحساس نفسه بالكلية، بل له إحساس بما يلائمه وما ينافره، وإن سقط إحساسه ببعض الأشياء فإنه لم يسقط بجميعها، فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع والفناء فلا يشهد فرقا فإنه غالط، بل لا بد من الفرق فإنه أمر ضروري، لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقي في الفرق الطبعي، فيبقى متبعا لهواه لا مطيعا لمولاه، ولهذا لما وقعت " هذه المسألة " بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم " الفرق الثاني " وهو: أن يفرق بين المأمور والمحظور، وبين ما يحبه الله وما يكرهه مع شهوده للقدر الجامع، فيشهد الفرق في القدر الجامع، ومن لم يفرق بين المأمور والمحظور خرج عن دين الإسلام، وهؤلاء الذين يتكلمون في الجمع لا يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية وإن خرجوا عنه كانوا كفارا من شر الكفار، وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم، ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود، فلا يفرقون بين الخالق والمخلوق ; ولكن ليس كل هؤلاء ينتهون إلى هذا الإلحاد، بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون الله ورسوله تارة، ويعصون الله ورسوله تارة، كالعصاة من أهل القبلة، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا: أن لفظ " الدعوة والدعاء " يتناول هذا وهذا، قال الله تعالى: { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } وفي الحديث: { أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله } رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا، وقال النبي في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: { دعوة أخي ذي النون { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته } سماها " دعوة " لأنها تتضمن نوعي الدعاء، فقوله لا إله إلا أنت اعتراف بتوحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء، فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عبادة ودعاء مسألة، وهو الله لا إله إلا هو، وقوله: { إني كنت من الظالمين }، اعتراف بالذنب، وهو يتضمن طلب المغفرة، فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، وإما بوصف حال المسئول، وإما بوصف الحالين، كقول نوح عليه السلام { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } فهذا ليس صيغة طلب، وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر، ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة، وكذلك قول آدم عليه السلام: { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } هو من هذا الباب، ومن ذلك قول موسى عليه السلام: { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير، وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير إليه، وقد روى الترمذي وغيره عن النبي ﷺ قال: { من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } رواه الترمذي وقال حديث، حسن، ورواه مالك بن الحويرث وقال: { من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } وأظن البيهقي رواه مرفوعا بهذا اللفظ، وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله: { أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان، أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء قال: فهذا مخلوق يخاطب مخلوقا فكيف بالخالق تعالى، ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى عليه السلام: " اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان " فهذا خبر يتضمن السؤال .

وإن كانت الحيلة فعلا يفضي إلى التحليل له أو لغيره، مثل أن يقتل رجلا ليتزوج امرأته أو ليزوجها صديقا له فهنا تحل المرأة بغير من قصد تزوجها به، فإنها بالنسبة إليه كما لو قتل الزوج لمعنى فيه، وأما الذي قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأتها أو غير مواطأتها فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع من غير أن يلقي فيها شيئا فإن التخليل لما حصل بفعل محرم اختلف فيه، والصحيح أنها لا تطهر، وإن كانت لو تخللت بفعل الله حلت، وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت، فإذا قتله لهذا القصد أمكن أن تحرم عليه مع حلها لغيره، ويشبه هذا الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحلل للحلال، ومما يؤيد هذا: أن القاتل يمنعه الإرث ولم يمنع غيره من الورثة لكن لما كان مال الرجل تتطلع عليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال، بخلاف الزوجة فإن ذلك لا يكاد يقصد، إذ التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الوارث إلى مال الموروث قليل فكونه يقتله ليتزوجها أقل فلذلك لم يشرع أن كل من قتل رجلا حرمت عليه امرأته كما يمنع ميراثه، فإذا قصد التزوج فقد وجدت حقيقة لحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده، فأكثر ما يقال في رد هذا أن الأفعال المحرمة لحق الله سبحانه وتعالى لا تفيد الحل كذبح الصيد وتحليل الخمر والتذكية في غير المحلل، أما المحرم لحق آدمي كذبح المغصوب فإنه يفيد الحل، أو يقال أن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة، وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل فحصل الحل ضمنا وتبعا، ويمكن أن يقال في جواب هذا أن قتل الآدمي حرام لحق الله سبحانه وحق الآدمي، ألا ترى أنه لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح المغصوب فإنه إنما حرم لمحض حق الآدمي فإنه لو أباحه حل، وفي الحقيقة فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إزهاق الروح، ثم يقال قد اختلف في الذبح بآلة مغصوبة، وقد ذكر فيه عن الإمام أحمد روايتان، وكذلك اختلف العلماء في ذبح المغصوب، وإن كان المعروف عندنا أنه ذكي كما قد نص عليه الإمام أحمد وفيه حديث رافع بن خديج المشهور في ذبح الغنم المنهوبة، والحديث الآخر أن المرأة التي أضافت النبي ﷺ لما ذبحت له الشاة التي أخذتها بدون إذن أهلها فقصت عليه القصة فقال أطعموها للأسارى وهذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع منه المذبوح له دون غيره كما أن الصيد إذا ذبحه الحلال لحرام حرم على الحرام دون الحلال، وقد نقل صالح عن أبيه قال لو أن رجلا سرق شاة فذبحها قال لا يحل أكلها يعني له قلت لأبي فإن ردها على صاحبها قال تؤكل، فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقا ; لأنه لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن في الأكل لم يخص الذابح بالتحريم، فهذا القول الذي دل عليه الحديث في الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى فتلخص أن الحيل نوعان: أقوال وأفعال، والأقوال يشترط لثبوت أحكامها العقل، ويعتبر فيها القصد، وتكون صحيحة تارة وهو ما ترتب أثره عليه فأفاد حكمه، وفاسدة أخرى وهو ما لم يكن كذلك، ثم ما ثبت حكمه منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه كالبيع والنكاح، ومنه ما لا يمكن رفعه بعد وقوعه كالعتق والطلاق فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم أو إسقاط واجب أمكن إبطاله إما من جميع الوجوه وإما من الوجه الذي يبطل مقصود المحتال بحيث لا يترتب عليه حكمه للمحتال عليه كما حكم به أصحاب رسول الله ﷺ في طلاق العار وكما يحكم به في الإقرار الذي يتضمن حقا للمقر وعليه وكما يحكم به فيمن اشترى عبدا يعترف بأنه حر، وأما الأفعال فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم يحصل كالسفر للقصر والفطر، وإن اقتضت تحريما على الغير فإنه قد يقع ويكون بمنزلة إتلاف النفس والمال وإن اقتضت حلا عاما إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك، فهذه مسألة القتل، وذبح الصيد للحلال وذبح المغصوب للغاصب، وبالجملة إذا قصد بالفعل استباحة محرم لم يحل له، وإن قصد إزالة ملك الغير لتحل فالأقيس أن لا يحل له أيضا، وإن حل لغيره، وهنا مسائل كثيرة لا يمكن ذكرها هنا .

وهذه مسألة تخصيص العلة وفسادها بالنقض مطلقا خير أو لم يخير، والناس في هذه المسألة من أصحابنا وغيرهم مختلفون خلافا مشهورا، فمن قال بتخصيصها فرق بين الشرط وجزاء العلة وعدم المانع وقال قد تقدم الحكم مع بقائها إذا صادفها مانع أو تخلى عنها الشرط المعين، ومن لم يخصصها فعنده الجميع شيء واحد ومتى تخلف عنها الحكم لم يكن علة بحال بل يكون بعض علة، وفصل الخطاب أن العلة الموجبة - وهي العلة التامة التي يجب وجود معلولها عند وجودها - فهذه لا تخصص، ويقال على العلة المقتضية وإن كانت ناقصة - وهي ما من شأنها أن تقتضي ولكن بشرط أن تصادف محلا لا يعوق - فهذه تخصص، فالنزاع عاد إلى عبارة كما تراه، ويعود أيضا إلى ملاحظة عقلية وهو أنه عند تخلف المعلول لأجل المعارض هل يلاحظ في العلة وصف الاقتضاء ممنوعا بمنزلة الحجر الهابط إذا صادف سقفا، وبمنزلة ذي الشهوة الغالبة بحضرة من يهابه ؟ أو يلاحظ معدوما بمنزلة العينين وبمنزلة العشرة إذا نقص منها واحد فإنها لم تبق عشرة، فإذا كان النزاع يعود إلى اعتبار عقلي، أو إلى إطلاق لفظي لا إلى حكم عملي أو استدلالي فالأمر قريب، وإن كان هذا الخلاف يترتب عليه إصلاح جدلي وهو أنه هل يقبل من المستدل خبر النقض بالفرق بين صورة النزاع وصورة النقض، أو لا يقبل منه ذلك بل عليه أن يأتي بوصف يطرد لا ينتقض ألبتة ومتى انتقض انقطع فيه أيضا اصطلاحان للمتجادلين، وكان الغالب على أهل العراق في حدود المائة الرابعة قبلها وبعدها إلى قريب من المائة الخامسة إلزام المستدل بطرد علته في مناظراتهم ومصنفاتهم، وأما أهل خراسان فلا يلزمونه بذلك بل يلزمونه تبيان تأثير العلة ويجيزون النقض بالفرق، وهذا هو الذي غلب على العراقيين بعد المائة الخامسة، وتجد الكتب المصنفة لأصحابنا وغيرهم في الخلاف بحسب اصطلاح زمانهم ومكانهم، فلما كان العراقيون في زمن القاضي أبي يعلى والقاضي عبد الوهاب من مصر وأبي إسحاق الشيرازي ونحوهم يوجبون الاطراد غلب على أقيستهم تحرير العبارات وضبط القياسات المطردات ويستفاد منها القواعد الكليات، لكن تبدد الذهن عن نكتة المسألة يحوج المتكلم أو المستمع إلى أن يشتغل بما لا يعنيه في تلك المسألة عما يعنيه، ولهذا كانوا يكلفون بأن يأتي بقياس مطرد ولا يظهر خروج وصفه عن جنس العلل الشرعية وإن لم يقم دليلا على أن ذلك الوصف علة للحكم وربما غلا بعضهم في الطرديات، ولما كان العراقيون المتأخرون لا يلزمون هذا فتحوا على نفوسهم سؤال المطالبة بتأثير الوصف وطوائف من متقدمي الخراسانيين فيستفاد من طريقهم الكلام في المناسبات والتأثيرات بحسب ما أحاطوا به من العلم أثرا ورأيا، وهذا أشد على المستدل من حيث احتياجه إلى إقامة الدليل على تأثير الوصف، والأول أشد عليه من حيث احتياجه إلى الاحتراز عن النقض، ولهذا سمى بعضهم الأولين أصحاب الطرد، وسمى الآخرين أصحاب التأثير، وليس المراد بكونهم أصحاب الطرد أنهم يكتفون بمجرد الوصف المطرد الذي لا يظهر فيه اقتضاء للحكم ولا دلالة عليه ولا إشعار به، فإن هذا يبطله جماهيرهم ولم يكن يقول به ويستعمله إلا شرذمة من الطاردين، وفي كل واحدة من الطريقتين ما يقبل ويرد، ولا يمكن هنا تفصيل القول في ذلك، لكن الراجح في الجملة قول من يخصص العلة لفوات شرط أو لوجود مانع فإن ملاحظته أقرب إلى المعقول وأشبه بالمنقول، وعلى ذلك تصرفات الصحابة والسلف من أئمة الفقهاء وغيرهم، ولهذا رجع القاضي أبو يعلى في آخر عمره إلى ذلك، وذكر أن أكثر كلام أحمد يدل عليه، وهو كما قال، وغيره يقول إنه مذهب الأئمة الأربعة، ولا شك أن من تأمل مناظرتهم علم أنهم كانوا يخصون التعليل بوجود المانع، وأنهم كانوا يجيزون النقض بالفرق بين الفرع وبين صورة النقض إذا كان الفرق مغلوسا في الأصل المقيس عليه أي أن يكون الوصف القائم بصورة النقض مانعا غير موجود في الأصل كما أنه ليس بموجود في الفرع إذ لو كان موجودا في الأصل لم يكن مانعا ولو كان موجودا في الفرع لم يجز النقض وهذا عين الفقه، بل هو عين كل علم بل هو عين كل نظر صحيح وكلام سديد، نعم في المسألة قولان متطرفان من الجانبين: قول من يجوز من أصحابنا وغيرهم تخصيص العلة لا لمانع ولا لفوات شرط بل بمجرد دليل كما يخص العموم اللفظي، وقول من يقول من أصحابنا وغيرهم إن العلة المنصوصة إذا تخصصت بطل كونها علة وعلم أنها جزء العلة، فهذان قولان ضعيفان، وإن كان الثاني ; لأن المذهب المخصص مستلزم لمانع وإن لم يعلمه فإن هذا إنما يكون له وجه أن لو كانت العلة علمت بنص والمخصص لها نص فهناك لا يضرنا أن لا نعلم المانع المعنوي على نظر فيه، إذ قد يقال إن كان التمسك بالعموم اللفظي فلا كلام، وإن كان التمسك بالعموم المعنوي فقد علمنا انتفاءه مع مانع مجهول فيكون بمنزلة العام إذا استثني منه شيء مجهول، فما من صورة معينة إلا ويمكن أن تكون داخلة في المستثنى منه، ويمكن أن تكون داخلة في المستثنى فلا يجوز إدخالها في أحدهما بلا دليل، كذلك كل صورة تفرض وجود العلة فيها إذا كانت مخصصة بنص فلا بد أن يشتمل على مانع معنوي فإن تلك الصورة جاز أن تكون مشتملة على ذلك المانع وجاز أن تكون لم تشتمل عليه، ولا يقال اشتمالها على المقتضي معلوم واشتمالها على المانع مشكوك فيه ; لأن المقتضي الذي يجب العمل به هو ما لم يغلب على الظن مصادمة المانع له وهذه العلة منتفية هنا، وهذا المقام أيضا مما اختلف فيه العلماء من أصحابنا وغيرهم وهو جواز التمسك بالظواهر قبل البحث عما يعارضها، والمختار عندنا - وعليه يدل كلام أحمد وكلام غيره من الأئمة - أنه ما لم يغلب على الظن عدم المعارض المقاوم وإلا فلا يجوز الجزم بمقتضى يكون جواز تخلفه عن مقتضيه وعدم جوازه في القلب سواء، وتمام الكلام في هذه القواعد ليس هذا موضعه، وإنما نبهنا عليه ليظهر المأخذ في قولهم أنه يكون الشيء حراما في الباطن، وإن لم يثبت مقتضى التحريم في حق من لم يبلغه للعذر فإن التخلف هنا لفوات شرط ولا يقدح في كون الفعل مقتضيا للعقاب في الجملة، ولهذا لما كان أكثر عقول الفقهاء بل أكثر عقول الناس بل عامة العقول التي لم يكدر صفاها رهج الجدل ويرى صحة كون الشيء بصفة الاقتضاء، وإن كان معوقا عن عمله صاروا في عامة ما يفعلونه ويقولونه ينتهجون مناهج القائلين بتخصيص العلة لمانع إذ هذا ثابت في كل ما يتكلم فيه الآدميون، وإن كانوا قد يكونون ممن خالف في ذلك إذا جردوا الأصول، فلهذا كان الغالب على الناس من الفقهاء وغيرهم من يقبل عقله كون الشيء حراما في الباطن لكن انتفاء حكم التحريم في حق هذا المعين لفوات شرط العقاب أو لوجود مانع فيه، وهذا قوي إذا قيل: إن الحل والحرمة قد تكون لمعان في الأفعال تناسب الحكم ويقتضيه، وإن العلل الشرعية ليست مجرد علامات وإمارات كما قد يجيب به في المضايق من أصحابنا وغيرهم من يزعم أنه ينصر السنة أنه يرد الأحكام إلى محض المشيئة، فإن من تأمل دلالة الكتاب والسنة وإجماع السابقين على توجيه الأحكام بالأوصاف المناسبة والنعوت الملائمة، بل دخل مع الأئمة فيما يشهده بنظائرها من الحكم الباهرة المنظومة في الأحكام الظاهرة والمصالح الدينية والدنيوية التي جاءت بها هذه الشريعة الحنيفية التي قد أربى نورها على الشمس إضاءة وإشراقا وعلى إحكامها على الفلك انتظاما واتساقا ثم نازع بعد هذا في أن الأسباب والعلل فيها اقتضاء وملاءمة ورأى ما في الدليل الصرف فهو أحد رجلين: إما معاند يقول بلسانه ما ليس في قلبه وما أكثر السفسطة من بني آدم عموما ومن المناظرين في العلم خصوصا في جزئيات المقدمات وإن كانوا مجمعين أو كالمجمعين على فسادها في الأنواع الكليات، وإما ذاهل جاهل حقيقة ما يقوله من أن العلل مجرد أمارات مصرفات لم يجمع بين معنى هذا القول وبين ما هو دائما يراه ويقوله في الأحكام الشرعية، وإنما قلنا إن هذا القول قوي إذا رأينا ما في الأفعال المحرمة من المفاسد ; لأن المفسدة ثابتة في أكثر الأفعال وإن لم يدر الفاعل، ألا ترى من شرب الخمر قبل أن يعلم التحريم فإن فسادها من زوال العقل وتوابعه ثابت في حقه إن لم يعلم، نعم العقوبة الحدية وتوابعها في الدنيا والعقوبة الأخروية مشروطة بقيام الحجة عليه، وهذا الوصف وإن كان اقتضاء التحريم مثلا مشروط بجعل الشارع أو بالحال التي جعله الشارع فيها مقتضيا فقد وجد هذا الجعل والحال التي حصل فيها هذا الجعل، وهنا أمور أربعة، أحدها: الوصف الثابت المقتضي للحرمة في الحال التي اقتضاها، والثاني: علم الله سبحانه بهذا الوصف المقتضي، والثالث: حكم الله الذي هو التحريم مثلا فإنه سبحانه لما علم ما في الفعل من المصلحة والمفسدة حكم بمقتضى علمه، وهذه الإضافة ترتيب ذاتي عقلي لا ترتيب وجودي زماني كترتيب الصفة على الذات وترتيب العلم على الحياة والترتيب الحاصل في الكلام الموجود في آن واحد ونحو ذلك مما يشهد العقل ملازمته ترتيبا اقتضته الحقيقة وكنه ذلك مغيب عن علم الخلق، والرابع: المحكوم به الذي هو الحرمة القائمة بالفعل سواء جعلت صفة عينية أو جعلت إضافة محضة أو جعلت عينية مضافة، فالموجب للعقوبة هو التحريم، وسبب التحريم هو علم الله بما فيه من المفسدة لا نفس المفسدة حتى لا تعلل صفات الله القديمة بالأمور المحدثة كما اعتقده بعض من نازع في هذا المقام، بل يضاف حكمة التحريم إلى علة سبب التحريم فإنه سبحانه عليم حكيم، فهذا الموجب للعقوبة من العلم والحكم ثابت بكل حال لكن بشرط حصول موجبه وهو قيام الحجة على العباد كما نبه عليه قوله عز وجل: { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ﷺ وإذا كان كذلك فالتحريم الذي هو حكم الله، والحرمة التي هي صفة الفعل سواء جعلت إضافة أو عينية، والمقتضي للتحريم الذي هو علم الله، والمقتضي للحرمة التي هي الوصف الذي هو معلوم الله حتى يضيف الحكم الذي هو وصف الله إلى علمه ويضيف المحكوم به الذي يسمى حكما أيضا وهو صفة الفعل إلى معلومه، فهذه الأمور الأربعة ثابتة وإن لم يعلم المكلف بالتحريم، فظهر معنى قول جمهور الفقهاء وذوي الفطر السليمة أن هذا محرم باطنا لا ظاهرا، والمثل هذا الكلام بعينه إلى مسألة اختلاط أخته بأجنبية، والميتة بالمذكى، وكل موضع اشتبه فيه الحلال بالحرام على وجه يجب اجتنابهما جميعا .

والكلام في هذا الموضع يظهر بيان حال المرأة في النية، وهي مراتب: الأولى: أن تنوي أن هذا الزوج الثاني إن طلقها أو مات عنها أو فارقها بغير ذلك تزوجت بالأول، أو ينوي المطلق ذلك أيضا فينوي أن هذا الثاني إن طلقها أو فارقها بغير ذلك تزوجها، فهذا قصد محض لما أباحه الله لم يقترن بهذا القصد فعل منها في الفرقة، وإنما نوت أن تفعل ما أباحه الله إذا أباحه الله فقد قصدت فعلا لها معلقا على وجود الفرقة، وصار هذا مثل أن ينوي الرجل أن فلانا إن طلق امرأته أو مات عنها تزوجها، أو تنوي المرأة التي لم تطلق أنها إن فارقها هذا الزوج تزوجت بفلان، أو يبيع الرجل سلعته لحاجته إليها وينوي أن المشتري إن باعها فيما بعد اشتراها منه إن قدر على ثمنها، أو ينوي أنه إن أعتق الجارية المبيعة تزوج بها، فهذه الصور كلها لم تتعلق بهذا العقد ولا بفسخه فلم تؤثر فيه، وإنما تعلقت بفعل لها إن رفع العقد أو قصد صاحبه رفعه، فلهذا لم يشترط أن يكون نكاح المرأة نكاح رغبة، فإنها إذا ملكت نفسها للزوج فسواء عليه كانت راغبة أو غير راغبة إذا لم تسبب في الفرقة فإنه ليس بيدها فرقة، لكن لها في هذا العقد مع نية مراجعة الأول ثلاث أحوال: أحدها: أن تكون محبتها للمقام مع الزوج الثاني أكثر من محبتها للمقام مع الأول، لكن ترى أن الأول أحب إليها من غيره بعد هذا فهذا لا شبهة فيه، الثاني: أن تكون محبتها لنكاح الزوجين على السواء، أو لا يكون لها محبة لنكاح واحد منهما، لكن ترى أنهما أصلح لها من غيرهما، فإذا فارقها أحدهما آثرت الآخر فهذا أيضا ظاهر، الثالث: أن تكون محبتها للأول أكثر من الثاني، فهي في هذه الحال بمنزلة المطلق الذي يحب عودها إليه، وهذه الصورة التي كرهها بعض التابعين، وهي حال امرأة رفاعة القرظي، ولذلك رخص أحمد وغيره فيها لما تقدم، وهذه المرأة والمطلق لا يلامان على هذه المحبة، كما لا يلام الزوج على محبة إحدى امرأتيه أكثر من الأخرى إذا عدل بينهما، فيما يملكه، ثم إن كرهت هذه المحبة من نفسها لكونها متطلعة إلى غير زوجها، وكذلك المطلق إن كره من نفسه تطلعه إلى زوجة الغير كانت هذه الكراهة عملا صالحا يثاب عليه، وإن لم تكره هذه المحبة ولم ترض بها لم يترتب عليها ثواب ولا عقاب، وإن رضي هذه المحبة بحيث يتمنى بقلبه مع طبعه حصول موجبها ويود أن يحصل بين الزوجين فرقة ليتزوج المرأة، وتتمنى المرأة أن لو طلقها هذا الزوج أو فارقها لتعود إلى الأول، وعقلها موافق لطبعها على هذه الأمنية، فهذا مكروه، وهو من المرأة أشد ; لأن ذلك يستلزم تمني الطلاق الذي هو بغيض إلى الله، وقد تتضمن تمني ضرر الزوج وهو مظنة أن المرأة لا تقيم حدود الله مع من بغضت المقام معه، لكنها لو أحبت أن يقذف الله في قلب الزوج الزهد فيها بحيث يفارقها بلا ضرر عليه، فهذا أخف، وهذا كله إذا لم يقترن به فعل منها في الفرقة لم تؤثر في صحة العقد الأول ولا الثاني .

فصل: وأما قولهم: الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز، فالجواب من وجوه، أحدهما: أن هذا اللفظ ومعناه الذي أرادوه ليس هو في شيء من كتب الله المنزلة من عنده، ولا هو مأثورا عن أحد من أنبياء الله ورسله، لا خاتم المرسلين ولا غيره، ولا هو أيضا محفوظا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها أصلا، وإذا كان بهذه المثابة وقد علم أن الله أكمل لهذه الأمة دينها، وأن الله بين لهذه ما تتقيه، كما قال: { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية، وقال: { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وأن النبي ﷺ بين للأمة الإيمان الذي أمرهم الله به، وكذلك سلف الأمة وأئمتها علم بمجموع هذين الأمرين أن هذا الكلام ليس من دين الله، ولا من الإيمان، ولا من سبيل المؤمنين، ولا من طاعة الله ورسوله، وإذا كان كذلك فمن التزم اعتقاده فقد جعله من الإيمان والدين، وذلك تبديل للدين، كما بدل من بدل من مبتدعة اليهود والنصارى، ومبتدعة هذه الأمة دين المرسلين، يوضح ذلك الوجه الثاني: وهو أن الله نزه نفسه في كتابه عن النقائص، تارة بنفيها وتارة بإثبات أضدادها، كقوله تعالى: { لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد }، وقوله تعالى { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل }، وقوله تعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا }، الآية، وقوله: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم }، وقوله: { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } إلى قوله { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير }، وقوله: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } إلى قوله: { فتعالى عما يشركون } وقوله: { حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } إلى قوله: { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } وقوله: { وقالت اليهود يد الله مغلولة } الآية، وقوله: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } الآية، وما في القرآن من خبره عن نفسه، أنه بكل شيء عليم، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إنه على كل شيء قدير وأنه ما شاء الله كان، لا قوة إلا بالله، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه العلي العظيم، الأعلى المتعالي، العظيم، الكبير، وكذلك الأحاديث عن النبي ﷺ موافقة لكتاب الله، كقوله ﷺ في الحديث الصحيح: { إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور أو النار، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه }، وقوله ﷺ أيضا فيما يروي عن ربه: { شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني أوليس أول الخلق بأهون علي من إعادته }، وقوله في حديث السنن للأعرابي: { ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، إن عرشه على سماواته أو قال بيده مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه } وقوله في الحديث الصحيح: { أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء } إلى أمثال ذلك، وليس في شيء من ذلك نفي الجهة والتحيز عن الله ولا وصفه بما يستلزم لزوما بينا نفي ذلك، فكيف يصح مع كمال الدين وتمامه، ومع كون الرسول قد بلغ البلاغ المبين، أن يكون هذا من الدين والإيمان ثم لا يذكره الله ولا رسوله قط، وكيف يجوز أن يدعى الناس ويؤمرون باعتقاد في أصول الدين ليس له أصل عمن جاء بالدين، هل هذا إلا صريح تبديل الدين ؟، ، الوجه الثالث: قد قلت لهم: قائل هذا القول إن أراد به أن ليس في السماوات رب ولا فوق العرش إله، وأن محمدا لم يعرج به إلى ربه، وما فوق العالم إلا العدم المحض، فهذا باطل مخالف لإجماع سلف الأمة وأئمتها، وهذا المعنى هو الذي يعنيه جمهور الجهمية من مشايخ الممتحنين ونحوهم، يصرحون به في كلامهم وكتابهم وإن أراد به أن الله لا يحيط به مخلوقاته ولا يكون في جوف الموجودات، فهذا مذكور مصرح به في كلامي، وإثبات هذا المعنى وهو أنه بذاته في الموجودات ليس خارجا عنها، هو قول كثير من الجهمية أيضا الذين ينفون أنه على العرش أيضا سواء قالوا إنه بذاته في كل مكان، أو قالوا إنه هو الموجودات كما يقوله الاتحادية منهم، وذلك أن الجهمية الذين ينفون أن يكون الله فوق عرشه بائنا من خلقه، منهم من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه ومنهم من يقول إنه داخل العالم ومنهم من يقول إنه داخله وخارجه متناهيا أو غير متناه جسما أو غير جسم، كما بينا مقالاتهم في غير هذا الموضع، فصارت الجهمية الذين ينفون عن الله الجهة والحيز، مقصودهم أنه ليس فوق العرش رب، ولا فوق السماوات إله، والجهمية الذين يقولون إنه في الموجودات، يثبتون له الجهة والحيز، فبينت في الجواب بطلان قول فريقي الجهمية النفاة والمثبتة، فإن نفاة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومثبتتهم يعبدون كل شيء، وذكرت هذين القسمين ; لأنها هي التي جرت عادة المتكلمين بنفي الجهة والحيز عن الله أنهم يعنونها، فإن كانوا عنوا معنى آخر كان عليهم بيانه إذ اللفظ لا يدل عليه، وليس لأحد أن يمتحن الناس بلفظ مجمل ابتدعه هو من غير بيان لمعناه، الوجه الرابع: أنهم طلبوا اعتقاد نفي الجهة والحيز عن الله ومعلوم أن الأمر بالاعتقاد لقول من الأقوال، إما أن يكون تقليدا للآمر، أو لأجل الحجة والدليل، فإن كانوا أمروا بأن يعتقد هذا تقليدا لهم ولمن قال ذلك فهذا باطل بإجماع المسلمين منهم ومن غيرهم، وهم يسلمون أنه لا يجب التقليد في مثل ذلك لغير الرسول، لا سيما وعندهم هذا القول لم يعلم بأدلة الكتاب والسنة والإجماع وإنما علم بالأدلة العقلية، والعقليات لا يجب التقليد فيها بالإجماع، وإن كان الأمر بهذا الاعتقاد لقيام الحجة عليه، فهم لم يذكروا حجة لا مجملة ولا مفصلة ولا أحالوا عليها، بل هم يفرون من المناظرة والمحاجة بخطاب أو كتاب، فقد ثبت أن أمرهم لهذا الاعتقاد حرام باطل على التقديرين بإجماع المسلمين، وأن فعل ذلك من أفعال الأئمة المضلين، وأنه أمر للناس أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، الوجه الخامس: أن الناس تنازعوا في جواز التقليد في مسائل أصول الدين، لمن يجوز تقليده في الدين من أئمة المسلمين المتبعين فيما يقولونه لما ثبت عن المرسلين، كما يقلد مثل هؤلاء في فروع الدين، فأما التقليد في الأمور التي يقولون أنها عقليات، وأنها معلومة بالعقل، يحتاج فيها إلى تأويل السمع وأنها من أصول الدين، فما نعلم أحدا جوز التقليد في مثل ذلك بل الناس فيها قسمان منهم من ينكرها على أصحابها ويبين أنها جهليات لا عقليات، ومنهم من يقول بل من نظر في أدلتها العقلية علم صحتها، فإما أن يقول قائل: إن هذه الأمور التي تنازعت فيها الأمة وادعى كل فريق أن الحق معهم إني أقلد من يدعي أن قوله معلوم بالعقل قبل أن أعلم صحة ما يقوله بالعقل فهذا لا يقوله عاقل، فإن العقل لا يرجح في موارد النزاع قولا على قول وقائلا على قائل إلا بموجب، أما مجرد التقليد لأحد القائلين بغير حجة، فلا يسوغ في عقل ولا دين، وإذا كان كذلك لم يكن لهم أن يسوغوا لأحد أن يقول هذا القول حتى يعلمه بأدلته العقلية فكيف وقد أوجبوا اعتقاده إيجابا مجردا لم يذكروا عليه دليلا أصلا وهل هذا إلا في غاية المناقضة والتبديل للعقل والدين ؟ فإن من أباح المحرمات من الأفعال كان خارجا عن الشريعة فكيف بمن أوجبها وعاقب عليها ؟ فكيف إذا كان ذلك في الاعتقادات التي هي أعظم من الأفعال ؟، الوجه السادس: أنه لو فرض جواز التقليد أو وجوبه في مثل هذا لكان لمن يسوغ تقليده في الدين، كالأئمة المشهورين، الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا القول لم يقله أحد ممن يسوغ للمسلمين تقليده في فروع دينهم، فكيف يقلدونه أصول دينهم التي هي أعظم من فروع الدين، فإن هذا القول وإن قاله طائفة من المنتسبين إلى مذاهب الأئمة الأربعة، فليس في قائليه من هو من أئمة ذلك المذهب الذين لهم قول متبوع بين أئمة ذلك المذهب، فإن أصحاب الوجوه من أصحاب الشافعي كأبي العباس بن سريج، وأبي علي بن أبي هريرة، وأبي سعيد الإصطخري، وأبي علي بن خيران، والشيخ أبي حامد الإسفراييني، ونحو هؤلاء ليس فيهم من يقول هذا القول، بل المحفوظ عمن حفظ عنه كلام في هذا ضد هذا القول، وغايته أن يحكى عن مثل أبي المعالي الجويني، وهو أجل من يحكى عنه ذلك من المتأخرين، وأبو المعالي ليس له وجه في المذهب، ولا يجوز تقليده في شيء من فروع الدين عند أصحاب الشافعي فكيف يجوز أو يجب تقليده في أصول الدين هذا وهو الذكي اللوذعي، وكتابه في المذهب هو الذي رفع قدره وفخم أمره، فإذا لم يجز تقليده فيما ارتفع به قدره وعظم به أمره عند الأصحاب، فكيف يقلد في الأمر الذي كثر فيه الاضطراب وأقر عند موته بالرجوع عنه وتاب، وهجره على بعض مسائله مثل أبي القاسم القشيري وغيره من الأصحاب، وإذا كان هذا حال من يقلد إمام الحرمين الأستاذ المطاع، فكيف بمن يقلد من هو دونه بلا نزاع وذلك ; لأن التقليد في الفروع دون الأصول، إنما يكون لمن كان عالما بمدارك الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، وأبو المعالي لم يكن من هذا الصنف، فإنه كان قليل المعرفة بالكتاب والسنة وعامة ما يعتمد عليه في الشريعة الإجماع في المسائل القطعية، والقياس أو التقليد في المسائل الظنية وكذلك هو في مسائل أصول الدين غالب أمره الدوران بين الإجماع السمعي القطعي والقياس العقلي الذي يعتمد أنه قطعي مذهب الشافعي وبالخلاف المنصوب مع أبي حنيفة، وأما بالأصول فبالدلائل والمسائل المذكورة في كتب المعتزلة والأشعرية، هذا وهو أجل من يقرن به من المناظرين، وعمدة من يسلك سبيله من المتأخرين فكيف بمن لم يبلغ شأوه في العلم والذكاء، ومقاومة الخصوم الفضلاء، وأما من تكلم في ذلك من فقهاء المالكية المتأخرين، كالباجي، وأبي بكر ابن العربي، ونحوهما فإنهم في ذلك يقلدون لمن أخذوا ذلك عنه من أهل المشرق المتكلمين، ومعترفون بأنهم لهم من التلامذة المتبعين، ليس في كلام أحد من هؤلاء استيفاء الحجة في هذا الباب من الطرفين، ولا النهوض بأعباء هذا الحمل الذي يحتاج إلى فصل الخطاب في القولين المتعارضين، وأما أئمة المالكية الذين إليهم المرجع في الدين كابن القاسم، وابن وهب وأشهب، وسحنون وابنه وعبد الملك بن حبيب، وابن وضاح وغيرهم فهم برآء من هذا النفي والتكذيب، ولهم في الإثبات من الأقوال ما يعرفها العالم اللبيب، الوجه السابع: أن هذا القول لو فرض أنه حق معلوم بالعقل، لم يجب اعتقاده بمجرد ذلك إذ وجوب اعتقاد شيء معين لا يثبت إلا بالشرع بلا نزاع، أما المنازعون فهم يسلمون أن الوجوب كله لا يثبت إلا بالشرع، وأن العقل لا يوجب شيئا وإن عرفه، وأما من يقول: إن الوجوب قد يعلم بالعقل، فهو يقول ذلك فيما يعلم وجوبه بضرورة العقل أو نظره، واعتقاد كلام معين من تفاصيل مسائل الصفات لا يعلم وجوبه بضرورة العقل ولا بنظره، ولهذا اتفق عامة أئمة الإسلام على أن من مات مؤمنا بما جاء به الرسول لم يخطر بقلبه هذا النفي المعين لم يكن مستحقا للعذاب، ولو كان واجبا لكان تركه سببا لاستحقاق العذاب، وإن فرض أن بعض غالية الجهمية من المعتزلة ونحوهم يزعم أن معرفة هذا النفي من الواجبات أو من أجلها، وأن من لم يعتقده من الخاصة والعامة كان مستحقا للعذاب، أو فرض أن بعض الناس يقول إن هذا الاعتقاد يجب على الخاصة دون العامة، فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساد القول بإيجاب هذا ; لأنا نعلم بالاضطرار أن النبي ﷺ - والصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين لم يوجبوا اعتقاد هذا النفي، لا على الخاصة ولا على العامة، وليس وجوب هذا من الحوادث التي تجددت، فإن وجوب هذا الاعتقاد على الأولين والآخرين سواء لوجوب اعتقاد { أنه لا إله إلا الله } { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور }، وإذا كان معلوما بالاضطرار عدم إيجاب الشارع لهذا الاعتقاد، كان دعوى وجوبه بالعقل مردودا فإن الشارع أقر الواجبات العقلية وأوجبها كما أوجب الصدق والعدل، وحرم الكذب والظلم، وإذا كان وجوب هذا القول منتفيا، لم يكن لأحد أن يوجبه على الناس، فضلا عن أن يعاقب تاركه ويجعله محنة، من وافقه عليه والاه ومن خالفه فيه عاداه، وهذا المسلك هو أحد ما سلكه العلماء في الرد على الجهمية الممتحنين للناس، كابن أبي داود وأمثاله لما ناظرهم من ناظرهم قدام الخلفاء كالمعتصم والواثق، فإنهم بينوا لهم أن القول الذي أوجبوه على الناس ، وعاقبوا تاركه، وهو القول بخلق القرآن لم يقله النبي ﷺ - ولا أحد من خلفائه ولا أصحابه، ولا أئمة المسلمين وعامتهم، ولا أمروا به، ولا عاقبوا عليه ولو كان من الدين الذي يجب دعاء الخلق إليه وعقوبة تاركيه، لم يجز إهمالهم لذلك، وإن القائل لهذا القول لو فرض أنه مصيب، لم يكن له أن يوجب على الناس ويعاقبهم على ترك كل قول يعتقد أنه صواب، وهذا مما اتفق عليه المسلمون .

الوجه العاشر: أن قول القائل: " لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد، ولا في الفتاوى المتعلقة بها "، إما أن يريد بذلك أنه لا تتلى هذه الآيات وهذه الأحاديث عند عوام المؤمنين، فهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار من دين المسلمين، بل هذا القول إن أخذ على إطلاقه، فهو كفر صريح فإن الأمة مجمعة على ما علموه بالاضطرار من تلاوة هذه الآيات في الصلوات فرضها ونفلها، واستماع جميع المؤمنين لذلك، وكذلك تلاوتها وإقراؤها واستماعها خارج الصلاة هو من الدين الذي لا نزاع فيه بين المسلمين، وكذلك تبليغ الأحاديث في الجملة هو مما اتفق عليه المسلمون، وهو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين، إذ ما من طائفة من السلف والخلف إلا ولا بد أن تروي عن النبي ﷺ شيئا من صفات الإثبات أو النفي، فإن الله يوصف بالإثبات، وهو إثبات محامده بالثناء عليه وتمجيده، ويوصف بالنفي، وهو نفي العيوب والنقائص عنه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، وإما أن يريد أنه لا يقال حكمها كذا وكذا إما إقرار وتأويل أو غير ذلك فإن أراد هذا فينبغي لقائل ذلك أن يلتزم ما ألزم به غيره ، فلا ينطق في حكم هذه الآيات والأحاديث بشيء، ولا يقول الظاهر مراد أو غير مراد، ولا التأويل سائغ، ولا هذه النصوص لها معان أخر، ونحو ذلك إذ هذا تعرض لآيات الصفات وأحاديثها على هذا التقدير، وإذا التزم هو ذلك وقال لغيره: التزم ما التزمته ولا تزد عليها ولا تنقص منها، فإن هذا عدل بخلاف ما إذا نهى غيره عن الكلام عليها مع تكلمه هو عليها، كما هو الواقع، وكذلك قوله: ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها، إن أراد أنها أنفسها لا تكتب ولا يفتى بها، فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام كما تقدم، وإن أراد لا يكتب بحكمها، ولا يفتي المستفتي عن حكمها، فيقال له: فعليك أيضا أن تلتزم ذلك ولا تفتي أحدا فيها بشيء من الأمور النافية، وحينئذ يكون أمرك لغيرك بمثل ما فعلته عدلا، أما أن يجيء الرجل إلى هذه النصوص فيتصرف فيها بأنواع التحريفات والتأويلات جملة أو تفصيلا، ويقول لأهل العلم والإيمان أنتم لا تعارضون ولا تتكلموا فيها، فهذا من أعظم الجهل والظلم والإلحاد في أسماء الله وآياته، الوجه الحادي عشر: أن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلا الله، حتى إنه لما جمع الناس العلم وبوبوه في الكتب، فصنف ابن جريج التفسير والسنن، وصنف معمر أيضا، وصنف مالك بن أنس، وصنف حماد بن سلمة، وهؤلاء من أقدم من صنف في العلم صنفوا هذا الباب، فصنف حماد بن سلمة كتابه في الصفات، كما صنف كتبه في سائر أبواب العلم، وقد قيل: إن مالكا إنما صنف الموطأ تبعا له، وقال: جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس، لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل حتى إنه لما صنف الكتب الجامعة، صنف العلماء فيها كما صنف نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري كتابه في الصفات والرد على الجهمية، وصنف عبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري كتابه في الصفات والرد على الجهمية، وصنف عثمان بن سعيد الدارمي كتابه في الصفات والرد على الجهمية، وكتابه في النقض على المريسي وصنف الإمام أحمد رسالته في إثبات الصفات والرد على الجهمية، وأملى في أبواب ذلك حتى جمع كلامه أبو بكر الخلال في كتاب السنة وصنف عبد العزيز الكناني صاحب الشافعي كتابه في الرد على الجهمية، وصنف كتب السنة في الصفات طوائف مثل عبد الله بن أحمد، وحنبل بن إسحاق، وأبي بكر الأثرم، وخشيش بن أصرم شيخ أبي داود، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن أبي عاصم، والحكم بن معبد الخزاعي ولأبي بكر الخلال، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي أحمد العسال وأبي بكر الآجري وأبي الحسن الدارقطني، كتاب الصفات وكتاب الرؤية ; وأبي عبد الله بن منده، وأبي عبد الله ابن بطة، وأبي قاسم اللالكائي، وأبي عمر الطلمنكي، وغيرهم، وأيضا فقد جمع العلماء من أهل الحديث والفقه والكلام والتصوف هذه الآيات والأحاديث، وتكلموا في إثبات معانيها، وتقرير صفات الله دلت عليها هذه النصوص، لما ابتدعت الجهمية جحد ذلك والتكذيب له، كما فعل عبد العزيز الكناني، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وكما فعل عثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو عبد الله بن حامد، والقاضي أبو يعلى، وكما فعل أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وأبو الحسن علي بن مهدي الطبري، والقاضي أبو بكر الباقلاني، الوجه الثاني عشر: أن الله تعالى بعث رسوله بالهدى ودين الحق، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة وترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، وبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وكان أعظم ما يحتاجون إليه تعريفهم ربهم بما يستحقه من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وما يجب وما يجوز عليه ويثبت له فيحمد ويثنى به عليه ويمجد به، وما يمتنع عليه، فينزه عنه ويقدس، ثم حدث بعد المائة الأولى الجهم بن صفوان وأتباعه الذين عطلوا حقيقة أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وسلكوا مسلك إخوانهم المعطلة الجاحدين للصانع وصار أغلب ما يصفون به الرب هو الصفات السلبية العدمية، ولا يقرون إلا بوجود مجمل، ثم يقرنونه بسلب ينفي الوجود، ومن أبلغ العلوم الضرورية أن الطريقة التي بعث الله بها أنبياءه ورسله، وأنزل بها كتبه، مشتملة على الإثبات المفصل، والنفي المجمل، كما يقرر في كتابه، وعلمه وقدرته وسمعه وبصره ومشيئته ورحمته وغير ذلك، ويقول في النفي، { ليس كمثله شيء }، { هل تعلم له سميا }، { لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد }، وعلى أهل العلم والإيمان اتباع المرسلين من الأولين والآخرين، وأما طريقة هؤلاء، فهي نفي مفصل، ليس بكذا ولا كذا، وإثبات مجمل، يقولون: هو الوجود المطلق لا يوصف إلا بسلب أو إضافة أو مركب منهما ونحو ذلك، وكل من علم ما جاءت به الرسل، وما يقوله هؤلاء، علم أن هؤلاء في غاية المشاقة والمحادة والمحاربة لله ورسله وانتدب هؤلاء في تقرير شبه عقلية ينفون بها الحق، وتأولوا كتاب الله على غير تأويله، فحرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسماء الله وآياته، بحيث حملوها على ما يعلم بالاضطرار أنه خلاف مراد الله ورسوله، كما فعل إخوانهم القرامطة والباطنية وجحدوا الحقائق العقلية، كما فعل إخوانهم السوفسطائية فجمعوا بين السفسطة في العقليات، والقرامطة في السمعيات، فلهذا انتدب سلف الأمة وأئمتها وغيرهم للرد عليهم، وتقرير ما أثبته الله ورسوله، ورد تكذيبهم وتعطيلهم، وذكروا دلائل الكتاب والسنة على بيان الحق ورد باطلهم، ولما احتج أولئك بشبه عقلية، بينوا أيضا لهم أن العقل يدل على فساد قولهم وصحة ما جاءت به الرسل، كما قال تعالى: { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق }، وإن كان الأمر كذلك فمن نهى عن بيان ما بعث الله به رسوله من الإثبات، وأمر بما أحدث من النفي الذي لا يؤثر عن الرسل، كان قد أخذ من مشاقة الله ورسوله ومحادة الله ورسوله، ومحاربة الله ورسوله، بحسب ما سعى فيه من ذلك، حيث أمر بترك ما بعث به الرسول، وبإظهار ما يشتمل على مخالفته، الوجه الثالث عشر: أن الناس عليهم أن يجعلوا كلام الله ورسوله هو الأصل المتبع، والإمام المقتدى به سواء علموا معناه أو لم يعلموه، فيؤمنون بلفظ النصوص وإن لم يعرفوا حقيقة معناها، وأما ما سوى كلام الله ورسوله فلا يجوز أن يجعل أصلا بحال، ولا يجب التصديق بلفظ له حتى يفهم معناه فإن كان موافقا لما جاء به الرسول كان مقبولا وإن كان مخالفا كان مردودا، وإن كان مجملا مشتملا على حق وباطل، لم يجز إثباته أيضا، ولا يجوز نفي جميع معانيه، بل يجب المنع من إطلاق نفيه وإثباته، والتفصيل والاستفسار وهؤلاء جعلوا هذه الألفاظ المبتدعة المجملة أصلا أمروا بها وجعلوا ما جاء به الرسول من الآيات والأحاديث فرعا يعرض عنها ولا يتكلم بها ولا فيها، فكيف يكون تبديل الدين إلا هكذا ؟، ، الوجه الرابع عشر: ليس لأحد من الناس أن يلزم الناس ويوجب عليهم إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا يحظر عليهم إلا ما حظره الله ورسوله، فمن وجب ما لم يوجبه الله ورسوله، وحرم ما لم يحرمه الله ورسوله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وهو مضاه لما ذمه الله في كتابه من حال المشركين، وأهل الكتاب الذين اتخذوا دينا لم يأمرهم الله به، وحرموا ما لم يحرمه الله عليهم، وقد بين ذلك في سورة الأنعام والأعراف وبراءة وغيرهن من السور، ولهذا كان من شعار أهل البدع، إحداث قول أو فعل، وإلزام الناس به وإكراههم عليه، والموالاة عليه والمعاداة على تركه، كما ابتدعت الخوارج رأيها، وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه، وابتدعت الرافضة رأيها، وألزمت الناس به، ووالت وعادت عليه وابتدعت الجهمية رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه لما كان لهم قوة في دولة الخلفاء الثلاثة، الذين امتحن في زمنهم الأئمة لتوافقهم على رأي جهم الذي مبدؤه أن القرآن مخلوق وعاقبوا من لم يوافقهم على ذلك، ومن المعلوم أن هذا من المنكرات المحرمة بالعلم الضروري من دين المسلمين، فإن العقاب لا يجوز أن يكون إلا على ترك واجب، أو فعل محرم، ولا يجوز إكراه أحد إلا على ذلك، والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله، فمن عاقب على فعل أو ترك بغير أمر الله ورسوله وشرع ذلك دينا، فقد جعل لله ندا ولرسوله نظيرا بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أندادا، أو بمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب وهو ممن قيل فيه: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }، ولهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة، لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد، ولا يكرهون أحدا عليه، ولهذا لما استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه، قال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله ﷺ تفرقوا في الأمصار، فأخذ كل قوم عمن كان عندهم، وإنما جمعت علم أهل بلدي، أو كما قال: وقال مالك أيضا: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة، قال أبو حنيفة: هذا رأي، فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه، وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وقال: إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها، وقال المزني في أول مختصره، هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبد الله الشافعي، لمن أراد معرفة مذهبه، مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، وقال الإمام أحمد: ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولا يشدد عليهم قال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا، فإذا كان هذا قولهم في الأصول العلمية وفروع الدين لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية، فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوال لا توجد في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله ﷺ، ولا تؤثر عن الصحابة والتابعين، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، ولهذا قال الإمام أحمد لابن أبي دؤاد الجهمي الذي كان قاضي القضاة في عهد المعتصم، لما دعا الناس إلى التجهم، وأن يقولوا القرآن مخلوق، وأكرههم عليه بالعقوبة، وأمر بعزل من لم يجبه وقطع رزقه، إلى غير ذلك مما فعله في محنته المشهورة، فقال له في مناظرته لما طلب منه الخليفة أن يوافقه على أن القرآن مخلوق، ائتوني بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أجيبكم به، فقال له ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بما في كتاب الله أو سنة رسوله ؟ فقال له: هب أنك تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت، فكيف تستجيز أن تكره الناس عليه بالحبس والضرب، فبين أن العقوبة لا تجوز إلا على ترك ما أوجبه الله، أو فعل ما حرمه الله فإذا كان القول ليس في كتاب الله وسنة رسوله لم يجب على الناس أن يقولوه ; لأن الإيجاب إنما يتلقى من الشارع، وإن كان للقول في نفسه حقا، أو اعتقد قائله أنه حق، فليس له أن يلزم الناس أن يقولوا ما لم يلزمهم الرسول أن يقولوه لا نصا ولا استنباطا، وإن كان كذلك فقول القائل: المطلوب من فلان أن يعتقد كذا وكذا، وأن لا يتعرض لكذا وكذا، إيجاب عليه لهذا الاعتقاد، وتحريم عليه لهذا الفعل، وإذا كانوا لا يرون خروجه من السجن إلا بالموافقة على ذلك، فقد استحلوا عقوبته وحبسه حتى يطيعهم في ذلك فإذا لم يكن ما أمروا به قد أمر الله به ورسوله، وما نهوا عنه قد نهى الله عنه ورسوله، كانوا بمنزلة من ذكر من الخوارج والروافض والجهمية المشابهين للمشركين والمرتدين، ومعلوم أن هذا الذي قالوه لا يوجد في كلام الله ورسوله بحال، وهم أيضا يبينوا أنه يوجد في كلام الله ورسوله فلو كان هذا موجودا في كلام الله ورسوله لكان عليهم بيان ذلك ; لأن العقوبات لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة كما قال تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فإذا لم يقيموا حجة الله التي يعاقب من خالفها، بل لا يوجد ما ذكروه في حجة الله وقد نهوا عن تبليغ حجة الله ورسوله كان هذا من أعظم الأمور مماثلة لما ذكر من حال الخوارج المارقين المضاهين للمشركين والمرتدين والمنافقين، الوجه الخامس عشر: أن القول الذي قالوه إن لم يكن حقا يجب اعتقاده لم يجز الإلزام به، وإن كان حقا يجب اعتقاده، فلا بد من بيان دلالته، فإن العقوبة لا تجوز قبل إقامة الحجة باتفاق المسلمين، فإن كان القول مما أظهره الرسول وبينه، فقد قامت الحجة ببيان رسوله، وإن لم يكن ذلك فلا بد من بيان حجته وإظهارها التي يجب موافقتها ويحرم مخالفتها، ولهذا قال الفقهاء في أهل البغي المتأولين: إن ذكروا مظلمة أزالها الإمام، وإن ذكروا شبهة بينوها له فإذا لم يبينوا صواب القول أصلا بل ادعوه دعوى مجردة حوربوا، فكيف يجب التزام مثل ذلك القول من غير الرسول، وهل يفعل هذا من له عقل أو دين ؟، ، الوجه السادس عشر: أنهم لو بينوا صواب ما ذكروه من القول لم يكن ذلك موجبا لعقوبة تاركه، فليس كل مسألة فيها نزاع إذا أقام أحد الفريقين الحجة على صواب قوله مما يسيغ له عقوبة مخالفة، بل عامة المسائل التي تنازعت فيها الأمة لا يجوز لأحد الفريقين المتنازعين أن يعاقب الآخر على ترك اتباع قوله، فكيف إذا لم يذكروا حجة أصلا ولم يظهروا صواب قولهم، الوجه السابع عشر: أنه لو فرض أن هذا القول الذي ألزموا به حق وصواب قد ظهرت حجته، ووجبت عقوبة تارك التزامه، فهذا لم يذكروه إلا في هذا الوقت، بعد هذا الطلب والحبس والنداء على الشخص المعين بالمنع من موافقته، ونسبته إلى البدعة والضلالة، ومخالفة جميع العلماء والحكام، وخروجه عما كان عليه الصحابة والتابعون إلى أنواع أخر مما قالوه وفعلوه في حقه، من الإيذاء والعقوبة والضرر زاعمين أن ما صدر عنه من الفتاوى والكتب يتضمن ذلك، فإذا أعرضوا عن ذلك بالكلية، ولم يبينوا في كلامه المتقدم شيئا من الخطإ والضلال الموجب للعقوبة، لم يكن ابتداؤهم بالدعاء إلى مقالة إنشاؤها مبيحا لما فعلوه قبل ذلك من الظلم والكذب والبهتان، والصد عن سبيل الله، والتبديل لدين الله، وإنما هذا انتقال من ظلم إلى ظلم ; ليقرروا بالظلم المتأخر حسن الظلم المتقدم، كمن يستجير من الرمضاء بالنار، وهذا يزيدهم إثما وعذابا، فهب أن هذا الشخص وافقهم الآن على ما أنشأه من القول، أي شيء في ذلك مما يدل على خطئه وضلاله في أقواله المتقدمة إذا لم تناف هذا القول ؟ دع استحقاق العقوبة والكذب والبهتان، فما لم يبينوا أن فيما صدر عنه قبل طلبه وحبسه وإعلام ما ذكروه من أمره ما يوجب ذلك لم ينفعهم هذا وهم قد عجزوا عن إبداء خطأ أو ضلال فيما صدر عنه من المقال، وهم دائما يستعفون من المحاقة والمناظرة بلفظ أو خط، وقد قيل لهم مرات متعددة: من أنكر شيئا فليكتب ما ينكره بخطه، ويذكر حجته، ويكتب جوابه، ويعرض الأمران على علماء المشرق والمغرب فأبلسوا وبهتوا وطلب منهم غير مرة المخاطبة في المحاضرة، والمحاقة والمناظرة، فظهر منهم من العي في الخطاب، والنكوص على الأعقاب، والعجز عن الجواب ما قد اشتهر واستفاض بين أهل المدائن والأعراب، ومن قضاتهم الفضلاء من كتب اعتراضا على الفتيا الحموية، وضمنه أنواعا من الكذب وأمورا لا تتعلق بكلام المعترض عليه، وقد كتبت جوابه في مجلدات، ومنهم من كتب شيئا ثم خبأه وطواه عن الأبصار، وخاف من نشره ظهور العار، وخزي أهل الجهل والصغار، إذ مدار القوم على أحد أمرين: إما الكذب الصريح، وإما الاعتقاد القبيح، فهم لن يخلوا من كذب كذبه بعضهم وافتراه، وظن باطل خاب من تقلده وتلقاه، وهذه حال سائر المبطلين من المشركين وأهل الكتاب الكفار والمنافقين . وقول من يقول من المتكلمين إن السوفسطائية قوم ينكرون حقائق الأمور، وأنهم منتسبون إلى رئيس لهم يقال له سوفسطا وأن منهم من ينكر العلم بشيء من الحقائق، ومنهم من ينكر الحقائق الموجودة أيضا مع العلوم، ومنهم اللا أدرية الذين يشكون فلا يجزمون بنفي ولا إثبات، ومنهم من لا يقر إلا بما أحسه، وقد رد هذا النقل والحكاية من عرف حقيقة الأمر وقال إن لفظ السوفسطائية في الأصل كلمة يونانية معربة أصلها سوفسقيا أي الحكمة المموهة فإن لفظ سو معناه في لغة اليونان الحكمة ولهذا يقولون فيلا سوفا أي محب الحكمة ولفظ فسقيا معناه المموهة، ومعلم المستأخرين المبتدعين منهم أرسطو لما قسم حكمتهم التي هي منتهى علمهم إلى برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموه وهي المغاليط سموها سوفسقيا فعربت وقيل سوفسطا ثم ظن بعض المتكلمين أن ذلك اسم رجل وإنما أصلها ما ذكر وإن كان لفظ السفسطة قد صار في عرف المتكلمين عبارة عن حجر الحقائق فلا ريب أن هذا يكون في كثير من الأمور، فمن الأمم من ينكر كثيرا من الحقائق بعد معرفتها كما قال تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وقد تشتبه كثير من الحقائق على كثير من الناس كما قد يقع الغلط للحس أو العقل في أمور كثيرة، فهذا كله موجود كوجود الكذب عمدا أو خطأ، أما اتفاق أمة على إنكار جميع العلوم والحقائق، أو على إنكار كل منهم لما لم يحسبه، فهو كاتفاق أمة على الكذب في كل خبر أو التكذيب لكل خبر ومعلوم أن هذا لم يوجد في العلماء والعلم بعدم وجود أمة على هذا الوصف كالعلم بعدم وجود أمة بلا ولادة ولا اغتذاء وأمة لا يتكلمون ولا يتحركون، ونحو ذلك مما يعلم أن البشر لا يوجدون على هذا الوصف، فكيف والإنسان هو حي ناطق ونطقه هو أظهر صفاته اللازمة له، كما قال تعالى: { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } والنطق إما إخبار وإما إنشاء والإخبار أصل فالقول بوجود أمة لا تقر بشيء من المخبرات إلا أن تحس المخبر بعينه ينافي ذلك، وإذا كان كذلك فأولئك المتكلمون من المشركين والسمنية الذين ناظروا الجهم، قد غالطوا الجهم ولبسوا عليه في الجدال حيث أوهموه أن ما لا يحسه الإنسان بنفسه لا يقر به وكأن الأصل أن ما لا يتصور الإحساس به لا يقر به فكان حقه أن يستفسرهم عن قولهم ما لا يحسه الإنسان لا يقر به هل المراد به هذا أو هذا فإن أراد أولئك المعنى الأول، أمكن بيان فساد قولهم بوجوه كثيرة، وكان أهل بلدتهم وجميع بني آدم يرد عليهم ذلك وإن أرادوا المعنى الثاني، وهو أن ما لا يمكن الإحساس به لا يقر به فهذا لا يضر تسليمه لهم، بل يسلم لهم، يقال لهم: فإن الله تعالى يمكن رؤيته وسمع كلامه بل قد سمع بعض البشر كلامه وهو موسى عليه السلام، وسوف يراه عباده في الآخرة وليس من شرط كون الشيء موجودا أن يحس به كل أحد في كل وقت، أو أن يمكن إحساس كل أحد به في كل وقت، فإن أكثر الموجودات على خلاف ذلك بل متى كان الإحساس به ممكنا ولو لبعض الناس في بعض الأوقات، صح القول بأنه يمكن الإحساس به، وقد قال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } وهذا هو الأصل الذي ضل به جهم وشيعته، حيث زعموا أن الله لا يمكن أن يرى ولا يحس به شيء من الحواس، كما أجاب إمامهم الأول للسمنية بإمكان وجود موجود لا يمكن إحساسه، ولهذا كان أهل الإثبات قاطبة متكلموهم وغير متكلميهم، على نقض هذا الأصل الذي بناه الجهمية، وأثبتوا ما جاء به الكتاب والسنة، من أن الله يرى ويسمع كلامه وغير ذلك، وأثبتوا أيضا بالمقاييس العقلية أن الرؤية يجوز تعلقها بكل موجود، فيصح إحساس كل موجود، فما لا يمكن إحساسه يكون معدوما، ومنهم من طرد ذلك في اللمس، ومنهم من طرده في سائر الحواس، كما فعله طائفة من متكلمة الصفائية الأشعرية وغيرهم، والمقصود هنا أن أولئك المشركين المناظرين قالوا كلاما مجملا فجعلوا الخاص عاما، والمعنى مطلقا، حيث قالوا: أنت لم تحسه وما لم تحسه أنت لا يكون موجودا والمقدمة الثانية باطلة لكن موهوها بالمعنى الصحيح، وهو أن ما لا يمكن إحساسه لا يكون موجودا فناظرهم المناظرون من الصائبة والمقتدي بهم جهم وأصحابه بحال في هذه المقدمة حتى نكروا الحق الذي عليه أولئك الذين موهوه بالباطل وزعم هؤلاء أنه قد يكون موجود ما لا يمكن إحساسه بحال في وقت من الأوقات لشيء من الموجودات وزعموا أن الروح كذلك، ثم أخذوا هذه المقدمة الباطلة التي نازعوا فيها أولئك المشركين فنازعوا فيها إخوانهم المؤمنين، فصاروا مجادلين للمؤمنين بمثل ما جادلوا به المشركين، كمن قاتل المشركين زعما منه أنه إن لم يقاتل ذلك القتال استولى عليه المشركون كما زعم هؤلاء أنهم إن لم يناظروا المشركين هذه المناظرة استعلى عليهم المشركون وانقطعت حجة المؤمنين في المناظرة، وصاروا عاجزين في النظر والمناظرة إذ لم يجدوا بزعمهم طريقا إلا هذه الطريق المبتدعة التي أحدثوها المشتملة على حق وباطل المتضمنة لجدال المشركين والمؤمنين كما أن أولئك المقاتلين لم يجدوا بزعمهم قتالا إلا هذا القتال المبتدع المشتمل على قتال المشركين والمؤمنين ولفظ الإحساس عام يستعمل في الرؤية والمشاهدة الظاهرة أو الباطنة كما قال تعالى: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا }، وقال تعالى: { فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله } ومعلوم أن الخلق كلهم ولدوا على الفطرة ومن المعلوم بالفطرة أن ما لا يمكن إحساسه لا باطنا ولا ظاهرا لا وجود له، والعقل هو الذي ضبط القدر المشترك الكلي، الذي بين أفراد الموجودات التي أحسها، والكلي لا وجود له كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان .

فهذه المقدمة الفطرية هي التي عليها أهل الإيمان، ومن كان باقيا على الفطرة فيها من المشركين واليهود والنصارى والصابئين وغيرهم كما أن أهل الفطر كلهم متفقون على الإقرار بالصانع، وأنه فوق العالم، وأنهم حين دعائه يتوجهون إلى فوق بقلوبهم وعيونهم وأيديهم، ولما كان أصل قول جهم هو قول المبدلين من الصابئة وهؤلاء شر من اليهود والنصارى، كان الأئمة يقولون إن قولهم شر من قول اليهود والنصارى وإن كانوا خيرا من المشركين، كالذين ناظرهم جهم ونحوهم ممن يعطل وجود الصانع، أو يوجب عبادة إله معه، فإن هؤلاء الصابئة ليسوا كذلك، لكنهم وإن لم يوجبوا الشرك فقد لا يحرمونه، بل يسوغون التوحيد والإشراك جميعا، ويستحسنون عبادة أهل التوحيد وعبادة أهل الإشراك جميعا ولا ينكرون هذا ولا هذا، كما هو موجود في كلامهم ومصنفاتهم لكن ليس الناس في التجهم على مرتبة واحدة بل انقسامهم في التجهم يشبه انقسامهم في التشيع، فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع أو من أعظم البدع التي أحدثت في الإسلام، ولهذا كان الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم إنما يتسترون بهذين بالتجهم والتشيع، قال الإمام أبو عبد الله البخاري في كتاب خلق الأفعال، عن أبي عبيد قال: ما أبالي أصليت خلف الجهمي أو الرافضي، أو صليت خلف اليهودي والنصراني، ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم، قال: وقال عبد الرحمن بن مهدي: هما ملتان الجهمية والرافضة هذان، وقد كان أمرهم إذ ذاك لم ينتشر ويتفرع ويظهر فساده كما ظهر فيما بعد ذلك، فإن الرافضة القدماء لم يكونوا جهمية، بل كانوا مثبتة للصفات وغالبهم يصرح بلفظ الجسم وغير ذلك، كما قد ذكر الناس مقالاتهم، كما ذكره أبو الحسن الأشعري وغيره في كتاب المقالات والجهمية لم يكونوا رافضة، بل كان الاعتزال فاشيا فيهم والمعتزلة كانوا ضد الرافضة وهم إلى النصب أقرب، فإن الاعتزال حدث من البصرة والرفض حدث من الكوفيين، والتشيع كثر في الكوفة وأهل البصرة كانوا بالضد، فلما كان بعد زمن البخاري من عهد بني بويه الديلم فشا في الرافضة التجهم وأكثر أصول المعتزلة، وظهرت القرامطة ظهورا كثيرا وجرى حوادث عظيمة، والقرامطة بنوا أمرهم على شيء من دين المجوس، وشيء من دين الصابئة، فأخذوا عن هؤلاء الأصلين النور والظلمة، وعن هؤلاء العقل والنفس، ورتبوا لهم دينا آخر ليس هو هذا ولا هذا، وجعلوا على ظاهره من سيما الرافضة، ما يظن الجهال به أنهم رافضة، وإنما هم زنادقة منافقون، اختاروا ذلك ; لأن الجهل والهوى في الرافضة أكثر منه في سائر أهل الأهواء، والشيعة هم ثلاث درجات، شرها الغالية الذين يجعلون لعلي شيئا من الإلهية أو يصفونه بالنبوة، وكفر هؤلاء بين لكل مسلم يعرف الإسلام، وكفرهم من جنس كفر النصارى من هذا الوجه، وهم يشبهون اليهود من وجوه أخرى، والدرجة الثانية: وهم الرافضة المعروفون، كالإمامية وغيرهم، الذين يعتقدون أن عليا هو الإمام الحق بعد النبي ﷺ بنص جلي أو خفي وأنه ظلم ومنع حقه، ويبغضون أبا بكر وعمر ويشتمونهما، وهذا هو عند الأئمة سيما الرافضة وهو بغض أبي بكر وعمر وسبهما، والدرجة الثالثة: المفضلة من الزيدية وغيرهم، الذين يفضلون عليا على أبي بكر وعمر، ولكن يعتقدون إمامتهما وعدالتهما ويتولونهم ا، فهذه الدرجة وإن كانت باطلة، فقد نسب إليها طوائف من أهل الفقه والعبادة، وليس أهلها قريبا ممن قبلهم، بل هم إلى أهل السنة أقرب منهم إلى الرافضة ; لأنهم ينازعون الرافضة في إمامة الشيخين وعدلهما وموالاتهما، وينازعون أهل السنة في فضلهما على علي - والنزاع الأول أعظم، ولكن هم المرقاة التي تصعد منه الرافضة فهم لهم باب، وكذلك الجهمية على ثلاث درجات فشرها الغالية الذين ينفون أسماء الله وصفاته وإن سموه بشيء من أسمائه الحسنى قالوا: هو مجاز فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم ولا يتكلم، وكذلك وصف العلماء حقيقة قولهم كما ذكره الإمام أحمد فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية قال: فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم: فمن تعبدون ؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة ؟ قالوا: نعم قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون، فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم ; لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منتفية وإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يعلم أنهم إنما يقودون قولهم إلى ضلال وكفر، وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة، باب الرد على الجهمية في نفيهم علم الله وقدرته، قال الله عز وجل: { أنزله بعلمه }، وقال سبحانه: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه }، وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه، وقال سبحانه: { فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } وقال سبحانه: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء }، وذكر تعالى القوة فقال: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } وقال: { ذو القوة المتين } وقال سبحانه: { والسماء بنيناها بأيد }، وزعمت الجهمية والقدرية: أن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر، وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير، فمنعهم من ذلك خوف السيف من إظهار نفي ذلك، فأتوا بمعناه ; لأنهم إذا قالوا لا علم ولا قدرة لله فقد قالوا إنه ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم، قال: وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل ; لأن الزنادقة قال كثير منهم ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت إن الله عز وجل عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية، من غير أن تثبت له علما أو قدرة أو سمعا أو بصرا، وكذلك قال في كتاب المقالات: الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين، وعمى العمين، وحيرة المتحيرين، الذين نفوا صفات رب العالمين، وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، لا صفات له، وأنه لا علم له، ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له، ولا عزة له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له، وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال: وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة، الذين يزعمون أن للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا قدير، وعبروا عنه بأن قالوا نقول: غير لم يزل ولم يزيدوا على ذلك، غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات، لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره، فأظهروا معناه، فنفوا أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به، غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك، قال: وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأنباري، كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة، وهذا القول الذي هو قول الغالية النفاة للأسماء حقيقة، هو قول القرامطة الباطنية، ومن سبقهم من إخوانهم الصابئة الفلاسفة، والدرجة الثانية: من التجهم هو تجهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة، لكن ينفون صفاته، وهم أيضا لا يقرون بأسماء الله الحسنى كلها على الحقيقة، بل يجعلون كثيرا منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون، وأما الدرجة الثالثة: فهم الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، لكن فيهم نوع من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية، أو غير الخبرية، ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها، ومن هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث، كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه وطائفة من أهل الحديث، ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضا في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه، وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعا عظيما فيما يثبتونه من الصفات أعظم من منازعتهم لسائر أهل الإثبات فيما ينفونه . اعرف رحمك الله تعالى وغناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها إذا لم تعرف قدر ما وصف، فما كلفك علم ما لم يصف، هل يستدل بذلك على شيء من طاعته أو ينزجر به عن معصيته، فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا قد استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب من وسمى نفسه بأن قال لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمي عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل: { وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة }: فقال لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونظرته إياهم { في مقعد صدق عند مليك مقتدر }، فهم بالنظر إليه ينظرون إلى أن قال: وإنما جحد رؤيته يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك { هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا لا }: قال: مؤمنين وكان له جاحدا، { وقال المسلمون يا رسول الله: هل نرى ربنا فقال رسول الله ﷺ: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب، قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك }، وقال رسول الله ﷺ: { لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض }، { وقال لثابت بن قيس: لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة }، وقال فيما بلغنا: { أن الله ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك قال: نعم قال: لا نعدم من رب يضحك } خيرا في أشباه لهذا مما لم يخصه، وقال الله تعالى: { وهو السميع البصير } وقال: { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا }، وقال: { ولتصنع على عيني }، وقال: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }، وقال: { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } فوالله ما دلهم على عظم ما وصف من نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم، أن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف، اعلم رحمك الله أن العصمة في الدين أن تنتهي حيث انتهى بك ولا تجاوز ما قد حد لك فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عينا ولا تتكلفن بما وصف من ذلك قدرا، وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في الحديث عن نبيك من ذكر ربك فلا تتكلفن علمه بعقلك ولا تصفه بلسانك واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف به نفسه مثل إنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحد الجاحدون مما وصف من نفسه فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها، فقدر الله عز وجل المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن، وما ذكر عن رسول الله ﷺ أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدا، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا لأن الحق ترك ما ترك وسمى ما سمى فمن { يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا }، وهب الله لنا ولكم حكما وألحقنا بالصالحين، فتدبر كلام هذا الإمام وما فيه من المعرفة والبيان، والمقصود هنا تكلمه بلفظ من في مواضع عديدة كقوله: وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف فذكر أن صفة شيء منه لا يعرف أحد حدها ولا قدرها ثم قال: الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفة أصغر مخلوقاته فجعل الصفة هنا له لا لشيء منه، لأنه استدل بالعجز عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة المخلوق تم أمر بمعرفة ما ظهر علمه بالكتاب والسنة والسكوت عما لم يظهر علمه، وذم من نفى ما ذكر أو تكلف علم ما لم يذكر، فقال: اعرف غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها فذكر أن من نفسه ما لم يصفه ونهى عن تكلف صفته، لأن الذي وصفه من نفسه يعجز عن معرفة قدره، فالعجز عما لم يذكر أولى، قال: إذا لم تعرف قدر ما وصف فما كلفك علم ما لم يصف، ثم قال: فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال لا بد إن كان له كذا من أن يكون له هذا فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها فذكر أيضا في هذا الكلام أن الرب وصف من نفسه وسمى من نفسه ما وصف وسمى وصمت عما لم يسم من نفسه وأن الجهمية يجحدون الموصوف المسمى من نفسه بأن ذلك يستلزم كذا وينفون اللازم الذي صمت الرب عنه فلم يذكره بنفي ولا إثبات ثم بين أن الجهمي ينكر الرؤية لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدا، فذكر أن المؤمنين يرون منه يوم القيامة ما صدقوا به في الدنيا وجحدته الجهمية، وأن الجهمي علم أن رؤيته تستلزم ثبوت ما جحده فلذلك أنكرها، وهكذا فإن الرؤية تستلزم ثبوت ذلك لا ريب، ولهذا كان من أثبت الرؤية ووافق الجهمي على نفي لوازمها مخالفا للفطرة العقلية عند عامة العقلاء المثبتة والنافية، ثم قال: لما ذكر قوله والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، فوالله ما دلهم على عظم ما وصف من نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم، فذكر أن ما دلت عليه الآية هو ما وصفه من نفسه، وأن هذا الموصوف منه نظيره منهم صغير، فإذا كان هذا عظمة الذي هو صغير بالنسبة إلى ما لم يذكر فكيف بعظمة ما لم يصف من نفسه سبحانه وتعالى، ثم قال: فما وصف من نفسه فسماه سميناه كما سماه ولم تتكلف من صفة ما سواه، فذكر أنا نسمي ونصف ما سمى ووصف من نفسه، ولا نتكلف أن نصف منه ما سوى ذلك، لا نجحد الموصوف من نفسه ولا نتكلف معرفة ما لم يصفه من نفسه، وسائر كلامه يوافق هذا يبين أنه وصف من نفسه موصوفات وسكت عما لم يصفه من نفسه كقوله فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل إنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحد الجاحدون مما وصف من نفسه فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها، فقد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر، وبإنكارهم ينكر ويسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما يبلغهم مثله عن نبيه فما مرض من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب قلب مؤمن، قوله في هذا الموضع يسمعون ما وصف الرب من نفسه من هذا في كتابه، فالله قال هنا ما وصف الرب به نفسه من هذا وفي سائر المواضع يقول ما وصف من نفسه، وذلك لأنه هنا قال يسمعون فلا بد أن يذكر الكلام الذي وصف الله به نفسه، والمسموع يتضمن ما وصفه من نفسه، فلهذا قال يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا وفي غير هذا الموضع، كقوله فما وصف من نفسه فسماه سميناه كما سماه، أراد ما دل عليه الكلام وبينه ووصفه وهو الذي وصفه الله من نفسه وسماه، وذلك يعلم ويعرف ويذكر ولا يسمع إلا إذا وصف وذكر وسيأتي بيان أن هذه الموصوفات التي وصفها الله من نفسه يوصف بها أيضا فهي موصوفة باعتبار والرب يوصف بها باعتبار، وذكر أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة له قال وفيما أجازني جدي رحمه الله قال: قال إسحاق بن راهويه إن الله تبارك وتعالى وصف نفسه من كتابه بصفات استغنى الخلق كلهم عن أن يصفوه بغير ما وصف به نفسه وأجله في كتابه، فإنما فسر النبي ﷺ معنى إرادة الله تبارك وتعالى قال الله في كتابه حيث ذكر عيسى ابن مريم، فقال: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } ( ) وقال في محكم كتابه: { فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله }، { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } ( )، وقال: { بل يداه مبسوطتان } وقال: { يد الله فوق أيديهم }، وقال: { خلقت بيدي } وقال في آيات كثيرة { وهو السميع البصير } وقال: { ولتصنع على عيني } وكل ما وصف الله به نفسه من الصفات التي ذكرناها مما هي موجودة في القرآن، وما لم نذكر فهو كما ذكر، وإنما يلزم العباد الاستسلام لذلك والتعبد لا نزيل صفة مما وصف الله به نفسه أو وصف الرسول عن جهته لا بكلام ولا بإرادة، وإنما يلزم المسلم الأداء ويوقن بقلبه أن ما وصف به نفسه في القرآن إنما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل ولا ملك مقرب تلك الصفات إلا بالأسماء التي عرفهم الرب تبارك وتعالى، فأما أن يدرك أحد من بني آدم معنى تلك الصفات فلا يدركه أحد، وذلك أن الله تعالى إنما وصف من صفاته قدر ما تحتمله عقول ذوي الألباب، ليكون إيمانهم بذلك ومعرفتهم بأنه الموصوف بما وصف به نفسه ولا يعقل أحد منتهاه ولا منتهى صفاته، وإنما يلزم المسلم أن يثبت معرفة صفات الله بالإتباع والاستسلام كما جاء، فمن جهل معرفة ذلك حتى يقول إنما أصف ما قال الله ولا أدري ما معاني ذلك حتى يفضي إلى أن يقول بمعنى قول الجهمية يد نعمة ويحتج بقوله أيدينا أنعاما ونحو ذلك، فقد ضل عن سواء السبيل، هذا محض كلام الجهمية حيث يؤمنون بجميع ما وصفنا من صفات الله، ثم يحرفون معنى الصفات عن جهتها التي وصف الله بها نفسه، حتى يقولوا معنى السميع هو البصير ومعنى البصير هو السميع، ويجعلون اليد يد نعمة وأشباه ذلك يحرفونها عن جهتها لأنهم هم المعطلة، فقد تبين مستند حكاية ابن شجاع الثلجي وزرقان وغيرهما، لما ينقلونه عن أهل الإثبات من التحريف، كقولهم إن الله هو القرآن أو إن القرآن بعضه قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني وتلميذ أبي المعالي في شرح الإرشاد فصل كلام الله صدق والدليل عليه إجماع المسلمين والكذب نقص قال ومما تمسك به الأستاذ أبو إسحاق والقاضي أبو بكر وغيرهما أن قالوا الكلام القديم هو القول الذي لو كان كذبا لنافى العلم به من حيث إن العالم بالشيء من حقه أن يقوم به إخبار عن المعلوم على الوجه الذي هو معلوم له وهكذا القول في الكلام القائم بالنفس شاهد أو هو الذي يسمى التدبير أو حديث النفس وهو ما يلازم العلم، قال فإن قيل لو كان العلم ينافي الكذب لم يصح من الواحد منا كذب على طريق الجحد وليس كذلك فإن ذلك متصور موهوم، قلنا الجحد إنما يتصور من العالم بالشيء في العبارة باللسان دون القلب وصاحب الجحد وإن جحده باللسان هو معترف بالقلب فلا يصح منه الجحد بالقلب، فإن قالوا لا يمتنع تصور الجحد بالقلب وتصور العلم في النفس جميعا قلنا إن قدر ذلك على ما تتصورونه فلم يكن ذلك كلاما على التحقيق وإنما هو تقدير كلام كما أن العلم بوحدانيته قد يقدر في نفسه مذهب الثنوية ثم لا يكون ذلك منافيا لعلمه بالوحدانية ولو كان ذلك اعتقادا حقيقيا لنافاه فإذا ثبت أن العلم يدل على الخبر الصدق فإذا تعلق الخبر بالمخبر على وجه الصدق فتقدير خبر خلف مستحيل مع الخبر القديم إذ لا يتجدد الكلام قال فإن قيل فإذا جاز أن يكون الكلام أمرا من وجه نهيا من وجه فكذلك يجوز أن يكون صدقا من وجه كذبا من وجه، قلنا الأمر في الحقيقة هو النهي لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والآمر بالشيء ناه عن ضده ولا تناقض فيه ولا يجوز أن يكون للصدق كذبا بوجه وتعلق الخبر بالمخبر بمثابة تعلق العلم بالمعلوم وإذا تعلق العلم بوجود الشيء فلا يكون علما بعدمه في حال وجوده، وقال أبو المعالي في إرشاده المشهور الذي هو زبور المستأخرين من أتباعه كما أن الغرر وتصفح الأدلة لأبي الحسين زبور المستأخرين من المعتزلة وكما أن الإشارات لابن سينا زبور المستأخرين من الفلاسفة تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون، وإن كانت طائفة أبي المعالي أمثل وأولى بالإسلام فصل ومذهب الأشعري نفسه، وطبقته كأبي العباس القلانسي ونحوه ومن قبله من قبله من أئمته كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ومن بعده من أئمة أصحابه الذين أخذوا عنه كأبي عبد الله بن مجاهد شيخ القاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي الحسن الباهلي شيخ ابن الباقلاني وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك وكأبي الحسن علي بن مهدي الطبري صاحب التآليف في تأويل الأحاديث المشكلات الواردة في الصفات ونحوهم، والطبقة الثانية التي أخذت عن أصحابه كالقاضي أبي بكر إمام الطائفة وأبي بكر بن فورك وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي علي بن شاذان، وغير هؤلاء إثبات الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن أو السنن المتواترة كاستوائه على العرش والوجه واليد ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك، وقد رأيت كلام كل من ذكرته من هؤلاء يثبت هذه الصفات ومن لم أذكره أيضا، وكتبهم وكتب من نقل عنهم مملوءة بذلك، وبالرد على من يتأول هذه الصفات والأخبار بأن تأويلهما طريق الجهمية والمعتزلة ونحو ذلك . 

===============

 20


-مسألة: في امرأة بانت فتزوجت بعد شهر ونصف بحيضة واحدة ؟

الجواب: تفارق هذا الثاني، وتتم عدة الأول بحيضتين، ثم بعد ذلك تعتد من وطء الثاني بثلاث حيضات، ثم بعد ذلك يتزوجها بعقد جديد . وأما الحديث المذكور في قبض روح المؤمن وأنه يصعد بها إلى السماء التي فيها الله، فهذا حديث معروف جيد الإسناد، وقوله " فيها الله " بمنزلة قوله تعالى {: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير }، وبمنزلة ما ثبت في الصحيح { أن النبي ﷺ قال لجارية معاوية بن الحكم: أين الله ؟ قالت: في السماء، قال من أنا ؟ قالت أنت رسول الله، قال أعتقها فإنها مؤمنة }: وليس المراد بذلك أن السماء تحصر الرب وتحويه كما تحوي الشمس والقمر وغيرهما، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا يعتقده عاقل فقد قال سبحانه وتعالى: { وسع كرسيه السماوات والأرض } والسموات في الكرسي كحلقة ملقاة في أرض فلاة، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، والرب سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وقال تعالى: { ولأصلبنكم في جذوع النخل } وقال: { فسيحوا في الأرض }، وقال: { يتيهون في الأرض } وليس المراد أنهم في جوف النخل، وجوف الأرض، بل معنى ذلك أنه فوق السموات وعليها بائن من المخلوقات كما أخبر في كتابه عن نفسه أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وقال: { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي }، وقال تعالى: { تعرج الملائكة والروح إليه }، وقال: { بل رفعه الله إليه }، وأمثال ذلك في الكتاب والسنة، وجواب هذه المسألة مبسوط في غير هذا الموضع .

فصل: والتسمية على الذبيحة مشروعة، لكن قيل: هي مستحبة، كقول الشافعي وقيل: واجبة مع العمد، وتسقط مع السهو، كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه، وقيل: تجب مطلقا فلا تؤكل الذبيحة بدونها، سواء تركها عمدا أو سهوا كالرواية الأخرى عن أحمد، اختارها أبو الخطاب وغيره، وهو قول غير واحد من السلف، وهذا أظهر الأقوال، فإن الكتاب والسنة قد علق الحل بذكر اسم الله في غير موضع، كقوله: { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه }، وقوله: { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه }، { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه }، وفي الصحيحين أنه قال: { ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا }، وفي الصحيح أنه قال لعدي: { إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فقتل فكل، وإن خالط كلبك كلاب أخر، فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره }، وثبت في الصحيح { أن الجن سألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي ﷺ فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن }، فهو ﷺ لم يبح للجن المؤمنين إلا ما ذكر اسم الله عليه، فكيف بالإنس، ولكن إذا وجد الإنسان لحما قد ذبحه غيره جاز له أن يأكل منه، ويذكر اسم الله عليه، لحمل أمر الناس على الصحة والسلامة، كما ثبت في الصحيح أن { قوما قالوا: يا رسول الله إن ناسا حديثي عهد بالإسلام يأتونا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا، فقال: سموا أنتم وكلوا } . فكذا دعواه الإنفاق فإن العادة هناك أقوى ولو أنفق الزوج على الزوجة وكساها مدة ثم ادعى الولي عدم إذنه وأنها تحت حجره لم يسمع قوله إذا كان الزوج قد تسلمها التسليم الشرعي باتفاق أئمة العلماء وخالف فيه شذوذ من الناس وإقرار الولي لها عنده مع حاجتها إلى النفقة والكسوة إذن عرفي ذكر أصحابنا من الصور المسقطة لنفقة الزوجة صوم النذر الذي في الذمة والصوم للكفارة وقضاء رمضان قبل ضيق وقته إذا لم يكن ذلك في إذنه، قال أبو العباس: قضاء النذر والكفارة عندنا على الفور فهو كالمعين، وصوم القضاء يشبه الصلاة في أول الوقت ثم ينبغي في جميع صور الصوم أن تسقط نفقة النهار فقط فإن مثل هذا تنشز يوما وتجيء يوما فإنه لا يمكن أن يقال في هذا كما قيل في الإجارة إن منع تسليم بعض المنفعة يسقط الجميع إذ ما مضى من النفقة لا يسقط ولو أطاعت في المستقبل استحقت والزوجة المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها ولا سكنى إلا إذا كانت حاملا فروايتان وإذا لم توجب النفقة في التركة فإنه ينبغي أن تجب لها النفقة في مال الحمل أو في مال من تجب عليه النفقة إذا قلنا تجب للحمل كما تجب أجرة الرضاع، وقال أبو العباس: في موضع آخر النفقة والسكنى تجب للمتوفى عنها في عدتها ويشترط فيها مقامها في بيت الزوج فإن خرجت فلا جناح إذا كان أصلح لها، والمطلقة البائن الحامل يجب لها النفقة من أجل الحمل وللحمل وهو مذهب مالك وأحد القولين في مذهب أحمد، والشافعي، وإذا تزوجت المرأة ولها ولد فغضب الولد، وذهبت به إلى بلد آخر فليس لها أن تطالب الأب بنفقة الولد . وإذا عفا أولياء المقتول عن القاتل بشرط ألا يقيم في هذا البلد ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازما بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول العلماء وبالدم في قول آخر، وسواء قيل هذا الشرط صحيح أم فاسد يفسد به العقد أم لا، ولا يصح العفو في قتل الغفلة لتعذر الاحتراز منه كالقتل في المحاربة وولاية القصاص والعفو عنه ليست عامة لجميع الورثة بل تختص بالعصبة وهو مذهب مالك، وتخرج رواية عن أحمد وكما قد يفرق بعض أصحابنا وغيرهم بين المستحل بناء على عدم التحريم، فيقولون: إن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه الناسخ، ويثبتون حكم التحريم والإيجاب المبتدأ في حقه قبل بلوغ الخطاب، ولأصحابنا وغيرهم في هذا الأصل ثلاثة أقوال، أحدهما: لا يثبت حكم تحريم ولا إيجاب لا مبتدأ ولا ناسخ إلا في حق من قامت عليه الحجة في ذلك الحكم، والثاني: يثبت حكمها قبل العلم والتمكين منه لا بمعنى التأثيم لكن معنى الاستدراك إما بإعادة أو نزع ملك، والثالث: يثبت المبتدأ ولا يثبت الناسخ، وليس كلامنا هنا في هذه المسألة وإنما الكلام في أن عدم الإثم في هذه الأقسام الثلاثة نوعا وشخصا في الأحكام المعينة شخصا مثل استحلال هذا الفرج وهذا المال ببيع أو نكاح مع الانتفاء في الباطن فقط، هل لقيام الإباحة الشرعية ظاهرا أو لعدم التحريم الشرعي ظاهرا، فإن بين ثبوت التحريم وثبوت التحليل الشرعيين منزلة العفو، وهو في كل فعل لا تكليف فيه أصلا، قال الله تعالى { عفا الله عنها }، وقال النبي ﷺ، { إن من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته } وعنه ﷺ { الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفي عنه }، ويفرق بين النوع الذي لم يعلم ناسخه وبين الشخص الذي اعتقد اندراجه في القسم الجائز، فإن من علم أن الله أمر باستقبال بيت المقدس فهو على بصيرة في نفس هذا الحكم حتى يأتي الناسخ ولم يكن منه خطأ أصلا لا معذور هو فيه ولا غير معذور هو فيه، وأما من اعتقد أن هذا البائع صادق أو أن هذه المرأة خلية فهذا اعتقاده في أمر عيني، وهو مخطئ في هذا الاعتقاد، ولا يمكن أن يقال إن الله أباح هذا الاعتقاد المعين والعمل به، بل يقال إن الله ما حرم عليه العمل بهذا الاعتقاد المعين، ولهذا فرق الإمام أحمد في رواية ابن الحكم بين من عمل بنص قد جاء فيه نص آخر فمنع أن يسمى مخطئا، ومن عمل باجتهاد فقال فيه لا يدري أصاب الحق أم أخطأ، إذا كان متبع النص قد علم أن الله أمره باتباع هذا النص المعين، ومتبع الاجتهاد لم يعلم أن الله أمره باتباع هذا الاجتهاد المعين ويظهر هذا على دقته بمثال مشهود وهو صلاة من اعتقد أنه على طهارة، فإن من الناس المتكلمين وغيرهم من يقول هو مأمور بالصلاة في هذه الحال، ومن الفقهاء من يقول هذه الصلاة ليست مأمورا بها، ولكن هو اعتقد أنه مأمور بها ولم يعتقد أنه ترك المأمور به ولم يفعله وهذا أصح، ولو أدى ما أمر به كما أمره لم يؤمر بالقضاء، والله سبحانه لم يقل له إذا اعتقدت أنك على طهارة فصل، وإنما قال { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } وقال النبي ﷺ { لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ }، وقال { لا يقبل الله صلاة بغير طهور }، ولكن لم يكلفه أن يكون في نفس الأمر على طهارة، فإن هذا يشق بل إذا اعتقد أنه على طهارة فإنه لا ينهاه أن يصلي بذلك، فإن استمر به هذا الخطأ غفر له ; لأنه أتى بالمأمور به لكن ; لأنه لم يتعهد ترك المأمور به بل قصد فعله وفعل ما اعتقده مجزيا فإنه ليس بدون من نسي الصلاة واستمر به النسيان، ومن اعتقد فيما يفعله أنه هو المأمور به ولم يكن كذلك لم نقل: إنه مأمور بفعله لكن هذا المعين نقول لم ينه عن الإتيان به أي لم ينه عنه بمثل الأمر بفعل هذا المعين فإن التعيينات الواقعة في الفعل الممثل به لا يشترط أن يكون مأمورا بها، بل يشترط أن لا يكون منهيا عنها، والأمر إنما وقع بحقيقة مطلقة بمنزلة من له عند رجل دراهم فوفاه ما يعتقد جيدة فظهرت رديئة، فإن المستحق نقد مطلق وكونه هذا النقد أو هذا النقد تعيينات، يتأدى بها الواجب لا أن نفس ذلك التعيين واجب فالواجب تأدية ذلك المطلق، والتعيينات غير منهى عن شيء منها، فإذا قضاه دراهم فعل فيها الواجب الذي هو المطلق، واقترن به تعيين لم ينه عنه فلا يضره، كذلك المصلي أمر أن يصلي بطهارة، فهذه الصلاة المعينة لم يؤمر بعينها، بل لم ينه عن عينها وفي عينها المطلق المأمور به، فاقترن ما أمر به بما لم ينه عنه، وإذا اعتقد أنه على طهارة فالشارع لا ينهاه عن أن يؤدي الفرض بهذا الاعتقاد لا أنه يأمره أن يؤديه بهذا الاعتقاد، فإنه لو أداها بطهارة غير هذه جاز، فإذا أداه ثم تبين أنه كان محدثا لم يجزه ; لأن ذلك المعين لم يتضمن المأمور به، ولا تضمن أيضا المنهي عنه، فتدبر هذا المقام فإنه كثيرا ما يجول في الشريعة وغيرها أصولا وفروعا، ومن لم يحكمه بلغت به الشبهات الكلامية التي لم يصحبها نور الهداية، إلا أن يلجأ إلى ركن الاتباع الصرف، غير جائل في أختيه وهو لعمر الله الركن الشديد والعروة الوثقى، لكن { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }، ومن حققه انجلت عنه الشبهات التي عدها قاطعة من خالف السابقين في تعميم التصويب لكل مجتهد ورد أحكام الله تعالى إلى ظنون المستدلين، واعتقادات المخلوقين، وأشكل من هذا إذا أوجب فعل ذلك المعين لاندراجه في قضية نوعية، لا لنفس بعينه كالحاكم إذا شهد عنده شاهدان، يعتقد عدلهما فيقول الكلامي الظاهري الزاعم التحقيق، الحاكم مأمور بأن يقبل شهادة هذين سواء كانا في نفس الأمر صادقين أو كاذبين، وإذا فعل هذا فهو فاعل لحكم الله، وإن أسلم المال إلى غير مستحقه في الباطن، وهذا غلط، فهل رأيت الله يأمر بالخطإ هذا لا يكون من العليم الحكيم، لكنه لا ينهى عن الخطإ ; لأن تكليف العبد اجتناب الخطإ يشق على الخلق، { وما جعل عليكم في الدين من حرج }، بل قد يعجز الخلق عن اجتناب الخطإ فعفا عن الخطإ كما نطق به في كتابه في الدعاء الذي دعا به الرسول والمؤمنون "، وثبت عن رسول الله ﷺ أنه أخبر عن ربه أنه قال قد فعلت وهو قوله: { لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }، فإنه إنما رفع المؤاخذة بالخطإ، وذلك أن الله إنما أمر الحاكم أن يحكم بشهادة العدل المرضي، كما جاء به الكتاب والسنة، فإذا اعتقد أن هذا المعين عدل لم ينهه أن يحكم بعينه، فيجتمع الأمر بالحكم بكل عدل، وعدم النهي عن هذا المعين فيحكم به بناء على القدر المشترك المأمور به، لا على التعيين الذي لم ينه عنه فإن تبين أنه ليس بعدل تبين أنه ما فعل المأمور به، وكان معذورا في أنه ما فعله فهو لا يؤاخذه ويثيبه ثواب من اجتهد في فعل المأمور به، لا ثواب من فعل المأمور به، ولهذا ينقض حكمه ويوجب عليه الضمان، ولو أتى بما أمر به كما أمر به لم يكن نقضا ولا ضمانا، يوضح هذا: أن اعتقاده أن هذا عدل هو طريق يؤدي به المأمور به لا يمكنه غيره، بمنزلة من له عليه دين وليس عنده إلا مال في كيس، فأداه وقد وجب أداء عينه لا لوجوب عينه لكن لأنه لا يتمكن من أداء الواجب إلا به فإذا تبين زيفا، تبين أنه لم يكن طريقا لأداء الواجب، كذلك اعتقاد الحاكم والمفتي وغيرهما ليس هو المأمور به، ولا داخلا في نوع المأمور به إذا كان خطأ، فإن الله ما أمره أن يعمل بعين هذا الاعتقاد بل أمره أن يقبل شهادة العدل، ولا طريق له في أداء هذا الأمر إلا باعتقاده، فلم ينهه عن العمل بالاعتقاد الذي يؤدي به المأمور به، كما لا ينهى القاضي عن أداء ما في الكيس، وحقيقة الأمر أن المأمور به مطلق ليس فيه نقص، كما في الدين المطلق، فإن دين الله بمنزلة دين العبد، والديون الثابتة في الذمم لا تثبت إلا مطلقة، لكنها إذا أديت فلا تؤدى إلا معينة مشخصة، فإن معتق الرقبة لا يعتق إلا رقبة معينة، وكذلك المصلي لا يؤدي إلا صلاة معينة، وهو ممتثل بذلك المعين ما لم يشتمل على منهي عنه، وقد يقال للمعين هذا هو الفرض، ويقال للمال الموفى هذا حقك الذي كان علي لما بين الصور المعقولة والحقيقة الموجدة من الاتحاد والمطابقة . اختلاف المعتزلة في أن الباري متكلم فقال: اختلفت المعتزلة في ذلك فمنهم من أثبت الباري متكلما، ومنهم من امتنع أن يثبت الباري متكلما ولو أثبته متكلما لأثبته منفصلا، والقائل لهذا الإسكافي، وعباد بن سليمان، قلت: وأما نقل أبي الحسين البصري اتفاق المسلمين على أن الباري متكلم، ونقل من أخذ ذلك عنه كالرازي وغيره، فليس بمستقيم، فإن أبا الحسين كان يأخذ ما يذكره مشايخه البصريون وما نقلوه، وهؤلاء يوافقون المسلمين على إطلاق القول بأن الله متكلم، فيوافقون أهل الإيمان في اللفظ وهم في المعنى قائلون بقول من نفى ذلك، فإذا ذكر الإجماع على هذا الإطلاق ظن المستمع لذلك أن النزاع في تغيير اللفظ كالنزاع في تغيير بعض آيات القرآن، وليس كذلك بل النفاة حقيقة قولهم نفي أن يكون الله متكلما كما يصرح بذلك من يصرح منهم، ولكن وافقوا المسلمين على إطلاق اللفظ نفاقا من زنادقتهم وجهلا من سائرهم، وهذا الذي بينه الإمام أحمد هو محض السنة وصريحها الذي كان عليه أئمتها وقد خلصه تخليصا لا يعرف قدره إلا خواص الأمة الذين يعرفون مزال أقدام الأذكياء الفضلاء في هذه المهمة الغبراء، حتى كثر بين الفرق من الخصومات والأهواء وسائر الناس يقولون بذلك من وجه دون وجه، قال الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة: قرأت في كتاب شاكر عن أبي زرعة، قال: إن الذي عندنا أن القوم لم يزالوا يعبدون خالقا كاملا لصفاته ومن زعم أن الله كان ولا علم ثم خلق علما فعلم بخلقه، أو لم يكن متكلما فخلق كلاما ثم تكلم به، أو لم يكن سميعا بصيرا ثم خلق سمعا وبصرا: فقد نسبه إلى النقص، وقائل هذا كافر، لم يزل الله كاملا بصفاته لم تحدث فيه صفة، ولا تزول عنه صفة قبل أن يخلق الخلق وبعد ما خلق الخلق كاملا بصفاته، فمن وجه أن الرب تبارك وتعالى يتكلم كيف يتكلم بشفتين ولسان ولهوات، فهذه السماوات والأرض قال لهما: { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } أفهاهنا شفتان ولسان ولهوات، قلت: أبو زرعة الرازي كان يشبه بأحمد بن حنبل في حفظه وفقهه ودينه ومعرفته وأحمد كان عظيم الثناء عليه، داعيا له، وهذا المعنى الذي ذكره هو في كلام الإمام أحمد في مواضع، كما ذكره الخلال في كتاب السنة عن حنبل، وقد ذكره حنبل في كتبه مثل كتاب السنة والمحنة لحنبل .

الوجه الثالث والثلاثون: أن يقال لهم إذا جاء أن تجعلوا هذه الحقائق المختلفة حقيقة واحدة سواء قلتم بثبوت الحال أو نفيه وأن كونها أمرا ونهيا وخبرا وأمرا بكذا ونهيا عن كذا إنما هي أمور نسبية لها كتسمية المعنى الذي في النفس عربيا وعجميا، ولهذا تنازع ابن كلاب والأشعري في هذه التسمية بالأمر والنهي والخطاب، هل هي حادثة عند حدوث المخاطب كما يقوله ابن كلاب، أو قديمة كما يقوله الأشعري، فيقال لكم هذا بعينه يقال لهم في الصفات من العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، فهلا جعلتم هذه الصفات حقيقة واحدة، وهذه الخصائص عوارض نسبية لها، بل جعل السمع والبصر بمعنى علم خاص أقرب إلى المعقول من جعل حقيقة معنى كل خبر حقيقة معنى كل أمر، وحقائق معاني الأخبار شيء واحد، وهم قد ذكروا هذه المسألة فقال الرازي: الفصل الثاني: في أنه لا يجوز أن يكون الله موصوفا بصفة واحدة تفيد فائدة الصفات المختلفة السبعة، قال: اعلم أن فساد ذلك على القول بنفي الحال معلوم بالضرورة على ما قررناه يعني على ما قرره في مسألة الكلام أنه يمتنع أن يكون الطلب هو الخبر قال وأما على القول بالحال، فالقاضي أبو بكر عول في إبطال هذا الاجتماع على الإجماع وهو أن القائل قائلان منهم من أثبتها ومنهم من نفاها وكل من أثبتها قال إنها صفات متعددة، فالقول بأنها صفة واحدة يكون خرقا للإجماع، قلت وهذه الحجة إن كانت صحيحة فلا يمكن طردها في الكلام فإنه لا إجماع على أنه معنى واحد، الوجه الرابع والثلاثون: إن هؤلاء يجعلون حقيقة معنى ما أخبر الله به عن نفسه هو حقيقة معنى ما أخبر الله به عن الجن والجحيم ومن المعلوم أن معاني الكلام تتبع الحقائق الخارجة وتطابقها فمعنى الخبر عن الملائكة والجن يطابق ذلك ومعنى الخبر عن الجن والنار يطابق ذلك فإذا كان معنى هذا الخبر هو حقيقة معنى هذا الخبر وكلاهما مطابق لمخبره لزم أن يكون هذا المخبر هو هذا المخبر فيلزم أن تكون الحقائق الموجودة كلها شيئا واحدا فتكون الجنة هو النار والملائكة هم الشياطين والموجود هو المعدوم والثبوت هو الانتفاء، وفي ذلك من اجتماع النقيضين ما لا يحصى، وهذا لازم لقولهم لا محيد عنه فإن الخبر الصادق الحكم الذهني والحكم الذهني يطابق الحقيقة الموجودة، وكل أخبار الله صادقة فإذا كانت جميعها حقيقة واحدة ليس فيها تغاير أصلا وذلك هو الحكم الذهني لزم أن تكون هذه الحقيقة مطابقة للوجود الخارج بخلاف الخبر الكذب فإنه لا يجب مطابقته للوجود الخارجي والحكم الواحد الذهني الذي لا تغاير فيه بوجه من الوجوه إذا طابق المحكوم به لزم أن يكون المحكوم به كذلك وإلا لم يكن مطابقا، وكذلك فإن الله أمر بالإيمان والصلاة والزكاة ونهى عن الكفر والكذب والظلم، فإذا كان حقيقة الأمر هي حقيقة النهي، إنما لها نسبة إلى الأفعال فقط لم يكن فرق بين المأمور به والمنهي عنه، بل إذا قيل إن المنهي عنه مأمور به والمأمور به منهي عنه لم يمتنع ذلك إذ كانت الحقيقة واحدة، وإنما اختلف التعلق والتعلق ليس له حقيقة يمنع الاختلاف بل يمكن فرض تعلقه أمرا كتعلقه نهيا مع أن الحقيقة باقية فيمكن على هذا تقدير المأمور به منهيا عنه وبالعكس، ولم يتغير شيء من الحقائق .

الوجه الرابع والعشرون: إن ما ذكروه في إثبات أن معنى الأمر والخبر ليس هو العلم ولا الإرادة وما يتبع ذلك من ضرب المثل بأمر الامتحان وخبر الكاذب، يقال في ذلك لا ريب أن الكاذب المخبر يقدر في نفسه الشيء على خلاف ما هو به ويخبر به بلسانه، لكن ذلك المقدر هو تقدير العلم، فإن الخبر الصدق الذي يعلم صاحبه أنه صدق لما كان معناه العلم المطابق للخارج، فالمخبر الكاذب الذي يعلم أنه كاذب قدر في نفسه تقديرا مضاهيا للعلم فإن تقدير الموجود معدوما والمعدوم موجودا في الأذهان واللسان أكثر من أن يحصر فمعنى خبره هو علم مقدر لا علم محقق، لأن مخبر الخبر في الخارج له وجود مقدر لا وجود محقق، والمقدر ليس بمحقق لا في الذهن ولا في الخارج، لكن لما قدر هو أنه عالم قدر أيضا وجود المخبر في الخارج، والمستمع لما اعتقد صدقه وحسبانه صادق، وأن لما قاله حقيقة لم يظنه مقدرا بل حسبه محققا، وكل اعتقاد فاسد تقديرات ذهنية لا حقيقة لها في الخارج، وهي أخبار واعتقادات وإن لم تكن علوما، لكن هي في الصورة من جنس المحقق كما أن لفظ الكاذب من جنس لفظ الصادق وخطه من جنس خطه فهما متشابهان في الدلالة خطا ولفظا وعقدا، فكذلك أمر الممتحن هو في الحقيقة ليس بطالب ولا مريد أصلا بل هو مقدر لكونه طالبا مريدا لأنه يظهر بتقدير ذلك من طاعة المأمور وامتثاله ما يظهر بتحقيقه ثم إظهار ذلك هو من باب المعاريض، قد يجوز ذلك وقد لا يجوز، مثل أن يفهم المتكلم للمستمع معنى لم يرده المتكلم واللفظ قد يدل عليه بوجه ولا يدل عليه بوجه فمعناه في نفسه هو الذي لا يفهمه المستمع ومفهوم المستمع شيء آخر وكذلك الممتحن مدلول الصيغة في نفسه طلب مقدر وإرادة مقدرة وبالنسبة إلى المستمع طلب محقق وإرادة محققة إذا لم يعلم باطن الأمر، وكذلك مدلول الصيغة عند الكذاب هو ما اختلقه والاختلاق هو التقدير وهو ما قدره في ذهنه مما ليس له حقيقة وعند المستمع هو ما يجب أن يعنى باللفظ من المعاني المحققة، الوجه الخامس والعشرون: أن يقال لهم أنتم قررتم في أصول الفقه أن اللفظ المشهور الذي تتداوله الخاصة والعامة لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى دقيق لا يدركه إلا خواص الناس، وهذا حق وذلك لأن تكلم الناس باللفظ الذي له معنى يدل على اشتراكهم في فهم ذلك المعنى خطابا وسماعا فإذا كان ذلك المعنى لا يفهمه إلا بعض الناس بدقيق الفكرة امتنع أن يكون ذلك المعنى هو المراد بذلك اللفظ لأن معنى ذلك اللفظ يعرفه العامة والخاصة بدون فكرة دقيقة وقد مثلوا ذلك بلفظ الحركة هل هو اسم لكون الجسم متحركا أو لمعنى يوجب كونه متحركا، وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن أظهر الأسماء ومسمياتها هو اسم القول والكلام والنطق وما يتفرع من ذلك كالأمر والنهي والخبر والاستخبار إذ أظهر صفات الإنسان هو النطق كما قال تعالى: { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } والألفاظ الدالة على هذه المعاني من أشهر الألفاظ ومعانيها من أظهر المعاني في قلوب العامة والخاصة والمعنى الذي يقولون إنه هو الكلام إما أن يكون باطلا لا حقيقة له وراء العلم والإرادة واللفظ الدال عليهما أو يكون له حقيقة فإن لم تكن له حقيقة بطل قولكم بالكلية وإن كانت له حقيقة فلا ريب أنها حقيقة مشتبهة متنازع فيها نزاعا عظيما وأكثر طوائف أهل القبلة وغيرهم لا يعرفونها ولا يقرون بها وإذا أثبتموها إنما تثبتونها بأدلة خفية بل قد يعترفون أن معرفة هذه الحقيقة في الشاهد غير ممكن ولكن يدعون ثبوتها في الغائب وإذا كان كذلك فمن امتنع أن يكون ذلك هو المراد من لفظ الكلام والقول والأمر والنهي الذي لفظه ومعناه من أشهر المعارف عند العامة والخاصة فعلم أن الذي قلتموه باطل بلا ريب .

(كتاب الطهارة ) قال شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علم العلماء الأعلام، خاتمة الحفاظ والمجتهدين: تقي الدين أبو العباس الإمام أحمد بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، نفع الله بعلومه جميع المسلمين آمين، - مسألة: في قوله: ﷺ: { نية المرء أبلغ من عمله } الجواب: هذا الكلام قاله غير واحد، وبعضهم يذكره مرفوعا، وبيانه من وجوه، أحدها: أن النية المجردة من العمل يثاب عليها، والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق الأئمة: أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص لله لم يقبل منه ذلك، وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه: عن النبي ﷺ أنه قال: { من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة }، الثاني: أن من نوى الخير وعمل منه مقدوره، وعجز عن إكماله: كان له أجر عامل كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بالمدينة ؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر }، وقد صحح الترمذي حديث أبي كبشة الأنماري، { عن النبي ﷺ أنه ذكر أربعة رجال: رجل آتاه الله مالا وعلما وهو يعمل فيه بطاعة الله، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، قال: فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يعمل فيه بمعصية الله، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، قال: فهما في الوزر سواء }، وفي الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء }، وفي الصحيحين عنه أنه قال: { إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم } وشواهد هذا كثيرة، الثالث: أن القلب ملك البدن، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والنية عمل الملك بخلاف الأعمال الظاهرة فإنها عمل الجنود .

مسألة: في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ فيما يروى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر لكم ذنوبكم جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم: أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه } ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما قوله تعالى { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي }، ففيه مسألتان كبيرتان، كل منهما ذات شعب وفروع، إحداهما: في الظلم الذي حرمه الله على نفسه، ونفاه عن نفسه، بقوله: { وما ظلمناهم }، وقوله: { ولا يظلم ربك أحدا }، وقوله: { وما ربك بظلام للعبيد }، وقوله: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها }، وقوله: { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا }، ونفى إرادته بقوله: { وما الله يريد ظلما للعالمين }، وقوله: { وما الله يريد ظلما للعباد }، ونفى خوف العباد له بقوله: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما }، فإن الناس تنازعوا في معنى هذا الظلم تنازعا صاروا فيه بين طرفين متباعدين، ووسط بينهما، وخيار الأمور أوساطها، وذلك بسبب البحث في القدر ومجامعته للشرع، إذ الخوض في ذلك بغير علم تام أوجب ضلال عامة الأمم، ولهذا نهى النبي ﷺ أصحابه عن التنازع فيه، فذهب المكذبون بالقدر القائلون بأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يرد أن يكون إلا ما أمر بأن يكون، وغلاتهم المكذبون بتقدم علم الله وكتابه بما سيكون من أفعال العباد من المعتزلة وغيرهم، إلا أن الظلم منه هو نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه ومثلوه في الأفعال بأفعال العباد، حتى كانوا هم ممثلة الأفعال، وضربوا لله الأمثال، ولم يجعلوا له المثل الأعلى، بل أوجبوا عليه وحرموا ما رأوا أنه يجب على العباد ويحرم بقياسه على العباد، وإثبات الحكم في الأصل بالرأي، وقالوا عن هذا: إذا أمر العبد، ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالما له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالا، كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالما، إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلما، وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك، ومن لم يقم، وإن كان ذلك الاستحقاق خلقه لحكمة أخرى عامة أو خاصة، وهذا الموضع زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، فعارض هؤلاء آخرون من أهل الكلام المثبتين للقدر، فقالوا: ليس للظلم منه حقيقة يمكن وجودها، بل هو من الأمور الممتنعة لذاتها، فلا يجوز أن يكون مقدورا، ولا يقال إنه هو تارك له باختياره ومشيئته، وإنما هو من باب الجمع بين الضدين، وجعل الجسم الواحد في مكانين، وقلب القديم محدثا، والمحدث قديما، وإلا فمهما قدر في الذهن وكان وجوده ممكنا والله قادر عليه فليس بظلم منه، سواء فعله أو لم يفعله، وتلقى هذا القول عن هؤلاء طوائف من أهل الإثبات من الفقهاء، وأهل الحديث من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ومن شراح الحديث ونحوهم، وفسروا هذا الحديث بما ينبني على هذا القول، وربما تعلقوا بظاهر من أقوال مأثورة، كما رويناه عن إياس بن معاوية، أنه قال: ما ناظرت بعقلي كله أحدا إلا القدرية، قلت لهم: ما الظلم ؟ قالوا أن تأخذ ما ليس لك، أو أن تتصرف فيما ليس لك، قلت: فلله كل شيء، وليس هذا من إياس إلا ليبين أن التصرفات الواقعة هي في ملكه، فلا يكون ظلما بموجب حدهم، وهذا مما لا نزاع بين أهل الإثبات فيه، فإنهم متفقون مع أهل الإيمان بالقدر على أن كل ما فعله الله هو عدل. وفي حديث الكرب الذي رواه الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله ﷺ: { ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا، قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهن ؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن }، فقد بين أن كل قضائه في عبده عدل، ولهذا يقال: كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، ويقال: أطعتك بفضلك والمنة لك، وعصيتك بعلمك أو بعدلك والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي، وهذه المناظرة من إياس، كما قاله ربيعة بن أبي عبد الرحمن لغيلان، حين قال له غيلان نشدتك الله، أترى الله يحب أن يعصى ؟ فقال: نشدتك الله، أترى يعصى قسرا يعني قهرا فكأنما ألقمه حجرا، فإن قوله: يحب أن يعصى، لفظ فيه إجمال، وقد لا يتأتى في المناظرة تفسير المجملات خوفا من لدد الخصم، فيؤتى بالواضحات، فقال: أفتراه يعصى قسرا ؟ فإن هذا إلزام له بالعجز الذي لازم للقدرية ولمن هو شر منهم، من الدهرية الفلاسفة وغيرهم، وكذلك إياس رأى أن هذا الجواب المطابق لحدهم خاصم لهم، ولم يدخل معهم في التفصيل الذي يطول، وبالجملة فقوله - تعالى -: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما }، قال أهل التفسير من السلف: " لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه سيئات غيره، ولا يهضم فينقص من حسناته "، ولا يجوز أن يكون هذا الظلم هو شيء ممتنع غير مقدور عليه، فيكون التقدير لا يخاف ما هو ممتنع لذاته، خارج عن الممكنات والمقدورات، فإن مثل هذا إذا لم يكن وجوده ممكنا حتى يقولوا إنه غير مقدور، ولو أراده، كخلق المثل له، فكيف يعقل وجوده، فضلا أن يتصور خوف حتى ينفي خوفه، ثم أي فائدة في نفي خوف هذا، قد علم من سياق الكلام أن المقصود بيان أن هذا للعامل المحسن لا يجزى على إحسانه بالظلم والهضم، فعلم أن الظلم والهضم المنفي يتعلق بالجزاء، كما ذكره أهل التفسير، وأن الله لا يجزيه إلا بعمله، ولهذا كان الصواب الذي دلت عليه النصوص أن الله لا يعذب في الآخرة إلا من أذنب، كما قال: { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }، فلو دخلها أحد من غير أتباعه لم تمتلئ منهم، ولهذا ثبت في الصحيحين، في حديث: { تحاج الجنة والنار }، من حديث أبي هريرة وأنس: { أن النار تمتلئ ممن كان ألقي فيها حتى ينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط بعد قولها: هل من مزيد، وأما الجنة فيبقى فيها فضل عمن يدخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها خلقا آخر }، ولهذا كان الصواب الذي عليه الأئمة فيمن لم يكلف في الدنيا من أطفال المشركين ونحوهم ما صح به الحديث، وهو أن الله أعلم بما كانوا عاملين، فلا نحكم لكل منهم بالجنة، ولا لكل منهم بالنار، بل هم ينقسمون بحسب ما يظهر من العلم، فهم إذا كلفوا يوم القيامة في العرصات كما جاءت بذلك الآثار .

وأما الوجه الثالث: فمداره على الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات، فإن فصل بنوع الاستقذار بطل بجميع المستقذرات، التي ربما كانت أشد استقذارا منه، وإن فصل بقدر خاص فلا بد من توقيته، وقد مضى تقرير هذا، وأما الجواب العام فمن أوجه ثلاثة، أحدها: أن هذا قياس، في مقابلة الآثار المنصوصة، وهو قياس فاسد الوضع، " من جمع بين ما فرقت السنة بينه فقد ضاهى قول الذين قالوا: { إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا }، ولذلك طهرت السنة هذا، ونجست هذا، الثاني: أن هذا قياس في باب لم تظهر أسبابه وأنواطه، ولم يتبين مأخذه، وما بل الناس فيه على قسمين: إما قائل يقول: هذا استعباد محض، وابتلاء صرف، فلا قياس، ولا إلحاق، ولا اجتماع، ولا افتراق، وإما قائل يقول: دقت علينا علله وأسبابه، وخفيت علينا مسالكه ومذاهبه، وقد بعث الله إلينا رسولا يزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، بعثه إلينا ونحن لا نعلم شيئا، فإنما نصنع ما رأيناه يصنع، والسنة لا تضرب لها الأمثال، والتعارض بآراء الرجال، والدين ليس بالرأي، ويجب أن يتهم الرأي على الدين، والقياس في مثل هذا الباب ممتنع باتفاق أولي الألباب، الثالث: أن يقال: هذا كله مداره على التسوية بين بول ما يؤكل لحمه، وبول ما لا يؤكل لحمه، وهو جمع بين شيئين مفترقين، فإن ريح المحرم خبيثه، وأما ريح المباح فمنه ما قد يستطاب، مثل أرواث الظباء وغيرها، وما لم يستطب منه فليس ريحه كريح غيره، وكذلك خلقه غالبا فإنه يشمل على أشياء من المباح، وهذا لأن الكلام في حقيقة المسألة، وسنعود إليه إن شاء الله في آخرها، الدليل الثاني: الحديث المستفيض، أخرجه أصحاب الصحيح وغيرهم: حديث أنس بن مالك: " { أن ناسا من عكل أو عرينة قدموا المدينة، فاجتووها، فأمر لهم النبي ﷺ بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله ﷺ واستاقوا الذود } " - وذكر الحديث، فوجه الحجة أنه أذن لهم في شرب الأبوال، ولا بد أن يصيب أفواههم، وأيديهم، وثيابهم، وآنيتهم، فإذا كان نجسة وجب تطهير أفواههم، وأيديهم، وثيابهم للصلاة، وتطهير آنيتهم، فيجب بيان ذلك لهم ; لأن تأخير البيان عن وقت الاحتياج إليه لا يجوز، ولم يبين لهم النبي ﷺ أنه يجب عليهم إماطة ما

أصابهم منه، فدل على أنه غير نجس، ومن البين أن لو كانت أبوال الإبل كأبوال الناس لأوشك أن يشتد تغليظه في ذلك، ومن قال إنهم كانوا يعلمون أنها نجسة، وأنهم كانوا يعلمون وجوب التطهير من النجاسات فقد أبعد غاية الإبعاد، وأتى بشيء قد يستيقن بطلانه لوجوه، أحدها: أن الشريعة أول ما شرعت كانت أخفى، وبعد انتشار الإسلام، وتناقل العلم، وإفشائه صارت أبدى وأظهر، وإذا كنا إلى اليوم لم يستبن لنا نجاستها، بل أكثر الناس على طهارتها، وعامة التابعين عليه، بل قد قال أبو طالب وغيره: إن السلف ما كانوا ينجسونها ولا يتقونها، وقال أبو بكر بن المنذر: وعليه اعتماد أكثر المتأخرين في نقل الإجماع، والخلاف، وقد ذكر طهارة الأبوال عن عامة السلف، ثم قال: قال الشافعي: الأبوال كلها نجس، قال: ولا نعلم أحدا قال قبل الشافعي إن أبوال الأنعام وأبعارها نجس، قلت: وقد نقل عن ابن عمر أنه سئل عن بول الناقة، فقال: اغسل ما أصابك منه، وعن الزهري فيما يصيب الراعي من أبوال الإبل قال: ينضح، وعن حماد بن أبي سليمان في بول الشاة والبعير: يغسل، ومذهب أبي حنيفة نجاسة ذلك على تفصيل لهم فيه، فلعل الذي أراده ابن المنذر القول بوجوب اجتناب قليل البول، والروث وكثيره، فإن هذا لم يبلغنا عن أحد من السلف، ولعل ابن عمر أمر بغسله كما يغسل الثوب من المخاط، والبصاق والمني، ونحو ذلك، وقد ثبت عن أبي موسى الأشعري: أنه صلى على مكان فيه روث الدواب، والصحراء أمامه، وقال: ههنا وههنا سواء، وعن أنس بن مالك: لا بأس ببول كل ذي كرش، ولست أعرف عن أحد من الصحابة القول بنجاستها، بل القول بطهارتها إلا ما ذكر عن ابن عمر إن كان أراد النجاسة، فمن أين يكون ذلك معلوما لأولئك ؟، وثانيها: أنه لو كان نجسا، فوجوب التطهر من النجاسة ليس من الأمور البينة، قد أنكره في الثياب طائفة من التابعين وغيرهم، فمن أين يعلمه أولئك ؟ وثالثها: أن هذا لو كان مستفيضا بين ظهراني الصحابة لم يجب أن يعلمه أولئك ; لأنهم حديثو العهد بالجاهلية والكفر ; فقد كانوا يجهلون أصناف الصلوات، وأعدادها، وأوقاتها، وكذلك غيرها من الشرائع الظاهرة، فجهلهم بشرط خفي في أمر خفي أولى وأحرى، لا سيما، والقوم لم يتفقهوا في الدين أدنى تفقه، ولذلك ارتدوا، ولم يخالطوا أهل العلم والحكمة، بل حين أسلموا وأصابهم الاستيخام أمرهم بالبداوة، فيا ليت شعري، من أين لهم العلم بهذا الأمر الخفي ؟ ورابعها: أن النبي ﷺ لم يكن في تعليمه وإرشاده واكلا للتعليم إلى غيره، بل يبين لكل واحد ما يحتاج إليه، وذلك معلوم لمن أحسن المعرفة بالسنن الماضية، وخامسها: أنه ليس العلم بنجاسة هذه الأرواث، أبين من العلم بنجاسة بول الإنسان، الذي قد علمه العذارى في حجالهن وخدورهن، ثم قد حذر منه للمهاجرين والأنصار الذين أوتوا العلم والإيمان، فصار الأعراب الجفاة أعلم بالأمور الخفية من المهاجرين والأنصار بالأمور الظاهرة، فهذا كما ترى،

وسادسها: أنه فرق بين الأبوال، والألبان، وأخرجهما مخرجا واحدا، والقرآن بين الشيئين إن لم يوجب استواءهما فلا بد أن يورث شبهة، فلو لم يكن البيان واجبا لكانت المقارنة بينه وبين الطاهر موجبة للتمييز بينهما إن كان التمييز حقا، ومن الحديث دلالة أخرى فيها تنازع، وهو: أنه أباح لهم شربها، ولو كانت محرمة نجسة لم يبح لهم شربها، ولست أعلم مخالفا في جواز التداوي بأبوال الإبل كما جاءت السنة، لكن اختلفوا في تخريج مناطه، فقيل: هو أنها مباحة على الإطلاق للتداوي وغير التداوي، وقيل: بل هي محرمة وإنما أباحها للتداوي وقيل: هي مع ذلك نجسة، والاستدلال بهذا الوجه يحتاج إلى ركن آخر، وهو أن التداوي بالمحرمات النجسة محرم والدليل عليه من وجوه، أحدها: أن الأدلة الدالة على التحريم مثل قوله: { حرمت عليكم الميتة }، و " { كل ذي ناب من السباع حرام } "، و { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس }، عامة في حال التداوي وغير التداوي، فمن فرق بينهما فقد فرق بين ما جمع الله بينه، وخص العموم، وذلك غير جائز، فإن قيل: فقد أباحها للضرورة والمتداوي مضطر، فتباح له، أو أنا نقيس إباحتها للمريض على إباحتها للجائع، بجامع الحاجة إليها، يؤيد ذلك أن المرض يسقط الفرائض من القيام في الصلاة والصيام في شهر رمضان، والانتقال من الطهارة بالماء إلى الطهارة بالصعيد، فكذلك يبيح المحارم، لأن الفرائض والمحارم من واد واحد، يؤيد ذلك أن المحرمات من الحلية واللباس، مثل: الذهب، والحرير قد جاءت السنة بإباحة اتخاذ الأنف من الذهب، وربط الأسنان به، { ورخص للزبير، وعبد الرحمن في لباس الحرير من حكة كانت بهما }، فدلت هذه الأصول الكثيرة على إباحة المحظورات حين الاحتياج والافتقار إليها، قلت: أما إباحتها للضرورة فحق، وليس التداوي بضرورة لوجوه أحدها: أن كثيرا من المرضى، أو أكثر المرضى يشفون بلا تداو، لا سيما في أهل الوبر والقرى، والساكنين في نواحي الأرض يشفيهم الله بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم، الرافعة للمرض، وفيما ييسره لهم من نوع حركة وعمل أو دعوة مستجابة أو رقية نافعة، أو قوة للقلب، وحسن التوكل، إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة غير الدواء، وأما الأكل فهو ضروري، ولم يجعل الله أبدان الحيوان تقوم إلا بالغذاء، فلو لم يكن لمات، فثبت بهذا أن التداوي ليس من الضرورة في شيء، وثانيها: أن الأكل عند الضرورة واجب، قال مسروق: من اضطر إلى الميتة، فلم يأكل، فمات دخل النار والتداوي غير واجب " { ومن نازع فيه خصمته السنة في المرأة السوداء التي خيرها النبي ﷺ بين الصبر على البلاء، ودخول الجنة وبين الدعاء بالعافية، فاختارت البلاء والجنة }، ولو كان رفع المرض واجبا لم يكن للتخيير موضع، كدفع الجوع، وفي دعائه لأبي بالحمى، وفي اختياره الحمى لأهل قباء، وفي دعائه بفناء أمته بالطعن والطاعون، وفي نهيه عن الفرار من الطاعون، وخصمه حال أنبياء الله المبتلين الصابرين على البلاء، حين لم يتعاطوا الأسباب الدافعة له، مثل أيوب عليه السلام وغيره، وخصمه حال السلف الصالح، فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين قالوا له: ألا ندعو لك الطبيب، قال: قد رآني، قالوا: فما قال لك ؟ قال: إني فعال لما أريد، ومثل هذا ونحوه يروى عن الربيع بن خيثم المخبت المنيب، الذي هو أفضل الكوفيين أو كأفضلهم، وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الهادي المهدي، وخلق كثير لا يحصون عددا، ولست أعلم سالفا أوجب التداوي، وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضل تركه تفضلا، واختيارا لما اختار الله، ورضى به، وتسليما له، وهذا المنصوص عن أحمد، وإن كان من أصحابه من يوجبه، ومنهم من يستحبه، ويرجحه كطريقة كثير من السلف، استمساكا لما خلقه الله من الأسباب، وجعله من سننه في عباده، وثالثها: أن الدواء لا يستيقن، بل وفي كثير من الأمراض لا يظن دفعه للمرض، إذ لو اطرد ذلك لم يمت أحد، بخلاف دفع الطعام للمسغبة والمجاعة، فإنه مستيقن بحكم سنة الله في عباده وخلقه، ورابعها: أن المرض يكون له أدوية شتى، فإذا لم يندفع بالمحرم انتقل إلى المحلل، ومحال أن لا يكون له في الحلال شفاء، أو دواء، والذي أنزل الداء أنزل لكل داء دواء إلا الموت، ولا يجوز أن تكون أدوية الأدواء في القسم المحرم، وهو سبحانه الرءوف الرحيم، وإلى هذا الإشارة بالحديث المروي: " { إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها } "، بخلاف المسغبة، فإنها وإن اندفعت بأي طعام، اتفق إلا أن الخبيث إنما يباح عند فقد غيره، فإن صورت مثل هذا في الدواء، فتلك صورة نادرة ; لأن المرض أندر من الجوع بكثير، وتعين الدواء المعين وعدم غيره نادر، فلا ينتقض هذا، على أن في الأوجه السالفة غنى، وخامسها: وفيه فقه الباب: أن الله تعالى جعل خلقه مفتقرين إلى الطعام والغذاء، لا تندفع مجاعتهم ومسغبتهم إلا بنوع الطعام وصنفه، فقد هدانا وعلمنا النوع الكاشف للمسغبة المزيل للمخمصة، وأما المرض فإنه يزيله بأنواع كثيرة من الأسباب: ظاهرة وباطنة، روحانية وجسمانية، فلم يتعين الدواء مزيلا ثم الدواء بنوعه لم يتعين لنوع من أنواع الأجسام في إزالة الداء المعين، ثم ذلك النوع المعين يخفى على أكثر الناس بل على عامتهم دركه، ومعرفته الخاصة المزاولون منهم هذا الفن أولو الأفهام والعقول يكون الرجل منهم قد أفنى كثيرا من عمره في معرفته ذلك، ثم يخفى عليه نوع المرض وحقيقته، ويخفى عليه دواؤه وشفاؤه، ففارقت الأسباب المزيلة للمرض، الأسباب المزيلة للمخمصة في هذه الحقائق البينة وغيرها، فكذلك افترقت أحكامها كما ذكرنا، وبهذا ظهر الجواب عن الأقيسة المذكورة، والقول الجامع فيما يسقط ويباح للحاجة والضرورة ما حضرني الآن، أما سقوط ما يسقط من القيام والصيام والاغتسال فلأن منفعة ذلك مستيقنة بخلاف التداوي، وأيضا: فإن ترك المأمور به أيسر من فعل المنهي عنه، قال النبي ﷺ: " { إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } "، فانظر كيف أوجب الاجتناب عن كل منهي عنه، وفرق في المأمور به بين المستطاع وغيره وهذا يكاد يكون دليلا مستقلا في المسألة، وأيضا: فإن الواجبات من القيام والجمعة والحج تسقط بأنواع من المشقة التي لا تصلح لاستباحة شيء من المحظورات، وهذا بين بالتأمل، وأما الحلية: فإنما أبيح الذهب للأنف وربط الأسنان ; لأنه اضطرار، وهو يسد الحاجة يقينا كالأكل في المخمصة، أما لبس الحرير: للحكة والجرب إن سلم ذلك فإن الحرير والذهب ليسا محرمين على الإطلاق، فإنهما قد أبيح لأحد صنفي المكلفين، وأبيح للصنف الآخر بعضهما، وأبيح التجارة فيهما، وإهداؤهما للمشركين، فعلم أنهما أبيحا لمطلق الحاجة، والحاجة إلى التداوي أقوى من الحاجة إلى تزين النساء بخلاف المحرمات من النجاسات، وأبيح أيضا لحصول المصلحة بذلك في غالب الأمر، ثم الفرق بين الحرير والطعام: أن باب الطعام يخالف باب اللباس ; لأن تأثير الطعام في الأبدان أشد من تأثير اللباس على ما قد مضى، فالمحرم من الطعام لا يباح إلا للضرورة التي هي المسغبة والمخمصة، والمحرم من اللباس يباح للضرورة وللحاجة أيضا، هكذا جاءت السنة، ولا جمع بين ما فرق الله بينه، والفرق بين الضرورات والحاجات معلوم في كثير من الشرعيات، وقد حصل الجواب عن كل ما يعارض به في هذه المسألة، الوجه الثاني: أخرج مسلم في صحيحه: أن رسول الله ﷺ سئل عن الخمر، أيتداوى بها ؟ فقال: { إنها داء وليست بدواء } "، فهذا نص في المنع من التداوي بالخمر ردا على من أباحه، وسائر المحرمات، مثلها قياسا، خلافا لمن فرق بينهما، فإن قياس المحرم من الطعام أشبه من الغراب بالغراب، بل الخمر قد كانت مباحة في بعض أيام الإسلام، وقد أباح بعض المسلمين من نوعها الشرب دون الإسكار، والميتة، والدم بخلاف ذلك، فإن قيل: الخمر قد أخبر النبي ﷺ أنها داء وليست بدواء، فلا يجوز أن يقال: هي دواء بخلاف غيرها، وأيضا ففي إباحة التداوي بها إجازة اصطناعها، واعتصارها، وذلك داع إلى شربها، ولذلك اختصت بالحد فيها دون غيرها من المطاعم الخبيثة ; لقوة محبة الأنفس لها، فأقول: أما قولك: لا يجوز أن يقال هي دواء، فهو حق، وكذلك القول في سائر المحرمات، على ما دل عليه الحديث الصحيح: " { إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام } "، ثم ماذا تريد بهذا، أتريد أن الله لم يخلق فيها قوة طبيعية من السخونة وغيرها ؟ جرت العادة في الكفار والفساق أنه يندفع فيها بعض الأدواء الباردة، كسائر القوى والطبائع التي أودعها جميع الأدوية من الأجسام، أم تريد شيئا آخر، فإن أردت الأول فهو باطل بالقضايا المجربة التي تواطأت عليها الأمم، وجرت عند كثير من الناس مجرى الضروريات، بل هو رد لما يشاهد ويعاين، بل قد قيل إنه رد القرآن، لقوله تعالى: { فيهما إثم كبير ومنافع للناس }، ولعل هذا في الخمر أظهر من جميع المقالات المعلومة من طيب الأبدان، وإن أردت أن النبي ﷺ أخبر أنها داء النفوس، والقلوب، والعقول، وهي أم الخبائث والنفس، والقلب هو الملك المطلوب صلاحه وكماله، وإنما البدن آلة له، وهو تابع له، مطيع له طاعة الملائكة ربها، فإذا صلح القلب صلح البدن كله، وإذا فسد [ القلب فسد ] البدن كله، فالخمر هي داء، ومرض للقلب، مفسد له، مضعضع لأفضل خواصه الذي هو العقل والعلم، وإذا فسد القلب فسد البدن كله، كما جاءت به السنة، فتصير داء للبدن من هذا الوجه بواسطة كونها داء للقلب، وكذلك جميع الأموال المغصوبة والمسروقة، فإنه ربما صلح عليها البدن، ونبت، وسمن، لكن يفسد عليها القلب فيفسد البدن بفساده، وأما المصلحة التي فيها، فإنها منفعة للبدن فقط، ونفعها متاع قليل، فهي وإن أصلحت شيئا يسيرا فهي في جنب ما تفسده كلا إصلاح، وهذا بعينه معنى قوله تعالى: { فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }، فهذا لعمري شأن جميع المحرمات، فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب ثم البدن في الدنيا والآخرة ما يربي على ما فيها من منفعة قليلة، تكون في البدن وحده في الدنيا خاصة، على أنا وإن لم نعلم جهة المفسدة في المحرمات، فإنا نقطع أن فيها من المفاسد ما يربي على ما نظنه من المصالح، فافهم هذا، فإن به يظهر فقه المسألة وسرها، وأما إقضاؤه إلى اعتصارها فليس بشيء ; لأنه يمكن أخذها من أهل الكتاب، على أنه يحرم اعتصارها، وإنما القول إذا كانت موجودة أن هذا منتقض بإطفاء الحرق بها، ودفع الغصة إذا لم يوجد غيرها، وأما اختصاصها بالحد، فإن الحسن البصري يوجب الحد في الميتة أيضا، والدم، ولحم الخنزير، لكن الفرق أن في النفوس داعيا طبيعيا، وباعثا إراديا إلى الخمر، فنصب رادع شرعي وزاجر دنيوي أيضا ليتقابلا، ويكون مدعاة إلى قلة شربها وليس كذلك غيرها مما ليس في النفوس إليه كثير ميل، ولا عظيم طلب، الوجه الثالث: ما روى حسان بن مخارق قال: قالت أم سلمة: { اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز، فدخل النبي ﷺ وهو يغلي، فقال: ما هذا ؟ فقلت إن بنتي اشتكت فنبذنا لها هذا، فقال: إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام } "، رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، وفي رواية: " { إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم } " وصححه بعض الحفاظ، وهذا الحديث نص في المسألة، الوجه الرابع: ما رواه أبو داود في السنن: أن رجلا وصف له ضفدع يجعلها في دواء، فنهى النبي ﷺ عن قتل الضفدع وقال: " { إن نقنقتها تسبيح } "، فهذا حيوان محرم، ولم يبح للتداوي، وهو نص في المسألة، ولعل تحريم الضفدع أخف من تحريم الخبائث غيرها، فإنه أكثر ما قيل فيها إن نقنقتها تسبيح، فما ظنك بالخنزير، والميتة، وغير ذلك، وهذا كله بين لك استخفافه بطلب الطب، واقتضائه وإجرائه مجرى الرفق بالمريض، وتطييب قلبه، ولهذا قال الصادق المصدوق لرجل قال له: أنا طبيب قال: " { أنت رفيق، والله الطبيب } "، الوجه الخامس: ما روي أيضا في سننه: { أن النبي ﷺ نهى عن الدواء الخبيث } " وهو نص جامع مانع، وهو صورة الفتوى في المسألة، الوجه السادس: الحديث المرفوع: { ما أبالي ما أتيت أو ما ركبت - إذا شربت ترياقا، أو نطقت تميمة، أو قلت الشعر من نفسي } "، مع ما روي من كراهة من كره الترياق من السلف، إلى أنه لم يقابل ذلك نص عام ولا خاص يبلغ ذروة المطلب، وسنام المقصد في هذا الموضع، ولولا أني كتبت هذا من حفظي لاستقصيت القول على وجه يحيط بما دق وجل، والله الهادي إلى سواء السبيل، الدليل الثالث: وهو في الحقيقة رابع: الحديث الصحيح الذي خرجه مسلم وغيره، من حديث جابر بن سمرة، وغيره: أن رسول الله ﷺ سئل عن الصلاة في مرابض الغنم ؟ فقال: { صلوا فيها فإنها بركة } وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: { لا تصلوا فيها فإنها خلقت من الشياطين } "، ووجه الحجة من وجهين، أحدهما: أنه أطلق الإذن بالصلاة ولم يشترط حائلا يقي من ملامستها، والموضع موضع حاجة إلى البيان، فلو احتاج لبينه، وقد مضى تقرير هذا، وهذا شبيه بقول الشافعي: ترك الاستفصال، في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، فإنه ترك استفصال السائل أهناك حائل يحول بينك وبين أبعارها ؟ مع ظهور الاحتمال، ليس مع قيامه فقط، وأطلق الإذن، بل هذا أوكد من ذلك ; لأن الحاجة هنا إلى البيان أمس وأوكد، والوجه الثاني: أنها لو كانت نجسة كأرواث الآدميين، لكانت الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش والكنف، أو مكروهة كراهية شديدة ; لأنها مظنة الأخباث والأنجاس، فإما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة، ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريبا من ذلك، فهو جمع بين المتنافيين المتضادين، وحاشا الرسول ﷺ من ذلك، ويؤيد هذا ما روي: أن أبا موسى صلى في مبارك الغنم، وأشار إلى البرية وقال: ههنا وثم سواء، وهو الصاحب الفقيه، العالم بالتنزيل، الفاهم للتأويل، سوى بين محل الإبعار وبين ما خلا عنها، فكيف يجامع هذا القول بنجاستها ؟ وأما نهيه عن الصلاة في مبارك الإبل، فليست اختصت به دون البقر والغنم، والظباء والخيل، إذ لو كان السبب نجاسة البول، لكان تفريقا بين المتماثلين، وهو ممتنع يقينا .

-مسألة: في امرأة فارقت زوجها وخطبها رجل في عدتها وهو ينفق عليها فهل يجوز ذلك أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة، ولو كانت في عدة وفاة باتفاق المسلمين، فكيف إذا كانت في عدة الطلاق، ومن فعل ذلك يستحق العقوبة التي تردعه وأمثاله عن ذلك، فيعاقب الخاطب والمخطوبة جميعا، ويزجر عن التزويج بهما معاقبة له بنقيض قصده والله أعلم .

-مسألة: في رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما ثم طلقها الطلاق البائن، وتزوجت بعده بزوج آخر بعد إخبارها بانقضاء العدة من الأول، ثم طلقها الزوج الثاني بعد مدة ست سنين، وجاءت بابنة وادعت أنها من الزوج الأول فهل يصح دعواها، ويلزم الزوج الأول ولم يثبت أنها ولدت البنت، وهذا الزوج والمرأة مقيمان ببلد واحد، وليس لها مانع من دعوى النساء، ولا طالبته بنفقة ولا فرض ؟ الجواب: الحمد لله، لا يلحق هذا الولد الذي هو البنت مجرد دعواها والحال هذه باتفاق الأئمة، بل لو ادعت أنها ولدته في حال يلحق به نسبه إذا ولدته وكانت مطلقة وأنكر هو أن تكون ولدته لم تقبل في دعوى الولادة بلا نزاع حتى تقيم بذلك بينة، ويكفي امرأة واحدة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعند مالك وأحمد في الرواية الأخرى لا بد من امرأتين، وأما الشافعي فيحتاج عنده إلى أربع نسوة، ويكفي يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته، وأما إن كانت الزوجية قائمة ففيها قولان في مذهب أحمد، أحدهما لا يقبل قولها كمذهب الشافعي والثاني يقبل كمذهب مالك، وأما إذا انقضت عدتها ومضى لها أكثر الحمل ثم ادعت وجود حمل من الزوج المطلق، فهذه لا يقبل قولها بلا نزاع، بل لو أخبرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا ولدون مدة الحمل، فهل يلحقه، على قولين مشهورين لأهل العلم، ومذهب أبي حنيفة وأحمد أنه لا يلحقه، وهذا النزاع إذا لم تتزوج، فأما إذا تزوجت بعد إخبارها بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، فإن هذا لا يلحق نسبه بالأول قولا واحدا، فإذا عرفت مذهب الأئمة في هذين الأصلين، فكيف يلحقه نسبه بدعواها بعد ست سنين ولو قالت ولدته ذلك الزمن قبل أن يطلقني لم يقبل قولها أيضا، بل القول قوله مع يمينه أنها لم تلدها على فراشه، ولو قالت هي وضعت هذا الحمل قبل أن أتزوج بالثاني، وأنكر الزوج الأول ذلك، فالقول قوله أيضا أنها لم تضعها قبل تزوجها بالثاني، لا سيما مع تأخر دعواها إلى أن تزوجت الثاني فإن هذا مما يدل على كذبها في دعواها، لا سيما على أصل مالك في تأخر الدعوى الممكنة بغير عذر في مسائل الحور ونحوها .

فصل وأما قول السائل: لم كانت موجبة لكشف الضر ؟ فذلك لأن الضر لا يكشفه إلا الله، كما قال تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله } والذنوب سبب للضر، والاستغفار يزيل أسبابه كما قال تعالى: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } فأخبر أنه سبحانه لا يعذب مستغفرا، وفي الحديث: { من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب } وقال تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير }، فقوله: { إني كنت من الظالمين } اعتراف بالذنب وهو استغفار، فإن هذا الاعتراف متضمن طلب المغفرة، وقوله: { لا إله إلا أنت } تحقيق لتوحيد الإلهية، فإن الخير لا موجب له إلا مشيئة الله، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والمعوق له من العبد هو ذنوبه، وما كان خارجا عن قدرة العبد فهو من الله، وإن كانت أفعال العباد بقدر الله تعالى، لكن الله جعل فعل المأمور وترك المحظور سببا للنجاة، والسعادة، فشهادة التوحيد تفتح باب الخير، والاستغفار من الذنوب يغلق باب الشر، ولهذا ينبغي للعبد أن لا يعلق رجاءه إلا بالله ولا يخاف من الله أن يظلمه ; فإن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ; بل يخاف أن يجزيه بذنوبه، وهذا معنى ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، وفي الحديث المرفوع: إلى النبي ﷺ { أنه دخل على مريض فقال: كيف تجدك ؟ فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال: ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف }، فالرجاء ينبغي أن يتعلق بالله، ولا يتعلق بمخلوق ولا بقوة العبد ولا عمله، فإن تعليق الرجاء بغير الله إشراك، وإن كان الله قد جعل لها أسبابا فالسبب لا يستقل بنفسه، بل لا بد له من معاون، ولا بد أن يمنع المعارض المعوق له وهو لا يحصل ويبقى إلا بمشيئة الله تعالى، ولهذا قيل: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ولهذا قال الله تعالى: { فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب } فأمر بأن تكون الرغبة إليه وحده، وقال: { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } فالقلب لا يتوكل إلا على من يرجوه، فمن رجا قوته أو عمله أو علمه أو أو صديقه أو قرابته أو شيخه أو ملكه أو ماله غير ناظر إلى الله كان فيه نوع توكل على ذلك السبب، وما رجا أحد مخلوقا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه فإنه مشرك: { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق }، وكذلك المشرك يخاف المخلوقين، ويرجوهم، فيحصل له رعب كما قال تعالى: { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } والخالص من الشرك يحصل له الأمن كما قال تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } وقد فسر النبي ﷺ الظلم هنا بالشرك، ففي الصحيح: { عن ابن مسعود أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي ﷺ وقالوا: أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي ﷺ: إنما هذا الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: { إن الشرك لظلم عظيم } } وقال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } وقال تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }، ولهذا يذكر الله الأسباب، ويأمر بأن لا يعتمد عليها، ولا يرجى إلا الله، قال تعالى لما أنزل الملائكة: { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } وقال: { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون }، وقد قدمنا أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وكلاهما لا يصلح إلا لله، فمن جعل مع الله إلها آخر قعد مذموما مخذولا، والراجي سائل طالب فلا يصلح أن يرجو إلا الله، ولا يسأل غيره ; ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: { ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك }، فالمشرف الذي يستشرف بقلبه، والسائل الذي يسأل بلسانه، وفي الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري { قال: أصابتنا فاقة فجئت رسول الله ﷺ لأسأله فوجدته يخطب الناس وهو يقول: أيها الناس والله، مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم، وإنه من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر }، " والاستغناء " أن لا يرجو بقلبه أحدا فيستشرف إليه، " والاستعفاف " أن لا يسأل بلسانه أحدا، ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن التوكل فقال: قطع الاستشراف إلى الخلق ; أي لا يكون في قلبك أن أحدا يأتيك بشيء فقيل له: فما الحجة في ذلك ؟ فقال: قول الخليل لما قال له جبرائيل هل لك من حاجة ؟ فقال: " أما إليك فلا "، فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه ودفع ما يضره لا يوجه قلبه إلا إلى الله ; فلهذا قال المكروب: { لا إله إلا أنت }، ومثل هذا ما في الصحيحين: عن ابن عباس أن { النبي ﷺ كان يقول: عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم } فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد، وتأله العبد ربه، وتعلق رجائه به وحده لا شريك له، وهي لفظ خبر يتضمن الطلب، والناس وإن كانوا يقولون بألسنتهم: لا إله إلا الله، فقول العبد لها مخلصا من قلبه له حقيقة أخرى، وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة الله، قال تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه، أي جعل معبوده هو ما يهواه، وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه فهم يتخذون أندادا من دون الله يحبونهم كحب الله، ولهذا قال الخليل: { لا أحب الآفلين }، فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع، ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافعا له كالشمس والقمر والكواكب، والخليل بين أن الآفل يغيب عن عابده وتحجبه عنه الحواجب فلا يرى عابده ولا يسمع كلامه ولا يعلم ولا ينفعه ولا يضره بسبب ولا غيره فأي وجه لعبادة من يأفل ؟، وكلما حقق العبد الإخلاص في قول: لا إله إلا الله خرج من قلبه تأله ما يهواه، وتصرف عنه المعاصي والذنوب، كما قال تعالى: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }، فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد الله المخلصين، وهؤلاء هم الذين قال فيهم: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقال الشيطان: { فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين }، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: { من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه حرمه الله على النار }، فإن الإخلاص ينفي أسباب دخول النار ; فمن دخل النار من القائلين لا إله إلا الله لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار ; بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار، والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ; ولهذا كان العبد مأمورا في كل صلاة أن يقول: { إياك نعبد وإياك نستعين }، والشيطان يأمر بالشرك والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفا منه، وإما رجاء له، فلا يزال العبد مفتقرا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك، وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: { يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يستغفرون ; لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا }، فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من الله له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه، فصار فيه شرك منعه من الاستغفار وأما من حقق التوحيد والاستغفار فلا بد أن يرفع عنه الشر ; فلهذا قال ذو النون: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }، ولهذا يقرن الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقوله: { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } وقوله: { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } إلى قوله: { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } وقوله: { فاستقيموا إليه واستغفروه } . قال فصل في الأسماء والأحكام، اعلموا أن غرضنا من هذا الفصل يستدعي ذكر حقيقة الإيمان وهذا مما تباينت فيه مذاهب الإسلاميين فذهب الخوارج إلى أن الإيمان هو الطاعة ومال إلى ذلك كثير من المعتزلة واختلفت مذاهبهم في تسمية النوافل إيمانا، وصار أصحاب الحديث إلى أن الإيمان معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، وذهب بعض القدماء إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار بها وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فحسب ومضمر الكفر إذا أظهر الإيمان مؤمن حقا عندهم غير أنه يستوجب الخلود في النار ولو أضمر الإيمان ولم يتيقن منه إظهاره فهو ليس بمؤمن وله الخلود في الجنة، قال والمرضي عندنا أن حقيقة الإيمان التصديق بالله فالمؤمن بالله من صدقه ثم التصديق على الحقيقة كلام النفس ولا يثبت كلام النفس كذلك إلا مع العلم فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد، والدليل على أن الإيمان هو التصديق صريح اللغة وأصل العربية وهو لا ينكر فيحتاج إلى إثباته ومن التنزيل: { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } معناه ما أنت بمصدق لنا ثم الغرض من هذا الفصل أن من خالف أهل الحق لم يصف الفاسق بكونه مؤمنا فقد صرح بأن كلام النفس لا يثبت إلا مع العلم وأنه إنما يثبت على حسب الاعتقاد وهذا تصريح بأنه لا يكون مع عدم العلم ولا يكون على خلاف المعتقد وهذا يناقض ما أثبتوا به كلام النفس وادعوا أنه مغاير للعلم، وقال صاحبه أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد بعد أن ذكر شرح قول الخوارج والمعتزلة والكرامية، قال وأما مذاهب أصحابنا فصار أهل التحقيق من أصحاب الحديث والنظار منهم إلى أن الإيمان هو التصديق وبه قال شيخنا أبو الحسن واختلف جوابه في معنى التصديق فقال مرة هو المعرفة بوجوده وقدمه وإلهيته وقال مرة التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة ولا يوجد دونها وهذا مما ارتضاه القاضي فإن الصدق والكذب والتصديق والتكذيب بالأقوال أجدر فالتصديق إذا قول في النفس ويعبر عنه باللسان فتوصف العبارة بأنها تصديق لأنها عبارة عن التصديق هذا ما حكاه شيخنا الإمام، قلت: فقد ذكر عن أبي الحسن الأشعري قولين: أحدهما: إن التصديق هو المعرفة وهذا قول جهم، والثاني: إن التصديق قول في النفس يتضمن المعرفة وهو اختيار ابن الباقلاني وابن الجويني وهؤلاء قد صرحوا بأنه يتضمن المعرفة ولا ينتصر أن يقوم في النفس تصديق مخالف لمعرفة كما ذكروه ولو جاز أن يصدق بنفسه بخلاف علمه واعتقاده لانتقض أصلهم في الإيمان إذا كان التصديق لا ينافي اعتقاد خلاف ما صدق به فلا يجب أن يكون مؤمنا بمجرد تصديق النفس على هذا التقدير وكل من القولين ينقض ما استدل به على أن التصديق غير العلم، قال النيسابوري وحكى الإمام أبو القاسم الإسفراييني اختلافا عن أصحاب أبي الحسن في التصديق ثم قال والصحيح من الأقاويل في معنى التصديق ما يوافق اللغة لأن التكليف بالإيمان ورد بما يوافق اللغة والإيمان بالله ورسوله على موافقة اللغة هو العلم بأن الله ورسوله صادقان في جميع ما أخبرا به والإيمان في اللغة مطلقا هو اعتقاد صدق المخبر في خبره إلا أن الشرع جعل هذا التصديق علما ولا يكفي أن يكون اعتقادا من غير أن يكون علما لأن من صدق الكاذب واعتقد صدقه فقد آمن به ولهذا قال في صفة اليهود: { يؤمنون بالجبت والطاغوت } يعني يعتقدون صدقهما، قلت ليس الغرض هنا ذكر تناقضهم في مسمى الإيمان وفي التصديق هل هو التصديق بوجود الله وقدمه وإلهيته كما قاله الأشعري أو هو تصديق فيما أخبر به كما ذكره غيره، أو التناقض كما في كلام صاحب الإرشاد حيث قال: الإيمان هو التصديق بالله فالمؤمن بالله من صدقه فجعل التصديق بوجوده هو تصديقه في خبره مع تباين الحقيقتين فإنه فرق بين التصديق بوجود الشيء وتصديقه ولهذا يفرق القرآن بين الإيمان بالله ورسوله وبين الإيمان للرسول إذ الأول هو الإقرار بذلك والثاني هو الإقرار له كما في قوله: { وما أنت بمؤمن لنا }، وفي قوله: { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين }، وفي قوله: { لن نؤمن لكم }، وقد قال: { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته }، فميز الإيمان به من الإيمان بكلماته وكذلك قوله { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } الآية وقوله { كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } فليس الغرض أنهم لم يهتدوا لمثل هذا في مثل هذا الأصلي الذي لم يعرفوا فيه لا الإيمان ولا القرآن وهما نور الله الذي بعث به رسوله كما قال تعالى: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }، وإنما الغرض أن التصديق قد صرح هؤلاء بأنه هو العلم أو هو الاعتقاد إذا لم يكن علما وأنهم مضطرون إلى أن يقولوا ذلك وهو أبلغ من قول بعضهم أنه مستلزم للعلم في تمام ما ذكره عن أبي القاسم الإسفراييني، وقال حكى الإمام أبو بكر بن فورك عن أبي الحسن أنه قال الإيمان هو اعتقاد صدق المخبر فيما يخبر به ثم من الاعتقاد ما هو علم ومنه ما ليس بعلم فالإيمان بالله هو اعتقاد صدقه إنما يصح إذا كان عالما بصدقه في إخباره وإنما يكون كذلك إذا كان عالما بأنه متكلم والعلم بأنه متكلم بعد العلم بأنه حي والعلم بأنه حي بعد العلم بأنه فاعل وبعد العلم بالفعل وكون العالم فعلا له وذلك يتضمن العلم بكونه قادرا وعالما وله علم ومريدا وله إرادة وسائر ما لا يصح العلم بالله تعالى إلا بعد العلم به من شرائط الإيمان، قال ثم السمع قد ورد بضم شرائط أخر إليه وهو أن لا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلا وتركا وهو أن الشرع أمره بترك السجود والعبادة للصنم فلو أتى به دل على كفره وكذلك لو قتل نبيا أو استخف به دل على كفره وكذلك لو ترك تعظيم المصحف والكعبة دل على كفره وكذلك لو خالف إجماع الخاص والعام في شيء أجمعوا عليه دل خلافه إياهم على كفره فأي واحد مما استدللنا به على كفره مما منع الشرع أن يقرنه بالإيمان إذا وجب ضمه إلى الإيمان لو وجد، دلنا ذلك على أن التصديق الذي هو الإيمان مفقود من قلبه، فكذلك كل ما كفرنا به المخالف من طريق التأويل فإنما كفرناه به لدلالته على فقد ما هو إيمان من قلبه لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان، والتصديق بقلبه، قال ومن أصحابنا من قال بالموافاة فيشترط في الإيمان الحقيقي أن يوافي ربه به ويختم عليه ومنهم من لم يجعل ذلك شرطا فيه في الحال وهل يشترط في الإيمان الإقرار اختلفوا فيه بعد أن لم يختلفوا في أن ترك العناد شرط وهو أن يعتقد أنه متى طولب بالإقرار فأتى به أما قبل أن يطالب به، منهم من قال لا بد من الإتيان به حتى يكون مؤمنا وهذا القائل يقول التصديق هو المعرفة والإقرار جميعا وهذا قول الحسين بن الفضل البجلي وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ويقرب من هذا ما كان يقوله الإمام أبو محمد عبد الله بن سعيد القطان من متقدمي أصحابنا ونحن نقول من أتى التصديق بالقلب واللسان فهو المؤمن باطنا وظاهرا ومن صدق بقلبه وامتنع من الإقرار فهو معاند كافر يكفر كفر عناد ومن أقر بلسانه وجحد بقلبه فهو كافر عند الله وعند نفسه ويجري عليه أحكام الإيمان لما أظهر من علامات الإيمان، ومن أصحابنا من جعل المعارف مجموعة تصديقا واحدا وهو المعرفة بالله وصفاته ورسوله وأن دين الإسلام حق: قال وهذه الجملة تصديق واحد ثم قال هذا ما ذكره أبو القاسم الإسفراييني، قلت ليس المقصود هنا بيان ما ذكروه من قول الجهمية والمرجئة في الإيمان وما في ذلك من التناقض حيث جعله التصديق الذي في القلب ثم سلبه عمن ترك النطق عنادا وأن عنده كل ما سمي كفرا فلأنه مستلزم لعدم هذا التصديق لكن دلالته على العدم تعلم تارة بالعقل وتارة بالشرع لأن ما يقوم بالقلب من الاستكبار على الله والبغض له ولرسله ونحو ذلك يكون هو في نفسه كفرا وما ذكروه من التصديق الخاص الذي وصفوه وهو تصديق بأصول الكلام الذي وضعوه وإنما الغرض أنهم يجعلون التصديق هو نفس المعرفة كما في كلام هذا وغيره وكما ذكروه عن أبي الحسن وغايتهم إذا لم يجعلوه مستلزما للمعرفة أن يجعلوه مستلزما لها، قال النيسابوري وقال الأستاذ أبو إسحاق في المختصر، الإيمان في اللغة والشريعة التصديق، ولا يتحقق ذلك إلا بالمعرفة والإقرار، وتقوم الإشارة والانقياد مقام العبارة، قال وتحقيق المعرفة تحصيل ما قدمناه من المسائل في هذا الكتاب وتحقيقه قال النيسابوري أراد بالكتاب هو المختصر وأشار بما قدمه فيه إلى جملة ما قدمه من قواعد العقائد، قال: وقال في هذا الكتاب الإيمان هو المعرفة، واعتقاد الإقرار عند الحاجة أو ما يقوم مقام الإقرار في كتاب الأسماء والصفات واتفقوا على أن ما يستحق به المكلف اسم الإيمان في الشريعة أوصاف كثيرة وعقائد مختلفة، وإن اختلفوا فيها على تفصيل ذكرناه واختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم فمنها ترك قتل الرسول وترك تعظيمه وترك تعظيم الأصنام فهذا من التروك ومن الأفعال نصرة الرسول والذب عنه فقالوا إن جميعه مضاف إلى التصديق شرعا، وقال آخرون إنه من الكبائر لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الإيمان، قال النيسابوري هذه جملة كلام مشايخنا في ذلك قال وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضا ونفلا والانتهاء عما نهى عنه تحريما وإذنا وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي، ومن متقدمي أصحابنا أبو عباس القلانسي، وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد الله بن مجاهد وهو قول مالك بن أنس ومعظم أئمة السلف وكانوا يقولون الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان: قلت وذكر الكلام إلى آخره مما ليس هذا موضعه فإنه ليس الغرض هنا ذكر أقوال السلف والأئمة واعتراف هؤلاء بما اجترءوا عليه من مخالفة السلف والأئمة وأهل الحديث في الإيمان مع علمهم بذلك لما عنت لهم من شبهة الجهمية المرجئة وإنما الغرض بيان ما ذكره الإسفراييني من أن التصديق لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار وإن كان أراد المعرفة كما قرره هو من قواعده ولم يحل ذلك على ما جاء به الرسول من أصول الإيمان فإذا كان التصديق لا يتحقق بالمعرفة إلا بالإقرار أيضا باللسان كان هذا من كلامهم دليلا على امتناع وجود التصديق بالقلب وتحققه إلا مع الإقرار باللسان وهذا يناقض قولهم أن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس فهذه مناقضة ثابتة فإن التصديق الذي في القلب إن تحقق بدون لفظ يظل هذا وإن لم يتحقق إلا بلفظ أو ما يقوم مقامه يظل ذاك، فهذا كلامهم وهو يقتضي أنهم لم يكتفوا بأن جعلوا العلم ينافي الكذب النفساني حتى جعلوه يوجب الصدق النفساني فيمتنع وجود العلم بدون الصدق فصار هذا مطلا لما أثبتوا به الخبر النفساني من أنه يمكن ثبوته بدون العلم وعلى خلاف العلم وهو الكذب وهم كما احتجوا بالعلم على انتفاء الكذب النفساني وثبوت الصدق النفساني فقد احتجوا به أيضا على أصل ثبوت الكلام النفساني، قال أبو القاسم النيسابوري، ومما ذكره الأستاذ أبو إسحاق يعني في إثبات كلام الله النفساني الذي أثبتوه أن قال: الأحكام لا ترجع إلى صفات الأفعال ولا إلى أنفسها، وإنما ترجع إلى قول الله، وهذا من أدل الدليل على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد، فورود التكليف على العباد دليل على كلام الله، وجواز إرسال الرسل وورود التكليف دال على علمه، وعلمه دال على ثبوت الكلام الصدق أو لا، إذ العالم بالشيء لا يخلو عن نطق النفس بما يعلمه وذلك هو التدبير والخبر، وربما يعبر عن هذا بأنه لو لم يكن القديم سبحانه متكلما لاستحال منه التعريف والتنبيه على التكليف لأن طرق التعريف معلومة، وذلك كالكتابة والعبارة والإشارة، وشيء من هذا لا يقع به التعريف دون أن يكون ترجمة عن الكلام القائم بالنفس ومن لا كلام له استحال أن ينبه غيره على المعنى الذي يستند إلى الكلام، قال: ومما يدل على ثبوت الكلام لله آيات الرسل عليهم السلام فإنها كانت أدلة ولا تدل على الصدق لأنفسها وإنما كانت دالة من حيث كانت لإزالة منزلة قوله لمدعي الرسالة صدقت والتصديق من قبل الأقوال ولا يكون المصدق مصدقا لغيره بفعله التصديق وإنما يكون مصدقا له لقيام التصديق بذاته بأمر الله منهيا بنهيه، قلت: أما استدلالهم على ثبوت كلام الله بالتكليف والأحكام، فهذا من باب الاستدلال على الشيء بنفسه، بل من باب الاستدلال على الشيء بما هو أخفى منه مع الاستغناء عنه، فإنه إذا كان التكليف والأحكام إنما تثبت بالرسل، فالرسل كلهم مطبقون على تبليغ كلام الله ورسالته وأن الله يقول وقال ويتكلم، ومن المعلوم أن نطق الرسل بإثبات كلام الله وقوله أكثر وأشهر وأظهر من نطقهم بلفظ تكليف وأحكام، فإذا كان هذا الدليل لا يثبت إلا بعد الإيمان بالرسل وبما أخبروا به، فإخبارهم بكلام الله وقوله لا يحتاج فيه إلى دليل، ولهذا عدل غير هؤلاء عن هذا الدليل الغث واحتجوا على ثبوت كلام الله بمجرد قول المرسلين، وقوله الأحكام من أدل الدليل على ثبوت الأمر والنهي، يقال له فهل الأحكام عندك شيء غير الأمر والنهي حتى يستدل بأحدهما على الآخر، أم اسم الأحكام هل هو أظهر في كلام الرسل والمؤمنين بهم من اسم الأمر والنهي، وأعجب من ذلك قوله فورود التكليف على العباد دليل على كلام الله وجواز إرسال الرسل فإن التكليف إذا كان عنده لم يثبت إلا بالرسل، كان العلم بجواز إرسال الرسل سابقا على العلم بالتكليف، فكيف يستدل بما يتأخر علمه على ما يتقدم علمه، ومن حق الدليل أن يكون العلم به قبل العلم بالمدلول حيث جعل دليلا على العلم به، ولو قدر أنه ممن يسوغ التكليف العقلي فذاك عند القائلين به يرجع إلى صفات تقوم بالأفعال فلا يفتقر إلى ثبوت الكلام، وليس المقصود بيان هذا وإنما المقصود قولهم: ورود التكليف دال على علمه، وعلمه دال على ثبوت المصدق، إذ العالم بالشيء لا يخلو عن نطق النفس بما يعلمه، وذلك هو التدبير والخبر، فقد جعلوا العلم مستلزما للكلام بنوعيه الخبر والصدق والتدبير الذي هو الطلب، وهذا إلى التحقيق أقرب من غيره، فإذا كان الأمر كذلك كيف يتصور اجتماع العلم والكذب النفساني، فإن قيل لا ريب أن هذا تناقض منهم في الشيء الواحد المعين بإثباته تارة وجعله كلاما محققا ونفيه أخرى ونفي تسميته كلاما محققا إذا قدر وجوده، لكن التناقض يدل على بطلان أحد القولين المتناقضين غير معين فقد يكون الباطل ما ادعوه من استلزام العلم للصدق النفساني ومنافاته للكذب دون ما ذكروه من إمكان اجتماعهما وعدم استلزامه للصدق، ثم قال أبو عبد الله وأي أمر أبين من هذا، وأي كفر أكفر من هذا إذا زعموا أن القرآن مخلوق، فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة، وأن علم الله مخلوق ولكن الناس يتهاونون بهذا ويقولون إنما يقولون القرآن مخلوق فيتهاونون به ويظنون أنه هين ولا يدرون ما فيه من الكفر، قال وأنا أكره أن أبوح بها لكل أحد وهم يسألونني فأقول إني أكره الكلام في هذا، فيبلغني أنهم يدعون علي أني أمسك قال الأثرم فقلت لأبي عبد الله فمن قال إن القرآن مخلوق وقال لا قول إن أسماء الله مخلوقة ولا علمه لم يرد على هذا أقول هو كافر ؟ فقال: هكذا هو عندنا، قال أبو عبد الله: أنحن نحتاج أن نشك في هذا القرآن، عندنا فيه أسماء الله، وهو من علم الله، فمن قال مخلوق فهو عندنا كافر، ثم قال أبو عبد الله: بلغني أن أبا خالد وموسى بن منصور وغيرهما يجلسون في ذلك الجانب فيعيبون قولنا ويدعون أن هذا القول أن لا يقال مخلوق ولا غير مخلوق، ويعيبون من يكفر ويقولون إنا نقول بقول الخوارج، ثم تبسم أبو عبيد الله كالمغتاظ ثم قال أبو عبد الله لعباس وذاك السجستاني الذي عندكم بالبصرة ذاك الخبيث بلغني أنه قد وضع في هذا أيضا، يقول لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق، ذاك خبيث ذاك الأحول فقال العباس: كان يقول مرة بقول جهم ثم صار إلى أن يقول بهذا القول، فقال أبو عبد الله: ما بلغني أنه كان يقول جهم إلا الساعة، فقول الإمام أحمد إذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة وأن علم الله مخلوق، يبين أن العلم الذي تضمنه القرآن داخل في مسمى القرآن، وقد نبهنا فيما تقدم على أن كل كلام حق فإن العلم أصل معناه، فإن كان قد ينضم إلى العلم معنى الحب والبغض، وذلك أن الكلام خبر أو طلب أما الخبر الحق فإن معناه علم بلا ريب، وأما الإنشاء كالأمر والنهي فإنه مسبوق بتصور المأمور والمأمور به وغير ذاك فالعلم أيضا أصله واسم القرآن والكلام يتضمن هذا كله فقول القائل القرآن مخلوق يتضمن أن علم الله مخلوق، وكذلك أسماء الله هي في القرآن فمن قال هو مخلوق والمخلوق هو الصوت القائم ببعض الأجسام يكون ذلك الجسم هو الذي سمى الله بتلك الأسماء ولم يكن قبل ذلك الجسم وصوته لله اسم بل يكون ذلك الاسم قد نحله إياه ذلك الجسم، ولهذا روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سأله سائل عن قوله: وكان الله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا، فكأنه كان ثم مضى فقال ابن عباس: وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك وذلك قوله أني لم أزل كذلك، هذا لفظ البخاري وهو رواه مختصرا ولفظ البوشنجي محمد بن إبراهيم الإمام عن شيخ البخاري الذي رواه من جهته البرقاني في صحيحه: فإن الله سمى نفسه ذلك ولم ينحله غيره فذلك قوله وكان الله أي لم يزل كذلك هكذا رواه البيهقي عن البرقاني، وذكر الحميدي لفظه فإن الله جعل نفسه ذلك وسمى نفسه وجعل نفسه ذلك ولم ينحله أحدا غيره، وكان الله أي لم يزل كذلك، ولفظ يعقوب بن سفيان عن يوسف بن عدي شيخ البخاري: فإن الله سمى نفسه ذلك ولم يجعله غيره وكان الله أي لم يزل كذلك، فقد أخبر ابن عباس: أن معنى القرآن إن الله سمى نفسه بهذه الأسماء لم ينحله ذلك غيره، وقوله وكان الله يقول إني لم أزل كذلك ومن المعلوم أن، الذي قاله ابن عباس هو مدلول الآيات ففي هذا دلالة على فساد قول الجهمية من وجوه: أحدها: إنه إذا كان عزيزا حكيما ولم يزل عزيزا حكيما، والحكمة تتضمن كلامه ومشيئته كما أن الرحمة تتضمن مشيئته، دل على أنه لم يزل متكلما مريدا، وقوله غفورا أبلغ فإنه إذا كان لم يزل غفورا فأولى أنه لم يزل متكلما، وعند الجهمية: بل لم يكن متكلما ولا رحيما ولا غفورا إذ هذا لا يكون إلا بخلق أمور منفصلة عنه فحينئذ كان كذلك، الثاني: قول ابن عباس فإن الله سمى نفسه ذلك يقتضي أنه هو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء لا أن المخلوق هو الذي سماه بها، ومن قال إنها مخلوقة في جسم لزمه أن يكون ذلك الجسم هو الذي سماه بها، الثالث: قوله ولم ينحله ذلك غيره وفي اللفظ الآخر ولم يجعله ذلك غيره وهذا يبين بجعله ذلك في رواية أي هو الذي حكم بنفسه بذلك لا غيره، ومن جعله مخلوقا لزمه أن يكون الغير هو الذي جعله كذلك ونحله ذلك، الرابع: إن ابن عباس ذكر ذلك في بيان معنى قوله وكان الله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا ليبين حكمة الإتيان بلفظ كان في مثل هذا، فأخبر في ذلك أنه هو الذي سمى نفسه ذلك ولم ينحله ذلك غيره، ووجه مناسبة هذا الجواب أنه إذا نحل ذلك غيره كان ذلك مخلوقا بخلق ذلك الغير فلا يخبر عنه بأنه كان كذلك، وأما إذا كان هو الذي سمى به نفسه ناسب أن يقال إنه كان كذلك وما زال كذلك لأنه هو لم يزل سبحانه وتعالى، وهذا التفريق إنما يصح إذا كان غير مخلوق ليصح أن يقال لما كان هو المسمي لنفسه بذلك كان لم يزل كذلك، فذكر الإمام أحمد أن قول القائل القرآن مخلوق يتضمن القول بأن علم الله مخلوق وأن أسماءه مخلوقة لأن ظهور عدم خلق هذين للناس أبين من ظهور عدم القول بفساد إطلاق القول بخلق هذين ولو كان القرآن اسما لمجرد الحروف والأصوات لم يصح ما ذكره الإمام أحمد من الحجة، فإن خلق الحروف وحدها لا تستلزم خلق العلم، وهكذا القائلون بخلق القرآن إنما يقولون بخلق الحروف والأصوات في بعض الأجسام لأن هذا هو عندهم القرآن ليس للعلم عندهم دخل في مسمى القرآن، ولهذا لما قال له الأثرم فمن قال القرآن مخلوق وقال لا أقول إن أسماء الله مخلوقة ولا علمه لم يزد على هذا أقول هو كافر، فقال هكذا هو عندنا ثم استفهم استفهام المنكر فقال أنحن نحتاج أن نشك في هذا القرآن عندنا فيه أسماء الله وهو من علم الله، فمن قال مخلوق فهو عندنا كافر فأجاب أحمد بأنهم وإن لم يقولوا بخلق أسمائه وعلمه، فقولهم يتضمن ذلك ونحن لا نشك في ذلك حتى نقف فيه فإن ذلك يتضمن خلق أسمائه وعلمه، ولم يقبل أحمد قولهم القرآن مخلوق وإن لم يدخلوا فيه أسماء الله وعلمه لأن دخول ذلك فيه لا ريب فيه كما أنهم لما قالوا القرآن مخلوق خلقه الله في جسم لكن هو المتكلم به لا ذلك الجسم لم يقبل ذلك منهم، لأنه من المعلوم أنه إنما يكون كلام ذلك الجسم لا كلام الله، كإنطاق جوارح العبد وغيرها فإنه يفرق بين نطقه وبين إنطاقه لغيره من الأجسام، وقال أحمد فيه أسماء الله وهو من علم الله، ولم يقل فيه علم الله لأن كون أسماء الله في القرآن يعلمه كل أحد ولا يمكن أحد أن ينازع فيه، وأما اشتمال القرآن على العلم فهذا ينازع فيه من يقول إن القرآن هو مجرد الحروف والأصوات فإن هؤلاء لا يجعلون القرآن فيه علم الله بل والذين يقولون الكلام معنى قائم بالذات والخبر والطلب وأن معنى الخبر ليس هو العلم ومعنى الطلب لا يتضمن الإرادة، ينازعون في أن مسمى القرآن يدخل فيه العلم، فذكر الإمام أحمد ما يستدل به على أن علم الله في القرآن وهو قوله فإن القرآن من علم الله لأن الله أخبر بذلك، فذكر أحمد لفظ القرآن الذي يدل على موارد النزاع فإن قوله القرآن من علم الله مطابق لقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير }، ولقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } ولقوله: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } الآية ولقوله: { وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق } ومعلوم أن المراد بالذي جاءك من العلم في هذه الآيات إنما هو ما جاءه من القرآن كما يدل عليه سياق الآيات، فدل ذلك على أن مجيء القرآن إليه مجيء ما جاءه من علم الله إليه، وذلك دليل على أن من علم الله ما في القرآن، ثم قد يقال هذا الكلام فيه علم عظيم، وقد يقال هذا الكلام علم عظيم، فأطلق أحمد على القرآن أنه من علم الله لأن الكلام الذي فيه علم هو نفسه يسمى علما وذلك هو من علم الله كما قال: { من بعد ما جاءك من العلم } ففيه من علم الله ما شاءه سبحانه لا جميع علمه، ومثل هذا كثير في كلام الإمام أحمد كما رواه الخلال عن أبي الحارث قال: سمعت أبا عبد الله يقول القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر لأنه يزعم أن علم الله مخلوق وأنه لم يكن له علم حتى خلقه، وكما روي عن محمد بن إبراهيم الهاشمي قال: دخلت على أحمد بن حنبل أنا وأبي فقال له أبي يا أبا عبد الله: ما تقول في القرآن قال القرآن من علم الله، ومن قال إن من علم الله شيئا مخلوقا فقد كفر، ذكر ذلك لأن من الجهمية من يقول علم الله بعضه مخلوق وبعضه غير مخلوق، وقد يقول إن الله وإن جعل القرآن من علمه فبعض ذلك مخلوق، كما روى الخلال عن الميموني أنه سأل أبا عبد الله قال: قلت من قال كان الله ولا علم ؟ فتغير وجهه تغيرا شديدا وأكبر غيظه ثم قال لي: كافر، وقال لي في كل يوم أزداد في القوم بصيرة، قال: وقال أبو عبد الله علمت أن بشرا المريسي كان يقول العلم علمان فعلم مخلوق وعلم ليس بمخلوق فهذا أي شيء يكون هذا ؟ قلت يا أبا عبد الله كيف يكون إذا قال لا أدري أيكون علمه كله بعضه مخلوق وبعضه ليس بمخلوق لا أدري كيف ذا بشر كذا كان يقول وتعجب أبو عبد الله تعجبا شديدا وروي عن المروزي قال قال أبو عبد الله قلت لابن الحجام - يعني يوم المحنة - ما تقول في علم الله ؟ فقال: مخلوق فنظر ابن رباح إلى ابن الحجام نظرا منكرا عليه لما أسرع، فقلت لابن رباح أي شيء تقول أنت فلم يرض ما قال ابن الحجام فقلت له كفرت قال أبو عبد الله يقول: إن الله كان لا علم له فهذا الكفر بالله، وقد كان المريسي يقول إن علم الله وكلامه مخلوق وهذا الكفر بالله، وعن عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كفر لأن القرآن من علم الله وفيه أسماء الله، قال الله تعالى: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم }، وعن المروذي سمعت أبا عبد الله يقول القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر بالله واليوم الآخر والحجة { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } الآية وقال: { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } وقال { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير } وقال { ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق } والذي جاء به النبي ﷺ والقرآن وهو العلم الذي جاءه والعلم غير مخلوق والقرآن من العلم وهو كلام الله، وقال: { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان } وقال: { ألا له الخلق والأمر }، فأخبر أن الخلق خلق والخلق غير الأمر وأن الأمر غير الخلق وهو كلامه وأن الله عز وجل لم يخل من العلم وقال: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، والذكر هو القرآن وأن الله لم يخل منهما ولم يزل الله متكلما عالما، وقال في موضع آخر: إن الله لم يخل من العلم والكلام وليسا من الخلق لأنه لم يخل منهما، فالقرآن من علم الله وعن الحسن بن ثواب أنه قال لأبي عبد الله من أين أكفرتهم ؟ قال: قرأت في كتاب الله غير موضع: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } فذكر الكلام قال ابن ثواب ذاكرت ابن الدورقي فذهب إلى أحمد ثم جاء فقال لي سألته فقال لي كما قال لك إلا أنه قد زادني أنزله بعمله، ثم قال لي أحمد إنما أرادوا الإبطال، وقد فسر طائفة منهم ابن حزم كلام أحمد بأنه أراد بلفظ القرآن المعنى فقط، وأن معنى القرآن يعود إلى العلم فهو من علم الله ولم يرد بالقرآن الحروف والمعاني فمن جعل القرآن كله ليس له معنى إلا العلم فقد كذب، وأما من قال عن هذه الآيات التي احتج بها أحمد أن معناها العلم لأنها كلها من باب الخبر ومعنى الخبر العلم فهذا أقرب من الأول، وهذا إذا صح يقتضي أنه قد يراد بالكلام المعنى تارة كما يراد به الحروف أخرى، فأما أن يكون أحمد يقول إن الله لا يتكلم بالحروف فهذا خلاف نصوصه الصريحة عنه لكن قد يقال القرآن الذي هو قديم لا يتعلق بمشيئته هو المعنى الذي سماه الله علما وذلك هو الذي يكفر من قال بحدوثه، قال الخلال في كتاب السنة ردا على الجهمية الضلال: إن الله لا يتكلم بصوت، وروى عن يعقوب بن بختان أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لا يتكلم بصوت، قال بلى تكلم بصوت وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها لكل حديث وجه يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: " إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجودا حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال سكن عن قلوبهم - نادى أهل السماء ماذا قال ربكم قالوا الحق "، قال كذا وكذا، وكذلك ذكر عبد الله في كتاب السنة، وذكره عنه الخلال قال سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت فقال أبي بل تكلم الله تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت، وقال أبي حديث ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر سلسلة على الصفوان قال أبي والجهمية تنكره وقال أبي هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر، إنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت، وروى المروذي عن أحمد حديث ابن مسعود قال المروذي سمعت أبا عبد الله وقيل له إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام، أي حقا جهمي عدو الله من موسى بن عقبة يا ضالا مضلا من ذب عن موسى بن عقبة من كان من الناس يجانب أشد المجانبة وأبو عبد الله سأل حتى انتهى إلى آخر كلام عبد الوهاب، فتبسم أبو عبد الله وقال: ما أحسن ما تكلم عافاه الله، ولم ينكر منه شيئا، وقال الإمام أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق الأفعال ويذكر عن النبي ﷺ: { أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب فليس هذا لغير الله عز وجل }، قال البخاري: وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال: لا تجعلوا لله ندا فليس لصفة الله ند ولا مثل ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين، حدثنا به داود بن شبيب حدثنا همام أخبرنا القاسم بن عبد الواحد حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل، أن جابر بن عبد الله حدثهم أنه سمع عبد الله بن أنيس يقول، سمعت النبي - ﷺ - يقول { يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة واحد من أهل النار يطلبه بمظلمة } وهذا قد استشهد به في صحيحه وقال حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - ﷺ -: { يقول الله يوم القيامة، يا آدم فيقول لبيك ربنا وسعديك: فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار، قال يا رب ما بعث النار قال من كل ألف، أراه قال تسعمائة وتسعة وتسعين فحينئذ تضع الحامل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد }، وهذا الحديث رواه في صحيحه وقال حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش الضحى عن مسروق قال: من كان يحدثنا بهذه الآية لولا ابن مسعود سألناه { حتى إذا فزع عن قلوبهم } قال سمع أهل السموات صلصلة مثل صلصلة السلسلة على الصفوان فيخرون حتى إذا فزع عن قلوبهم سكن الصوت عرفوا أنه الوحي ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق، وقال حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي، حدثنا الأعمش حدثنا مسلم عن مسروق عن عبد الله بهذا وقال حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو سمعت أبا هريرة يقول إن نبي الله - ﷺ - قال: { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على الصفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير }: قال وقال الحكم بن أبان حدثني عكرمة عن ابن عباس: إذا قضى الله أمرا تكلم رجفت السموات والأرض والجبال وخرت الملائكة كلهم سجدا، حدثنا عمرو بن زرارة حدثنا زياد عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب عن عبد الله بن عباس عن نفر من الأنصار أن رسول الله ﷺ قال لهم { ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به، قال كنا يا رسول الله نقول حين رأيناها يرمى بها مات ملك ولد مولود مات مولود، فقال رسول الله ﷺ: ليس ذلك كذلك، ولكن الله إذا قضى في حقه أمرا يسمعه أهل العرش فيسبحون فيسبح من تحتهم بتسبيحهم فيسبح من تحت ذلك فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا حتى يقول بعضهم لبعض لم سبحتم ؟ فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم، فيقولون أفلا تسألون من فوقكم مم سبحوا، فيسألونهم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا الأمر الذي كان فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثون به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم منهم واختلاف، ثم يأتون به إلى الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون فتحدث بهم الكهان، ثم إن الله حجب الشياطين عن السماء بهذه النجوم وانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة }، قال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه ( نهاية العقول في دراية الأصول ) الذي زعم أنه أورد فيه من الدقائق ما لا يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين والموافقين . الوجه الثالث: أن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسائل الاجتهاد كما قد بيناه وبينا إجماع الصحابة على المنع منها بكلام غليظ يخرجها من مسائل الاجتهاد، واتفاق السلف على أنها بدعة محدثة، وكل بدعة تخالف السنة وآثار الصحابة فإنها ضلالة، وهذا منصوص الإمام أحمد وغيره، وحينئذ فلا يجوز تقليد من يفتي بها ويجب نقض حكمه، ولا يجوز الدلالة لأحد من المقلدين على من يفتي بها مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد، وقد نص أحمد على هذه المسائل في مثل هذا، وإن كنا نعذر من اجتهد من المتقدمين في بعضها، وهذا كما أن أعيان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ ونحوها بل عند فقهاء الحديث أن من شرب النبيذ المختلف فيه حد، وإن كان متأولا واختلفوا في رد شهادته فردها مالك دون الشافعي وعن الإمام أحمد روايتان، مع أن الذين قالوا بالمتعة والصرف معهم فيهما سنة صحيحة، لكن سنة المتعة منسوخة، وحديث الصرف يفسره سائر الأحاديث، فكيف بالحيل التي ليس لها أصل من سنة ولا أثر أصلا بل السنن والآثار تخالفها، وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار، إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة، أو إجماع وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة، وإن كان قد اتبع بعض العلماء، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ ينكر على من عمل بها مجتهدا، أو مقلدا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس - والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا، مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له - إذا عدم ذلك فيها - الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة، أو لخفاء الأدلة فيها وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها، مثل كون الحامل المتوفى عنها تعتد بوضع الحمل، وأن الجماع المجرد عن إنزال يوجب الغسل، وأن ربا الفضل والمتعة حرام، وأن النبيذ حرام، وأن السنة في الركوع الأخذ بالركب، وأن دية الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم ربع دينار، وأن البائع أحق بسلعته إذا أفلس المشتري، وأن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن التيمم يكفي فيه ضربة واحدة إلى الكوعين، وأن المسح على الخفين جائز حضرا وسفرا إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى، وبالجملة من بلغه ما في هذا الباب من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها فليس له عند الله عذر بتقليد من ينهاه عن تقليده، ونقول لا يحل لك أن تقول ما قلت حتى تعلم من أين قلت، أو تقول إذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي ولو لم يكن في الباب أحاديث، فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن نبي الله ﷺ لم يكن ممن يعلم هذه الحيل ويفتي بها هو ولا أصحابه، وأنها لا تليق بدين الله أصلا، وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة الدين، الوجه الرابع: إنا لو فرضنا أن الحيل من مسائل الاجتهاد - كما يختاره في بعضها طائفة من أصحابنا وغيرهم - فإنا إنما بينا الأدلة الدالة على تحريمها كما في سائر مسائل الاجتهاد، فأما جواز تقليد من يخالف فيها ويسوغ الخلاف فيها وغير ذلك فليس هذا من مواضع الكلام فيه، وليس الكلام في هذا مما يختص هذا الضرب من المسائل، فلا يحتاج إلى هذا التقرير أن يجيب عن السؤال بالكلية، وحينئذ فمن وضح له الحق وجب عليه اتباعه، ومن لم يتضح له الحق فحكمه حكم أمثاله في مثل هذه المسائل، الوجه الخامس: أن المتأخرين أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن واحد من الأئمة ونسبوها إلى مذهب الشافعي، أو غيره، وهم مخطئون في نسبها لا إليه على الوجه الذي يدعونه خطأ بينا يعرفه من عرف نصوص كلام الشافعي وغيره، فإن الشافعي رضي الله عنه ليس معروفا بأن يفعل الحيل ولا يدل عليها ولا يشير على مسلم أن يسلكها ولا يأمر بها من استنصحه، بل هو يكرهها وينهى عنها بعضها كراهة تحريم وبعضها كراهة تنزيه، وكثير من الحيل أو أكثر الحيل المضافة إلى مذهبه من تصرفات بعض المتأخرين من أصحابه تلقوها عن المشرقيين، نعم الشافعي رضي الله عنه يجري العقود على ظاهر الأمر بها من غير سؤال المعاقد عن مقصوده، كما يجري أمر من ظهرت زندقته، ثم أظهر التوبة على ظاهر قبول التوبة منه من غير استدلال على باطنه، وكما يجري كنايات القذف وكنايات الطلاق على ما يقول المتكلم إنه مقصوده من غير اعتبار بدلالة الحال، وربما أخذ من كلامه عدم تأثير العقد في الظاهر بما يسبقه من المواطأة وعدم فساده بما يقارنه من النيات على خلافه عنه في هذين الأصلين، أما إن الشافعي رضي الله عنه، أو من هو دونه يأمر الناس بالكذب والخداع بما لا حقيقة له، وبشيء يتيقن بأن باطنه خلاف ظاهره فما ينبغي أن يحكى هذا عن مثل هؤلاء، فإن هذا ليس في كتبهم، وإنما غايته أن يؤخذ من قاعدتهم، فرب قاعدة لو علم صاحبها ما تفضي إليه لم يقلها، فمن رعاية حق الأئمة أن لا يحكى هذا عنهم - ولو روي عنهم - لفرط قبحه، ولهذا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يكره أن يحكي عن الكوفيين والمدنيين والمكيين المسائل المستقبحة، مثل مسألة النبيذ، والصرف، والمتعة، وفحاش النساء، إذا حكيت لمن يخاف أن يقلدهم فيها، أو ينتقصهم بسببها، وفرق بين أن آمر بشيء، أو أفعله، وبين أن أقبل من غيري ظاهره، وقد كان بين الأئمة من أصحاب الشافعي من ينكرون على من يحكى عنه الإفتاء بالحيل، مثل ما قاله الإمام ابن عبد الله ابن بطة سألت أبا بكر الآجري - وأنا وهو في منزله في مكة - عن هذا الخلع الذي يفتى به الناس - وهو أن يحلف رجل أن لا يفعل شيئا لا بد له من فعله، فيقال له: اخلع زوجتك، وافعل ما حلفت عليه، ثم راجعها -، واليمين بالطلاق ثلاثا، وقلت: إن قوما يفتون الرجل الذي يحلف بأيمان البيع ويحنث أن لا شيء عليه، ويذكرون أن الشافعي لم ير على من حلف بيمين البيعة شيئا، فجعل أبو بكر يعجب سؤالي عن هاتين المسألتين في وقت واحد، ثم قال لي: اعلم منذ كتبت العلم وجلست للكلام فيه، والفتوى ما أفتيت في هاتين المسألتين بحرف ولقد سألت أبا عبد الله الزبيري الضرير عن هاتين المسألتين، كما سألتني عن التعجب ممن يقدم على الفتوى فيهما، فأجابني بجواب كتبته عنه، ثم قام فأخرج لي كتاب أحكام الرجعة والنشوز من كتاب الشافعي، وإذا مكتوب على ظهره بخط أبي بكر سألت أبا عبد الله الزبيري فقلت له الرجل يحلف بالطلاق ثلاثا أن لا يفعل شيئا، ثم يريد أن يفعله، وقلت له: إن أصحاب الشافعي يفتون فيها بالخلع ; يخالع ثم يفعل فقال الزبيري ما أعرف هذا من قول الشافعي، ولما بلغني أن له في هذا قولا معروفا، ولا أرى من يذكر هذا عنه إلا محيلا، وقلت له الرجل يحلف بأيمان البيعة، فيحنث ويبلغني أن قوما يفتونهم أن لا شيء عليه، أو كفارة يمين، فجعل الزبيري يتعجب من هذا، وقال: أما هذا فما بلغني عن عالم ولا بلغني فيه قول ولا فتوى، ولا سمعت أن أحدا أفتى في هذه المسألة بشيء قط، قلت للزبيري ولا عندك فيها جواب، فقال: إن ألزم الحالف نفسه جميع ما في يمين البيعة، وإلا فلا أقول غير هذا - قال الإمام أبو عبد الله ابن بطة، فكتبت هذا الكلام من ظهر كتاب أبي بكر وقرأته عليه، ثم قلت له: فأنت إيش تقول يا أبا بكر ؟ فقال: هكذا أقول، وإلا فالسكوت عن الجواب أسلم لمن أراد السلامة إن شاء الله تعالى، ذكر هذا الإمام ابن عبد الله ابن بطة في جزء صنفه في الرد على من يفتي بخلع اليمين وذكر الآثار فيه عن السلف بالرد له وأنه محدث في الإسلام: وأبو عبد الله الزبيري أحد الأئمة الأعلام من قدماء أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإذا كان هذا في خلع اليمين فكيف أن يهبه شيئا ليقفه عليه وأمثالها، والطريق الثاني: أن يتقلد قول من يصحح وقف الإنسان على نفسه كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وقول أبي يوسف وغيرهما، وهو متوجه، فإن حجة المانع امتناع كون الإنسان معطيا من نفسه لنفسه، وهذا لم يصح أن يبيع نفسه ولا يهب نفسه، فيقال الواقف شبيه العتق والتحرير من حيث إنه يمتنع نقل الملك في رقبته، وأشبه شيء به أم الولد، وهذا مأخذ من يقول: إن رقبة الوقف ينتقل ملكها إلى الله سبحانه، ولهذا قال من قال: إنه لا يفتقر إلى قبول، وإذا كان مثل التحرير لم يكن مملكا لنفسه، بل يكون مخرجا للملك عن نفسه ومانعا لنفسه من التصرف في رقبته مع الانتفاع بالمنفعة فيشبه الاستيلاء، ولو قيل: إن رقبة الوقف تنتقل إلى الموقوف عليه فإنه ينقل إلى جميع الموقوف عليهم بطنا بعد بطن يتلقونه من الواقف - والطبقة الأولى أحد الموقوف عليهم - وإذا اشترى أحد الشريكين لنفسه من مال الشركة، أو باع جاز على المختار لاختلاف حكم الملكين، فلأن يجوز أن ينتقل ملكه المختص إلى طبقات موقوف عليها - هو أحدهما - أولى ; لأنه في كلا الموضعين نقل ملكه المختص إلى ملك مشترك له فيه نصيب، ثم له في الشركة الملك الثاني من جنس الأول فإنه يملك التصرف في الرقبة، وفي الوقف ليس من جنسه فيكون الجواز فيه أولى، يؤيد هذا: أنه إذا وقف على جهة عامة جاز له أن يكون كواحد من أهل تلك الجهة كوقف عثمان رضي الله عنه بئر رومة وجعله دلوه كدلاء المسلمين، وكصلاة المرء في مسجد وقفه، ودفنه في مقبرة سبلها، إلى غير ذلك من الصور، فإذا جاز للواقف أن يكون موقوفا عليه في الجهة العامة، جاز مثله في الجهة الخاصة المحصورة، لاتفاقهما في المعنى، بل الجواز هنا أولى من حيث إنه موقوف عليه بالتعيين، وهناك دخل في الوقف بشمول الاسم له، وليس الغرض هنا تقرير هذه المسألة ولا غيرها، وإنما الغرض التنبيه على أنه قد أحدث الناس، حيلا وخدعا أكثر مما أنكره السلف على من أفتى بالحيل من أهل الرأي مع أن الله سبحانه قد أغناهم عنها بسلوك طريق إما جائز لا ريب فيه، أو مختلف فيه اختلافا يسوغ معه الأخذ بأحد القولين اجتهادا، أو تقليدا وهذا خير عند من فقه عن الله سبحانه أمره ونهيه من المخادعات التي مضمونها الاستهزاء بآيات الله تعالى والتلاعب بحدوده . 

============

21

فإن قيل: فإذا ملك الرجل غيره شيئا ليقفه عليه ثم على جهة متصلة من بعده فما حكم هذا في نفس الأمر وكيف حكم على من علم أن هذا هو حقيقة هذا الوقف؟ قيل: هذا التمليك والشرط يضمن شيئين

أحدهما: لا حقبقة له وهو انتقال الملك إلى الملك

والثاني: الإذن له في الوقف على هذا الوجه وموافقته عليه - وهدا في المعنى توكيل له في الوقف: فحكم هذا المللك قبل التمليك وبعده سواء لم يملكه المملك

ولو مات قبل وقفه لم يحل لورثته أخذه ولو أخذه ولم بقفه على صاحبه ولم يرده إليه كان ظالما عاصيا ولو تصرف فيه صاحبه بعد هذا التمليك لكان تصرفه فيه نافذ لنفوذه قبل التمليك - وهذا كله فيما بينه وبين الله وكذلك في الظاهر إن قامت بينة بما تواطأ عليه أو اعترف له المملك بذلك أو كانت دلالة الحال تقتضي ذلك

لكن المالك قد أذن لهذا في أن يقفه وهو راض بذلك وهذا الإذن والتوكيل وإن كان قد حصل في ضمن عقد فاسد فإنه لا يفسد بفساد العقد كما لو فسدت الشركة أو المضاربة فإن تصرف الشريك والعامل صحيح بما تضمنه العقد مع الإذن مع فساد العقد بل الإذن في مثل هذه الهبة الباطلة أولى من وجهين:

أحدهما: إنهما قد اتفقا قبل العقد على أن يقفه على صاحبه وتراضيا على ذلك واتفقا عنى أن هذه الهبة ليست هبة بتاتا بل هي مثل هذه التلجئة فيكون الاتفاق للأول إذنا صحيحا ورده بعده عقد فاسد وكان مثل هذا مثل أن يتفقا على بيع تلجئة أو هبة تلجئة وإن لم يفعل في المبيع والموهوب كذا وكذا فإن جميع تلك التصرفات المأذون فيها تقع صحيحه لأنها وكالة صحيحة في الباطن لم يرد بعدها ما يناقضها في الحقيقة

الثاني: إنا إنما أبطلنا هذا العقد لكونه قد اشترط على الموهب له أنه لا يتصرف فيه إلا بالوقف الذي هو في الظاهر واهب والتصرف في العين لا يتوقف على الملك بل يصح بطريق الوكالة وبطريق الولاية فلا يلزم من بطلان الملك بطلان الإذن الذي تضمنه الشرط لأن الإذن مستندا غير الملك ولا يقال لما بطل الملك بطل التصرف الذي هو من توابعه التصرف في مثل هذه الصورة وليس هو من توابع الملك وإنما هو من توابع ما هو في الظاهر ملك للثاني وفي الحقيقة ليس ملكا للثاني بل هو باق على ملك الأول وإذا كان من توابع ما هو في الحقيقة باق على ملك الأول وفي الظاهر ملك للثاني فبطلان هذا الثاني لا يستلزم بطلان الملك الحقيقي ولا بطلان توابعه

يؤيد هذا أن الحيل التي استحلت بأسماء باطلة يجب أن تسلب تلك الأسماء المنحولة وتعطى الأسماء الحقيقية كما يسلب منها ما يسمى بيعا أو نكاحا أو هدية وهذه الأسماء تسمى ربا وسفاحا ورشوة فكذلك هذه الهبة تسلب اسم الهبة وتسمى توكيلا وإذنا فإن صحة الوكالة لا تتوقف على لفظ مخصوص بل بكل قول دل على الإذن في التصرف فهو وكالة

وهذه المواطأة على هذه الهبة لا ريب أنها تدل على الإذن في هذا الوقف فتكون وكالة وإذا كان كذلك فمن اعتقد صحة وقف الإنسان على نفسه كما بينا مأخذه واعتقد صحة هذا الوقف وكان هذا الوقف لازما إذا وقفه ذلك الملك الموكل كلزومه لو وقفه إلمالك نفسه أو وكيل محض وينبني على ذلك سائر أحكام الوقف الصحيح من حل التناول منه ونحو ذلك

ومن اعتقد وقف الإنسان على نفسه باطلا كان هذا وقفا منقطع الابتداء لكونه وقف عنى نفسه والوقف لا يجوز عليها ثم على غيره والوقف جائز عليه وفي هذه المسألة خلاف مشهور فقيل لا يصح الوقف بخلاف المنقطع الانتهاء لأن الطبقة الثانية والثالثة تبع للأولى فإذا لم تصح الأولى فما بعدها أولى ولأن الواقف لم يرض أن يصير للثانية إلا بعد الأولى وما رضي به لم يرض به الشارع فالذي رضيه الشارع لم يرضه والذي رضيه لم يرضه الشارع ولا بد في صحة التصرف من رضى المتصرف وموافقة الشارع فعلى هذا هو باق على ملك الواقف فإذا مات انبنى على أنه إذا قال هذا وقف بعد موتي صح أو هو كالمعلق بالشرط

فإن قيل: هوكالمعلق بشرط فلا كلام وإن قيل بصحته أمكن أن يقال بصحة هذا الوقف بعد موته من الثلث وأنه فيما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة بخلاف ما لو وقف على حربي أو مرتد وبعد موته على من يصح لأنه إذا وقف على نفسه وبعد موته على جهة متصلة أمكن أن يلغي قوله على نفسي ويجعل كأنه قال بعد موتي على كذا وهذا يصححه من لا يصحح الوقف على تلك الجهة بعد موت فلان إلحاقا للوقف بالوصية فإنه من جنس العطايا والعطية يصح تعليقها بشرط وإنما جاز هذا في الوصايا إلحاقا بالميراث وقيل أن هذا الوقف المنقطع الابتداء صحيح ثم فيه وجهان:

أحدهما: إنه يصرف في الحال مصرف الوقف المنقطع الابتداء فإذا مات هذا الواقف صرف إلى تلك الجهة الباطلة

والثاني: إنه يصرف في الحال فإذا مات الواقف صرف إلى تلك الجهة الصحيحة جعلا له بمنزلة المعلق على شرط - وكذلك جعل في تعليق الواقف بالشرط وجهان لتردده بين شبه العتق والتحرير وبين شبه الهبة والتمليك

فإن قبل: فإن أقر من في يده عقار أنه وقف عليه من غيره ثم على جهة متصلة وكان قد جعل هذا حيلة لوقفه على نفسه من غير أن يكون قد وقفه عليه أحد فما حكم ذلك في الباطن وحكم من علم ذلك من الموقوف عليه؟

قيل: هذا أيضا إنما قصد إنشاء الوقف فيكون كمن أقر بطلاق أو عتاق ينوي به الإنشاء لأن الوقف ينعقد باللفظ الصريح وباللفظ الكناية مع النية ويصح أيضا بالفعل مع النية عند الأكثرين فإذا كان مقصوده هو الوقف على نفسه وتكلم بقوله هذا وقف علي ثم على كذا وكذا وميزه بالفعل عن ملكه صار كما لو قال وقفته على نفسي ثم على كذا وكذا لأن الإقرار يجوز أن يكون كتابة في الإنشاء يجوز أن يقصد به الأخبار فإذا قصد به دين بخلاف ما لو كان إقرارا محضا وهو يعلم كذب نفسه فيه كان وجود هذا الإقرار كعدمه فيما بينه وبين الله: ففرق بين إقرار قصد به الأخبار عما مضى وإقرار قصد به الإنشاء وإنما ذكر بصيغة الأخبار لغرض من الأغراض

ومما يوضح هذا أن صيغ العقود قد قيل: هي إنشآت وقيل: إخبارات - وهي في الحقيقة إخبار عن المعاني التي في القلب وتلك المعاني إنشآت فاللفظ خبر والمعنى إنشاء إنما يتم حكمه باللفظ فإذا أخبر أن هذا المكان وقف عليه وهو يعلم أن غيره لم يقفه عليه بل هو كاذب في هذا وإنما مقصوده أن يصير هو واقفا له فقد أجمع لفظ الأخبار وإرادته الوقف فلو كان أخبر عن هذه الإرادة لم يكن فيه ريب أنه إنشاء وقف لكن لما كان اللفظ إخبارا عن غير ما عناه والذي عناه لم يلفظ به صارت المسألة محتملة لكن هذه النية مع هذا اللفظ ونحوه ومع الفعل الذي لو تجرد عن لفظ كان مع النية بمنزلة المتكلم بالوقف يوجب هذا وقفا وهذا المعنى ينبني على ماتقدم قبل هذا - وإذا كان هذا إنشاء للوقف فحكمه على ما تقدم والله سبحانه أعلم

وإذا كان الرجل ممن يعتقد مثلا بطلان وقف الإنسان على نفسه وبطلان استثناء منفعة الوقف فالواجب مع هذا الأعتقاد أما الوقف على غيره ظاهرا وباطنا أو الوصية بالوقف بعد موته فيما يسوغ الوصية فيه والإمساك عما زاد أو ترك الوقف وكذلك كل من اعتقد اعتقادا يرى أنه لايسوغ له الخروج عنه فإنه يجب الوفاء بموجبه كالأمور التي في تحريمها من الربا والسفاح وغير ذلك فإنه يجب الإمساك عما حرم الله سبحانه وأنه لا يستحل محارمه بأدنى الحيل ولا يتوهم الإنسان إن في الإمساك عن المحرم ضيقا أو ضررا أو في فعل الواجب فإنه من يتق الله تعالى يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهوحسبه ولا بد أن يبتلى المرء في أمر الله ونهيه تارة يترك ما يهوى وتارة يفعل ما يكره كما يبتلى في الحوادث المقدرة بمثل ذلك وقد قال سبحانه: { الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } وقال سبحانه: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }

وقال سبحانه: { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون } وقال تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } 0 الآيات ومن هنا ينشأ

الوجه الرابع عشر

وهو أن الحيلة إنما تصدر من رجل كره فعل ما أمر الله سبحانه أو ترك ما نهى الله سبحانه عنه وقد قال الله سبحانه: { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } وقال سبحانه: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } وقال سبحانه: { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف } إلى غير ذلك من المواضع التي ذم الله فيها من كره ما أنزل الله من الصلاة والزكاة والجهاد وجعله من المنافقين

وقال سبحانه في المؤمنين المربيين: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون }

وقال: يجب أن تتلقى أحكام الله بطيب نفس وانشراح صدر وأن يتيفن العبد أن الله لم يأمره إلا بما في فعله صلاح ولم ينهه إلا عما في فعله فساد سواء كان ذلك من نفس العبد بالأمر والنهي أو من نفس الفعل أو منهما جميعا وأن المأمور به بمنزلة القوت الذي هو قوام العبد والمنهي عنه بمنزلة السموم التي هي هلاك البدن وسقمه ومن يتيقن هذا لم يطلب أن يحتال على سقوط واجب في فعله صلاح له ولا على فعل محرم في تركه صلاح له أيضا وإنما تنشأ الحيل من ضعف الإيمان فلهذا كانت من النفاق وصارت نفاقا في الشرائع كما أن النفاق الأكبر نفاق في الدين وإذا كانت الحيلة مستلزمة الكراهة أمر الله ونهيه وذلك محرم بل نفاق فحكم المستلزم كذلك فتكون الحيل محرمة بل نفاقا ولو فرض أن ينشأ من الحيل تجرد في بعض حق الأشخاص عن هذا الإلزام لكان ذلك صورا قليلة فيجب أن يتعلق الحكم بالغالب ثم أقل ما فيها أنها مظنة لذلك والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها وكراهة الأمر والنهي تخفى عن صاحبها ولاتنضبط الحيلة التي تتضمن ذلك من التي لا تتضمنه فيعلق الحكم بمظنة ذلك وهو الحيلة مطلقا - وإنما يتم هذا الوجه والذي قبله بذكر أقسام الحيلة وهو

الوجه الخامس عشر

وهو أنه ليس كلما يسمى في اللغة حيلة أو يسميه بعض الناس حيلة أو يسمونه آلة مثل الحيلة المحرمة حراما فإن الله سبحانه قال في تنزيله: { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } فلو أحتال المؤمن المستضعف على التخلص من بين الكفار لكان محمودا في ذلك ولو احتال مسلم على هزيمة الكافر كما فعل نعيم بن مسعود يوم الخندق أو على أخذ ماله منهم كما فعل الحجاج بن علاطة وعلى قتل عدو لله ولرسوله كما فعل النفر الذين احتالوا على ابن أبي الحقيق اليهودي وعلى قتل كعب بن الأشرف إلى غير ذلك لكان محمودا أيضا فإن النبي ﷺ قال: [ الحرب خدعة ] وكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها والناس في التلطف وحسن التحيل على حصول ما فيه رضى الله ورسوله أو دفع ما يكيد الإسلام وأهله سعي مشكور

والحيلة مشتقة من التحول وهو النوع من الحول كالجلسة والقعدة من الجلوس والقعود والأكلة والشربة من الأكل والشرب ومعناها نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي هو التحول من حال إلى حال هذا مقتضاه في اللغة ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض وبحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة فإن كان المقصود أمرا حسنا كانت حيلة حسنة وإن كان قبيحا كانت قبيحة ولما قال النبي ﷺ: [ لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلون محارم الله لأدنى الحيل ] صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصد في الحيل التي يستحل بها المحارم كحيل اليهود وكل حيلة تضمنت إسقاط حق الله أو الآدمي فهي تندرج فيما يستحل بها المحارم فإن ترك الواجب من المحارم

ألا ترى أن النبي ﷺ سمى الحرب خدعة؟ ثم إن الخداع في الدين محرم بكتاب وسنة رسوله وقالت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ] متفق عليه وفي رواية لمسلم: [ ولم يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل أمرأته وحديث المرأة زوجها ] وفي رواية له قال الزهري ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاث

وعن أسماء بنت يزيد بن سكن أن النبي ﷺ خطب الناس فقال: [ أيها الناس ما يحملكم على أن تتابعوا في الكذب كما يتتابع الفراش كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال رجل كذب أمرأته ليرضيها ورجل كذب بين امرأين ليصلح بينهما ورجل كذب في خدعة حرب ] رواه الترمذي بنحوه ولفظه: [ لا يحل الكذب إلا في ثلاث ] وقال: حديث حسن ويروى أيضا عن ثوبان موقوفا ومرفوعا: [ الكذب كله إثم إلا ما ينفع به المسلم أو دفع به عن دين ]

فلم يرخص فيما تسميه الناس كذبا وإن كان صدقا في العناية ولهذا لما قال النبي ﷺ: [ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات قوله لسارة أختي وقوله: بل فعلهم كبيرهم هذا وقوله إني سقيم ] والثلاث معاريض وملاحه فإنه قصد باللفظ ما يطابقه في عنايته لكن لما أفهم المخاطب مالا يطابقه سمي كذبا ثم هذا الضرب قد ضيق فيه كما ترى

يؤيد هذا التفسير ما روى مالك عن صفوان بن سليم [ أن رجلا قال لرسول الله ﷺ: أكذب امرأتي؟ فقال رسول الله ﷺ: لا خير في الكذب فقال الرجل: أعدها وأقول لها فقال النبي ﷺ: لا جناح عليك ] وسيجيء كلام ابن عيينة في ذلك وبالجملة يجوز للإنسان أن يظهر قولا وفعلا مقصوده به مقصود صالح وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به إذا كانت فيه مصلحة دينية مثل دفع ظلم عن نفسه أو عن مسلم أو دفع الكفار عن المسلمين أو الاحتيال على إبطال حيلة محرمة أو نحو ذلك فهذه حيلة جائزة

وإنما المحرم مثل أن يقصد بالعقود الشرعية ونحوها غير ما شرعت العقود له فيصير مخادعا لله كما أن الأول خادع الناس ومقصوده حصول الشيء الذي حرمه الله لولا تلك الحيلة وسقوط الشيء الذي يوجبه الله تعالى لولا تلك الحيلة كما أن الأول مقصوده إظهار دين الله ودفع معصية الله ونظير هذا أن يتأول الحالف في يمينه إذا استحلفه الحاكم لفصل الخصومة فإن يمينك على ما يصدقك به صاحبك والنية للمستحلف في مثل هذا باتفاق المسلمين ولا ينفعه التأويل وفاقا وكذلك لو تأول من غير حاجة لم يجز عند الأكثر من العلماء بل الاحتيال في العقود أقبح من حيث أن المخادع فيها هو الله تعالى ومن خادع الله فإنما خدع نفسه وما يشعر ولهذا لا يبارك لأحد في حيلة استحل بها شيئا من المحرمات ويتبين الحال بذكر أقسام الحيل

أقسام الحيل

فنقول هي أقسام:

أحدها: الطرق الخفية التي يتوسل بها إلى ما هومحرم في نفسه بحيث لا تحل بمثل ذلك السبب بحال فمتى كان المقصود بها حراما في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين وصاحبها يسمى داهية ومكارا وذلك من جنس الحيل على هلاك النفوس وأخذ الأموال وفساد ذات البين وحيل الشيطان على إغواء بني آدم وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض حق وإظهار باطل في الأمور الدينية والخصومات الدنيوية وبالجملة فكل ما هو محرم في نفسه فالتوسل إليه بالطرق الظاهرة محرم فكيف بالطرق الخفية التي لاتعلم وهذا مجمع عليه بين المسلمين

ثم من هذه الحيلة ما يقصد بها حصول المقصود وإن ظهر أنه محرم كحيل اللصوص ولا مدخل لهذا في الفقه

ومنها ما يقصد به مع ذلك إظهار الحيل في الظاهر وهذه الحيل لا يظهر صاحبها إن مقصوده بها شر وقد لا يمكن الاطلاع على ذلك غالبا ففي مثل هذا قد تسد الذرايع إلى تلك المقاصد الخبيثة ومثال هذا إقرار المريض لوارث لا شيء له عنده فيجعله حيلة إلى الوسيلة له وهذا محرم باتفاق المسلمين وتعليمه هذا الإقرار حرام والشهادة عليه مع العلم بكذبه حرام والحكم بصحته مع العلم ببطلانه حرام فإن هذا كاذب غرضه تخصيص بعض الورثة بأكثر من حقه فالحيلة نفسها محرمة والمقصود بها محرم لكن لما أمن أن يكون صادقا اختلف العلماء في إقرار المريض لوارث هل هو باطل سدا للذريعة وردا لإقرار الذي صادف حق المورث فيما هو متهم فيه لأنه شاهد على نفسه فيما يتعلق به حقهم فترد التهمة كالشاهد على غيره أو هو مقبول إحسانا للظن بالمقر عند الخاتمة

ومن هذا الباب احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج مع إمساكه بالمعروف بانكارها للاذن للولي أو بإساءة عشرته بمنع بعض حقوقه أو فعل ما يؤذيه أو غير ذلك واحتيال البائع على فسخ الببع بدعواه إنه كان محجوزا عليه أو احتيال المشتري بدعواه إنه لم ير المبيع واحتيال المرأة على مطالبة الرجل بمال بإنكارها الإنفاق أو إعطاء الصداق إلى غير ذلك من الصور فهذا لا يستريب أحد في أن هذا من كبائر الإثم ومن أقبح المحرمات وهي بمنزلة لحم خنزير ميت حرام من جهة أنها في نفسها محرمة لأنها كذب على مسلم أو فعل معصية ومن جهة أنها ترسل بها إلى إبطال حق ثابت أو إثبات باطل

ويندرج في هذا القسم ما هو في نفسه مباح لكن يقصد المحرم صار حراما كالسفر لقطع الطريق ونحو ذلك فصار هذا القسم مشتملا على قسمين

القسم الثالث: أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل لكن يكون الطريق في نفسه محرما مثل أن يكون له على رجل حق مجحود فيقيم شاهدين لا يعلمانه فيشهدان به فهذا محرم عظيم عند الله قبيح لأن ذينك الرجلين شهدا بالزور حيث شهدا بما لا يعلمانه وهو حملهما على ذلك وكذلك لو كان له عند رجل دين وله عنده وديعة فجحد الوديعة وحلف ما أودعني شيئا أو كان له على رجل دين لا بينة له ودين آخر به بينة لكن قد أقضاه فيدعي هذا الدين ويقيم به اليبنة وينكر الاقتضاء ويتأول أني إنما استوفي ذلك الدين الأول فهذا حرام كله لأنها إنما يتوصل إليه بكذب منه أو من غيره لا سيما إن حلف والكذب حرام كله

وهذا قد يدخل فيه بعض من يفتي بالحيلة لكن الفقهاء منهم لا يحلونه

القمسم الرابع: أن يقصد حل ما حرمه الشارع وقد أباحه على سبيل الضمن والتبع إذا وجد بعض الأسباب أو سقوط ما أوجبه وقد أسقطه على سييل الضمن والتبع إذا وجد بعض الأسباب فيريد المحتال أن يتعاطى ذلك السبب قاصدا به ذلك الحيلة والسقوط - وهذا حرام من وجهين كالقسم الأول من جهة أن مقصوده حل ما لم يأذن به الشارع بقصد استحلاله أو سقوط ما لم يأذن الشارع بقصد إسقاطه والثاني أن ذلك السبب الذي يقصد به الإستحلال لم يقصد به مقصودا يجامع حقيقته بل قصد به مقصودا ينافي حقيقته ومقصوده الأصلي أو لم يقصد به مقصوده الأصلي بل قصد به غيره فلا يحل بحال ولا يصح إن كان ممن يمكن إبطاله

وهذا القسم هو الذي كثر فيه تصرف المحتالين ممن ينتسب إلى الفتوى وهو أكثر ما قصدنا الكلام فيه فإنه قد اشتبه أمره على المحتالين فقالوا الرجل إذا قصد التحليل مثلا لم يقصد محرما فإن عودة المرأة إلى زوجها بعد زواج حلال والنكاح الذي يتوصل به إلى ذلك حلال بخلاف الأقسام الثلاثة - وهذا جهل فإن عودة المرأة إلى زوجها إنما هو حلال إذا وجد النكاح الذي هو النكاح والنكاح إنما هو مباح إذا قصد به ما يقصد بالنكاح لأن حقيقة النكاح إنما يتم إذا قصد ما هو مقصوده أو قصد نفس وجوده أو وجود بعض لوازمه وتوابعه والنكاح ليس مقصوده في الشرع ولا في العرف الطلاق الموجب لتحليل المحرمة

فإن الطلاق رفع النكاح وإزالته وقصد إيجاد الشيء لإعدامه لغير غرض يتعلق بنفس وجوده محال فالحل يتبع الطلاق والطلاق بتبع النكاح والنكاح يتبع حقيقته التي شرع النكاح وجعل من أجلها فإذا وقع الأمر هكذا حصل الحل أما إذا قصد بالنكاح التحليل صار النكاح تابعا له والشارع قد جعل الحل المطلق تابعا للطلاق الثاني بعد النكاح فيصير كل منهما فرعا للآخر وتبعا له فيصير الثاني فرع نفسه وأصل أصله بمنزلة تعليل كل واحد من الأمرين بالآخر وهذا محال لأن كلا منهما إذا كان إنما يحصل تبعا للآخر وجب أن لا يحصل واحد منهما وإذا كان إنما يقصد لأجل والآخر وجب أن لا يقصد واحد منهما وإذا لم يقصد واحد منهما كان وجود ما وجد منهما عبثا والشارع لا يشرع العبث ثم فيه إرادة وجود الشيء وعدمه وذلك جمع بين متنافيين فلا يراد واحد منهما فيصير العقد أيضا عبثا وحقيقة الأمر على طريقة المحتاليين أن تصير العقود الشرعية عبثا وهذا من أسرار قاعدة الحيل فليتفطن له

فإن قيل: المقاصد في الأقوال والأفعال هي عللها التي هي غاياتها ونهاياتها وهذه العلل التي هي الغايات هي متقدمة في العلم والقصد متأخرة في الوجود والحصول ولهذا يقال أول الفكرة آخر العمل أول البغية آخر الدرك والعلل التي هي الغايات والعواقب وإن كان وجودها بفعل الفاعل الذي هومبدأ وجودها وسبب كونها فبتصورها وقصدها صار الفاعل فاعلا فهي المحققة لكون الفاعل فاعلا والمقومة لفعله وهي علة للفعل من هذا الوجه والفعل علة لها من جهة الوجود كالنكاح مثلا فإنه علة لحل المتعة وحل المتعة علة له من جهة أن يقصدها فإنما حصل حل الاستمتاع بالنكاح وإنما حصل النكاح بقصد الناكح حل الاستمتاع فحل الاستمتاع حقيقة موجبة للقصد أعني أنه بحيث يقصده المسلم والقصد موجب للفعل والفعل موجب لوجود الحل فصارت العاقبة من حيث هي معلومة مقصودة علة ومن حيث هي موجودة معلولة وشركها في أحد الوصفين معلول غيرمقصود وفي الآخر علة في نفس الوجود

ومثال الأول لدوا للموت وابنوا للخراب التي تسمى لام العاقبة

ومثال الثاني قعد عن الحرب جنبا ومنع المال بخلا وسائر العلل الفاعلة فمن هذا الوجه يقال حل المرأة لزوجها علة للنكاح ومعلول له وهو تابع من وجه ومتبوع من آخر فكذلك حل المرأة لزوجها المطلق ثلاثا قد يكون تابعا ومتبوعا من وجهين مختلفين فحلها تابع لوجود الطلاق بعد النكاح ومعلول له وجودا وهو متبوع وعلة له قصد وإرادة قد يفعل الرجل الشيء لا لمقاصده الأصلية بل المقاصد تابعة له ويكون ذلك حسنا كمن ينكح المرأة لمصاهرة أهلها كفعل عمر رضي الله عنه لما خطب أم كلثوم ابنة علي رضي الله عنهم أو لأن تخدمه في منزله أو لتقوم على بنات وأخوات له كفعل جابر بن عبد الله لما عدل عن نكاح البكر إلى الثيب وإن لم تكن هذه التوابع من اللوازم الشرعية بل من اللوازم العرفية ثم إن كان ذلك المقصود حسنا كان الفعل حسنا وحصول الفرقة المحرمة بين الزوجين قد يكون فيها فساد لحاليهما وربما تعدى الفساد إلى أولادهما أو أقاربهما فإن الطلاق هلاك المرأة لا سيما إن كانت ممن طالت صحبتها وحمدت عشرتها وقويت مودتها وبينهما أطفال يضيعون بالطلاق وبها من الوجد والصبابة مثل ما به فإن قصد تراجعهما والتسبب في ذلك عمل صالح فإذا قصده المحلل ولم يشعرهما لم يقصد إلا خيرا وربما يثاب على ذلك فهذه شبهة من استحسن ذلك

قلنا: لا ننكر أن عواقب الأفعال تكون تابعة متبوعة من وجهين ولكن إدخال نكاح المحلل ونحوه تحت هذه القاعدة غلط منكر فإنه إنما امتنع من الوجهين اللذين نبهنا عليهما من جهة أن كل واحد من السبب والحكم إنما أريد لأجل الآخر لا لأنه في نفسه مرادا وإذا لم يكن واحد منهما مرادا في نفسه لم يكن الآخر مرادا لأجله فلا يكون واحد منهما مرادا فيصير عبثا من جهة أنه جمع بين إرادة وجود الشيء وعدمه وهو جمع بين ضدين فلا يكون إرادة واحد منهما موجودة فيصير الفعل أيضا عبثا

بيان الوجه الأول أن من فعل شيئا أو أمر بشيء لأجل شيء فلا بد أن يكون الثاني مقصودا له بحيث يريد وجوده لمصلحة تتعلق بوجوده ولا يريد عدمه لكن لما كان الأول طريقا إلى حصوله أراده بالقصد الناني واذا لم يكن حصوله إلا بتلك الطريق جعلها مقصودة لأجله فإذا كان قد أعدم الشيء وأزاله لم يجعل إلى وجوده طريقا محضا بحيث تكون مفضية إليه يمكن القاصد لوجوده سلوكها بل علق وجوده بوجود أمر آخر له في نفسه حقيقة ومقصوده غير وجود ذلك المعلق به لم يكن قاصدا لوجود الشيء المعلق في نفسه بالقصد الأول بل يكون قاصدا له بالقصد الثاني كما كان في الأول قاصدا للوسيلة ففي القسم الأول الغاية هي المقصودة للأول دون الوسيلة وفي الثاني ليست الغاية هي المقصودة وإنما المقصود عدمها بالكلية أو عدمها إلى أن توجد الوسيلة إذ لو كانت مقصودة لنصب لها طريقا يكون وسيلة إليها تفضي إليها غالبا

إذا تبين هذا فنقول: الشارع لما حرم المطلقة ثلاثا على زوجها حتى تنكح زوجا غيره ثم يفارقها لم يكن مقصوده وجود الحل للزوج الأول فإنه لم ينصب شيئا يفضي إليه غالبا حيث علق وجود الحل بأن تنكح زوجا غيره ثم يفارقها وهذه الغاية التي هي النكاح يوجد الطلاق معها تارة وتارات كثيرة لا يوجد وهي في نفسها توجد تارة ونارات لا توجد فيعلم أن الشارع نفى الحل إما عقوبة على الطلاق أو امتحانا للعباد أو لما شاء سبحانه ولو كان مقصوده وجوده إذا أراده المكلف نصب له شيئا يفضي إليه غالبا كما أنه لما قصد وجود الملك إذا أراده المكلف نصب له سببا يفضي إليه غالبا كما أنه لما قصد وجود الملك إذا أراده المكلف نصب له الأسباب المفضية إليه من البيع ونحوه

ألا ترى أنه لما قصد حل البضع لما أراده العبد بعد الطلقتين البائنتين أو بدون الطلاق جعل له سببا يفضي إليه وهو تناكح الزوجين فإنهما إذا أراد ذلك فعلاه وبهذا يظهر الفرق بين قوله سبحانه: { حتى تنكح زوجا غيره } وبين قوله سبحانه: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا }

فإنه لما قصد وجود الحل للعبد إذا أراده علقه بالتطهر الذي يتيسر غالبا وجعل التطهر طريقا موصلا إلى حصول الحل بحيث يفعل لأجله فيجب الفرق بين ما يقصد وجوده لكن بشرط وجود غيره وبيهن ما يقصد عدمه لكن بشرط أن لا يوجد غيره فالأول كرجل يريد أن يكرم غيره لكن لا تسمح نفسه إلا إذا ابتداه بذلك والثاني كرجل يريد أن لا يكرم رجلا لكن أكرمه فاضطر إلى مكافأته فالأول يكون مصلحة لكن وجودها إنما يتم بأسباب متقدمة والثاني يكون مفسدة لكن عند وجود أسباب تصير مصلحة فمن الأول يتلقى فقه أسباب الحكم وشروطه فإنها مقتضية ومكملة لمصلحة الحكم ومن الثاني يتلقى حكم الموانع والمعارضات التي يتغير الحكم بوجودها

ومثال الأول أسباب حل المال والوطء واللحم فإن المال والبضع واللحم حرام حتى توجد هذه الأسباب وهي مقصودة الوجود لأنها من مصلحة الخلق

ومثال الثاني أسباب حل العقوبات من القتل والجلد والقطع فإن الدماء والمباشرة حرام حتى توجد الجنايات وهي مقصودة العدم لأن المصلحة عدمها ومن الثاني تحريم الخبائث حتى توجد الضرورة وتحريم نكاح الإماء إقتطاعا من حل الأكل والوطء فإنه قد ثبت في هذه أمور تقتضي عدمها إلا إذا عارضها ما هو أقوى في اقتصاء الوجود فإن الشارع لا يقصد حل العقوبات وحل الميتة ووطء الأمة بالنكاح حتى لو قال القائل أنا أقيم بمكان لا طعام فيه لتباح لي الميتة أو أخرج مالي وأتناول ما يثير شهوتي ليحل لي نكاح الإماء ونحو ذلك لم يبح له ذلك وكان عاصيا في هذه الأشياء ولو قال أنا أتزوج ليحل لي الوطء أو ذبح الشاة ليحل لي اللحم لكان قد فعل مباحا وإن كان كل من القسمين حراما إلا عند وجود ذلك السبب

ومن القسم الثاني أن بقول أسافر لاقصر وأفطر أو أعدم الماء لأتيمم ومن الأول أن يقول أريد الإسراع بالعمرة لاتحلل منها لتحل لي محظورات الإحرام لأنه لما جعل التحلل وسيلة إلى فعله صار مقصوده الوجود إذا أراده

ونكاح المحلل ليس من القسم الأول لأن السبب المبيح ليس هو منصوبا لحصول هذا الحل أعني حلها للأول بل لحصول ما ينافيه بل في نكاح الأول لها بعد الطلاق الثلاث مفسدة اقتضت الحرمة فإذا نكحها زوج ثان زالت المفسدة فيعود الحل والشارع لم يشرع نكاح الثاني لأجل أن تزول المفسدة فلا يكون قاصدا لزوالها فلا يكون حلها للأول مقصودا للشارع إذا أراده المطلق ولا إذا لم يرده لكن نكاح الثاني يقتضي زوال المفسدة

إذا تبين هذا فإذا نكحها ليحلها لم يقصد النكاح وإنما قصد أثر زوال النكاح فيكون هذا مقصوده وهذا المقصود لم يقصده الشارع ابتداء وإنما أثبته عند زوال النكاح الثاني كما تقرر فلا يكون النكاح مقصودا له بل الحل للمطلق هو مقصوده وليس هذا الحل مقصود الشارع بل هو تابع للنكاح الذي يتعقبه بطلاق فلا تنفق إرادة الشارع والمحلل على واحد من الأمرين أو نكاحه إنما أراده لأجل الحل للمطلق والشارع إنما أراد ثبوت الحل من أجل النكاح المتعقب بالطلاق فلا يكون واحد منهما مرادا لهما فيكون عبثا من جهة الشارع والعاقد لأن الإرادة التي لا تطابق مقصود الشارع غير معتبرة

وهكذا الخلع لحل اليمين فان الخلع إنما جعله الشارع موجبا للبينونة ليحصل مقصود المرأة من الافتداء من زوجها وإنما يكون ذلك مقصودها إذا قصدت أن تفارقه على وجه لا يكون له عليها سبيل فإذا حصل هذا ثم فعل المحلوف عليه وقع وليست هي زوجة فلا يحنث فكان هذا تبعا لحصور البينونة الذي هو تبع لقصد البينونة فإذا خالع امرأته ليفعل المحلوف عليه لم يكن قصدهما البيونة بل حل اليمين وحل اليمين إنما جاء تبعا لحصور البينونة لا مقصودا به فتصير البينونة لأجل حل اليمين وحل اليمين لأجل البينونة فلا يصير واحد منهما مقصودا فلا يشرع عقد ليس بمقصود في نفسه ولا مقصودا لما هو مقصود في نفسه من الشارع والعاقد جميعا لأنه عبث وتفاصيل هذا الكلام فيها طول لا يحتمله هذا الموضع

وأما بيان الوجه الثاني فإن المحلل إنما يقصد أن بنكحها ليطلقها وكذلك المختلعة إنما تختلع لأن تراجع العقد لا يقصد به ضده ونقيضه فإن الطلاق ليس مما يقصد في النكاح أبدا كما أن البيع لا يعقد للفسخ قط والهبة لا تعقد للرجوع فيها قط ولهذا قلنا أنه ليس للإنسان أن يحرم منفردا أو قارنا لقصد فسخ الحج والتمتع بالعمرة إلى الحج فإن الفسخ إعدام العقد ورفعه فإذا عقد العقد لأن يفسخه كان المقصود هو عدم العقد وإذا كان المقصود عدمه لم يقصد وجوده فلا يكون العقد مقصودا أصلا فيكون عبثا إذ العقود إنما تعقد لفوائدها وثمراتها والفسوخ رفع للثمرات والفوائد فلا يقصد أن يكون الشيء الواحد موجودا معدوما فعلم أنه إنما قصد التكلم بصورة العقد والفسخ ولم يقصد حكم العقد فلا يثبت حكمه

ولهذا جاء في الآثار تسميته مخادعا ومدلسا ولا يقال مقصوده ما يحصل بعد الفسخ من الحل للمطلق لأن الحل إنما يثبت إذا ثبت العقد ثم انفسخ ومقصوده العقد حصول موجبه ومقصود الفسخ زوال موجب العقد فإذا لم يقصد ذلك فلا عقد فلا فسخ فلا يترتب عليه تابعه وهذا بين لمن تأمله ولهذا يسمى مثل هذا متلاعبا مستهزأ بآيات الله سبحانه

وبهذا يظهر الجواب عن المقاصد الفرعية في النكاح مثل مصاهرة الأول وتربية الأخوات فإن تلك المقاصد لا تنافي النكاح بل تستدعي بقاءه ودوامه فهي مستلزمة لحصول موجب العقد وهكذا كل ما يذكر من هذا الباب فإن الشيء يفعل لأغلب فوائده ولا تزال فوائده بحيث لا تكون تلك المقاصد منليية لحقيقته بل مجامعة لها مستلزمة إياها أما أن تفعل لرفع حقيقته وتوجد لمجرد أن تعدم فهذا هو الباطل وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين شراء العبد ليعتقه أو الطعام ليتلفه فإن قصد العتق والإتلاف لا ينافي قصد البيع وفسخ له وإنما ينافي بقاء الملك ودوامه والأموال لا يقصد بملكها بقاؤها فإن الانتفاع بأعيانها ومنافعها لا يكون إلا بإزالة المالية عن الشيء المنتفع به فإنها تقصد للانتفاع بذاتها كالأكل أو ببذلها الديني أو الدنيوي كالبيع والعتق أو بمنفعتها كالسكن وجميع هذه الأشياء لا توجب فسخ العقد والإيضاح ولا ينتفع بها إلا مع بقاء الملك عليها فلهذا امتنع أن يقصد بملكها الانتفاع بتلف عينها أو يبذل العين وأن ذلك غير واقع في الشريعة وقصد الفسخ في العقد محال في النكاح والبيع لم يبق إلا قصد الانتفاع يع بقاء الملك ونكاح المحلل ليس كذلك على مالا يخفى

وقولهم: إن قصد تراجعهما قصد صالح لما فيه المنفعة

قلنا: هذه مناسبة شهد لها الشارع بالإلغاء والإهدار ومثل هذا القياس والتعليل هو الذي يحل الحرام ويحرم الحلال والمصالح والمناسبات التي جاءت الشريعة بما يخالفها إذا اعتبرت فهي مراغمة بينة للشارع مصدرها عدم ملاحظة حكمة التحريم وموردها عدم مقابلته بالرضى والتسليم وهي في الحقيقة لا تكون مصالح وإن ظنها مصالح ولا تكون مناسبة للحكم وإن اعتقدها معتقد مناسبة بل قد علم الله ورسوله ومن شاء من خلقه خلاف ما رآه هذا القاصر في نظره ولهذا كان الواجب على كل مؤمن طاعة الله ورسوله فيما ظهر له حسنة وما لم يظهر وتحكيم علم الله وحكمه على علمه وحكمه فإن خير الدنيا والآخرة وصلاح المعاش والمعاد في طاعة الله ورسوله ومن رأى أن الشارع الحكيم قد حرم هذه عليه حتى تنكح زوجا غيره وعلم أن النكاح الحسن الذي لا ريب في حله هو نكاح الرغبة علم قطعا أن الشارع ليس متشوقا إلى رد هذه إلى زوجها إلا أن يقضي الله سبحانه ذلك بقضاء ييسره ليس للخلق فيه صنع وقصد لذلك ولو كان هذا معنى مطلوبا لسنة الله سبحانه وندب إليه كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين وكما كره الاختلاع والطلاق الموجب لزوال الألفة وقد قال من لا ينطق عن الهوى ﷺ: [ ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا تركت من شيء يباعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ]

وقد علم الله سبحانه كثرة وقوع الطلقات الثلاث فهلا ندب إلى التحليل وحض عليه كما حض على الإصلاح بين الناس واصلاح ذات البين ولما زجر النبي ﷺ وخلفاؤه الراشدون عن ذلك ولعنوا فاعله من غير استثناء نوع ولا ندب إلى شيء من أنواعه - ثم لو كان مقصود الشارع تيسير عودها إلى الأول لم يحرمها عليه ولم يحوجه إلى هذا العناء فإن الدفع أسهل من الرفع - وأما ما يحصل من ذلك من الضرر فالمطلق هو الذي جلبه على نفسه { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }

وقد ذكر ذلك غير واحد من الصحابة منهم ابن عباس لما سألوا عن المطلق ثلاثا فقالوا لو اتقى الله لجعل له فرجا ومخرجا ولكنه لم يتق الله فلم يجعل له فرجا ومخرجا ومن فعل فعلا جر على نفسه به ضررا مثل قتل أو قذف أو غير ذلك مما يوجب عقوبة مطلقة أو عقوبة محدودة لم بمكن الاحتيال في إسقاط تلك العقوبة ولو فعل ما عليه فيه كفارة لم يكن إلى رفعها سبيل ولو ظاهر من امرأته وبه شبق وهو لا يجد رقبة لم يمكن وطئها حتى يصوم شهرين متتابعين إلى غير ذلك من الأمور فإنما يسعى الإنسان في مصلحة أخيه بما أحله الله وأباحه وأما مساعدته على أغراضه بما كرهه الله فهو إضرار به في دينه ودنياه وما هذه إلا بمنزلة أن يعين الرجل من يهوى امرأة محرمة على نيل غرضه والخير كله في لزوم التقوى واجتناب المحرمات ألا ترى أن أهل السبت استحلوا ما استحلوا لما قامت في نفوسهم هذه الشهوات والشبهات ولعل الزوجين إذا اتقيا الله سبحانه جمع بينهما على ما أذن الله به ورسوله كما هو الواقع لعامة المتقين

وهذا الكلام كله إنما هو في التحليل المكتوم وهو الذي حكى وقوع الشبهة فيه عن بعض المتقدمين فأما إذا ظهر ذلك وتواطآ عليه فالأمر فيه ظاهر كما سيأتي إن شاء الله تعالى

وبهذا الكلام ظهر أن هذا القسم من الحيل ملحق بالأول منها لكن الأول كل واحد من المحتال به والمحتال عليه محرم في نفسه لو فرض تجرده عن الآخر وهنا إنما صار المحتال به محرما لاقترانه بالآخر فإنه لو جرد النكاح مثلا عن هذا القصد لكان حلالا والمحتال عليه لوحصل السبب المبيح له مجردا عن الاحتيال لكان مباحا ثم هذا القسم فيه أنواع

أحدها: الاحتيال لحل ما هو يحرم في الحال كنكاح المحلل

الثاني: الاحتيال لحل ما انعقد سبب تحريمه وهو ما يحرم أن تجرد عن الحيلة كالاحتيال على حل اليمين فإن يمين الطلاق يوجب تحريم المرأة إذا حنث فإن المحتال يريد إزالة التحريم مع وجود السبب المحرم وهو الفعل المحلوف عليه وكذلك الحيل الربوية كلها فإن المحتال يريد مثلا أخذ مائة مؤجلة ببذل ثمانين حالة فيحتال ليزيل التحريم مع بقاء السبب المحرم وهو هذا المعنى

النوع الثالث: الاحتيال على إسقاط واجب قد وجب مثل أن يسافر في أثناء يوم في رمضان ليفطر ومثل الاحتيال على إزالة ملك مسلم من نكاح أو مال أو نحوهما

الرابع: الاحتيال لإسقاط ما أنعقد سبب وجوبه مثل الاحتيال لإسقاط الزكاة أو الشفعة أو الصوم في رمضان وفي بعضها يظهر أن المقصود خبيث مثل الاحتيال لإسقاط الزكاة أو صوم الشهر بعينه أوالشفعة لكن شبهة المرتكب أن هذا منع للوجوب لا رفع له وكلاهما في الحقيقة واحد وفي بعضها يظهر أن السبب المحتال به لا حقيقة له مثل الأفراد لابنه أو تمليكه ناويا للرجوع أو تواطؤ المتعاقدين على خلاف ما أظهراه كالتواطؤ على التحليل وفي بعضها يظهر كلا الأمربن وفي بعضها يخفى كلاهما كالتحليل وخلع اليمين

والقسم الخامس:

الاحتيال على أخذ بدل حقه أو عين حقه بخيانة مثل أن مالا قد أؤتمن عليه زاعما أنه بدل حقه أو أنه يستحق هذا القدر مع عدم ظهور سبب الاستحقاق أو إظهاره فهذا أيضا يلحق بما قبله وهو ما لا يلحق بالقسم الأول كمن يستعمل على عمل بجعل يفرض له ويكون جعل مثله أكثر من ذلك الجعل فيغل بعض مال مستعمله بناء على أنه يأخذ تمام حقه فان هذا حرام سواء كان المستعمل السلطان المستعمل على مال الفيء والخراج والصدقات وسائر أموال بيت المال أو الحاكم المستعمل على مال الصدقات وأموال اليتامى والأوقاف أو غيرهما كالموكلين والموصين فإنه كاذب في كونه يستحق زيادة على ما شرط عليه كما لم ظن البائع أو المكري أنه يستحق زيادة على المسمى في العقد بناء على أنه العوض المستحق وهو جائز أيضا لوكان الاستحقاق ثابتا

وأما ما يلحق بالقسم الثالث بأن يكون الإستحقاق ثابتا كرجل له عند رجل مال فجحده إياه وعجز عن خلاص حقه أو ظلمه السلطان مالا ونحو ذلك فهذا محتال على أخذ حقه لكن إذا احتال بأن يفعل بعض ما ائتمن عليه لم يجز لأن الغلول والخيانة حرام مطلقا وأن قصد به التوصل إلى حقه كما أن شهادة الزور والكذب حرام وأن قصد به التوصل إلى حقه ولهذا قال بشير بن الخصاصية قلت: يا رسول الله إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه فقال: [ أد الأمانة إلى من إئتمنك ولا تخن من خانك ] بخلاف ما ليس خيانة لظهور الاستحقاق فيه والتبذل والتبسط في مال من هو عليه كأخذ الزوجة نفقتها من مال زوجها إذا منعها فإنها متمكنة من إعلان هذا الأخذ من غير ضرر ومثل هذا لا يكون غلولا ولا خيانة وهذه المسألة فيها خلاف مشهور بخلاف التي قبلها فإنها محل وفاق وليس هذا موضع استيفاء هذه المسائل ولا هي أيضا من الحيل المحضة بل هي بمسائل الزرائع أشبه لكن لأجل ما فيها من التحيل ذكرناها لتمام أقسام الحيل والمقصود الأكبر أن يميز الفقيه بين هذه الأقسام ليعرف كل مسألة من أي قسم هي فيلحقها بنظيرها فإن الكلام في أمهات المسائل من هذه الحيل مستوفى في غير هذا الموضع ولم يستوف الكلام إلا في مسألة التحليل

وقد قدمنا أن هذه الأقسام الخمسة محدثة في الإسلام مبتدعة ونبهنا هنا على سبب التحريم فيها والمقصود التمييز بينها وبين ما قد شبهت به حتى جعلت وإياه جنسا واحدا وقياس من قاس بعض هذه الأقسام وهو الثالث وربما قيس الثاني أيضا عليه كما قيس عليه الثاني من الخامس فإن القياس الذي يوجد فيه الوصف المشترك من غير نظر إلى ما بين الموضعين من الفرق المؤئر هو قياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا نظرا إلى أن البائع يتناول بماله ليربح وكذلك المربي ولقد سرى هذا المعنى في نفوس طوائف حتى بلغني عن بعض المرموقين أنه كان يقول لا أدري لما حرم الربا ويرى أن القياس تحليله وإنما يعتقد التحريم اتباعا فقط وهذ ! المعنى الذي قام في نفس هذا هو الذي قام في نفوس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا فليعز مثل هذا نفسه عن حقيقة الإيمان والنظر في الدين وأن لم يكن عن هذه عزاء المصببة وليتأمل في قوله تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا }

فلينظر هل أصابهم هذا التخبط الذي هو كمس الشيطان بمجرد أكلهم السحت أم بقبولهم الإثم مع ذلك وهو قولهم إنما البيع مثل الربا فمن كان هذا القياس عنده متوجها وإنما تركه سمعا وطوعا ألم يكن هذا دليلا على فساد رأيه ونقص عقله وبعده عن فقه الدين

نعم من قال هذا قال القياس أن لا تصلح الإجارة لأنها بيع معدوم ولم يهتد للفرق بين بيع الأعيان التي توجد وبيع المنافع التي لا يتأتى وجودها مجتمعة ولا يمكن العقد عليها إلا معدومة ولو عارضه من قال القياس صحة بيع المعدوم قياسا على الإجارة لم يكن كلاميهما فرق وكذلك يرى أن القياس أن لا تصلح الحوالة لأنها بيع دين بدين وأن لا يصح القرض في الربويات لأنها مبادلة عين ربوية بدين من جنسها ثم إن كان مثل هذا القياس إذا عارضه نص ظاهر أمكن تركه عند معتقد صحته لكن إذا لم ير نصا يعارضه فإنه يجر إلى أقوال عجيبة تخالف سنة لم تبلغه أو لم يتفطن لمخالفتها مثل قياس من قاس المعاملة بجزء من النماء على الإجارة مع الفروق المؤثرة ومخالفة السنة وقياس من قاس القسمة على البيع وجعلها نوعا منه حتى أثبت لها خصائص البيع لما فيها من ثبوت المعاوضة والتزم أن لا يقسم الثمار خرصا كما لا تباع خرصا فخالف سنة رسول الله ﷺ في مقاسمة أهل خيبر الثمار التي كانت بينه وبينهم على النخل خرصا وهذا باب واسع وما نحن فيه منه لكنه أقبح وأبين من أن يخفى على فقيه كما خفي الأول على بعض الفقهاء

والذي قيست عليه الحيل المحرمة وليست مثله نوعان:

أحدهما: المعاريض وهي أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحا ويتوهم غيره أنه قصد به معنى آخر ويكون سبب ذلك التوهم كون اللفظ متشركا بين حقيقتين لغويتين أوعرفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع أحدهما أو عرفية مع شرعية فيعني أحد معنيته ويتوهم السامع أنه إنما عنى الآخر لكون دلالة الحال تقتضيه أو لكونه لم يعرف إلا ذلك المعنى أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا فيه معنى فيعني به معنى يحتمله باطنا فيه بأن ينوي مجاز اللفظ دون حقيقته أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته بعرف خاص له أوغفلة منه أوجهل منه أوغير ذلك من الأسباب مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته فهذا إذا كان المقصود به دفع ضرر غير مستحق جائز كقول الخليل ﷺ: هذه أختي وقول النبي ﷺ: [ نحن من ماء ] وقول الصديق رجل يهديني السبيل وأن النبي ﷺ كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها وكان يقول: [ الحرب خدعة ] وكإنشاد عبد الله بن رواحة:

( شهدت بأن وعد الله حق... وأن النارمثوى الكافرينا )

( وأن العرش فوق الماء طاف... وفوق العرش رب العالمينا )

لما استقرأته امرأته القرآن حيث اتهمته بإصابة جاريته - وقد يكون واجبا إذا كان دفع ذلك الضرر واجبا ولا يندفع إلا بذلك مثل التعريض عن دم معصوم وغير ذلك وتعريض أبي بكر الصديق رضي الله عنه قد يكون من هذا السبيل وهذا الضرب نوع من الحيل في الخطاب لكنه يفارق الحيل المحرمة من الوجه المحتال عليه والوجه المحتال به أما المحتال عليه هنا فهو دفع ضرر غير ضرر مستحق فإن الجبار كان يريد أخذ امرأة إبراهيم ﷺ لو علم أنها امرأته وهذا معصية عظيمة وهو من أعظم الضرر وكذلك بقاء الكفار غالبين على الأرض أو غلبتهم للمسلمين من أعظم الفساد فلو علم أولئك المستجيرون بالنبي ﷺ لترتب على علمهم شر طويل وكذلك عامة المعاريض التي يجوز الاحتجاج بها فإن عامتها إنما جاءت حذرا من تولد شر عظيم على الأخبار - فاما إن قصد بها كتمان ما يجب من شهادة أو إقرار أوعلم أو صفة مبيع أو منكوحة أو مستأجر أو نحو ذلك فإنها حرام بنصوص الكتاب والسنة كما سيأتي إن شاء الله التنبيه على بعضه إذا ذكرت الأحاديث الموجبة للنصيحة والبيان في البيع والمحرمة للغش والخلابة والكتمان وإلى هذا أشار الإمام أحمد فيما رواه عنه مثنى الأنباري قال: قلت لأبي عبد الله أحمد كيف الحديث الذي جاء في المعاريض فقال المعاريض لا تكون في الشراء والبيع تكون في الرجل يصلح بين الناس أو نحو هذا

والضابط أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام لأنه كتمان وتدليس ويدخل في هذا الإقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه والشهادة على الإنسان والعقود بأسرها ووصف العقود عليه والفتيا والتحديث والقضاء إلى غير ذلك كل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب إن اضطر إلى الخطاب وأمكن التعريض فيه كالتعريض لسائل عن معصوم يريد قتله - وإن كان بيانه جائزا أو كتمانه جائزا وكانت المصلحة الدينية في كتمانه كالوجه الذي يراد عزوه فالتعريض أيضا مستحب هنا وإن كانت المصلحة الدنيوية في كتمانه فإن كان عليه ضرر في الإظهار والتقدير أنه مظلوم بذلك الضرر جاز له التعريض في اليمين وغيرها وإن كان له غرض مباح في الكتمان ولا ضرر عليه في الإظهار فقيل له التعريض أيضا وقيل ليس له ذلك وقيل له التعريض في الكلام دون اليمين وقد نص عليه أحمد في رواية أبي نصر بن أبي عصمة أظنه عن الفضل بن زياد فإن أبا نصر هذا له مسائل معروفة رواها عنه الفضل بن زياد عن أحمد قال: سألت أحمد عن الرجل يعارض في كلامه يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به قال إذا لم يكمن يمين فلا بأس في المعاريض مندوحة عن الكذب وهذا إذا احتاج إلى الخطاب فأما الابتداء بذلك فهو أشد ومن رخص في الجواب قد لا يرخص في ابتداء الخطاب كما دل عليه حديث أم كلثوم أنه لم يرخص فيما يقول الناس إلا في ثلاث

وفي الجملة فالتعريض مضمونه أنه قال قولا فهم منه السامع خلاف ما عناه القائل إما لتقصير السامع في معرفة دلالة اللفظ أو لتبعيد المتكلم وجه البيان وهذا غايته أنه سبب في تجهيل المستمع باعتقاد غير مطابق وتجهيل المستمع بالشيء إذا كان مصلحة له كان عمل خير معه فإن من كان علمه بالشيء يحمله على أن يعصي الله سبحانه كان أن لا يعلمه خيرا له ولا يضره مع ذلك أن يتوهمه بخلاف ما هو إذا لم يكن ذلك أمر يطلب معرفته وان لم يكن مصلحة له بل مصلحة للقائل كان أيضا جائزا لأن علم السامع إذا فوت مصلحة على القائل كان له أن يسعى في عدم علمه وإن أفضى إلى اعتقاد غير مطابق في شيء سواء عرفه أو لم يعرفه فالمقصود بالمعاريض فعل واجب أو مستحب أو مباح أبيح الشارع السعي في حصوله ونصب سببا يفضي إليه أصلا وقصدا فإن الضرر قد يشرع للإنسان أن يقصد دفعه ويتسبب في ذلك ولم يتضمن الشرع النهي عن دفع الضرر فلا يقاس بهذا إذا كان المحتال عليه سقوط ما نص الشارع وجوبه وتوجه وجوبه كالزكاة والشفعة بعد انعقاد سببهما أو حل ما قصد الشارع تحريمه وتوجه تحريمه من الزنا والمطلقة ونحو ذلك

ألا ترى أن مصلحة الوجوب هنا تفويت ومفسدة التحريم باقية والمعنى الذي لأجله أوجب الشارع موجود مع فوات الوجوب والمعنى الذي لأجله حرم موجود مع فوات التحريم إذا قصد الاحتيال على ذلك وهناك رفع الضرر معنى قصد الشارع حصوله للعبد وفتح له بابه فهذا من جهة المحتال عليه وأما من جهة المحتال به فإن المعترض إنما تعلم بحق ونطق بصدق فيما بينه الله سبحانه لا سيما إن لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في معرفة دلالة اللفظ ومعاريض النبي ﷺ ومزاحه عامته كان من هذا النوع مثل قوله: [ نحن من ماء ] وقوله: [ إنا حاملوك على ولد الناقة ] [ وزوجك الذي في عينه بياض ] [ ولا يدخل الجنة عجوز ]

وأكثر معاريض السلف كانت من هذا - ومن هذا الباب التدليس في الإسناد لكن هذا كان مكروها لتعلقه بأمر الدين وكون بيان العلم واجبا بخلاف ما قصد به دفع ظالم أو نحو ذلك - ولم يكن في معاريضه ﷺ أن ينوي بالعام الخاص وبالحقيقة المجاز وإن كان هذا إذا عرض به المعرض لم يخرج عن حدود الكلام فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز والمفرد والمشترك والعام والخاص والمطلق والمقيد وغير ذلك وتختلف دلاليته تارة بحسب اللفط المفرد وتارة بحسب التأليف وكثير من وجوه اختلافه قد لا يبين بنفس اللفظ بل يراجع فيه إلى قصد المتكلم وقد يظهر قصده بدلالة الحال قد لا يظهر وإذا كان المعرض إنما يقصد باللفظ ما جعل اللفظ دلالة عليه ومبينا له في الجملة لم يشتبه هذا إن يقصد بالعقد ما لم يحمل العقد مقتضيا له أصلا فإن لفظ أنكحت وزوجت لم يضعه الشارع بنكاح المحلل قط بدليل أنه لو أظهره لم يصح ولا يلزم من صلاح اللفظ له إخبار صلاحه له إنشاء فإنه لو قال في المعاريض تزوجت وعنى نكاحا فاسدا جاز كما لم لو يبين ذلك ولو قال في العقد تزوجت نكاحا فاسدا لم يجز فكذلك إذا نواه

وكذلك في الربا فإن القرض لم يشرعه الشارع إلا لمن قصد إن يسترجع مثل قرضه فقط ولم يبحه لمن أراد الاستفضال قط بدليل أنه لو صرح بذلك لم يجز فإذا أقرضه ألفا ليبيعه ما يساوي مائة بألف أخرى أو ليحابيه المقترض في بيع أو إجارة أو مساقاة أو ليعيره أو يهبه فقد قصد بالعقد ما لم يجعل العقد مقتضيا له قط وإذا كان المعرض قصد بالقول ما يحتمله القول أو يقتضيه والمحتال قصد بالقول ما لا يحتمله القول ولا يقتضيه فكيف يقاس أحدهما بالآخر وإنما نظير المحتال المنافق فإنه قصد بكلمة الإسلام ما لا يحتمله اللفظ - فالحيلة كذب في الإنشاء كالكذب في الأخبار والتعريض ليس كذبا من جهة العناية وحسبك أن المعرض قصد معنى حقا بنيته بلفظ يحتمله في الوضع الذي به التخاطب والمحتال قصد معنى محرما بلفظ لا يحتمله في الوضع الذى به التعاقد

فإذا تبين الفرق من جهة القول للعرض به والمعنى الذي كان التعريض لأجله لم يصح إلحاق الحيل به

وهنا فرق ثالث وهو أن يكون المعرض إما أن يكون أبطل بالتعريض حقا لله أو لآدمي فأما من جهة الله سبحانه فلم يبطل حقا له لأنه إذا ناجى ربه سبحانه بكلام وعنى به ما يحتمله من المعاني الحسية لم يكن ملوما في ذلك ولو كان كثير من الناس يفهمون منه خلاف ذلك لأن الله عالم بالسرائر واللفظ مستعمل فيما هو موضوع له وأما من جهة الآدمي فلا يجوز التعريض إلا إذا لم يتضمن إسقاط حق مسلم فإن تضمن إسقاط حقه حرم بالإجماع

فثبت أن التعريض المباح ليس من المخادعة لله سبحانه في شيء وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه جزاء له على ذلك - ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز مخادعة المحق فما كان من التعريض مخالفا لظاهر اللفظ في نفسه كان قبيحا إلا عند الحاجة وما لم يكن كذلك كان جائزا إلا عند تضمن مفسدة والذي يدخل في الحيل إنما هو الأول وقد ظهر الفرق من جهة أنه قصد باللفظ ما يحتمله اللفظ أيضا وإن هذا القصد لدفع شر والمحتال قصد باللفظ ما لا يحتمله وقصد به حصول شر

واعلم أن المعاريض كما تكون بالقول فقد تكون بالفعل وقد تكون بهما - مثال ذلك: أن يظهر المحارب أنه يريد وجها من الوجوه ويسافر إلى تلك الناحية ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكر عليه أو يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه وهذا من معنى قوله: [ الحرب خدعة ] وكان النبي ﷺ إذا أراد غزوة ورى بغيرها

ومن هذا الباب مما قد يظن أنه من جنس الحيل التي بينا تحريمها وليس من جنسها قصة يوسف عليه السلام حين كاد الله له في أخذ أخيه كما نص ذلك سبحانه في كتابه فإن فيها ضروبا من الحيل

أحدها: قوله لفتيته: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم وقد ذكروا في ذلك معاني منها أنه تخوف أنه لا يكون عندهم ورق يرجعون بها ومنها أنه خشي أن يضر أخذ الثمن بهم ومنها أنه رأى لوما إذا أخذ الثمن منهم ومنها أنه أراهم كرمه في رد البضاعة ليكون ادعى لهم للعود وقد قيل أنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى الرجعة ليؤدوها إليه فهذا المحتال به عمل صالح والمقصود رجوعهم ومجيء أخيه وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله وهو مقصود صالح وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر فيها أيضا منفعة له ولهم ولأبيهم وتمام لما أراده الله بهم من الخير في هذه البلاء

الضرب الثاني: إنه في المرة الثانية لما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه وهذا القدر يتضمن إيهام أن أخاه سارق وقد ذكروا أن هذا كان بمواطأة من أخيه وبرضى منه بذلك والحق له في ذلك وقد دل على ذلك قوله: { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون }

فإن هذا يدل على أنه عرف أخاه نفسه وقد قيل أنه لم يصرح له أنه يوسف وإنما أراد أنا مكان أخيك المفقود ومن قال هذا قال إنه وضع السقاية في رحل أخيه والأخ لا يشعر وهذا خلاف المفهوم من القرآن وخلاف ما عليه الأكثرون وفيه ترويع لمن لم يستوجب الترويع وأما على الأول فقال كعب الأحبار لما قال له إني أنا أخوك قال ابن يامين فأنا لا أفارقك قال يوسف عليه السلام فقد علمت اغتمام والدي بي وإذا حبستك إزداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا تحتمل قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك فإفي لا أفارقك قال فإني أدس صاعي هذا في رحلك ثم أنادي عليك بالسرقة ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك قال فافعل فذلك قوله: { فلما جهزهم بجهازهم } الآية فهذا التصرف في ملك الغير بما فيه أذى له في الظاهر إنما كان بإذن المالك

ومثل هذا النوع ما ذكر أهل السير عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما هم قومه بالردة بعد رسول الله كفهم عن ذلك وأمرهم بالتربض وكان يأمر ابنه إذا رعى إبل الصدقة أن يبعد فإذا جاء خاصمه بين يدي قومه وهم يضربه فيقومون فيشفعون إليه فيه ويأمره كل ليلة أن يزداد بعدا فلما تكرر ذلك أمره ذات ليلة أن يبعد بها وجعل ينتظره بعد ما دخل الليل وهو يلوم قومه على شفاعتهم فيه ومنعهم إياه من عقوبته وهم يعتذرون عن ابنه ولا ينكرون إبطاءه حتى إذا أنهار الليل ركب في طلبه فلحقه وأستاق الإبل حتى قدم بها على أبي بكر رضي الله عنه فكانت صدقات طيء مما اسئعان بها أبو بكر في قتال أهل الردة وكذلك في الحديث الصحيح أن عديا قال لعمر رضي الله عنهما في بعض الامراء أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال بلى أعرفك أسلمت إذا كفروا ووفيت إذا غدروا وأقبلت إذا أدبروا وعرفت إذا أنكروا

ومثل هذا ما أذن النبي ﷺ للوفد الذين أرادوا قتل كعب بن الأشرف أن يقولوا وأذن للحجاج بن علاط عام خيبر أن يقول وهذا كله الأمر المحتال به مباح لكون الذي قد أوذي قد أذن فيه والأمر المحتال عليه طاعة لله أو أمر مباح

الضرب الثالث: إنه أذن مؤذن: { أيتها العير إنكم لسارقون * قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون * قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } إلى قوله: { فما جزاؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين * فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين:

أحدهما: أنه من باب المعاريض وأن يوسف نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه حيث غيبوه عنه بالحيلة التي احتالوها عليه وخانوه فيه والخائن يسمى سارقا وهو من الكلام المشهور حتى أن الخونة من ذوي الديوان يسمون لصوصا

الثاني: أن المنادي هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف عليه السلام قال القاضي أبو يعلى وغيره أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصاع في رحل أخيه ثم قال بعض الموكلين بالصيعان - وقد فقدوه ولم يدروا من أخذه منهم - أيتها العير إنكم لسارقون على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف بذلك فلم يكن قول هذا القائل كذبا كان في حقه وغالب ظنه ما هوعنده ولعل يوسف قد قال للمنادي هؤلاء قد سرقوا وعنى بسرقته من أبيه والمنادي فهم سرقة الصواع وهو صادق في قوله نفقد صواع الملك فإن يوسف لعله لم يطلع على أن الصواع في رحالهم ليتم الأمر فنادى إنكم لسارقون بناء على ما أخبر به يوسف وكذلك لم يقل سرقتم صاع الملك وإنما قال نفقده لأنه لم يكن يعلم أنهم سرقوه أو أنه أطلع على ما صنعه يوسف فاحترز في قوله فقال إنكم لسارقون ولم يذكرالمفعول ليصيح أن يضمر سرقتهم يوسف ثم قال نفقد صواع الملك وهو صادق في ذلك وكذلك احترز يوسف في قوله: { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } ولم يقل إلا من سرق

وعلى التقدير فالكلام من أحسن المعاريض وقد قال نصر بن حاجب سئل سفيان بن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله ويحرف القول فيه ليرضيه أيأثم في ذلك؟ قال ألم تسمع إلى قوله ليس بكاذب من أصلح بين الناس فكذب فيه فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم خير من أن يصلح بين الناس بعضهم في بعض وذلك أنه أراد به مرضاة الله وكراهة أذى المؤمن ويندم على ما كان منه ويدفع شره عن نفسه ولا يريد بالكذب إتخاذ المنزلة عندهم ولا لطمع شيء يصيب منهم فإنه لم يرخص في ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم قال حذيفة إني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن أتقدم على ما هو أعظم منه وكره أيضا أن يتغير قلبه عليه قال سفيان وقال الملكان: { خصمان بغى بعضنا على بعض } أراد معنى شيء ولم يكونا خصمين فلم يصيرا بذلك كاذبين وقال إبراهيم: { إني سقيم } وقال: { قال بل فعله كبيرهم هذا } وقال يوسف: { إنكم لسارقون } أراد معنى أمرهم فبين سفيان أن هذا كله من المعاريض المباحة من تسميته كذا وإن لم يكن في الحقيقة كذبا كما تقدم التنبيه على ذلك

وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه جائز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضاء من عليه الحق

وهذه الحجة ضعيفة فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال قد اقتص منه وإنما سائر الأخوة هم الذين قد فعلوا ذلك نعم كان تخلفه عنده يؤذيهم من أجل تأذي أبيهم والميثاق الذي أخذه عليهم وقد استثنوا في الميثاق إلا أن يحاط بكم وقد أحيط بهم ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الإنتقام من أخوته فإنه كان أكرم من هذا وكان في ضمن هذا من الإيذاء لأبيه أعظم مما فيه من إيذاء أخوته وإنما هو أمر أمره الله به لببلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف عليهما السلام كمال الجزاء وتبلغ حكمة الله التي قضاها لهم نهايتها ولو كان يوسف قصد الإقتصاص منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به

===========

22


وإنما موضع الخلاف هل يجوز له أن يسرق أو أن يخون سرقة أو خيانة مثلما سرقه إياه أو خونه إياه ولم تكن قصة يوسف من هذا الضرب نعم لو كان يوسف أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة مع أنه لا دلالة له في ذلك على هذا التقدير أيضا فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق أن يحبس رجل بريء ويعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جرم وقد بينا ضعف هذا القول فيما مضى وإن كان حقا فيوشك أن يكون الله سبحانه أمره باعتقاله وكان هذا ابتلاء من الله لهذا المعتقل كأمر إبراهيم بذبح ابنه وتكون حكمته في حق المبتلي امتحانه وابتلاؤه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه ويكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب في احتباس يوسف عنه

وهذا الذي ذكرناه بين يعلم من سياق الكلام ومن حال يوسف وقد دل عليه قوله سبحانه: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم } فإن الكيد عند أهل اللغة نحو من وقد نسبه الله سبحانه إلى نفسه كما نسبه إلى نفسه في قوله: { إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا } وكما دل عليه قوله سبحانه: { أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون } ومثل ذلك قوله سبحانه: { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } وقوله سبحانه في قصة صالح: { وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله } إلى قوله: { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } الآية

ثم إن بعض الناس يقول إنما سمى الله سبحانه فعله بالماكرين والكائدين والمستهزئين مكرا وكيدا واستهزاء مع أنه حسن وفعلهم قبيح لمشاكلته له في الصورة ووقوعه جزاء له كما في قوله: { وجزاء سيئة سيئة مثلها } سمى الثاني سيئة وهو بحق لمقابلته للسيئة وقال: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } سمي الأول عقوبة وإن لم يكن عن الأولين عقوبة لمقابلته للفعل الثاني وجعلوا هذا نوعا من المجاز - وقال آخرون وهو أصوب بل تسميته مكرا وكيدا واستهزاء وسيئة وعقوبة على بابه فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي وكذلك الكيد فإن كان ذلك الغير يستحق ذلك الشر كان مكرا حسنا والا كان مكرا سيئا بل إن كان ذلك الشر الواصل حقا لمظلوم كان ذلك المكر واجبا في الشرع على الخلق وواجبا من الله بحكم الوعد إن لم يعف المستحق والله سبحانه إنما يمكر ويستهزىء بمن يستوجب ذلك فيأخذه من حيث لا يحتسب كما فعل ذلك الظالم بالمؤمنين والسيئة ما تسوء صاحبها وإن كان مستحقا لها والعقوبة ما عوقب به المرء من شر

وإذا تبين ذلك: فيوسف الصديق عليه السلام كان قد كيد غير مرة

أولها: أن إخوته كادوا له كيدا حيث احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه كما دل عليه قوله: { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا }

ثم أن امرأة العزيز كادت له بأن أظهرت أنه راودها عن نفسها وكانت هي المراودة كما دل عليه قوله: { فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم }

ثم كاد له النسوة حتى استجار بالله في قوله: { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم } حتى أنه عليه السلام قال لما جاءه رسول الملك يستخرجه من السجن: قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم

فكاد الله ليوسف بأن جمع بينه وبين أخيه وأخرجه من أيدي أخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره

وكيد الله سبحانه وتعالى لايخرج عن نوعين:

أحدهما: هو الأغلب أن يفعل سبحانه فعلا خارجا عن قدرة العبد الذي كاد له فيكون الفعل قدرا محضا ليس هو من باب الشرع كما كاد الذين كفروا بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات وكذلك كانت قصة يوسف فإن يوسف أكثر ما قدر أن يفعل أن ألقى الصواع في رحل أخيه وأذن المؤذن بسرقتهم فلما أنكروا قال فما جزاؤه إن كنتم كاذبين أي جزاء السارق قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه أي جزاؤه نفس نفس السارق يستعبد المسروق أما مطلقا أو إلى مدة وهذه كانت شريعة آل يعقوب وقوله من وجد في رحله فيه وجهان:

أحدهما: أنه هو خبر المبتدأ وقوله بعد ذلك فهو جزاؤه جملة ثانية مؤكدة للأولى والتقدير في جزاء هذا الفعل نفس من وجد في رحله فإن ذلك هو الجزاء في ديننا كذلك يجزي الظالمين

والثاني: أن قوله من وجد في رحله فهو جزاؤه جملة شرطية هي خبر المبتدأ والتقدير جزاء السارق هو أنه من وجد الصاع في رحله كان هو الجزاء كما تقول جزاء السرقة ممن سرق قطع يده - وإنما احتمل الوجهين لأن الجزاء قد يراد به نفس الحكم باستحقاق العقوبة وقد يراد به نفس العقوبة وقد يراد به نفس الألم الواصل إلى المعاقب فكلما تكلموا بهذا الكلام كان إلهام الله لهم هذا كيدا ليوسف خارجا عن قدرته إذ قد كان يمكنهم أن يقولوا الأجزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب حكم السارق وقد كان يوسف عليه السلام عادلا لا يمكنه أن يأخذهم بغير حجة أو يقولون جزاؤه أن يفعل به ما تفعلون بالسراق في دينكم وقد كان من دين ملك مصر فيما ذكره المفسرون أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرنين ولو قالوا ذلك لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزمه غيرهم ولهذا قال سبحانه: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } أي ما كان يمكنه أخذه في دين ملك مصر لأن دينه لم يكن فيه طريق إلى أخذه - إلا أن يشاء الله - استثناء منقطع أي لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخرأو يكون متصلا بأن يهيىء الله سبحانه سببا آخر بطريق يؤخذ به في دين الملك من الأسباب التي كان الرجل في دين الملك يعتقل بها

فإذا كان المراد بالكيد فعلا من الله سبحانه بأن ييسر لعبده المؤمن المظلوم المتوكل عليه أمورا يحصل بها مقصوده بالإنتقام من الظالم وغير ذلك فإن هذا خارج عن الحيل الفقهية فإنا إنما تكلمنا في حيل يفعلها العيد لا فيما يفعله الله سبحانه بل في قصة يوسف تنبيه على أن من كاد كيدا محرما فإن الله يكيده وهذه سنة الله في مرتكب الحيل المحرمة فإنه لا يبارك له في هذه الحيل كما هو الواقع وفيها تنبيه على أن المؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة وعلى هذا فقوله بعد ذلك: { نرفع درجات من نشاء } قالوا بالعلم وفيه تنبيه على أن الخفي الذي يتوصل به المقاصد الحسنة مما يرفع الله به الدرجات وفيه دليل على أن يوسف كان منه فعل فيكون بهذا العلم هو ما اهتدى به يوسف إلى أمر توكل في إتمامه على الله فإن اهتداءه لإلقاء الصاع واسترجاعهم نوع فعل منه لكن ليس هذا وحده هو الحيلة والحيل الفقهية بها وحدها يتم عرض المحتال لو كانت حلالا

النوع الثاني: من كيده لعبده هو أن يلهمه سبحانه أمرا مباحا أو مستحبا أو واجبا يوصله به إلى المقصود الحسن فيكون هذا على إلهامه ليوسف أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا وقد دل على ذلك قوله: { نرفع درجات من نشاء } فإن فيه تنببها على أن العلم الدقيق الموصل إلى المقصود الشرعي صفة مدح كما أن العلم الذي يخصم به المبطل صفة مدح حيث قال في قصة إبراهيم: { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء }

وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع لكن لا يجوز أن يراد به الكيد الذي تستحل به المحرمات أو تسقط به الواجبات فإن هذا كيد لله والله هو المكيد في مثل هذا فمحال أن يشرع الله أن يكاد دينه وأيضا فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعي ومحال أن يشرع أنه لعبد أن يقصد بفعله مالم يشرع الله ذلك الفعل له وأيضا فإن الأمر المشروع هو عام لا يخص به شخص دون شخص فإن الشيء إذا كان مباحا لشخص كان مباحا لكل من كان على مثل حاله - فإذن من احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص بتلك الحيلة لا يفهمها ولايعلمها لأن الفقهاء كلهم يشركونه في فهمها والناس كلهم يساوونه في عملها وإنما فضيلة الفقيه إذا حدثت حادثة أن يتفطن لاندراج هذه الحادثة تحت الحكم العام الذي يعلمه هو وغيره أو يمكنهم معرفته بأدلته العامة نصا أيضا واستنباطا فأما الحكم فمتقرر قبل تلك الحادثة فإذن احتياج الناس إلى الحيل لايجدد أحكاما شرعية لم تكن مشروعه قبل ذلك بل الأحكام مستقرة وجدت تلك الحاجة أو لم توجد فإن كان الشارع قد جعل الحكم يتغير بتغير تلك الحاجة كان حكما عاما وجدت حاجة ذلك الشخص المعين أو لم توجد وإن لم يكن جعل لتلك الحاجة تأثيرا في الحكم فالحكم واحد سواء وجدت تلك الحاجة مطلقا أو لم توجد والله سبحانه إنما كاد ليوسف كيدا جزاء منه على صبره وإحسانه وذكر في معرض المنة عليه فلو لم يكن ليوسف عليه السلام اختصاص بذلك الكيد لم يكن في مجرد عمل الإنسان أمر مباح له ولغيره منة عليه في مثل هذا المقام فعلم أن المنة كانت عليه في أن ألهم العمل بما كان مباحا قبل ذلك فإنه قد يلهم العبد ما لا يلهمه غيره ولهذا قال بعض المفسرين في قوله تعالى { كدنا } صنعنا وبعضهم قال ألهمنا يوسف

ومن احتال بعمل هو مباح في نفسه على الوجه الذي أباحه الشارع فهذا جائز بالاتفاق وإنما الكلام في أنه هل يباح له ما كان محرما على الإطلاق مثل الخيانة والغلول أو يباح له فعل المباح على غير الوجه المشروع مثل الحيل الربوية؟

يوضح ذلك: أن نفس الأحكام مثل إباحة الفعل لا يجوز أن تسمى كيدا وإنما الكيد فعل من الله ابتداء أو فعل من العبد يكون العبد به فاعلا وعلى التقديرين فليس هذا من الحيل الشرعية وهذا الذي ذكرناه في معنى الكيد إنما انضم إليه معرفة الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام والأفعال التي فعلها الله له تيقن اللبيب أن الكيد لم يكن خارجا عن إلهام فعل كان مباحا أوفعل من الله تم به ذلك الفعل وإن حاجة يوسف لم تبح له فعل شيء كان حراما على الإطلاق في الجملة قيل ذلك وهذا هو المقصود والله أعلم

النوع الثاني: مما ظن المحتالون أنه من الحيل سائر العقود الصحيحة فقالوا: البيع احتيال على حصول الملك والنكاح احتيال على حصول حل البضع وكذلك سائر ما يتصرف فيه الخلق وهو احتيال على طلب مصالحهم التي أباحها الله لهم وقال قائلهم: الحيلة هي الطريق التي يتوصل بها الإنسان إلى إسقاط المأثم عن نفسه وقال آخر هي ما يمنع الإنسان من ترك أو فعل لولاها كان يلزمه من غير إثم ثم قالوا: وهذا شأن سائر التصرفات المباحة وقالوا: قد قال رسول الله ﷺ لعامله على خيبر [ بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ] فلما كان مقصوده إبتياع الجيب بجمع أمره أن يبيع الجمع ثم يبتاع بثمنه جنيبا فعقد العقد الأول ليتوسل به للعقد الثاني قالوا: وهذه حيلة تضمنت حصول المقصود بعد عقدين فهي أوكد مما تضمنت حصوله بعد عقد واحد وأشبهت العينة فإنه قصد أن يعطيه دراهم فلم يمكن بعقد واحد فعقد عقدين بأن باع السلعة ثم ابتاعها والحيل المعروفة لا تتم غالبا إلا بأن ينضم إلى العقد الآخر شيء آخر من عقد آخر أو فسخ أو نحو ذلك

والجواب عن هذا: إن تحصيل المقاصد بالطرق المشروعة إليها ليس من جنس الحيل سواء سمى حيلة أولم يسم فليس النزع في مجرد اللفظ بل الفرق بينهما ثابت من جهة الوسيلة والمقصود الذين هما المحتال به والمحتال عليه وذلك أن البيع مقصوده الذي شرع البيع له أن يحصل ملك الثمن للبائع ويحصل ملك المبيع للمشتري فيكون كل منهما ملكا لمن انتقل إليه كسائر أملاكه وذلك في الأمر العام إنما يكون إذا قصد المشتري نفس السلعة للانتفاع بعينها وانفاقها أو التجارة فيها فإن قصد ثمنها الذي هو الدراهم أو الدنانير ولم يكن مقصوده إلا أنه قد احتاج إلى دراهم فابتاع سلعة نسيئة ليبيعها ويستنفق ثمنها فهو التورق وإنما يكون إذا قصد البائع نفس الثمن لينتفع به بما جعلت الأثمان له من إنفاق وئجارة ونحوهما فإذا كان مقصود الرجل نفع الملك المباح بالبيع وما هو من توابعه وحصله بالبيع فقد قصد بالسبب ما شرعه الله سبحانه له وأتى بالسبب حقيقة وسواء كان مقصوده يحصل بعقد أو عقود مثل أن يكون بيده سلعة وهو يريد أن يبتاع سلعة أخرى لاتباع بسلعته لمانع شرعي أو عرفي أو غير ذلك فيبيع سلعته ليملك ثمنها والبيع لملك الثمن مقصود مشروع ثم يبتاع بالثمن سلعة أخرى وابتياع السلع بالأثمان مقصود مشروع

وهذه قصة بلال رضي الله عنه بخيبر سواء فإنه إذا باع الجمع بالدراهم فقد أراد بالبيع ملك الثمن وهذا مشروع مقصود ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبا فقد أراد بالابتياع ملك سلعة وهذا مقصود مشروع فلما كان بايعا قصد ملك الثمن حقيقة ولما كان مبتاعا قصد ملك السلعة حقيقة فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه فهذا لا محذور فيه إذ كل واحد من العقدين مقصود مشروع ولهذا يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض ونحو ذلك وأما إن ابتاع بالثمن ممن ابتاعه من جنس ما باعه فيخاف أن يكون العقد الأول مقصودا منهما بل قصدهما بيع السلعة الأولى بالثانية فيكون ربا ويظهر هذا القصد بأن يكون إذا باعه التمر مثلا بدراهم لم يحرر وزنها ولا نقدها ولا قبضها فيعلم أنه لم يقصد بالعقد الأول ملك المثمن بذلك التمر ولا قصد المشتري تملك التمر بتلك الدراهم التي هي الثمن بل عقد العقد الأول على أن يعيد إليه الثمن ويأخذ التمر الآخر وهذا تواطؤ منهما حين عقده على فسخه والعقد إذا قصد به فسخه لم يكن مقصودا وإذا لم يكن الأول مقصودا كان وجوده كعدمه فيكونان قد اتفقا على أن يبتاعا بالتمر تمرا

يحقق أن هذا هو العقد المقصود أنه إذا جاء بدراهم أو دنانير أو حنطة أو تمر أو زبيب ليبتاع به من جنسه أكثر منه أو أقل فإنهما غالبا يتشارطان ويتراضيان على سعر أحدهما من الآخر ثم بعد ذلك يقول بعتك هذه الدراهم بكذا وكذا دينارا ثم يقول اصرف لي بها كذا وكذا درهما لما اتفقا عليه أولا ويقول بعتك هذا التمر بكذا وكذا درهما ثم يقول بعني به كذا وكذا تمرا فيكونان قد اتفقا على الثمن المذكور صورة لا حقيقة ليس للبائع غرض في أن يملكه ولا للمشتري غرض أن يملكه وقد تعاقدا على أن يملكه البائع ثم يعيده إلى المشتري والعقد لا يعقد ليفسخ من غير غرض يتعلق بنفس وجوده فإن هذا باطل كما تقدم بيانه فأين من يبيعه بثمن ليشتري به منه إلى من يبيعه بثمن ليأخذ منه

يوضح هذا أشياء:

منها أن الرجل إذا أراد أن يشتري من رجل سلعة بثمن آخر من غير جنسها فإنهما في العرف لا يحتاجان أن يعاقداه على الأول بثمن يميزه ثم يبتاعا به وإنما يقومان السلعتين ليعرفا مقدارهما ولو قال له بعتها بكذا وكذا أو ابتعت منك هذه بهذا الثمن لعد هذا لاعبا عابثا قائلا ما لا حقيقة له ولا فائدة فيه بخلاف ما لو كان الشراء من غيره فإنه يبيعه بثمن يملكه حقيقة ثم يبتاع به من الأخر فكذلك إذا أراد أن يبتاع منه بالثمن من جنسها كيف يأمره الشارع بشيء ليس فيه فائدة؟

ومنها أنه لو كان هذا مشروعا لم يكن في نحريم الربا حكمة إلا تضييع الزمان وإتعاب النفس بلا فائده فإنه لا يشاء أن يبتاع ربويا بأكثر منه من جنسه إلا قال بعتك هذا بكذا وابتعت منك هذا بهذا الثمن فلا يعجز أحد عن استحلال ربا حرمه الله سبحانه قط فإن الربا في البيع نوعان: ربا الفضل وربا النسيئة فأما ربا الفضل فيمكنه في كل مال ربوي أن يقول بعتك هذا المال بكذا ويسمي ما شاء ثم يقول ابتعت به هذا المال الذي هو من جنسه وأما ربا النسيئة فيمكنه أن يقول بعتك هذه الحريرة بألف درهم أو عشرين صاعا إلى سنة وابتعتها منك بتسعمائة حالة أو خمسة عشر صاعا أو نحو ذلك

ويمكنه ربا القرض فلا يشاء مرب إلا أقرضه ثم حاباه في بيع أو إجارة أو مساقاة أو أهدى له أو نفعه ويحصل مقصودهما من الزيادة في القرض فيا سبحان الله العظيم أيعود الربا الذي قد عظم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن أهل الكتاب بأخذه ولعن آكله وموكله وشاهديه وكاتبه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجىء في غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها ويستهزىء بها؟ أم يستحسن مؤمن أن ينسب نبيا من الأنبياء فضلا عن سيد المرسلين بل أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرم هذه المحارم العظيمة ثم يبيحها بضرب من العبث والهزل الذي لم يقصد ولم يكن له حقيقة وليس فيه مقصود المتعاقدين قط

ولقد بلغني أن بعض المربين من الصيارف قد جعل عنده خرزة ذهب فكل من جاء يريد أن يبيعه فضة بأقل منها لكونها مكسورة أو من نقد غير نافق ونحو ذلك قال له الصيرفي بعني هذه الفضة بهذه الخرزة ثم يقول ابتعت هذه الخرزة بهذه الفضة

أفيستجيز رشيد أن يقول إن الذي حرم بيع الفضة بالفضة متفاضلا أحل تحصيل الفضة بالفضة متفاضلا على هذا الوجه وهو الذي يقول في محلل القمار ما يقول ويقول في محلل النكاح ما يقول؟

وكذلك بلغي أن من الباعة من قد أعد بزا لتحليل الربا فإذا جاء الرجل إلى من يريد أن يأخذ منه ألفا بألف ومائتين ذهبا إلى ذلك المحلل فاشترى ذلك المعطي منه ذلك البز ثم يعيده للآخر ثم يبيعه الآخذ إلى صاحبه وقد عرف الرجل بذلك بحيث أن البز الذي يحلل به الربا لا يكاد يبيعه الببع البتة

واعلم أن أكثر حيل الربا أغلظ في بابها من التحليل في بابه ولهذا حرمها أو بعضها من لم يحرم التحليل لأن القصد في البيع معتبرعند العامة فلا يصح بيع الهازل بخلاف نكاحه ولأن الاحتيال في الربا غالبا إنما يتم في المواطأة اللفظية أو العرفية ولا يفتقر عقد الربا إلى شهادة ولكن يتعاقدان ثم يشهدان له في ذمته دينا ولهذا إنما لعن شاهداه إذا علما به والتحليل لا يمكن إظهاره وقت العقد لكون الشهادة شرطا فيه والشروط المتقدمة مؤثرة عند عامة السلف وإن نقل عن بعضهم أن مجرد النية لا يؤثر

وجماع هذا أنه إذا اشترى منه ربويا وهو يريد أن يشتري بثمنه منه من جنسه فأما أن يواطئه على الشراء منه لفظا أو يكون العرف قد جرى بذلك واما أن لا يكون كذلك فإن كان كذلك فهو عقد باطل لأن ملك الثمن غير مقصود فلا قوله أولا بعتك هذا بألف مثلا صحيحا ولا قوله ثانيا إبتعت هذا بألف فإنه لم يقصد أولا ملك الألف ولم يقصد ثانيا التمليك بها ولم يقصد الآخر تمليك الألف أولا ولاملكها ثانيا بل القصد تمليك التمر بالتمر مثلا وإن لم تجر بينهما مواطأة لكن قدعلم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه فهو كذلك لأن علمه بذلك يمنع كلا منهما أن يقصد الثمن في العقدين بل علمه به ضرب من المواطأة العرفية

وإن كان قصد البائع الشراء منه ولم يعلم المشتري فهنا قال الإمام أحمد لو باع من رجل دنانير بدنانير لم يجز أن يشتري بالدراهم فه ذهبا إلا أن يمضي لييتاع بالورق من غيره ذهبا فلا يستقيم فيجوز أن يرجع إلى الذي إبتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبا وكذلك كره منك أن تصرف دراهمك من رجل بدنانير ثم تبتاع فه بتلك الدنانير دراهم غير دراهمك وغير عيونها في الوقت أو بعد يوم أو يومين قال ابن القاسم فإن طال الزمان وصح أمرها فلا بأس به فالذي ذكره الإمام أحمد لأنه متى قصد الشراء منه بتلك الدنانير لم يقصد تمليك الثمن ولهذا لا يحتاط في النقد والوزن فمتى بدا له بعد القبض والمفارقة أن يشتري منه بأن يطلب من غيره فلا يجد لم يكن في العقد الأول خلل ثم إن المتقطمين من أصحابه حملوا هذا المنع على التحريم وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما إذا لم يكن عن حيلة ومواطأة لم يحرم وقد أومأ إليه أحمد فيما رواه عنه الكرماني قال قلت لأحمد رجل اشترى من رجل ذهبا ثم باعه منه؟ قال يبعه من غيره أعجب إلي وذكر ابن عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى وقد نقل عن ابن سيرين أنه كان يكره للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير وفي رواية عنه قال إن بعضهم ليفعل ما هو أقبح من الصرف وهذا إخبار عما كانت الصحابة عليه فإن ابن سيرين من أكابر التابعين فلا ينقل الكراهة المطلقة إلا عن الصحابة

وهذه المسألة عكس مسائل العينة وهي في ربا الفضل كمسائل العينة في ربا النسأ لأن هذا يبيع بالثمن ثم يعيده إليه وبأخذ به ومثلها في ربا النسأ أن يبيع ربويا بنسيئة ثم يشتري بثمنه ما لا يباع به نسيئة - وهذه المسألة مما عدها من الربا الفقهاء السبعة وأكثر العلماء مثل مالك وأحمد وغيرها وأظنه مأثور عن ابن عمر وغيره ففي هذين الموضعين قد عاد الثمن إلى المشتري وأفضى إلى ربا الفضل أو ربا النسأ وفي مسائل العينة قد عاد المبيع إلى البائع وأفضى إلى ربا الفضل والنسأ جميعا

ثم إن كان في الموضعين لم يقصد الثمن ولا المبيع وإنما جعل وصلة إلى الربا فهذا لا ريب في تحريمه والعقد الأول هنا باطل فلا يوقف فيه عند من يبطل الحيل وكلام أحمد وغيره من العلماء في ذلك كثير وقد صرح به القاضي في مسألة العينة في غير موضع وغيره من العلماء وإن كان أبو الخطاب وغيره قد جعل في صحته وجهين فإن الأول هو الصواب وإنما تردد من تردد من أصحابنا في العقد الأول في مسالة العينة لأن هذه المسالة إنما ينصب الخلاف فيها في العقد الثاني بناء على أن الأول صحيح

وعلى هذا التقرير فليست من مسائل الحيل وإنما هي من مسائل الذرائع ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم غد أبي حنيفة وأصحابه وهو كون الثمن إذا لم يستوف لم يتم العقد الأول فيصير الثاني مبنيا عليه وهذا تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع أيضا فصار لها ثلاثة مآخذ فلما لم يمتحض تحريمها على قاعدة الحيل توقف في العقد الأول من توقف

والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطبت حكم الحيل وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران هذا إذا لم يقصد العقد الأول وإن كان العقد الأول مقصودا حقيقة فهو صحيح لكن ما دام الثمن في ذمة المشتري لم بجز أن يشتري منه البيع بأقل منه من جنسه ولا يجوز أن يبتاع منه الثمن ربويا لا يباع بالأول نسأ لأن أحكام العقد الأول لا تستوفى إلا بالتقابض فمتى لم يحصل التقابض كان ذريعة إلى الربا وان تقابضا وكان العقد مقصودا فله أن يشتري منه كما يشتري من غيره

وإذا كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصودة المشروعة التي لا خداع فيها ولاتحريم لم يصح أن يلحق فيها صورة عقد لم يقصد حقيقته من ملك الثمن والمثمن وإنما قصد به استحلال ما حرمه الله من الربا وأما قول النبي ﷺ لبلال: [ بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ] فليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه:

أحدها: إن النبي ﷺ أمره أن يبيع سلعته الأولى ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب ونحن نقول كل بيع صحيح فإنه يفيد الملك ولا يكون ربا لكن الشأن في بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة والتابعين على أن ظاهرها وإن كان بيعا فإنها ربا وهي بيع فاسد ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل في الحديث ولو اختلف رجلان في بيع هل هو صحيح أو فاسد وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح فمتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث فتبين أنه لا حجة فيه على صحة صورة النزاع البتة

والنكتة أن يقال الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح ونحن لا نسلم أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على الاشتراء بالثمن من المشتري شيئا من جنس الثمن الربوي بيع صحيح وإنما البيع الصحيح الاشتراء من غيره أوالاشتراء منه بعد بيعه بيعا مقصودا ثابتا لم يقصد به الشراء منه

الوجه الثاني: إن الحديث ليس فيه عموم لأنه قال: [ وابتع بالدراهم جنيبا ] والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرا بشيء من قيودها لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد ومقدر المشترك ليس هو ما بتميز به كل واحد من الأفراد عن الآخر ولا هو ملتزما له فلا يكون الأمر بالمشترك أمرا بالمميز بحال نعم مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاما لها على سبيل البدل لكن ذلك لا يقتضي العموم للأفراد على سبيل الجمع وهو المطلوب فقوله مع هذا الثبوت لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمر ولا بكذا أو كذا ولا بهذا السوق أو هذه فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممثلا من جهة وجدد تلك الحقيقة لا من جهة وجود تلك القيود وهذا الأمر لا خلاف فيه لكن بعض الناس يعتقد أن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة وهذا خطأ

إذا تبين ذلك: فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاع من المشتري ولا أمره أن يبتاع من غيره فالحديث لا يدل لفظه على شيء من ذلك بعينه ولا على جميع ذلك مطابقة ولا تضامنا ولا إلتزاما كما لا يدل على بيعه وقبض الثمن أو ترك قبضه وبيعه بثمن المثل أو دون ثمن المثل وبنقد البلد أو غير نقد البلد وبثمن حال أو مؤجل فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلا لكن اللفظ لا يمنع الأجزاء إذا أتى بها وإنما أستفيد عدم الإمتثال إذا بيع بدون ثمن المثل أو بغير نقد البلد أو بثمن مؤجل والأمر بقبض الثمن من العرف الذي يثبت البيع المطلق وكذلك أيضا ليس فيه أنه يبيعه من المشتري على أن يشتري بالثمن منه ولا غير ذلك وإنما يستفاد ذلك من دلالة أخرى منفصلة فيما أباحته الشريعة جاز فعله ومالا فلا

وبهذا يظهر الجواب عن قول من يقول لو كان الإبتياع من المشتري حراما لنهى عنه فإن مقصوده ﷺ إنما كان بيان الطريق التي بها يحصل شراء التمر الجيد لمن عنده رديء وهو أن بيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيدا ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة أو لأن المخاطب يفهم البيع الصحيح فلا يحتاج إلى بيان فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص كما لا يحتج به على نفي سائر الشروط وما هذا إلا بمثابة قوله تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } فإن المقصود بيان حل الأكل في هذا الوقت فمن احتج به على حد نوع المأكولات أو صفة من صفات الأكل كان مبطلا إذ لا عموم في اللفظ لذلك كما ذكرناه سوء وليس الغالب أن بايع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يقال هذه الصورة غالبة فكان ينبغي التحذير منها كما حذر السلف مثل ذلك في الصرف لأن سعر الدراهم والدنانير في الغالب معروف والغالب أن من يريد أن يبيع نقدا ليشتري نقدا آخر إذا باعه للصيرفي بذهب ابتاع بالذهب منه النقد الآخر ولهذا حذروا منه وأما التمر والبر ونحوهما من الروض فإن من يقصد بيعه لا يقصد به مشتريا مخصوصا بل يعرضه على أهل السوق عامة أو يضعه حيث يقصدونه أو ينادي عليه فإذا باعه الواحد منهم فقد تكون عنده السلعة التى يريدها وقد لا تكون

ومثل هذا إذا قال الرجل لوكيله بع هذه الثياب الكتان واشتري لنا بالثمن ثياب قطن أو بع هذه الحنطة العتيقة واشتري لنا بالثمن جديدة لا يكاد يخطر بباله الإشتراء من ذلك المشتري بل يشتري من حيث وجد غرضه عند غيره أغلب من وجوده عنده فالغرض في بيع العروض أو إبتياعها لا يغلب وجوده عند واحد بخلاف الأثمان

وإذا كانت هذه صورة قليلة لم يجب التحذير منها إذا لم يكن اللفظ متناولا لها كما لو يحذر من سائر العقود الفاسدة ولهذا إنما يتكلم الفقهاء في المنع من الشراء من المشتري في الصرف لأنه في الغالب بخلاف العروض وثبت أن الحديث ليس له إشعار بالابتياع من المشتري البتة

الوجه الثالث: إن قوله ﷺ: [ بع الجمع بالدراهم ] إنما يفهم منه البيع المقصود الخالي عن شرط يمنع كونه مقصودا بخلاف البيع الذي لا يقصد والدليل عليه أنه لو قال: بعت هذا الثوب أو بع هذا الثوب لم يفهم منه بيع المكره ولا بيع الهازل

وإنما يفهم منه البيع الذي قصد به نقل الملك فإذا جاء إلى تمار فقال أريد أن أشتري منك بالتمر الردي تمرا جيدا فيشتريه منه بكذا درهما ويعني بالدراهم كذا تمرا جيدا لم يكن قصده ملك الثمن الذي هو الدراهم البتة وإنما القصد بيع تمر بتمر فلا يدخل في الحديث وتقرير هذا الكلام قد مضى

يبين هذا: إن مثل هذين قد يتراضيان أولا عن بيع التمر بالتمر ثم يجعلان الدراهم محللا وتقريره أن الوكيل فى البيع مأمور بالإنتقاد والإتزان والقبض مع القرينة ونحو ذلك من مقاصد العقد وإذا كان المقصود رد الثمن إليه لم يحرر النقد والوزن والقبض ومثل هذا في الإطلاق لا يسمى بيعا ولو قال الناس فلان باع داره لم يفهم منه إلا صورة لا حقيقة لها فلا تدخل هذه الصورة في لفظ البيع لإنتفاء مسمى البيع المطلق

الوجه الرابع: إن النبي ﷺ نهى عن بيعتين في بيعة ومتى تواطأ على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة فلا يكون داخلا في الحديث

يبين ذلك أنه ﷺ قال [ بع الجمع بالدراهم ثم بع بالدراهم جنيبا ] وهذا يقتضي بيعا ينشئه ويبتديه بعد انقضاء البيع الأول ومتى واطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقنا على العقدين معا فلا يكون داخلا في حديث الأمر بل في حديث النهي وتأتي إن شاء الله تعالى تقرير أن الشروط المؤثرة في العقود لا فرق بين مقارنها ومتقدمها

الوجه الخامس: إنه لو فرض أن في الحديث عموما لفظيا فهو مخصوص بصور لا تعد ولا تحصى فإن كل بيع فاسد لا يدخلها فيه فيضعف دلالته ويخص منه الصور التي ذكرناها بالأدلة المتقدمة التي هي نصوص في بطلان الحيل وهي من الصور المكثورة فإخراجها من العموم من أسهل الأشياء وانظر قوله ﷺ [ لعن الله المحلل والمحلل له ] فإنه عام عموما لفظيا ومعنويا لم يثبت أنه خص منه شيء ولم يعارضه نص آخر فأيما أول بالتخصيص هو أو قوله: [ بع الجمع بالدراهم ثم إبتع بالدرهم جنيبا ] مع أنه ليس بعام لفظا ولا معنى بل هو مطلق وقد خرج منه صور كثيرة فتخرج منه هذه الصورة بنصوص وآثار وقياس دل على ذلك أعني صورة الإبتياع من المشترى منه

فهذه الأقسام السبعة التي قسمناها ما تسمى حيلة إليها إذا تأملها اللبيب علم الفرق بين هذين الآخرين وبين الأقسام الخمسة وقد تضمن هذا التقسيبم الدلالة على بطلان الخمسة والفرق بينها وبين الآخرين والله أعلم

الوجه السادس عشر

إن الحيل مع أنها محدثة كما تقدم فإنها أحدثت بالرأي وإنما أحدثها من كان الغالب عليهم اتباع الرأي فما ورد في الحديث والأثر من ذم الرأي وأهله فإنما يتناول الحيل فإنها رأي محض ليس فيه أثر عن الصحابة ولا له نظير من الحيل ثبت بأصل فيقاس عليه بمثله والحكم إذا ثبت بأصل ولا نظير كان رأيا محضا باطلا

يحقق هذا: أنها إنما نشأت ممن كان من المفتين قد غلب بفسق الرأي وتصريفه وكان تلقيهم للأحكام من جهة أغلب من تلقيها من جهة الآثار ثم هذا الرأي لمن تأمله أكثر ما فيه من فساد إنما هو من جهة الحيل التي دققت الدين وجراه على اعتداء الحدود واستحلال المحارم وإن كان في هذا الرأي أيضا تشديد ما سهلته السنة وهذا مثل ما روى عبد الله بن عمرو وقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون فيضلون ويضلون ] رواه البخاري بهذا اللفظ والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما لكن اللفظ المشهور: فافتوا بغير علم إلى أحاديث أخر مثل:

حديث يروى عن عيسى بن يونس عن جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك قال قال رسول الله ﷺ: [ تفترق أمتي على بعض وسبعين فرقة أعظمها فئة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ] - وهذا الحديث مشهور عن نعيم بن حماد المروزي وهو ثقة إمام إلا أنه قد نقل عن ابن معين أنه قال هذا حديث باطل ليس له أصل شبه فيه على نعيم ونقل هذا عن غير ابن معين ومع هذا فقد نقل عن جماعة آخرين عن عيسى بن يونس وبعض الناس يقول سرقوه من نعيم ولا حجة لس يقول ذلك في بعض الناس وممن رواه عن عيسى أيضا سويد بن سعيد وكان أحمد يثني عليه وكذا يثني لوالديه عليه ورواه عنه مسلم وغيره وقد أنكر عليه ابن معين بتفرده بحديث ثم وجدوا له أصلا عند غيره قال أبو أحمد بن عدي قال جعفر الفريابي وقفت سويدا على هذا الحديث بعد أن حدثني به ودار بيني وبينه كلام كثير وهذا إنما يعرف بنعيم بن حماد رواه عن عيسى بن يونس فتكلم الناس فيه بجرأة ورواه رجل من أهل خراسان يقال له الحكم بن المبارك ويقال أنه لا بأس به ثم سرقه منه قوم ضعفاء فهدا القدر الذي ذكر لا يوجب تركه قدحا في الحديث إذا رواه عدة من الثقاة وروته طائفة عن نعيم عن عيسى وطائفة عنه عن ابن المبارك عن عيسى وهذا القدر قد يحتج به من لا يرى الحديث محفوظا وقد يجيب عنه من يحتج له بأن هذا في اتقان نعيم فإنه كان قد سمعه من ابن المبارك ثم سمعه من عيسى فرغبته في علو الإسناد بتحمله على الرواية عن عيسى ورغبته في التحمل بابن المبارك تحمله على الرواية عنه وفي الجملة فإسناده في الظاهر جيد إلا أن يكون قد اطلع فيه على علة خفية ومعناه شبيه بالواقع

فإن فتوى من مفت في الحلال والحرام برأي يخالف السنة أضر عليهم من أهل الأهواء وقد ذكر هذا المعنى الإمام أحمد وغيره فإن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة بخلاف الفتيا فإن أدلتها من السنة قد لايعرفها إلا الأفراد ولا يميز ضعيفها في الغالب إلا الخاصة وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير

وقد جاء مثل معناه محفوظا من حديث المجالد في الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال: [ ليس عام إلا الذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم ] وهذا الذي في حديث ابن مسعود وهو بعينه الذي في حديث النبي ﷺ حيث قال: [ ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فبفتون برأيهم فيضلون ويضلون ]

وفي ذم الرأي آثار مشهورة عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وغيرهم وكذلك عن التابعين بعدهم بإحسان فيها بيان أن الأخذ بالرأي يحلل الحرام ويحرم الحلال

ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأي لم يقصد بها اجتهاد الرأي على الأصول من الكتاب والسنة والإجماع في حادثة لم توجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع ممن يعرف الأشباه والنظائر وفقه معاني الأحكام فيقيس قياس تشبيه وتمثيل أو قياس تعليل وتأصيل قياسا لم يعارضه ما هو أولى منه فإن أدلة جواز هذا المفتي لغيره والعامل لنفسه ووجوبه على الحاكم والإمام أشهر من أن تذكر هنا وليس في هذا القياس تحليل لما حرمه الله سبحانه ولا تحريم لما حلله الله

وإنما القياس والرأي الذي يهدم الإسلام ويحلل الحرام ويحرم الحلال ما عارض الكتاب والسنة أو ما كان عليه سلف الأمة أو معاني ذلك المعتبرة ثم مخالفته لهذه الأصول على قسمين:

أحدهما: أن يخالف أصلا مخالفة ظاهرة بدون أصل آخر فهذا لا يقع من مفت إلا إذا كان الأصل مما لم يبلغه علمه كما هو الواقع من كثير من الأئمة لم يبلغهم بعض السنن فخالفوها خطأ وأما الأصول المشهورة فلا يخالفها مسلم خلافا ظاهرا من غير معارضة بأصل آخر فضلا عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا

الثاني: أن يخالف الأصل بنوع تأويل وهو فيه مخطىء بأن يضع الإسم على غير موضعه أو على بعض موضعه ويراعي فيه مجرد اللفظ دون اعتبار المقصود لمعنى أوغير ذلك

والحيل تندرج في هذا النوع على ما لا بخفى

والدليل على أن هذا القسم مراد من هذه الأحاديث أشياء منها أن تحليل الشيء إذا كان مشهورا فحرمه بغير تأويل آو كان التحريم مشهورا فحلله بغير تأويل كان ذلك كفرا وعنادا ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأسا قط إلا أن تكون قد كفرت والأمة لا تكفر قط وإذا بعث الله ريحا تقبض أرواح المؤمنين لم يبق حينئذ من يسأل عن حلال وحرام

وإذا كان التحريم أو التحليل غير مشهور فخالفه مخالف لم يبلغه فمثل هذا لم يزل موجودا من لدن زمن أصحاب النبي ﷺ ثم هذا إنما يكون في آحاد المسائل فلا تضل الأمة ولا ينهدم الإسلام ولا يقال لمثل هذا أنه محدث عند قبض العلماء وذهاب الأخيار والصالحين

فظهر أن المراد استحلال المحرمات الظاهرة بنوع تأويل وهذا بين في الحيل فإن تحريم السفاح والربا والمعلق طلاقها الثلاث بصفة إذا وجدت وتحريم الخمر وغير ذلك هو من الأحكام الظاهرة التي لا يجوز أن يخفى على الأمة تحريمها في الجملة وإنما يضل من يفتي بالرأي ويضل ويحل الحرام ويحرم الحلال ويهدم الإسلام إذا احتال على حلها بحيل وسماها نكاحا وبيعا وخلعا وقاس ذلك على النكاح المقصود والبيع المقصود والخلع المقصود فيبقى مع من يستفتيه صورة الإسلام وأسماء آياته دون معانيه وحقائقه وهذا هو الضال لأن الضال الذي يحسب أنه على حق وهو على باطل كالنصارى وهو هدم للإسلام

ومما يبين ذلك أن من أكثر أهل الأمصار قياسا وفقها أهل الكوفة حتى كان يقال فقه كوفي وعبادة بصرية وكان عظم علمهم مأخوذا عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وكان أصحاب عبد الله وأصحاب عمر وأصحاب علي من العلم والفقه بمكان الذي لا يخفى ثم قد كان أفقههم في زمانه إبراهيم النخعي كان فيهم بمنزلة سعيد بن المسيب في أهل المدينة وكان يقول: إني لأسمع الحديث الواحد فأقيس به مائة حديث ولم يكن يخرج عن قول عبد الله وأصحابه وكان الشعبي أعلم بالآثار منه وأهل المدينة أعلم بالسنة منهم

وقد يوجد لقدماء الكوفيين أقاويل متعددة فيها مخالفة لسنة لم تبلغهم ولم يكونوا مع ذلك مطعونا فيهم ولا كانوا مذمومين بل لهم من الإسلام مكان لا يخفى على من علم سيرة السلف وذلك لأن مثل هذا قد وجد لأصحاب رسول الله ﷺ لأن الإحاطة بالسنة كالمتعذر على الواحد أو النفر من العلماء ومن خالف ما لم يبلغه فهو معذور ولم يكونوا مع هذا يقولون بالحيل ولا يفتون بها بل المشهور عنهم ردها والإنكار لها واعتبر ذلك بمسألة التحليل فإن السنة المشهورة في لعن المحلل والمحلل له وإن كانت قد خرجت من الحرمين ومصر والعراق فإن أشهر حديث فيها مخرجه من أهل الكوفة عن عبد الله بن مسعود وأصحابه وفقيه القوم إبراهيم قد قدمنا عنه أنه كان يقول: إذا نوى أحد الثلاثة التحليل فهو نكاح فاسد الأول والثاني وهذا القول أشد من قول المدنيين فمن يكون هذا قوله هل يمكن أن يعتقد صحة الحيل وجوازها وكذلك أقواهم في الحيل الربوبية تدل على قوة رد القوم للحيل فإن حديث عائشة في مسألة العينة مخرجه من عندهم وقولهم فيها معروف وقال إبراهيم في الرجل يقرض الرجل دراهم فيرد عليه أجود من دراهمه: لابأس بذلك ما لم يكن شرط أو نية وكان الأسود بن يزيد إذا خرج عطاؤه دفعه إلى رجل فقال: اذهب فبعه بدنانير ثم بع الدنانير من رجل آخر ولا تبعها من الذي اشتريت منه وقال حماد بن أبي سليم إذا بعت الدنانير بالدراهم غير مخادعة ولا مدالسة فإن شئت اشتريتها منه

فهؤلاء سرج أهل الكوفة وأئمتهم وهذه أقوالهم ولقد تتبعنا هذا الباب فلم نظفر لأحد من أهل الكوفة المتقدمين بل ولا لأحد من أئمة سائر أهك الأمصار من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة من الصحابة والتابعين في مسائل الحيل إلا النهي عنها والتغليظ فيها فلما حدث من بعض مفتيهم القول بالحيل والدلالة عليها انطلقت الألسنة بالذم لمن أحدث ذلك وظهر تأويل الآثار في هذا الضرب

ومما يدل على هذا: ما ذكره الإمام إسحق بن راهويه ذكر حديث عبد الله بن مسعود: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويجري الناس عليها فيتخذونها سنة قال إسحق قال ابن مهدي ونظراؤه من أهل العلم إن هذه الفتنة لفتنة يعني أهل هذا الرأي لا شك في ذلك لأنه لم يكن فيما مضى فتنة جرى الناس عليها فاتخذوها سنة حتى ربا الصغير وهرم الكبير إلا فتنة هؤلاء وهي علامتهم إذا كثر القراء وقل العلماء وتفقه لغير الدين وقوله: أحلوا الحرام وحرموا الحلال مطابق للواقع فإن الاحتيال على إسقاط الحقوق مثل حق الشفيع وحق الرجل في امرأته وغير ذلك إذا أحتيل عليها حرمت على الرجل ما أحل الله له وكثير من الرأي ضيق ما وسعته السنة فاحتاج صاحبه إلى أن يحتال للتوسعة مثل انتفاع المرتهن بالظهر والدار إذا أنفق بقدر ما انتفع ومثل باب المساقاة والمزارعة فإن من اعتقد تحريم هذا خالف السنة الثابتة وما كان عليه الخلفاء الراشدون وغيرهم وما عليه عمل المسلمين من عهد نبيهم إلى يومهم اضطره الحال إلى نوع من الحيل يستحل بها ذلك ثم إنه لو لم يكن بها سنة لكان إلحاقها بالمضاربة لأنها بها أشبه وأولى من إلحاقها بالإجارة لأنها منها أبعد

ومما يبين ذلك: أن الرأي كان واقعا عندهم على ما يتضمن الحيل أن بشر بن السري وهو من العلماء الثقاة المتقدمين أدرك العصر الذي اشتهر فيه الرأي وهو ممن أخذ عنه الإمام أحمد وطبقته قال: نظرت في العلم فإذا هو الحديث والرأي فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين وذكر الموت وذكر ربوبية الرب وجلاله وعظمته وذكر الجنة والنار والحلال والحرام والحث على صلة الأرحام وجماع الخير ونظرت في الرأي فإذا فيه المكر والخديعة والتشاح واستقصاء الحق والمماكسة في الدين واستعمال الحيل والبعث على قطع الأرحام والتجرؤ على الحرام

وروي مثل هذا الكلام عن يونس بن أسلم وقال أبو داود سمعت أحمد وذكر الحيل من أصحاب الرأي فقالوا: يحتالون لنقض سنة رسول الله ﷺ مثل هذا كثير في كلام أهل ذلك العصر فعلم أن إلرأي المذموم يندرج فيه الحيل وهو المطلوب



==============================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل المقحمات هي الذنوب العظام كما قال النووي أم أنها ذنوب أرتكبت بقصد طاعة الله لكن التسرع والاندفاع دافع للخطأ من غير قصد

تعقيب علي المقحمات يتبين من تعريف المقحمات بين النووي ومعاجم اللغة العتيدة أن النووي أخطأ جدا في التعريف { المقحمات مفتوح للكتابة...