معاني كلمات القران الكريم




فهرس معاني الكلمات001 الفاتحة ►002 البقرة ►003 آل عمران ►004 النساء ►005 المائدة ►006 الأنعام ►007 الأعراف ►008 الأنفال ►009 التوبة ►010 يونس ►011 هود ►012 يوسف ►013 الرعد ►014 إبراهيم ►015 الحجر ►016 النحل ►017 الإسراء ►018 الكهف ►019 مريم ►020 طه ►021 الأنبياء ►022 الحج ►023 المؤمنون ►024 النور ►025 الفرقان ►026 الشعراء ►027 النمل ►028 القصص ►029 العنكبوت ►030 الروم ►031 لقمان ►032 السجدة ►033 الأحزاب ►034 سبأ ►035 فاطر ►036 يس ►037 الصافات ►038 ص ►039 الزمر ►040 غافر ►041 فصلت ►042 الشورى ►043 الزخرف ►044 الدخان ►045 الجاثية ►046 الأحقاف ►047 محمد ►048 الفتح ►049 الحجرات ►050 ق ►051 الذاريات ►052 الطور ►053 النجم ►054 القمر ►055 الرحمن ►056 الواقعة ►057 الحديد ►058 المجادلة ►059 الحشر ►060 الممتحنة ►061 الصف ►062 الجمعة ►063 المنافقون ►064 التغابن ►065 الطلاق ►066 التحريم ►067 الملك ►068 القلم ►069 الحاقة ►070 المعارج ►071 نوح ►072 الجن ►073 المزمل ►074 المدثر ►075 القيامة ►076 الإنسان ►077 المرسلات ►078 النبأ ►079 النازعات ►080 عبس ►081 التكوير ►082 الإنفطار ►083 المطففين ►084 الانشقاق ►085 البروج ►086 الطارق ►087 الأعلى ►088 الغاشية ►089 الفجر ►090 البلد ►091 الشمس ►092 الليل ►093 الضحى ►094 الشرح ►095 التين ►096 العلق ►097 القدر ►098 البينة ►099 الزلزلة ►100 العاديات ►101 القارعة ►102 التكاثر ►103 العصر ►104 الهمزة ►105 الفيل ►106 قريش ►107 الماعون ►108 الكوثر ►109 الكافرون ►110 النصر ►111 المسد ►112 الإخلاص ►113 الفلق ►114 الناس ►

مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

بؤامج نداء الايمان

النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق/مدونة ديوان الطلاق//المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة

الجامع لمؤلفات الشيخ الألباني / / /*الـذاكـر / /القرآن الكريم مع الترجمة / /القرآن الكريم مع التفسير / /القرآن الكريم مع التلاوة / / /الموسوعة الحديثية المصغرة/الموسوعة الفقهية الكبرى //برنامج الأسطوانة الوهمية /برنامج المنتخب فى تفسير القرآن الكريم //برنامج الموسوعة الفقهية الكويتية / /برنامج الموسوعة القرآنية المتخصصة / /برنامج حقائق الإسلام في مواجهة المشككين / /برنامج فتاوى دار الإفتاء في مائة عام ولجنة الفتوى بالأزهر / /برنامج مكتبة السنة / /برنامج موسوعة المفاهيم الإسلامية / /برنامج موسوعة شرح الحديث الشريف فتح البارى لشرح صحيح البخارى وشرح مسلم لعبد الباقى وشرح مالك للإمام اللكنوى / /خلفيات إسلامية رائعة / /مجموع فتاوى ابن تيمية / /مكتبة الإمام ابن الجوزي / /مكتبة الإمام ابن حجر العسقلاني / /مكتبة الإمام ابن حجر الهيتمي / /مكتبة الإمام ابن حزم الأندلسي / /مكتبة الإمام ابن رجب الحنبلي / /مكتبة الإمام ابن كثير / /مكتبة الإمام الذهبي / /مكتبة الإمام السيوطي / /مكتبة الإمام محمد بن علي الشوكاني / /مكتبة الشيخ تقي الدين الهلالي / /مكتبة الشيخ حافظ بن أحمد حكمي / /مكتبة الشيخ حمود التويجري / /مكتبة الشيخ ربيع المدخلي / /مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ / /مكتبة الشيخ صالح الفوزان / /مكتبة الشيخ عبد الرحمن السعدي / /مكتبة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم / /مكتبة الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان / /مكتبة الشيخ عبد المحسن العباد / /مكتبة الشيخ عطية محمد سالم / /مكتبة الشيخ محمد أمان الجامي /مكتبة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي / /مكتبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / /مكتبة الشيخ مقبل الوادعي / /موسوعة أصول الفقه / /موسوعة التاريخ الإسلامي / /موسوعة الحديث النبوي الشريف / /موسوعة السيرة النبوية / /موسوعة المؤلفات العلمية لأئمة الدعوة النجدية / موسوعة توحيد رب العبيد / موسوعة رواة الحديث / موسوعة شروح الحديث / /موسوعة علوم الحديث / /موسوعة علوم القرآن / /موسوعة علوم اللغة / /موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم /موسوعة مؤلفات الإمام ابن تيمية /

السبت، 5 مارس 2022

ج 5..إقامة الدليل على إبطال التحليل من صفحة [اول ص 23/ حتي آخر ص29]

 

أول الصفحة 23/التحليل/23.


الوجه السابع عشر

إن النبي ﷺ أخبر: [ أن أول ما يفقد من الدين الأمانة وآخر ما يفقد منه الصلاة ] وحدث عن رفع الأمانة من القلوب الحديث المشهور وقال: [ خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ]
 
 
= فذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم ذكر أن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن وهذه أحاديث صحبحة مشهورة

ومعلوم أن العمل بالحيل يفتح باب الخيانة والكذب
 
= فإن كثيرا من الحيل لا يتم إلا أن يتفق الرجلان على عقد يظهر أنه ومقصودهما أمر آخر كما ذكرنا في التمليك للوقف وكما في الحيل الربوبية وحيل المناكح وذلك الذي اتفقا عليه إن لزم الوفاء به كان العقد فاسدا وإن لم يلزم فقد جوزت الخيانة والكذب في المعاملات ولهذا لا يطمئن القلب إلى من يستحل الحيل خوفا من مكره وإظهاره ما يبطن خلافه وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ] والمحتال غير مأمون
 
 
= وفي حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال لعبد الله بن عمر: [ كيف بك ياعبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مهرجت عبودهم وأمانتهم واختلفوا فصاروا هكذا وشبك بين أصابعه قال فكيف أفعل يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف وتدع ماتنكر وتقبل على خاصتك وتدعهم وعوانهم ]

وهو حديث صحيح 
 
=وهو في بعض نسخ البخاري والحيل توجب مرج العهود والأمانات وهو قلقها واضطرابها فإن الرجل إذا سوغ له من يعاهد عهدا ثم لا يفي به أو أن يؤمن على شيء فيأخذ بعضه بنوع تأويل ارتفعت الثقة به وأمثاله ولم يؤمن في كثير من الأشياء أن يكون كذلك ومن تأمل حيل أهل الديوان وولاة الأمور التي استحلوا بها المحارم ودخلوا بها في الغلول والخيانة ولم يبق لهم معها عهد ولا أمانة علم يقينا أن الاحتيال والتأويلات أوجب عظم ذلك وعلم خروج أهل الحيل من قوله: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } وقوله: { يوفون بالنذر } ومخالفتهم لقوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } وقوله: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } وقوله تعالى: { أوفوا بالعقود } وقوله ﷺ: [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] رواه ابن داود وغيره في قوله تعالى: { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ودخولهم في قوله ﷺ: [ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ] وقوله ﷺ: [ ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند إسته بقدر غدرته فيقال هذه غدرة فلان ] متفق عليهما

وهذا الوجه مما أشار إليه الإمام أحمد رضي الله عنه قال: عجبت مما يقولون في الحيل والإيمان يبطلون الإيمان بالحيل وقال الله تعالى: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } وقال تعالى: { يوفون بالنذر } وكان ابن عيينة يشتد عليه أمرهم وأمر هذه الحيل واستقصاء هذا يطول وانما القصد التنبيه - وتمام هذا في:

الوجه الثامن عشر

وهو أن الله سبحانه أوجب في المعاملات خاصة وفي الدين عامة النصيحة والبيان وحرم الخلابة والغش والكتمان ففي الصحيحين عن جرير قال: بايعت رسول الله ﷺ على النصح لكل مسلم فكان من نصحه أنه اشترى من رجل دابة ثم زاده أضعاف ثمنه لما رأى أنه يساوي ذلك وأن صاحبه مسترسل وعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: [ الدين النصيحة الدبن النصيحة الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ] رواه مسلم وغيره وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ [ مر برجل يبيع طعاما فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال: من غشنا فليس منا ] رواه مسلم وغيره وروى الإمام أحمد مثله من حديث أبي بردة بن نيار

فإذا كانت النصيحة لكل مسلم واجبة وغشه حراما فمعلوم أن المحتال ليس بناصح للمحتال عليه بل هو غاش له بك الحيلة أكبر من ترك النصح وأقبح من الغش وهذا بين يظهر مثله في الحيل التي تبطل الحقوق التي ثبتت أوتمنع الحقوق أن تثبت أو توجب عليه شيئا لم يكن ليجب وعن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله ﷺ: [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ] متفق عليه فالصدق يعم الصدق فيما يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل والبيان يعم بيان صفات المبيع ومنافعه وكذلك الكذب والكتمان وإذا كان الصدق والبيان واجبين في المعاملة موجبين للبركة والكذب والكتمان محرمين ماحقين للبركة فمعلوم أن كثيرا من الحيل أو أكثرها لا يتم إلا بوقوع الكذب أو الكتمان أو تجويزه وأنها مع وجوب الصدق أو وقوعه لا تتم

مثال ذلك إذا احتال على أن يبيعه سلعة بألف ثم يشتريها منه بأكثر نسيئة أو يبيعها بألف ومائة نسيئة ثم يشتريها بألف نقدا فإن وجب على كل واحد منهما أن يصدق الآخر كان الوفاء بهذا واجبا فيلزبم فساد العقد بالاتفاق لأن مثل هذا الشرط إذا قدر أنه لازم في العقد أبطل العقد بالإجماع وإن جوز للرجل أن يخلف ما أتفقا عليه ففد جوز للرجل أن يكذب صاحبه وهو ركوب لما حرمه الرسول ﷺ والدليل على أن هذا نوع من الكذب قوله تعالى: { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } وإنما كذبهم أخلاف قولهم: { لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } وكذلك لو كان في عزم أحدهما أن لا يفي للآخر بما تواطآ عليه فإن جاز كتم هذا وترك بيانه فهو مخالفة للحديث وإن وجب إظهاره لم تتم الحيلة فإن الآخر لم يرض إلا إذا غلب علي ظنه أن الآخر يفي له

ثم في الحديث دلالة على تحريم التدليس والغش وكتمان العيوب في البيوع كما روى عبد الرحمن بن شماسة عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له ] رواه ابن ماجه بإسناد رجاله ثقات عنى شرط البخاري إلى ابن شماسة وابن شماسة قد وثقوه وخرج له مسلم

وقال البخاري في صحيحه قال عقبة بن عامر: لا يحل لمسلم أن يببع سلعة يعلم أن بها داء إلا أخبره وعن وائلة بن الأسقع قال: قال رسول الله ﷺ: [ لا يحل لأحد أن يبيع شيئا إلا بين ما فيه ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه ] رواه الإمام أحمد ولابن ماجه: [ من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت من الله ولم تزل الملائكة تلعنه ] وعن عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العداء بن خالد بن هوذة ألا أقرئك كتابا كتبه لي رسول الله ﷺ؟ [ قال قلت بلى فأخرج لي كتابا: هذا ما اشترى العداء بن خالد بلى هوذة من محمد رسول الله ﷺ اشترى منه عبدا أو أمة بيع المسلم للمسلم لأداء ولا غائلة ولا خبثة ] رواه النسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب وذكره البخاري تعليقا بلفظ ويذكر عن العداء بن خالد وقال في الحيل وقال النبي ﷺ: [ بيع المسلم لا داء ولا غائلة ولا خبثة ] وقوله ﷺ: [ بيع المسلم ] دليل على أنه موجب العقد المطلق وإن اشتراطه بيان لموجب العقد وتوكيد له

فهذا النبي ﷺ قد بين أن مجرد سكوت أحد المتبايعين عن إظهار ما لو علمه الآخر لم يبايعه من العيوب وغيرها إثم عظيم وحرم هذا الكتمان وجعله موجبا لمقت الله سبحانه وإن كان الساكت لم يتكلم ولم يصف ولم يشترط وإنما ذاك لأن ظاهر الأمر الصحة والسلامة فيبني الآخر الأمرعلى ما يظنه من الظاهر الذي لم يصفه الآخر بلسانه وذلك نوع من الغرور له والتدليس عليه ومعلوم أن الغرور بالكلام والوصف إثم فإذا غره بأن يظهر له أمرا ثم لا يفعله معه فإن ذلك أعظم في الغرور والتدليس وأين الساكت من الناطق فيجب أن يكون أعظم إثما

وأبلغ من ذلك أن يريد الرجل أن ينشىء عقد بيع أو هبة أو غير ذلك فيؤمر بإقرار ولا يبين له حكم الإقرار فيقر إقرارا يلزم بموجبه ويكون بموجبه مخالف لمقصوده من البيع والهبة أو يأمره بتسمية كثيرة على الثمن في البيع لإسقاط الشفعة ثم يصادق على نصفه بدينار ونحوه ولايبين له ما يلزمه بهذا من وجوب رد الثمن الأول إذا فسخ البيع بعيب ونحوه فأين هذا الغرور والتدليس من مجرد السكوت عن بيان حال السلعة؟

ومن هذا الباب: نهيه ﷺ عن التصرية وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: [ لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر ] رواه الجماعة ورواه ابن عمر وغيره ومعلوم أن التصرية مجرد فعل يغتر به المشتري ثم قد حرمه رسول الله ﷺ وأوجب الخيار عند ظهور الحال فكيف بالغرور بالأقوال؟ ولهذا كان أكثر الذين يقولون بالحيل لا يقولون بهذا الحديث لأن الخيار هنا زعموا ليس لوجود عيب ولا لفوات صفة وهو جار على قياس المحتالين لكن الحيل باطلة لأن إظهار الصفات بالأفعال كإظهارها بالأقوال بل مجرد ظهورها كمجرد ظهور السلامة من العيوب وقد حكى عن بعض المحتالين أنه كان إذا استوصف السلعة عرض في كلامه مثل أن يقال له كيف الجمل يقول احمل ما شئت وينوي على الحيل ويقال له كم تحلب فيقول في أي إناء شئت فيقول كيف سيره فيقول الريح لا تلحق فإذا قبض المشتري ذلك فلا يجد شيئا من ذلك رجع إليه فيقول ما وجدت فيما بعتني شيئا من تلك الأوصاف فيقول ما كذبتك وقد ذكرت هذه الحكاية عن بعض التابعين وأدخلها في كلامه من احتج للحيل والأشبه أنها كذب أو كان قصده المزاح معه لا حقيقة البيع وإلا فمن عمل مثل هذا فقد قدح في ديانته فإن هذا أعظم في الغرر من التصرية فإن القول المفهم أعظم من مجرد ظهور حال لم يصفها ولا يلتق مثل هذا بذي مروءة فضلا عن ذي ديانة

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ [ أنه نهى عن النجش ] وذلك لما فيه من الغرر للمشتري وخديعته ونهى عن تلفي السلع وذلك لما فيه من تغرير البائع أو ضرر المشتري ونهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه أو يبيع على بيع أخيه أو يخطب على خطبة أخيه أوتسأل المرأة طلاق أختها لتكتفي ما في صحفتها أو نهى أن يبيع حاضر لباد وقال: [ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ]

وهذا كله دليل على وجوب مراعاة حق المسلم وترك إضراره بكل إلا أن يصدر منه أذى وعلى المنع من نيل الغرض بخديعة المسلم وكثير من الحيل يناقض هذا ولهذا كثير من القائلين بالحبل لا يمنعون بيع الحاضر للبادي ولا تلقي السلع طردا لقيامهم ومن أخذ بالسنة منهم في مثل هذا أخذ بها على مضض لأنها على خلاف قياسه ومخالفة القياس للسنة دليل على أنه قياس فاسد

ولما كانت هذه الخصال مثل التلقي والنجش والتصرية من جنس واحد وهو الخلابة جمعها النبي ﷺ في حديث أبي هريرة وغيره وجاء عنه أنه بين تحريم الخلابة مطلقا فروى الإمام أحمد في المسند قال حدثنا وكيع قال حدثنا المسعودي عن جابر عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق قال: [ بيع المحقلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم ]

وهذا نص في تحريم جميع أنواع الخلابة في البيع وغيره - والخلابة الخديعة ويقال الخديعة باللسان وفي المثل إذا لم تغلب فأخلب أي فأخدع ورجل خلاب أي خداع - وامرأة خلبة أي خداعة والبرق الخلب والسحاب الخلب الذي لا غيث معه كأنه يخدع من يراه - وفي الصحيحين عن ابن عمر قال ذكر رجل لرسول الله ﷺ أنه يخدع في البيع فقال رسول الله ﷺ: [ من أبايعت فقل لا خلابة ] وهذا الشرط منه موافق لموجب العقد وإنما أمره النبي ﷺ باشتراطه العداء عليه أن البيع بيع المسلم للمسلم لاداء ولا غائلة ولا خبثة

يبين ذلك أنه قال في حديث ابن مسعود: لا تحل الخلابة لمسلم ولأنه لو لم يرد الخلابة التي هي الخديعة المحرمة لم يكن هذا الشرط معروفا بل يكون شرط شيئا لأحد له في الشرع لأنه ذكر للنبي ﷺ أن يخدع والخديعة حرام ولأنه قد روى سعيد بن منصور حدثنا سفيان حدثنا شبيب بن غرقد أن رسول الله ﷺ قال لغلامين شابين: [ تبايعا وقولوا لاخلابة ] وقال حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن إبراهيم مولى صخر بن رهم العدوي قال: قال رسول الله ﷺ: [ تبايعوا وقولوا لا خلابة ] فهذا مرسل من وجهين مختلفين ولا دلائل على صدقه فثبت أن مثل هذا الشرط مشروع مطلقا ولو كان يخالف مطلق النقد لم يؤمر باشتراطه كل واحد كالتأجيل في الثمن واشتراطه الرهن والكفيل وصفات زائدة في العقود عليه

ويؤيد ذلك: ما رواه الدار قطني وغيره عن أبي أمامة عن النبي ﷺ أنه قال: [ غبن المسترسل ربا ] وحديث التلقي يوافق هذا الحديث

فإذا كان الله تعالى قد حرم الخلابة وهي الخديعة فمعلوم أنه لا فرق بين الخلابة في البيع وفي غيره لأن الحديث إن عم ذلك لفظا ومعنى فلا كلام إن كان إنما قصد به الخلابة في البيع فالخلابة في سائر العقود والأقوال وفي الأفعال بمنزلة الخلابة في البيع ليس بينهما فرق مؤثر في اعتبار الشارع وهذا القياس في معنى الأصل بل الخلابة في غير البيع قد تكون أعظم فيكون من باب التشبيه وقياس الأولى وإذا كان كذلك فالحيل خلابة إما مع الخلق أو مع الخالق مثل ما يحكى عن بعض أهل الحيل أنه اشترى من أعرابي ماء بثمن غال ثم أراد أن يسترجع الثمن وكان معه سويق ملتوت بزيت فقال له أتريد أن أطعمك سويقا؟ قال: نعم فأطعمه

فعطش الأعرابي عطشا شديدا وطلب أن يسقيه تبرعا أو معاوضا فامتنع إلا بثمن جميع الماء فأعطاه جميع الثمن بشربة واحدة ومعلوم أن إطعامه ذلك السويق مظهرا أنه محسن إليه وهو يقصد الإساءة إليه من أقبح الخلابات ثم امتناعه من سقيه إلا بأكثر من ثمن المثل حرام ولا يقال أن الأعرابي أساء إليه بمنعه الماء إلا بثمن كثير لأن ذلك إن كان جائزا لم تجز معاقبته عليه وإن كان يجب عليه أن يسقيه مجانا أو بثمن المثل فكذلك يجب على الثاني أن يسقيه ولم يفعل ولو أنه استرجع الثمن ورد عليه سائر الماء أوترك له من الثمن مقدار ثمن الشربة التي شربها هو لكان إما أن يأخذ ماء إلا شربة واحدة ويأخذ الثمن كله بصورة يظهر له فيها أنه محسن وقصده ذلك فهذا هو الخلابة البينة

وبالجملة فباضطرار يعلم أن كثيرا من الحيل أو أكثرها أو عامتها من الخلابة وهي حرام كما تقدم وعن عبد الله بن عمرو قال كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خبأ ومنا من ينتضل ومنا من هو في جشرة إذ نادى منادي رسول الله ﷺ الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله ﷺ فقال: [ إنه لم يكن قبلي نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وأن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتن يرفق بعضها بعضا تجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار وبدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليعطه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فأضربوا عنق الآخر ] رواه مسلم وغيره فهذه الوظائف الثلاث التي جمعها في هذا الحديث من قواعد الإسلام وكثيرا ما يذكرها رسول الله ﷺ مثل قوله في حديث أبي هريرة: [ إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ] ومثل قوله في حديث زيد بن ثابت: [ ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين ] وذلك أن الاجتماع والإتلاف اللذين في هذين الحديثين لا يتم إلا بالمعنى الذي وصى به في حديث عبد الله بن عمر وهو قوله: [ وليأت إلى الناس الذي يجب أن يؤتى إليه ] وهذا القدر واجب لأنه قرنه بالإيمان وبالطاعة للإمام في سياق ما ينجي من النار ويوجب الجنة وهذا إنما يقال في الواجبات لأن المستحب لا يتوقف عليه ذلك ولا يستقل بذلك ولهذا غاية الأحاديث التي يسأل فيها النبي ﷺ عما يدخل الجنة وينجي من النار إنما يذكر الواجبات

وإذا كان كذلك فمعلوم أن المحتال لم يأت إلى الناس ما يجب أن يؤتى إليه بل لو علم أن أحدا يحتال عليه لكرهه أو كره ذلك منه وربما اتخذه عدوا أعني الكراهة الطبيعية وإن كان قد يحب ذلك من جهة ماله فيه من المثوبة فإن هذه المحبة ليست المحبة المذكورة في الحديث وإلا لكان من أحب إيمانه أنه يؤذي فيصبر على الأذى مأمورا بأن يؤذن الناس وهذا ظاهر ونحو من هذا ما روى أنس عن النبي ﷺ أنه قال: [ والذي نفسي يده لا يؤمن أحدكم حتى بحب لأخيه ما يحب لنفسه ] متفق عليه

وبالجملة فالحيل تنافي ما ينبني عليه أمر الدين من التحابب والتناصح والإتلاف والأخوة في الدين ويقتضي التباغض والتقاطع والتدابر هذا في الحيل على الخلق والحيل على الخالق أولى فإن الله سبحانه وتعالى أحق أن يستحي منه من الناس والله سبحانه الموفق لما يحبه ويرضاه

الوجه التاسع عشر

ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل نبي الله ﷺ رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي إلي. إلى أن قال فقام رسول الله ﷺ على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: [ أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا لكم وهذا هدية أهديت لي هلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتي هديته إن كان صادقا والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة فلا أعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر - ثم رفع يديه حتى رؤي بياض أبطيه يقول - اللهم هل بلغت ] فوجه الدلالة أن الهدية هي عطية يبتغي بها وجه المعطي وكرامته فلم ينظر النبي ﷺ إلى ظاهر الإعطاء قولا وفعلا ولكن نظر إلى قصد المعطين ونياتهم التي تعلم بدلالة الحال فإن كان الرجل بحيث لو نزع عن تلك الولاية أهدي له تلك الهدية لم تكن الولاية هي الداعية للناس إلى عطيته وإلا فالمقصود بالعطية إنما هي ولايته إما ليكرمهم فيها أو ليخفف عنهم أو يقدمهم على غيرهم أو نحو ذلك مما يقصدون به الانتفاع بولايته أو نفعه لأجل ولايته

والولاية حق لأهل الصدقات فما أخذ من المال بسببها كان حقا لهم سواء كان واجبا على المعطي أو غير واجب كما لو تبرع أحدهم بزيادة على الواجب قدرا أو صفة وذلك العمل الذي يعمله الساعي صار لأهل الصدقات إما بالجعل الذي يجعل له أو بكونه قد تبرع له لهم فكل ما حصل من المال بسببه فهو لهم

إذا علم ذلك فنقول: هذه الهدية لم يشترط فيها أن تكون لأهل الصدقات لا شرطا مقترنا بالعقد ولا متقدما عليه ومع هذا فلما كانت دلالة الحال تقتضي أن القصد بها ذلك كانت تلك هي الحقيقة التي اعتبرها النبي ﷺ فكان هذا أصلا في اعتبار المقاصد ودلالات الحال في العقود فمن أقرض رجلا ألفا وباعه ثوبا يساوي درهما بخمسمائة علم أن تلك الألف إنما أقرضت لأجل تلك الزيادة في ثمن الثوب وإلا فكان الثوب يترك في بيت صاحبه ثم ينظر المقترض أكان يقرض تلك الألف أم لا وكذلك بايعه ليترك القرض ثم ينظر هل يبتاع ثوبه بخمسمائة أم لا فإذا كان هذا إنما زاد في العوض لأجل القرض صار ذلك العوض داخلا في بدل القرض فصار قد اقترض ألفا بألف وخمسمائة إلا قيمة الثوب هذا حقيقة العقد ومقصوده

وكذلك من اقترض ألفا وارتهن بها عقارا أذن له المقترض في الانتفاع به أو إكراه إياه أو ساقاه أو زارعه عليه بعشرعشرعوض المثل فإنما تبرع له وحاباه في هذه العقود من البيع والإجارة والمساقاة والمزارعة لأجل القرض كما أن أرباب الأموال إئما يهدون للساعي لأجل ولايته عليهم إما ليراعيهم ببدل مال هو لأهل الصدقات أو منفعة قد دخل مع الإمام الذي ولاه على أن تكون لأهل الصدقات ومن ملك المبدل منه ملك مبدله والعبرة بالمبادلة الحقيقية لا الصورية كما دل عليه الحديث وإما لنحو ذلك من المقاصد

وهذا الكلام الحكيم الذي ذكره النبي ﷺ أصل في كل من أخذ شيئا أو أعطاه تبرعا لشخص أو معاوضة لشيء في الظاهر وهو في القصد والحقيقة لغيره فإنه يقال هلا ترك ذلك الشيء الذي هو المقصود ثم ينظر هل يكون ذلك الأمر إن كان صادقا فيقال في جميع العقود الربوية إذا كانت خداعا مثل ذلك كما ذكرناه وهذا أصل لكل من بذل لجهة لولا هي لم يبذله فإنه يجعل تلك الجهة هي المقصودة بذلك البذل فيكون المال لرب تلك الجهة إن حلالا فحلال وإلا كانت حراما وسائر الحقوق قياس على المال

يوضح هذا: أن المحاباة في البيع والكراء ونحوهما تبرع محض بدليل أنه يحتسب في مرض الموت من الثلث ويبطل مع الوارث ويمنع منه الوكيل والوصي والمكاتب وكل من منع من التبرع وأما القرض ونحوه فظاهرأنه تبرع فإذا كان أحد الرجلين قد حابى الآخر في عقد من هذه العقود لأجل قرض أو عقد آخر ولاية كان ذلك تبرعا بذلك السبب كالسلف الذي مع البيع سواء وكالهدية التي مع العمل سواء ونظير حديث ابن اللتبية وهو

الوجه العشرون

ما روى ابن ماجه عن يحيى بن إسحق الهنائي قال سألت أنس بن مالك الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه فقال قال رسول الله ﷺ: [ إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ] هكذا رواه ابن ماجه من حديث إسماعيل بن عياش عن عقبة بن حميد الضبي عن يحيى

لكن ليس هذا يحيى بن أبي إسحق الحضرمي صاحب القراءة العربية وإنما هو والله أعلم يحيى بن يزيد الهنائي فلعل كنية أبيه أبو إسحق وكلاهما ثقة الأول من رجال الصحيحين والثاني من رجال مسلم وعتبة بن حميد معروف بالرواية عن الهنائي قال فبه أبو حاتم هو صالح الحديث وأبو حاتم من أشد المزكين شرطا في التعديل وقد روى عن الإمام أحمد أنه قان هو ضعيف ليس بالقوي لكن هذه العبارة يقصد بها أنه ممن ليس يصحح حديثه بل هو ممن يحسن حديثه وقد كانوا يسمون حديث مثل هذا ضعيفا ويحتجون به لأنه حسن إذ لم يكن الحديث إذ ذاك مقسوما إلا إلى صحيح وضعيف وفي مثله له يقول الإمام أحمد الحديث الضعيف خير من القياس يعني الذي لم يقو قوة الصحيح مع أن مخرجه حسن وإسماعيل بن عياش حافظ ثقة في حديثه عن الشاميين وغيرهم وإنما يضعف حديثه عن الحجازيين وليس هذا عن الحجازيين فثبت أنه حديث حسن لكن في حديثه عن غيرهم نظرا وهذا الرجل بصري الأصل وروى هذا الحديث سعيد في سننه عن إسماعيل بن عياش لكن قال عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي وكذلك رواه البخاري في تاريخه عن بزيد بن أبي يحيى الهنائي عن أنس عن النبي ﷺ قال: [ إذا أقرض أحدكم فلا يأخذ هدية ] وأظن هذا هو ذاك انقلب اسمه

وروى البخاري في صحيحه عن أبي بردة بن أبي موسى قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي إنك بأرض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا وروى سعيد في سننه هذا المعنى عن أبي بن كعب وجاء عن عبد الله بن مسعود أيضا وعن عبد الله بن عمر أنه أتاه رجل فقال إني أقرضت رجلا بغير معرفة فأهدى إلي هدية جزلة قال رد إليه هديته أو احبسها له وعن سالم بن أبي الجعد قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إني أقرضت رجلا يبيع السمك عشرين درهم فأهدى إلي سمكة قومتها بثلاثة عشر درهما فقال خذ منه سبعة دراهم رواهما سعيد وعن ابن عباس قال إذا أسلفت رجلا سلفا فلا تأخذ منه هدية ولا عارية ركوب دابة رواه حرب الكرماني

فنهى النبي ﷺ وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الإقتضاء وإن كان لم يشرط ذلك ولم يتكلم به فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة وألف مؤخرة وهذا ربا

ولهذا جاز أن يزيد عند الوفاء ويهدي له بعد ذلك لزوال معنى الربا

ومن لم ينظر إلى المقاصد في العقود أجاز مثل ذلك وخالف بذلك سنة رسول الله ﷺ وهذا أمر بين وقد صح عنه ﷺ من حديث عبد الله بن عمرو وغيره أنه قال: [ لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ماليس عندك ] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه وما ذاك والله أعلم إلا أنه إذا باعه شيئا وأقرضه فإنه يزيد في الثمن لأجل القرض فيصير القرض بزيادة وذلك ربا

فمن تدبر هذا علم أن كل معاملة كان مقصود صاحبها أن يقرض قرضا بربح واحتال على ذلك بأن اشترى من المقترض سلعة بمائة حالة ثم باعها إياها بمائة وعشرين إلى أجل أو باعه سلعة بمائة وعشرين إلى أجل ثم ابتاعها بمائة حالة أو باعه سلعة تساوي عشرة بخمسين وأقرضه مع ذلك خمسين أو واطأ مخادعا ثالثا علي أن يشتري منه سلعة بمائة ثم يبيعها المشتري للمقترض بمائة وعشرين ثم يعود المشتري المقترض فيبيعها للأول بمائة إلا درهمين وما أشبه هذه العقود يقال فيها ما قاله النبي ﷺ: [ أفلا أفردت أحد العقدين عن الآخر ثم نظرت ] هل كنت مبتاعها أو بايعه بهدا الثمن أم لا فإذا كنت إنما نقصت هذا وزدت هذا لأجل هذا كان له قسط من العوض وإذا كان كذلك فهو ربا وكذلك الحيل المبطلة للشفعة والمسقطة للميراث والمحلل للمطلقة ثلاثا واليمين المعقودة ونحوهما وفيما يشبه هذا ما رواه أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي ﷺ [ نهى عن طعام المتبارين ] وهما الرجلان يقصد كل واحد منهما مباراة الآخر ومباهاته في التبرعات والتعويضات كالرجل يصنع كل واحد منهما دعوة يفتخر بها على الآخر أو يرخص في بيع السلعة ليضر الآخر ليمنع الناس عن الشراء منه ولهذا كره الإمام أحمد الشراء من الطباخين ونحوهما يتباريان في البيع ومعلوم أن الإطعام والبيع حلال لكن لما قصد له إضرار الغير صار الضرر كالمشروط فيه المعارض به وإذا لم يبدل المال إلا لضرر بالغير غير مستحق صار ذئك المال حراما

ومن تأمل حديث ابن اللتبية وحديث أنس وحديث عبد الله بن عمرو وحديث ابن عباس وما في معناهما من آثار الصحابة التي لم يختلفوا فيها علم ضرورة أن السنة وإجماع التابعين دليل على أن التبرعات من الهبات والمحابيات ونحوهما إذا كانت بسبب فرض أو ولاية أو نحوهما كان القرض بسبب المحاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة أومضاوبة أو نحو ذلك عوضا في ذلك القرض والولاية بمنزلة المشروط فيه

وهذا يجتث قاعدة الحيل الربوبة والرشوية ويدل على حيل السفاح وغيره من الأمور فإذا كان إنما يفعل الشيء لأجل كذا كان المقصود بمنزلة المنطوق الظاهر فإذا كان حلالا كان حلالا وإلا فهو حرام وهذا لما تقدم من أن الله سبحانه إنما أباح تعاطي الأسباب لمن يقصد بها الصلاح فقال في الرجعة: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } وقال في المطلقة: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } وقال: { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } وقال في الوصية: { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار } فأباح الوصية إذا لم يكن فيها ضرار للورثة قصدا أو فعلا كما قال في الآية الأخرى: { فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه } وقال: { وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله } وقال: { ولا تمنن تستكثر } وهو أن تهدي ليهدى إليك أكثر مما أهديت فإن هذا دليل على أن صور العقود غير كافية في حلها وحصول أحكامها إلا إذا لم يقصد بها قصدا فاسدا وكل ما لو شرطه في العقد كان عوضا فاسدا فقصده فاسد لأنه لو كان صالحا لم يحرم اشتراطه لما روي عن النبي ﷺ أنه قال: [ المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أوحرم حلالا ] رواه أبو داود فإذا كان العوض المشروط باطلا علمنا أنه يحل حراما أو يحرم حلالا فيكون فاسدا فتكون النية أيضا فاسدة فلا يجوز العقد بهذه النية

الوجه الحادي والعشرون

إن أصحاب رسول الله ﷺ أجمعوا على تحريم هذه الحيل وابطالها وإجماعهم حجة قاطعة يجب اتباعها بل هي أوكد الحجج وهي مقدمة على غيرها وليس هذا موضع تقرير ذلك فإن هذا الأصل مقرر في موضعه وليس فيه بين الفقهاء بل ولا بين سائر المؤمنين الذين هم المؤمنون خلاف وإنما خالف فينا بعض أهل البدع المكفرين ببدعتهم أو المفسقين بها بل من كان يضم إلى بدعته من الكبائر ما بعضه يوجب الفسوق

ومتى ثبت اتفاق الصحابة على تحريمها وإبطالها فهو الغاية في الدلالة

وبيان ذلك: إنا سنذكر إن شاء الله عن عمر أنه خطب الناس على منبر رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار وقال ( لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ) ويذكر عن عثمان وعني وابن عمر وابن عباس وغيرهم أنهم نهوا عن التحليل وبينوا أنها لا تحل به لا للأول ولا للثاني وأنهم قصدوا بذلك كل ما قصد به التحليل وإن لم يشرط في العقد ولا قبله

وهذه أقوال نقلت في أوقات مختلفة وأماكن متعددة وقضايا متفرقة وفيها ما سمعه الخلق الكثير من أفاضل الصحابة وسايرها بحيث توجب العادة انتشاره وشياعه أو لم ينكر هذه الأقوال أحد منهم مع تطاول الأزمنة وزوال الأسباب التي قد يظن أن السكوت كان لأجلها وأيضا قد تقدم عن غير واحد منهم من أعيانهم مثل أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس أنهم نهوا المقرض أن يقبل هد ية المقترض إلا إذا كافأه عليها أو حسبها من دينه وأنهم جعلوا قبولها ربا وهذه الأقوال أيضا وقعت في أزمنة متفرقة في قضايا متعددة والعادة توجب أن يشتهر بينهم جنس هذه المقالة وإن لم يشهر واحد منهم بعينه لا سيما وهؤلاء المسلمون هم أعيان المفتين الذين كانت تضبط أقوالهم وتحكى إلى غيرهم وكانت نفوس الباقين مشرئبة إلى ما يقول هؤلاء ومع ذلك فلم ينقل أن أحدا منهم خالف هؤلاء مع تباعد الأوقات وزوال أسباب الصمات

وأيضا فقد قدمنا عن عائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك في مسألة العينة ما أوجب فيه تغليط التحريهم وفساد العقد وفي الفتاوى وقعت في أزمنة وبلدان ولم يقابلها أحد برد ولا مخالفة مع أنها لو كانت باطلة لكان السكوت عنها من العظائم لما فيها من المبالغة العظيمة في تحريم الحلال وبينا أن زيد بن أرقم لم يخالف هذا وأن عقده لم يتم

وإذا كانت هذه أقوالهم في الإهداء إلى المقرض من غير مواطأة ولا عرف فكيف بالمواطأة على المحاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة؟ أو بالمواطأة على هبة أوعارية ونحو ذلك من التبرعات؟ ثم إذا كان هذا قولهم في التحليل والإهداء للمقرض والعينة فعيت في إسقاط الزكاة والشفعة وتأخير الصوم عن وقته وإخراج الإبضاع والأموال عن ملك أصحابها وتصحيح العقود الفاسدة؟ وأيضا فإن عمر وعثمان وعليا وأبي بن كعب وسائر البدريين وغيرهم اتفقوا على أن المبتوتة في مرض الموت ترث قاله عمر في قصة غيلان بن سلمة لما طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه؟ فقال له عمر لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثن نساءك ثم لأمرت بقبرك فليرجمن كما رجم قبر أبي رغال وقال الباقون في قصة تماضر بنت الأصبغ لما طلقها عبد الرحمن بن عوف والقصة مشهورة ولا نعلم أحدا منهم أنكر هذا الوفاق ولا خالفه ولا يعترض على ذلك بأن ابن الزبير قال لو كنت أنا لم أورث تماضر بنت الأصبغ لوجهين:

أحدهما: أنه قد قيل إنها هي سألته الطلاق وبهذا اعتذر من اعتذر عن عبد الرحمن في طلاقها وقيل إن العدة كانت قد انقضت ومثل هاتين المسألتين قد اختلف فيها القائلون بتوريث المبتوتة فإنهم اختلفوا هل ترث مع مطلق الطلاق أو مع طلاق يتهم فيه بأنه قصد الفرار من إرثها؟ وهل ترث في حال العدة فقط أو إلى أن تتزوج؟ أو ترث وإن تزوجت؟

وإذا كان كذلك فكلام ابن الزبير يجوز أن يكون بتا على أحد هذين المأخذين وكذلك كلام غيره إن نقل في ذلك شيء وهذا لا يمنع اتفاقهم على أصل القاعدة ثم لو فرض في توريث المبتوتة خلاف محقق بين الصحابة فلعل ذلك لأن هذه الحيلة وهي الطلاق واقعة لأن الطلاق لا يمكن إبطاله وإذا صح تبعه سائر أحكامه فلا يلزم من الخلاف في مثل هذا الخلاف فيما يمكن إبطاله من البيع والهبة والنكاح ولا يلزم من إنفاذ هذه الحيلة إحلالها وإجازتها وهذا كله يبين لك أنه لم ينقل خلاف في جواز شيء من ائحيل ولا في صحة ما يمكن إبطاله إما في جميع الأحكام أو في بعضها

الثاني: إنا لو فرضنا أن ابن الزبير ثبت عنه أن المبتوتة في المرض لا ترث مطلقا لم يخرق هذا الإجماع المتقدم فإن ابن الزبير لم يكن من أهل الاجتهاد في خلافة عمر وعثمان ولم يكن إذ ذاك ممن يستفتى بل قد جاء عنه ما يدل على أنه في خلافة على أو معاوية لم يكن قد صار بعد من أهل الفتوى وهو مع هذا لم يخالف في هذه المسألة في تلك الأعصار وإنما ظهر منه هذا القول في إمارته بعد إمرة معاوية وقد انقرض عصر أولئك السابقين مثل عمر وعثمان وعلي وأبي وغيرهم

ومتى انقرض عصر أهل الاجتهاد المجمعين من غير خلاف ظاهر لم يعتد بما يظهر بعد ذلك من خلاف غيرهم بالإنفاق وإنما اختلف الناس في إنقراض العصر هل هو شرط في إنعقاد الإجماع بحيث لو خالف واحد منهم بعد اتفاقهم هل يعتد بخلافه؟ وإذا قلنا يعتد بخلافه فلو صار واحد منهم من الطبقة الثانية مجتهدا قبل ! نقضاء عصرهم فخالف هل يعتد بخلافه؟ هذا مما اختلف فيه فأما المخالف من غيرهم بعد موتهم فلا يعتد به وفاقا وكذلك لا يعتد بمن صار مجتهدا بعد الإنفاق قبل انقراض عصرهم على الصحيح

وإذا ثبت بما ذكرنا وما لم نذكره من أقوال أصحاب رسول الله ﷺ في هذه المسائل من مسائل الحيل واتفاقهم عليها فهو دليل على قولهم فيما هو أعظم من هذه الحيل وذلك بموجب القطع بأنهم كانوا يحرمون هذه الحيل ويبطلونها ومن كان له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائل الفقه ثم اتصف لم يتمار أن تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وابطالها أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس والعمل بظاهر الخطاب ثم إن ذلك الإجماع قد اعتقد صحته عامة الخلق القائلون بالإجماع السكوتي وهم الجمهور والمنكرون له بناء على أن هذه القواعد لا يجوز ترك إنكار الباطل منها وأنه لا يمكن في الواقع معرفة الإجماع والاحتجاج به إلا بهذا الطريق والأدلة الموجبة لاتباع الإجماع إن لم ثتناول مثل هذه الصورة وإلا كانت باطلة وهذا إن شاء الله بين وإنما ذهل عنه في هذا الأصل من ذهل لعدم تتبع مقالتهم في أفراد هذا الأصل كما قد يقع من بعض الأئمة قول هو في نفس الأمر مخالف لنصوص ثابتة عن رسول الله ﷺ فإن معذرته في ترك هذا الإجتماع كمعذرتة في ترك ذلك النص فأما إذا جمعت وفهمت ولم ينقل ما يخالفها لم يسترب أحد في ذلك فإذا انضم إلى ذلك أن عامة التابعين موافقون على هذا فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل وكذلك أصحاب عبد الله بن مسعود وأصحاب أصحابه من أهل الكوفة وكذلك أبو الشعثاء والحسن وابن سيرين وغيرهم من أهل البصرة وكذلك أصحاب ابن عباس من أهل مكة وغيرهم ولولا أن التابعين كانوا منتشرين انتشارا يصعب معه دعوى الإحاطة بمقالاتهم لقيل أن التابعين أيضا أتفقوا على تحريم كل حيلة تواطأ عليها الرجل مع غيره وإبطالها أيضا ويكفي أن مقالاتهم في ذلك مشهورة من غير أن يعرف عن واحد منهم في ذلك خلاف

وهذا المسلك إذا تأمله اللبيب أوجب قطعه بتحريم جنس هذه الحيل وبإبطالها أيضا بحسب الإمكان فإنا لا نعلم في طريق الأحكام وأدلتها دليلا أقوى من هذا في مثل هذه المسائل فإنه يتضمن أن كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها إن عصرهم انثشر وانصرم ورقعة الإسلام متسعة وقد دخل الناس في دين الله أفواجا وقد اتسعت الدنيا على أهل الإسلام اتساعا عظيما وتوسع فيها من توسع حتى كثر من كان يتعدى الحدود وكان المقتضى لوقوع هذه الحيل موجودا قويا كثيرا ثم لم ينقل أن أحدا منهم أفتى بحلة منها أو أمر بها أو دل عليها بل يزجر عنها وينهى وذلك يوجب القطع بأنه لو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها بعضهم ولا اختلفوا فيها كما اختلفوا فيما لا ينحصر من مسائل الأحكام مثل مسائل الفرائض والطلاق وغيرها

وهذا بخلاف العمل بالقياس والظاهر والخبر المنفرد فإنه قد نقل عن بعضهم ما يوهم الاختلاف في ذلك وإن كان في الحقيقة ليس اختلافا وكذلك في آحاد مسائل الفروع فإنه أكثر ما يوجد فيها من نقل الإجماع هو دون ما وجد في هذا الأصل وهذا الأصل لم يختلف كلامهم فيه بل دلت أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم على الإنفاق فيه مع كثرة الدلائل على هذا الانفاق والله سبحانه أعلم

الوجه الثاني والعشرون

إن الله سبحانه إنما أوجب الواجبات وحرم المحرمات لما تضمن ذلك من المصالح لخلقه ودفع المفاسد عنهم ولأن يبتليهم بأن يميز من يطيعه ممن يعصيه فإذا احتال المرء على حل المحرم أو سقوط الواجب بأن يعمل عملا لو عمل على وجهه المقصود به لزال ذلك التحريم أو سقط ذئك الواجب ضمنا وتبعا لا أصلا وقصدا ويكون إنما عمله ليغير ذلك الحكم أصلا وقصدا فقد سعى في دين الله بالفساد من وجهين:

أحدهما: أن الأمر المحتال عليه بطل ما فيه من حكمة الشارع نقص حكمه

والثاني: أن الأمر المحتال به لم يكن له حقيقة ولا كان مقصودا بحيث يكون ذلك محصلا لحكمة الشارع فيه ومقصوده فصار مفسدا بسعيه في حصول المحتال عليه إذا كان حقيقة المحرم ومعناه موجودا فيه وإن خالفه في الصورة ولم يكن مصلحا بالأمر المحتال به إذ لم يكن له حقيقة عنده ولا مقصودة

وبهذا يظهر الفرق بين ذلك وبين الأمور المشروعة إذا أتيت على وجوهها فإن الله حرم مال المسلم ثم أباحه له بالبيع المقصود فإذا ابتاعه بيعا مقصودا لم يأت بصورة المحرم ولا بمعناه والسبب الذي استباحه به أتى به صورة ومعنى كما شرعه الشارع

وإيضاح ذلك: أن الله سبحانه إنما حرم الربا والزنا وتوابعهما من العقود التي تفضي إلى ذلك لما في ذلك من الفساد والابتلاء والإمتحان وأباح البيع والنكاح لأن ذلك مصلحة محضة ومعلوم أنه لا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق في الحقيقة وإلا لكان البيع مثل الربا والفرق في الصورة دون الحقيقة غير مؤثر لأن الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والأفعال فإن الألفاظ إذا اختلفت عبارتها والمعنى واحد كان حكمها واحدا ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفا وكذلك الأعمال لو اختلفت صورها واتفقت مقاصدها كان حكمها واحدا في حصول الثواب في الآخرة والأحكام في الدنيا ألا ترى أن البيع والهبة والقرض لما كان المقصود بها الملك البتات كانت مستوية في حصول هذا المقصود والصوم والصلاة والحج لما كانت مستوية في ابتغاء فضل الله ورضوانه إستوت في تحصيل هذا المقصد وإن كان لأحد العملين خاصة ليست للآخر ولو اتفقت صورها واختلفت مقاصدها كالرجلين يتكلمان بكلمة الإيمان أحدهما يبتغي بها حقيقة الإيمان والتصديق وطلب ما عنده الله والآخر يبتغي بها حقن دمه وماله والرجلين يهاجران إلى رسوله والآخر ليتزوج امرأة لكانت تلك الأعمال مفترقة عند الله وفي الحكم الذي بين العبد وبين الله وكذلك فيما بين العباد إذا ظهر لهم المقصد

ومن تأمل الشريعة علم بالاضطرار صحة هذا فالأمر المحتال به صورته صورة الحلال ولكن ليست حقيقته ومقصوده ذلك فيجب أن لا يكون بمنزلته فلا يكون حلالا فلا يترتب عليه أحكام الحلال فيقع باطلا من هذا الوجه والأمر المحتال عليه حقيقته حقيقة الأمر الحرام لكن ليست صورته صورته فيجب أن يشارك الحرام لموافقته له في الحقيقة وإن خالفه في الصورة - والله أعلم

الوجه الثالث والعشرون

إنك إذا تأملت عامة الحيل وجدتها رفعا للتحريم أو الوجوب مع قيام المعنى لا المقتضى للوجوب أو التحربم فتصير حراما من وجهين:

من جهة أن فيها فعل المحرم وترك الواجب

ومن جهة أنها مع ذلك تدليس وخداع وخلابة ومكر ونفاق واعتقاد فاسد وهذا الوجه أعظمها إثما فإن الأول بمنزلة سائر العصاة وأما الثاني فبمنزلة البدع والنفاق

ولهذا كان التغليظ على من يأمر بها ويدل عليها متبوعا في ذلك أعظم من التغليظ على من يعمل بها مقلدا فأما إذا عمل بها معتقدا جوازها فهذا هو النهاية في الشر وهذا معنى قول أيوب لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون علي وإن كان المجتهد معذورا إذا استفرغ وسعه في طلب الحق فذاك من باب المانع للحوق الذم وإلا فالمقتضي للذم قائم في مثل هذا الموضع وإذا خفي على بعض الناس ما في الفعل من القبح كان ذلك مؤكدا0 لإيضاح قبحه وهذا الوجه مما اعتمد عليه الإمام أحمد رضي الله عنه قال أبو طالب سمعت أبا عبد الله قال له رجل في كتاب الحيل إذا اشترى الرجل أمة فأراد أن يقع بها يعتقها ثم يتزوجها فقال أبو عبد الله: بلغني أن المهدي اشترى جارية فأعجبته فقيل له أعتقها وتزوجها فقال سبحان الله ما أعجب هذا أبطلوا كتاب الله والسنة جعل الله على الحرائر العدة من جهة الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من جهة الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقه على المكان فيتزوجها فيطأها فإن كانت حاملا كيف يصنع يطأها رجل اليوم ويطأها الآخر غدا هذا نقض للكتاب والسنة قال النبى ﷺ: [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض ] ولا يدري حامل أم لا سبحان الله ما أسمج هذا وقال في رواية أبي داود وذكر الحيل من أصحاب الرأي فقال يحتالون لنقض سنن رسول الله ﷺ وقال في رواية صالح وأبي الحارث هذه الحيل التي وضعوها عمدوا إلى السنن فنقضوها والشيء الذي قيل لهم أنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه وسبق تمام كلامه وهذا كثير في كلامه

وبيان ذلك: إنا نعلم باضطرار أن النبي ﷺ لما نهى عن وطء الحبالى وقال: [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرىء بحيضة ] ان من أكثر المقاصد بالإستبراء أن لايختلط الماآن ولا يشتبه النسب ثم إن الشارع بالغ في هذه الصيانة حتى جعل العدة ثلاثة قروء وأوجب العدة على الكبيرة والصغيرة وإن كان له مقصود آخر غير استبراء الرحم فإذا ملك أمة يطأها سيدها وأعتقها عقب ملكها وتزوجها ووطئها الليلة صار الأول قد وطئها البارحة وهذا قد وطئها الليلة وباضطرار نعلم أن المفسدة التي من أجلها وجب الاستبراء قائمة في هذا الوطء ومن توقف في هذا كان في الشرعيات بمنزلة التوقف في الضروريات من العقليات وكذلك نعلم أن الشارع حرم الربا لما فيه من أخذ فضل على ما له مع بقاء ماله في المعنى فيكون أكلا للمال بالباطل كأخذه بالقمار وهو يسد طريق المعروف والإحسان إلى الناس فإنه متى جوز لصاحب المال الربا لم يكن أحد يفعل معروفا من قرض ونحوه إذا أمكنه أن يبذل له كما يبذل القروض مع أخذ فضل له ولهذا قال سبحانه: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } فجعل الربا نقيض الصدقة لأن المربي يأخذ فضلا في ظاهر الأمر يزيد به ماله والمتصدق ينقص ماله في الظاهر لكن يمحق الله الربا ويربي الصدقات وقال سبحانه في الآية الأخرى: { وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } فكما أن الشارع أوجب الصدقة التي فيها الإعطاء للمحتاجين حرم الربا الذي فيه أخذ المال من المحتاجين لأنه سبحانه علم أن صلاح الخلق في أن الغني يؤخذ منه ما يعطى للفقير وأن الفقير لايؤخذ منه ما يعطى للغني

ثم رأيت هذا المعنى مأثورا على علي بن موسى الرضى رضي الله عنه وعن آبائه أنه سئل لم حرم الله الربا؟ فقال: لئلا يتمانع الناس المعروف فهذا في الجملة ينبه على بعض علل الربا فحرم أن يعطي الرجل آخر ألفا على أن يأخذ منه بعد شهر ألفا ومائة وعلى أن يأخذ منه كل شهر مائة غير الألف وربا النسأ هو الذي يتم به غرض المربي في أكثر الأمور وإنما حرم ربا الفضل لأنه قد يفضي إلى الربا ولهذا روي عن النبي ﷺ أنه قال: [ لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الدينار بالدينارين إني أخاف عليكم الرما - والرما هو الربا ] - رواه الإمام أحمد وهذه الزيادة وهي قوله إني أخاف عليكم الرما محفوظة عن عمر بن الخطاب من غير وجه وأسقط اعتبار الصفات مع إيجاد الجنس وان كانت مقصودة لئلا يفضي اعتبارها إلى الربا ولهذا قال ﷺ: [ إنما الربا في النسيئة ] متفق عليه

وبالجملة فلا يشك المؤمن أن الله إنما حرم على الرجل أن يعطي درهما ليأخذ درهمين إلى أجل إلا لحكمة فإذا جاز أن يقول بعني ثوبك بألف حالة ثم يبيعه إياه بألف ومائتين ومؤجلة بالغرض الذي كان للمتعاقدين في إعطاء ألف بألف ومائتين هو بعينه موجود ها هنا وما أظهراه من صورة العقد لا غرض لهما فيه بحال وليس عقدا ثابتا ومعلوم أن الله سبحانه إنما حرم الربا وعظمه زجرا للنفوس عما تطلبه من أكل المال بالباطل فإذا كانت هذه الحيلة يحصل معها غرض النفوس من الربا علم قطعا أن مفسدة الربا موجودة فيها فتكون محرمة

وكذلك السفاح حرمه الله تعالى بحكم كثيرة وقطع تشبيهه بالنكاح بكل طريق فأوجب في النكاح الولي والشاهدين والعدة وغير ذلك ومعلوم أن الرجل لو تزوج المرأة ليقيم معها ليلة أو ليلتين ثم يفارقها بولي وشاهدين وغير ذلك كان سفاحا وهو المتعة المحرمة فإذا لم يكن له غرض معها ألم يكن أولى باسم السفاح؟

وكذلك نعلم أن الله سبحانه إنما أوجب الشفعة للشريك لعلمه بأن مصير هذا الشقص للشريك مع حصول مقصود البائع من الثمن خير من حصوله لأجنبي ينشأ بسببه ضرر الشركة والقسمة فأوجب هذا الخير الذي لاشر فيه فإذا سوغ الاحتيال على إسقاطها ألم يكن فيه بقاء فساد الشركة والقسمة وعدم صلاح الشفعة والتكميل مع وجود حقيقة سببها وهو البيع

وهذا كثير في جميع الشرعيات فكل موضع ظفرت للمكلفين حكمته أو غابت عنهم لا يشك مستبصر أن الاحتيال يبطل تلك الحكمة التي قصدها الشارع فيكون المحتال مناقضا للشارع مخادعا في الحقيقة لله ورسوله وكلما كان المرء أفقه في الدين وأبصر بمحاسنه كان فراره عن الحيل أشد واعتبر هذا بسياسة الملوك بل بسياسة الرجل أهل بيته فإنه لو عارضه بعض الأذكياء المحتالين في أوامره ونواهيه بإقامة صورها دون حقائقها لعلم أنه ساع في فساد أوامره وأظن كثيرا من الحيل إنما استحلها من لم يفقه حكمة الشارع ولم يكن له بد من التزام ظاهر الحكم فإقام رسم الدين دون حقيقته ولو هدى رشده لسلم لله ورسوله وأطاع الله ظاهرا وباطنا في كل أمره وعلم أن الشرائع تحتها حكم وإن لم يهتد هو لها فلم يفعل سببا يعلم أنه مزيل لحكمة الشارع من حيث الجملة وإن لم يعلم حقيقة ما أزال إلا أن يكون منافقا يعتقد أن رأيه أصلح في هذه القضية خصوصا أو فيها وفي غيرها عموما لما جاءت به الشريعة أو صاحب شهوة قاهرة تدعوه إلى تحصيل غرضه ولا يمكنه الخروج عن ظاهر رسم الإسلام أو يكون ممن يحب الرياسة والشرف بالفتيا التي ينقاد له بها الناس ويرى أن ذلك لا يحصل عند الذين اتبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين إلا بهذه الحيل أو يعتقد أن الشيء ليس محرما في هذه القضية المخصوصة لمعنى رآه لكنه لا يمكنه إظهار ذلك لأن الناس لا يوافقونه عليه ويخاف الشناعة فيحتال لحيلة يظهر بها ترك الحرام ومقصوده إستحلاله فيرضي الناس ظاهرا أو يعمل بما يراه باطنا ولهذا قال ﷺ: [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ] وإنما الفقه في الدين فهم معاني الأمر والنهي ليستبصر الإنسان في دينه ألا ترى قوله تعالى: { ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فقرن الإنذار بالفقه فدل على أن الفقه ما وزع عن محرم أو دعى إلى واجب وخوف النفوس مواقعه المحظورة لا ما هون عليها استحلال المحارم بأدنى الحيل

ومما يقضى منه العجب أن الذين ينتسبون إلى القياس واستنباط معاني الأحكام والفقه من أهل الحيل هم أبعد الناس عن رعاية مقصود الشارع وعن معرفة العلل والمعاني وعن الفقه في الدين فإنك تجدهم يقطعون عن الإلحاق بالأصل مايعلم بالقطع إن معنى الأصل موجود فيه ويهدرون اعتبار تلك المعاني ثم يربطون الأحكام بمعاني لم يومىء إليها شرع ولم يستحسنها عقل: { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } وإنما سبب نسبة بعض الناس لهم إلى الفقه والقياس ما انفردوا به من الفقه وليس له أصل في كتاب ولا سنة وإنما هو رأي محض صدر عن فطنة وذكاء كفطنة أهل الدنيا في تحصيل أغراضهم فتسموا بأشرف صفاتهم وهو الفهم الذي هو مشترك في الأصل بين فهم طرق الخير وفهم طرق الشر إذ أحسن ما فيهم من هذا الوجه فهمهم لطرق تلك الأغراض والتوصل إليها بالرأي

فأما أهل العلم بالله وبأمره فعلمهم متلقى عن النبوة إما نصا أو استنباطا فلا يحتاجون إلى أن يضيفوه إلى أنفسهم وإنما لهم فيه الأتباع فمن فهم حكمة الشارع منهم كان هو الفقيه حقا ومن اكتفى بالاتباع لم يضره أن لا يتكلف علم ما لا يلزمه إذا كان على بصيرة من أمره مع أنه هو الفقه الحقيقى والرأي السديد والقياس المستقيم - والله سبحانه أعلم

=======

أول ص 24-


الوجه الرابع والعشرون

إن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها

والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء لكن صارت في عرف الفقهاء عباره عما أفضت إلى فعل محرم ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة ولهذا قيل الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء لكونها في نفسها فسادا بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه أو لكونها مفضية إلى فساد بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة وهي مفضية إلى ضرر أكثر منها فتحرم فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة وإلا سميت سببا ومقتضيا ونحو ذلك من الأسماء المشهورة ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي لكن الطبع متقاض لإقضائها وأما إن كانت إنما تفضي أحيانا فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل وإلا حرمها أيضا ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا القسم الثاني يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة وقد لا يقترن كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع

فصارت الأقسام ثلاثة:

الأول: ما هو ذريعة وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ وكقرض بني آدم

الثاتي: ما هو ذريعة لا يحتال بها كسبط الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن

الثالث: ما يحتال به من المباحات في الأصل كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة

والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع

وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقول القائل لم أقصد به ذلك ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفي من نفسه على نفسه

وللشريعة أسرار في سد الفساد وجسم مادة الشر لعلم الشارع بما جلبت عليه النفوس وبما يخفي على الناس من خفى هداها الذي لايزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه وهو ان نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أوقلة فقه في الدين وعدم بصيرة

أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر فنذكر منها ما حضر:

فالأول: قوله سيحانه وتعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } حرم سب الآلهة مع أنه عبادة لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم

الثاني: ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال: [ من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: با رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ] متفق عليه - ولفظ البخاري: [ أن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا يا رسول الته كيف بلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ] فقد جعل النبي ﷺ الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن له يقصده وبين هذا والذي قبله فرق لأن سب أبا الناس هنا حرام لكن قد جعله النبي ﷺ من أكبر الكبائر لكونه شتما لوالديه لما فيه من العقوق وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره

الثالث: إن النبي ﷺ كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمدا ﷺ يقتل أصحابه لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام

الرابع: إن الله سبحانه حرم الخمر لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل وهذا في الأصل ليس من هذا الباب ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم إقتناءها للتخليل وجعلها نجسة لئلا تقضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها ثم أنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها حسما لمادة ذلك وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف - وبين ﷺ أنه إنما نهى بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة فقال: [ لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه ] يعني ﷺ أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا

الخامس: أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير

السادس: إنه نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ونهى من تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها ونهى عن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة

السابع: إنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود الكفار للشمس ففي ذلك تشبيه بهم ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطي بعض أحكامه فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها

الثامن: إنه نهى ﷺ عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة مثل قوله [ إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم - إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم ] وقوله ﷺ في عاشوراء: [ لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ] وقال في موضع: [ لا تشبهوا بالأعاجم ] وقال فيما رواه الترمذي: [ ليس منا من تشبه بغيرنا ] حتى قال حذيفة ابن اليماني من تشبه بقوم فهو منهم وما ذاك إلا لأن المشابهة في بعض الهدى الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب وذلك يجر إلى فساد عريض

التاسع: إنه ﷺ نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها وقال: [ إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ] حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي ﷺ أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك لأن الطباع تتغير فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم وإن زعم أن به قوة على العدل بينهن مع الكثرة وكذلك عند من زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المؤونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن وقد بين العين الأولى بقوله تعالى: { ذلك أدنى أن لا تعولوا } وهذا نص في اعتبار الذريعة

العاشر: إن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في أنقضائها ليس هو إلى المرأة فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك

الحادي عشر: إن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين

الثاني عشر: إن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به مثل اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما ومثل اشتراط الولي فيه وضع المرأة أن تليه وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة وكان أصل ذلك في قوله تعالى: { محصنين غير مسافحين } و{ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الإستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الإستمتاع فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى: { نسبا وصهرا } وهذه المقاصد تمنع إشتباهه بالسفاح وتبين أن نكاح المحل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غيرمتيقنة فيه

الثالث عشر: إن النبي ﷺ نهى أن بجمع الرجل ببن سلف وبيع وهو حديث صحيح ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح وإنما ذاك لأن إقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين وهذا هو معنى الربا

ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مدعجوة قال إن من جوزها يجوز أن ببيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر يقصد بذلك أن هذا ذريعة إلى الربا وهذه علة صحيحة في مسألة مدعجوة لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويببعه المنديل بخمسمائة وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله ﷺ والعلة المتتدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له

الرابع عشر: إذ الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطأ على الربا وما ذاك إلا سدا للذريعة

الخامس عشر: إنه تقدم عن النبي ﷺ وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض إلى أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية ومنع الشافع قبول الهدية فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية

السادس عشر: إن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من الميراث شيء إما القاتل عمدا كما قال مالك والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما أو القاتل قتل مضمونا يقود أو دية أو كفارة أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر

السابع عشر: إن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان لأن الطلاق ذريعة وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف مأخذ الشارع في ذلك أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين

الثامن عشر: إن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك لئلا بكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء

التاسع عشر: أن النبي ﷺ نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب لئلا ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار

العشرون: إن النبي ﷺ نهى عن تقدم رمضان يصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه ونهى عن صوم يوم الشك إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو وأما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم تمييزا لوقت العبادة من غيره لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة وكذلك ندب إلا تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها فكرة للإمام أن يتطوع في مكانه وأن يستديم استقبال القبلة وندب المأموم إلا هذا التمييز ومن جملة فوائد ذلك سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض

الحادي والعشرون: إنه ﷺ كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه

الثاني والعشرون: إنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي ﷺ راعنا مع قصدهم الصالح لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه ﷺ ولئلا يشتبه بهم ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا

الثالث والعشرون: إنه أوجب الشفعة لما فيه من رفع الشركة وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة سدا لهذه المفسدة بحسب الإمكان

الرابع والعشرون: إن الله سبحانه أمر رسوله ﷺ أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه الباطن وأمره أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق وأن لا يقبل شهادة ظنين في قرابة وإن وثق بتقواه حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء لينضبط طريق الحكم فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فية من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة وإن أفضت في أحاد الصور إلى الحكم لغير الحق فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير

الخامس والعشرون: إن الله سبحانه منع رسول الله ﷺ لما كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشكرون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به

السادس والعشرون: إن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر وإن كانت العقوبات من جنس الشر ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك فإنه اكتفى فيه بالتعزيز ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة وإن تاب العاصي عند ذلك وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له

السابع والعشرون: إنه ﷺ سن الإجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الإعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات لا يكاد ينضبط وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال وزجر عن ذرائع الفرقة وهي من الأفعال أيضا

الثامن والعشرون: إن السنة مضت بكراهة إفراد وجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع

التاسع والعشرون: إن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا أفضى مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم

الثلاثون: أن النبي ﷺ أمر الذي أرسل معه بهدية إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله الذي قلده بدمه ويخلي بينه وبين الناس ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته قالوا وسبب ذلك أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها لحصول غرضه بعطبها دون المحل كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء فإذا آيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل وأحسم لمادة هذا الفساد وهذا من ألطف سد الذرائع

والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثوز عن الصدر الأول شائع عنهم إذا الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول لا يحتج بها ولم يذكر الحيل التي قصد بها الحرام كاحتيال اليهود ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع هذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا

ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخرى غير ما ذكرناه من الذرائع وإنما قصدنا أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به المحرم أو بأن لا يقصد به يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله وأولى بأن لايعان صاحبه عليه وهذا بين لمن تأمله والله الهادي إلى سواء الصراط

واعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فإن الشارع سد الطريق إلى ذلك المحرم بكل طريق والمحتال يريد أن يتوسل إليه ولهذا لما اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطا سد ببعضها التذرع إلى الزنا والربا وكمل بها مقصود العقود لم يمكن المحتال الخروج عنها في الظاهر فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع الشارع منه آتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع ذريعته فلا يبقى لتلك الشروط التي تأتي بها فائدة ولا حقيقة بل يبقى بمنزلة العبث واللعب وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة

ولهذا تجد الصحيح الفطرة لا يحافظ على تلك الشروط لرؤيته أن مقصود الشروط تحقيق حكم ما شرطت له والمنع من شيء آخر وهو إنما قصده ذاك لا الآخر ولا ما شرطت له ولهذا تجد المحتالين على الربا وعلى حل المطلقة وعلى حل اليمين لا يتمسكون بشروط البيع والنكاح والخلع لعدم فائدة نتعلق لهم بذلك ولتعلق رغبتهم بما منعوا منه من الربا وعود المرأة إلى زوجها وإسقاط الثمن المعقود واعتبر هذا بالشفعة فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه وهو لايخرج الملك عن مالكه بقيمة أو بغير قيمة إلا لمصلحة راجحة وكانت المصلحة هنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرار الشركة والقسمة وليس في هذا التكميل ضرر على الشريك البائع لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشتري والشريك أو الأجنبي والذي يحتال لإسقاطها بأن يكون البائع غرضه بيعه للأجنبي دون الشريك إما ضرارا للشريك أو نفعا للأجنبي ليس هو مناقضا لمقصود الشارع مضادا له في حكمه فالشارع يقول لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك وهذا يقول لا تلتفت إلى الشريك واعطه لمن شئت ثم إذا كان الثمن مثلا ألف درهم فعاقده على ألفين وقبض منه تسعمائة وصارفه عن الألف ومائه بعشرة دنانير فتعذر على الشريك الأخذ أليس عين مقصود الشارع فوته مع إظهاره أنه إنما فعل ما أذن الشارع فيه وهذا بين لمن تأمله

واعلم أن المقصود هنا بيان تحريم الحيل وأن صاحبها متعرض لسخط الله سبحانه وأليم عقابه ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان وذلك في كل حيلة بحسبها فلا يحلو الاحتيال أن يكون من واحد أو من أثنين فأكثر

فإن كان الاحتيال من اثنين فأكثر فإن كانا عقدا بيعين تواطأ عليهما تحيلا إلى الربا كما في العينة حكم بفساد ذينك العقدين ويرد إلى الأول رأس ماله كما ذكرت عائشة لأم زيد بن أرقم وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا لا يحل الانتفاع به بل يجب رده إن كان باقيا وبدله إن كان فائتا وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض أو إجارة وقرض أو مضاربة أو شركة أو مساقاة أو مزارعة مع قرض حكم بفسادهما فيجب أن يرد عليه بدل ماله فيما جعلاه قرضا والعقد الآخر فاسدا له حكم الأنكحة الفاسدة وكذلك إن كان نكاحا تواطأ عليه كان نكاحا فاسدا له حكم الأنكحة الفاسدة وكذلك إذا تواطأ على بيع أو هبة لإسقاط الزكاة أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد أو وقف فساد مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتواطىء رجلا على أن تهبه العبد فيزوجها به ثم يهبها إياه لينفسخ النكاح فإن هذا البيع والهبة فاسدان في جميع الأحكام فإن كان الاحتيال من واحد فإن كانت حيلة يستقل بها لم يحصل غرضه فإن كانت عقدا كان عقدا فاسدا مثل أن يهب لإبنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا تجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة في شيء من الأحكام لكن إن ظهر المقصود ترتب علبه الحكم ظاهرا وباطنا وإلا بقيت فاسدة في الباظن فقط وإن كانت حيلة لا يستقل بها مثل أن ينوي التحليل ولايظهر للزوجة أو يرتجع المرأة ضرارا بها أو يهب ماله ضرارا لورثته ونحو ذلك كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت وإذا علم الموهوب له أو الموصى له غرضه لم يحصل له الملك في الباطن فلا يحل الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه لولا العقد المحتال به وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذي لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة

ولهذا نظائر في الشريعة كثيرة وإن كانت الحيلة له وعليه كطلاق المريض صحح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصحح من حيث أنه بمنع الإرث فإنه إنما منع من قطع الإرث لا من ! زالة ملك البضع

وأما إذا كانت الحيلة فعلا يفضي إلى غرض له مثل أن يسافر في الصيف ليتأخر عنه للصوم إلى الشتاء لم يحصل غرضه بل يجب عليه الصوم في هدا السفر فإن كان يفضي إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه لينفسخ نكاحه أو مثل أن يباشر المرأة ابن زوجها أو أبوه عند من يرى ذلك محرما فهده الحيلة بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق لله يترتب عليها فسخ النكاح ضمنا

والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد وصار هذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة ذهنه أو خله أو دبسه لأن يلقي فيه نجاسة فإن نجاسة المائعات بالمخالطة وتحريم المصاهرة بالمباشرة أحكام تنبت بأمور حسية لا ترفع الأحكام مع وجوب تلك الأسباب

وإن كانت الحيلة فعلا يفضي إلى التحليل له أو لغيره مثل أن يقتل رجلا ليتزوج امرأته أو ليزوجها صديقا له فهنا تحل المرأة بغير من قصد تزوجها به فإنها بالئسبة إليه كما لو قتل الزوج لمعنى فيه وأما الذي قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأتها أوغير مواطأتها فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لوخلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع من غير أن يلقي فيها شيئا فإن التخليل لما حصل بفعل محرم اختلف فيه والصحيح أنها لا تظهر وإن كانت لو تخللت بفعل الله حلت وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت فإذا قتله لهدا القصد أمكن أن تحرم عليه مع حلها لغيره ويشبه هذا الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحلل للحلال

ومما يؤيد هذا: أن القاتل يمنعه الإرث ولم يمنع غيره من الورثة لكن لما كان مال الرجل تتطلع عليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال بخلاف الزوجة فإن ذلك لايكاد يقصد إذ التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الوارث إلى مال الموروث قليل فكونه يقتله ليتزوجها أقل فلذلك لم يشرع أن كل من قتل رجلا حرمت عليه امرأته كما يمنع ميراثه فإذا قصد التزوج فقد وجدت حقيقة لحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده

فأكثر ما يقال في رد هذا أن الأفعال المحرمة لحق الله سبحانه وتعالى لا تفيد الحل كذبح الصيد وتحليل الخمر والتذكية في غير المحلل أما المحرم لحق آدمي كذبح المغصوب فإنه يفيد الحل أو يقال أن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل فحصل الحل ضمنا وتبعا

ويمكن أن يقال في جواب هذا أن قتل الآدمي حرام لحق الله سبحانه وحق الآدمي ألا ترى أنه لا يستباح بالإباحة بخلاف ذبح المغصوب فإنه إنما حرم لمحض حق الآدمي فإنه لو أباحه حل وفي الحقيقة فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إرهاق الروح

ثم يقال قد اختلف في الذبح بآلة مغصوبة وقد ذكر فيه عن الإمام أحمد روايتان وكذلك اختلف العلماء في ذبح المغصوب وإن كان المعروف عندنا أنه ذكي كما قد نص عليه الإمام أحمد وفيه حديث رافع بن خديج المشهور في ذبح الغنم المنهوبة والحديث الآخر أن المرأة التي أضافت النبي ﷺ لما ذبحت له الشاة التي أخذتها بدون إذن أهلها فقصت عليه القصة فقال أطعموها للأسارى وهذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع منه المذبوح له دون غيره كما أن الصيد إذا ذبحه الحلال لحرام حرم على الحرام دون الحلال وقد نقل صالح عن أبيه قال لو أن رجلا سرق شاة فذبحها قال لا يحل أكلها يعني له قلت لأبي فإن ردها على صاحبها قال تؤكل فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقا لأنه لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن في الأكل لم يخص الذابح بالتحريم

فهذا القول الذي دل عليه الحديث في الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى

فتلخص أن الحيل نوعان: أقوال وأفعال

والأقوال يشترط لثبوت أحكامها العقل ويعتبر فيها القصد وتكون صحيحة تارة وهو ما ترتب أثره عليه فأفاد حكمه وفاسدة أخرى وهو ما لم يكن كذلك ثم ما ثبت حكمه منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه كالبيع والنكاح ومنه ما لا يمكن رفعه بعد وقوعه كالعتق والطلاق فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم أو إسقاط واجب أمكن إبطاله إما من جميع الوجوه وإما من الوجه الذي يبطل مقصود المحتال بحيث لا يترتب علبه حكمه للمحتال عليه كما حكم به أصحاب رسول الله ﷺ في طلاق العار وكما يحكم به في الإقرار الذي يتضمن حقا للمقر وعليه وكما يحكم به فيمن اشترى عبدا يعترف بأنه حر

وأما الأفعال فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم يحصل كالسفر للقصر والفطر وإن اقتضت تحريما على الغير فإنه قد يقع ويكون بمنزلة إتلاف النفس والمال وإن أقتضت حلا عاما إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال وذبح المغصوب للغاصب

وبالجملة إذا قصد بالفعل إستباحة محرم لم يحل له وإن قصد إزالة ملك الغير لتحل فالأقيس أن لا يحل له أيضا وإن حل لغيره

وهنا مسائل كثيرة لا يمكن ذكرها هنا

وقد دخل في القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة فهي لا تمشي غالبا إلا عند من يقول أن الفرقة تتنجز بنفس الردة أو يقول بأنها لا تقتل فالواجب في مثل هذه الحيلة أن لا ينفسخ بها النكاح وأذا ثبت عند القاضي أنها إنما ارتدت لذلك لم يفرق بينهما وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل غير مرتدة من جهة فساد النكاح حتى لو فرض أنها توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق الميراث لكن لا يجوز له وطؤها في حال الردة فإن الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو مكنت من وطئها أو أحرمت لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم أقرت أنها إنما ارتدت لفسخ النكاح لم يقبل هذا لا سيما إذا كان قد يجعل هذا ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة بأن تلقن إني إنما ارتددت للفسخ ولأنها متهمة في ذلك ولأن الأصل أنها مرتدة في جميع الأحكام نبهنا على هذا القدر من أبطال الحيل والكلام في التفاصيل ليس هدا موضعه وربما جاء شيء منه على خلاف قياس التصرفات المباحة كما قيل لشريح أنك قد أحدثت في القضاء قال: أحدثوا فأحدثنا وهذا القدر أنموذج منه يستدل به على غيره

والكلام في إبطال الحيل باب واسع يحتمل كتابا كبيرا يبين فيه أنواعها وأدلة كل نوع ويستوفي ما في ذلك من الأدلة والأحكام ولم يكن قصدنا الأول هنا إلا التنبيه على إبطالها بإشارة تمهد القاعدة لمسألة التحليل وقد استدل عليه البخاري وغيره بقوله ﷺ: [ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ] فإن هذا النهي يعم ما قبل الحلول وبعده وبقوله ﷺ في الطاعون: [ وإذا وقع يأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ] فإذا كان قد نهى عن الفرار من قدر الله سبحانه إذا نزل بالعبد رضاء بقضاء الله سبحانه وتسليما لحكمه فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد؟ وبأنه ﷺ نهى عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ

فعلم أن الشيء الذي هو نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرما وقد تقدم أن من جملة ما استدل به أحمد على إبطال الحيل لعنه المحلل والمحلل له وهو من أقوى الأدلة على بطلان الحيل عموما كما أن إبطال الحيل يدل عليه لكن لم نذكره ها هنا في أدلة الحيل لأن القصد أن يستدل ببطلان الحيل على بطلان التحليل بغير أدلة التحليل الخاصة فلو استدللنا هنا على بطلان الحيل بما دل على بطلان التحليل ثم استدللنا ببطلان الحيل على بطلان التحليل لكان تطويلا وتكريرا وحشوا - والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم

فإن قيل: فهذا الذي ذكرتموه من الأدلة على بطلان الحيل معارض بما يدل على جوازها وهو قوله سبحانه: { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد } فقد أذن الله سبحانه لنبيه أيوب عليه السلام أن يتحلل من يمينه بالضرب بالضغت وقد كان في ظاهر الأمر عليه أن يضرب ضربات متفرقة وهذا نوع من الحيلة فنحن نقيس سائر الباب على هذا

قلنا:

أولا: ليس هذا مما نحن فيه فإن الفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا عند الإطلاق على قولين:

أحدهما: قول من يقول موجبها الضرب مجموعا أو مفرقا ثم منهم من يشترط مع الجميع الوصول إلى المضروب فعلى هذا ئكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق وليس هذا بحيلة إنما الحيلة أن يصرف اللفظ عن موجبه عند الإطلاق

والثاني: إن موجبه الضرب المفرق فإذا كان هذا موجب شرعنا لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا بخلافه

وقلنا ثانيا: من تأمل الآية علم أن هذه الفتيا خاصة الحكم فإنها لو كانت عامة في حق كل أحد لم يخفف على نبي كريم موجب يمينه ولم يكن في إقتصاصها علينا كبير عبرة فإنما يقص ما خرج عن نظائره ليعتبر به أما ما كان مقتضي العبارة والقياس فلا يقص ولأته قد قال عقيب هذه الفتيا ( إنا وجدناه صابرا ) وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل كما في نظائره فعلم أن الله إنما أفتاه بهذا جزاء له على صبره تخفيفا عنه ورحمة به لأن هذا هو موجب هذه اليمين

وقلنا ثالثا: معلوم أن الله سبحانه إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث كما أخبر الله سبحانه وكما قد نقل أهل التفسير أنه كان قد حلف لئن شفاه الله سبحانه ليضربنها مائة سوط لما تمثل لها الشيطان وأمرها بنوع من الشرك لم تفطن له لتأمر به أيوب

وهذا يدل على أن كفارة الأيمان لم تكن مشروعة في تلك الشريعة بل ليس في اليمين إلا البر أو الحنث كما هو في النذر نذر التبرر في شريعتنا وكما قالت عائشة رضي الله عنها كان أبو بكر لا يحنث في يمينه حتى أنزل الله كفارة اليمين فعلم أنها لم تكن مشروعة في أول الإسلام وإذا كان كذلك فصار كأنه قد نذر ضربها وهو نذر لا يجب الوفاء به لما فيه من الضرر عليها ولا يغبن عنه كفارة يمين لأن تكفير النذر فرع تكفير اليمين فإذا لم يكن هذا مشروعا فذاك أولى والواجب بالنذر يحتذي به حذو الواجب بالشرع فإذا كان الضرر الواجب بالشرع في الحد يجب تفريقه إذا كان المضروب صحيحا ويضرب بعثكول النخل ونحوه إذا كان مريضا مأيوسا منه عند الجماعة أومريضا على الإطلاق عند بعضهم كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله ﷺ جاز أن يقام الواجب بالنذز مقام ذلك

وقد كانت امرأة أيوب امرأة ضعيفة وكريمة على ربها فخفف عنها الواجب بالنذر بجمع الضربات كما يخفف عن المريض ونحوه

ألا ترى أن السنة قد جاءت فيمن نذر الصدقة بجميع ماله أنه يجزيه الثلث أقام في النذر الثلث مقام الجميع كما أقيم مقامه في الوصية وغيرها لما في إخراج الجمبع من الضرر وجاءت السنة فيمن نذرت الحج ماشية أن تركب وتهدي إقامة لترك بعض الواجب بالنذر مقام ترك بعض الواجب بالشرع من المناسك وأفتى ابن عباس وغيره فيمن نذر ذبح ابنه بشاة إقامة لذبح الشاة مقام ذبح الابن كما شرع ذلك للخليل عليه السلام وأفتى أيضا فيمن نذر أن يطوف على أربع بأن يطوف أسبوعين إقامة لأحد الأسبوعين مقام طواف اليدين وهذا كثير فكانت قصة أيوب - والله أعلم - من هذا الباب

وغير مستكثر في واجبات الشريعة أن يخفف الله الشيء عند المشقة بفعل ما يشبهه من بعض الوجوه كما في الإبدال وغيرها لكن مثل هذا لا يحتاج إليه في شريعتنا لأن رجلا لو حلف أن يضرب أمرأته أمكنه أن يكفر يمينه من غير احتياج إلى تخفيف الضرب ولو نذر ذلك فأقصى ما عليه كفارة يمين عند الإمام أحمد وغبره ممن يقول بكفارة اليمين في نذر المعصية والمباح أو يقال لا شيء عليه بالكلية وهذا معنى حسن لمن تأمله ومما يوضح ذلك أن المطلق من كلام الآدميين محمول على ما فسر به المطلق من كلام الشارع خصوصا في الإيمان فإن الرجوع فيها إلى عرف الخطاب شرعا أو عادة أولى من الرجوع فيها إلى موجب اللفظ في أصل اللغة ثم إن الله سبحانه لما قال: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } فهم المسلمون من ذلك إن الزاني والقاذف إذا كان صحيحا لم يجز ضربه إلا مفرقا وإن كان مريضا مأيوسا من برئه ضرب بعثكول التخل ونحوه وإن كان مرجو البرء فهل يؤخر إقامة الحد عليه أو يقام على الخلاف المشهور

فكيف يقال أن الحالف ليضربن يكون موجب يمينه الضرب المجموع مع صحة المضروب وجلده؟ هذا خلاف الفاعدة فعلم أن قصة أيوب كان فيها معنى يوجب جواز الجمع وإن كان ذلك ليس موجب الإطلاق وهو المقصود وإنما ذكرنا هذا المختصر لأن عمدة المحتالين ما تأولوا عليه هذه الآية ولا يخفى فساد تأويلهم لمن تأمل

فإن قيل: فقد روى أبو سعيد الخدري قال جاء بلال إلى النبي ﷺ بتمر برني فقال له النبي ﷺ: [ من أين هذا؟ فقال بلال: كان عندنا تمر ردي فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي ﷺ فقال له النبي ﷺ - عند ذلك - أوه عين الربا لاتفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بيع آخر ثم اشتر به ] متفق عليه وفي رواية البخاري عن أبي سعيد وأبي هريرة: [ إن رسول الله ﷺ استعمل رجلا على خيبر فأتاه بتمر جنيب فقال له أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ] وقال في الميزان مثل ذلك وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد: [ بعه بسلعة ثم إبتع بسلعتك أي التمر شئت ] فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم ثم يبتاع بالدراهم تمرا أقل منه ولكنه أطيب وإن كان بيع التمر بالتمر متفاضلا لا يجوز وهذا ضرب من الحيلة

قلنا: ليس هذا من الحيلة المحرمة في شيء وقد استوفينا الكلام على الفرق بين هذا وبين الحيل في الوجه الخامس عشر الذي فيه أفسام الحيل وببان أن قوله ﷺ [ بع بالدراهم ثم إبتع بالدراهم جنيبا ] لم يأمره أن يبتاع بها من المشترى منه وإنما أمره ببيع مطلق وشراء مطلق والبيع المطلق هو البيع البتات الذي ليس فيه مشارطة ومواطأة عل عود السلعة إلى البائع ولا على إعادة الثمن إلى المشتري بعقد آخر وهذا بيع مقصود وشراء مقصود ولو باع من الرجل بيعا بتاتا ليس فيه مواطأة لفظية ولا عرفية على الشراء منه ولا قصد لذلك ثم إبتاع منه لجاز ذلك بخلاف ما إذا كان القصد أن يشتري منه ابتداء وقد عرف ذلك بلفظ أو عرف فهناك لا يكون الأول بيعا ولا الثاني شراء منه لأنه ليس ببتات فلا يدخل في الحديث وإذا كان قصده الشراء منه من غير مواطأة ففيه خلاف تقدم ذكره

وذكرنا أنهما إذا اتفقا على أن يشتري منه ثم يبيعه فهذا بيعتان في بيعة وقد صح عن النبي ﷺ النهي عنه وذكرنا أن النبي ﷺ إنما أمره ببيع مطلق وذلك إنما يفيد البيع الشرعي فحيث وقع فيه ما يفسده لم يدخل في هذا

وبينا أن العقود متى قصد بها ما شرعت له لم تكن حيلة قال الميموني قلت لأبي عبد الله من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها هل تجوز تلك الحيلة؟ قال نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز قلت أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا وإذا وجدنا لهم قولا في شيء اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو قلت وليس هذا منا نحن بحيلة؟ قال نعم فبين أحمد أن اتباع الطريق الجائزة المشروعة ليس هو من الحيلة المنهى عنها ولا يسمى حيلة على الإطلاق وإن سمي في اللغة حيلة

وقد تقدم ذكر أقسام الحيل وأحكامها في الوجه الخامس عشر وذكرنا أن كل تصرف يقصد به العاقد مقصوده الشرعي فهو جائز وله أن يتوسل به إلى أمر آخر مباح بخلاف من قصد ما ينافي المقصود الشرعي والله سبحانه أعلم

فإن قيل: الاحتيال أمر باطن في القلب ونحن قد أمرنا أن نقبل من الناس علانيتهم ولم نؤمر أن ننقب عن قلوبهم ولا نشق بطونهم فمتى رأينا عقد بيع أو نكاح أو خلع أوهبة حكمنا بصحته بناء على الظاهر والله يتولى سرائرهم

قلنا: الجواب من وجهين:

أحدهما: إن الخلق أمروا أن يقبل بعضهم من بعض ما يظهره دون الالتفاف إلى باطن لا سبيل إلى معرفته وأما معاملة العبد ربه فإن مبناها على المقاصد والنيات والسرائر وانما الأعمال بالنيات فمن أظهر قولا سديدا ولم يكن قد قصد له حقيقته كان آثما عاصيا لربه وإن قبل الناس منه الظاهر كالمنافق الذي يقبل المسلمون منه علانيته وهو عند الله في الدرك الإسفل من النار فكذلك هؤلاء المخادعون بعقود ظاهرها حسن وباطنها قبيح هم منافقون بذلك فهم آثمون عاصون فيما بينهم وبين الله وإن كانت الأحكام الدنيوية إنما تجري على الظاهر ونحن قصدنا أن نبين أن الحيلة محرمة عند الله وفيما بين العبد وبين ربه وإن كان الئاس لا يعلمون أن صاحبها فعل محرما وهذا بين

الثاتي: إنا إنما نقبل من الرجل ظاهره وعلانيته إذا لم يظهر لنا أن باطنه مخالف لظاهره فأما إذا أظهر ذلك رتبنا الحكم على ذلك فكنا حاكمين أيضا بالظاهر الدال على الباطن لا بمجرد باطن فإنا إذا رأينا تيسا من التيوس معروفا بكثرة التحليل وهو من سقاط الناس دبنا وخلقا ودنيا قد زوج فتاة الحي التي ينتخب لها الأكفاء بصداق أقل من ثلاثة دراهم أو بصداق يبلغ ألوفا مؤلفة لا يصدق مثلها قريبا منه ثم عجل لها بالطلاق أو بالخلع وربما انضم إلى ذلك استعطاف قلبه والإحسان إليه علم قطعا وجود التحليل ومن شك في ذلك فهو مصاب في عقله وكذلك مثل هذا في البيع وغيره وأقل ما يجب على من تبين له ذلك أن لا يعين عليه وأن يعظ فاعله وينهاه عن التحلل ويستفسره عن جلية الحال

فإن قيل: الاحتيال سعي في استحلال الشيء بطريق مباح وهذا جائز فإن البيع احتيال على حل البيع والنكاح احتيال على البضع وهكذا جميع الأسباب فإنها حيل على حل ما كان حراما قبلها وهذا جائز نعم من أحتال عنى تناول الحرام بغير سبب مبيح فهذا هو الحرام بلا ريب ونحن إنما نحتال عليه بسبب مبيح

قيل: قد تقدم الجواب عن هذا مستوفى لما ذكرنا أقسام الحيل في الوجه الخامس عشر وذكرنا أن هذا مثل قياس الذين قالوا إنما البيع متل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا وذلك أن الله سبحانه جعل بعض الأسباب طريقتا إلى ملك الأسبال والإبضاع وغير ذلك كما جعل البيع طريقا إلى ملك المال والنكاح طريقا إلى ملك البضع ومن أراد أن يستبيح الشيء بطريقه الذي شرع له لم يكن محتالا تليس هذا من الحيلة في شيء وإنما الحيلة أن يباشر السبب لا يقصد به ما جعل ذلك السبب له وإنما يقصد به استحلال أمر آخر لم يشرع ذلك السبب له من غير قصد منه للسبب المبيح لذلك الأمر الآخر إما بأن لا يكون إلى حل ذلك المحرم طريق أو لا يكون الطريق مما يمكنه قصده بوجه من الوجوه كمن يريد استحلال معنى الربا بصور القرض والبيع وإعادة المرأة إلى المطلق بالتحلبل وهذا معنى قوله ﷺ [ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ] فأين من قصد بالعقود استحلال ما جعلت العقود موجبة له إلى من لا يقصد مقصود العقود ولا له رغبة في موجبها ومقتضاها وإنما يريد أن يأتي بصورها ليستحل ما حرمه الله من الأشياء التي لم يأذن الله في قصد استحلالها؟ وقد تقدم إيضاح هذا في ذكر أقسام الحيل

==========

صفحة 25.




الطريق الثاني: إبطال التحليل في النكاح
فصل

وأما الطريق الثاني في إبطال التحليل في النكاح الدلالة على عين المسألة وذلك من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس الواجب عند تساوي الدلالة الابتداء بالكتاب ولكن لكون دلالة السنة أبين ابتداء أنابها وفي هذا الطريق مسالك:

المسلك الأول

ما رواه سفيان الثوري عن ابن قيس الأزدي عن هذيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [ لعن رسول الله ﷺ الواشمة والموشومة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله ] رواه أحمد والنسائي وروى الترمذي منه: [ لعن المحلل والمحلل له ] وقال: حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم مثل أصحاب النبي ﷺ منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس ورواه أحمد من حديث أبي الواصل عن ابن مسعود عن النبي ﷺ: [ لعن الله المحلل والمحلل له ] وعن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحرث عن اين مسعود قال: [ آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوي الصدقة والمتعدي فيها والمرتد على عقبيه إعرابيا بعد هجرته والمحلل والمحلل له ملعونون على لسان محمد ﷺ يوم القيامة ] رواه أحمد والنسائي ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث الشعبى عن الحرث عن علي عن النبي ﷺ: [ أنه لعن المحلل والمحلل له ] وروي عن عثمان بن الأخنس عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: [ لعن الله المحلل والمحلل له ] رواه أحمد وابن أبي شيبة والجوزجاني وإسناده جيد وقال يحيى بن معين وعثمان بن الأخنس ثقة والذي رواه عن عبد الله بن جعفر القرشي وهو ثقة من رجال مسلم وثقة الإمام أحمد ويحيى وعلي وغيرهم وعن ابن عباس عن النبي ﷺ نحو ذلك رواه ابن ماجه وروى ابن ماجه والجوزجاني من حديث عثمان بن صالح قال سمعت الليث بن سعيد يقول قال مشرح بن هاعان قال عقبة بن عامر قال رسول الله ﷺ: [ ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له ] وفي لفظ الجوزجاني: الحال بدل المحلل رواه الجوزجاني عن عثمان وقال كانوا ينكرون على عثمان هذا الحديث إنكارا شديدا

قلت: وإنكار من أنكر هذا الحديث على عثمان غير جيد إنما هو لتوهم انفراده به عن الليث وظنهم أنه لعله أخطأ فيه حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث كما قد يتوهم بعض من يكتب الحديث أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل من ليس بالمشهور من أصحابه كان ذلك شذوذا فيه وعلة فادحة - وهذا لا يتوجه ها هنا لوجهين:

أحدهما: إنه قد تابعه عليه أبو صالح كاتب الليت عنه رويناه من حديث أبي بكر القطيعي أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي: حدثني العباس المعروف بابن فريق: وحدثنا أبو صالح: حدثني الليث به فذكره ورواه أيضا الدار قطني في سننه وحدثنا أبو بكر الشافعي: حدثنا إبراهيم بن الهيثم: أخبرنا أبو صالح فذكر

الثاني: إن عثمان بن صالح هذا المصري ثقة روى عنه البخاري في صحيحه وروى عنه ابن معين وأبو حاتم الرازي وقال الشيخ صالح سليم الناحية قيل له: كان يلقن قال: لا ومن كان بهذه المثاية كان ما ينفرد به حجة وإنما الشاذ ما خالف به الثقاة لا ما انفرد به عنهم فكيف إذا تابعه مثل أبي صالح وهو كاتب الليث وأكثر الناس حديثا عنه وهو ثقة أيضا وإن كان قد وقع في بعض حديثه غلط

ومشرح بن هاعان قال فيه ابن معين ثقة وقال الإمام أحمد هو معروف فثبت أن هذا الحدبث جيد وإسناده حسن

وقال سعيد في سننه حدثنا محمد بن نشيط البصري: سألت بكر بن عبد الله المزني عن رجل طلق امرأته البتة قال: لعن المحلل والمحلل له أولئك كانوا يسمون في الجاهلية بالتيس المستعار وعن الحسن البصري قال كان المسلمون يقولون هو التيس المستعار وقياس العربية أن يقال أو محل كما يجيء في أكثر الروايات وأما ما وقع في بعضها من لفظ الحال ووقع مثله في كلام أحمد فإن كان لغة لم تبلغنا وإلا فيجوز أن يسمى حالا لأنه قصد حل عقدة التحريم فيكون الإسم الأول من التحليل الذي هو ضد التحريم وهذا الإسم من الحل الذي هو ضد العقد ويحتمل أن يسمى حالا على معنى النسب من الحل كما يقال لابن وتامر نسبة إلى التمر واللبن ولم يقصد به اسم الفاعل من التحليل

ويؤيد هذا: أنه إذا قيل والمحلل له ولم يقل المحلول له ويجوز أن يكون سمى بذلك لأنه قصد تحليلها لغيره بواسطة حلها له وحله لها فيكون اسم الفاعل من حل يحل فهو حال ضد حرم يحرم ولأنه توسط أن يكون حلالا لها إلى أن تصير حلالا للغير ثم وجدناه لغة منقولة ذكرها ابن القطاع في أفعاله وغيره يقال حل المرأة لزوجها وأحلها وحلها له إذا تزوجها ليحلها

فهذه سنن رسول الله ﷺ بينة في أنه لعن المحلل والمحلل له وذلك من أبين الأدلة على أن التحليل حرام باطل لأنه لعن المحلل فعلم أن فعله حرام لأن اللعن لا يكون إلا على معصية بل لا يكاد يلعن إلا على فعل كبيرة إذ الصغيرة تقع مكفرة بالحسنات إذ اجتنبت الكبائر - واللعنة هي الإقصاء والإبعاد عن رحمة الله ولن يستوجب ذلك إلا بكبيرة

وكذلك روي عن ابن عباس أنه قال: كل ذنب ختم بغضب أو لعنة أو عذاب أو نار فهو كبيرة رواه عنه أبن أبي طلحة وهذا دليل على بطلان العقد لأن النكاح المحرم باطل باتفاق الفقهاء كيف وقد حملوا نهيه أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها على التحريم والفساد وليس هذا موضع استقصاء ذلك

ثم أنه لعن المحلل له فتبين بذلك أيضا أنها لم تحل له بذلك التحليل إذ لو حلت له لكان نكاحه مباحا فلم يستحق اللعن عليه فعلم أن الذي فعله المحلل حرام باطل وإن تزوج المطلق ثلاثا لأجل هذا التحليل حرام باطل ومع أن مجرد تحريم عقد النكاح كاف في بطلانه ففي خصوص هذا الحديث ما يدل على فساد العقدين لأنه ﷺ لعن المحلل له فلا يخلو إما أن يكون حل للثاني تزوجها وإما أن لايكون حل والأول باطل لأن النبي ﷺ لعنه ولو كانت قد حلت له لكان تزوجه بها جائزا ولم يجز لعنه فتعين الثاني وإذا لم تكن حلالا للثاني فكل امرأة يحرم للتزوج بها فالعقد عليها باطل وهذا ثابت بالإجماع المتيقن بل بالعلم الضروري من الدين

وذلك أن محل العقد كالمبيع والمنكوحة إذا لم يكن مباحا كالميتة والدم والمعتدة والمزوجة كان العقد عليه باطلا بالضرورة والإجماع وإذا ثبت أنها لم تحل للثاني وجب أن يكون العقد الأول عليه باطلا لأنه لو كان صحيحا لحصل به الحل كسائر الأنكحة الصحيحة والكلام المحفوظ لفظا ومعنى في قوله: حتى تنكح زوجا غيره ومن قال أن النكاح صحيح وهي لا تحل به فقد أثبت حكما بلا أصل ولا نظير وهذا لا يجوز

وقولهم تعجل ما أجل الله فعوقب بنقض قصده قلنا إن كان المتعجل به مما لا يمكن إبطاله كالقتل قطعنا عنه حكمه وكذلك إن كان مما لا يمكن رفعه كالطلاق في المرض فإنا نقطع عنه حكمه والمقصود رفعه وهو الإرث ونحوه وأما النكاح فإنه عقد قابل للإبطال فيبطل ثم إذا عاقبنا المحلل له لأنه تعجل المؤجل فكيف لا نعاقب المحلل الذي هو معجل المؤجل وهو أحق بالعقوبة لعدم الغرض له في هذا الفعل وإذا انتفى الداعي إلى المعصية كانت أقبح كزنا الشيخ وزهو الفقير وكذب الملك

فإن قيل إلا أن التحريم وإن اقتضى فساد العقد فإنما ذاك إذا كان التحريم ثابتا من الطرفين فإذا كان التحريم من أحدهما لم يوجب الفساد كببع المصراة والمدلس ونحو ذلك وهنا التحليل المكتوم إنما هو حرام على الزوج المحلل فأما المرأة وليها فليس حراما عليهما إذا لم يعلما بقصد الزوج فلا يكون العقد فاسدا كما ذكرنا من النظائر إذ في إفساده إضرار المغرور من المرأة والولي وصار هذا كما لو اشترى سلعة ليستعين بها على معصية والبائع لا يعلم قصده فإن هذا العقد لا يحكم بفساده وإن حرم على المشتري وكذلك المستأجر ونحوه فالموجب للتحريم كتمان أحدهما لنقص المعقود عليه أو كذبه في وصفه وإذا كان هذا العقد غير فاسد أثبت الحل لأنه مقتضى العقد الصحيح

ثم قد يقال تحل به للأول عملا بالعموم اللفظي والمعنوي وطردا للنظام القياسي وقد يقال بل لا تحل له كما قاله محمد بن الحسن وغيره بناء على أن السبب معصية والمعصية لا تكون سببا للإستحقاق والحل وإن حكم بصحة العقد ووقوع السبب إذا كان ممكنا لا يمكن إبطاله كالطلاق والقتل للمورث ولا يلزم من حلها للزوج المحلل حلها للزوج المطلق لأن الحل الأول حصل ضرورة تصحيح العقد لأجل حق العاقد الآخر ومتى صح بالنسبة إلى المرأة فقد استحقت الصداق والنفقة واستحلت الاستمتاع ولا يثبت هذا إلا مع استحقاق الزوج ملك النكاح واستحلاله الاستمتاع بخلاف المطلق لإنه لا ضرورة هناك تدعو إلى تصحيح عقده

ويؤيد هذا القول: أن بعض السلف منهم عمر وعطاء وقد روي عنهم حواز إمساك الثاني لها إذا حدثت له الرغبة ومنعوا عودها للأول

قلنا: إذا انفرد أحد العاقدين بعلمه بسبب التحريم فإما أن يكون التحربم لأجل حق العاقد الآخر وإما أن يكون لحق الله مثلا فأن كان لأجل حق العاقد الآخر كما في بيع المدلس والمصراة ونكاح المعيبة المدلسة ونحو ذلك فهذا العقد صحيح في حق هذا المغرور باطنا وظاهرا بحيث يحل له ما ملكه بالعقد وإن علم فيما بعد أنه كان مغرورا وإما في حق القار فهل يكون باطلا في الباطن بحيث يحرم عليه الانتفاع أو لا يكون باطلا أو يقال ملكه ملكا حسيا؟ هذا مما قد يختلف فيه الفقهاء ومسالتنا ليست من هذا الضرب وإن كان التحريم لغير حق المتعاقدين بل لحق الله سبحانه أو لحق غيرهما مثل أن يبيعه ما لا يملكه والمشتري لا يعلم أو يبيعه لحما يقول هو ذكي وهو ذبيحة مجوسي أو وثني ومثل أن يتزوج أمرأة وهو يعلم أنها أخته من الرضاعة وهي لا تعلم ذلك أو يكون أحد المبايعين محجورا عليه وهو يعلم بالحجر والآخر لا يعلم أو بالعكس أو لا يعلم أن هذا الحجر يبطل التصرف أو يكون العقد مشتملا على شرط أو وقت أو وصف أو أحدهما لا يعلم حكمه والآخر يعلم إلى نحو هذه الصور التي يكون العقد ليس محلا في نفس الأمر أو العاقد ليس أهلا من الطرفين فهنا العقد باطل في حق العالم بالتحريم باطنا وظاهرا

وإن كان الفقهاء قد اختلفوا هل تستحق المرأة في مثل هذا مهرا وفيه عن أحمد روايتان:

إحداهما: تستحقه وأظنه قول الشافعي

والأخرى: لا تستحقه وأظنه قول مالك فإنما ذاك عند من أوجبه لئلا يخلو الوطء الملحق للنسب عن عوض ووجوب المهر والعدة والنسب ليست من خصائص العقد الصحيح فإنما يثبت في وطء الشبهة أفلم يكن في إيجاب من أوجب المهر ما يقتضي صحة العقد بوجه ما كما أنهم يوجبون العدة في مثل هذا ويلحقون بهم النسب مع بطلان العقد بل كل نكاح فاسد يثبت فيه ذلك وإن كان مجمعا على فساده

وأما في حق من يعلم التحريم كالزوج والمشتري المغرورين فالعقد في حقهما باطل وإن لم يعلما بطلانه وما علمت أحدا من العلماء يصفه بالصحة من وجه ما وإن كان مقتضى أصول بعض الكلاميين أن يكون صحيحا في حق المشتري إما ظاهرا وإما باطنا لكن الفقهاء على أنه فاسد فلا يئبت له بهذا العقد ملك ولا إباحة شيء كان حراما عليه في الباطن لكنه لا يعاقب بالوطء ولا بان بالانتفاع بما ابتاعه لأنه لايعلم التحريم وكونه لم يعلم التحريم لا يوجب أن يكون مباحا له كما أن من لم يعلم تحريم الزنا والخمر وتناولهما لا نقول أنه فعل مباحا له فإن الله سبحانه ما أباح هذا لأحد قط لكن نقول فعل ما لم يعلم تحريمه

ويتحرر الكلام في مثل هذا بنظرين:

أحدهما: في الفعل في الباطن هل هو حرام أو ليس بحرام بل مباح؟

والثاني: في الظاهر هل هو مباح أو ليس بحرام بل عفو؟

النظر الأول: هل يقال الفعل حرام عليه في الباطن لكنه لما لم يعلم التحريم عذر لعدم علمه والفقهاء من أصحابنا وغيرهم ومن يخوض معهم من أهل الكلام ونحوهم يتنازعون في مثل هذا فكثير من المتكلمين وبعض الفقهاء يقولون: هذا ليس بحرام عليه في هذه الحال أصلا وإن كان حراما في الأصل وفي غير هذه الحال كالميتة للمضطر لأن التحريم هو المنع من الفعل والمنع لا يثبت حكمه إلا بإعلام الممنوع أو تمكنه من العلم وهذا لم يعلم التحريم ولا أمكنه علمه فلا تحربم في حقه قالوا والتحريم الثابت في الباطن دون الظاهر لا يعقل فإن حد المحرم ما ذم فاعله أو عوقب أو ما كان سببا للذم أو العقاب أو ما استحق به ذما أو عقابا وهذا الفعل لم يثبت فيه شيء من هذه الخصائص نعم وهذا القول يقوى عند من لا يرى التحريم والتحليل يوجب إلا مجرد نسبة وإضافه تثبت للفعل لتعلق الخطاب به وهذا أيضا قول من يقول كل مجتهد نصيب باطنا وظاهرا

ثم إن كان قد استحله بناء على إمارة شرعية قالوا هو حلال باطنا وظاهرا حلا شرعيا وإن استحله لعدم المحرم قالوا ليس بحرام باطنا ولا ظاهرا ولم يقولوا هو حلال وأما أكثر الفقهاء والمتكلمين فيقولون أنه حرام عليه في الباطن لكن عدم التحريم منع من الذم والعقاب لفوات شرط الذم والعقاب الذي هو العلم وتخلف المقتضى عن المقتضى لفوات شرط أو وجوب مانع لا يقدح في كونه مقتضيا وهذا ينبني على حكم العلة إذ تخلف عنها لفوات شرط أو وجود مانع هل يقدح في كونها علة ويؤخذ من الشرط وعدم المانع قيود تضم إلى تلك الأوصاف فيجعل الجميع علة ولكن يضاف التخلف إلى المانع وفوات الشرط

وهذه مسألة تخصيص العلة وفسادها بالنقض مطلقا خير أو لم يخير والناس في هذه المسألة من أصحابنا وغيرهم مختلفون خلافا مشهورا

فمن قال بتخصيصها فرق بين الشرط وجزاء العلة وعدم المانع وقال قد تقدم الحكم مع بقائها إذا صادفها مانع أو تخلى عنها الشرط المعين

ومن لم يخصصها فعنده الجميع شيء واحد ومتى تخلف عنها الحكم لم يكن علة بحال بل يكون بعض علة

وفصل الخطاب أن العلة الموجبه وهي العلة التامة التي يجب وجود معلولها عند وجودها - فهذه لا تخصص ويقال على العلة المقتضية وإن كانت ناقصة - وهي ما من شأنها أن تقتضي ولكن بشرط أن تصادف محلا لا يعوق - فهذه تخصص فالنزاع عاد إلى عبارة كما تراه ويعود أيضا إلى ملاحظة عقلية وهو أنه عند تخلف المعلول لأجل المعارض هل يلاحظ في العلة وصف الإقتضاء ممنوعا بمنزلة الحجر الهابط إذا صادف سقفا وبمنزلة ذي الشهوة الغالبة بحضرة من يهابه؟ أو يلاحظ معدوما بمنزلة العينين وبمنزلة العشرة إذا نقص منها واحد فإنها لم تبق عشيرة فإذا كان النزاع يعود إلى اعتبار عقلي أو إلى إطلاق لفظي لا إلى حكم عملي أو استدلالي فالأمر قريب وإن كان هذا الخلاف يترتب عليه إصلاح جدلي وهو أنه هل يقبل من المستدل خبر النقض بالفرق بين صورة النزاع وصورة النقض أو لا يقبل منه ذلك بل عليه أن يأتي بوصف يطرد لا ينتقض البتة ومتى انتقض إنقطع فيه أيضا إصطلاحان للمتجادلين

وكان الغالب على أهل العراق في حدود المائة الرابعة قبلها وبعدها إلى قريب من المائة الخامسة إلزام المستدل بطرد علته في مناظراتهم ومصنفاتهم وأما أهل خراسان فلا يلزمونه بذلك بل يلزمونه تبيان تأثير العلة ويجيزون النقض بالفرق وهذا هو الذي غلب على العراقيين بعد المائة الخامسة وتجد الكتب المصنفة لأصحابنا وغيرهم في الخلاف بحسب إصطلاح زمانهم ومكانهم فلما كان العراقيون في زمن القاضي أبي يعلى والقاضي عبد الوهاب من مصر وأبي إسحق الشيرازي ونحوهم يوجبون الإطراد غلب على أقيستهم تحرير العبارات وضبط القياسات المطردات ويستفاد منها القواعد الكليات لكن تبدد الذهن عن نكتة المسألة يحوج المكلم أو المستمع إلى أن يشتغل بما لا يعينه في تلك المسألة عما يعنيه ولهذا كانوا يكلفون بأن يأتي بقياس مطرد ولا يظهر خروج وصفه عن جنس العلل الشرعية وإن لم يقم دليلا على أن ذلك الوصف علة للحكم وربما غلا بعضهم في الطرديات ولما كان العراقيون المتأخرون لا يلزمون هذا فتحوا على نفوسهم سؤال المطالبة بتأثير الوصف وطوائف من متقدمي الخراسانيين فيستفاد من طريقهم الكلام في المناسبات والتأثيرات بحسب ما أحاطوا به من العلم أثرا ورأيا وهذا أشد على المستدل من حيث احتياجه إلى إقامة الدليل على تأثير الوصف والأول أشد عليه من حيث احتياجه إلى الإحتراز عن النقض ولهذا سمى بعضهم الأولين أصحاب الطرد وسمى الآخرين أصحاب التأثير وليس المراد بكونهم أصحاب الطرد أنهم يكتفون بمجرد الوصف المطرد الذي لا يظهر فيه إقتضاء للحكم ولا دلالة عليه ولا إشعار به فإن هذا يبطله جماهيرهم ولم يكن يقول به ويستعمله إلا شر ذمة من الطاردين وفي كل واحدة من الطريقتين ما يقبل ويرد

ولا يمكن هنا تفصيل القول في ذلك لكن الراجح في الجملة قول من يخصص العلة لفوات شرط أو لوجود مانع فإن ملاحظته أقرب إلى المعقول وأشبه بالمنقول وعلى ذلك تصرفات الصحابة والسلف من أئمة الفقهاء وغيرهم ولهذا رجع القاضي أبو يعلى فى آخر عمره إلى ذلك وذكر أن أكثر كلام أحمد يدل عليه وهو كما قال وغيره يقول إنه مذهب الأئمة الأربعة

ولا شك أن من تأمل مناظرتهم علم أنهم كانوا يخصون التعليل بوجود المانع

وأنهم كانوا يجيزون النقض بالفرق بين الفرع وبين صورة النقض إذا كان الفرق مغلوسا في الأصل المقيس عليه أي أن يكون الوصف القائم بصورة النقض مانعا غير موجود في الأصل كما أنه ليس بموجود في الفرع إذ لوكان موجودا في الأصل لم يكن مانعا ولوكان موجودا في الفرع لم يجز النقض وهذا عين الفقه بل هو عين كل علم بل هوعين كل نظر صحيح وكلام سديد

نعم في المسألة قولان متطرفان من الجانبين: قول من يجوز من أصحابنا وغيرهم تخصيص العلة لا لمانع ولا لفوات شرط بل بمجرد دليل كما يخص العموم اللفظي وقول من يقول من أصحابنا وغيرهم أن العلة المنصوصة إذا تخصصت بطل كونها علة وعلم أنها جزء العلة

فهذان قولان ضعيفان وإن كان الثاني لأن المذهب المخصص مستلزم لمانع وإن لم يعلمه فإن هذا إنما يكون له وجه أن لو كانت العلة علمت بنص والمخصص لها نص فهناك لا يضرنا أن لا نعلم المانع المعنوي على نظر فيه إذ قد يقال إن كان التمسك بالعموم اللفظي فلا كلام وان كان التمسك بالعموم المعنوي فقد علمنا انتفاءه مع مانع مجهول فيكون بمنزلة العام إذا استثنى منه شيء مجهول فما من صورة معينة إلا ويمكن أن تكون داخلة في المستثنى منه ويمكن أن تكون داخلة في المستثنى فلا يجوز إدخالها في أحدهما بلا دلبل كذلك كل صورة تفرض وجود العلة فيها إذا كانت مخصصة بنص فلا بد أن يشتمل على مانع معنوي فإن تلك الصورة جاز أن تكون مشتملة على ذلك المانع وجاز أن تكون لم تشتمل عليه ولا يقال اشتمالها على المقتضى معلوم واشتمالها على المانع مشكوك فيه لأن المقتضى الذي يجب العمل به هوما لم يغلب على الظن مصادمة المانع له وهذه العلة منتفية هنا

وهذا المقام أيضا مما اختلف فيه العلماء من أصحابنا وغيرهم وهو جواز التمسك بالظواهر قبل البحث عما يعارضها والمختار عندنا - وعليه يدل كلام أحمد وكلام غيره من الأئمة - أنه ما لم يغلب على الظن عدم المعارض المقاوم وإلا فلا يجوز الجزم بمقتضى يكون جواز تخلفه عن مقتضيه وعدم جوازه في القلب سواء

وتمام الكلام في هذه القواعد ليس هذا موضعه وإنما نبهنا عليه ليظهر المأخذ في قولهم أنه يكون الشيء حراما في الباطن وإن لم يثبت مقتضى التحريم في حق من لم يبلغه للعذر فإن التخلف هنا لفوات شرط ولا يقدح في كونه الفعل مقتضيا للعقاب في الجملة ولهذا لما كان أكثر عقول الفقهاء بل أكثر عقول الناس بل عامة العقول التي لم يكدر صفاها رهج الجدل ويرى صحة كون الشيء بصفة الاقتضاء وإن كان معوقا عن عمله صاروا في عامة ما يفعلونه ويقولونه ينتهجون مناهج القائلين بتخصيص العلة لمانع إذ هذا ثابت في كل ما يتكلم فيه الآدميون وإن كانوا قد يكونون ممن خالف في ذلك إذا جردوا الأصول فلهذا كان الغالب على الناس من الفقهاء وغيرهم من يقبل عقله كون الشيء حراما في الباطن لكن إنتفاء حكم التحريم في حق هذا المعين لفوات شرط العقاب أو لوجود مانع فيه وهذا قوي إذ قيل أن الحل والحرمة قد تكون لمعان في الأفعال تناسب الحكم ويقتضيه وأن العلل الشرعية ليست مجرد علامات وإمارات كما قد يجيب به في المضايق من أصحابنا وغيرهم من يزعم أنه بنصر السنة أنه يرد الأحكام إلى محض المشيئة

فإن من تامل دلالة الكتاب والسنة وإجماع السابقين على توجيه الأحكام بالأوصاف المناسبة والنعوت الملاثمة بل دخل مع الأئمة فيما يشهده بنضائرها من الحكم الباهرة المنظومة في الأحكام الظاهرة والمصالح الدينية والدنيوية التي جاءت بها هذه الشريعة الحنيفية التي قد أربى نورها على الشمس إضاءة وإشراقا وعلى إحكامها على الفلك إنتظاما وإتساقا ثم نازع بعد هذا في أن الأسباب والعلل فيها إقتضاء وملاءمة ورأى ما في الدليل الصرف فهو أحد رجلين: إما معاند يقول بلسانه ما ليس في قلبه وما أكثرالسفسطة من بني آدم عموما ومن المناظرين في العلم خصوصا في جزئيات المقدمات وإن كانوا مجمعين أوكالمجمعين على فسادها في الأنواع الكليات وإما ذاهل جاهل بحقيقة ما يقوله من أن العلل مجرد إمارات مصرفات لم يجمع بين معنى هذا القول وبين ما هو دائما يراه ويقوله في الأحكام الشرعية

وإنما قلنا أن هذا القول قوي إذا رأينا ما في الأفعال المحرمة من المفاسد لأن المفسدة ثابتة في أكثر الأفعال وإن لم يدر الفاعل ألا ترى من شرب الخمر قبل أن يعلم التحريم فإن فسادها من زوال العقل وتوابعه ثابت في حقه وإن لم يعلم نعم العقوبة الحدية وتوابعها في الدنيا والعقوبة الأخروية مشروطة بقيام الحجة عليه وهذا الوصف وإن كان إقتضاء التحريم مثلا مشروط بجعل الشارع أو بالحال التي جعله الشارع فيها مقتضيا فقد وجد هذا الجعل والحال التي حصل فيها هذا الجعل وهنا أمور أربعة:

أحدها: الوصف الثابت المقتضي للحرمة في الحال التي اقتضاها

والثاني: علم الله سبحانه بهذا الوصف المقتضى

والثالث: حكم الله الذي هوالتحريم مثلا فإنه سبحانه لما علم ما في الفعل من المصلحة والمفسدة حكم بمقتضى علمه وهذه الإضافة ترتيب ذاتي عقلي لا ترتيب وجودي زماني كترتيب الصفة على الذات وترتيب العلم على الحياة والترتيب الحاصل في الكلام الموجود في آن واحد ونحو ذلك مما يشهد العقل ملازمته ترتيبا اقتضته الحقيقة وكنه ذلك مغيب عن علم الخلق

والرابع: المحكوم به الذي هو الحرمة القائمة بالفعل سواء جعلت صفة عينية أو جعلت إضافة محضة أو جعلت عينية مضافة فالموجبة للعقوبة هو التحريم وسبب التحريم هو علم الله بما فيه من المفسدة لا نفس المفسدة حتى لا تعلل صفات الله القديمة بالأمور المحدثة كما اعتقده بعض من نازع في هذا المقام بل يضاف حكمة التحريم إلى علة سبب التحريم فإنه سبحانه عليم حكيم فهذا الموجب للعقوبة من العلم والحكم ثابت بكل حال لكن بشرط حصول موجبة قيام الحجة على العباد كما نبه عليه قوله عز وجل: { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }

وإذا كان كذلك فالتحريم الذي هو حكم الله والحرمة التي هي صفة الفعل سواء جعلت إضافة أو عينية والمقتضى للتحريم الذي هو علم الله والمقتضى للحرمة التي هي الوصف الذي هو معلوم الله حتى يضيف الحكم الذي هو وصف الله إلى علمه ويضيف المحكوم به الذي يسمى حكما أيضا وهو صفة الفعل إلى معلومه فهذه الأمور الأربعة ثابتة وإن لم يعلم المكلف بالتحريم فظهر معنى قول جمهور الفقهاء وذوي الفطر السليمة أن هذا محرم باطنا لا ظاهرا والمثل هذا الكلام بعينه إلى مسألة إختلاط أخته بأجنبية والميتة بالمذكي وكل موضع اشتبه فيه الحلال بالحرام على وجه يجب اجتنابهما جميعا وكذلك مسألة إشتباه الواجب بغيره كمن نسي إحدى صلاتين لايعلم عينها

فإن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يطلقون أنه يحرم عليه العينان وتجب عليه الصلاتان ومنهم من يقول المحرم أحدهما وإن واجب الكف عنهما والواجب أحدهما وإن كان عليه فعلهما ثم من الأولين من أصحابنا وغيرهم من ينكر هذا القول ويقول إنتفاء التحريم ملزوم إنتفاء الحرج والحرج هنا حاصل في كل منهما فكيف يكون الوجوب والتحريم منتفيان؟ وهذا الإنكار مستقيم ممن ينكر الوجوب والتحريم في الباطن دون الظاهر كما ذهبت إليه النافية للحكم الباطن الجاعلة حكم الله تعالى في حق كل مجتهد ما اقتضاه اجتهاده وأنه يتبع الاعتقاد ويكون من موجباته ومقتضياته وهذا أصل فاسد مخالف لما كان عليه القرون الماضية الفاضلة وتابعوهم وأما من أقر بالإيجاب والتحريم الباطنين فمعنى قول من قال الحرام أحدهما والواجب أحدهما يعني به الحرام في نفس الأمر أحدهما والواجب في نفس الأمر أحدهما كما إذا اشتبه الظاهر بالنجس فإن النجس في نفس الأمر أحدهما وكما أن الميت في نفس الأمر أحدهما والأخت في نفس الأمر أحدهما والآخر إنما حرم ظاهرا فقط

نعم يبالغ هذا القائل فيقول لا أصف المشتبهة بتحريم البتة وإن أوجبت الإمساك عنها كما لا أصفها بنجاسة ولا بنوة ولاموت

فهنا ثلاث منازل طرفان ووسط إما أن يقال هما جميعا حرامان مطلقا واجبان مطلقا أو يقال ليس الواجب والمحرم إلا أحدهما أو يقال الواجب والمحرم باطنا وظاهرا أحدهما والآخر محرم أو واجب ظاهرا لا باطنا على أنه والله أعلم من وصف بالتحريم إحداهما فقط مطلقا مع إيجابه الكف عنهما أقرب ممن أنكر عليه وأنكر على من خص بالتحريم إحداهما وذلك أنه لو تناولهما معا لم يعاقب عقوبة من فعل محرمين بل من فعل محرما واحدا وكذلك من لم يفعل الصلاة المشتبهة إنما يعاقب على ترك صلاة واحدة

والمسألة وإن كان قد يظن أنها مستمدة من مسألة ما لا يتم الواجب إلا به هل يوصف بالوجوب فنفى الوجوب عن إحداهما هنا ليس كنفي الوجوب عن الزيادة لأن سبب الوجوب هنا عدم علمه وسببه هناك عجزه وعدم العلم إنما يؤثر في الأحكام ظاهرا لا باطنا عند عامة الناس بخلاف العجز فإنه يؤثر فيها باطنا وظاهرا ومن استقرأ أحكام الشريعة استبان له هذا

وحقيقة الأمر أن المتناول لأحدهما يعاقب على المخاطرة والعمل بالجهل بالمقتضى للعقوبة به معنى فيه لا معنى في المحل بخلاف المتناول للميتة فإنه يعاقب لمعنى في الميتة وليست العقوبة والأحكام على ذلك الجنس مثل هذا فإنه لو خاطر ووطىء من لا يظنها زوجته وكانت إياها لم يحدوان إثم وكذلك من شرب ما يعتقده خمرا فلم يكنه لم يحد وإن كان اثما وكذلك من حكم بجهل فصادف الحق هل يبتدىء الحكم في تلك القضية أو ينفذ حكمه؟ للأصحاب فيه وجهان مع الاتفاق على تأثيمه ومن باع واشترى قابضا مقبضا لا يعلم أنه مالك ولا وكيل ثم ثبين أنه وارث أو وكيل هل يصح تصرفه؟ على وجهين مع كونه كان آثما ولو فعله الوكيل بعد العزل قبل أن يعلم به لم يأثم وفي صحة التصرف روايتان وقولان مشهوران للناس وكذا على قياس هذا لوعقد على المشتبهة ثم تبين أنها الأجنبية أو المذكي هل يصح العقد على الوجهين إذا لجهل بالمحلية كالجهل بالأهلية

فإن قلت: أنتم تختارون فيما كان محرما ولم يعلم المكلف تحربمه أنه عفو في حقه لا مباح ظاهرا ولا باطنا فكيف تقولون فيمن إعتقد تحريمه ولم يكن حراما إنه حرام ظاهرا أو حرام مطلقا؟

قلت: لأنه ماحرمه الله تحريما مطلقا لايباح إلا إذا وجد سبب حله وجهل المكلف لا يكون سببا للحل بل غايته أنه سبب للعذر وأما ما أحله الله حلا مطلقا فقد تعرض له أسباب تحريمه وجهل المكلف قد يكون سببا للتحريم فإنه مناسب له من جهة أن عدم العلم بانتفاء الضرر الذي إنعقد بسببه أو خيف وجوده مناسب للمنع من الإقدام شرعا وعقلا وعرفا فإن المريض يمنع ما يخاف ضرره ومن جهة أن الجهل وصف نقص فترتب التحريم عليه ملائم أما ترتب الحل عليه فغير ملائم ألا ترى أن المعصية تكون سببا لشرع التحريم كما دل عليه قوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ويكون سببا للابتلاء بوجود المحرم والحاجة إليه كما دل عليه قصة أصحاب السبت ولا تكون المعصية سببا للحل مع أني قد بينت أني إذا قلت حرمنا عليك فمعناه حربم عليك المخاطرة والأقدام بلا علم لا أن نفس العين محرمة في الحقيقة كما لو اشتبه على المريض الداء بالدواء فإن أهله يمنعونه منهما لا لأنهما داآن مضران بل لما في المخاطرة من مفسدة مواقعة الضرر وهذا الوصف يشمل العينين جميعا بحيث لو خاطر وتناول إحداهما فكانت هي الحرمة لكان عليه إلا عقوبة المخاطرة وعقوبة آكل الميتة لو خاطر فصادفت مخاطرته المباحة لما كان عليه إلا عقوبة المخاطرة فقط لكن قد يقال إذا صادف الميتة فإن حرمة المخاطرة خشية أن يقع في الميتة فإذا صادف الميتة فهو المحذور فلا يبقى للمخاطرة حكم إذ لا حكم للخوف بعد حصول المخوف

ويمكن أن يقال بل هما ذنبان لهما مفسدتان فإد المخاطرة تفتح جنسان من الشر لا تختص هذه القضية وبالجملة فإنما يحسن إطلاق الإنكار بأن المحرم أحدهما ممن يقول كل مجتهد نصيب بناء على ما قدمته من الشبهة الضعيفة التي تنحل بفهم ما ذكرناه وغيره من جهة أنه ليس يعتقد في الباطن حكما غير الظاهر ولكن من وافقه في هذا الإنكار من الموحدين للصواب من أصحابنا وغيرهم لم يهتدوا لباطن مأخذه الذي يبطل حقيقة قولهم وإنما أنكروا كون المحرمة واحدة باطنا وظاهرا فهذا قريب لأنها محرمه من وجهين ولا يتسع هذا المقام لأكثر من هذا وتلخيص الفرق بين من يقول أن التحريم ليس ثابتا لا باطنا ولا ظاهرا وبين من يثبته باطنا وأن أولئك الأقلين يقولون البلاغ شرط في التحريم الذي هو سبب الذم والعقاب وغيرهما من الأمور فعدمه ينفي نفس التحربم والأكثرين يقولون البلاغ شرط في موجب التحريم ومقتضاه لا في نفسه فعدمه ينفي أثره لا عينه ويسمى نظير الأول مانع السبب ونظير الثاني مانع الحكم بمنزلة السهم المفرق تارة ينكر في نفسه وتارة لا يصادف غرضا يخرقه أو يكون الغرض مصفحا بحديد

وإذا تبين قول الجمهور الذين يثبتون التحليل والتحريم باطنا لا ظاهرا أو ظاهرا لا باطنا وظاهرا أو باطنا فخذ في النظر الثاني وهو أن هذه المنكوحة أو المبيع الذي هو حرام في الباطن أو انعقد بسبب تحريمه في الباطن والمشتري والمستنكح لم يعلما ذلك فإن هذا وطىء المرأة أو أكل هذا الطعام لم يعاقبا على ذلك وهل يقال هو مباح ظاهرا أو يقال ليس بمباح بل هو عفو عفا الله عنه هذا قد تنازع فيه من أثبت التحريم الباطن ومن نفاه وإن كانوا يطلقون تارة عليه أنه حلال في الظاهر ومباح فإنهم يتنازعون هل الحل هنا بمعنى أن الله أذن فيه كما أذن في لحوم الأنعام أو أن الله عفا عنه كما عفا عما لم ينطق بتحريمه ولا تحليله وكما عفا عن فعل الصبي والمجنون وعن فعل من لم تبلغه الرسالة وإنما يقع النزاع في النوع مطلقا وهو أن يقال ما لم يظهر تحريمه أن تعين عمل واحد قد ظهر أنه كان حراما في الباطن فأما ما قام دليل حله ولم يعلم خلافه فلا نقول إلا أنه حلال ثم إن لم يكن كذلك فحكم قولنا حكم فعلنا فمن قال بالأول قال لأن الله نصب دليل الحل وهو العقد وكلام البائع والزوجة الذي سوغ الشارع تصديقهما وخطأ الدليل لا يلزم المستدل إذا كان الشارع قد أذن له في اتباعه

والتحقيق أن يقال هذا مما عفا الله عنه فلم يؤاخذ فيه لأنه من الخطأ الذي عفا الله عنه وهكذا يقال في كل من استحل شيئا لم يعلم الله حرمه وذلك لأن هذا لما لم يعلم السبب الموجب للتحريم كان بمنزلة من لم يبلغه خطاب الشارع كلاهما عادم للعلم بما يدل له على التحريم ومثل هذا قد عفا الله عنه إلا أن الله أباح له إباحة شرعية بمعنى أنه أذن له في ذلك نعم قد يفرق بين ما أستبيح بإمارة شرعية فاختلفت وبين ما فعل لعدم العلم بالتحريم الشرعي كما فرق قوم من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم في قتل من لم تبلغه الدعوة من المتمسكين بشريعة منسوخة فأوجبوا ديته وغير المتمسكين فلم يوجبوا ديته وكما قد يفرق بعض أصحابنا وغيرهم بين المستحل بناء على عدم التحريم فيقولون أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه الناسخ ويثبتون حكم التحريم والإيجاب المبتدأ في حقه قبل بلوغ الخطاب ولأصحابنا وغيرهم في هذا الأصل ثلأثة أقوال:

أحدهما: لا يثبت حكم تحريم ولا إيجاب لا مبتدأ ولا ناسخ إلا في حق من قامت عليه الحجة في ذلك الحكم

والثاني: يثبت حكمها قبل العلم والتمكين منه لا بمعنى التأثيم لكن بمعنى الاستدراك أما بإعادة أو نزع ملك

والثالث: يثبت المبتدأ ولا لثبت الناسخ

وليس كلامنا هنا في هذه المسألة وإنما الكلام في أن عدم الإثم في هذه الأقسام الثلاثة نوعا وشخصا في الأحكام المعينة شخصا مثل استحلال هذا الفرج وهذا المال ببيع أو نكاح مع الإنتفاء في الباطن فقط هل لقيام الإباحة الشرعية ظاهرا أو لعدم التحريم الشرعي ظاهرا فإن بين ثبوت التحريم وثبوت التحليل الشرعيين منزلة العفو وهو في كل فعل لا تكليف فيه أصلا قال الله تعالى عفا الله عنها وقال النبي ﷺ: إن من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألة وعنه ﷺ الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه ويفرق بين النوع الذي لم يعلم ناسخه وبين الشخص الذي اعتقد إندراجه في القسم الجائز فإن من علم أن الله أمر باستقبال بيت المقدس فهو على بصيره في نفس هذا الحكم حتى يأتي الناسخ ولم يكن منه خطأ أصلا لا معذور هو فيه ولا غير معذور هو فيه وأما من اعتقد أن هذا البائع صادق أو أن هذه المرأة خلية فهذا اعتقاده في أمر عيني وهو مخطىء في هذا الأعتقاد ولا يمكن أن يقال إن الله أباح هذ ! الاعتقاد المعين والعمل به بل يقال إن الله ما حرم عليه العمل بهذا الاعتقاد المبن

ولهذا فرق الإمام أحمد في رواية ابن الحكم بين من عمل بنص قد جاء فيه نص آخر فمنع أن يسمى مخطئا ومن عمل باجتهاد فقال فيه لا يدري أصاب الحق أم أخطأ إذ كان متبع النص قد علم أن الله أمره باتباع هذا النص المعين ومتبع الاجتهاد لم يعلم أن الله أمره باتباع هذا الاجتهاد المعين ويظهر هذا على دقته بمثال مشهود وهو صلاة من أعتقد أنه على طهارة فإن من الناس المتكلمين وغيرهم من يقول هو مأمور بالصلاة في هذه الحال ومن الفقهاء من يقول هذه الصلاة ليست مأمورا بها ولكن هو اعتقد أنه مأمور بها ولم يعتقد أنه ترك المأمور به ولم يفعله وهذا أصح ولو أدى ما أمر به كما أمره لم يؤمر بالقضاء والله سبحانه لم يقل له إذا اعتقدت أنك على طهارة فصل وإنما قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وقال النبي ﷺ [ لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ ] وقال [ لا يقبل الله صلاة بغير طهور ] ولكن لم يكلفه أن يكون في نفس الأمر على طهارة فإن هذا يشق بل إذا اعتقد أنه على طهارة فإنه لا ينهاه أن يصلي بذلك فإن استمر به هذا الخطأ غفر له لأنه أتى بالمأمور به لكن لأنه لم يتعهد ترك المأمور به بل قصد فعله وفعل ما اعتقده مجزيا فإنه ليس بدون من نسي الصلاة واستمر به النسيان

ومن اعتقد فيما يفعله أنه هو المأمور به ولم يكن كذلك لم نقل أنه مأمور بفعله لكن هذا المعين نقول لم ينه عن إلإتيان به أي لم ينه عنه بمثل الأمر بفعل هذا المعين فإن التعيينات الواقعة في الفعل الممثل به لا يشترط أن يكون مأمورا بها بل يشترط أن لا يكون منهيا عنها والأمر إنما وقع بحقيقة مطلقة بمنزلة من له عند رجل دراهم فوفاه ما يعتقد جيده فظهرت رديئة

فإن المستحق نقد مطلق وكونه هذا النقد أو هذا النقد تعيينات يتأدى بها الواجب لا أن نفس ذلك التعيين واجب فالواجب تأدية ذلك المطلق والتعيينات غير منهى عن شيء منها فإذا قضاه دراهم فعل فيها الواجب الذي هو المطلق واقترن به تعيين لم ينه عنه فلا يضره كذلك المصلي أمر أن يصلي بطهارة فهذه الصلاة المعينة لم يؤمر بعينها بل لم ينه عن عينها وفي عينها المطلق المأمور به فاقترن ما أمر به بما لم ينه عنه وإذا اعتقد أنه على طهارة فالشارع لا ينهاه عن أن يؤدي الفرض بهذا الاعتقاد لا أنه يأمره أن يؤديه بهذا الاعتقاد فإنه لو أداها بطهارة غير هذه جاز فإذا أداه ثم تبين أنه كان محدثا لم يجزه لأن ذلك المعين لم يتضمن المآمور به ولا تضمن أيضا المنهى عنه فتدبر هذا المقام فإنه كثيرا ما يجول في الشريعة وغيرها أصولا وفروعا ومن لم يحكمه بلغت به الشبهات الكلامية التي لم يصحبها نور الهداية إلا أن يلجأ إلى ركن الاتباع الصرف غير جائل في أختيه وهو لعمر الله الركن الشديد والعروة الوثقى لكن يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ومن حققه انجلت عنه الشبهات التي عدها قاطعة من خالف السابقين في تعميم التصويب لكل مجتهد ورد أحكام الله تعالى إلى ظنون المستدلين واعتقادات المخلوقين

وأشكل من هذا إذا أوجب فعل ذلك المعين لإندراجه في قضية نوعية لا لنفس بعينه كالحاكم إذا شهد عنده شاهدان يعتقد عدلهما فيقول الكلامي الظاهري الزاعم التحقيق الحاكم مأمور بأن يقبل شهادة هذين سواء كانا فى نفس الأمر صادقين أو كاذبين وإذا فعل هذا فهو فاعل لحكم الله وإن أسلم المال إلى غير مستحقه في الباطن وهذا غلط فهل رأيت الله يأمر بالخطأ هذا لا يكون من العليم الحكيم لكنه لا بنهي عن الخطأ لأن تكليف العبد إجتناب الخطأ يشق على الخلق وما جعل عليكم في الدين من حرج بل قد يعجز الخلق عن أجتناب الخطأ فعفا عن الخطأ كما نطق به في كتابه في الدعاء الذي دعا به الرسول والمؤمنون

وثبت عن رسول الله ﷺ أنه أخبر عن ربه أنه قال قد فعلت وهو قوله: { لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } فإنه إنما رفع المؤاخذة بالخطأ وذلك أن الله إنما أمر الحاكم أن يحكم بشهادة العدل المرضى كما جاء به الكتاب والسنة فإذا اعتقد أن هذا المعين عدل لم ينهه أن يحكم بعينه فيجتمع الأمر بالحكم بكل عدل وعدم النهي عن هذا المعين فيحكم به بناء على القدر المشترك المأمور به لا على التعيين الذي لم ينه عنه فإن تبين أنه ليس بعدل تبين أنه ما فعل المأمور به وكان معذورا في أنه ما فعله فهو لا يؤاخذه ويثيبه ثواب من اجتهد في فعل المأمور به لا ثواب من فعل المأمور به ولهذا ينقض حكمه ويوجب عليه الضمان ولو أتى بما أمر به كما أمر به لم يكن نقضا ولا ضمانا

يوضح هذا: أن اعتقاده أن هذا عدل هو طريق يؤدي به المأمور به لا يمكنه غيره بمنزلة من له عليه دين وليس عنده إلا مال في كيس فأداه وقد وجب أداء عينه لا لوجوب عينه لكن لأنه لا يتمكن من أداء الواجب إلا به فإذا تبين زيفا تبين أنه لم يكن طريقا لأداء الواجب كذلك اعتقاد الحاكم والمفتي وغيرهما ليس هو المأمور به ولا داخلا في نوع المأمور به إذا كان خطأ فإن الله ما أمره أن يعمل بعين هذا الاعتقاد بل أمره أن يقبل شهادة العدل ولا طريق له في أداء هذا الأمر إلا باعتقاده فلم ينهه عن العمل بالاعتقاد الذي يؤدي به المأمور به كما لا ينهي القاضي عن أداء ما في الكيس وحقيقة الأمر أن المأمور به مطلق ليس فيه نقص كما في الدين المطلق فإن دين الله يمنزلة دين العبد والديون الثابتة في الذمم لا تثبت إلا مطلقة لكنها إذا أديت فلا تؤدى إلا معينة مشخصة فإن معتق الرقبة لا يعتق إلا رقبة معينه وكذلك المصلي لا يؤدي إلا صلاة معينة وهو ممتثل بذلك المعين ما لم يشتمل على منهى عنه وقد يقال للمعين هذا هو الفرض ويقال للمال الموفى هذا حقك الذي كان علي لما بين الصور المعقولة والحقيقة الموجدة من الاتحاد والمطابقة

وحيث كان الموجود في الخارج هو المقصود من ملك المثل المعقولة المطلقة كما يقال فعلت ما كان في نفسي وحصل الأمر الذي كان في ذهني ونحو ذلك ثم ذلك المعين الذي يؤدي به الواجب قد يقدر المكلف على غيره وقد لا يقدر

فالأول: مثل أن يقدر على عتق عدة رقاب كل واحدة بدلا عن الأخرى وكما يقدر المتوضىء على الصلاة بهذا الوضوء وبوضوء آخر ويقدر المأموم على الصلاة خلف هذا الإمام وخلف إمام آخر فيكون انتقاله من معين إلى معين مفوضا إلى اختياره لا بمعنى أنه لم ينه عن واحد من المعينين وبهذا يظهر الفرق بين الواجب المخير فيه بين أنواع كالكفارة وبين الواجب إذا تعين بالآداء فإن انتقاله في وجوب التخيير من نوع إلى نوع هو بحكم الإذن الشرعي فإن الخطاب الشرعي سمى كل واحد من النوعين وانتقاله في كل واجب من عين إلى عين هو بحكم المشيئة التي لا نهي فيها وفرق بين ما أذن فيه وبين ما لم ينه عنه

والثاني: مثل أن لا يكون عند المكلف ولا يمكنه أن يحصل إلا هذه الرقبة المعينة وبمنزلة مالو حضر وقت الصلاة ولا طهور إلا ماء في محل

فهنا يتعين عليه فعل ذلك المعين لا لأن الشارع أوجب ذلك المعين فإن الشارع لم يوجب إلا رقبة مطلقة وماء مطلقا لكن لأن المكلف لا يقدر على الامتثال إلا بهذا المعين فصار يقينه لعجز العبد عن غيره لا لاقتضاء الشارع له فلو كانت الرقبة كافرة أو الماء نجسا وهو لم يعلم لم يتأذى به الواجب لأن الشارع ما أمره بذلك المعين قط ولا هو متضمن لما أمر به ولكن ما أمره بغيره من الرقاب والمياه في ذلك الوقت لعجزه عن غيره ولا أمره به أيضا لأنه لا يتأدى به المأمور به وإنما كان مأمورا في الباطن بالانتقال إلى البدل الذي هو التراب أو الصيام لكن لم يعلم أنه منهي عنه فلم يؤاخذ به

فإذا قال صاحب هذا الاعتقاد المعين: بأن هذا طهور أتى من الشارع مأمورا به أو ليس بمأمور به ولا بد من أحد الأمرين

قلنا: أما في الظاهر فعليك أن تفعله وأنت مأمور به أيضا بناء على أن مالم يتم الواجب إلا به فهو واجب وأما في الباطن فقد لا يكون مأمورا به

فإن قال: أنا مكلف بالباطن

قلنا: إن أردت بالتكليف أنك تذم وتعاقب على مخالفة الباطن فلست بمكلف به وإن أردت أن ما في الباطن هو المطلوب منك وتركه يقتضي ذمك وعقابك ولكن انتفاء مقتضاه لوجود عذرك وهو عدم العلم فنعم أنت مكلف به وعاد الأمر إلى ما ذكرناه من انتفاء اللوم لانتفاء شرطه لا لعدم مقتضيه وإن الخلاف يعود إلى اعتبار عقلي وإطلاق لفظي فيجوز أن ذلك الماء النجس الذي ليس عنده إلا هو وهو لايعلم بنجاسته ليس مأمورا به في الحقيقة لوجهين:

أحدهما: أنه لا يتأدى به الواجب في الباطن فلا يكون واجبا في الباطن

الثاني: أنه وإن تأدى به فوجوب التعين من باب وجوب ما لا يتم الواجب إلا به ولوازم الواجب ومقدماته ليست في الحقيقة واجبة وجوبا شرعيا مقصودا للأمر فإن الأمر لا يطلبها ولا يقصدها بحال وقد لا يشعر بها إذا كان من المخلوقين والمأمور لا يعاقب على تركها فإنما يعاقب على ترك صوم النهار لا على ترك إمساك طرفيه ومن كان بينه وبين مكة مسافة بعيدة فإنه يعاقب على ترك الحج كما يعاقب ذوا المسافة القريبة أو أقل ولا يعاقب أكثر بناء على أنه ترك قطع تلك المسافة البعيدة التي هي أكثر بناء على أن الواجب عليه أكثر

نعم يثاب أكثر وقد يثاب نواب الواجب لكن الوجوب العقلي الضروري فينبغي أن يفرق بين الوجوب الشرعي الآمري القصدي وبين الوجوب العقلي الوجودي القدري فإن المسببات يجب وجودها عند وجود أسبابها بمعنى أن الله يحدثها حينئذ ويشاء وجودها لا بمعنى أنه أمر بها شرعا ودينا ولا ينازع أحد في أن الأمر بالأسباب الموجبة كالقتل ليس أمرا بمسبباتها الذي هو الإزهاق وكذلك الأسباب لا بد منها في وجود المسببات بمعنى أن الله لا يحدث المسببات ويشاءها إلا بوجود الأسباب لا بمعنى أن الله أمر بالأسباب شرعا ودينا فما لا يتم الواجب إلا به مما هو سابق له أو هو لازم لوجوده إذا لم يكن للشارع فيه طلب شرعي فإنه يجب وجوده وجوبا عقليا إذا امتثل العبد الأمر الشرعي

وهنا قد تنازع العلماء في أن هذا السبب الذي لا بد منه هل هو مأمور به أمرا شرعيا ومن أصحابنا وغيرهم من يقول بذلك وقد يقال هذا واجب بالقصد الثاني لا بالقصد الأول وأنت إذا حققت علمت أن هذا من نمط الذي قبله فإن الله يثيب العبد على ما أحدثه الله من فعله الواجب كالداعي إلى الهدى فإن له أجر من استجاب له إلى يوم القيامة وكالولد الصالح فإن دعاءه مضاف إلى أبيه وإن كان فعل أبيه إنما هو الإيلاج الذي قد يكون واجبا

ومع هذا فلو ترك الواجب لم يعاقب على انتفاء الآثار واللوازم كذلك الله يثيبه على فعل أسباب العمل الواجب ومقدماته كالسير إلى المسجد وإلى النيت والعدو ونحو ذلك وإذا تركها لم يعاقبه إلا على ترك الجمعة والجماعة والحج والجهاد فافهم مثل هذا في الواجب إذا لم يقدر على أدائه إلا بهذا المعين فإن ذلك التعيين إذا فعله أثابه عليه ولو تركه لم يعاقبه على ترك ذلك المعين وإنما يعاقبه على ترك الواجب المطلق بحيث تكون عقوبته وعقوبة من ترك الواجب مع قدرته على عدة أعيان ما سواه أو يكون هذا أقل في الأمر الغالب وإذأ أردت عبارة لا ينازعك فيها جمهور الفقهاء فقل هذا النجس ليس مأمورا به في الباطن وهذا المعين ليس عينه مقصودة الأمر ولا هذا النجس مشتملا على مقصود الأمر فتبين بذلك أن هذا الذي لم يجد إلا ماء وكان في الباطن نجسا إذا قيل أنه مأمور باستعماله فمعناه أنه مأمور في الظاهر دون الحقيقة باستعماله كالأمر بما لا يتم الواجب إلا به

فإذا قلت: أنه مأمور به بمجموع هذين الاعتبارين فلا نزاع معك وإذا قلت ليس بمأمور لانتفاء أحد هذين القيدين فقد أصبت الغرض وعلى هذا يخرج الحكم بشهادة من اعتقد الحاكم عدله فإن الله أمره أن يحكم للمدعي إذا جاءه بذوي عدل ثم لا طريق له إلى تأدية هذا ائواجب إلا باعتقاده فيهما العدل فتعين هذا الاعتقاد المخطىء في الباطن كتعين ذلك الماء النجس في الباطن إذ الاعتقاد هو الذي يمكن من الحكم بالعدل كما أن المعين هو الذي يمكن من وجود المطلق وقد تتعدد الاعتقادات كما تتعين الأعيان فإذا لم يكن عنده إلا اعتقاد العدل فيهما فالشارع ما أمره في الحقيقة باستعمال هذا الاعتقاد المخطىء قط ولا أمر باعتقاد عدل هذا الشخص ولا عدل غيره أمرا مقصودا قط ولكن الواجب عليه من الحكم بذوي عدل لا يتأدى إلا باعتقاد فصار وجوب اتباع الاعتقاد كوجوب إعتاق معين ما

ثم إذا لم يكن عنده إلا اعتقاد عدل هذا الشاهد كما لو لم يكن عنده إلا هذا الماء وهذه الرقبة ثم خطأه في هذا الاعتقاد المعين الذين به يؤدي الواجب عيب في هذا المعين كالعيب في الماء والرقبة

فالتحقيق هو أن يقال لبس مأمورا أن يحكم بهذا الاعتقاد في الحقيقة الباطنة ولا هو مأمور بشيء من الاعتقادات المعينة أمرا مقصودا

نعم هو مأمور أمرا لزوميا باعتقاد عدل من ظهر عدله ومأمور ظاهرا أمرا مقصودا بالحكم بمن اعتقد عدله وهذا بعينه يقال في المعين فإن الله لم يأمره بهذا الاعتقاد الخاطىء وإنما أمره أن يتبع ما أنزل إليه من ربه ثم لم يكن له طريق إلى معرفة ما أنزل الله من الكتاب والحكمة إلا بما قد نصبه من الأدلة فصار وجوب اتباع الأدلة على المنزل من الأخبار ولدلالة اللفظية والعقلية لأنه طريق إلى معرفة المنزل من باب مالا يتم الواجب إلا به

فإذا كان هذا المخبر مخطئا أو هذه الدلالة مخلفة في الباطن لم يكن مأمورا بعينها في الباطن قط وإنما هو مأمور بعينها في الظاهر أمرا لزوميا من باب الأمر بما لا يتم الواجب إلا به ولهذا أختلف الأصحاب وغيرهم هل يقال للمخطىء أنه مخطىء في الحكم كما هو مخطىء في الباطن أو يقال هومصيب في الحكم وإن كان قد خرج بعض الأصحاب رواية بأن كل مجتهد مصيب فهذا ضعيف تخريجا ودليلا ومنشأ ترددهم أن وجوب اعتقاده لما اقتضاه اجتهاده هو من باب ما لا يتم الواجب إلا به لأن الواجب هو اتباع حكم الله ولا سبيل إليه إلا باتباع ما أمكنه من الدليل واتباع دليله اعتقاد موجبه فمن قال إنه مصيب في الحكم فهو بمنزلة من يقول أن الحاكم إذا حكم بشهادة من يعئقده عدلا فقد فعل ما أمر به ظاهرا ومن قال: ليس بمصيب في الحكم قال: لأن وجوب أتباع هذا الدليل المعين هو للوجوب اللزومي العقلي دون الوجوب الشرعي المقصود وإلا فالوجوب الشرعي هو أتباع حكم الله

ولهذا كان أحمد وغيره يفرق بين أن يكون أتى من جهة عجزه أو من جهة الخلاف دليله فإن من حدث بحديث أفتى به تارة يكون المحدث له عدلا حافظا ظاهرا وباطنا لكنه أخطأ في هذا الحديث أو الحديث منسوخ فهنا لم يؤت من جهة نظره بل دليله أخلف وتارة يعتقد هو أن المحدث ثقة ولا يكون ثقة فهنا اعتقاده خطأ لكونه دليلا غير مطابق وإن كان معذورا فيه لدليل اقتضى ثقته فإن خطأ هذا الدليل كخطأ الأول في الحكم

فالأول: حكم بدليل هو عند الله دليل لكن الله سلب دلالته في هذه القضية المعينة ولم يظهر هذا على العلم السالب وهذا كالتمسك بشريعة قد نسخت لم يعلم بنسخها والثاني حكم بما اعتقد دليلا ولم يكن دليلا بل قام عنده ما ظن كونه دليلا كما لو كان اللفظ معرفا باللام فاعتقدها لتعريف الجنس فجعله عاما وكانت لتعريف العهد أو كان معنى اللفظ في لغته غير معناه في لغة الرسول وهو لا يعرف له معنى إلا ما في لغته فهذا حكم بما لم يكن دليلا أصلا لكنه اعتقد دلالته فالأول حكم بمقتض عارضه مانع لم يعلمه

والثاني: بما ليس بمقتضى لاعتقاده أنه مقتضى والأول في اتباعه للدليل كالمستفتي في اتباعه قول من هو مفت ظاهرا وباطنا إذا كان قد أخطأ ولم يعلم المستفتى بذلك فهذا الثاني أخطا في اجتهاده وفي اعتقاده والأول أصاب في اجتهاده لكنه أخطأ في اعتقاده وكلاهما مصيب في اقتصاده

وإذا عرفت هذه الدرجات الثلاث للمجتهد:

أولاها: اقتصاره بحكم الله

الثانية: اجتهاده وهو استنطاق الأدلة بمنزلة استماع الحاكم بشهادة الشهود فتارة يعتقد المجروح عدلا فيكون قد أخطأ في اجتهاده وتارة يكون العدل قد أخطأ فيكون دليله قد أخطأ لا هو

الثالثة: اعتقاده وهو اعتقاد ما نطقت به الأدلة لحكم الحاكم بما شهدت به الشهود ولهذا إذا تبين كفر الشهود كان الضمان على الحاكم ولو تبين غلطهم برجوعهم مثلا كان الضمان عليهم وإذا كان الدليل صحيحا والشاهد عدلا كان مأمورا في الظاهر أن يحكم بعينه في هذه الحال وأما إذا كان الدليل فاسدا والشاهد فاسقا وهو يعتقده صحيحا عدلا فلم يؤمر به ولكن لما اعتقد أنه مأمور به لم يؤاخذ كمن رأى من عليه علامة الكفر فقتله فكان مسلما

قال الإمام أحمد من رواية محمد بن الحكم وقد سأله عن الرواية عن رسول الله ﷺ إذا اختلفت فأخذ الرجل بأحد الحديثين فقال إذا أخذ الرجل بحديث صحيح عن رسول الله ﷺ وأخذ آخر بحديث ضده صحيح عن رسول الله ﷺ فقال: الحق عند الله واحد وعلى الرجل أن يجتهد ويأخذ أحد الحديثين ولا يقول لمن خالفه أنه مخطىء إذا أخذ عن رسول الله ﷺ وأن الحق فيما أخذت به أنا وهذا باطل ولكن إذا كانت الرواية عن رسول الله ﷺ صحيحة فأخذ بها رجل وأخذ آخر عن رسول الله ﷺ واحتج بالشيء الضعيف كان الحق فيما أخذ به الذي احتج بالحديث الصحيح وقد أخطأ الأخر في التاويل مثل لا يقتل مؤمن بكافر واحتج بحديث السلماني قال فهذا عندي مخطىء والحق مع من ذهب إلى حديث رسول الله ﷺ لا يقتل مؤمن بكافر وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى حاكم آخر رد لأنه لم يذهب إلى حديث رسول الله ﷺ الصحيح وإذا روي عن رسول الله ﷺ حديث واحتج به رجل أو حاكم عن أصحاب رسول الله ﷺ كان قد أخطأ التأويل وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى حاكم آخر رد إلى حكم رسول الله ﷺ

وإذا اختلف أصحاب محمد ﷺ وأخذ آخر عن رجل آخر من أصحاب رسول الله ﷺ فالحق عند الله واحد وعلى الرجل أن يجتهد وهو لا يدري أصاب الحق أم أخطأ وهكذا قال عمر والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأ ولو كان حكم بحكم عن رسول الله ﷺ لم يقل ما يدري عمر أخطأ أم أصاب ولكن إنما كان رأيا قال: وإذا اختلف أصحاب رسول الله ﷺ وأخذ رجل يقول أصحاب رسول الله ﷺ وأخذ آخر يقول التابعين كان الحق في قول أصحاب رسوله ﷺ ومن قال بقول التابعين كان تأويله خطأ والحق عند الله واحد

ولو أن حاكما حكم في المفلس أنه أسبق الغرماء إذا وجد رجل عين ماله ثم رفع إلى حاكم آخر فذهب إلى حديث رسول الله ﷺ [ رد لحكم هذا الحاكم ] وإنما يجوز حكم الحاكم إذا حكم أن لا يرد إذا اعتدلت الرواية عن رسول الله ﷺ فهذا لا يرد أو يختلف عن أصحاب رسول الله ﷺ فأخذ رجل ببعض قول أصحاب رسول الله ﷺ فهذا لا يرد أو يختلف عن التابعين فأخذ بقول بعضهم فهذا لا يرد فاما إذا كان عن رسول الله ﷺ وأخذ بقول أصحاب رسول الله ﷺ أو بقول التابعين فهذا يرد حكمه لأنه حكم يجور وتأول وذكر حديث زيد بن أرقم عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قال قال رسول الله ﷺ: [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] قال أبو عبد الله من عمل خلاف ما روي عن النبي ﷺ أو خلاف السنة رد عليه وهذا حديث حسن

وقد بين أبو عبد الله فنون الاختلاف وقسمه خمسة أقسام:

أحدها: أن يتعارض حديثان صحيحان

الثاني: أن يعارض الحديث الصحيح حديث ضعيف

الثالث: أن يعارض قول صاحب

الرابع: أن لا يكون في المسالة نص بل اختلف فيها الصحابة فأخذ بقول بعضهم

الخامس: أن يأخذ بالقول الثالث أو الثاني الذي أحدث بعد اتفاق الصحابة على قول أو قولين وبين أن من خالف النص الصحيح لقول صاحب أو حديث ضعيف أو ترك أقوال الصحابة التي هي إجماع أو كالإجماع إلى قول من بعدهم فهو مخطىء مخالف للحق لأنه ترك الدليل الذي يجب اتباعه إلى ما ليس بدليل وأما إذا تعارض النصان أو فقدا واختلف الصحابة فهنا يجتهد في الراجح ولا يرد حكم من حكم بأحدهما لأن تراجيح الأدلة أو استنباطها عند خفاها هو محل اجتهاد المجتهدين ثم أنه لم يحكم بخطأ من ذهب إلى أحد النصين مع قوله أن الحق عند الله واحد وعند خفاء الأدلة قال لا أدري أصاب الحق أم أخطأ

وهذا تحقيق عظيم وذلك لأن النص دليل قطعا لكن عند معارضة الآخر له هل سلبت دلالته أم لم تسلب هذا محل تردد فإن اعتقد رجحانه اعتقد بقاء دلالته فقد تمسك بما هو دليل لم يثبت سلب دلالته فصار إن كان الحق في القول الآخر كالتمسك بالنص الذي نسخ ولم يعلم نسخه فلا يحكم على مخالفه بالخطأ كما لا يحكم لنفسه بإصابة الحق الذي عند الله

وأما إذا لم يكن نصا وقد اجتهد فقد يكون ما اعتمده من الإستنباط بالرأي تأويلا وقياسا ليس بدليل فلا ندري أنه أصاب كالمتمسك بدليل أم لم يصب فتحرر من كلامه أنه في الباطن ليس المصيب إلا واحد وأما في الظاهر فلا تحكم بالخطأ لمن تمسك بدليل صحيح ولا نحكم بالصواب لمن لا نعلم أنه تمسك بدليل صحيح وهذا التفضيل خير من إطلاق بعض أصحابنا وغيرهم الخطأ في الحكم مطلقا وإطلاق بعضهم الإصابة في الحكم مطلقا

واعلم أن أحمد لم يقل إنه مصيب في الحكم بل قال لا يقال إنه مخطىء لعدم العلم بأنه مخطىء ولأن ذلك يوهم أنه مخطىء في استدلاله وقد اختلف الناس من أصحابنا وغيرهم في المجتهد المخطىء هل يعطى أجرا واحدا على اجتهاده واستدلاله أو على مجرد قصده الحكم

==============

صفحة 26.


وأصل هذا الاختلاف أنه هل يمكن أن يكون الاستدلال صحيحا ولا يصيب الحق وما قدمناه يبين لك أنه تارة يكون مخطئا في اجتهاده وتارة لا يكون مخطئا في اجتهاده قل دليله يكون مخطئا لا خلافة فيثاب تارة على الأمرين وتارة على أحدهما: كذلك يكون الحق سواء فيكون تحقيقه الأمر على ما قدمناه: إن المجتهد إن استدل بدليل صحيح وكان مخلفا فهو مأمور بأن يتبعه واتباعه له صواب واعتقاد موجبه في هذه الحال لازم من اتباعه وهو لم يؤمر بهذا اللازم لكنه لازم من المامور به ويعود الأمر إلى ما لا يتم الواجب إلا به هل هو مأمور به أمرا شرعيا أو عقليا ويعود أيضا إلى أنه مأمور بذلك في الظاهر دون الباطن وهذا كله إنما يتوجه في الواجب إذا تعين وأما ما وجب مطلقا وينادي باعيان متعددة أو أبيح فالقول في إباحته كالقول في إيجاب هذا سواء وفي خلافهما يدخل العفو فيقال هذا الذي اعتقد أنه فعل الواجب أو المباح كلاهما يعفى عنه وليس هو في نفس الأمر فاعلا لواجب ولا لمباح وإنما يتلخص هذا الأصل الذي اضطرب فيه الناس قديما وحديثا واضطرابهم فيه تارة يعود إلى إطلاق لفظي وتارة إلى ملاحظة عقلية كما ذكرناه في تخصيص العلة وتارة يعود الى أمر حقيقي وإلى حكم شرعي بان نتكلم على مقاماته مقاما مقاما كلاما ملخصا

والمقام الأول: هل لله في كل حادثة تنزل حكم معين في نفس الأمر بمنزلة ما لله قبلة معينة هي الكعبة وهي مطلوب المجتهدين عند الإشتباه فالذي عليه السلف وجمهور الفقهاء وأكثر المتكلمين أو كثير منهم أن لله في كل حادثة حكما معينا أما الوجوب أو التحريم أو الإباحة مثلا أو عدم الوجوب والتحريم فيما قد سميناه عفوا لكن أكثر أصحاب أبي حنيفة وبعض المعتزلة يسمون هذا الأشبه ولا يسمونه حكما وهم يقولون ما حكم الله به لكن لو حكم لما حكم إلا به فهو عندهم في نفس الأمر حكم بالقوة

وحدث بعد المائة الثالثة فرقة من أهل الكلام زعموا أن ليس عند الله حق معين هو مطلوب المستدلين إلا فيما فيه دليل قطعي يتمكن المجتهد من معرفته فإما ما فيه دليل قطعي لا يتمكن من معرفته أو ليس فيه إلا أدلة ظنية فحكم الله على كل مجتهد ما ظنه وترتب الحكم على الظن كترتب اللذة على الشهوة فكما أن كل عبد يلتذ بدرك ما نشتهيه وتختلف اللذات باختلاف الشهوات كذلك كل مجتهد حكمه ما ظنه وتختلف الأحكام ظاهرا وباطنا باختلاف الظنون وزعموا أن ليس على الظنون أدلة كأدلة العلوم وإنما تختلف أحوال الناس وعاداتهم وطباعهم وهذا قول خبيث يكاد فساده يعلم بالإضطرار عقلا وشرعا وقوله ﷺ فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم وقوله لسعد لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة وقول سليمان اللهم أسالك حكما يوافق حكمك كله يدل على فساد هذا القول مع كثرة الأدلة السمعية والعقلية على فساده

المقام الثاني: إن الله نصب على ذلك الحكم المعين دليلا

فالذي عليه العامة أن الله نصب عليه دليلا لأن الله لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وقد أخبر الله أن في كتابه تفصيل كل شي وأخبر أن الدين قد كمل ولا يكون هذا إلا بالأدلة المنصوبة لبيان حكمه ولأنه لو لم يكن عليه دليل للزم أن الأمة تجمع على الخطأ إن لم يحكم به أو أن يحكم به تخمينا والقائلون بالأشبه أو بعضهم يقولون لا يجب أن يكون عليه دليل لأن عندهم ليس يحكم بالفعل حتى يجب نصب الدليل عليه وقد حكي هذا عن بعض الفقهاء مبهما ويتوجه على قول من يجوز انعقاد الإجماع تخمينا واتفاقا

المقام الثالث: إن ذلك الدليل هل يفيد العلم اليقيني أو العلم الظاهر الذي يسميه المتكلمون الظن ويسمى الاعتقاد فمن المتكلمين وأهل الظاهر من يقول عليه دليل يفيد اليقين ثم من هؤلاء من يؤثم مخالف ذلك الدليل وربما فسقه ومنهم من لا يؤثمه ولا يفسقه وقد يؤثم ولا يفسق وأما أكثر المتأخرين من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم فإنهم يقولون ليس عليه إلا دليل يفيد الاعتقاد الراجح الذي يسمى الظن الغالب وقد يسمى العلم الظاهر والمنصوص عن الإمام أحمد وعليه عامة السلف من الفقهاء وغيرهم أنه تارة يكون عليه دليل يقيني وتارة لا يكون الدليل يقينا وكون المسألة مختلفا فيها لايمنع أن دليلها يكون يقينا ويكون من خالفه لم يبلغه أو لم يفهمه أو ذهل عنه وقد يكون يفيد اعتقادا قويا غالبا يسمى أيضا يقينا

وإن كان تجويز نقيضه في غاية البعد وعلى هذا يتفرع نقض حكم الحاكم وجواز الأدلة على من يفتي بالقول المعين والائتمام بمن أخل بفرض في مذهب المأمور وتعيين المخطىء والتغليظ على المخالف

المقام الرابع: إن هذه الأدلة اليقينية أو الاعتقادية لا بد أن يعمل بها بعض الأمة لئلا تكون الأمة مجمعة على الخطأ ولا يحصل مقتضاه إلا لمن بلغته ونظر فيها فمن يبلغه من غير تقصير ولا قصور إما أن يكون متمسكا بما هو دليل شرعي لولا معارضة تلك الأدلة كالمتمسك بالعام قبل أن يبلغه تخصيصه وإما أن يكون متمسكا بحق في الباطن لكن تلك الأدلة نسخته وإما أن يكون متمسكا بالنفي الأصلي وهو عدم الوجوب والتحريم فهل يقال لأحد هؤلاء أنه مصيب أو مخطىء أو مصيب من وجه مخطىء من وجه أو لا يطلق عليه صواب ولا خطأ وهل يقال فعل ما وجب أو ما لم يجب أو ما أبيح أو ما لم يبح هذا المقام والذي بعده أكثر شغب هذه المسألة فمن أصحابنا وغيرهم من يطلق عليه الخطأ في الباطن في جميع هذه الأمور وهو عنده معذور بل مأجور

وهذا قول من يقول إن النسخ يثبت في حق المكلف إذا بلغه الرسول قبل أن يصل إلى المكلف بمعنى وجوب القضاء عليه والضمان إذا بلغه لا بمعنى التأثيم ويقول إنما يجب القضاء على من صلى إلى القبلة المنسوخة قبل العلم لأن القبلة لاتجب إلا مع العلم والقدرة

ولهذا لا يجب القضاء على من تيقن أنه أخطأها في زماننا إذا كان قد اجتهد وإن سمعته مخطئا ومنهم من يطلق الخطأ على المتمسك بدليل ليس في الباطن دليلا وعلى المتمسك بالنفي دون المستصحب للحكم بناء على أن الله ما حكم بموجب دليل قط ومنهم من لا يطلق الخطأ على واحد من الثلاثة وأما في الظاهر فمنهم من يطلق على المجتهد المخطىء عموما أنه مخطىء في الباطن وفي الحكم هذا قول القاضي لكن عنده أن النسخ لا يثبت حكمه في حق المكلف قبل البلاغ ومنهم من يقول ليس بمخطىء في الحكم ومنهم من يقول هو مصيب في الحكم حكى هذا أبو عبد الله بن حامد وخرج القاضي في الخطأ في الحكم روايتين وخرج ابن عقيل رواية أن كل مجتهد مصيب والصحيح إذا ثبت أن في الباطن حكم في حقه أن يقال هو مصيب في الظاهر دون الباطن أو مصيب في اجتهاده دون اعتقاده أو مصيب إصابة مكيدة لا مطلقة بمعنى أن اعتقاد الإيجاب والتحري لا يتعداه إلى غيره وإن اعتقده عاما هذا في الظاهر فقط فإن النبي ﷺ أخبر أن الحاكم المجتهد المخطىء له أجر والمصيب أجران ولو كان كل منهما أصاب حكم الله باطنا وظاهرا لكان سواء ولم ينقض حكم الحاكم أو المفتي إذا تبين أن النص بخلافه وإن كان لم يبلغه من غير قصور ولا تقصير ولما قال النبي ﷺ فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولما قال أسعد لقد حكمت فيهم بحكم الملك إن كان كل مجتهد يحكم بحكم الله وارتفاع اللوم بحديث المختلفين في صلاة العصر في بني قريظة وحديث الحاكم

المقام الخامس: إن هذه الأدلة هل يفيد مدلولها لكل من نظر فيها نظرا صحيحا من الناس من يطلق ذلك فيها ومنهم من يفرق بين القطعي والظني وهذا يوافق من هذا الوجه قول من يقول إن الظنية ليست أدلة حقيقة والصواب أن حصول الاعتقاد بالنظر في هذه الأدلة يختلف باختلاف العقول من ذكاء وصفاء وزكاة وعدم موانع والعلم الحاصل عقبيها مرتب على شيئين على ما فيها من أدلة وعلى ما في النظر من الإستدلال وهذه القوة المستدلة تختلف كما تختلف قوى الأبدان فرب دليل إذا نظر فيه ذو العقل الثاقب أفاده اليقين

وذو العقل الذي دونه قد لا يمكن أن يفهمه فضلا عن أن يفيده يقينا واعتبر هذا بالحساب والهندسة فإن قضاياها يقينية وأنت تعلم أن في بني آدم من لا يمكنه فهم ذلك فعدم معرفة مدلول ذلك الدليل بأن يكون لعجز العقل وقصوره في نفس الخلقة وتارة لعدم تمرنه واعتياده للنظر في مثل ذلك كما أن عجز البدن عن الحمل قد يكون لضعف الخلقة وقد يكون لعدم الإدمان والصنعة

وتارة قد يمكنه الإدراك بعد مشقة شديدة يسقط معها التكليف كما يسقط القيام في الصلاة عن المريض وتارة يمكنه بعد مشقة لا يسقط معها التكليف كما لا يسقط الجهاد بالخوف على النفس وتارة يمكن ذلك بلا مشقة لكن تزاحمت على القلب واجبات فلم يتفرغ لهذا أو قصر زمانه عن النظر في هذا وتارة لا يكون حصول ما يضاد ذلك الاعتقاد في القلب يمنع من استفاء النظر وقد يكون الشيء نظيرا لكنه غامض وقد يكون ظاهرا لكن ليس بقاطع وفي هذا المقام يقع التفاوت بالفهم فقد يتفطن أحد المجتهدين لدلالة لو لحظها الآخر لافادته اليقين لكنها لم تخطر بباله فإذا عدم وصول العلم بالحقيقة إلى المجتهد تارة يكون من جهة عدم البلاغ وتارة يكون من جهة عدم الفهم وكل من هذين قد يكون لعجز وقد يكون لمشقة

فيفوت شرط الإدراك وقد يكون لشاغل أو مانع فينافي الإدراك وإذا كان العلم لا بد له من سببين سبب منفصل وهو الدليل وسبب متصل وهو العلم بالدليل والقوة التي بها يفهم الدليل والنظرالموصل إلى الفهم ثم هذه الأشياء قد تحصل لبعض الناس في أقل من لحظ الطرف

وقد يقع في قلب المؤمن الشيء ثم يطلب دليلا يوافق ما في قلبه ليتبعه ومبادىء هذه العلوم أمور إلهية خارجة عن قدرة العبد يختص برحمته من يشاء ففي هذا الموضع الذي يكون الدليل منصوبا لكن لم يستدرك به المكلف لقصور أوتقصير يعذر فيه لعجز أو مشقة أو شغل ونحو ذلك اتفق من قال المصيب واحد على أن الباقين لم يصيبوا الحق الذي عند الله وإطلاق لفظ أخطأ هنا أظهر وقول من قال إنه مخطىء في الاجتهاد هنا أكثر بل غالب اختلافهم في هذا المقام لقلة القسم الأول بعد إنتشار النصوص

المقام السادس: إن الواجب على المجتهد ماذا؟ من أصحابنا وغيرهم من يقول الواجب طلب ذلك الحق المعين وإصابته ومنهم من يقول الواجب طلبه لا إصابته ومنهم من يقول الواجب اتباع الدليل الراجح سواء كان مطابقا أو لم يكن وكل من هؤلاء لحظ جانبا وجمع هذه الأقوال إن الواجب في نفس الأمر إصابة ذلك الحكم وأما الواجب في الظاهر هو أتباع ما ظهر من الدليل واتباعه أن يكون بالاجتهاد الذي يعجز معه الناظر عن الزيادة في الطلب أو يشق عليه مشقة فادحة ومقدار غير مضبوط

ولهذا كان العلماء يخافون في الفتوى بالاجتهاد كثيرا ويخشون الله لأن مقدار المشقة التي يعذرون معها ومقدار الاستدلال الذي يبيح لهم القول قد لا ينضبط فلو أصاب الحكم بلا دليل راجح فقد أصاب الحكم وأخطأ الحق المعين فقد أحسن وخطأه مغفور له وهذا عندنا وعند الجمهور لا يجوز إلا إذا كان ثم دليل آخر على الحق هو الراجح لكن يعجز عن دركه وإلا للزم أن لا يكون الله نصب على الحق دليلا وفي الحقيقة فالدليل الذي نصبه الله حقيقة على الحكم لا يجوز أن يخلف كما يجوز خطأ الشاهد لكن يجوز أن يخفي على بعض المجتهدين ويظهر له غيره

المقام السابع: إذا كانت الحجة الشرعية لا معارض لها أصلا لكنها مخلفة فهل يكون الحكم بها خطأ في الباطن وهذا إنما يكون في أعيان الأحكام لا في أنواعها كما لو حكم بشاهدين عدلين باطنا وظاهرا لكن كانا مخطئين في الشهادة كالشاهدين الذين قطع علي رضي الله عنه السارق بشهادتهما ثم رجعا عن الشهادة وقالا أخطأنا يا أمير المؤمنين فهنا قال ابن عقيل وغيره لا يكون هذا خطأ بحال وإن كان قد سلم المال إلى مستحقه في الباطن ولم يدخل هذا في عموم قوله إذا اجتهد الحاكم فأخطأ وإنما أدخل فيه من أخطأ الحكم النوعي

وقال غيره من أصحابنا وغيرهم: بل هو من أنواع الخطأ المغفور وهذا شبيه بالتمسك بالمنسوخ قبل البلاغ أو بالدلالة المعارضة قبل بلوغ المعارض وفي مثل هذا يقول إن الله لم يأمر الحاكم بقبول هذين المعينين وإنما أمره بقبول شهادة كل عدل فدخلا في العموم والله سبحانه لم يرد شهادة باللفظ العام هذا المعين لكنه يعذر الحاكم حيث لم يكن له دليل يعلم به عدم إرادة هذا المعين فيكون مأمورا به في الظاهر دون الباطن كما تقدم فما من صورة تقرض إلا وتخرج على هذا الأصل

وهذا أمر لا بد من اعتباره فإن من الأصول المكررة أن الحاكم لو حكم بنص عام كان عاجزا عن درك مخصصه ثم ظهر المخصص بعد ذلك نقض حكمه وكذلك لو فرض الإدراك مبعدا

وهذا أبو السنابل أفتى سبيعة الأسلمية بأن تعتد أبعد الأجلين لما توفي عنها زوجها استعمالا لآسى الموت والحمل

فقال النبي ﷺ: [ كذب أبو السنابل ] ولا يقال إنه كان مما لا يسوغ فيه الاجتهاد لظهوره لأن عليا وابن عباس وهما ممن لا يشك في وفور فهمهما ودينهما فقد أفتيا بمثل ذلك وقول النبي ﷺ كذب يستعمل بمعنى أخطأ فعلم إطلاق الخطأ على من اجتهد متمسكا بظاهر خطاب إلا أن يقال أبو السنابل لم يكن يجوز له الاجتهاد إما لقصوره أو لتقصيره حيث اجتهد مع قرب النبي ﷺ

فهذا مما اختلف فيه بجملة كون المجتهد معذورا أما لعجزه عن سماع الخطاب أو عن فهمه أومشقة أحد هذين أو لعدم تيسير الله أسباب ذلك أو لعارض آخر لا يمنع أن لا يكون غير عالم بالحق الباطن ولا يوجب أن ذلك الفعل الذي فعله أوجبه الله بعينه أو أباحه بعينه بل أوجب أمرا مطلقا أو أباح أمرا مطلقا والمجتهد معذور باعتقاد أن هذا المعين داخل في العموم

فإذا منشأ الخطأ إدخال المعين في المطلق والعام على وجه قد لا يكون للمجتهد مندوحة عنه وغاية ما يؤول إليه الإلزام أن يقال إنه مأمور في الباطن بما لا يطيقه وهذا سهل هنا فإن الذي يقول إنه لا يأمر الله العبد بما يعجزعنه إذا شاءه وأما أمره بما لا يشاءه إلا أن يشاء الله فهذا حق وإذا كان أمره بما مشيئته معلقة بمشيئة غيره فكذلك يأمره بما معرفته متعلقة بسبب من غيره إذ العلم واقع في القلب قبل الإرادة ثم من هذه المعارف ما يعذر فيها المخطىء ومنها ما لا يعذر وهذا فصل معترض إقتضاه الكلام لتعلق أبواب الخطأ بعضها ببعض

إذا ثبتت هذه الأصول فهذا المشتري والمستنكح مفعوله عما فعله من وطء وانتفاع وهذا الوطء والانتفاع عفو في حقه لا حلال حلا شرعيا ولا حرام تحريما شرعيا وهكذا كل مخطىء ولكن هو في عدبم الذم والعقاب يجري مجرى المباح الشرعي وإن كان يختلف في بعض الأحكام ويختلفان أيضا في أن رفع أحدهما نسخ له لا يثبت إلا بما يثبت به النسخ ورفع الآخر ابتداء تحريم أو إيجاب ثبت بما يثبت به الأحكام المبتدأة وأن يضمن رفع الاستصحاب العقلي وهذا حرمنا بسنة رسول الله ﷺ أشياء ليست في القرآن كما عهده إلينا ﷺ ولم يكن هذا نسخا لقوله: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية إذ هذه نفت تحريم ما سوى المستثنى ولم تثبت حل ما سوى المستثنى وبين نفي التحريم وإثبات الحل مرتبة العفو ورفع العفو ليس بنسخ ولهذا قال في سورة المائدة: { اليوم أحل لكم الطيبات } والمائدة نزلت بعد الأنعام بسنين فلو كانت آية الأنعام وتضمنت ما سوى المستثنى ما قيد الحل بقوله اليوم أحل لكم الطيبات

ومن فهم هذا استراح من اضطراب الناس في هذا المقام مثل كون آية الأنعام واردة على سبب فتكون مختصة به أو معرضة للتخصيص ومثل كونها منسوخة نسخا شرعيا بالأحاديث بناء على جواز نسخ القرآ ن بالخبر المتلقى بالقبول أو الصحيح مطلقا ولقد نزل هنا مستدلا ومستشكلا ومن اعتقد أن آية الأنعام من آخر القرآن نزولا

وإذا ظهر أن العقد على غير محل لم يعلم به المشتري والمستنكح باطلا باطنا غير مقيد للحل باطلا وأن الانتفاع الحاصل بسببه ليس هو حلالا في الحقيقة وإنما هوعفا الله عنه فما دام مستصحبا لعدم العلم فحكمه ما ذكرت فإن علم حقيقة الأمر فحكمه معروف إن كان نكاحا فرق بينهما ويثبت فيه حكم العقد الفاسد والوطء فيه موجب للعدة والمهر والنسب وإدراء الحد ولم يثبت به إرث ولا جواز إستدامه وهل تثبت به حرمة المصاهرة ويقع فيه الطلاق أو تجب فيه عدة الوفاة ويوجب الإحداد - فيه خلاف وتفصيل على مذهب الإمام أحمد وغيره وأما في البيع ففيه خلاف وتفصيل على مذهب الإمام أحمد وغيره ليس هذا موضعه

إذا عرف هذا فمسألة التحليل من هذا القسم فإن قصد التحليل إنما حرم لحق الله سبحانه بحيث لو علمت المرأة أو وليها بقصد التحليل لم تجز مناكحة بخلاف المعينة والمعيب فإن ذلك لو ظهر لجاز العقد معه لكن الخلل هنا لم يقع شي أهلية العاقد ولا في محلية المعقود عليه وإنما وقع في نفس العقد بمنزلة الشرط الذي يعلم أحدهما بإفساده للعقد دون الآخر نعم الجهل هناك هو بالحكم الشرعي النوعي والجهل هنا هو بوصف العقد المعين

وهذا الوصف يترتب عليه الحكم الشرعي فهو بمنزلة عدم علمه بصفة المعقود عليه وكلاهما سواء هنا وإن كان قد يفرق بينهما بعض الفقهاء في بعض المواضع كرواية عن الإمام أحمد وغيره في الفرق بين أن لا تعلم المعتقة قد أعتقت وبين أن تعلم أنها قد أعتقت ولا تعلم أن للمعتقة الخيار وإذا كان التحريم لحق الله سبحانه فالعقد باطل كما وصفته لك والوطء والاستمتاع حرام على الزوج في مثل هذا وفاقا وهل هو حرام على المرأة في الباطن أو ليس بحرام على قولين أرجحهما الأول

وإن كان الخلاف لا يعود إلى أمر عملي وفعلها في الظاهر هل هو حلال أو عفو على قولين أيضا أرجحهما الثاني فقد وقع الاتفاق على أن المرأة لا تؤاخذ وأشبه شيء بهذا الخلل الحاصل في العقد مالو كان الخلل حاصلا في المعقود عليه كما لو أحرم الرجل وتزوجت به وهي لا تعلم إحرامه بأن يعقد العقد وكيله في غيبته أو تتزوجه ويكون تحته أربع أو تحته أختها أو خالتها أو عمتها وهي لاتعلم أو تتزوجه وهو مرتد أو منافق لاتعلم دينه إلى غير ذلك الصور التي يكون محرما عليها بصفة عارضة فيه لاتعلم بها ثم قد تزول تلك الصفة وقد لاتزول وأن يشارطوا لها في العقد شرطا مبطلا له وهي لا تعلم كتوقيت النكاح ونحوه لا سيما إذا كانت مجبرة إذ لا فرق بين أن يكون الغرور من الزوج فقط أو منه ومن الولي ولا فرق بين أن يكون الغرر لها وحدها أو لها وللولي إذ الضرر الحاصل عليها بفساد العقد أكثر من الضرر الحاصل على الولي

وإذا تأملت حقيقة التأمل وجدت الشريعة جاءت بأن لا ضرر على المغرور البتة فإنها لا تأثم بما فعلته ويحل لها ما أنتفعت به من نفقة وتستحق المهر لا سيما إذا أوجبا المسمى كظاهر مذهب أحمد الموافق لمذهب مالك وكما ورد به حديث سليمان بن موسى عن عروة عن عائشة مرفوعا: فلها ما أعطاها بما استحل من فرجها في قصة المزوجة بلا ولي وكما قضت به الصحابة ثم استمر بها عدم العلم بقصده لم يكن فرق بينهما وبين غير المغرورة مادامت غير عالمة وأي وقت علمت كان علمها بمنزلة تطليق موجب لمفارقته ومعلوم أن فرقته قد تحصل بموت أو طلاق نعم لا تحل للأول بمنزلة التي ما تزوجت بل بمنزلة التي مات زوجها أو التي طلقها قبل أن تخاف عليه الموت فما من ضرر يقدر عليها إلا ومثله ثابت في النكاح الصحيح

ومثل هذا لا يعد ضررا وإن عد فهو مما حكم به أعدل الحاكمين وليس هو بمحذور يخاف وقوعه في الأحكام الشرعية وإذا استبان هذا ظهر الجواب عن قوله إنما نحكم بفساد العقد إذا كان التحريم ثابتا من الطرفين فإنه يقال أتريد به التحريم وإن كان في الباطن فقط أو التحريم الظاهر إن أردت به الأول فلا نسلم أن التحريم هنا هو على الزوج وحده بل هو ثابت على كل منهما لكن أنتفى حكمه في حق المرأة لفوات الشروط

فإن المرأة لو علمت بهذا القصد لحرم العقد عليها وهذا هو التحريم الباطن وإذا كان كذلك فقد فسد العقد في الباطن لوجود التحريم في الباطن من الطرفين وفسد في الظاهر في حق الزوج لوجود التحريم في حق الزوج ظاهرا فنرتب على كل تحريم من الفساد ما يناسبه في محله ظاهرا أو باطنا من الطرفين أو أحدهما وإن أردت به التحريم الظاهر أو الظاهر والباطن من الطرفين فلا نسلم أن هذا هو الشرط في الفساد بل قد دللنا على أن هذا لا يشترط بما ذكرناه من الفساد في صور انفراد أحدهما بالعلم بالتحريم وإن كان الآخر لا يأثم ولو سلم على سبيل التقدير أن هذا العقد صحيح فيقال له هل هو صحيح من الطرفين أو من جانب الزوجة فقط

أما الأول فممنوع وكذلك إن قاسه على صورة المصراة فلا نسلم أن انتفاع البائع بجميع الثمن في صورة التصرية والتدليس حلال ولا يلزم من ملك المشتري المبيع ملك البائع العوض إذا كان ظالما كما نقوله نحو وأكثر الفقهاء في مسألة الحيلولة إذا حال بينه وبين ملكه فإن المظلوم المغصوب منه له أن يطالبه بالبدل وينتفع به حلالا والغاصب الظالم لا يملك العين المغصوبة ولا يحل له الانتفاع بها ونظائرها كثيرة وإذا لم يقم دليلا على صحة العقد من الطرفين فلا نسلم أن النكاح المبيح لعودها إلى الأول هو ما كان صحيحا من أحد الطرفين دون الآخر لكن يلزم على هذا المنع أنه لو نكح معيبة مدلسة للعيب ولم يعلم بالعيب حتى طلقها أو نكح المعيب صحيحة مدلسا لعيب ولم تعلم بعيبه حتى طلقها أنها لا تحل للمطلق ثلاثا بهذا النكاح وفيه نظر وقد يقال: هذا قوي على أصلنا

فإنا نقول لو وطئها وطئا محرما بحيض أو إحرام أو صيام لم يبحها للأول في المنصوص من المذهب فإذا اعتبرنا حل الوطء فهذه العادة لا يحل لها الاستمتاع لكن يفرق بين الصورتين بأن التحريم في مسألة الوطء لحق الله سبحانه فأشبه ما لو كان العقد محرما لحق الله وفي مسألة تدليس العيب التحريم لحق الآدمي فأشبه ما لو وطئها في حالة مرض شديد وإذا لم يصح هذا الجواب فيكفي الجواب الأول وأما إذا باع سلعة لمن نيته أن يعصى بها والبائع لا يعلم النية فما دام عدم هذا العلم مستصحبا فلا إشكال وإذا علم البائع بعد العقد بقصد المشتري فمن الذي سلم أن البائع لا يجب عليه في هذه الحال استرجاع المبيع ورد الثمن لو ثبت أن هذا القصد كان موجودا وقت العقد ولو سلمت هذه الصورة أو سلم أن نية المشتري إذا تغيرت لم تحتج إلى استئناف عقد فالفرق ما سننبه عليه إن شاء الله تعالى مع أن هذا القصد لم يناف نفس العقد

فإن قصد التحليل قصد لرفع العقد وذلك مناف له وهنا القصد قصد الانتفاع بالمبيع وهذا القصد مستلزم لبقاء العقد لا لفسخه فهو كما لو تزوج المرأة بنية يأتيها في المحل المكروه لكنه قصد أن يفعل في ملكه محرما فالبائع إذا علم ذلك لم يحل له الإعانة على المعصية بالبيع أما إذا لم يعلم فالبائع بائع غيره بيعا ثابتا وذلك الغير اشترى شراء ثابتا ولا يحرم على الرجل أن يعين غيره على ما لا يعلمه معصية وقصده لم يناف العقد ولا موجبة وإنما كان حراما تحريما لا يختص بالعقد فإنه لو أراد الرجل أن يعصى الله بما قد ملكه قبل ذلك لوجب منعه عن ذلك وحرمت إعانته فالبائع إذا علم بعد ذلك بنيته كان عليه أن يكفه عن المعصية بحسب الإمكان ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وفي الجملة هذه المسألة فيها نظر فيجاب عنها بالجواب المركب وهو إن كانت مثل مسألتنا إلتزمنا التسوية بينهما وإن لم تكن مثلها لم يصح القياس عليها وأما ما ذكروه من أن عمر رضي الله عنه سوغ الإمساك بمثل هذأ العقد فسنذكر إن شاء الله حديث عمر ونتكلم عليه وإن كان عمر قال هذا فلن يقتضي كون معقد يصح إذا زالت النية الفاسدة لأنه إن كان صحيحا مع وجودها كما قد ذهب طوائف من الفقهاء إلى أن الشرط الفاسد الملحق بالعقد إذا حذف بعده صح العقد وهذا مما يسوغ فيه الخلاف وقد ذهب غيره من الصحابة إلى ما عليه الأكثرون من أنه لا بد من استئناف عقد وهذا في الجملة محل اجتهاد وأما صحة عقد المحلل بكل حال فلم ينقل لا عن عمر ولا عن غيره من الصحابة فيما علمناه بعد البحث التام

فإن قيل: فقد سماه محللا والمحلل هنا الذي يجعل الشيء حلالا كما في نظائره مثل محسن ومقبح ومعلم ومذكر وغير ذلك فيكون محللا ملعونا والآخر محلل له ملعونا

قلنا: هذا سؤال لا يحل إيراده أترى رسول الله ﷺ يلعن من جاء إلى شيء محرم فصار بفعله حلالا عند الله كلا ولما كيف وهو ﷺ [ يقول إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على المسلمين من أجل مسألته وما خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ] فإن هذا بمن يحمده ويدعو له أولى منه بمن يلعنه وبذمه

ثم هو فاسد من وجوه:

أحدها: أنه لوأريد بالمحلل من جعل الشيء حلالا في الحقيقة لكان كل من نكح المطلقة ثلاثا محللا ولما كان ملعونا وهذا باطل بالضرورة

الثاني: إن فعله إذا كان محرما لأجل اللعنة عليه دل ذلك على أن النكاح فاسد وامتنع أن يصير الفرج المحرم حلالا بالنكاح المحرم فإن المسلمين أجمعوا على أنها لا تباح إلا بنكاح صحيح إلا أن بعضهم قال تباح بنكاح يعتقد صحته وإن كان فاسدا في الشرع والجمهور على أنه لا بد أن يكون صحيحا في الشرع لأن الله سبحانه أطلق النكاح في القرآن والنكاح المطلق هو الصحيح وهذا هو الصواب على ماهو مقرر في موضعه وأجمعوا فيما نعلم على أن الأنكحة المحرمة فاسدة ولم يقل أحد من الفقهاء المعتبرين علمناه أن هذا النكاح أو غيره حرام وهو مع ذلك صحيح وإن كانوا قد اختلفوا في بعض التصرفات المحرمة هل تكون صحيحة والذي عليه عوام أهل العلم أن التحريم يقتضي الفساد وذلك لأن الفروج محظورة قبل العقد فلا تباح بما أباحها الله سبحانه من النكاح أو الملك كما أن اللحوم قبل التذكية حرام فلا تباح إلا بما أباحه الله من التذكية وهذا بين

الثالث: إنه قد لعن المحلل له وهو لم يصدر منه فعل فلو كانت قد حلت له وقد نكح امرأة حلالا له لم يجز لعنه على ذلك

الرابع: إن هذا الحديث يدل على أن التحليل حرام بل من الكبائر وجعل الحرام حلالا إذا صار حلالا عند الله ليس بحرام وهو حسن مستحب

الخامس: إن الحديث نص في أن فعل المحلل حرام وعودها المحلل له بهذا السبب حرام فيجب النهي عن ذلك والكف عنه ويكون من أذن فيه أو فعله عاصيا لله ورسوله وهذا القدر يكفي هنا فإنه من المعلوم أن من يعتقد حلها بهذا التحليل لا يرى واحدا من الأمرين حراما بل يبيح نفس ما حرمه الله ورسوله ويستحل ذلك وأما تسميته وجعله محللا فلأنه قصد التحليل ونواه ولم يقصد حقيقة النكاح مع أن الحل لا يحصل بهذه النية ولأنه حلل الحرام أي جعله يستحل كما يستحل الحلال ومن أباح المحرمات وحللها بقوله أو فعله يقال محلل للحرام وذلك لأن التحليل والتحريم في الحقيقة هو إلى الله وإنما يضاف على وجه الحمد إلى من فعل سببا يجعل الشارع الشيء به حلالا أو محرما

لكن لما كان التحريم جعل الشيء محرما أي محظورا والتحليل جعله محللا أي مطلقا كان كل من أطلق الشيء وأباحه بحيث يطاع في ذلك يسمى محللا ومنه قوله سبحانه: { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله } فيحلوا ما حرم الله لما أطلقوه لمن أطاعهم تارة وحظروه عليه أخرى كانوا محلين مجرمين وكذلك قوله سبحانه: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } لما منع نفسه من الأمة أو العسل باليمين بالله أو بالحرام صار ذلك تحريما وكذلك قوله سبحانه: { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } وقوله سبحانه وقالوا: { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا }

وقول النبي ﷺ فيما يؤثر عن ربه: [ إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم ] وقوله ﷺ لعدي بن حاتم في قوله [ إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ] قال: [ إما أنهم ما عبدوهم ولكنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ] وقوله ﷺ: [ لا تركبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ] وقول ابن مسعود يتلونه حق تلاوته [ يحرمون حرامه ويحلون حلاله ]

وهذا باب واسع فلما كان هذا الرجل قصد أن يحلها للأول وقد يجعلها في ظن من أطاعه حلالا وهي حرام يسمى محللا لذلك يبين ذلك أن لعنته ﷺ للمحلل دليل على أن الحل إذا ثبت لم يطلق على صاحبه محلل وإلا فيكون كل ناكح للمطلقة ثلاثا محللا وأن نكاح رغبة فيدخل في اللعنة وهذا باطل قطعا فعلم أن المحلل اسم لمن قصد التحليل وجعلها حلالا وليست بحلال لأنه حلل ما حرم الله بتدليسه وتلبيسه وقصد أن يحلها فليس له أن يتزوجها قاصدا للتحليل وأصل هذا أن المحلل والمحرم هو من جعل الشيء حلالا وحراما أما في ذاته أو في الاعتقاد ثم إنه يقال للرجل أحل الشيء إذا أطلقه لمن يطيعه وحرمه إذا منع من يطيعه منه كما يقال فلان يزكي فلانا ويعدله ويصدقه ويكذبه إذا كان يجعله كذلك في الاعتقاد سواء كان في الحقيقة كذلك أو لم يكن ويقال لمن قصد التحليل محلل فصار المحلل يقال لأربعة أقسام:

أحدها: لمن أثبت الحل الشرعي حقيقة أو إظهارا كما قال سبحانه: { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }

والثاني: لمن اعتقد ذلك كما يقال فلان يحلل المتعة ويحلل نكاح الخامسة في عدة الرابعة والثالث: لمن أطلق ذلك لمن أطاعه وكما يقال السلطان قد حرم الفلوس وأحلها

والرابع: لمن قصد ذلك وإن لم يحصل له فكل من أثبت المصدر الثلاثي في الوجودي العيني أو العلمي على وجه من الوجوه جاز أن ينسب إليه ومعلوم أن النبي ﷺ لم يقصد الأول ولا الثاني فثبت أنه قصد الثالث والرابع وهو المقصود نعم تسمية الفرس مع الفرسين محللا هو من القسم الأول

فإن قيل: نحمل هذا الحديث على شرط التحليل في نفس العقد وهذا وإن كان فيه تخصيص فالموجب له أن الشروط المؤثرة في العقد ما قارنته دون ما تقدمته كما في الشروط المؤثرة في البيع أو يحمل على من أظهر التحليل دون من نواه لأن العقود إنما يعتبر فيها ظاهرها دون باطنها وإلا لكان فيه ضرر على العاقد الآخر فإنه لا اطلاع له على نية الآخر ولأن النكاح يفتقر إلى الشهادة فلو كانت النية مؤثرة فيه لم تنفع الشهادة إذا كان قصد الرغبة شرطا في صحة النكاح وهو غير معلوم ولأنه لو اشترى شيئا بنية أن لا يبيعه ولا يهبه صح ذلك ولو شرط ذلك فيه كان فاسدا فعلم أن النية ليست كالشرط هذا ان سلمنا أن لفظ التحليل يعم المشروط في العقد وغيره وإلا فقد يقال أن المحلل إنما هو من شرط التحليل في العقد فأما من نواه فليس هو محلا أصلا فلا يدخل في عموم اللفظ وحينئذ فلا يكون هذا تخصيصا ودليل هذا أن المؤثر في العقد اسما وحكما

ما قارنه وهو الذي يختلف الإسلام باختلافه فأما مجرد الباطن فلا يوجب تغيير الإسم ثم لا بد من الدليل على أن القاصد للتحليل من غير شرط محلل حتى يدخل في الحديث وإلا فالأصل عدم دخوله قلنا الكلام في مقامين

أحدهما: إن اسم المحلل يعم القاصد والشارط في العقد وقبله بمعنى أن لفظ المحلل يقع على هذا كله

والثاني: أنه يجب إجراء الحديث على عمومه وأن عمومه مراد

أما المقام الأول: فالدليل عليه من وجوه:

أحدها: إن السلف كانوا يسمون المقاصد للتحليل محللا وإن لم يشرطه والأصل في الإطلاق الحقيقة فإن لم يكن المحلل عاما لكل من قصد التحليل محللا وإن لم يشرطه والأصل في الإطلاق الحقيقة فإن لم يكن المحلل عاما لكل من قصد التحليل وإلا كان إطلاقه على غير ائشارط بطريق الاشتراك أو المجاز وهذا لا يجوز المصير إليه إلا لموجب ولا موجب مثل ما سيأتي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن المحلل والمحلل له قال: لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله سبحانه أنهما أرادا أن يحللاها ومعلوم أنه إنما سئل عمن يقصد التحليل وإن لم يشرط فإنه أجاب عن ذلك وقد سمي محللا وفي لفظ عنه: إذا علم الله أنهما محللان لا يزالان زانيين فأطلق على القاصد اسم المحلل وفي رواية عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها فقال: لعن الله المحلل والمحلل له هما زانيان فسئل عمن قصد التحليل فأجاب بلعنة المحلل والمحلل له فعلم دخول القاصد في المحلل وإلا لم يكن قد أجاب وهذا موجود في كلام غير واحد كما قدمنا في ألفاظ السلف في أول المسألة وكما سيأتي إن شاء الله من ألفاظ الصحابة فإنه من تأملها علم بالإضطرار أنهم كانوا يسمون القاصد للتحليل محللا ويدخل عندهم في الاسم كان هو الذي يسمونه محللا لعدم الشارط في العقد عندهم أو لقلته

الثاني: إنه قد قال أهل اللغة منهم الجوهري المحلل في النكاح الذي يتزوج المطلقة ثلاثا حتى تحل للزوج الأول فجعلوا كل من تزوجها لتحل للأول محللا في اللغة

الثالث: استعمال الخاصة والعامة إلى اليوم فإنهم يسمون كل من تزوج المرأة ليحلها محللا وإن لم يشرط التحليل في العقد والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها وإن لم يثبت أن اسم المحلل كان مقصورا في لغة من كان على عهد رسول الله ﷺ على الشارط في العقد وإلا لم يحكم بأنه من الأسماء المنقولة أو المغيرة فكيف وقد ثبت عن أهل عصره أنهم كانوا يسمون من قصد التحلبل محللا وإن لم يشرطه وكذلك نقل أهل اللغة وكذلك هو في عرف الفقهاء فإن منهم من يقول نكاح المحلل باطل ومنهم من يقول نكاح المحلل باطل إذا شرط التحليل في العقد ومنهم من يقول هو صحيح وهذا اتفاق منهم على أن المحلل ينقسم إلى قاصد وإلى شارط وليس تصحيح بعضهم لنكاح القاصد مانعا من أن يسميه محللا كما أن من صحح نكاح الشارط فإنه يسميه أيضا محللا إذ الفقهاء إنما اختلفوا في حكم النكاح لا في اسمه فثبت بالنقل واستعمال الخاص والعام أن هذا يسمى محللا

الرابع: إن المحلل اسم لمن حلل الشيء الحرام فإنه اسم فاعل لمن أحل المرأة وحللها إذا جعلها حلالا وهذا المعنى يشمل كل من تزوجها ليحلها فإنا قد قدمنا أنه لم يعن به من جعلها حلالا في حكم الله في الباطن وإنما أريد به من قصد التحليل وأراده وهذا المعنى بالمريد أخص منه بالشارط وأن أريد به من جعلها حلالا عند الناس وليست حلالا عند الله فهذا أيضا في القاصد أظهر منه في الشارط إذا الشارط قد أظهر المفسد للعقد فلا يحصل الحل لا في الظاهر ولا في الباطن بخلاف الكاتم للقصد فعلم أن إظهار التحليل أو اشتراطه لا تأثير له في استحقاق اسم المحلل في نفس الأمر إذا كان قد قصد التحليل وأراده

الخامس: إنه لا ريب أن من قصد التحليل يسمى محللا إذا باشر سببه كما يسمى من حرم طعامه وشرابه محرما لقصد التحريم ومباشرة سببه ومن أظهر التحلل في العقد يسمى محللا لاشتراطه إياه وإذا كان قياس التصريف والأصول الكلية للغة العربية يوجب تسمية كل منهما محللا لم يجز سلب أحدهما اسم التحليل بل يكون اللفظ شاملا لهما واعلم إنا سنبين من وجوه أن الحديث قصد به وعنى به من قصد التحليل وإن لم يشرطه وإذا ثبت أنه مراد لرسول الله ﷺ ثبت أن اللفظ أيضا يشمله فإنا كما نستدل بشمول اللفظ له على إرادته نستدل أيضا بإرادته على شمول اللفظ له

وهذا هو المقام الثاني فنقول: الدليل على أن الحديث عنى به كل محلل أظهر التحليل أو أضمره وأنه لا يجوز قصره على من شرط التحليل وحده وجوه عشرة:

أحدها: إن الحديث أدنى أحواله أن يشمل التحليل المشروط والمقصود فإن لفط التحليل قد بينا أن المراد به جعل المرأة حلالا أي قصد أن تكون حلالا وهذا بدخل فيه من قصد ولم يشرط ولا موجب لتخصيصه وسنتكلم إن شاء الله على ما ذكروه مخصصا بل الأدلة على عموم الحكم تعضد هذا العموم يوضح ذلك أن الإسلام إذا تناول صورا كثيرة موجودة وأراد المتكلم بعضها دون بعض فلا بد أن ينصب دليلا يبين خروج ما لم يرده فلما لم يذكر شيء من الحديث لعن الله المحلل الذي يظهر التحليل أو الذي يشترط التحليل أو الذي يكتم التحليل ولم يجىء في شيء من النصوص ما يخالف هذا القول كان العمل به متعينا وعلم أن الشارع قصد مفهومه ومعناه

الثاني: إنه ﷺ لو قصد التحليل المشروط في العقد خاصة أو التحليل الذي تواطؤوا عليه دون المقصود للعن الزوجة والولي كما لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ولعن في الخمر عاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها وآكل ثمنها وشاربها وساقيها بل كانت المرأة أحق باللعن من الزوجين لأنها شاركت كلا منهما فيما يفعله فصار إثمها بمنزلة إثمهما جميعا وإذا كان يلعن الشاهد والكاتب فالولي والعاقد أولى فلما خص باللعنة الزوجين علم أنه عنى التحليل المقصود المكتوم عن المرأة ووليها وهو ما كان يفعله الصديق مع صديقه عند الطلاق من تزوجه بالمطلقة ليحلها له وهما قد علما ذلك والمرأة وأهلها لا يعلمون ذلك

الوجه الثالث: إنه لعن شاهدي الربا وكاتبه وقد تقدم هذا الحديث أنه لعن شاهدي الربا وكاتبه إذا علموا به ولعن المحلل والمحلل له مع أن الشاهدين في النكاح أوكد فلو كان التحليل ظاهرا للعن الشاهدين فعلم أنه تحليل لم يعلم به وأن المحلل لم يكن يظهر تحليله لأحد

الوجه الرابع: إن التحليل المشروط في العقد لا يتم بين المسلمين لا سيما على عهد رسول الله ﷺ وأصحابه فإنه حينئذ يشهد به الشهود فيظهر للناس فينكرون ذلك ويحولون بين الرجل وبين هذا النكاح كما لو أراد أن يتزوج بامرأة يقول هي أخته أو بنته أو ربيبته فإنه متى أراد أن ينكح نكاحا فاسدا وأظهر فساده لم يتم له ذلك فلما لعن المحلل زجرا عن ذلك علم أنه من الأمور التي تخفى على العامة كالسرقة والزنا وغير ذلك

يبين ذلك: أن النبي ﷺ لم ينقل عنه أنه لعن من نكح نكاحا محرما إلا المحلل والمحلل له مع أن سائر الأنكحة المحرمة مثل نكاح ذوات المحارم ونحوهن مثل نكاح المحلل وأغلظ وذلك والله أعلم لأن القصد بإظهار اللعن بيان العقوبة لتنزجر النفوس بذلك وسائر الأنكحة المحرمة لا يتمكر مريدها من فعلها لأن شاهدي العقد والولي وغيرهم يطلعون على السبب المحرم فلا يمكنونه بخلاف المحلل فإن السبب المحرم في حقه باطن ثم تلك المناكح قد ظهر تحريمها فلا يشتبه حالها بخلاف نكاح المحلل فإنه قد يشتبه حاله على كثير من الناس لأن صورته صوره النكاح الصحيح وهذا يبين أنه إنما قصد باللعنة من أسر التحليل ثم يكون هذا تنبيها على من أظهره

فإن قيل: فقد لعن آكل الربا وموكله ولعن بائع الخمر ومبتاعها

قيل: البيع لا يفتقر إلى إشهاد وإعلان فتقع هذه العقود من غير ظهور بين المسلمين كما تقع الفاحشة والسرقة

ولهذا لعن الشاهدين إذا علما أنه ربا فإنهما قد يستشهدان على دين مؤجل ولا يشعران أنه ربا ولا يتم مقصود المربى غالبا إلا بالإشهاد على الدين

ولهذا لم يذكر في بيع الخمر الشاهدين لأن بيعها لا يكون غالبا إلى أجل

يحقق هذا أنه لم يلعن من عقد بيعا محرما إلا في الخمر والربا لأن شاهدي النوعين هما اللذان يقع فيهما الاحتيال والتأويل بأن يبيع الرجل عصيره لمن يتخذه خمرا متأولا أني لم أبع الخمر وبأن يربي بصورة البيع متأولا أني بائع لا مرب وهما اللذان يقع الشر فيهما أكثر من غيرهما فظهر أنه ﷺ إنما لعن العقود ثلاثة أصناف صنف التحليل وصنف الربا وصنف الخمر وهذه الثلاثة هي التي تقدم البيان بأن سيكون في هذه الأمة من يستحلها بالتأويل الفاسد وتسميتها بغير أسمائها فخصها باللعنة لأن أصحابها غير عارفين بأنها معاص ولأن معصيتهم تبطل غالبا فلا تتمكن الأمة من تغييرها ولأن هذه المعاصي يجتمع فيها الداعي الطبيعي إلى المال والوطء والشرب مع تزيين الشيطان أنها ليست بحرام فيكون ذلك سببا لكثرتها ولأنه قد علم ﷺ أنه سيكون من يفعلها فتقدم بلعنته زجرا عن ذلك بخلاف بيع الميتة ونكاح الأم ونحو ذلك من المحرمات وهذا كله إذا تأمله اللبيب علم أنه قصد لعنة من أبطن التحليل وإن كان من أظهره يدخل في ذلك بطريق التنبيه وبطريق العموم

الوجه الخامس: إن التحليل أكثر ما يكون برغبة من الزوج المطلق ثلاثا فحينئذ فإما أن يسر ذلك إلى المحلل أو يشرطه عليه ثم يعقد النكاح مطلقا وكذلك إن كان باتفاق من المرأة فالإشتراط في العقد نادر جد لا سيما اللفظ الذي يعتبره هذا السائل وهو أن يقول زوجتك إلى أن تحلها أو على أنك إذا وطئتها فلا نكاح بينكما أو على أنك إذا وطئتها طلقتها فإن العقد بمثل هذا اللفظ إما نادر أو معدوم في جميع الأزمان واللفظ العام الشامل لصور كثيرة تعم بها البلوى لا يجوز قصره على الصور القليلة دون الكثيرة فإن هذا نوع من العي واللبس وكلام الشارع منزه عنه وكما قالوا في قوله أيما امرأة نكحت نفسها بدون إذن وليها فنكاحها باطل فإن حمل هذا اللفظ على المكاتبة ممتنع بلا ريب عند كل ذي لب ومن عرف عقود المسلمين كيف كانت وإن هذه الصيغة المذكورة للتحليل مثل قوله زوجتك على أنك تطلقها إذا أحللتها أو على أنك إذا وطئتها فلا نكاح بينكما لم تكن تعقد بها العقود علم أن التحليل الملعون فاعله هو ما كان واقعا من قصد التحليل وإرادته

الوجه السادس: إن المحلل اسم مشتق من التحليل وليس المعنى أنه أثبت الحل حقيقة فإن هذا لا يعلن بالاتفاق وألا للعن كل من تزوج المطلقة ثلاثا ثم طلقها فعلم أن المعنى به أنه أراد التحليل وسعى فيه والحكم إذا علق باسم مشتق من معنى كان ما منه الإشتقاق علة فيكون الموجب للعنة أنه قصد الحل للأول وسعى فيه فتكون اللعنة عامة لذلك عموما معنويا ومثل هذا العموم لا بجوز تخصيصه إلا لوجود مانع ولا مانع من عمومه فلا يجوز تخصيصه بحال

يبين هذا إنا لو قصرناه على التحليل المشروط في العقد لم تكن العلة هي التحليل ولا شيئا من لوازم التحليل بل العلة توقيت النكاح أو شرط الفرقة فيه بالعقد وهذا المعنى ليس من لوازم قصد التحليل فكيف تعلق الحكم باسم مشتق مناسب ثم لا تجعل العلة ذلك المعنى المشتق منه ولا شيئا من لوازمه بل شيئا قد يوجب في بعض أفراده لقد كان الواجب أن يقال أن لو أريد ذلك المعنى لعن الله من شرط التحليل في العقد وهذا بين إن شاء الله تعالى

الوجه السابع: إنه لو كان التحليل هوالمشروط في العقد فقط لكان إنما لعن لأنه بمنزلة نكاح المتعة من حيث أنه نكاح مؤقت أو مشروط فيه زواله أو الفرقة وحينئذ فكان يجب أن يباح لما كانت المتعة مباحة وأن يكون في التحريم بمنزلة المتعه ولما لعن النبي ﷺ المحلل والمحلل له ولم يذكر عنه لعن المستمتع ولم ينقل عنه أنه أبيح التحليل في الإسلام قط بل هذا ابن عباس وهو ممن يرى إباحة المتعة ويفتي بها ويروي عن النبي ﷺ أنه لعن المحلل والمحلل له ويلعن هو من فعل ذلك ويفتي بتحريمه ويقول إن التحليل المكتوم مخادعة لله وأنه من يخادع الله يخدعه علم أن التحليل حرم لقدر زائد على المتعة وما ذلك إلا لأن المستمتع له رغبة في المرأة وقصد إن كانت إلى أجل والمحلل لا رغبة له في النكاح أصلا وإنما هو كما جاء في الحديث بمنزلة التيس المستعار فإن صاحب الماشية يستعير التيس لا لأجل الملك والقنية ولكن لينزيه على غنمه فكذلك المحلل لا رغبة للمرأة ووليها في مصاهرته ومناكحته واتخاذه ختنا وإنما يستعيرونه لينزونه على فتاتهم وإذا كان كذلك فهذا المعنى موجود سواء شرط في العقد أو لم يشرط

الوجه الثامن: إنه قرنه بالواشمة والمستوشمة والواصلة والموصولة فلا بد من قدر مشترك بينهما وذلك هو التدليس والتلبيس فإن هذه تظهر من الخلقة ما ليس لها وكذلك المحلل يظهر من الرغبة ما ليس له وكذلك قرنه بآكل الربا وموكله لوجهين:

أحدهما: إن كلاهما يستحل بالتدليس والمخادعة

والثاني: إن هذا استحلال للربا وهذا للزنا والزنا والربا فساد الأنساب والأموال وقد جاء في حديث ابن مسعود المتقدم فيما مضى وهو راوي الحديث ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم العقاب وإذا كان الجامع بينهما التدليس والمخادعة فمعلوم إن هذا في التحليل المكتوم أبين منه في التحليل المشروط في العقد

الوجه التاسع: إنا سنذكر إن شاء الله تعالى عن النبي ﷺ ما روي عنه من النص في التحليل المقصود وأن أصحابه بينوا أن من التحليل المقصود ما قصد بالعقد سواء شرط أو لم يشرط وهم أعلم بمقصوده وأعرف بمراده لأنهم أعلم بمفهوم الخطاب اللغوي وبأسباب الحكم الشرعي وبدلالات حال النبي ﷺ وهؤلاء منهم من روى حديث التحليل مثل علي وابن عباس وابن عمر ومعلوم أن الصحابي إذا روى الحديث وفسره بما يوافق الظاهر ولا يخالفه كان الرجوع إلى تفسيره واجبا مانعا للتأوبل ولم يرو عنه الحديث مسندا فقد سماه محللا وقد ثبت بما سيأتي إن شاء الله من حديث عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم أنهم كانوا يفهمون من إطلاق نكاح المحلل ما قصد به التحليل وإنما نهى هؤلاء عنه استدلالا بنهي النبي ﷺ على نكاح المحلل فعلم أنهم فهموا ذلك منه

الوجه العاشر: إنه لو كان التحليل ينقسم إلى حلال وحرام وصحيح وفاسد مع أن النبي ﷺ قد نهى عن ذلك في أحاديث متفرقة بألفاظ مختلفة وكذلك أصحابه في أوقات متباينة وأحوال مختلفة منها ما هو نص في التحليل المقصود ومنها ماهو كالنص فلو كان كثير من التحليل بل أكثره مباحا كما يقوله المنازع لكان الذي تقتضيه العادة المطرودة فضلا عما أوجب الله من بيان الحق أن يبين ذلك ولو واحد منهم في بعض الأوقات فلما لم يفصلوا ولم يبينوا كان هذا مما يوجب القطع إن هذا التفصيلي لا حقيقة له عندهم وإن جنس التحليل حرام فيما عناه النبي ﷺ وفيما فهموه وهذا يوجب اليقين التام بعد استقراء الآثار وتأملها

فإن قيل: تسميته تيسا مستعارا دليل على مشارطته على التحليل لأن غيره إنما يكون استعارة إذا إتفقنا جميعا على التحليل وهذا لا يكون في النية المجردة

قلنا: المستعير له هو المطلق فإن المطلق كان يجيء إلى بعض الناس فيطلب منه أن يحلل له المرأة فيكون هذا بمنزلة التيس الذي استعير لينزو على الشاة لأن المطلق الأول هو الذي له غرض في مراجعة المرأة فهو بمنزلة صاحب الشاة الذي له غرض في إنزاء التيس على شاته فينبغي منه الوطء كما ينبغي من التيس النزو فإذا كانت العادة أن المستعير له إنما هو المطلق لم يلزم من ذلك أن تكون المرأة قد شارطته فإن المرأة مشبهة بالشاة والشاة لا تستعير وإنما يستعار لها ولهذا لعن رسول الله ﷺ [ المحلل والمحلل له ] وهما المستعير والمستعار فعلم أن هذه الاستعارة إنما صدرت منهما والله أعلم

=============

صفحة 27.-----------المسلك الثاني

ما روى أبو إسحق الجوزجاني ثنا ابن مريم أنبأنا إبراهيم بن إسمعيل بن أبي حبيبة عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: سئل رسول الله ﷺ عن المحلل فقال: [ لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق العسيلة ] ورواه ابن شاهين في غرائب السنن والدلسة من التدليس وهو الكتمان والتغطية للعيوب والمدالسة المخادعة يقال فلان لا يدالسك أي لا يخادعك ولا يخفي عليك الشيء فكأنه يأتيك في الظلام والدلس بالتحريك الظلمة وذلك لا من قصد التحليل فقد دلس مقصوده الذي يبطل العقد وكتم النية الردية بمنزلة المخادع المدالس الذي يكتم الشر ويظهر الخير

وإسناد هذا الحديث جيد إلا إبراهيم بن إسماعيل فإنه قد اختلف فيه فقال يحيى بن معين في رواية الدارمي هو صالح وقال الإمام أحمد في رواية أبي طالب هو ثقة من أهل الذمة وقال محمد بن سعد كان مصليا عابدا صام ستين سنة وقال ابن معين في رواية الدوري ليس بشيء وقال البخاري منكر الحديث وقال النسائي ضعيف وقال أبو أحمد بن عدي هو صالح في باب الرواية ونكتب حديثه على ضعفه وهذا الذي قاله ابن عدي عدل من القول فإن في الرجل ضعفا لا محالة وضعفه إنما هومن جهة الحفظ وعدم الإتقان لا من جهة التهمة وله عدة أحاديث بهذا الإسناد روى منها الترمذي وابن ماجه فمثل هذا يكتب حديثه للاعتبار به وقد جاء حديث مرسل يوافق هذا

قال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا حميد بن عبد الرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار أنه سئل عن رجل طلق امرأته فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحللها له فقال: لا ثم ذكر أن النبي ﷺ سئل عن مثل ذلك فقال: [ لا حتى ينكحها مرتغبا لنفسه حتى يتزوجها مرتغبا لنفسه فإذا فعل ذلك لم تحل له حتى تذوق العسيلة ]

وهذا المرسل حجة لأن الذي أرسله احتج به ولولا ثبوته عنده لما جاز أن يحتج به من غير أن يسنده وإذا كان التابعي قد قال إن هذا الحديث ثبت عندي كفى ذلك لأنه أكثر ما يكون قد سمعه من بعض التابعين عن صحابي أو عن تابعي آخر عن صحابي وفي مثل ذلك يسهل العلم بثقة الراوي وموسى بن أبي الفرات هذا ثقة ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه وروى عن يحيى بن معين أنه قال هو ثقة وذكر عن أبيه أبي حاتم أنه قال هو ثقة وناهيك بمن يوثقه هذان مع صعوبة تزكيتهما ولا أعلم أحد أخرجه وأما ابن أبي شيبة وحميد بن عبد الرحمن الذي روى عنه ويعرف بالراوي من مشاهير العلماء الثقاة وابن أبي شيبة أحد الأئمة فهذا المرسل حجة جيدة في المسألة ثم الحديثان إذا كان فيهما ضعف قليل مثل أن يكون ضعفهما إنما هو من جهة سوء الحفظ ونحو ذلك إذا كانا من طريقين مختلفين عضد أحدهما الآخر فكان في ذلك دليل على أن للحديث أصلا محفوظا عن النبي ﷺ

يؤيد ذلك هنا: أن عمر أكثر علمه من جهة أصحاب ابن عباس وذلك المسند عن أبن عباس فيوشك أن يكون للحديث أصل عن ابن عباس وأن يكون ابن أبي حبيبة حفظ هذا الحديث عن داود بن الحصين كما رواه عمر مرسلا لا سيما وقول ابن عباس وفتياه توافق هذا وقد روي عن نافع عن ابن عمر أن رجلا قال له امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم قال: لا الإنكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها قال وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله سفاحا لعن الله المحلل والمحلل له ذكره أبو إسحاق التغلبي والإمام أبو محمد المقدسي بمعنى واحد واللفظ فيه اختلاف

وهذا الحديث أيضا نص في المسألة لكن لم أقف على إسناده ثم وقفت على إسناده رواه وكيع بن الجراح عن أبي غسان المدني عن عمر بن نافع عن أبيه أن رجلا سأل ابن عمر عمن طلق أمرأته ثلاثا فتزوجها هذا السائل عن غير مؤامرة منه أتحل لمطلقها قال ابن عمر لا الإنكاح رغبة كنا نعده سفاحا على عهد رسول الله ﷺ وهذا الإسناد جيد رجاله مشاهير ثقاة وهو نص في أن التحليل المكتوم كانوا يعدونه على عهد رسول الله ﷺ سفاحا

المسلك الثالث

إن التحليل لو كان جائزا لكان النبي ﷺ يدل عليه من طلق ثلاثا فإنه كان أرحم الناس بأمته وأحبهم لمياسير الأمور وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما وقد جاءته امرأة رفاعة القرظي مرة بعد مرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره وهو يروي من حرصها على العود إلى زوجها ما يرق القلب لحالها ويوجب إعانتها على مراجعة الأول إن كانت ممكنة ومعلوم أن التحليل إذا لم يكن حراما فلا يحصى من يتزوجها فيبيت عندها ليلة لم بفارقها ولو أنه من قد كان يستمتع وقد كان يمكن النبي ﷺ أن يقول لبعض المسلمين حلل هذه لزوجها فلما لم يأمر هو ولا أحد من خلفائه بشيء من ذلك مع مسيس الحاجة إليه علم أن هذا لا سبيل إليه وأن من أمر به فقد تقدم بين يدي الله ورسوله ولم تسمه السنة حتى تعدها إلى بدعة زينها الشيطان لمن أطاعه وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ومن تأمل هذا المسلك وعلم كثرة وقوع الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه وأنهم لم يأذنوا لأحد في تحليل علم قطعا أنه ليس من الدين فإن المقتضى للفعل إذا كان قديما قويا وجب وجوده إلا أن يمنع منه مانع فلما لى يوجد التحليل مع قوة مقتضيه علم أن في الدين ما يمنع منه

المسلك الرابع

إجماع الصحابة فروى قبيصة بن جابر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحق الجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم وهو مشهور محفوظ عن عمر وعن زيد بن عياض بن جعد أنه سمع نافعا يقول أن رجلا سأل ابن عمر عن المحلل فقال له ابن عمر: عرفت ابن الخطاب رضي الله عنه لو رأى شيئا من ذلك لرجم فيه رواه ابن وهب عنه لكن زيدا هذا يضعف جدا وحديثه هذا محفوظ من غير طريقة كما سنذكر إن شاء الله تعالى وعن سليمان بن يسار قال رفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وقال لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة رواه الجوزجاني وعن أبي مرزوق التجيبي أن رجلا أتى عثمان فقال إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول فقال له عثمان لا تنكحها إلا نكاح رغبة ة ذكره أبو إسحق الشيرازي في المهذب رواه ابن وهب عن الليث بن سعد عن محمد بن عبد الرحمن المرادي أنه سمع أبا مروان التجيبي يقول: إن رجلا طلق امرأته ثلاثا ندما وكان له جار فأراد أن يحلل بينهما بغير علمهما فسأل عن ذلك عثمان فقال له عثمان الإ نكاح رغبة غير مدالسة وعن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ذكره بعض المالكية وذكر عبد الرزاق عن هيثم عن خالد الحذاء عن مروان الأصفر عن أبي رافع قال سئل عثمان وعلي وزيد بن ثابت عن الأمة هل يحلها سيدها لزوجها إذا كان لا يريد التحليل يعني إذا بت طلاقها فقال عثمان وزيد نعم فقام علي غضبان وكره قولهما وعن علي: لعن الله المحلل والمحلل له وعن أشعث عن ابن عباس قال لعن الله المحلل والمحلل له وعن أبي معشر عن رجل عن ابن عمر قال: لعن الله المحلل والمحلل له والمحللة وعن الزهري عن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل أن ابن عمر سئل عن تحليل المرأة لزوجها قال: ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم رواه الإمام أبو بكر بن أبي شيبة وعن الثوري عن عبد الله بن شريك قال سمعت ابن عمر رضي الله عنه

وسئل عن المحلل قال لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله سبحانه أنهما أراد أن يحلها له هكذا رواه عنه حسين بن حفص ورواه الجوزجاني عن ابن نمير عنه لكن قال عن سفيان عن رجل سماه عن ابن عمر في المحلل إذا علم الله سبحانه منه أنه محلل لا يزالان زانيين ولو مكثا عشرين سنة ورواه عبد الرزاق عن عبد الله بن شريك قال سمعت عمر يسأل عمن طلق أمرأته ثم ندم فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له فقال له ابن عمر كلاهما زان ولو مكثا عشرين سنة ورواه الشالنجي بإسناده عن عبد الله بن شريك الغاضري قال سمعت ابن عمر سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها فقال لعن الله المحلل والمحل له هما زانيان وقال سعيد في سننه ثنا هشيم ثنا الأعمش عن عمران بن الحرث السلمي قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إن عمه طلق امرأته ثلاثا فندم فقال عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا قال: أرأيت إن أنا تزوجتا من غير علم منه أترجع إليه؟ قال: من يخادع الله يخدعه الله رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر كلاهما عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس أن رجلا سأله عمن طلق امرأته كيف ترى في رجل يحلها له فقال ابن عباس: من يخادع الله يخدعه وهذه الآثار مشهورة عن الصحابة وفيها بيان أن المحلل عندهم اسم لمن قصد التحليل سواء يظهر ذلك أو لم يظهره وأن عمر كان ينكل من يفعل ذلك وأنه يفرق بين المحلل والمرأة وإن حصلت له رغبة بعد العقد إذا كان في الابتداء قصد التحليل وأن المطلق طلق ثلاثا وإن تأذى وندم ولقي شدة من الطلاق فإنه لا يحل التحليل له وإن لم يشعر هو بذلك وهذه الآثار مع ما فيها من تغليظ النحليل فهي من أبلغ الدليل على أن تحريم ذلك واستحقاق صاحبه العقوبة كان مشهورا على عهد عمر ومن بعده من الخلفاء الراشدين ولم يخالف فيه من خالف في المتعة مثل ابن عباس بل اتفقوا كلهم على تحريم هذا التحليل وقد ذكرنا في أول الكتاب عن الحسن البصري أنه قال له رجل إن رجلا من قومي طلق امرأته ثلاثا فندم وندمت فأردت أن أنطلق فأتزوجها وأصدقها صداقا ثم أدخل بها كما يدخل الرجل بامرأته ثم أطلقها فقال له الحسن إتق الله يا فتى ولا تكون مسمار نار لحدود الله وروي عن الحسن أنه قال كان المسلمون يقولون هو التيس المستعار وهذا يقتضي شهرة ذلك بين المسلمين زمن الصحابة

فإن قيل: فقد روى ابن سيرين أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فندم وكان بالمدينة رجل من الأعراب عليه رقعتان رقعة يواري بها عورته ورقعة يواري بها سوأته فقال له هل لك تتزوج امرأة فتبيت عندها ليلة وتجعل لك جعلا قال نعم فزوجوها منه فلما دخل فبات عندها قالت لى هل عندك من خير قال هو حيث تحبين جعله الله فداها فقالت لا تطلقني فإن عمر لن يجبرك على طلاقي فلما أصبحوا لم يفتح لهم الباب حتى كادوا يكسرون الباب فلما دخلوا قالوا له طلقها قال الأمر إليها فقالوا لها فقالت إني أكره أن لا يزال يدخل علي الرجل بعد الرجل فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب أخبروه القصة فرفع يده وقال اللهم أنت رزقت ذا الرقعتين إذ بخل عليه عمر فقال له لئن طلقها فأوعده رواه سعيد بن منصور وحرب عنه بهذا اللفظ ولفظه في سنن سعيد أن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا وندم وبلغ ذلك منه ما شاء الله فقيل له أنظر رجلا يحللها لك وكان رجلا من أهل البادية له حسب أقحم إلى المدينة وكان محتاجا ليس له شيء يتوارى به إلا رقعتين رقعة يواري بها فرجه ورقعة يواري بها دبره فأرسلوه إلبه فقالوا له هل لك أن نزوجك أمرأة فتدخل عليها فتكشف عنها خمارها ثم تطلقها ونجعل لك على ذلك جعلا قال نعم فزوجوه فدخل عليها وهو شاب صحيح الحسب فلما دخل على المرأة فأصابها فأعجبها فقالت له أعندك خير قال نعم هو حيث تحبين جعله الله فداها وذكر الحديث ورواه أبو حفص العكبري في كتابه عن ابن سيرين قال قدم رجل مكة ومعه أخوة له صغار وعليه أزار من بين يديه رقعة ومن خلفه رقعة فسأل عمر فلم يعطه شيئا فبينما هو كذلك إذ نزع الشيطان بين رجل من قريش وبين امرأته فطلقها فقال لها هل لك أن تعطين ذا الرقعتين شيئا ويحلك لي قالت نعم إن شئت فأخبروه ذلك قال نعم فتزوجها فدخل بها فلما أصبحت أدخلت إخوته الدار فجاء القرشي يحوم حول الدار ويقول يا ويله غلب علي إمرأتي فأتى عمر فقال يا أمير المؤمنين غلبت علي امرأتي قال من غلبك قال ذو الرقعتين قال أرسلوا إليه فلما جاء الرسول قالت له المرأة كيف موضعك من قومك قال ليس بموضعي بأس قالت إن أمير المؤمنين يقول لك أتطلق أمرأتك فقل والله لا أطلقها فإنه لا يكرهك وألبسته حلة فلما رآه عمر من بعيد قال الحمد لله الذي شرف ذا الرقعتين فدخل عليه فقال له أتطلق أمرأتك قال لا والله لا أطلقها فقال له عمر لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط فهذا عن عمر رضي الله عنه وهو شرط تقدم العقد وقد حكم عمر بصحته وإذا كان كذلك صارت المسألة خلافا في الصحابة وربما حملنا ما روي عن عمر من النهي عن نكاح المحلل على الشرط المقرون بالعقد لتتفق روايتاه ورواه عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن عمر وابن سيرين قال جاءت امرأة إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها فأمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقيم عليها ولا يطلقها وأوعده أن يعاقبه إن طلقها

قلنا: الجواب عن هذا من ستة أوجه:

أحدها: إنه منقطع ليس له إسناد فروى أبو حفص عن أبي النضر قال سمعت أبا عبد الله يقول في المحلل والمحلل له أنه يفسخ نكاحه في الحال قلت أو ليس يروى عن عمر حديث ذي الرقعتين حيث أمره عمر أن لا يفارقها فال ليس له إسناد وقال أبو عبيد هذا حدبث مرسل لابن سيرين وإن كان مأمونا لم ير عمر ولم يدركه فأين هذا من الذين سمعوه يخطب على المنبر لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما قلت وقد رويناه عن ابن عمر أنه سئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال: ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم وأحاديث ابن عمر كلها تبين أن نفس التحليل المكتوم زنا وسفاح وقد أخبر عن أبيه بأنه لو أدرك ذلك لنكل عليه وسائر الآثار عن عثمان وعلي وغيرهما تبين أن التحليل عندهم كل نكاح أراد به أن يحلها وقد ثبت عن عمر أنه خطب هؤلاء فقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما فعلم أن عمر أراد التحليل مطلقا وإن كان مكتوما فالمنقطع إذا عارض المسند لم يلتفت إليه

الوجه الثاني: إن هذا إن كان له أصل فلعله لم تكن الإرادة فيه من الزوج الثاني وإنما كانت من الزوج المطلق وقد أجاب أبو عبيد وأبو حفص بهذا الجواب أيضا ثم قال بعض أصحابنا وبعض المالكية لعله وقت العقد لم ينو التحليل وإن كانوا قد شرطوه بل قصد نكاح الرغبة ويشبه والله أعلم أنهم لم يذكروا للزوج سببا من ذلك بل زوجوه بها وتواطأوا فيما بينهم على أن يعطوه شيئا ليطلقها ولم يشعروه بذلك ولكن ظاهر المروي في القصة أنهم شارطوه على الخلع قبل النكاح ولم يشترطوا عليه الطلاق بمال وهذا أمر لا ينفرد به بل هو موقوف على بذل المال له فهو مواطأة على فرقة من الزوج ومن أجنبي وهو بمنزلة المواطأة على الطلاق المجرد كالمواطأة من الزوجة والمطلق ثلاثا على أن يبيعها الزوج أو يهبها إباه إذا كان عبده ومع هذا فيمكن أنهم ذكروا له بعد العقد فإن ابن سيرين لم يشهد القصة وإنما سمعها من غيره ومثل هذه القصة إذا حدث بها قد لا يخبر المخبر بأعيان الألفاظ وترتيبها لا سيما إذا كان المقصود منها غير ذلك بل يذكر على سبيل الإجمال ونحن نعلم أنه لا بد أن يعقد النكاح على صداق يلتزمه الزوج

وبالجملة فهذه حكاية حال لم يشهدها الحاكي فيحتمل أنها وقعت على هذا الوجه وهو الأقرب لأن الرجل لما جاء إلى عمر رضي الله عنه إنما قال غلبت أمراتي ولم يقل غدر ولا مكر بي ولا خدعت ولو كان المتزوج قد واطأه على أن يخلعها أويطلقها لكانت شكايته ذلك إلى عمر رضي الله عنه واحتجاجه به أولى من قوله غلبت على امرألي فإن أقل ما في ذلك أن ذا الرقعتين يكون قد حدثه فكذبه ووعده فأخلفه وما ذكره بعض أصحابنا ضعيف فإن عمر لم يستفصله هل نويت التحليل وقت العقد أم لم تنوه ولو كان مناط الحكم ذلك لوجب الإستفصال وصاحب هذا القول من أصحابنا ومن المالكية يقول إذا وطىء الزوج على التحليل وقصد هو وقت العقد الرغبة ولم يعلمهم بذلك فهو نكاح صحجح لعدم النية والشرط المقارن وذكر أصحابنا أن كل واحد من المواطأة المتقدمة على العقد واعتقاد التحليل مبطل للعقد وهذا هو الذي دل علبه كلام الإمام أحمد وهو قياس قول أصحابنا وقول المالكية فإن الشروط المتقدمة على العقد بمنزلة المقارنة إن كانت صحيحة وحب الوفاء يها وإن كانت باطلة أثرت في العقد في المذهبين جميعا بل هذه الصورة أبلغ في البطلان من الاعتقاد المجرد فلهذا لم يرخص أحد من التابعين في المواطأة قبل العقد وحكي عن بعضهم الرخصة في الاعتقاد المجرد فإن هذا تلبيس مدلس على القوم والنكاح الذي قصده لم يرضوا به ولم يعاقدوه عليه والنكاح الذي رضوا به لم يرضى الله به ورسوله وإنما يصح العقد برضى المتعاقدين التابع لرضى الله ورسوله فإذا تخلف أحدهما فهو باطل

الوجه الثالث: إئه ليس في القصة أنهم واطأوه على أن يحلها للأول ولا أشعروه أنها مطلقة وإنما فيهم أنهم واطأوه على أن يبيت عندها ليلة ثم يطلقها وهذا من جنس نكاح المتعة الذي يكون للزوج فيه رغبة في النكاح إلى وقت ونكاح المتعة قد كانوا يستحلونه صدرا من خلافة عمر حتى أظهر عمر السنة بتحريمه ولعل هذا كان قبل أن يظهر تحريم نكاح المتعة ثم الئكاح المشروط فيه الطلاق في الوقت الذي كان يصح فيه مثل هذا الشرط إنما يجب الوفاء به إذا طلبت المرأة ذلك لأن الشرط حق لها كالصداق مثلا ولهذا لما طلب من الرجل الطلاق رد الأمر إليها فلم تطلبه وإذا كانت المرأة لم تطلبه لم يكن عليه أن يطلق بخلاف النكاح الموقت فإنه ينقضي بمضي الوقت وقولها له فإن عمر لا يجبرك على طلاقي لأن الطلاق حق لها وعمر لا بجبر على توفية حق لم يطلبه صاحبه بل عفا عنه ثم إن عمر رضي الله عنه أظهر بعد هذا تحريم المتعة وتوعد عليه

الوجه الرابع: إن هذه القصة قضية عين وحكاية حال والحاكي لها يشهدها لبستوفي صفتها فيمكن أن تكون المرأة لما رغبت في الرجل وهو قد رغب فيها وهي امرأة ثيب هي أولى بنفسها مرت وليها كان بمنزلة خاطب قد رغبت المرأة فيه فأمره عمر بإمساكها بنكاح جديد وإن كان قد قال له لا تطلقها فإن الفرقة النكاح وإن كان فاسدا يسمى طلاقا وإن كانت فسخا حتى قد قال بعض العلماء إنه طلاق واقع وهذا كما روي عن فيروز الديلمي أنه قال أسلمت وعندي أختان فأمرني النبي ﷺ أن أطلق إحداهما ومعلوم أن هذا ليس هو الطلاق الذي ينقص به العدد ويقوي ذلك أن الإمساك كان بنكاح جديد لا بذلك النكاح أشياء

أحدها: إن في الحديث أنه لما جاء الرسول من عند عمر قالت له المرأة كيف موضعك من قومك قال ليس بموضعي بأس قالت إن أمير المؤمنين يقول لك أتطلق امرأتك فقل لا والله لا أطلقها فاعتبرت المرأة كفاءته بعلمها بأنه قد يكون للأولياء بها تعلق فلو كان النكاح الأول صحيحا لازما لم يكن للأولياء الاعتراض بعد ذلك وإنما يكون اعتراض لهم إذا أرادت المرأة أن تتزوج من غير كفء ووقع النكاح بلا رضاهم فهذا دليل على أن النكاح لم يكن قد انعقد لازما إلا أن يقال كان مقصودهم أنه إذا كان غير كفء يبطل عمر رضي الله عنه النكاح لأنه هو القائل لأمنعن خروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد رضي الله عنه فيقال لم يكن الأولياء يمكنهم الطعن في كفاءته لأن عمر رضي الله عنه قد كان ينكر عليهم تزويجها بغير كفء إن كان يرى ذلك وإن لم يكن يرى ذلك فلا ينفعهم ذكره لأن النكاح يكون فاسدا فلا يحصل التحليل وإن لم يكن يرى ذلك فلا ينفعهم ذكره فعلى التقريرين لا حاجة لهم بذكره إلا إدا كان العقد الأول غير لازم

وثانيها: إن عمر رضي الله عنه قال لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط ولو كان هذا النكاح صحيحا يحلها للأول لم ينهه عمر عن طلاقها إذا أرضوه وهو يرى شغف الأول بها وصفو الأولياء إليه فلما نهاه عن مفازقتها كان كالدليل على أنها لم تحل للأول إذا فارقها وهم يريدون الاستحلال وإنما درأ عمر رضي الله عنه العقوبة مع أنه قال لا أوتى بمحلل إلا رجمته لأنه أعرابي جدير بأنه لا يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله

وثالثها: إنهم لما قالوا له طلقها قال الأمر إليها فدل على أن مقامه مشروط وهذا إنما يكون قبل لزوم النكاح وصحته

ورابعها: إنه قد روى بعض المالكية أن عمر رضي الله عنه بعث المرأة لواسطة بينهما التي تسمى الدلالة ونكل بها وهذا دليل على أنها فعلت ما لا يحل

الوجه الخامس: إن هذا الأثر ليس فيه عودها إلى المطلق بل فيه النهى عن ذلك وليس فيه دوام نية التحليل بل فيه أنه صار نكاح رغبة بعد أن كان تحليلا فإن كان بنكاح مستأنف فلا كلام وإن كان باستدامة النكاح الأول فهذا مما قد يسوغ فيه الخلاف كما في النكاح بدون إذن المرأة أو نكاح العبد بدون إذن سيده أو بيع الفضولي وشرائه فإنه قد اختلف فيه هل هو مردود أو موقوف وبعض الفقهاء يقول ان الشرط الفاسد إذا حذف بعد العقد صح فيمكن أن يكون قول عمر رضي الله عنه مخرجا على هذا فإن الصحابة قد أختلفت فيه ونية التحليل كاشتراطه فيكون هذا الشرط الفاسد إن حذف صح العقد وإلا فسد وإذا حمل الحديث على هذا فهو محل اختلاف في مسألة أخرى ولا يلزم من ذلك الخلاف في مسألة المحلل ولهذا لما أفتى أحمد في نكاح المحلل بأن يفرق بينهما وإن حدث له رغبة بعد ذلك كما دلت عليه السنة وكما فعل عثمان وقاله ابن عمر إعترض عليه بحديث عمر هذا فأجاب بأنه غير مسند فلا يعارض الآثار المسندة وإنما اعترض عليه بذلك بناء على الآثار قد اختلفت في نكاح المحلل هل له أن يمسكها به ولم يقل أحد أنها اختلفت في صحة أصل النكاح ولا في جواز عودها إلا الأول بالتحليل وإذا كانت هذه الحكاية بهذه المثابة من الإسناد والإحتمال لم تعارض ما عرف من كلام عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه ابنه ومن سمعه يخطب على منبر المدينة

ومما يبين أن مثل ذلك قد يقع فيه إلتباس ما رواه سعيد في سننه ثنا جرير عن مغيرة قال قلت لإبراهيم هل كان عمر بن الخطاب حلل بين رجل وأمرأته فقال لا إنما كانت لرجل امرأة ذات حسب ومال فطلقها زوجها تطليقة أو أثنتين فبانت منه ثم إن عمر تزوجها فهنى بها وقالوا لولا أنها أمرأة ليس بها ولد فقال عمر وما بركتهن إلا أولادهن فطلقها قبل أن يتزوجها فتزوجها زوجها الأول قال مغيرة عن أبي معشر كان زوجها الأول الحرث بن أبي ربيعة فهذا مغيرة قد بلغه أما عن أبي معشر أو غيره أن عمر حلل امرأة حتى أخبره إبراهيم أنه إنما كان نكاح رغبة لا أنه تزوجها للتحلل لكن لأنه طلقها عقب الدخول بها أوعقب العقد توهم لم يعلم حقيقة الأمر أنه كان تحليلا فكذلك دون الرقعتين لما بلغهم أنهم طلبوا منه أن يطلق وبذلوا له المال على ذلك فامتنع ظنوا أنه كان محللا فإن وقوع الطلاق أشد إيهاما للتحليل من مسألته فإن كان توهمه مع وقوع الطلاق باطلا كان توهمه مع مسألة الطلاق أولى بذلك

الوجه السادس: إنه لو ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه صحح نكاح المحلل فيجب أن يحمل هذا منه على أنه رجع عن ذلك لأنه ثبت عنه من غير وجه التغليظ في التحليل والنهي عنه وأنه خطب الناس على المنبر فقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وكذلك ذكر ابنه أن التحليل سفاح وأن عمر لو رأى أصحابه لنكلهم وبين أن التحليل يكون باعتقاد التحليل وقصده كما يكون بشرطه وقد كانوا في صدر خلافته يستحلون المتعة بناء على ما تقدم من رسول الله ﷺ فيها من الرخصة يفعل ذلك من يبلغه تحريمها بعد ذلك فلعله في ذلك الوقت كان يقصد من يقصد التحليل ثم بعد هذا بلغ عمر رضي الله عنه النهي عن التحليل فخطب به وأعلن حكمه كما خطب عن المتعة وأعلن حكمها ولا يمكن أن يكون رخص في التحليل بعد النهي لأن النهي إنما يكون عن علم بسنة رسول الله ﷺ بخلاف ترك الإنكار فإنه يكون عن الإستصحاب وما نهى عنه رسول الله ﷺ ولعن فاعله فإنه لا يمكن تغيير ذلك بعد موته فثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يختلفوا في ذلك

المسلك الخامس

إن الله سبحانه قال بعد قوله الطلاق مرتان وبعد ذكر الخلع: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ونكاح المحلل والمتعة ليس بنكاح عند الإطلاق وليس المحلل والمتمتع بزوج وذلك لأن النكاح في اللغة الجمع والضم على أتم الوجوه فإن كان إجتماعا بالأبدان فهو الأيلاج الذي ليس بعده غاية في إجتماع البدنين وإن كان إجتماعا بالعقود فهو الجمع بينهما على وجه الدوام واللزوم ولهذا يقولون استنكحه المذي إذا لازمه وداومه يدل على ذلك أن ابن عباس سئل عن المتعة وكان يبيحها أنكاح هي أم سفاح فقال ليست بنكاح ولا سفاح ولكنها متعة وأخبر عمر رضي الله عنه أنها ليست بنكاح لما لم يكن مقصودها الدوام واللزوم

ولهذا لم يكن يثبت فيها أحكام النكاح المختصة بالعقد من الطلاق والعدة والميراث وإنما كان يثبت فيها أحكام الوطء وكذلك قال غير ابن عباس مثل ابن مسعود وغيره من الصحابة والتابعين نسخ المتعة والنكاح والطلاق والعدة والميراث فإذا كان المستمتع الذي له قصد في الإستمتاع بها إلى أجل ليس بناكح حيث لم يقصد دوام الإستمتاع ولزومه فالمحلل الذي لم يقصد شيئا من ذلك أولى أن لا يكون ناكحا وقوله بعد هذا نكحت أو تزوجت وهو يقصد أن يطلقها بعد ساعة أو ساعتين وليس له فيها غرض أن تدوم معه ولا تبقى كذب منه وخداع وكذلك قول الولي له زوجتك أو أنكحتك وقد شارطه أنه يطلقها إذا وطئها وهذا هو المعنى الذي ذكره ابن عمر رضي الله عنه حين سئل عن تحلبل المرأة لزوجها فقال ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكل بكم وقال لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله أنهما أرادا أن يحلها له وهو معنى قول عمر لو أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتها

وبين هذا أن الزوج المطلق في الخطاب إنما يعقل منه الرجل الذي يقصد مقامه ودوامه مع المرأة بحيث نرضى مصاهرته وتعتبر كفاءته وتطيق المرأة ووليها أن يملكها وهذا المحلل الذي جيء به للتحليل ليس بزوج وإنما هو تيس أستعير لضرابه والله عز وجل قد علم من المرأة ووليها أنهم لا يرضونه زوجا فإذا أظهروا في العقد قولهم زوجناك وأنكحناك وهم غير راضين بكونه زوجا كان هذا خداعا واستهزاء بآيات الله سبحانه

يؤيد هذا: إن الله سبحانه حرم هذه المطلقة حتى تنكح زوجا غيره والنكاح المفهوم في عرف أهل الخطاب إنما هو نكاح الرغبة لا يعقلون عند الإطلاق إلا هذا ولو أن الرجل قال لابنه إذهب فانكح فصار محللا لعده أهل العرف غير ممتثل لأمر أبيه وإنما يسمى ما دون هذا نكاحا بالتقييد مثل أن يقال نكاح المتعة نكاح المحلل كما يقال بيع الخمر وبيع الخنزير وفرق بين ما يقتضيه مطلق اللفظ وما يقتضيه مع التقييد والله سبحانه قد قال حتى تنكح زوجا غيره ولم يرد به كل ما يسمى نكاحا مع الإطلاق أو التقييد بإجماع الأمة فإن ذلك يدخل فيه نكاح ذوات المحارم فلا بد أن يراد به ما يفهم من لفظ النكاح عند الإطلاق في عرف المسلمين

يقوي هذا: أن التحريم قبل هذا النكاح ثابت بلا ريب ونكاح الرغبة رافع لهذا التحريم بالاتفاق وأما نكاح المحلل فلم نعلمه مرادا من هذا الخطاب ولا هو مفهوم منه عند الإطلاق فيبقى التحريم ثابتا حتى يقول الدليل على أنه نكاح مباح ومعلوم أنه لا يمكن أحد أن يذكر نصا يحل هذا النكاح ولم يثبت دخوله في اسم النكاح المطلق ولا يمكن حله بالقياس فإنه لا يلزم من حل نكاح الرغبة حل نكاح المحلل كما لا يخفى فإن الراغب مريد للنكاح فناسب أن يباح له ذلك وأما المحلل فليس له غرض في النكاح ولا إرادة فلا يلزم أن يباح له ما لا رغبة له فيه إذ الإرادة مظنة الحاجة فلا يلزم من إباحة الشيء للمحتاج إليه أو لمن هو في مظنة الحاجة إليه إباحته لم يعلم من نفسه أنه لا إرادة له ولا قصد في ذلك بل هوراغب عنه زاهد فيه لولا تطليق ذلك المطلق الأول وإعادتها إليه لم يكن له غرض في أن ينكح وحل المرأة للمطلق الأول ليس هو المقصود بالنكاح حتى يقول هذه حاجة للناكح وإنما الحاجة هنا للمطلق وذلك قد حرم عليه هذا ثم إن تلك الحاجة لا تحصل بالنكاح وإنما تحصل برفعه بعد وقوعه فلم يكن له غرض في النكاح ولا فيما هو من توابع زائل وإنما غرضه نكاح زائل والنكاح ليس مما يقصد بعقده الانتفاع بإزالة الملك كعقد البيع وإنما منفعته منوطة بوجوده فإذا لم يقصد به إلا أن يزيله لمنفعة الأول فليس عاقدا لشيء من مقاصد النكاح فلا يصح إلحاقه بمن يعقد النكاح لمقاصده أو بعضها

يوضح ذلك: أن ما هو محظور في الأصل لا يباح منه إلا ما فيه منفعة كذبح الحيوان فإنه قبل القتل محرم وإنما أبيح قتله لمنفعة الأكل ونحوها فإذا قتل لا للانتفاع به كان ذلك القتل محرما وكذلك الإبضاع حرام قبل العقد وإنما أبيحت بعد العقد وأبيح العقد عليها للانتفاع بمقاصد النكاح والنفع بها فإذا عقد لغير شيء من مقاصد النكاح كان ذلك حراما عبثا وإن كان قد قصد بهذا تحليلها لمن حرمت عليه فإن التحليل فرع لزوال النكاح وزوال النكاح فرع لحصول النكاح والنكاح فرع لإرادة مقاصده فإذا جعل مقصوده التحليل الذي هو فرع فرعه صار فرع فرع الفرعي أصلا وصار هذا كرجل قال لامرأته أنت علي كظهر أمي حتى تذبح هذه الشاة أو آلى من امرأته حتى تذبح هذه الشاة فقام هو أو غيره فذبحها لغيرالأكل ولم يقصد بها التذكية المبيحة للحم وإنما قصد مجرد حل اليمين فإن هذا الذبح لا يبيح اللحم لأن الذبح إنما أباحه الشارع لمقصود حل اللحم ثم قد يحصل في ضمن ذلك حل يمين وغيرها فإن فات ذلك المقصود لم يثبت الحل بحال وإن قصد شيء آخر كذلك هذا النكاح له مقصود فإذا لم يقصد كان الفرج حراما وإن قصد باستحلال الفرج شيء آخر وقد سوى الله سبحانه بين الفروج والذبائح في قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب }

وكذلك سوت السنة والإجماع القديم بينهما في تحريمهما من المجوس ونحوهم وفي الإحتياط فيهما إذا اشتبه مباح أحدهما بمحطور أو اشتبه السبب المبيح بغيره أو اختلط كما دل عليه حديث عدي بن حاتم وغيره بل مسألة التحليل أقبح من هذا فإن الذبائح هنا يمكنه أن يقصد الذبح المشروع ويحصل في ضمنه حل اليمين وحيث لم تقصد التذكية المبيحة فلم يقصد بالذبح أن يزيل الثذكية بعد هذا والمحلل لم يقصد شيئا من مقاصد النكاح بل قصد رفع النكاح وإزالته

يقرر هذا أن الله سبحانه أطلق النكاح في هذه الآية وفسره رسول الله ﷺ المبين مراده بأن النكاح التام الذي يحصل فيه مقصود النكاح وهو الجماع المتضمن ذوق العسيلة فعلم أنه لم يكتف بمجرد ما يسمى نكاحا مع التقييد وإنما أرد ما هو النكاح المعروف الذي يفهم عند الإطلاق وذلك إنما هو نكاح الرغبة المتضمن ذوق العسيلة وهذا بين إن شاء الله تعالى وإذا ثبت أنه حرام لأن الفرج إلا بنكاح أو ملك يمين وثبت أنها لا تحل للمطلق إذ الله حرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره

المسلك السادس

إنه سبحانه قال: { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } يعني فإن طلقها هذا الزوج الثاني الذي نكحته فلا جناح عليهما وعلى المطلق الأول أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وحرف أن في لسان العرب لما يمكن وقوعه وعدم وقوعه فإما ما يقع لازما أو غالبا فيقولون فيه إذا فاتهم يقولون إذا احمر البسر فآتني ولا يقولون إن أحمر البسر لأن إحمراره واقع فلما قال فإن طلقها علم أن ذلك النكاح المتقدم نكاح يقع فيه الطلاق تارة ولا يقع أخرى ونكاح المحلل يقع فيه الطلاق لازما أو غالبا وإنما يقال في مثله فإذا طلقها ولا يقال فالآية عمت كل نكاح فلهذا قيل فإن طلقها إذ من الناكحين أن يطلق ومنهم من لا يطلق وإن كان غالب المحللين يطلق لأنا نقول أو أراد سبحانه ذلك لقال فإن فارقها لأنه قد يموت عنها وقد تفارقة بانفساخ النكاح بحدوث مهر أو رضاع أو لعان أو بفسخه لعسرة أو غيرها فتحل لكن هذه الأشياء ليست بيد الزوج وإنما بيده الطلاق خاصة فهو الذي إذا قيل فيه إن طلق حلت للأول دل على أن النكاح نكاح رغبة قد يقع فيه الطلاق وقد لا يقع لا نكاح دلسة يستلزم وقوع الطلاق إلا نادرا ولو قيل فإن فارقها دل ذلك على أن النكاح تقع فيه الفرقة تارة ولا تقع أخرى ومعلوم أن نكاح الرغبة والدلسة بهذه المثابة فيشبه والله أعلم أن يكون إنما عدل عن لفظ فارق إلى لفظ طلق للإيذان بأنه نكاح قد يكون فيه الطلاق لا نكاح معقود لوقوع الطلاق

يؤيد هذا: ان لفظة الفراق أعم فائدة وبه جاء القرآن في مثل قوله سبحانه { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } فلو لم يكن في لفظ الطلاق خصيصة لكان ذكره أولى وما ذكرناه فائدة مناسبة يتبين بملاحظتها كمال موضع الخطاب

يبين هذا: أن الغاية المؤقتة بحرف حتى تدخل في حكم المحدود المغيا لا نعلم بين أهل اللغة خلافا فيه وإنما اختلف الناس في الغاية المؤقتة بحرف إلى ولهذا قالوا في قولهم أكلت السمكة حتى رأسها وقدم الحاج حتى الشاة وغير ذلك أن الغايات داخلة في حكم ما قبلها فقوله سبحانه: { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يقتضي أنها لا تحل له حتى توجد الغاية التي هي نكاح زوج غيره وأن هذه الغاية إذا وجدت انتهى ذلك التحريم المحدود إليها وانقضى وهذا القدر وحده كاف في بيان حلها للأول إذا فارقها الثاني بموت أو فسخ أو طلاق لأنه إذا نكحها زوج غيره فقد زال التحريم الذي كان وجد بالطلقات الثلاث وبقيت كسائر المحصنات فيها تحريم آخر من غير جهة الطلاق فإذا زال هذا التحريم بالفرقة لم يبق فيها واحد من التحريمين فتعود كما كانت أو أنه أريد بنكاح زوج غيره مجموع مدة النكاح بناء على أن النكاح اسم لمجموع ذلك كما يقال لا أكلمك حتى تصلى فإن كان المراد هذا كان التقدير أنها لا تحل له إلا بعد انقضاء نكاح زوج غيره

ومعناه كمعنى الأول فلما قيل بعد هذا فإن طلقها فلا بد أن يكون فيه فائدة جديدة غير بيان توقف الحل على الطلاق وهو والله أعلم التنبيه على أن ذلك الزوج موصوف بجواز التطليق وعدم جوازه أعني وقوعه تارة وعدم وقوعه أخرى

اذا أردت وضوح ذلك فتأمل قوله سبحانه: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله لما كان التطهير فعلا مقصودا جيء فيه بحرف التوقيت ولما كان الطلاق هنا غير مقصود جيء فيه بحرف التعليق فلو كان نكاح المحلل مما يدخل في قوله حتى تنكح لكان هو الغالب على نكاح المطلقات وكان الطلاق فيه مقصودا فكان بمنزلة تلك الآية لكن لما يكن كذلك فرق الله بينهما في تلك الآية إلا أنه لما توقف الحل على شرطين قال: { ولا تقربوهن حتى يطهرن }

فبين أن ذلك التحريم الثابت بفعل الله زال بوجود الطهر ثم بقي نوع آخر أخف منه يمكن زواله بفعل الآدمي بين حكمه بقوله: { فإذا تطهرن فاتوهن }

وهنا لم يرد بقوله فإن طلقها بيان توقف الحل على طلاقها لأن ذلك معلوم قد بينه بقوله في الحرمات والمحصنات من النساء ولأن الطلاق ليس هو الشرط وإنما الشرط أي فرقة حصلت ولأن الطلاق وحده لا يكفي في الحل حتى تنقضي عدة المطلق وعلم الأئمة بأن المتزوجة لا تحل أظهر من علمهم بأن المعتدة لا تحل فلو أريد هذا المعنى لكان ذكره العدة أوكد فظهر أنه لا بد من فائده في ذكر هذا الشرط ثم في تخصيص الطلاق ثم ذكره بحرف إن وما ذاك والله أعلم إلا لبيان أن النكاح المتقدم المشروط هو الذي يصح أن يقال فيه فإن طلقها ونكاح المحلل ليس كذلك والله أعلم

المسلك السابع

قوله سبحانه تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } قال هذا بعد أن قال سبحانه: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } فأذن الله سبحانه في فديتها إن خيف أن لا يقيما حدود الله لأن النكاح له حدود وهو ما أوجب الله لكل من الزوجين على الآخر

فإذا خيف أن يكون في اجتماعهما تعد لحدود الله كان افتداؤها منه جائزا ثم ذكر الطلقة الثالثة ثم ذكر أنها إذا نكحت زوجا غيره ثم طلقها فلها أن تراجع زوجها الأول إن ظنا أن يقيما حدود الله فإنما أباح معاودتها له إذا ظنا ! قامة حدود الله كما أنه إنما أباح افتداؤها منه إذا خافا أن لا يقيما حدود الله لأن المشروط هنا الفداء ويكفي في إباحة الفرقة خوف الذنب في المقام والمشروط هنا النكاح ولا بد في المجامعة من ظن الطاعة وإنما شرط هذا الشرط لأنه قد أخبر عنهما أنهما كانا يخافان أن لا يقيما حدود الله فلا بد مع ذلك من النظر إلى تلك الحال هل تبدلت أو هي باقية بخلاف الزوج المبتدأ فإن ظن إقامة حدود الله موجودة لأنه لم يكن هناك حال تخالف هذا ونظير هذا قول سبحانه: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا }

لأن الطلاق غالبا إنما يكون عن شر فإذا ارتجعا مريدا للشر بها لم يجز ذلك بل يكون تسريحها هو الواجب لكن قال هناك أحق بردهن فجعل الرد إلى الزوج خاصة لأن الكلام في الرجعية وقال هنا أن يتراجعا فجعل التراجع إلى الزوجين جميعا لأن الكلام في المطلقة ثلاثا وهي لا تحل بعد الزوج الثاني إلا بعقد جديد موقوف على رضاها وكان في هذا دليل على أن هذه المرأة الواحدة إجتمع فيها طلقتان وفدية وطلقة ثالثة كما قال ابن عباس وغيره فإذا تبين أن الله سبحانه إنما أباح النكاح الذي قد يخاف فيه من ضرر لمن ظن أنه يقيم حدود الله فيه علم أن النكاح المباح هو النكاح الذي يحتاج فيه إلى إقامة حدود الله في المعاشرة ونكاح المحلل ليس هو من هذا فإنه إذا كان من نيته أن يطلقها عقيب وطئها فليس هناك عشرة يحتاج معها إلى إقامة حدود الله فلا يكون هذا الظن شرطا فيه وهو خلاف القرآن

ويظهر ذلك بما لو أراد المطلق الأول أن يحلها للمطلق الثاني فإن الله سبحانه إنما آباح لهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ونكاح المحلل لا يحتاج صاحبه أن يظن ذلك

فإن قال قائل بل اشنرط ذلك في نكاح المحلل قيل له إذا قال لك المحلل أنا من نيتي أن أطأها الساعة وأطلقها عقيب ذلك وكذلك هي من نيتها ذلك فهل يباح لنا ذلك مع إن أقمنا لم نظن أنا نقيم حدود الله فإن قال نعم خالف كتاب الله وإن قال لا بطل مذهبه وترك أصله يبين ذلك أن غالب المحللين أعني الرجل المحلل والمرأة لا يظنان أنهما يقيمان حدود الله لأن كل واحد منهما لا رغبة له في صاحبه وإنما تزوجه ليفارقه ومن كانت هذه نيته كيف يظن أن يقيم حدود الله معه لا سيما إذا تشارطا على ذلك ولا يجوز أن يقال المعتبر في نكاح المحلل يظن إقامة حدود الله في الساعة التي يعاشرها فيها فقط لأنه من المعلوم أن حسن المعاشرة ساعة ويوما لا يعدمه أحد من الناس في الأمر العام فإن كان هذا هو المشروط فهذا حاصل لكل أحد فلا حاحة إلى اشتراطه وهذا بين إن شاء الله تعالى وقد روي عن مجاهد في قولة إن ظنا أن يقيما حدود الله قال إن علما أن نكاحهما على دلسة وأراد بالدلسة التحليل ومعنى كلامه والله أعلم أن علم المطلق الأول والزوجة أن النكاح الثاني كان على غير دلسة فحينئذ إذا تزوجها يكون بحيث يظن أن يقيم حدود الله من الطلاق الأول والنكاح الذي بعده ثم الطلاق والنكاح أيضا أما إذا تزوجها نكاح دلسة وطلقها ثم تراجعا لم يكونا قد ظنا أن يقيما حدود الله التي هي تحريمها أولا ثم حلها للثاني ثم حلها للأول فعلى هذا تكون الأية عامة في ظن صحة النكاح وظن حسن العشرة وأحد الظنيين لأجل الماضي والحاضر والآخر متعلق بالمستقبل ولهذا والله أعلم لم يجعل الظن علما هنا فلم يرفع الفعل حتى تكون أن الحقيقة من الثقيلة الدالة على أن الظن يقين بل نصب بأن الحقيقة لنعلم أنه على بابه ولأن كون الزوج الثاني لم يكن محللا قد لا يتيقن وإنما يعلم بغالب الظن وعلى هذا ففي الآية حجة ثابتة من هذا الوجه

============

28/




28/


المسلك الثامن

قوله سبحانه وتعالى: { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا } وقد روى ابن ماجه وابن بطة بإسناد جيد عن أبي بردة عن النبي ﷺ قال: [ ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزؤن بأياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك ] وفي لفظ لابن ماجه خلعتك راجعتك وقد روى مرسلا عن أبي بردة فوجه الدلالة أن الله سبحانه حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها بأن يطلقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يرتجعها ثم يطلقها قبل جماع أو بعده ويمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يرتجعها ثم يطلقها فتصير العدة تسعة أشهر وهكذا فسره عامة العلماء من الصحابة والتابعين وجاء فيه حديث مستد

ومعلوم أن هذا الفعل لو وقع اتفاقا من غير قصد منه بأن يرتجعها راغبا فيه ثم يبدو له فيطلقها ثم يبدو له فيرتجعها راغبا ثم يبدو له فيطلقها لم يحرم ذلك عليه لكن لما فعله لا للرغبة لكن لمقصود آخر وهو أن يطلقها بعد ذلك ليطيل العدة عليها حرم ذلك عليه وتطويل العدة هنا لم يحرم لأنه في نفسه ضرر فإنه لو كان كذلك لحرم وإن لم يقصد الضرر كالطلاق في الحيض أو بعد الوطء قبل استبانة الحمل وإنما حرم لأنه قصد الضرر فالضرر هنا إنما حصل بأن قصد بالعقد فرقة توجب ضررا لو حصل بغير قصد إليه لم يكن سببه حراما كما أن المحلل قصد بالعقد فرقة توجب تحليلا لو حصل بغير قصد لم يكن سببه حراما فإما أن يكون القصد لغير مقصود العقد محرما للعقد أو لا يكون فإن لم يكن محرما للعقد والفعل المقصود هنا وهو الطلاق الموجب للعدة ليس محرما في نفسه فيجب أن يكون صحيحا على أصل من يعتبر ذلك وهو خلاف القرآن وإن كان محرما للعقد فيجب أن يكون نكاح المحلل باطلا وذلك أن الطلاق المنضم إلى النكاح المتقدم يوجب العدة المحرمة لنكاحها ويوجب حلها للزوج الأول فلا فرق بين أن يقصدج النكاح وجود نحريم شرع ضمنا أو وجود تحليل شرع ضمنا فإنه ما شرع الله من التحريم أو التحليل ضمنا وتبعا لا أصلا وقصدا ومتى أراده الإنسان أصلا وقصدا فقد ضاد الله في حكمه

يوضح ذلك: أن الطلاق سبب لوجوب العدة وإذا وقع كانت العدة عبادة لله تثاب المرأة عليها إذا قصدت ذلك كما أن الطلاق الثاني سبب يحل المطلقة والرجعة مقصودها المقام مع الزوجة لا فراقها كما أن النكاح مقصوده ذلك ولكن في العدة ضرر بالمرأة يحتمل من الشارع إيجاب ما يتضمنه ولا يحتمل من العبد قصد حصوله وكذلك في طلاق الزوج الثاني حل لمحرم وزوال ذلك التحريم يتضمن زوال المصلحة الحاصلة في ذلك التحريم فإنه لولا مافي تحريمها علىالمطلق من المصلحة لما شرعه الله وزوال هذه المصلحة يحتمل من الشارع إثبات ما يتضمنه ولا يحتمل من العبد قصد حصوله ولافرق في الحقيقة بين قصد تحليل مالم يشرع تحليله مقصودا وبين قصد تحرم مالم يشرع تحريمه مقصودا والله أعلم وهذا الوجه قد تقدم التنبيه عليه في قاعدة الحيل وإنما ذكرناه هنا لخصوصه في النكاح والرجعة
المسلك التاسع

قوله سبحانه: { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } ومن آيات الله شرائع دينه في النكاح والطلاق والرجعة والخلع لأنها الطريق التي يحل بها الحرام من الفروج أو يحرم بها الحلال وهي من دين الله الذي شرعه لعباده وكل ما دل على أحكام الله فهو من آياته والعقود دلائل على الأحكام الحاصلة بها وذكره هذه الآية بعد أن أباح أشياء من هذه العقود وحرم أشياء دليل على أنها من الآيات وإلا لم يكن ذكرها عقيب ذلك مناسبا وعن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: [ ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك ] رواه ابن ماجه وابن بطة وفي لفظ له: خلعتك راجعتك طلقتك راجعتك

وهذا دليل عنى أنها من آياته وإذا كانت من آباته فاتخاذها هزوا ففعلها مع عدم اعتقاد حقائقها التي شرعت هذه الأسباب لها كما أن استهزاء المنافقين أنهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنما معكم إنما نحن مستهزئون فيأتون بكلمة الإيمان غير معتقدين حقيقتها بل مظهرين خلاف ما يبطنون فكل من أتى بالرجعة غير قاصد بها مقصود النكاح بل الضرر أو نحوه أو أتى بالنكاح غير قاصد به مقصود النكاح بل التحليل ونحوه فقد اتخذ آيات الله هزوا حيث تكلم بكلمة العقد وهو غير معتقد للحقيقة التي توجبها هذه الكلمة من مقصود النكاح كالمنافق في أصل الدين سواء فذاك نفاق في أصل الدين وهذا نفاق في شرائعه فإن قول الإنسان آمنا كقوله تزوجت هو إخبار عما في باطنه من الاعتقاد المتضمن للتصديق والإرادة من وجه وهو إنشاء العقد للإيمان وعقد النكاح من حيث هو يبتدىء الدخول في ذلك من وجه فإذا لم يكن صادقا في الإخبار عما في باطنه من الاعتقاد إذ لا تصديق معه ولا إرادة له ولا هو داخل في حقيقة الإيمان والنكاح بل إنما تكلم بكلمة ذلك لحصول بعض الأحكام التي هي من توابع ذلك فليس هو صادقا في هذه الكلمة لا من حيث هي إنشاء ولا من حيث هي إخبار

وذكره في هذه الآية بعد قوله سبحانه: { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } دليل على إمساكهن ضرارا من اتخاذ آيات الله هزوا وما ذاك إلا لأن الممسك تكلم بالرجعة وهو غير معتقد لمقصود النكاح بل إنما نكح ليطلق والطلاق ليس هو المقصود بالنكاح ولا من المقصود به وإثبت أن التحليل من اتخاذ آيات الله هزوا ثبت أنه حرام ثم يلزم من تحريمه فساده بإبطال مقصود المحلل من ثبوت نكاحه ثم نكاح المطلق وهذا الوجه قد تقدم ذكره بطريق العموم في القاعدة الأولى في الإستدلال بآيات الإستهزاء في تقرير أن المقاصد معتبرة في العقود وإنما ذكر هنا لأن الكتاب والسنة دلا على النهي عن الإستهزاء في النكاح بخصوصه فلذلك ذكر في الأدلة العامة والخاصة ثم لما دلت هذه الآية على إبطال الإستهزاء بآيات الله وكان ذلك يدخل في الهازل والمحلل بطل على كل منهما مقصوده ومقصود الهازل أن لا ينعقد النكاح فصحح عقده ومقصود المحلل هو التحليل فلا يحصل والله أعلم
المسلك العاشر

إنه قصد بالعقد غير ما شرع له العقد فيجب أن لا يصح وذلك لأن الله سبحانه شرع العقود أسبابا إلى حصول أحكام مقصودة فشرع البيع سببا لملك الأموال بطريق المعاوضة والهبة سببا لملك المال تبرعا والنكاح سببا لملك البضع والخلع سببا لحصول البينونة فحقيقة البييع والهبة ومقصودهما المقوم لهما الذي لا قوام لهما بدونه إنتقال الملك من مالك إلى مالك على وجه مخصوص وملك المال هو القدرة على التصرف فيه بجميع الطرق المشروعة وحقيقة النكاح ومقصوده حصول السكن والإزدواج بين الزوجين لمنفعة المتعة وتوابعها ونحو ذلك وحقيقة الخلع ومقصوده حصول البينونة بين الزوجين وأن تملك المرأة نفسها فإذا تكلم بالكلمات التي هي صورة هذه العقود غير معتقد لمقاصدها وحقائقها بحيث يعلم من نفسه أنه إذا ثبت حقيقة العقد لم يرض لذلك لم يصح العقد لوجهين:

أحدهما: إن الله سبحانه إعتبر الرضى في البيع فهو في النكاح أعظم اعتبارا والرضا بالشيء إرادة له ورغبة فيه فمن لم يكن مريدا ولا راغبا في مقصود العقد لم يكن راضيا به فلا عقد له

الثاني: إن عقد المكروه لا يصح مع أنه قد تكلم بالعقد وما ذاك إلا لأنه قصد بلفظ العقد دفع الضرر عن نفسه لا موجب ذلك اللفظ كما قصد الناطق بكلمة الكفر مكرها دفع العذاب عن نفسه لا حقيقة الكفر وكذلك المخادع مثل المحلل ونحوه قصد بلفظ العقد رفع التحريم بأن يطلقها لا موجب ذلك اللفظ فهو كنطق المنافق بكلمة الإيمان كما أن الأول كنطق المكره بها فكلاهما لم يثبت في حقه حكم هذا القول لأنه قصد به غير موجبه بل إما بعض توابع موجبه أو غير ذلك لكن المكره معذور لأنه محمول عليه بسبب من خارج والمخادع غير معذور إذ هو محمول عليه بسبب من نفسه

ونكتة هذا: أن مقصود النيات معتبرة في العقود كاعتبارها في العبادات فإن الأعمال بالنيات فكل من قصد بالعقد غير المقصود الذي شرع له ذلك العقد بل قصد به سببا آخر أراد أن يتوسل بالعقد إليه فهو مخادع بمنزلة المرائي الذي يقصد بالعبادات عصمة دمه وماله لا حقيقة العبادة وإن كان هذا مقصودا تابعا لكنه ليس هو المقصود الأصلي وقد تقدم تقرير هذا الوجه في الأدلة العامة لكن ما كان من تلك الأدلة لا يمس بخصوصه مسألة التحليل لم نذكره وما دل عليها خصوصا كما دل على قاعدة الحيل عموما ذكرنا لأن تلقي الحكم من دليل يقتضيه بعينه أقوى من تلقيه من دليل عام
المسلك الحادي عشر

إن الله سبحانه حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره ومعلوم أن الله سبحانه إنما حرم ذلك لاشتمال هذا التحريم على مصلحة لعباده وحصول مفسدة في حلها له بدون الزوج الثاني وابنلاء وامتحانا لهم ليميز من يطيعه ممن يعصيه وقد قيل كان الطلاق في الجاهلية من غير عدد كلما شاء الرجل طلق المرأة ثم راجعها فقصر الله الأزواج على ثلاث تطليقات ليكف الناس عن الطلاق إلا عند الضرورة فإذا علم الرجل أن المرأة تحرم عليه بالطلاق كف عن ذلك إلا إذا كان زاهدا في المرأة فإذا كان هذا التحريم يزول بأن يرغب إلى بعض الأراذل في أن يطأ المرأة ويعطي شيئا على ذلك كان زوال هذا التحريم من أيسر الأشياء فما أكثر من يريد أن يطأ ويبذل فكيف إذا أعطى على ذلك جعلا

ولهذا قال ﷺ: [ لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل ] فإن أدنى الحيلة من الحيل يمكن استحلال المحارم بها وإذا كان التحربم المتضمن لجلب مصالح خلعه ودفع المفاسد عنهم يزول بأدنى سعي غير مقصود لم يكن فيه كبير فائدة ولا مصلحة وكان إلى اللعب أقرب منه إلى الجد كما تقدم تقرير ذلك في الأدلة العامة

فإذا قيل: إن هذا حلال كان حقيقته أن المرأة تحرم على زوجها حتى ينزل عليها فحل من الفحول وإن لم يكن له رغبة في نكاحها بل يعطى على ذلك جعلا لكن لا بد أن يظهر صورة العقد والتزام المهر والأعمال بالنيات فيكون قائل هذا قد ادعى أن الله حرم المطلقة ثلاثا حتى توطأ وطء شبيها بالزنا بل هو زنا فإن هذا معناه معنى الزنا إذ الزاني هو من يريد وطء المرأة بدون النكاح الذي هو النكاح ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وقد سئل عن التحليل هو السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم وفي رواية عنه كنا نعده على عهد رسول الله ﷺ سفاحا وقال عمر رضي الله عنه لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وشبهه النبي ﷺ بالتيس المستعار

إذ المقصود وطؤه لا ملكه كذلك هذا المحلل إنما يقصد منه الوطء المجرد لا أحكام العقد الذي هو الملك ولما رأى كثير من أهل الكتاب أن بعض المسلمين يقول أن المطلقة تحرم حتى توطأ على هذا الوجه وقد رأى أن معنى هذا معنى الزنا وحسب أن هذا من الدبن المأخوذ عن رسول الله ﷺ أو تجاهل بإظهار ذلك أخذ يعير المسلمين بهذا ويقول إن دينهم أن المطلقة تحرم حتى تزني فإذا زنت حلت ذكر ذلك أبو يعقوب الجوزجاني وبعض المالكية وغيرهم حتى اعتمد بعض أعداء الله النصارى فيما يهجو به شرائع الإسلام على مسألة التحليل وأخذ ينفر أهل دينه عن الإسلام بالتشنيع بها ولم يعلم عدو الله أن هذا لا أصل له في الدين ولا هو مأخوذ عن السابقين ولا عن التابعين لهم بإحسان بل قد حرمه الله ورسوله قال أبو يعقوب الجوزجاني وأقول إن الإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهره وهو حقيق بالتوقير والصيانة من علة تشينه وأن ينزه عما أصبح أمناء الملل من أهل الذمة يعيرون به المسلمين على ما تقدم فيه من النهي عن رسول الله ﷺ

وبالجملة: فهذا بين لمن تأمل وأنصف فإن دين الله أزكى وأطهر من أن يحرم فرجا من الفروج حتى يستعار له من تيس من التيوس لا يرغب في نكاحه ولا في مصاهرته ولا يرغب بقاؤه مع المرأة أصلا فينزو عليها وتحل بذلك فإن هذا بالسفاح أشبه منه بالنكاح بل هو سفاح وزنا كما سماه أصحاب رسول الله ﷺ فكيف يكون الحرام محللا أم كيف يكون الخبيث مطيبا أو كيف يكون النجس مطهرا وغير خاف على من شرح الله صدره للإسلام ونور قلبه بالإيمان أن هذا من أقبح القبائح التي لا تأتي بها سياسة عاقل فضلا عن شرائع الأنبياء لاسيما أفضل الشرائع وأشرف المناهج والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يشرع مثل هذا ولما رأت القلوب السليمة والفطر المستقيمة أن حقيقة هذا حقيقة السفاح لا النكاح لم تلق له بالا فصار يتولد من فعل هذا من المفاسد أضعاف مفاسد المتعة
المسلك الثاني عشر

وهذا هو المسلك الثاني عشر وهو أن جواز التحليل قد أفضى إلى مفاسد كثيرة وصار مظنة لها ولما هو أكبر منها وهو أن بعض التيوس المستعارة صار يحلل الأم وبنتها على ما أخبرني به من صدقته لأنه قد نصب نفسه لهذا السفاح فلا يميز من المنكوحة ولا له غرض في المصاهرة حتى يجتنب ما حرمته

ومنها: إنه يجمع ماءه في أكثر من أربع نسوة بل أكثر من عشر وهو ما أجمع الصحابة على تحريمه كما رواه عبيدة السلماني وغيره وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز إذا كان الطلاق رجعيا

ومنها: أن كثيرا ما يتوطأ هو والمرأة على أن لا يطأها إذ ليس له رغبة في ذلك والمرأة لا تعده زوجا فتنكشف أو تستحي أو تهاب أن تمكنه من نفسها إستشعارها أنه لم يتخذ زوجا

ومنها: إنه غالبا لا يكون كفء للمرأة ونكاح المرأة من غير كفء مكروه أو مشروط فيه رضا الأولياء أو باطل وغالبا لا يراعى فيه شيء من ذلك

ومنها: إن المطلقين لما ألقي إليهم خفة مؤونة الطلاق المحرم إذا كان التحريم يزول بتيس يعطى ثلاثة دراهم إو أقل أو أكثر حتى لقد بلغني ممن صدقته أن بعض التيوس طلب أكثر ما بذل له فقالت له المرأة وأي شيء تريد فعلت وأخذت سامح الناس في ذلك حتى ربما كتم لزوج الطلاق وحللها بدون إذن الولي لعلمه بأن الولي لا يزوجها من ذلك الرجل ونكاح المرأة من غير كفء بدون إذن الولي من أبطل النكاح وأعظمه مراغمة للشريعة ومما آل به إستخفاف شأن التحليل أن الأمر أفضى إلى أن صار كثير من الناس يحسب أن مجرد وطء الذكر مبيح حتى اعتقدوا أنها إذا ولدت ذكرا حلت واعتقد بعضهم أنه إذا وطئها بقدمه حلت واعتقد بعضهم أنه إذا صب دهنا فوق رأسها حلت كأنهم شبهوه بصب المني

حدثني بهده الأشياء من له خبرة بهذه الأشياء من النساء اللواتي تفضي النساء إليهن أسرارهن وحله بالأول مستقر في نفوس كثير من الجهال حتى بلغني أن الشيخ أبا حكيم النهرواني صاحب أبي الخطاب حضر حلقة شيخ نبيل الصورة فأكرمه وسأل الشيخ أبو حكيم عن المطلقة ثلاثا إذا ولدت ولدا ذكرا هل تحل فقال لا فقال له الشبخ أنا أفتي أنها تحل من البصرة إلى هنا فقال له الشيخ أبو حكيم ما زلت تفتي بغير دين الإسلام أو كما قال. فانظر إلى هذه الفضائح التي فيها انهدام شريعة الإسلام عند كثير من العامة أصلها والله أعلم ما ألقي إليهم ابتداء من أن المطلقة ثلاثا تحل بنكاح خارج عن النكاح المعروف وإلا فلو أن المطلقة لا تنكح إلا كما تنكح المرأة ابتداء لم يشتبه النكاح الذي هو النكاح بشيء من هذه القبائح كاشتباه التحليل به ومن مفاسده أن المرأة المطلقة إذا لم تنكح التيس نكاح رغبة لم يكن لها غرض في الولادة منه ولا في أن يبقى بينهما علاقة فربما قتلت الولد بل لعل هذا أوقع كثيرا ودائما وكثير منهن يستطيل العدة فإما أن تكذب أو تكتم

وما ذاك إلا لأنه يتوالى عليها عدتان ليس بينهما نكاحا وهي شديدة الرغبة في العودة إلى الأول ولو أنها ألقي إليها اليأس من العود إلى الأول إلا بعد نكاح تام كالنكاح المبتدأ لم يكن شيء من هذا ومن ذاك ما بلغني أن رجلا ترك من حلل امرأة في بيته فلما خرج دعته نفسه إلى أن راود المرأة عن نفسها وقال إن الحل لا يتم إلا برجلين وما ذاك إلا لأنه رأى غيره قد أتى بالسفاح دعته نفسه إلى التشبه به إذ النفوس مجبولة على التشبه ولو أن ذلك الرجل أحصن فرج المرأة ونكحها نكاح المسلمين لم يحدث هذا نفسه بالتشبه به في تلك المرأة ومن ذلك أن تجويز التحليل قد أفضى إلى ما هو غالب في التحليل بين الزوجين أو لازم له من الأمور المحرمة وهو أن المرأة المعتدة لا يحل لأحد أن يصرح بخطبتها في عدتها إلا أن يكون ممن يجوز له نكاحها في العدة دل عليه الكتاب واجتمعت عليه الأمة قال تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } وقد قال قبل هذا: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا }

وأما التعريض فيجوز في حق من لا يمكن عودها إلى زوجها مثل المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا عند الجمهور

فأما المرأة المزوجة فلا يجوز أن تخطب تصريحا ولا تعريضا بل ذلك تحبيب للمرأة على زوجها وهو من أقبح المعاصي والمطلقة ثلاثا أحرم على المطلق من المزوجة فلا يجوز له أن يصرح بخطبتها ولا يعرض لا في العدة ولا بعد العدة ثم إذا تزوجها رجل لم يجز له أن يصرح بخطبها أو لا يعرض حتى يطلقها ثم إذا طلقها لم يجز التصريح بخطبتها حتى تقضي العدة وإنما لجوز التعريض إذا كان الطلاق ثلاثا عند الجمهور فإن كان الطلاق بائنا ففيه خلاف مشهور وإن كان رجعيا لم يجز وفاقا وقد أفضى تجويز التحليل إلى أن يطلق الرجل المرأة ثلاثا فيواعدها في عدتها على أن يتزوجها بعد التحليل ويسعى هو في هذا التحليل وربما أعطاها ما تعطيه المحلل وأنفق عليها مدة العدتين إنفاقه على زوجته فيا سبحان الله أين مواعدتها على أن يتزوجها وهي في العدة من غيره وقد حرمه الله من مواعدتها على أن يتزوجها قبل العدة بدرجتين وليس يخفى على اللبيب أن هذا ركوب للمحرم مكررا مغلظا ومن شرح الله صدره للإسلام علم أن الفعل إذا كان مظنة لبعض هذه المفاسد حسم الشارع الحكيم مادته بتحريمه جميعه ألا نرى أن النبي ﷺ لما استأذنه وفد عبد القيس في الانتباذ في وعاء صغير قال لو رخصت لكم في هذه لجعلتموها مثل هذه ثم يشرب أحدكم حتى يضرب ابن عمه بالسيف أو كما قال ﷺ وفي القوم رجل قد أصابه ذلك قال فسرت رحلي حياء من النبي ﷺ فحرم الله ورسوله قليل الخمر وكثيرها وحكم بنجاستها ونهى عن الخليطين وعن شرب النبيذ بعد ثلاث وعن الأوعية المقوية كل ذلك حسما للمادة وإن كان العناد التام هو شرب المسكر لأن القليل من ذلك يقتضي الكثير طبعا

فكذلك أصل التحليل لما كان مفضيا إلى هذه المفاسد كثيرا أو غالبا كان الذي يقتضيه القياس تحريمه وقد تقدم في مسلك الذرائع شواهد كثيرة لهذا الأصل واعلم أنه ليس في المتعه شر إلا وفي التحليل ما هو شر منه بكثير فإن المستمتع راغب إلى وقت فيعطي الرغبة حقها بخلاف المحلل فإنه تيس مستعار فمن العجب أن يشنع على بعض أهل الأهواء بنكاح المتعة ولهم في استحلاله سلف ومعهم فيه أثر وحظ من قياس وإن كان مدفوعا بما قد نسخه ثم يرخص في التحليل الذي لعن الشارع فاعله ولم يبحه في وقت من الأوقات واتفق سلف الأمة على لعن فاعله وليس فيه حظ من قياس بل القياس الجلي يقتضي تحريمه ويعتصم من يفرق بينهما بمقارنة الشرط العقد وتقدمه عليه أو يكون هذا شرطا وذاك توقيتا وهو فرق بين ما جمع الله بينه وليس له أصل في كتاب ولا سنة ولا يعرف مأثورا عن أحد من السلف بل الأصول من الكتاب والسنة وما هو المأثور عن سلف الأمة يدل على أن الشروط معتبرة أما صحة ووفاء وأما فساد أو إلغاء سواء قارنت العقد أو تقدم عليه ولولا أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك لبسطنا القول فيه

فإنما قد قررنا أن مجرد النية تحليل والشرط المتقدم بطريق الأولى ولكن ننبه على بعض أدلة ذلك لكي يدخل فيه إذا تواطأ على التحليل ثم تزوجها غيرنا وللتحليل من غير إظهار ذلك قال الله تعالى أوفوا بالعقود وقال: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } وقال: { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } وقال: { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا }

ولم يفرق سبحانه بين عقد وعقد وعهد وعهد ومن شارط غيره في بيع أو نكاح على صفات اتفقا عليها ثم تعاقدا بناء عليها فهي من عقودهم وعهودهم لا يعقلون ولا يفهمون إلا ذلك والقرآن نزل بلغة العرب وقال سبحانه وتعالى: { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } وقال: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } يعني العهود ومن نكث الشرط المتقدم فهو ناكث كمن نكث المقارن لا تفرق العرب بينهما في ذلك وكذلك قال ﷺ المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا رواه أبو داود وغيره

والمسلمون يفهمون أن ما تقدم العقد شرط كما قارنه حتى أنه وقت الخصام يقول أحدهما لصاحبه ألم يكن الشرط بيننا كذلك ألم نشارطك على كذا والأصل عدم ثقل اللغة وتعييرها وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدرته فيقال هذه غدرة فلان ومن شارط غيره على شيء على أن يتعاقدا عليه وتعاقدا ثم لم يف له بشرطه فقد غدر به هذا هو الذي يعقله الناس وبفهمونه ولا يعرف التفريق بينهما في معاني الكلام عن أحد من أهل اللغة ولا في الحكم عمن قوله حجة تلزمه وفي الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن النبي ﷺ لما خطب في شأن بنت أبي جهل لما أراد علي رضي الله عنه أن يتزوجها قال فذكر صهرا له من أبي العاص قال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي ومعلوم أنه إنما قال هذا مدحا لمن فعله وذما لمن تركه وإلا لم يكن حجة لما قرنه به والوعد في العقود إنما يتقدمها لا يقارنها فعلم أن من وفى به كان ممدوحا ومن لم يف به كان مذموما معيبا وهذا شأن الواجب

وفي حديث السيرة المشهور أن الأنصار لما بايعوا النبي ﷺ ليلة العقبة [ قالوا يا رسول الله اشترط لربك واشترط لنفسك واشترط لأصحابك فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أزركم واشترط لأصحابي أن تواسوهم فقالوا إذا فعلنا ذلك فما لنا قال الجنة قالوا مد يدك فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك فبايعوه ]

أفلا ترى كيف تقدم الشرط العقد ولم يحتج حين المبايعة أن يتكلم بالشروط المتقدمة ولو كانوا قد تكلموا بها فإنهم سموا ما قبل العقد اشتراطا فيدخل في مسمى الشرط الذي دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء به وهذا المحلل يقال له شرطنا عنيك أنك إذا وطئتها فطلقها ويعقد العقد بعد ذلك وأيضا لو وصف المبيع أو الثمن المعين بصفات عند التساوم ثم بعد ذلك بزمان تعاقدا كان العقد مبنيا على ما تقدم بينهما من الصفة حتى إذا ظهر المبيع ناقصا عن تلك الصفة كان له الفسخ ولولا أن الصفة المتقدمة كالمقارنة لما وجب ذلك وكذلك لو رآه ثم تعاقدا بعد ذلك بزمن لا يفتر في مثله غالبا ولولا أن الرؤية المتقدمة كالمقارنة لما لزم البيع وبعض الناس يخالف في الصفة المتقدمة وأما الرؤية المتقدمة فلا أعلم فيها مخالفا ولا فرق بين الموضعين بل الواصف إلى الفرقة أقرب وأيضا فإن من دخل مع رجل في عقد على صفات تشارطوا عليها وعقدوا العقد ثم نكث به فلا ريب أنه قد خدعه ومكر به فإن الخدع أن يظهر له شيئا ويبطن خلافه والمكر قريب من ذلك وهذا مما تسميه الناس خديعة ومكرا

والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا زوالها وتغييرها والخديعة والمكر حرام في النار كما دل عليه الكتاب والسنة وأيضا فإن العقود في الحقيقة إنما تثبت على رضى المتعاقدين وإنما كلامهما دليل على رضاهما كما نبه عليه قوله سبحانه: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ولما كانت البيوع تقع غالبا قبل الإختيار والإستكشاف شرع فيها الخيار إلى التفرق بالأبدان ليتم الرضى بذلك وأكتفى في النكاح بما هو الغالب من تقدم الخطبة على العقد لاستعلام حال الزوجين وإذا تشارطا على أمر يتعاقدان عليه ثم تعاقدا فمن المعلوم أن كلا منهما إنما رضي بالعقد المشروط فيه الشرط الذي تشارطا عليه أولا ومن ادعى أن أحدهما رضي بعقد مطلق خال عن شرط كان بطلان قوله معلوما بالإضطرار وإذا كانا إنما رضيا بالعقد الذي تشارطا عليه قبل عقده وملاك العقود هو الرضى ووجب أن يكون العقد ما رضيا به لا سيما في النكاح الذى سبق شرطه عقده وليس بعد عقده خيار يستدرك فيه الفائت ولهذا قال ﷺ: [ إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ] متفق عليه

وهذا بين لا خفاء فيه وأيضا فإن العقود في ائحقيقة إنما هي بالقلوب وإنما العبارات مبينات لما في القلوب لا سيما إن قيل هي إخبارات وبيانها لما في القلب لا يختلف بجمع الكلام في وقت أو يفرقه في وقتين لا سيما الكلام الكثير الذي قد يتعذر ذكره في التعاقد وهذا هو الواقع في خطاب جميع الخلق بل في أفصح الخطاب وأبلغه فإن من مهد قاعدة بين بها مراده فإنه يطلق الكلام ويرسله وإنما يريد به ذلك المقيد الذي تقدم والمستمع يفهم ذلك منه ويحمل كلامه عليه كالعالم يقول مثلا يجوز للرجل أن يوصي بثلث ماله فلا يدخل في كلامه المجنون ونحوه للعلم بأنه قد قرر في موضع آخر أن المجنون لا حكبم له في الشرع فكذلك الرجل يقول بعت وأنكحت فإن هذا اللفظ وإن كان مطلقا في اللفظ فهو مقيد بما تشارطا عليه قبل ومعنى كلامه بعتك البيع الذي تشارطنا وأنكحتك النكاح الذي تراضينا به فمن جعل كلامه مطلقا بعد أن تقدم منه المشارطة والمواطأة وققد خرج عن مقتضى قواعد خطاب الخلق وكلامهم في جميع إيجابهم ومقاصدهم وهذا واضح لا معنى للأطناب فيه

وإذا كان الشرط المشروط قبل العقد كالمشروط فيه فمعلوم أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي ولهذا قالوا من دفع ثيابه إلى غسال يعرف منه الغسل بالأجرة لزمه الأجرة بناء على أن العرف شرط وكذلك من دخل حمام حمامي أو ركب سفينة ربان فإنه يلزمه الأجرة بناء على العرف وكذلك لا خلاف أنه لو أطلق الدراهم والدنانير في عقد بيع أو نكاح أو صلح أو غيرها إنصرف إلى النقد الغالب المعروف بين المتعاقدين وكان هذا العرف مقيدا للفظ ولم يجز أن ينزل على إطلاق اللفظ بإلزام مسمى الدرهم من أي نقد أو وزن كان ولو أطلق اللفظ في الإيمان والمثمنات ونحوها انصرف الاطلاق إلى السليم من العيوب بناء على أنه العرف وإن كان اللفظ أعم من ذلك والعرف الخاص في ذلك كالعام على ما شهد به باب الإيمان والنذور والوقوف والوصايا وغيرها من الأحكام الشرعية فإن كان بعض التيوس معروفا بالتحليل وجيء بالمرأة إليه فهو اشتراط منهم للتحليل لا يعقل الناس إلا هذا فلو لم يف بما شرطوه لكان عندهم خديعة ومكرا ونكثا وغدرا وعلى هذا فيبطل العقد من وجهين من جهة نية التحليل ومن جهة اشتراطه قبل العقد لفظا أو عرفا وكذلك على هذا لو شرط التحليل لفظا أو عرفا وعقد النكاح بنية ثانية كان النكاح باطلا على ظاهر المذهب لأن ما شرطوه عليه لم يرض الله به فلا يصح شرعا وما نواه الزوج لم ترض المرأة به ولا وليها فلا يصح لعدم الرضى من جهتهما فما رضوا به لم يأذن الله سبحانه فيه وما أذن الله فيه لم يرتضوا به فلا يصح واحد منهما

وهذا هو الجواب عما ذكروه في الاعتراض على دلالة الحديث من أن الشروط المؤثرة هي ما قارنت العقد دون ما تقدمته فإن هذا غير مسلم وهو ممنوع لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا وفاق ولا عبرة صحيحة والقول في النكاح والبيع وغيرهما واحد وقد سلمه بعض أصحابنا مثل أبي محمد المقدسي وادعى أن المؤثر في الفساد هو النية المقترنة بالعقد لا الشرط المتقدم والصحيح أن كلا منهما لو انفرد لكان مؤثرا كما تقدم وسلم آخرون منه القاضي أبو يعلى وغيره أن الشرط المتقدم إن لم يمنع القصد بالعقد كالتواطىء على أجل مجهول ونحوه لم يفسد العقد وإن منع القصد بالعقد كالتواطىء على بيع تلجئة ونكاح تحليل أبطل العقد والصحيح أن الشروط المتقدمة كالمقارنة مطلقا وهذا قول أبي حفص العكبري وهو قول المالكية

وأما قولهم بحمل الحديث على من أظهر التحلل دون من نواه ولم يظهره لئلا يفضي القول بالإفساد إلى إضرار المعاقد الآخر ولأن النية لو كانت شرطا لما صحت الشهادة على النكاح فنقول هذا السؤال من قال بموجبه فإنه يبطل أكثر صور التحليل التي هي منشأ الفساد وهو الذي قال به بعض التابعين إن صح وبعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه والجواب عنه أن الزوجة متى لم تعلم نية التحليل لم يضرها ذلك فإنها تعتقده حلالا فلا يكون أسوأ حالا من وطء الشبهة فالوطء حلال بالنسبة إليها حرام بالنسبة إلى الزوج كما لو تزوج امرأة يعلم أنها محرمة عليه وهي لا تعلم ذلك وكذلك ما يعطيها إياه من المهر والنفقة يحل لها أخذه كما يحل لها ذلك في مثل هذه الصورة ومثل ذلك ما ذكره أصحابنا وأكثر الفقهاء في الصلح على الإنكار والنكول فإن أحد المصالحين إذا علم كذب نفسه كان الصلح باطلا في حقه خاصة فيكون ما يأخذه من مال الآخر أو ما يهضمه من حقه حراما عليه

وكذلك لو ورث الرجل من أبيه رقيقا قد علم رجل أن الأب أعتقهم والابن لا يعلم ذلك فاشتراهم منه من يعلم بعتقهم كان البيع صحيحا بالنسبة إلى البائع فيحل له الثمن وكان إلى المشتري باطلا فلا يحل له استعبادهم وأشبه منه بمسألتنا لو كان بيد الرجل مال يملكه مثل عبد أعتقه فباعه لرجل فإنه يكون باطلا بالنسبة إلى البائع فيحرم عليه الثمن وهو حلال في الظاهر بالنسبة إلى المشتري فيحل له المبيع ونظائر هذا كثيرة في الشريعة وأما الشهود فإنهم يشهدون على لفظ المتعاقدين وبه يصح العقد في الظاهر فإن لم يشعروا بنيته للتحليل لم يكن عليهم إثم وإن علموا ذلك بقرينة لفظية أو عرفية كان كما لو علموا أن الزوج مكره فتحرم عليهم الشهادة على مثل هذا النكاح كما تحرم عليهم الشهادة على عقد الربا والنحل الجائرة وغير ذلك لكن إذا لم يكن إلا مجرد نية الزوج فهناك لا يظهر التحليل أصلا فلا يأثمون بالشهادة على ما ظاهره الصحة ولهذا لم يلعنوا في الحديث وإنما صححنا العقد في الظاهر بدون العلم بالقصد كما صححنا إسلام الرجل بدون العلم بما في قلبه فإن الألفاظ تعبر عما في القلوب والأصل فيها المطابقة والموافقة ولم تؤمر أن ننقب عما في قلوب الناس ولا نشق بطونهم ولكن نقبل علانيتهم ونكل سرائرهم إلى الله سبحانه ولكن هم فيما بينهم وبين الله مؤاخذون بنياتهم وسرائرهم وهذا بين وأما قولهم إذا اشترى بنيته أن لا يبيعه ولا يهب صح ولو شرط ذلك لم يصح فعلم أن النية ليست كالشرط فسيأتي إن شاء الله الكلام على ذلك ونبين الفرق بين نية تنافي مقصود العقد ومقتضاه ونية لا تنافيه كما فرق بين شرط ينافي العقد وشرط لا ينافيه ولا يلزم من كون بعض الأشياء تنافي العقد شرطا وقصدا أن يكون كل شيء ينافيه شرطا وقصدا كما سيأتي إن شاء الله تعالى

فإن قيل: فلوأظهرالمحلل فيما بعد العقد بنيته في العهد فما الحكم

قلنا: إن صدقته المرأة والزوج المطلق ثلاثا ثبت هذا المحكم في حق من صدقه فينفسخ نكاح المرأة وتحرم على المطلق ثلاثا مراجعتها ثم إن كان هذا قبل الدخول فلا صداق للمرأة إذا كانت مصدقة وإن كان بعده فلها المهر الواجب في النكاح الفاسد وإن لم تصدقه المرأة والمطلق لم يثبت حكم التحليل في حقها لكن إن كان هذا الإقرار قبل مفارقتها انفسخ النكاح ووجب نصف الصداق قبل الدخول وجميعه بعده وإن كان بعد المفارقة فإن صدقته المرأة وحدها لم يجز أن تعود إلى الأول لاعترافها بأنها محرمة هذا إن كانت ممن لها إقرار وإن صدقه المطلق ثلاثا وحده لم يؤثر في سقوط حق المرأة ولزمه ذلك في حق نفسه ولم يجز أن يتزوجها لاعترافه بأنها حرام عليه وأيهما غلب على ظنه صدق الزوج المحلل فيما ذكره من نيته فعليه فيما بينه وبين الله أن يبني على ذلك لكن في القضاء لا يؤخذ إلا بإقراره ونظير هذا أن يتزوج المرأة المطلقة ثلاثا رجل ثم يعترف أنها أخته من الرضاعة فإن هذا بمنزلة نية التحليل لأنه فساد انفرد بعمله

فإن قيل ما ذكرتموه معارض بما روى أبو حفص بن شاهين في غرائب السنن بإسناده عن موسى بن مطين عن أبيه عن بعض أصحاب النبي ﷺ أن فلان تزوج فلانة ولا نراه إلا يريد أن يحلها لزوجها فقال رسول الله ﷺ: [ أشهد على النكاح قالوا: نعم قال: ومهر قالوا: نعم قال: ودخل يعني الجماع قالوا: نعم قال: ذهب الخداع ] فوجه الدليل أنه لم يعرف حال الرجل ولم يقل إن نويت كذا فالنكاح باطل مع أنهم قالوا ما نراه يريد إلا ذلك والبحث عن مثل هذه الحال واجب إحتياطا للبضع وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإذا لم يبحث علم أن الأمر مطلق وأن الحكم لا يختلف قال بعض المنازعين وهذا مقطوع في الاستدلال

قلت: هذا حديث باطل لا أصل له عن رسول الله ﷺ وموسى بن مطين متروك ساقط يروي المناكير عن المشاهير لا يحل الإستدلال بشيء من روايته قال فيه يحيى بن معين كذاب وقال أبو حاتم الرازي متروك الحديث ذاهب الحديث وقال أبو زرعة متروك الحديث وقال عبد الرحمن بن الحكم ترك الناس حديثه وهنا وإن كان معروفا عند العلماء فإنما ذكرناه لأن بعض المجازفين فيما ليس لهم به علم من مصنفي المجادلين قال موسى هذا من الثقاة العدول لما قيل إنه يروي المناكير عن المشاهير فاراد الدفع بما اتفق من غير مراقبة منه فيما يقول

ثم إن أصحابنا تكلموا على تقدير صحته فإن كان ذلك ضربا عن التكلف فإن مثل هذه العبارة يظهر عليها من التناقض ما لا يجوز نسبته إلى النبي ﷺ بل هو دليل على أنه موضوع وذلك لأن قوله ذهب الخداع دليل على أن الخداع في العقود حرام وأن العقد إذا كان خداعا لم يحل وإلا لما فرق بين ذهابه وثبوته

ومعلوم أن العقد الفاسد الذي يعقد بغير شهود ولا إعلان ونحو ذلك مردود فلا يحصل به مقصود المحلل ولا غيره حتى يحصل به الخداع وإنما يخادع المخادع بأن يظهر ما ينفق في الظاهر فإذا كان مع فساد العقد في الظاهر لا خداع ومع صحته في الظاهر لا خداع فلم يبق للخداع موضع لأنه إما صحيح في الظاهر أو فاسد فكان هذا الكلام بعينه دليلا على أن مثل هذا العقد حلال حرام وهذا تناقض وانما أحسب الذي وضعه والله أعلم قد بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن التحليل خداع فإن أراد أن يضع حديثا يبين أن العقد إذا روعيت شروطه الظاهرة فقط ذهب خداعه فيكون خداعه إذا لم يراع وذلك أيضا لا خداع فيه إنما الخداع فيما خالف ظاهره فلجهله بمعنى الخداع ركب مثل هذا الكلام على النبي ﷺ ثم إن هذا الحديث لوكان له أصل لكان حجة لأن التحليل محرم مبطل للعقد لأنهم قالوا: أن فلان تزوج فلانة ولا نراه إلا أن يريد أن يحلها لزوجها فعلم أنهم كان قد استقر عندهم إن أراد التحليل مما ينكر على الرجل لكنهم لم يجزموا بأنه أراد التحليل بل ظنوه ظنا والظن أكذب الحديث ثم لو لم تكن الإرادة مؤثرة في العقد لقال النبي ﷺ وإذا أراد تحليلها أي إنكار في هذا كما قالوا تزوجها يريد أن يستمتع بها أو يريد أنها أعجبته إن أمسكها وإن كرهها فارقها أو نكحها يريد أن تربي أولاده كما قال جابر رضي الله عنه ونحو ذلك من المقاصد التي لا تحب فإن جواب هذا أنه كان يقول وإذا فعل هذا فأي منكر في هذا فلما لم يقل ذاك علم أن ذاك مؤثرا لكن إنما أنكر عليهم قولهم ولا نراه إلا يريد أن يحلها لزوجها قال الأصل في أقوال المسلمين وأعمالهم الصحة فلا يظن بهم خلاف ذلك إلا لإمارة ظاهرة ولم يذكروا ما يدل على ذلك ثم لو ظننا ذلك فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم كما أنه لما كان يُستأذن في قتل بعض من يظن به النفاق يقول أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فيقولون نعم فيقول أليس يصلي فيقولون نعم فيقول: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم كذلك إذا رأينا عقدا معقودا بشرائطه المعتبره لم يكن لنا أن نقول هذا باطل لأن صاحبه أراد كذا وكذا

لكن يقال على العموم من أراد التحليل فهو ملعون ونكاحه باطل فإذا ظهر أنه قصد ذلك رتب عليه حكمه في الظاهر وأما قول المنازع أنه لم يبحث عن نية الرجل فنقول قد كان تقدبم منه ﷺ لعنه المحلل والمحلل له والنهي عن الخداع وفهموا مقصوده بذلك فلم يجب عليه بعد هذا أن يقول لكل من تزوج مطلقة غيره إن كنت نويت كما أنه لما بين سوء حال المنافقين لم يجب عليه كلما أسلم رجل أن يقول له هل أنت مؤمن أو منافق وصاحب العقد لم يظهر لهم أنه أراد الإحلال وإنما ظنوه ظنا بل لما فهموا من النبي ﷺ أن مريد الإحلال مخادع

وظنوا بذلك الرجل أنه أراده من غير دلالة أنكروا عليه فأنكر عليهم هذا إن كاد لذلك أصل ثم إنه ﷺ ذكر إمارات تدل علن عدم الخداع وهو المهر وما معه

ولأن المحلل يأخذ في العادة ولا يعطي و! لا فتسمية المهر ليست شرطا في صحة النكاح حتى يترتب عدم الخداع عليها فلما ذكرت دل ذلك على أنه يستدل بها على انتفاء الخداع فصار سوء الظن ممنوعا منه وبالجملة فالحديث لا أصل له ولو كان له أصل فهو إلى أن يكون حجة على إبطال التحليل أقرب منه إلى أن يكون حجة على صحته والله سبحانه أعلم فإن قيل هذا نصرف صدر من أهله في محله فيجب أن يكون صحيحا لأن السبب هو الإيجاب والقبول وهما ثابتان وأهلية المتصرف ومحلية الزوجين ثابتة لم يبق إلا القصد المقرون بالعقد وذلك لاتأثير له في إبطال الأسباب الظاهرة لوجوه:

أحدها: إنه إنما نوى الطلاق وهو مملوك له بالشرع فأشبه ما لو نوى المشتري إخراج المبيع عن ملكه وذلك لأن السبب مقتضى لتأييد الملك والنية لا تغير موجبات السبب حتى يقال إن النية توجب توقيت العقد وليس هي منافية لموجب العقد فإن له أن يطلق ولو نوى هو بالمبيع إتلافه أو إحراقه أوإغراقه لم يقدح في صحة البيع فنية الطلاق أولى وبهذا اعترضوا على قولنا إنه فصد إزالة الملك

الوجه الثاني: إن القصد لا يقدح في اقتضاء السبب حكمه لأنه وراء ما يتم به العقد فبصير كما لو اشترى عصيرا ومن نيته أن يتخذه خمرا أو جارية ومن نيته أن يكرهها على البغاء أو يجعلها مغنية فنية أو سلاحا ومن نيته أن يقتل به معصوما فكل ذلك لا أثر له من جهة أنه منقطع عن السبب فلا يخرج المسبب عن اقتضاء حكمه وبهدا يظهر الفرق بين هذا القصد وبين الإكراه فإن الرضى شرط في صحة العقد والإكراه ينافي الرضى وبه يظهر الفرق بينه وبين الشروط المقترنة فإنها تقدح في مقصود العقود وصاحب هذا الوجه يقول هب أنه قصد محرما لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك كما ذكرناه وكما لو تزوجها ليضارها أو ليضار زوجة له أخرى

الوجه الثالث: إن النية إنما تعطم في اللفظ المحتمل مثل أن يقول إشتريت هذا فإنه متردد بين الإشتراء له أو لموكله وإذا نوى أحدهما صح واللفظ هنا صريح في المقصود الصحيح والنية الباطنة لا أثر لها في مقتضيات الأسباب الظاهرة

الوجه الرابع: إن النية إما أن تكون بمنزلة الشروط أو لا تكون فإن كانت بمنزلة الشرط لزم أنه إذا نوى أن لا يبيع المشتري ولا يهبه ولا يخرجه عن ملكه أو نوى أن يخرجه عن ملكه أو نوى أن لا يطلق الزوجة أو أن يبيت عندها كل ليلة أو لا يسافر عنها بمنزلة أن يشترط ذلك في العقد وهو خلاف الإجماع وإن لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير لها حينئذ وهذا عمدة بعض الفقهاء

الوجه الخامس: إنا إنما أمرنا أن نحكم بالظاهر والله عز وجل يتولى السرائر فهذه خلاصة ما قيل في هذه المسأنة ولولا أنه كلام يخيل لمن لا فقه له حقيقة لكان الإضراب عنه أولى فإنه كلام مبناه على دعاوى محضة لم يعضد بحجة

فنقول في الجواب: لا نسلم أن هذا تصرف شرعي ولا نسلم وجود الإيجاب والقبول وذلك لأن الإيجاب والقبول إن عنى به مجرد اللفظ فيجب أن يقيد حكمه وإن صدر عن معتوه أو مكره أو نائم أو أعجمي لا يفقهه وإن عنى به اللفظ المقصود لم يخرج عن المكره لأنه قصد اللفظ أيضا ثم لا نسلم إن هذا بمجرد تصرف شرعي ولا إيجاب ولا قبول بل اللفظ المراد به خلاف معناه مكر وخداع وتدليس ونفاق

فإن كان من الألفاظ الشرعية فالتكلم به بدون معناه استهزاء بآيات الله سبحانه وتلاعب بحدوده ومخادعة الله ورسوله كما تقدم تقريره وإن عنى بالسبب للفظ الذي يقصد به معناه الذي وضع اللفظ له في الشرع سواء كان المعنى اللغوي مقررا أو مغيرا أو عنى به اللفظ لم يقصد به ما يخالف معناه أو اللفظ الذي قصد معناه حقيقة أو حكما وذكرنا هذين ليدخل فيهما الهازل فهدا صحيح لكن هذا حجة لنا لأن المحلل إذا قال تزوجت فلانة وهولا يقصد إلا أن يطلقها ليحلها فلم يقصد بلفظ التزوج المعنى الذي جعل له في الشرع لأننا نعلم أن هذا اللفظ لم يقع في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصده رد المطلقة إلى زوجها وليس له قصد في النكاح الذي هو النكاح ولا في شيء من توابعه حقيقة ولا حكما فإن النكاح مقصوده الإستمتاع والصلة والعشرة والصحبة بل هو أعلى درجات الصحبة فمن ليس قصده أن يصحب ولا يستمتع ولا أن يواصل ويعاشر بل أن يفارق لتعود إلى غيره فهو كاذب في قوله تزوجت بإظهاره خلاف ما في قلبه وإنما هو بمنزلة من قال لرجل وكلتك أو شاركتك أو ضاربتك أو ساقيتك وهو يقصد رفع هذا العقد وفسخه ليس له غرض في شيء من مقاصد هذه العقود فإنه كاذب في هذا القول بمنزلة قول المنافقين نشهد أنك لرسول الله وقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين فإن هذه الصيغ إخبارات عما في النفس من المعاني التي هي أصل العقود ومبدأ الكلام والحقيقة التي بها يصيراللفظ قولا ثم إنها إنما تتم قولا وكلاما باللفظ المقترن بذلك المعنى فتصير الصيغ إنشاءات للعقود والتصرفات من حيث أنها هي التي أثبتت الحكم وبها تم وهي إخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس فهي تشبه في اللفظ أحببت وأبغضت وأردت وكرهت وهي تشبه في المعنى قم وأقعد

وهذه الأقوال إنما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها حقيقة أو حكما ما جعلت له أو إذا لم يقصد بها ما يناقض معناها وهذا فيما بينه وبين الله سبحانه وأما في الظاهر والأمر محمول على الصحة الذي هو الأصل والغالب وإلا لما تم تصرف

فإذا قال: بعت وتزوجت كان هذا اللفظ دليلا على أنه قصد به معناه الذي هو المقصود به وجعله الشارع بمنزلة القاصد إذا هزل وباللفظ والمعنى جميعا يتم الحكم وإن كان العبرة في الحقيقة بمعنى اللفظ حتى ينعقد النكاح بالإشارة إذا تعذرت العبارة وينعقد بالكتابة أيضا ومعلوم أن حقيقة العقد لم يختلف وإنما اختلفت دلالته وصفته وهذا شأن عامة أنواع الكلام فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق لا سيما الأسماء الشرعية أعني التي علق الشارع بها أحكاما فإن المتكلم عليه أن يقصد تلك المعاني الشرعية والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني

فإن فرض أن المتكلم لم يقصد بها ذلك لم يضر ذلك المستمع شيئا وكان معذورا في حملها على معناها المعروف وكان المتكلم آثما فيما بينه وبين الله تعالى إنما يبطل الشارع معه ما نهاه عنه فإن كان لاعبا أبطل لعبه وجعله جادا وإن كان مخادعا أبطل خداعه فلم يحصل له موجب ذلك القول عند الله ولا شيء منه كالمنافق الذي قال أشهد أن محمدا رسول الله وقلبه لايطابق لسانه

وتحرير هذا الموضع: يقطع مادة الشغب فإن لفظ الإنكاح والتزويج موضوعهما ومفهومهما شرعا وعرفا نكاح وانضمام وازدواج موجبه التأييد إلا لمانع وحقيقته نكاح مؤبد يقبل الإنقطاع أو القطع ليس مفهومهما وموضوعهما نكاحا يقصد به رفعه ووصلا المطلوب منه قطعه وفرق بين اتصال يقبل الإنقطاع واتصال يقصد به الإنقطاع وكما أن هذا المعنى ليس هو معنى اللفظ ومفهومه فلا يجوز أن يراد به أصلا ولا يجوز أن يكون موضوعا له حقيقة ولا مجازا بخلاف استعماله في المتعة فإنه يصح مجازا وذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز أن يكون موضوعا لإثبات الشيء ونفيه على سبيل الجمع باتفاق العقلاء وإن كان كثير منهم أو أكثرهم يحيله على سبيل البدل أيضا لأن الجمع بين الإثبات والنفي جمع بين النقيضين وهو محال واللفظ لا يوضع لإرادة المحال

والنكاح هو صلة بين الزوجين يتضمن عشرة ومودة ورحمة وسكنا وازدواجا وهو مثل الأخوة والصحبة والموالاة ونحو ذلك من الصلات التي تقتضي رغبة كل واحد من المتواصلين في الآخر بل هو من أوكد الصلات فإن صلاح الخلق وبقاءه لا يتم إلا بهذه الصلة بخلاف تلك الصلات فإنها مكملات للمصالح فإذا كان مقصود الزوج حين عقده فسخه ورفعه صار قوله تزوجت معناه قصدت أن أصل إلى قطع وأوالي لا أعادي وأحب لا أبغض ومعلوم أن من قصد القطع والمعادات والبغض لم يقصد الوصل والموالاة والمحبة فلا يكون اللفظ دالا على شيء من معناه إلا على جهة التهكم والتشبه في الصورة بخلاف نكاح المتعة فإن غرضه وصل إلى حين وهذا نوع وصل مقصود فجاز أن يراد باللفظ ثم إن الشارع جعل موجب اللفظ هو الوصل المؤبد ومنع التوقيت لما أنه يحل بمقاصد النكاح ويشبه الإجارة والسفاح فكيف بالتحليل

فالمنع من دلالة هذا اللفظ على المتعة شرعي ولهذا جاز ورود الشرع بإباحة نكاح المتعة والمنع من دلالته على التحليل عقلي ولهذا لم يرد به الشرع بل لعن فاعله فهذا يبين فقه المسألة ويبين أن القول بجواز مثل هذا النكاح في غاية الفساد والمناقضة للشرع والعقل واللغة والعرف وأنه ليس له حظ من نظر ولا أثر أصلا خلاف ما ظنه بعض من لم يتفقه في الدين من أن القياس جوازه وكان هذا اعتقاد أن الحلال والحرام فيما بين العبد وبين ربه عز وجل إنما يرتبط بمجرد لفظ يخذل به لسانه وإن قصد بقلبه خلاف ما دل عليه لفظه بلسانه وهذا ظن من يرى النفاق نافعا عند الله تعالى

ونظير هذا ما يذكر أن بعض الناس بلغه أنه من أخلص لله أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فأخلص في ظنه أربعين صباحا لينال الحكمة فلم ينلها فشكى ذلك إلى بعض حكماء الدين فقال إنك لم تخلص لله سبحانه وإنما أخلصت للحكمة يعني أن الإخلاص لله سبحانه وتعالى إرادة وجهه فإذا حصل ذلك حصلت الحكمة تبعا فإذا كانت الحكمة هي المقصود ابتداء لم يقع الإخلاص لله سبحانه وإنما وقع ما يظن أنه إخلاص لله سبحانه وكذلك قوله ﷺ ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله فلو تواضع ليرفعه الله سبحانه لم يكن متواضعا فإنه يكون مقصوده الرفعة وذلك ينافي التواضع وهكذا إذا تزوجها ليطلقها كان مقصوده هو الطلاق فلم يكن ما يقتضيه وهو النكاح مقصودا فلم يكن اللفط مطابقا للقصد

واعلم أن الكذب وإن كان يغلب في صيغ الأخبار وهذه صيغ إنشاء فإن الصيغ الدالة على الطلب والإرادة إذا لم يكن المتكلم بها طالبا مريدا كان عابثا مستهزئا أو ماكرا خادعا وأن الرجل لو قال لعبده أسقني ماء وهو لا يطلبه بقلبه ولا يريده فأتاه فقال ما طلبت ولا أردت كان مستهزئا به كاذبا في إظهاره خلاف ما في قلبه وإن قصد أن يجيبه ليضربه كان ماكرا خادعا فكيف بمن يقول تزوجت ونكحت وفي قلبه أنه ليس مريدا للنكاح ولا راغبا فيه وإنما هو مريد للإعادة إلى الأول فهو متصور بصورة المتزوج كما أن الأول متصور بصورة الآمر وبصورة المؤمن وبهذا ظهر الجواب عن قوله إن السبب تام فإنها مجرد دعوى باطلة وقوله لم يبق إلا القصد المقترن بالعقد

قلنا: لا نسلم ان هنا عقدا أصلا وإنما هو صورة عقد أما إن كانا متواطئين فلا عقد أصلا وإن كان الزوج عازما على التحليل فليس بعاقد بل هذا القصد يمنع العقد أن يكون عقدا في الحقيقة وإن كانت صورته صورة العقد وقوله وذلك لا تأثير له في الأسباب الظاهرة قلنا إن عنيت بالأسباب الظاهرة اللفظ المجرد كان التقدير أن المقاصد والنيات لا تأثير لها في الألفاظ وبطلان هذا معلوم بالاضطرار فإن المؤثر في صفاته اللفظ وأحكامه إنما هو عناية المتكلم وقصده وإلا فاللفظ وحده لا يقتضي شيئا وإن عنيت بالأسباب الظاهرة الألفاظ الدوال على معان فلا ريب أن القصد يؤثر فيها أيضا لأنه إذا قصد بها خلاف تلك المعاني كان صاحبها مدلسا ملبسا لكن الحكم في الظاهر يتبع الظاهر وليس القصد إشاعة الحكم بالصحة ظاهرا وإنما الكلام في الحل فيما بينه وبين الله سبحانه وقوله إنما نوى الطلاق وهو مملوك له بالعقد فهو كما لو نوى إخراج البيع عن ملكه وإحراقه أو إتلافه ونحو ذلك

قلنا: هذا منشأ الغلط فإن قصد الطلاق لم يناف النكاح من حيث هو قصد تصرفه في المملوك بإخراجه عن الملك وإنما نافاه من حيث أن قصد النكاح وقصد الطلاق لا يجتمعان فإن النكاح معناه الإجتماع والإنضمام على سبيل انتفاع كل من المجتمعين بصاحبه وألفه به وسكونه إليه وهذا ممن ليس له قصد إلا قطع هذا الوصل وفرق هذا الجمع مع عدم الرغبة في المؤالفة وانتفاء الغرض من المعاشرة لا يصح والطلاق ليس هو التصرف المقصود بالملك ولا شيئا منه وانما هو رفع سبب الملك فلا يقاس بتلك التصرفات وإنما ليرها من النكاح أن يقصد بالنكاح بعض مقاصده من النفع بها أو نفعها ونحو ذلك ونظير الطلاق أن لا يعقد البيع إلا لأن يفسخه بخيار شرط أو مجلس أو عيب أو فوات صفة أو إقالة فهل يجوز أن يقصد بالبيع أن يفسخ بعد عقده بأحد هذه الأسباب وإذا قال: بعت أو اشتريت وقصده فسخ العقد في مدة الخيار أو تواطأ على التقابل وعقدا فهل هناك تبايع حقيقي ونظير التحليل أن يحلف الرجل أنه لا بد أن يبيع عبده ثم يبيعه من رجل بنية أن يفسخ العقد في مدة أحد الخيارات فمن الذي سلم أن هذا باع عبده قط وإنما هذا تصور يصورة البائع وكذلك لو حلف ليهبن ماله ووهبه لابنه بنية أن يرتجعه ولما قال سبحانه: { وأقرضوا الله قرضا حسنا } و{ أنفقوا مما رزقناكم } لو أعطى ابنه مظهرا أنه مقرض منفق ومن نيته الارتجاع فهل يستحسن مؤمن هذا أن يدخل هذا في اسم المقرض المنفق وكذلك لما قال وآتوا الزكاة فلو آتاها الفقير قد واطأه على أن يعيدها إليه فهل يكون هذا مؤتيا للزكاة وبالجملة كل عقد أمكنه رفع من بيع أوإجارة أو هبة أو نكاح أو وكالة أو شركة أظهر عقده ومقصوده رفعه بعد العقد وليس غرضه العقد ولا شيئا من أحكامه وإنما غرضه رفعه بعد وقوعه فهذا يشبه التحليل وإن لم يمكن الفسخ إلا برضى المتعاقدين فتواطؤهما على التفاسخ قبل التعاقد من هذا الباب فإن هذا القصد والمواطأة تمنع أن يكون المقصود بالعقد مقتضاه ويقتضي أن يكون المقصود نقيض مقتضاه وإذا قصد المتكلم إنشاء أو إخبارا أو أمرا بالكلام نقيض موجبه ومقتضاه كأن الكلام نافيا لذلك المعنى وذلك القصد ومضادا له من هذه الجهة

ومما يوضح هذا: أن الطلاق وفسخ العقود هو تصرف في نفس الملك وموجب العقد برفعه وإزالته ليس هو تصرفا في المملوك بالعقد بإتلافه واهلاكه بخلاف أكل الطعام وإعتاق العبد المشتري وإحراقه واغراقه فإنه تصرف في الشيء المملوك لا بإتلاف وفرق بين إزالة الملك بقاء محل الملك ومورده الذي كان مملوكا وبين إتلاف نفس محل التصرف ومورده الذي هو محل الملك وإن كان المملوك قد يسمى ملكا تسمية للمفعول باسم المصدر فأين إتلاف نفس التصرف بفسخ العقد إلى إتلاف محل التصرف بالانتفاع به أو بغيره فتدبر هذا فإن به يظهر فساد قول من قال النية لا تغير موجب السبب وكيف لا تؤثر فيه وهي منافية لموجب السبب لأن مقتضاه ثبوت الملك المؤيد للانتفاع بالمعقود عليه ومقتضاها رفع هذا المقتض ليتبين لك الفرق بين النية المتعلقة بالسبب والنية المتعلقة بمحل السبب وبه يظهر الفرق بين هذا وبين أن ينوي بالبيع إتلاف المبيع فإن هذا نية لإتلاف المعقود عليه لا نية لرفع العقد

ومثل هذه النية لا تتأتى في النكاح فإن الزوج لا يمكنه إتلاف البضع ولا المعارضة عليه ولا يمكنه في الجملة أن ينتفع به إلا بنفسه فلا يتصرف فبه ببيع ولا هبة ولا إجارة ولا إعارة ولا نكاح ولا إتلاف وإذا أراد إخراجه عنه لم يكن له طريق مشروع لإزالة الملك بإبطال النكاح وأما البيع فلإخراج المبيع عن نفسه طرق فإذا قصد أن يزيل المبيع عن ملكه بإعتاق أو إحراق أو إغراق ونحو ذلك وكان مباحا مثل إيقاد الشمع وإلقاء المتاع في البحر ليخفف السفينة ونحو ذلك فإن هذا قصد بالعقد الانتفاع بالمعقود عليه فإن المقصود بالمال الانتفاع به والأعيان إنما ينتفع بذواتها إذا أتلفت ولهذا يصح أن يبذل المال ليحصل له الملك ليتلفه هذا الإتلاف ولا يجوز أن يبذل الصداق ليعقد البيع ليفسخ فإن هذا يبذل العوض لبقاء الأمرعلى ما كان وهذا حاصل بدون العوض ولم يبذله لشيء من مقاصد الملك وفوائد المعقود عليه والعقد إنما يقصد لأجل المعقود عليه فإذا لم يكن في المعقود عليه غرض لم يكن في العقد غرض أصلا فلم يكن عقدا وإنما هو صورة عقد لا حقيقة وإيضاح هذا أن نية الطلاق هو قصد رد المعقود عليه إلى مالكه وكذلك سائر الفسوخ وهذا القدر هو الذي ينافي قصد العقد أما قصد إخراجه مطلقا فإنه لا يتأتى في النكاح وهو في البيع لا ينافي العقد كما تقدم

وأما الجواب عن الوجه الثاني فنقول: قوله القصد لا يقدح في اقتضاء السبب حكمه دعوى مجردة فلا نسلم أن مجرد اللفظ سبب ولا نعلم أن القصد لا يقدح فيه وإنما السبب لفظ قصده المتكلم ابتداء ولم يقصد به ما ينافي حكمه أو لفظ قصد به المتكلم معناه حقيقة أو حكما وقد قدمت في الوجه الثاني عشر من إبطال الحيل ما يدل على اعتبار المقصود في العقود وبينا أن قصد ما ينافي موجب العقد في الشرع يمنع حله وصحته فإن عدم قصد العقد إن كان على وجه الإكراه عذر الإنسان فيه فلم يصح وان كان على وجه الهزل واللعب فيما لا يجوز فيه الهزل واللعب لم يلتفت الشرع إلى هزله ولعبه وأفسد هذا الوصف المنهى عنه وألزمه الحكم عقوبة له مع كونه لم يقصد ما ينافى العقد وانما ترك قصد العقد في كلام لا يصلح تجريده عن حكمه وبينا الفرق بين المحتال مثل المحلل ونحوه وبين الهازل من جهة السنة وآثار الصحابة،

ومن جهة أن هذا لو لفظ بما نواه بطل تصرفه وهذا لو لفظ به لم يبطل ومن جهة أن هذا أطلق اللفظ عاريا عن نبة لموجبه أو بخلاف موجبهما وهذا قيد اللفظ بنية تخالف موجبه ولهذا سمي الأول لاعبا وهازلا لكون اللفظ ليس من شانه أن يطلق ويعرى عن قصد معنى حتى يصير كالرجل الهزيل بل يوعي معنى يصير به حقا وجدا وسمي الثاني مخادعا مدالسا من جهة أنه أوعى اللفظ معنى غير معناه الذي جعله الشارع حقيقته ومعناه وذكرنا أن الأول لما أطلق اللفظ وهو لفظ لا يجوز في الشرع أعزاه عن معنى جعل الشارع له المعنى الذي يستحقه

والثاني: لما أثبت فيه ما يناقض المعنى الشرعي لم يمكن الجمع بين النقيضين فبطل حكمه وذكرنا أن صحة نكاح الهازل حجة في إبطال نكاح المحلل من جهة أن كلا منهما منهي عن اتخاذ آيات الله هزوا وعن التلاعب بحدوده فإذا فعل ذلك بطل هذا التلاعب وبطلان التلاعب في حق الهازل تصحيح العقد فإن موجب تلاعبه فساده وبطلان التلاعب في حق المحلل إفساد العقد فإن موجب تلاعبه صحته وذكرنا أن الهازل نقص العقد فكمله الشارع تحقيقا للعقد وتحصيلا لفائدته فإن هذا التكميل مزيل لذلك الهزل وجاعله جدا وأن المحلل زاد في العقد ما أوجب نفي أصله ولوأبطل الشارع تلك الزيادة لم يفد فإنها مقصودة له والقصد لم يرتفع كما أمكن رفع الهزل بجعل الأمر جدا وهذه فروق نبهنا عليها هنا وإن كان فيما تقدم كفاية عن هذا وأما المسائل التي ذكرها مثل شراء العصير فجوابها من وجهين:

أحدهما: إنه هناك قصد التصرف في المعقود عليه وهذا لا ينافي العقد وهنا قصد رفع العقد وهذا بنافيه ألا ترى أن قصده لاتخاذ العصير خمرا لا يفارق قصده أن يتخذه خلا من جهة العقد وموجباته وانما يفارقه من جهة أن هذا حلال وهذا حرام وهذا فرق يتعلق بحكم الشرع لا بالعقد من حيث حقيقته ونحن لم نقل أن الطلاق محرم وأنه أبطل العقد من جهة كونه محرما وإنما نافاه من جهة أن قصده بالعقد إزالته وإعدامه يناقض العقد حتى يصير صورة عقد لا حقيقة عقد

الوجه الثاني: إن الحكم في هذه المسائل كلها ممنوع فإن اشتراءه بهذه الئية حرام باطل ثم إن علم البائع بذلك كان بيعه حراما باطلا في حقه أيضا وقد تقدم ذكر ذلك والدلالة عليه وذكرنا لعن النبي ﷺ عاصر الخمر وحديثا آخر ورد فيمن حبس العنب أيام القطاف ليبيعه لمن يتخذه خمرا بالوعيد الشديد وهذا الوعيد لا يكون إلا لفعل محرم وذكرنا أن الصحابة رضي الته عنهم جعلوا بيع العصير لمن يخمره بيعا للخمر وهو نهي يتعلق بتصرف العاقد في المعقود عليه فهو كنهي المسلم عن هبة المصحف لكافر وبيع العبد المسلم لكافر ونحو ذلك فيكون باطلا وقد تقدم ذكر ذلك في الوجه الثاني عشر وإن لم يعلم البائع بقصد المشتري كان البيع بالنسبة إلى البائع حلالا وبالنسبة إلى المشتري حراما لكن هنا فروع يخالف حكمها حكم غيرها مثل أن يتوب المشتري بعد ذلك فهل يجوز له التصرف في المشتري بدون تجديد عقد مع إمكانه وهو نظير إسلام الكافر هل يجوز له مع ذلك التصرف في المصحف الموهوب ونظير إسلام سيد العبد فإنا إنما منعنا من ثبوت يد الكافر على المصحف والمسلم لمقارنته اعتقاد الكفر له كما إنا منعنا من ثبوت يد المصرعلى ما يستعين به على المعصية لمقارنة اعتقاد المعصية له

وليس غرضنا هنا الكلام في هذا وإنما الغرض بيان منع هذه الأحكام ونظيره من النكاح أن يتزوج امرأة ليطأها في الدبر أو ليكريها لزنا ونحو ذلك فهذا مثل اشتراء العصير ليتخذه خمرا وبيع الأمة ليكرهها على البغاء فلا يجوز للولي تزويجها ممن يعلم أن هذا قصده ولا يصح النكاح حتى قد نص أصحابنا ومنهم أبو علي بن أبي موسى على أنه لو تزوجها نكاحا صحيحا ثم وطئها في الدبر فإنه ينهى عن ذلك فإن لم ينته فرق بينهما وهذا جيد فإن هذا الفعل حرام فمتى توافق الزوجان عليه أو أكرهها عليه ولم يمكن منعه إلا بالتفريق بينهما تعين التفريق طريقا لإزالة هذا المنكر وقد زعم بعض أهل الجدل المصنفين في خلاف الفقهاء لما ذكر عن الإمام أحمد أنه لا يجوز ولا ينعقد بيع العصير ممن يتخذه خمرا

قال: لا أظنه ينتهي إلى حد يقوي ولايجوز بيع العبد ممن يتلوط ولا بيع الأمة ولا تزوبج المرأة ممن يطأها في الموضع المكروه ثم قال ولا خلاف أنه يجوز بيع الأخشاب لمن يعمل آلات الملاهي وهذا الذي قاله هذا المجادل كله جهل وغلط وتخليط فإن الحكم في هذه المسائل كلها واحد وقد نص أصحاب الإمام أحمد على أنه لا يجوز بيع الأمرد ممن يعلم أنه يفسق به ولا بيع المغنية ممن يعلم أنه يتصرف فيها بما لا يحل ونص الإمام أحمد على أنه لا يجوز بيع الآنية من الأقداح ونحوها ممن لا يعلم أنه يشرب فيها المسكر ولا بيع المشمومات من الرياحين ونحوها ممن يعلم أنه يشرب عليها وكذلك مذهبه في بيع الخشب ممن يتخذها آلات اللهو وسائر هذا الباب جار عنده على القياس حتى أنه قد نص أيضا على أنه لا يجوز بيع العنب والعصير والدادي ونحو ذلك ممن يستعين على النبيذ المحرم المختلف فيه فإن الرجل لا يجوز له أن يعين أحدا على معصية الله وإن كان المعان لا يعتقدها معصية كإعانة الكافرين على الخمر والخنزير وجاء مثل قوله في هذا الأصل عن غير واحد من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم

هذا إذا كان التحريم لحق الله سبحانه وأما إذا تزوجها ليضارها فلا يحل له ذلك أيضا كما إذا اشترى من رجل شيئا ليضاره بمطل الثمن فإن علمت هي بذلك فقد رضيت بإسقاط حقها وإن لم تعلم لم يمكن إبطال العقد مطلقا لأن النهي عن العقد إذا كان لإضرار أحد المتعاقدين بالإحرام لم يقع باطلا كبيع المصراة وتلقي الركبان وبيع المعيب المدلس عيبه لأن النهي هنا إنما هو أحدهما لا كلاهما فلو أبطلنا العقد في حقهما جميعا لكان فيه إبطال لعقد من لم ينه ولكان فيه إضرار لمن أبطل العقد لرفع ضرره وهذا تعليق على الوصف ضد مقتضاه لأن قصد رفع ضرره قد جعل موجبا لضرره لكن يمكن أن يقال أن العقد باطل بالنسبة إلى المضار دون الآخر كما يقال في مواضع كغيرة مثل الصلح على الإنكار إذا كان أحدهما ظالما وشراء المعتق المجحود عتقه إذا لم يعلم المشتري ومثل دفع الرشوة إلى ظالم ليكف ظلمه ومثل إعطاء بعض المؤلفة قلوبهم ونظائره كثيرة فيكون نكاح الزوج باطلا بالنسبة إليه بمعنى أن استمتاعه بها حرام وبيع المدلس بالنسبة إلى البائع باطل بمعنى أنه لم يملك الثمن فهذا قد يقال مثله

وليس الغرض هنا بيان هذه المسائل وإنما الغرض بيان أنها غير واردة على ما ذكرنا وأما إذا تزوجها ليضار بها امرأة أخرى أو ليتعاونا على سحر أو غير ذلك من المحرمات ولم يكن مقصودهما النكاح وإنما الغرض التوصل به إلى ذلك المحرم فمن الذي سلم صحة هذا النكاح

فإن من قال: إن بيع الخبز واللحم ممن يعلم أنه يجمع عليه الفساق للشرب والزنا باطل وبيع الأقداح لمن يشرب فيها المسكر باطل وبيع السلاح ممن يقتل به معصوما باطل كيف لا يقول أن تزويج المرأة لمن يضر بها امرأة مسلمة ضررا محرما مثل أن يضربها باطل وإن أورد ما إذا لم يقصد الاستمتاع بها وإنما قصد مجرد إيذاء الزوجة الأولى بالغيرة فهذا نظير مسألتنا لأن هذا الأذى ليس بمحرم الجنس فلم يتزوجها لفعل محرم في نفسه ثم هو لا يمكن إلا مع بقاء النكاح فكأنه قصد بالنكاح بعض توابعه التي لا تحصل إلا مع وجوده وهي مما لا يحل قصده وإن جاز وجوده شرعا بطريق الضمن فهنا المحرم مجرد القصد فلا يشبه نكاح المحلل لأن المقصود هناك رفع النكاح وهنا بقاؤه لكن يشبهه من حيث أن المقصود هناك فعل هو محرم بطريق القصد مباح بطريق التبع وكذلك هنا المقصود غيرة الزوجة وهو محرم بطريق القصد مباح بطريق التبع

وصحة هذا النكاح فيها نظر فإن ما كان التحريم فيه لحق آدمي يختلف أصحابنا في فساده كما اختلفوا في الذبح بآلة مغصوبة وفي فساد العقود التي تحرم من الطرفين بحق آدمي مثل بيعه على بيع أخيه وسومه على سومه ونكاحه إذا خطب على خطبته فإن فيه خلافا معروفا ومن قال بالصحة اعتذر بأن المحرم ليس هو نفس العقد وإنما هو متقدم عليه وفرقا بعضهم بأن المنع هنا لحق آدمي فإن سلم صحة الفرق بين هذه الصورة وبين نكاح المحلل ونحوه لم يصح قياسه عليها ولا نقض دليلنا بها

وإن لم نسلم صحة الفرق سوينا بين جميع الصور في البطلان فيمنع الحكم في هذه المسائل وكذلك كلما يرد عليك من هذه المسائل المختلف فيها فإن الجواب على سبيل الإجمال أنه إنما يكون بين المسألتين فرق صحيح أو لا يكون فإن كان بينهما فرق لم يصح النقض ولا القياس وإن لم يكن بينهما فرق فالحكم في الجميع سواء نعم لو أوردت صور قد ثبتت الصحة فيها بنص أو إجماع وليس بينهما فرق لكان ذلك متوجها وليس إلى هذا سبيل ولا تعبأ بما يفرض من المسائل ويدعي الصحة فيها بمجرد التهويل أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك وقائل ذلك لا يعلم أحدا قال فيها بالصحة فضلا عن نفي الخلاف فيها وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يعذر المخالف فيها

وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد من ادعى الإجماع فهو كاذب فإنما هذه دعوى بشر وابن علية يريدون أن يبطلوا السنن بذلك يعني الإمام أحمد رضي الله عنه أن المتكلمين في الفقه من أهل الكلام إذا ناظرتهم بالسنن والآثار قالوا هذا خلاف الإجماع وذلك القول الذي بخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن فقهاء المدينة وفقهاء الكوفة مثلا فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالآراء حتى كان بعضهم ترد عليه الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام والآثار فلا يجد معتصما إلا أن يقول هذا لم يقل به أحد من العلماء وهو لا يعرف إلا أن أبا حنيفة ومالكا وأصحابهما لم يقولوا بذلك ولو كان له علم لرأى من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك خلقا كثيرا وإنما ذكرنا ذلك على سبيل المثال

وإلا فمن تتبع وجد في مناظرات الشافعي وأحمد وأبي عبيد واسحق بن راهويه وغيرهم لأهل عصرهم من هذا الضرب كثيرا ولهذا كانوا يسمون هؤلاء وأمثالهم فقهاء الحديث ومن تأمل ما ترد به السنن في غالب الأمر وجدها أصولا قد تلقيت بحسن الظن من المتبوعين وبنيت على قواعد مغروضة إما ممنوعة أو مسلمة مع نوع فرق ولم يعتصم المثبت لها في إثباته بكثير حجة أكثر من نوع رأي أو أثر ضعيف فيصير مثبتا للفرع بالفرع من غير رد إلى أصل معتمد من كتاب أو سنة أو أثر وهذا عام في أصول الدين وفروعه ويجعل هذه في مقابلة الأصول الثابتة بالكتاب والسنة فإذا حقق الأمر فيها على المستمسك بها لم يكن في يده إلا التعجب ممن يخالفها وهو لا يعلم لمن يقول بها من الحجة أكثر من مرونة عليها مع حظ من رأى

ومسألة بيع العصير ممن يتخذه خمرا من بابه الذي زعم هذا المجادل أن لا خلاف في بعضها: وعامة السلف على المنع منها وقد تقدم ذكر ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر في العنب والعصير بالتحريم وقال البخاري في بيع السلاح في الفتنة كره عمران بن حصين بيعه في الفتنة والكراهة المطلقة في لسان المتقدمين لا يكاد يراد بها إلا التحريم

ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف في ذلك إلا ما روى أبو بكر بن أبي موسى عن أبيه عن أبي موسى الأشعري أنه كان يبيع العصير وهذه حكاية حال يحتمل أنه كان يبيعه ممن يتخذه خلا أو ربا أو يشربه عصيرا أو نحو ذلك

وأما التابعون فقد منع بيع العصير ممن يتخذه خمرا عطاء بن أبي رباح وطاوس ومحمد بن سيرين وهو قول وكيع بن الجراح وإسحاق بن راهويه وسليمان بن داود الهاشمي وأبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأبي إسحاق الجوزجاني وغيرهم

ومنع مالك بن أنس من ببع الكفار ما يتقوون به من كراع وسروج وحرثى وغيره وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ذكرهما في الحاوي وجرى التصريح عن السلف بتحريم هذا البيع وبفساده أيضا وهو مذهب أهل الحجاز وأهل الشام وفقهاء الحديث تبعا للسلف فروى ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب عن سعيد عن مجاهد أن رجلا قال لابن عباس أن لي كروما فاعصرها خمرا فاعتق من ثمنها الرقاب وأحمل على جياد الخيل في سييل الله وأتصدق على الفقراء والمساكين فقال له ابن عباس: فسق إن أنفقت وفسق إن تركت فرجع الرجل فعقر كل شجرة عنب كان يملكها وروى عبد الله الملك بن حبيب في الواضحة عن شراحيل بن بكير أنه سأل ابن عمر عن بيع العصير فقال: لا يصلح فقال: إن عصرته ثم شربته مكاني قال: فلا بأس قال: فما بال بيعه حرام وشربه حلال فقال له ابن عمر ما أدري أجئت تستفتيني أم جئت تماريني قال ابن حبيب: نهى عن بيعه لأنه يصرف إلى الخمر إلا أن يكون يسيرا ويكون مبتاعه مأمونا يعلم أنه إنما يشتريه ليشربه عصيرا كما هو فلا بأس به

وكذلك بيع الكرم إذا خيف أن يكون مشتريه إنما يشتريه لعصره خمرا فلا يحل بيعه منه وكذلك إذا كان مشتريه مسلما يخالف أن يستحل ذلك فإما إن كان نصرانيا أو يهوديا فلا يحل بيعه منه على حال لأن شأنهم عصير الخمر وبيعها قد كره ذلك ابن عمر وابن عباس وغطاء والأوزاعي ومالك وغير واحد وضرب الأوزاعي لذلك مثلا كمن باع سلاحا ممن يعلم أنه يقتل به مسلما قال وكره مالك أن يبيع الرجل العسل أو التمر أو الزبيب أو القمح ممن يعمل ذلك شرابا مسكرا وكره طعام عاصر الخمر وبائعها وكره مبايعته ومخالطته في ماله إذا كان مسلما وكره أيضا أن يكري الرجل لبيته أو حانوته ممن يبيع فيها الخمر مسلما كان أو نصرانيا

قال ابن حبيب: وقد نهى ابن عمر أن يكري الرجل بيته أو حانوته ممن يبيع فيها الخمر حدثنيه عبد الله بن صالح عن الليث عن نافع قال ابن حبيب ومن فعل ما نهى عنه بأن باع كرمه ممن يعصره خمرا أو أكرى داره أو حانوته ممن يبيع فيها الخمر تصدق بجميع الثمن

وكذلك قال مالك: فهذا ابن عباس يبين أن إمساك هذا الثمن فسوق وأن إنفاقه فسق وهذا من أبين ما يكون في فساد العقد فإنه لو كان صحيحا لكان الثمن حلالا فإنا لا نعني بفساد العقد في حق البائع إلا أنه لم يملك الثمن الذي أخذه ولا يحل له الانتفاع به بل يجب عليه أن يتصدق به إذا تعذر رده على مالكه كما يتصدق بكل مال حرام لم يعرف مالكه

وهذا مذهب مالك الذي ذكره ابن حبيب وعليه دل حديث ابن عمر حيث بين أن هذا البيع حرام ولا نعلم عن أحد من المتقدمين خلاف ذلك وإنما نعرف الرخصة في بيع العصير لمن يخمره عمن بعد التابعين مثل سفيان الثوري وأبي حنيفة وقد روي عن إبراهيم أنه قال لا بأس ببيع العصير وهذا مطلق فيحتمل أنه أراد إذا لم يعلم بحال المشتري ويحتمل العموم فكيف يجوز بعد هذا أن يدعي عدم الخلاف في شيء من هذا النوع ولو قيل لقائل ذلك أنقل لنا عن واحد من المتقدمين الرخصة في ذلك لا بأس فنسأل الله سبحانه الهدى والسداد بفضله ومنه

وأما قوله في الفرق بين الإكراه وبين هذا أن الرضى معتبر في صحة العقود فنقول وهل الرضى المتعلق بفعل الراضي نفسه إلا نوع من الإرادة والقصد أو صفة مستلزمة للإرادة والقصد فإذا كان النوع أو الملزوم شرطا فالجنس واللازم شرط بالضرورة فإن وجود النوع بدون الجنس أو الملزوم بدون اللازم محال فكيف يصح الفرق مع وجود هذا الجمع نعم قد يقول المنازع إنما اشترط هذا للقدر من القصد فقط فنقول إنما اشترطه لعدم قصد الإنسان في العقد وأنه إلزام مالم يرده وإنما تكلم بلفظه فقط لقصد آخر يدفع عن نفسه به ضررا لا يجوز

فنقول هذا موجود في المحلل وغيره من المحتالين فإن تصحيح عقد لم يرده وإنما تكلم بلفظه فقط لقصد آخر يستحل به محرما لا يجوز وقد بينا اعتبار المقصود في العقود فيما مضى وأما ذكر الشروط المقترنة في العقد فلا تعلق لها بما نحن فيه لكن إنما تورد فيما إذا توافقا على التحليل قبل العقد كما هو واقع كثيرا فإن هذا أقبح من مجرد القصد وحكم هذا حكم المشروط في العقد وقد بينا ضعف الفرق بين المقترن والمتقدم فيما مضى

وأما الوجه الثالث: فنقول النية إنما تعمل في اللفظ المحتمل لمعنيين صحيحين دون ما لا يحتمل إلا بمعنى واحدا صحيحا فإن النية الباطنة لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة فليس في هذا الكلام أكثر من مجرد حكاية المذهب وحسبه من الجواب لا تسلم فإن الدعوى المجردة يكفيها المنع المجرد ثم نقول القول أنها لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة ظاهرا أم لا تؤثر فيها ظاهرا ولا باطنا الأول مسلم ولا يضرنا ذلك فإنا لم ندع أن مجرد النية تبطل حكم اللفظ ظاهرا وانما قلنا العقد في الباطن باطل في حق المحلل وإن كان حلالا بالنسبة إلى المرأة إذا لم تعلم بالتحليل فيأثم بوطئها وبإعادتها إلى الأول وهي لا تأثم بتمكينه كمن تزوج أخته من الرضاعة وهي لا تعلم وإن قال أن النية الباطنة لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة بحال فينتقض عليه بصرائح الطلاق والعتاق ونحوها إذا صرفها بنيته إلى ما يحتمله اللفظ فإن ذلك يؤثر في الباطن فكذلك لفظ نكحت يحتمل نكاح التحليل وقد نواه فينصرف اللفظ إليه لأن اللفظ إما أن يكون مشتركا أو متواطئا وإما أن يكون أحد المعنيين فيه ظاهرا والآخر باطنا واما أن يكون نصا لا يحتمل غير المعنى الواحد فأما المشترك فتؤثر النية فيه كما في الكنايات وكذلك المتواطىء كقوله اشتريت فإنه مطلق تقيده النية له أو لموكله وأما النص فلا تعمل النية في خلاف معناه وأما الظاهر فما أعلم أحدا خالف في أن النية تؤثر فيه في الجملة واللفظ الصريح يشمل النص والظاهر فقوله ان اللفظ هنا صريح فلا تعمل النية فيه منقوض بما شاء الله من الصور بل هذه القاعدة من أقوى الأدلة على المسألة فإن لفظ الإنكاح والتزويج ظاهر في النكاح الصحيح الشرعي وهو محتمل للأنكحة الفاسدة مثل نكاح المحلل ونكاح الشغار ونكاح المتعة وغير ذلك فإذا قال نكحت ونوى نكاح المحلل فقد قصد باللفظ ما يحتمله ثم من نوى ما يخالف الظاهر إن كان المنوى له دين في الباطن إذا أمكن وفي قبوله في الحكم خلاف مشهور إذا كان الإحتمال قريبا من الظاهر وإن كان الذي نواه عليه فإنه يقبل ظاهرا وباطنا كما لو قال أنت طالق إن قمت ثم قال سبق لساني بالشرط ولم أرده أو قال والله لا أنكح فلانة ونكحها نكاحا فاسدا وقال نويت الصحيح والفاسد فإذا كان الزوج قد نوى التحليل علمت نيته في الباطن في جانبه خاصة فإذا ادعى أنه نوى ذلك قبل فيما عليه من إفساد النكاح في حقه ثم هذا قياس بجميع ألفاظ العقود المفردة والمقترنة من الإيمان والنذور والطلاق والعتاق والظهارة والإيلاء والوقف والبيع والهبة والنكاح فكيف يقال بعد هذا أن النية الباطنة لا أثر لها في مقتضيات الأسباب الظاهرة ولو قال زوجتك بنتي بألف درهم لكان هذا اللفظ صريحا في نقد البلد الغالب فلو قال الزوج نويت النقد الفلاني وهو خير من نقد البلد أو دونه قبل منه أن صدق الآخر عليه وبالجملة فهذا السؤال دليل قوي في أصل المسألة وهو أن يقال نوى باللفظ معنى محتلا يخالف ظاهره فوجب أن يلزمه ما نواه فيما بينه وبين الله كما لو نوى ذلك بسائر ألفاظ العقود أو يقول كما لو نوى ذلك بألفاظ الأيمان والنذور والطلاق والعتق وبهذه الأصول يظهر الفرق أيضا بين طلاق الهازل والطلاق الذي نوى به خلاف ظاهره فإنه إذا هزل بالطلاق أو العتق ونحوهما وقع ولو نوى به خلاف ظاهره دين فيما بينه وبين الله تعالى بلا تردد وقبل في الحكم إذا كان ذلك أشد عليه بلا تردد أيضا فكذلك النكاح إذا هزل به وقع وإذا نوى بالعقد خلاف ظاهره عمل فيما بينه وبين الله تعالى بما نوى وقبل ما نواه في الحكم في جهته لأن الإقرار بفساد النكاح مقبول منه فيما يخصه ومن النقوض الموجهة على هذه الدعوى الباطلة وهي قوله النية الباطنة لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة إن كلمة الإسلام مقتضاها سعادة الدنيا والآخرة ثم إذا نوى ما يخالفها أثر ذلك في إبطال مقتضاها في الباطن ومن ذلك عقود الهازل فإن أكثرها أو عامتها عند المخالف باطلة لعدم قصدها فقد أثرت النية الباطنة في مقتضيات الأسباب الظاهرة

ولنا أن ننقض عليه بصور وإن كنا لا نعتقدها فإن حاصل ذلك أنك إذا لم تعتقد صحة دليلك فكيف تلزمه غيرك إذا كان هو أيضا لا يعتقد صحته ولهذا قالوا ليس للمناظر أن يلزم صاحبه ما لا يعتقده هو إلا النقض لأن ما سوى النقض إستدلال وليس للإنسان أن يستدل بما لا يعتقد صحته والنقض ليس استدلالا لكن إذا انقضت العلة على أصل المستدل فقد اتفقا على فسادها أما المستدل فبصورة النقض وأما الآخر فمحل النزاع لأنهما اتفقا على تخلف الحكم عن هذه العلة فالمستدل يقول تخلف الحكم عنها في صورة النقض والآخر يقول تخلف الحكم عنها في الفرع الذي هو محمل النزاع وإذا كان الحكم متخلفا عنها وفاقا كانت منتقضة وفاقا

وتخليص ذلك أن المستدل ليس له أن يستدل إلا بما هو دليل عنده فإذا استدل بما هو دليل عند مناظره دونه كان حاصله إظهار مناقضة المناظر لإثبات مذهب نفسه وهذا ليس استدلالا وإنما هو اعتراض في المعنى فأما المعترض فاعتراضه إن كان منعا فليس هو إلزاما وإن كان معارضة فيجوز له أن يعارض بما هو دليل عند المستدل وليس دليلا عنده إذا كان هو لا يعتقد صحة دليل المستدل كما ذكرنا في النقض عليه وإن كان هو أيضا يعتقد صحة دليل المستدل وقد عارضه بما هو دليل عند المستدل دونه فحاصله يرفع مناقضة المستدل وفي الحقيقة فكلاهما مخصوم أما المستدل فاستدل بدليل معترض عن مرجح وأما المعترض فترك العمل بالدليل السالم عن المعارض المقاوم

ومن ذلك صور الوكالة فإن قوله اشتريت مقتضاه الإشتراء له لا يحتاج في ثبوته إلى نية ثم إذا نوى الشراء لموكله أو لشريكه صح ذلك بالاتفاق وكذلك لو نواه لغير موكله على خلاف مشهور وقول المعترض إن قوله اشتريت متردد بين الإشتراء له ولموكله غلط بل هو ظاهر في الشراء له محتمل للشراء لموكله وربما قد ينازعنا فيما إذا كانت الوكالة في شراء شيء معين لظهور الشراء للموكل في مثل هذه الصورة فننقل الكلام إلى شراء الولي مثل وصي اليتيم وناظر ائوقف وشراء الابن فإنه لا خلاف إن مطلق هذا العقد يقتضي الشراء لنفس المشتري ظاهرا وباطنا والنية الباطنة تعمل في مقتضى هذا السبب الظاهر ولا يدعي أحد أن اللفظ هنا متردد بين الشراء لنفسه أو لموليه بل مقتضى اللفظ هنا الشراء لنفسه كما أن مقتضى لفظ النكاح هو النكاح الصحيح الشرعي ثم هنا إذا نوى الشرى لموليه أثرت النية في مقتضى السبب الظاهر فكذلك هناك وليس بينهما من الفرق أكثر من أن المنوى هناك جائز وهنا غير جائز لأنه هناك نوى أن يشتري بطريق الولاية وهنا نوى أن يكون محللا وهذا الفرق لا يقدح في كون النية تؤثر في مقتضى الأسباب الظاهرة بل هو دليل على أنها مؤثرة بحسبها إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا وهذا الفرق لم يجز إلا من خصوص المنوى وهذا لا بد منه فإن النيات وان اشتركت في كونها نية فلا بد أن نفترق في متعلقاتها

إذا تبين هذا: فقوله النية إنما تؤثر في اللفظ المحتمل إن عنى به الإحتمال المساوي لصاحبه فليس احتمال لفظ العقد للمولي والموكل مساويا فلا يصح كلامه وإن عنى به مطلق الإحتمال المساوي أو المرجوح فهدا لا يخرج اللفظ عن أن يكون صريحا كسائر الألفاظ الظاهرة وحينئذ فيكون قد نفى ما أثبته لأنها تعمل في كل لفظ محتمل ونفي عملها في الظواهر وهي محتملة وهو كلام متهافت وإن عنى بالصريح النص فهو خلاف كلام العلماء فإن صرائح الطلاق وغيره ظواهر فيه تحتمل غيره ليست نصوصا ثم مع هذا لا ينفعه هذا الكلام فإن لفظ النكاح يجوز أن يراد به النكاح الفاسد ولهذا يقال نكاح صحيح وفاسد ويقال نكاح المحلل

وهذا الاستعمال وإن سلم أته مجاز فإنه يخرج اللفظ عن أن يكون نصا إلى أن يكون ظاهرا وهومدخل للفظ النكاح في اللفظ المحتمل بالتفسير الذي نتكلم على تقريره واذا لم يكن النكاح داخلا في القسم الثاني أعني الصريح بل في الأول صار الكلام حجة عليه لا له وكذلك هو فإن المعترض بهذه الأسئلة رد بها كلام من احتج من الفقهاء على أن للنية تأثيرا في العقود كعقد التوكيل ونحوه فزعم أنها تؤثر في المحتمل دون الصريح وأن الوكالة من المحتمل والنكاح من الصريح وقد تبين لك أنهما من جنس واحد فأي تفسير فسر المحتمل والصريح دخل فيه القسمان جميعا وهذا توكيد للحجة

وأما الوجه الرابع فجوابه: إن النية ليست بمنزلة الشرط مطلقا وقوله إذا لم يكن بمنزلة الشرط مطلقا فلا تأثير لها غير مسلم ولا دليل عليه بل النية في الجملة تنقسم إلى مؤثر في العقد وإلى غير مؤثر كما أن الشروط تنقسم إلى مؤثر وغير مؤثر فإذا كان الشرط ينافي موجب العتد كاشتراط عدم الصداق كان باطلا وإذا لم ينافه كإشتراط مصلحة العقد أو العاقد لم يكن باطلا وكذلك النية إذا كانت منافية لموجب العقد أو لمقتضى الشرع كانت مؤثرة وإذا لم تكن منافية لم تؤثر فمن نوى بالشرى القنية أو التجارة لم يخرج بهذه النية عن مقتضى البيع بخلاف من أوجب ذلك بالشرط على المشتري أما من قصد أن يعقد ليفسخ لا لغرض في ائمعقود عليه أو قصد منفعة محرمة بالمعقود عليه

فهذا قصد ما ينافي العقد والشرع فكذلك أثر في العقد وقد تؤثر النية حيث لا يؤثر الشرط فإنه لو قصد التدليس على المشتري أو المستنكح أو المنكوحة كان ذلك حراما مثبتا لخيار الفسخ أو مبطلا للعقد ولو شرط ذلك لكان العقد صحيحا لازما فظهر أن القصد يؤثر حيث لا يؤثر الشرط كما أن الشرط يؤثر حيث لا يؤثر القصد وقد يؤثران جميعا إذا كل منهما مخالف للآخر في وحده وحقيقته وإنما غلط هنا من ظن أن المؤثر هو الشرط أو ما يقوم مقامه وليس الأمر كذلك والله أعلم

وأما الوجه الخامس: فقد اعترف المعترض بفساده وقال نحن لا ندعي أن النكاح صحيح باطنا وظاهرا وهو كما قال فإنا نقول بموجب الحديث فنحكم بالظاهر فلا نحكم في عقد أنه عقد تحليل حتى يثبت ذلك إما بإقرار الزوج أو ببينة تشهد على تواطئها قبل العقد أو تشهد بعرف جار بصورة التحليل فإن العرف المطرد على حال جاري مجرى الشرط بالمقال لكنا وإن لم نحكم إلا بالظاهر فلا يجوز لنا أن نعامل الله تعالى إلا بالبينات الصحيحة فإن الأعمال بالنيات فلا يجوز أن ننوي بالشيء ما حرمه الله سبحانه وعلينا أن ننهي الناس عما نهاهم الله عنه ورسوله ﷺ من النيات الباطنة وان لم نعتقد أنها فيهم كما ننهاهم عن سائر ما حرمه الله سبحانه وأن لا نكتم ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب الذي تضمن طاعة الرسول ﷺ واتباع سبيل السابقين الأولين وعلينا أن لا نعين أحد بنوع من أنواع الإعانة على عقب يغلب على الظن أنه تحليل وان لم نحكم بأنه تحليل كما لا يجوز أن نعين أحدا على عمل يغلب على الظن أنه يتوسل به إلى قتل معصوم أو وطء محرم وينبغي الإحتراز من الإعانة على ما يخاف أن يكون تحليلا وإن لم يغلب على القلب وبالجملة فالغرض هنا بيان تحريم التحليل وفساد عقد المحلل في الباطن وأما ترتيب الحكم عليه في الظاهر فسيأتي إن شاء الله تعالى وهذا بين إن شاء الله تعالى




=======

29/
فصل

وقد أخرج الشيطان للتحليل حيلة أخرى وهي أن يزوجها الرجل المطلق من عبده بنية أن يبيعه منها أو يهبه لها فإذا وطئها العبد باعها ذلك العبد أو بعضه أو وهبها ذلك والمرأة إذا مكلت زوجها أوشقصا منه انفسخ والنكاح والمخادعون يؤثرون هذه الحيلة لشيئين:

أحدهما: إن الفرقة هنا تكون بيد الزوج المطلق أو الزوجة فلا يتمكن الزوج من الإمتناع من الفرقة بخلاف الصورة الأولى فإنه قد يمتنع من الطلاق فيمكنه ذلك على القول بصحة النكاح

الثاني: زعموا أنه أستر لهما من إدخال أجنبي على المرأة فإن إيطاء عبده ليس كإيطاء من يساميه في الحرية ثم ذهب بعد الشذوذ إلى أن وطء الصغير الذي لا يجامع مثله يحلها فإذا انضم إلى ذلك أنه يجبره على النكاح صار بيد المطلق العقد والفسخ من غير ما يعارضه وإن كان كبيرا فمنهم من يجبره على النكاح فيصير بيد السيد العقد والفسخ أيضا وجعل بعض أصحابنا في هذه الصورة أعني فيما إذا زوجها من عبده الكبير احتمالا لأن الزوج لم ينو التحليل وإنما نواه غيره والعبرة في التحليل بنية الزوج لا بنية غيره

وهذه الصورة أبلغ في المخادعة لله تبارك وتعالى والإستهزاء بآيات الله والتلاعب بحدود الله فإنه هناك كان المحلل هو الذي بيده الفرقة لا بيد غيره وهنا جعلت الفرقة بيد المطلق والمرأة لا سيما إن كانت الزوجة تحت حجر الزوج بأن يكون وصيا لها فيرى أن يهبها العبد ويقبله هو أو يبيعها إياه إن كان ممن يستحل أن يبيع الوصي لليتيم فإن من فتح باب المخادعة لم يقف عند حد يتعدى ما أمكنه من حدود الله وينتهك ما استطاع من محارم الله فإنه في مثل هذه الصورة يبقى المطلق مستقلا بفسخ النكاح ثم إنه من المعلوم أن العبد لا يمكنه النكاح الصحيح إلا بإذن سيده فإذا أذن السيد له في النكاح ومن نية هذا السيد أن يفسخ نكاحه كان الزوج أيضا مخدوعا ممكورا به حيث أذن له في نكاح باشره وليس القصد به نكاحا وإنما القصد به سفاح فهناك إنما وقعت المخادعة في حق الله فقط وهنا وقعت المخادعة في حق الله وحق آدمي وهذا هو الزوج واللعنة التي وجبت هناك على المحلل والمحلل له يصير كلتاهما هنا على المطلق وهو المحلل له وعلى الزوجة فيقتسمان لعنة المحلل وينفرد المطلق بلعنة المحلل له أو تشركه المرأة فيها

ومن أسرار الحديث أنه يعم هذا لفظا كما يعمه معنى فإن العطف قد يكون للتغاير في الصفات كما يكون للتغاير في الذوات فيقال لهذا لعن الله المحلل والمحلل له وإن كانا وصفين لشيء واحد فلهذا قلنا هذا أغلط في التحريم حيث اجتمع عليه لعنتان فإن كان هذا العبد قد واطأهم أخذ بنصيبه من اللعنة من غير أن ينقص من نصيب السيد شيئا لأن عقد التحليل إنما تم برضاه ورضى السيد كما لو كان المحلل عبدا لغير المطلق فإنه إذا حلل بإذن السيد حقت اللعنة عليهما ويزيده قبحا أن الزوج هنا عبد ليس بكفء ونكاحه إما منقوص أو باطل على ما فيه من الاختلاف ومن يصححه فمنهم من يشترط رضى جميع الأولياء

ثم اعلم أن التحليل بالعبد قد يكون من غير المطلق بل من صديق له يزوجها بعبده ويواطئها على أن يملكها إياه فإن لم يعلم الزوج المطلق بذلك فهو كما لو اعتقد الزوج التحليل هناك وعلمت به المرأة دون المطلق وإن علم فهو كما لو علم هناك وكما ذكرناه من الأدلة على التحليل فهي حاصلة هنا فإن قول النبي ﷺ [ لعن الله المحلل ] وإن كان الغالب إنما يقصد به الزوج فالسيد هنا بمنزلته واللفظ يشمله وإن كان النبي ﷺ لم يقصده بلفظ المحلل فلا ريب أنه في معناه وأولى ونظير هذا أن يزوجها رجل بعبده الصغير أو ابنه الصغير أو المجنون بقصد أن يطلق عليهما عند من يقول إن له أن يطلق على عبده وابنه الصغيرين أو المجنونين أو بنية أن يخلعها منه بأن يواطئها أو يواطىء غيرها على الخلع فإن جواز الخلع لولي الصبي والمجنون أقوى من جواز الطلاق ونظير هذا أن يعقد ولي الصبي المجنون له عقود حيل من بيع أو إجارة أو قرض

فإن الحيل التي يحتالها الولي لليتيم في ماله بمنزلة ما يحتاله المرء في مال نفسه وقريب منه إذا أذن السيد لعبده في معاملات من الحيل فإنه بمنزلة أو يعامل السيد نفسه تلك المعاملة حيث حصل غرضه بفعل عبده كحصوله بفعل نفسه والاحتمال الذي جعل في مذهبنا غير محتمل أصلا فإن قوله المعتبر في التحليل بنية الزوج كلام غير سديد فمن الذي سلم ذلك أم ما الذي دل على ذلك بل المعتبر نية من يملك فرقة بقول أو فعل فإن التحليل دائر مع ذلك وإذا كان الزوج الذي يقصد التحليل ملعونا فالذي يقصد أن يحلل بالزوج ويفسخ نكاحه أولى أن يكون ملعونا فإنه يخادع الله ورسوله وعبده المؤمن وهو نظير الرجل يقدم إلى العطشاء الماء فإذا شرب منه قطرة انتزعه من فيه ولو أن السيد أنكح عبده نكاحا يقصد به أن يفرق بينهما بعد يوم من غير تحليل لكان خادعا له ماكرا به ملعونا فكيف إذا قصد مع ذلك التحليل

واعلم أن التحليل هنا لا يتم إلا بأن يتواطأ السيد المطلق أو غيره مع المرأة على أن يملكها الزوج أو يعلم أن حال المرأة تقتضي أنه إذا عرض عليها ملك الزوج ليفسخ النكاح ملكته فإنا قد ذكرنا أن العرف في الشروط كاللفظ فأما لو لم يكن للمرأة رغبة في العود إلى المطلق ولا هي ممن يغلب على الظن ملكها للعبد إذا عرض عليها فهنا نية السيد وحده نية من لا فرقة بيده

ثم العبد إذا لم يعلم بما تواطأ عليها الزوجان يكون كالمرأة إذا لم تعلم بنية الزوج التحليل لا إثم عليه فإن علم ووافق فهو آثم وعلى التقديرين فنكاحه باطل لأن إذن السيد شرط في صحة النكاح وإلسيد إنما أذن في نكاح تحليل لا في نكاح صحيح فيكون النكاح الذي أجازه الشرع وقصده العبد لم يأذن فيه السيد والذي أذن فيه السيد لم يجزه الشرع ثم إن أخبر العبد فيما بعد بما تواطأ عليه الزوجان وغلب على ظنه أن الأمر كذلك لم يحل له المقام على هذا النكاح لكن لا يقبل قول السيد وحده في إبطال نكاحه وسائر الفروع التي ذكرناها في نية الزوج بالنسبة إلى المرأة تجيء في نية الزوجين بالنسبة إلى العبد والله أعلم
فصل

فإما إن نوى التحليل من لا فرقة بيده مثل أن ينوي الفرقة الزوج المطلق ثلاثا أو تنويها المرأة فقط أعني إذا نوت أن الزوج يطلقها فقد قال حرب الكرماني: سأل أحمد عن التحليل إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقال أحمد: كان الحسن وإبراهيم والتابعون يشددون في ذلك وقال أحمد الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: [ أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ] يقول أحمد أنها كانت همت بالمحلل ونية المرأة ليس بشيء

إنما قال النبي ﷺ: [ لعن الله المحلل والمحلل له ] وليس نية المرأة بشيء فقد نص الإمام أحمد رضي الله عنه على أن نية المرأة لا تؤثر وكذلك قال أصحابه وكذلك قال مالك لا يجوز أن يتزوجها ليحلها علمت هي أو زوجها الأول أو لم يعلما وإن اعتقدت المرأة على التحليل وسألته لما دخل الطلاق أو خالعته بمال جاز

قال مالك: لا يضر الزوج ما نوت الزوجة لأن الطلاق بيده دونها قال أصحابه المعنى المؤتر في إفساد النكاح مختص به الزوج الثاني سواء فيه واطأهما أو أحدهما أو تفرد بذلك ونوى الإحلال والطلاق أخذ عليه أجرا أم لم يأخذ فإذا لم يواطىء الزوج الثاني ولا نوى فهو نكاح رغبة ويحلها وان كان الزوج الأول والمرأة قد تواطأ على ذلك أو دسا إليه أن يتزوجها أو بذلا له مالا كل ذلك غير مؤثر سواء علم بالطلاق الأول أم لا

وقال الحسن والنخعي وغيرهما: إذا هم أحد الثلاثة فهو نكاح محلل ويروى ذلك عن ابن المسيب ولفظ إبراهيم النخعي إذا كانت نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الثاني أو المرأة أنه محلل فنكاح هذا الأخير باطل ولا تحل للأول ووجه هذا أن المرأة إذا نكحت الرجل وليست هي راغبة فيه فليست هي ناكحة كما تقدم بل هي مستهزئة بآيات الله متلاعبة بحدود الله وهي خادعة للرجل ماكرة به وهي إن لم تملك الإنفراد بالفرقة فإنها تنوي التسبب فيه على وجه تحصل به غالبا بأن تنوي الإختلاع منه وإظهار الزهد فيه وكراهته وبغضه وذلك مما يبعثه على خلعها أو طلاقها وبقتضيه في الغالب ثم إن انضم إلى ذلك أن تنوي النشوز عنه وفعل ما يكره لها وترك ما ينبغي لها فهذا أمر محرم وهو موجب للفرقة في العادة فأشبه ما لو نوت ما يوجب الفرقة شرعا وان لم تنو فعل محرم ولا ترك واجب فهي ليست مريدة له ومثل هذه في مظنة أن لا تقيم حدود الله معه ولايلتئم مقصود النكاح بينهما فيقضي إلى الفرقة غالبا وأيضا فإن النكاح عقد يوجب المودة بين الزوجين والرحمة كما ذكره الله سبحانه في كتابه ومقصوده السكن والازدواج ومتى كانت المرأة من حين العقد تكره المقام معه وتود فرقته لم يكن النكاح معقودا على وجه يحصل به مقصوده

وأيضا فإن الله سبحانه قال فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله فلم يبح إلا نكاحا يظن فيه أن يقيم حدود الله ومثل هذه المرأة لا تظن أن تقيم حدود الله لأن كراهيتها له تمنع هذا الظن ولأن المرأة تستوفي منافع الزوج بالنكاح كما يستوفي الرجل منافعها وإذا كانت إنما تزوجت لتفارقه وتعود إلى الأول لا لتقيم معه لم تكن قاصدة للنكاح ولا مريدة له فلا يصلح هذا النكاح على قاعدة إبطال الحيل وأما نية المطلق ثلاثا فيشبه والله أعلم أن يكون هؤلاء التابعون إنما قالوا أنه يكون النكاح بها تحليلا إذا كان هو الذي يسعى في النكاح فأراد بذلك أن تختلع المرأة بعد ذلك من زوجها فإن هذا حرام لما أنه خدع رجلا مسلما وهو قد سعى في عقد يريد إفساده على صاحبه أو يشبه ما لو كان قد زوجها من عبده يريد أن يملكها إياه وهي لم تشعر بذلك ثم يحتمل أنهم أرادوا أن النكاح باطل في حق الأول بمعنى أنها لا تحل أن تعود إلى الأول بمثل هذا النكاح لأنه قصد تعجيل ما أجله الله فيعاقب بنقيض قصده وقد يشبه هذا ما لو تسبب رجل في الفرقة بين رجل وامرأته ليطلقها إما بأن يخيبها عليه حتى تبغضه وتختلع منه أو يشينها عنده ببهتان أو غيره حتى يطلقها أو أن يقتله ونحو ذلك

فيقال: إن الفرقة واقعة ولا تحل لذلك المفرق بينهما كما لو طلقها في مرض موته أو فعل الوارث بامرأة موروثة ما يفسخ نكاحه وليس له زوجة غيرها فإن ذلك لا يسقط حقها من الميراث ولا يبيح للورثة أخذه وهذا كما يقوله في إحدى الروايتين أن الرجل إذا استام على سوم أخيه أو ابتاع على بيع أخيه أو خطب على خطبة أخيه أن عقده باطل فإذا كان صاحب هذا القول يبطل عقد من زاحم غيره قبل أن يعقد فلان يبطل عقد من تسبب في فسخ عقد الأول أولى

وكذلك الزوج المطلق ثلاثا متى نوى التحليل أو سعى فيه لم تحل له المرأة بذلك وهذا قالوا إذا كانت نية أحد الثلاثة أنه محلل فنكاح هذا الأخير باطل ولا تحل للأول وهذا إنما يقال فيمن له فعل في النكاح الثاني أما إذا لم يوجد من المطلق الأول فعلا أصلا وقد تناكح الزوجان نكاح رغبة من كل منهما والأول يجب أن يطلقها هذا فطلقها أو مات عنها فهذا أقصى ما يقال أنه متمن محب وليس بناو فإن نية المرء إنما تتعلق بفعله وما تعلق بفعل غيره فهو أمنية

وأيضا فإن المطلق الأول كان يحرم عليها التصريح والتعريض بخطبتهما في عدتها منه وذلك بعد عدتها منه أشد وأشد فيكونون قد حرموها على الأول لأنه خطبها أو تشوق إليها في وقت لا يحل له ذلك وهذا يوجبه قول من حكينا قوله في أول المسألة إذا لم يعلم الزوجان حلت والله أعلم

ووجه ما ذهب إليه وأحمد ما استدل به أبو عبد الله أحمد رحمة الله عليه من أن النبي ﷺ [ لعن المحلل والمحلل له ] فلو كان التحليل يحصل بنية الزوج تارة وبنية الزوجة أخرى للعنها النبي ﷺ أيضا وكان ذلك أبلغ من لعنه أكل الربا وموكله فلما لم يذكرها في اللعنة علم أن التحليل الذي يكون بالنية إنما يلعن فيه الزوج فقط ولا يجوز أن يقال لفظ المحلل يعم الرجل والمرأة فإنها حللت نفسها بهذا النكاح لأنه قد قال ألا أنبئكم بالتيس المستعار وقال هو المحلل وهذه صفة الرجل خاصة ثم لو عمهما اللفظ فإنما ذاك على سبيل التغليب لا جتماع المذكر والمؤنث فلا بد أن يكون تحليل الرجل موجودا حتى تدخل معه المرأة بطريق التبع أما إذا نوت هي وهو لم ينو شيء فليس هو بمحلل أصلا فلا يجوز أن تدخل المرأة وحدها في لفظ المذكر إلا أن يقال قد اجتمعا في إرادة المتكلم لهما وإن لم يجتمعا في عين هذا النكاح فإن من قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث مجتمعين ومفترقين أتى بلفظ المذكر أيضا فهذا يمنع الإستدلال من هذا الوجه وأيضا فالمحلل هو الذي ما تصير به المرأة حلالا في الظاهر وهي ليست حلالا في الحقيقة وهذا صفة من يمكنه رفع العقد والمرأة وحدها ليست كذلك واستدل الإمام أبو عبد الله أحمد رضي الله عنه أيضا بحديث تميمة بنت وهب امرأة رفاعة القرظي في الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنه قال جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي ﷺ فقالت: [ إن رفاعة طلقني فأبت طلاقي وفي رواية ثلاث تطليقات وأني تزوجت عبدالرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب وفي رواية وما معه إلا مثل هذه الهدبة أشارت لهدبة أخذتها من جلبابها فتبسم رسول الله ﷺ وقال: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ] وأبو بكر جالس عنده وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له فقال: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله ﷺ وما يزيد رسول الله ﷺ التبسم

فوجه الدلالة أن النبي ﷺ بين أنها مع إرادتها أن ترجع إلى الزوج الأول لا يحل له حتى يجامعها فعلم أنه إذا جامعها حلت للأول ولو كانت إرادتها تحليلا مفسدا للنكاح أو محرما للعود إلى الأول لم تحل له سواء جامعها أو لم يجامعها فإن قيل لعلها إنما أرادت الرجوع إلى الأول بعد حل عقدة النكاح وذلك لا يؤثر في فساد العقد كما لو تزوجها مرتغبا ثم بدا له أن يطلقها لتراجع الأول كما أراد سعيد بن الربيع أن يطلق امرأته ليتزوجها عبد الرحمن بن عوف يقوي ذلك أنها ذكرت إنما معه مثل هدبة الثوب تريد به أنه لا يتمكن من جماعها فأحبت طلاقه لذلك ثم أرادت الرجوع إلى الأول ثم الأصل عدم الإرادة وقت العقد فلا بد له من دليل قلنا الجواب من أوجه:

أحدها: إن النبي ﷺ لما جوز لها مراجعة الأول إذا جامعها الثاني بعد أن يتبين له رغبتها قي الأول ولم يفعل بين أن تكون هذه الإرادة حدثت بعد العقد أو كانت موجودة قبله دل على أن الحل يعم الصورتين فإن ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال بمنزلة العموم في المقال حتى لو كان احتمال تجدد الإرادة هوالراجح لكان الإطلاق يعم القسمين إذا كان الإحتمال الآخر ظاهرا والأمر هنا كذلك فإن المرأة التي ألفت زوجا ثم طلقها قد يبقى في نفسها منه في كثير من الأحوال والنساء في الغالب يبغضن الطلاق ويحببن العود إلى الأول أكثر مما يحببن معاشرة غيره

الجواب الثاني: إن هذه المرأة كانت راغبة في زوجها الأول بخصوصه ولم يكن لها رغبة في غيره من الأزواج ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: طلق رجل امرأته فتزوجت زوجا غيره فطلقها وكان معه مثل هدبة الثوب فلم تصل معه إلى أي شيء تريده فلم يلبث أن طلقها فأتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إن زوجي طلقني وإني تزوجت زوجا غيره فدخل بي فلم يكن معه إلا مثل الهدبة فلم يقربني إلا هنة واحدة لم تصل منه إلى شيء فأحل لزوجي الأول؟ فقال رسول الله: [ لاتحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك وتذوقي عسيلته ] متفق عليه

وكذلك في حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجها رجل ثم طلقها فسئل رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: [ لا حتى يذوق الآخرمن عسيلتها ما ذاق الأول ] وروى مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير أن رفاعة بن شمول طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله ﷺ ثلاثا فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فأعرض عنها فلم يستطع أن يغشاها ففارقها فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فنهاه عن تزويجها وقال: [ لا يحل لك حتى تذوق العسيلة ]

ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة الحديث وزاد فقعدت ثم جاءته فأخبرته أن قد مسها فمنعها أن ترجع إلى زوجهاالأول وقال: [ اللهم إن كان إنما بها أن يجعلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحه مرة أخرى ] ثم أتت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما فمنعاها فهذا يبين أنها استفتت النبي ﷺ بعد أن طلقها رفاعة لا طلبا لفرقته بل طلبا لمراجعة الأول وأخبرت بصفة إفضائه ليفتيها النبي ﷺ هل حلت للأول أم لا فلما أفتاها أنها لا تحل إلا بعد الوطء قعدت ثم أخبرته أنه كان قد مسها فعلم النبي ﷺ أنها كاذبة وإنما حملها على الكذب أنها لما أخبرت أولا بحقيقة الأمر لم تحل فأخبرت أنها قد مسها فمنعها النبي ﷺ من الرجوع إلى الأول لأنها أخبرت أولا بأنه لم يواقعها ثم أخبرت بخلافه فلم يقبل رجوعها عن الإقرار وقال: [ اللهم إن كان ما بها إلا أن تجعلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحه مرة أخرى ] دعاء عليها عقوبة على كذبها بنقيض قصدها لئلا يتسرع الناس في الكذب الذي يستحلون به الحرام ثم إنها أتت في خلافة الشيخين وهذا كله أبين دليل على أنها إنما كانت رغبتها في رفاعة لا في غيره وإلا ففي الأزواج كثرة فهذا الإلحاح في نكاحه وتأيمها عليه عسى أن تمكن من نكاحه ومراجعة ولاة الأمر فيه دون غيره والدخول في التزوير مع أن النكاح بغيره ممكن لا يكون إلا عن محبته منها له دون غيره وهذه الإرادة والرغبة لم تتحد بإعراض عبد الرحمن عنها فإن إعراض عبد الرحمن عنها أكثر ما يوجب إرادتها للنكاح ممن كان أما من هذا الرجل بعينه فإنما ذاك لسبب يختص به وهذا لم يحدث بعد النكاح بسبب يقتضيه فعلم أنه كان متقدما لأن الأصل عدم ما يحدث ثم هذه المحبة منها له إنما سببها معرفتها به حال النكاح وإلا فبعد الطلاق ليس هناك ما يوجب المحبة نعم قد يهيج الشوق عند المنع منه لكن ذلك مستند إلى محبة متقدمة ولا يقال تزوجت بغيره لعلها تسلوا فلما لم يعفها هاج الحب لأنه لو كان كذلك لتزوجت بآخر وآخر لعله يعفها وتسلا به فلما لم تتزوج إلا بعبد الرحمن علم أنها كانت مريدة لأن يحللها للأول عسى أن ترجع إليه ولم تتزوج بغيره خشية أن يمسكها بالكلية ولا يكون فيه سبب تطلب به فراقه

الوجه الثالث: إنه قد روي أنها استفتت النبي ﷺ أيضا قبل الطلاق فروى البخاري عن عكرمة عن مولى ابن عباس أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فأتت عائشة وعليها خمار أخضر فشكت إليها خضرة بجلدها فلما جاء رسول الله ﷺ والنساء ينصر بعضهن بعضا قالت عائشة: ما رأيت ما تلقى المؤمنات كجلدها أشد خضرة من ثوبها قال وسمع أنها قد أتت رسول الله ﷺ فجاء ومعه ابنان من غيرها فقالت: والله ما لي إليه من ذنب إلا أن ما به ليس بأغنى عني من هذه هدبة من ثوبها فقال: كذبت والله يا رسول الله إني لأنفضها نفض الأديم ولكنها ناشز تريد رفاعة فقال رسول الله ﷺ: [ فإن كان ذلك لم تحلين له ولم تصلحين له حتى يذوق عسيلتك قال وأبصر معه ابنين له فقال أبنوك هؤلاء قال نعم قال: هذا الذي تزعمين فوالته لهم أشبه به من الغراب بالغراب ] قال أبو بكر البرقاني: هكذا رواه البخاري مرسلا عن بندار وكذلك رواه حماد بن زيد ووهب عن أيوب مرسلا وقد أسنده سويد بن سعيد عن عبد الوهاب الثقفي فقال فيه عن ابن عباس أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير وذكر الحديث وقد رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد جيد عن عبد الله بن العباس

قال: جاءت القميصا أو الرميصا إلى رسول الله ﷺ تشكوا زوجها وتزعم أنه لا يصل إليها فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها فزعم أنها كاذبة ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول فقال رسول الله ﷺ: [ ليس لك ذلك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره ] ففي حديث ابن عباس وأخيه أنها شكت زوجها قبل أن يطلقها وزعمت أنه لم يصل اليها وطلبت فرقته لذلك فكذبها وأخبر أنه إنما بها مراجعة الأول وأنها ناشز غير مطيعة فقال رسول الله ﷺ: [ فإن كان كذلك لم تحلين للأول حتى يذوق عسيلتك ] يريد والله أعلم أني قادر على وطئها وجماعها وأن أنفضها نفض الأديم لكنها ناشز لا تمكنني فإنها تريد رفاعة فلذلك قال رسول الله ﷺ: [ لا تحلين له حتى تذوقي عسيلته ] فطلقها ولم تذق العسيلة أو أنها لما ادعت عدم الوطء كانت معترفة بأنها لم تحل للأول فلم تجعل حلالا بدعوى الزوج أنه وطئها إذا كانت هي معترفة بما يوجب التحريم لكن حديث مالك عن ولد عبد الرحمن يدل على أنه كان معرضا عنها

وحديث ابن عباس يقتضي دعواه أما التمكين من وطئها أو فعل الوطء فعلى حديث ابن عباس يكون قد جاءت النبي ﷺ قبل الطلاق ثم جاءته بعده وعبد الرحمن اما إنه كان معترضا عنها كما أخبرت أو كانت ناشزا عنه كما أخبر وبكل حال فهذا يدل على الرغبة التامة في مراجعة الأول فإنها تكون قد جاءت إلى النبي ﷺ قبل الطلاق وبعده مرتين أو أكثر ثم جاءت الخليفتين ومن يصدر عنها مثل هذه الأحوال يغلب على الظن حرصها على مراجعتها حين العقد

فأقل ما قد كان ينبغي لوكان مؤثرا أن يقال لها إن كنت وقت العقد كنت مريدة له لم يجز أن ترجعي إليه بحال فلما لم يفصل النبي ﷺ مع ظهور هذا القرار علم أن الحكم لا يختلف وأيضا فإنها وإن كانت تحب مراجعة الأول فالمرء لا يلام على الحب والبغض وإنما عليها أن تتقي الله سبحانه في زوجها وتحسن معاشرته وتبذل حقه غير مستبرمة ولا كارهة فإذا نوت هذا وقت العقد فقد نوت ما يجب عليها فإذا نوت فعل ما لا يحل مما لا يوجب طلاقها فسيأتي ذكر هذا وأما اختلاع المرأة وانتزاعها من بعلها فقد نهى عنه النبي ﷺ ونحن وإن قلنا نية المرأة أو المطلق لا تؤثر: فلا يحل لواحد منها أن يفعل ما حرمه الشارع من إفساد حال المرأة على زوجها ونحو ذلك وليس لها أن تتزوج به إلا إذا كانت تظن أن تقيم حدود الله سبحانه معه وتعتقد أنه إن شاء أمسك وإن شاء طلق وأنه إذا لم يطلق أطاعته ولم تنشز عنه والكلام في هذا الموضع يظهر بيان حال المرأة في النية وهي مراتب:

الأولى: أن تنوي أن هذا الزوج الثاني إن طلقها أو مات عنها أو فارقها بغير ذلك تزوجت بالأول أو ينوي المطلق ذلك أيضا فينوي أن هذا الثاني إن طلقها أو فارقها بغير ذلك تزوجها فهذا قصد محض لما أباحه الله لم يقترن بهذا القصد فعل منها في الفرقة وإنما نوت أن تفعل ما أباحه الله إذا أباحه الته فقد قصدت فعلا لها معلقا على وجود الفرقة وصار هذا مثل أن ينوي الرجل أن فلانا إن طلق امرأته أو مات عنها تزوجها أو تنوي المرأة التي لم تطلق أنها إن فارقها هذا الزوج تزوجت بفلان أو يبيع الرجل سلعته لحاجته إليها وينوي أن المشتري إن باعها فيما بعد اشتراها منه إن قدر على ثمنها أو ينوي أنه إن أعتق الجارية المبيعة تزوج بها فهذه الصور كلها لم تتعلق بهذا العقد ولا بفسخه فلم تؤثر فيه وانما تعلقت بفعل لها أن رفع العقد أو قصد صاحبه رفعه فلهذا لم يشترط أن يكون نكاح المرأة نكاح رغبة فإنها إذا ملكت نفسها للزوج فسواء عليه كانت راغبة أوغير راغبة إذا لم تسبب في الفرقة فإنه ليس بيدها فرقة لكن لها في هذا العقد مع نية مراجعة الأول ثلاث أحوال:

أحدها: أن تكون محبتها للمقام مع الزوج الثاني أكثر من محبتها للمقام مع الأول لكن ترى أن الأول أحب إليها من غيره بعد هذا فهذا لا شبهة فيه

الثاني: أن تكون محبتها لنكاح الزوجين على السواء أو لا يكون لها محبة لنكاح واحد منهما لكن ترى أنهما أصلح لها من غيرهما فإذا فارقها أحدهمحا آثرت الآخر فهذا أيضا ظاهر

الثالث: أن تكون محبتها للأول أكثر من الثاني فهي في هذه الحال بمنزلة المطلق الذي يحب عودها إليه وهذه الصورة التي كرهها بعض التابعين وهي حال امرأة رفاعة القرظي ولذلك رخص أحمد وغيره فيها لما تقدم وهذه المرأة والمطق لا يلامان على هذه المحبة كما لا يلام الزوج على محبة إحدى امرأتيه أكثر من الأخرى إذا عدل بينهما فيما يملكه ثم إن كرهت هذه المحبة من نفسها لكونها متطلعة إلى غير زوجها وكذلك المطلق إن كره من نفسه تطلعه إلى زوجة الغير كانت هذه الكراهة عملا صالحا يثاب عليه وإن لم تكره هذه المحبة ولم ترض بها لم يترتب عليها ثواب ولا عقاب وإن رضي هذه المحبة بحيث يتمنى بقلبه مع طبعه حصول موجبها ويود أن يحصل بين الزوجين فرقة ليتزوج المرأة وتتمنى المرأة أن لو طلقها هذا الزوج أو فارقها لتعود إلى الأول وعقلها موافق لطبعها على هذه الأمنية فهذا مكروه وهو من المرأة أشد لأن ذلك يستلزم تمني الطلاق الذي هو بغيض إلى الله وقد تتضمن تمني ضرر الزوج وهو مظنة أن المرأة لا تقيم حدود الله مع من تبغض المقام معه لكنها لو أحبت أن يقذف الله في قلب الزوج الزهد فيها بحيث يفارقها بلا ضرر عليه فهذا أخف وهذا كله إذا لم يقترن به فعل منها في الفرقة لم تؤثر في صحة العقد الأول ولا الثاني

المرتبة الثانية: إن تسبب إلى أن يفارقها من غير معصية غير الإختلاع ولا خديعة توجب فراقها مثل أن تسأله أن يطلقها أو أن يخلعها وتبذل له مالا على الفرقة أو تظهر له محبتها للأول أو بغضها المقام معه حتى يفارقها فهذا ينبني على الإنتزاع الإختلاع من الرجل فنقول إذا كانت المرأة تخاف أن لا تقيم حدود الله جاز لها الإختلاغ وإلا نهيت عنه نهي تحريم أو تنزيه فإن كانت لم تنو هذا الفعل إلا بعد العقد فهي كسائر المختلعات يصح الخلع ويباح أن تتزوج بغيره هذا إذا كان مقصودها مجرد فرقته وهنا مقصودها التزوج بغيره فتصير بمنزلة المرأة التي تختلع من زوجها لتتزوج بغيره وهذا أغلظ من غيره كما سيأتي وإن كانت حين العقد تنوي أن تتسبب إلى الفرقة بهذه الطرق فهذه أسوأ حالا من التي حدث لها إرادة الإختلاع لتتزوج بغيره مع استقامة الحال فإذا كان النبي ﷺ قد قال: [ المختلعات والمنتزعات هن المنافقات ] فالتي تختلع لتتزوج بغيره لا لكراهته أشد وأشد ومن كانت من حين العقد تريد أن تختلع وتنتزع لتتزوج بغيره فهي أولى بالذم والعقوبة لأن هذه غارة للرجل مدلسة عليه ولو علم أنها تريد أن تتسبب في فرقته لم يتزوجها فكيف إذا عالم أن غرضها أن تتزوج بغيره بخلاف التي حدث لها الإنتزاع فإنها لم تخدعه ولم تغره وهذا نوع من الخلابة بل هوأقبح الخلابة ولا تحل الخلابة لمسلم

وهذه الصورة لا يجب إدخالها في كلام أحمد رضي الله عنه فإنه إنما رخص في مطلق نية المرأة ونية المرأة المطلقة إنما تتعلق بأن تتزوج الأول وذلك لا يستلزم أن تنوي اختلاعا من الثاني لتتزوج الأول فإن هذا نية فعل محرم في نفسه لو حدث وغايته أن يقال هو نية مكروهة تسوية بينه وبين الإختلاع المطلق على إحدى الروايتين فأما إذا قارن العقد فتحريمه ظاهر لأن ذلك يمنع رغبتها في النكاح وقصدها له والزوجة أحد المتعاقدين فإذا قصدت بالعقد أن تسعى في فسخه لم يكن العقد مقصودا بخلاف من قصدت أن العقد إذا انفسخ تزوجت الأول وتحريم هذا أشد من تحريم نية الرجل من وجه وذلك التحريم أشد من وجه آخر فإن المحلل إذا نوى الطلاق فقد نوى شيئا يملكه والمرأة تعلم انه يملك ذلك وهذه المرأة نوت الإختلاع والإنتزاع لتعود إلى غيره وكراهة الإختلاع أشد من كراهة طلاق الرجل ابتداء والإختلاع لتتزوج غيره أشد من مطلق الإختلاع وإرادة الرجل الطلاق لا يوقعه في محرم فإنه يملك ذلك فيفعله وإرادة ا لمرأة الإختلاع قد يوقعها في محرم فإنها إذا لم تختلع ربما تعدت حدود الله

ونية التحليل ليس فيها من خديعة المرأة ما في نية المرأة من خديعة الرجل وإنما حرمت تلك النية لحق الله سبحانه فإن الله حرم استباحة البضع إلا بملك بنكاح أو ملك يمين والعقد الذي يقصد رفعه ليس بعقد نكاح وهذا حال المرأة إذا تزوجت بمن تريد أن يطلقها كحالها إذا تزوجت بمن بدا له طلاقها فيما بعد من حيث إنه في كلا الموضعين قطع النكاح عليها وهذا جائز له وليس تعلق حقها بعينه كتعلق حقه بعينها فإن له أن يتزوج غيرها ولا حرم عليه إذا كانت محبته لتلك واستمتاعه بها أكثر إذا عدل بينهما في القسم والمرأة إذا تزوجت قاصدة للتسبب في الفرقة فهذا التحريم لحق الزوج لما في ذلك من الخلابة والخديعة له وإلا فهو يملكها بهذا العقد ويملك أن لا يطلقها بحال ومن هذا الوجه صارت نية التحليل أشد فإن تلك النية تمنع كون العقد ثابتا من الطرفين وهنا العقد ثابت من جهة الزوج بأنه نكح نكاح رغبة ومن جهة المرأة فإنها لا تملك الفرقة فصار الذي يملك الفرقة لم يقصدها والذي قصدها لم يملكها

لكن لما كان من نية المرأة التسبب إلى الفرقة صار هذا بمنزلة العقد الذي حرم على أحد المتعاقدين لإضراره بالآخر مثل بيع المصراة وبيع المدلس من المعيب وغيره وهذا النوع صحيح لمجيء السنة بتصحيح بيع المصراة ولم نعلم مخالفا في أن أحد الزوجين إذا كان معيبا بعيب مشترك كالجنون والجذام والبرص أو مختص كالجب والعنة أو الرتق والفتق ولم يعلم الآخر أن النكاح صحيح مع أن تدليس هذا العيب عليه حرام وإن كان أحد الزوجين هو المدلس حتى قلنا على الصحيح أنه يرجع بالمهر على من غره فإن كان الغرور من الزوجة سقط المهر مع أن العقد حرام على المدلس بلا تردد ولكن التدليس هناك وقع في المعقود عليه وهنا وقع في نفس العقد والخلل في العقد قد يؤثر في فساده ما لا يؤثر في بعض حله فأما المطلق الأول إذا طلب منه أن يطلقها أويخلعها أودس إليه من يفعل ذلك فهذا بمنزلة ما لو حدث إرادة ذلك للمرأة بعد العقد فإن المطلق ليس له سبب في العقد الثاني

وقد نص أحمد على أن ذلك لا يحل فنقل ههنا عنه في رجل قال للرجل طلق امرأتك حتى أتزوجها ولك ألف درهم فأخذ منه الألف ثم قال لامرأته أنت طالق فقال سبحان الله رجل يقول لرجل طلق امرأتك حتى أتزوجها لا يحل هذا فقد نص على أنه لو اختلعها ليتزوجها لم يحل له وإن كان يجوز أن يختلعها ليتخلص من النكاح لكن إذا سمى في عقد الخلع أنه يريد التزوج بها فهو أقبح من أن يقصد ذلك بقلبه والصورة الأولى هي التي دل عليها كلام أحمد فالمرأة إذا اختلعت لأن تتزوج أشد فإن الأذى بطلب المرأة ذلك أكثر من الأذى بطلب الأجنبي فإذا كان هذا الفعل حراما لو حدث القصد فكيف إذا كان مقصودا من حين العقد وفعل بعده فظهر أنه لا يجوز اختلاعها رغبة في نكاح غيره ولا العقد بهذه النية ولا يحل أمرها بذلك ولا تعليمها إياه ولكن لو فعلته لم يقدح في صحة العقد فيما ذكره بعض أصحابنا لما تقدم فلو رجعت عن هذه النية جاز لها المقام معه فإن اختلعت منه ففارقها وقعت الفرقة

وأما العقد الثاني فنقل عن بعض أصحابنا أنه صحيح ولأصحابنا في صحة نكاح الرجل إذا خطب على خطبة أخيه وبيعه إذا ابتاع على بيع أخيه قولان والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى معرفة تلك فنقول قد صح عن النبي ﷺ من غير وجه النهي عن أن يستام الرجل على سوم أخيه أو يخطب على خطبة أخيه وعن أن يبيع على بيع أخيه أو تنكح المرأة بطلاق أختها فروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ: [ نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيع أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفي ما في صحفتها أو إنائها فإنما رزقها على الله ] وفي رواية أن النبي ﷺ: [ نهى عن التلقي وعن أن يبيع حاضر لباد وأن تشترط المرأة طلاق أختها وأن يستام الرجل على سوم أخيه ونهى عن النجش والتصرية وفي رواية أن النبي ﷺ قال: ] لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سومه [ متفق عليه وفي رواية لأحمد: ] لا يبتاع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه وعن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: [ المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته حتى يذره ] رواه مسلم وأحمد وفي لفظ: [ لا يحل لمؤمن أن يبيع على بيع أخيه حتى يذره ] وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: [ لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن ] متفق عليه وهذا نهي تحريم في ظاهر المذهب المنصوص وهو قول الجماعة لأنه قد جاء مصرحا لا يحل لمؤمن كما تقدم ومن أصحابنا من حمله على أنه نهي تأديب لا تحريم وهو باطل فإذا ثبت أنه حرام فهل العقد الثاني صحيح أو فاسد ذكر القاضي في غير موضع وجماعة مع المسألة على روايتين ومن أصحابنا من يحكيها على وجهين:

أحدهما: إنه باطل وهو الذي ذكره أبو بكر في الخلاف ورواه عن أحمد في مسائل محمد بن الحكم في البيع على بيع أخيه وهو الذي ذكره ابن أبي موسى أيضا

والثانية: إنه صحيح قال أحمد في رواية علي بن سعيد لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يستام على سوم أخيه هذا للمسلمين قيل له فإن خطب على خطبة أخيه فتزوجها يفرق بينهما؟ قال: لا وهذا اختيار أبي حفص لكن بناه على أن النهي تأديب وهو اختيار القاضي وابن عقيل وغيرهما وقد خرج القاضي جواب أحمد في مسألة البيع إلى مسألة الخطبة فجعلهما على روايتين كما تقدم عنه ويتوجه إقرار النصين مكانهما كما سنذكره والقول بصحة العقد مذهب أبي حنيفة والشافعي والقول بفساده محكي عن مالك وغيره وحكي عنه الصحة ودليل هذا النهي عنه فإنه يقتضي الفساد على قاعدة الفقهاء المقررة في موضعها كسائر عقود الأنكحة والبياعات أو للأولين طرق:

أحدها: حمل النهي على التأديب كما ذهب إليه أبو حفص وأومأ إليه ابن عقيل إذا كثر ما فيه أن للخاطب رغبة في المرأة وهذا لا يحرمها على غيره كما لو علم أن له رغبة ولم يتم ولم يخطب وهذا القول مخالف لنص الرسول

الطريق الثانية: إن هذا التحريم لم يقارن النكاح الثاني والبيع الثاني وإنما هو متقدم عليهما لأن المحرم إنما هو منع للأول من النكاح والبيع وهذا متقدم على بيع الثاني ونكاحه والتحريم المقتضي للفساد وهو ما قارن العقد كعقود الربا وبيع الحاضر للبادي والبيع وقت النداء ألا ترى أنها لو قالت لا: أتزوجك حتى أراك مجردا لم يقدح ذلك في صحة العقد وكذلك لوذهب على الجمعة على دابة مغصوبة وهذه طريقة القاضي وغيره ولهذا فرقوا بين هذا وبين البيع وقت النداء قالوا ولو خطبها في العدة وتزوجها بعد العدة صح لأن المحرم متقدم على العقد

الطريقة الثالثة: إن التحريم هنا حق لآدمي فلم يقدح في صحة العقد كبيع المصراة بخلاف التحريم لحق الله تعالى كبيوع الغرر والربا والمعنى لحق الآدمي المعين الذي لو رضي بالعقد لصح كالخاطب الأول هنا فإنه لو أذن للثاني جاز فإن التحريم إذا كان لآدمي معين أمكن أن يزول برضاه ولو فيما بعد فلم يكن التحريم في نفس العقد ولهذا جوز في مواضع التصرف في حق الغير موقوفا على إجازته كالوصية وإذا كان بحق الله صار بمنزلة الميتة والدم لا سبيل إلى حلها بحال فيكون التحريم في العقد وهذه طريقة القاضي في الفرق بين بيعه على بيع أخيه وبين بيع الحاضر للبادي والبيع وقت النداء أيضا

الطريقة الرابعة: إن التحريم هنا ليس لمعنى في العاقد ولا في المعقود عليه كما في بيع المحرمات أو بيع الصيد للمحرم وبيع المسلم للكافر وإنما هو لمعنى خارج عنهما وهو الضرر الذي لحق الخاطب والمستام أولا وهذه طريقة من يفرق بين أن يكون النهي لمعنى في المنهى عنه أولمعنى في غيره فيصحح الصلاة في الدار المغصوبة بناء على هذا ومن ينصر الأول يقول لا نسلم أن التحريم ليس مقارنا للعقد فإن النبي ﷺ نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه وعن أن يبتاع أيضا وهذا نهي عن نفس العقد ونهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه منبهآ بذلك على النهي عن عقد النكاح فإنه هوالمقصود الأكبر بالنهي كما أنه لما نهى عن قربان مال اليتيم كان ذلك تنبيها على النهي عن أخذه فإن النهي عن مقدمات الفعل أبلغ من النهي عن عينه وهذا بخلاف النهي عن التصريح بخطبة المعتدة فإنه إذا تزوجها بعد العدة لم يكن حينئذ قد حرم عليه العقد ولا الخطبة وكذلك في رؤيته متجردا قبل النكاح أو المشي إلى الجمعة على حمار مغصوب فإن تلك المحرمات انتقضت أسبابها وهذا سبب التحريم تعلق حق الغير بهذه المرأة وهو موجود فإن عودها إليه ممكن

ثم لو سلمنا أن المحرم متقدم فلم قيل أن الفرق مؤثر فإن الأدلة الدالة على كون العقود المحرمة فاسدة لا تفرق والفعل المحرم يتضمن مفسدة فتصحيحه يقتضي إيقاع تلك المفسدة وهذا غير جائز ومعصية الله فساد لا صلاح فيها فإن الله سبحانه لا ينهى عن الصلاح وهذا العقد هنا مستلزم لوجود المفسدة وهو إضرار الأول بخلاف صلاة الجمعة فإنها في نفسها غير مستلزمة لركوب ولا مشي ونقول أيضا لا فرق بين ما حرم لحق الله تعالى أو لحق عباده إذا الأدلة لا تفرق ونقول التفريق بين ما حرم الله لنفسه أو لغيره غير مسلم وبتقدير تسليمه فالنهي هنا لمعنى في المعقود عليه وهو تعلق حق الأول بالعين المعقود عليها فإن الشارع جعل تقدم خطبته وبيعه حقا له مانعا من مزاحمة الثاني له من سبق إلى مباح فجاء آخر يزاحمه وصار هذا لحق المرتهن وغيره وإذا كان سبب النهي تعلق حق للأول بهذه العين فإذا أزيل على الوجه المحرم لم يؤثر هذا في الحل المزيل فإنه كالقاتل لموروثه فإنه لما أزال تعلق حق الموروث بالمال بفعله المحرم لم يؤثر هذا الزوال في الحل له ولهذا لا يبارك لأحد في شيء قطع حق غيره عنه بفعل محرم ثم اقتطعه لنفسه

وقد تقدم في أقسام الحيل تبيهه على هذا النوع ومن فرق بين أن يخطب على خطبة أخيه ويستام على سومه وبين أن يبيع على بيعه أو يبتاع على بيعه فإن الخاطب والمستام لم يثبت لهما حق وإنما ثبت لهما رغبة ووعد بخلاف الذي قد باع أو ابتاع فإن حقه قد ثبت على السلعة أو الثمن فإذا تسبب الثاني في فسخ هذا العقد كان قد زال حقه الذي انعقد وهذا يؤثر ما لا يؤثر الأول فإن تصرف الإنسان متى استلزم إبطال حق غيره بطل كرجوع الأب فيما وهبه لولده وتعلق به حق مشتر أو نحوذلك وكذلك رجوع البائع في المبيع إذا أفلس المشتري وتعلق به حق ذي جناية أو مرتهن أو نحو ذلك بخلاف تعلق رغبة الغرماء بالسلعة فإنها لا تمنع رجوع البائع وفي رجوع الواهب خلاف معروف ثم اعلم أن بيع الإنسان على بيع أخيه أن يقول لمن اشترى من رجل شيئا أن أبيعك مثل هذه السلعة بدون هذا الثمن وأبيعك خيرا منها بمثل هذا الثمن فيفسخ المشتري بيع الأول ويبتاع منه وكذلك ابتياعه على ابتياع أخيه أن يقول لمن باع رجلا شيئا أنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن وقد اشترط طائفة من متأخري أصحابنا أن يقول ذلك في مدة الخيار خيار المجلس أو الشرط ليتمكن الآخر من الفسخ وإلا فبعد لزوم العقد لا يؤثر هذا القول شيئا وكذلك ذكره القاضي في موضع من الجامع وفي كلام الشافعي رضي الله عنه ما يدل عليه

وأما قدماء أصحابنا فاطلقوا البيع على بيع أخيه ولم يقيدوه بهذا الخيار وكذلك ذكر القاضي في موضع آخر وأبو الخطاب فسخ البيع الثاني من غير تقييد بهذا الخيار وكلام أحمد أيضا مطلق لم يقيده بهذه الصورة وهذا أجود لوجهين

أحدهما: أن المشتري قد يمكن الفسخ بأسباب غير خيار المجلس والشرط مثل خيار العيب والتدليس والخلف في الصفة والغبن وغير ذلك ثم لا يريد الفسخ فإذا جاء البائع على بيع أخيه ورغبته في أن يفسخ ويعقد معه كان هذا بمنزلة أن يأتيه في زمن خيار المجلس الثاني: أن العقد الأول وإن لم يمكن أحدهما فسخه فإنه قد يجيء إليه فيقول له قايل هذا البيع وأنا أبيعك؟ فيحمله على استقالة الأول والإلحاح عليه في المقايلة فيجيبه عن غير طيب نفس كما هو الواقع كثيرا إن لم يخدعه خديعة توجب فسخ البيع وهذا قد يكون أشد تحريما لما فيه من مسألة الغني ما لا حاجة له به ومخالفة قوله: [ دعوا الناس يرزق ألله بعضهم من بعض ] وغير ذلك وقد يقيل المستقال غير راض فلا يبارك للمستقيل كالذين كانوا يسألون النبي ﷺ أشياء فيعطيهم إياها فيخرج بها أحدهم يتأبطها نارا وقد بين ذلك في غير حديث فيكون المعطي مثابا والسائل معاقبا وهذا بيع حقيقة على بيع أخيه وهو واقع فلا معنى لإخراجه من الحديث وإذا كان النبي ﷺ من جملة ما نهى عنه في هذا الحديث أن تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفي ما في صفحتها فمسألة البائع للمشتري أن يقيله البيع ليبيعها البائع لغيره كذلك وقول الرجل البائع استقل المشتري هذا البيع لتبيعه لهذا كما يقال للمرأة سلي هذا الخاطب أن يطلق تلك ليتزوجك إذا تقرر هذا فتقول إذا كان النبي ﷺ قد حرم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه وأن يستام على سومه لما فيه من المزاحمة المخرجة له عما قد وعد به؟ فكيف بمن نكح على نكاح أخيه بأن يقول للمرأة طلقي هذا الرجل وأنا أتزوجك؟ أو أزوجك فلانا إن أمكنها أن تفسخ النكاح بأن يكون الرجل قد جعل أمرها بيدها أو علق طلاقها بأمر يمكنها فعله فهذه بمنزلة البائع في مدة الخيار وإلا فاختلاعها منه بمنزلة استقالة المشتري وهذا أعظم من حيث أنها قد تسيء عشرته إساءة تحمله على طلاقها بخلاف البيع فإن حقوق العقد لا تنقضي بالتقابض منهما فكل من قال إن ابتياع الإنسان على بيع أخيه باطل قال هنا إن نكاح الثاني باطل بطريق الأولى ومن قال بالصحة هناك فقد يقول هنا بالبطلان لأن الزوج خدع حين العقد وتسبب في إزالة نكاحه وزوال النكاح أشد ضررا من الإقالة في بيع أو فسخه ولو أن الرجل طلب من الرجل أن يبيعه سلعة لجاز ولو طلب أن يخلع امرأته ليتزوجها لكان من القبيح المنكر وقد نص أحمد على أنه لا يجوز واعلم أنه إذا قيل لا يصح البيع الثاني ولا نكاح الثاني لم يقدح ذلك في فسخ العقد الأول ولكن تعود السلعة إلى صاحبها والمرأة إلى يد نفسها ويعاقب الثاني بأن يبطل عقده مناقضة لقصده وهذا نظير منع القاتل الميراث ونظير توريث المبتوتة في المرض فإن ملك النكاح والمال زال حقيقة عن الميت والمطلق ولم يؤثر ذلك في انتقال المال إلى القاتل ومنع ميراث المطلقة وهو نظير المسائل التي ذكرناها في أثناء أقسام الحيل مثل أن يقتل الرجل رجلا ليتزوج امرأته وبينا وجه تحريمها على هذا القاتل مع حلها لغيره وكذلك ذبيحة الغاصب والسارق كذلك هنا يحرم شراء العين بعد الفسخ على هذا المتسبب في ذلك مع حله لغيره وقد يضر هذا بالذي فسخ البيع لكن هذا جزاء فعله فإنه وإن جاز له الفسخ ابتداء لكن ما كان له أن يعين هذا على ما طلبه فإن الإعانة على الحرام حرام فإذا كان هذا فيمن يجوز له الإستقالة فكيف المرأة المنهية عن الإنتزاع والاختلاع ومما هو كالبيع بطريق الأولى إجارته على إجارة أخيه مثل أن يكون الرجل مستقلا في داره حانوت أو مزدرع وأهله قد ركنوا إلى أن يؤجروه السنة الثانية فيجيء الرجل فيستأجر على إجارته فإن ضرره بذلك أشد من ضرر البيع غالبا وأقبح منه أن يكون متوليا ولاية أو منزلا في مكان يأوي إليه أو يرتزق منه فيطلب آخر مكانه والله أعلم

المرتبة الثالثة: إن تتسبب إلى فرفته مثل أن تبالغ في استيفاء الحقوق منه والإمتناع من الإحسان إليه لست أعني أنها تترك واجبا تعتقد وجوبه أو تفعل محرما تعتقد تحريمه لكن غير ذلك مثل أن تطالبه بالصداق جميعه ليفسخ أو يحبس أو لتمتنع منه أو تبذل له في خصومتها وذلك يشق عليها مثل أن تطالبه بفرض النفقة أو إفرادها بمسكن يليق بها وخادم ونحو ذلك من الحقوق التي عليه أو تمنع من إعانته في المنزل بطبخ أو فرش أو لبس أو غسل ونحوذلك كل ذلك ليفارقها فإن قيل فهذه الأمور منها ما قد يختلف في وجوبه فإذا قيل بوجوبه فتقديره إلى اجتهاد الحاكم وهو أمر يدخله الزيادة والنقصان ولا يكاد ينقل غالبا من عاشرت زوجها بمثل هذا عن معصية الله ونحن نتكلم على تقديرخلوه من المعصية

فنقول: إذا فعلت المباح لغرض مباح فلا بأس به أما إذا قصدت به ضررا غير مستحق فإنه لا يحل مثل من يقصد حرمان ورثته بالإسراف في النفقة في مرضه فإذا كانت المرأة لا تريد استيفاء الصداق ولا فرض النفقة وهي طيبة النفس بالخدمة المعتادة وإنما تجشم ذلك لتضيق على الزوج ليطلقها فإلجاؤه إلى الطلاق غير جائز لأنه إلجاء إلى فعل ما لا يجب عليه ولا يستحب له وهو يضره وهي آثمة بهذا الفعل إذا كان ممسكا لها بالمعروف وإنما الذي تستحقه بالشرع المطالبة لأحد أمرين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أما إذا قصدت التسريح فقط وإنما تطالبه بموجبات العقد لتضطره بعسرها عليه إلى التسريح فهذه ليست طالبة أحد الأمرين وإنما هي طالبة واحدا بعينه وهي لا تملك ذلك شرعا فهذه المرتبة تلحق بالتي بعدها كما قدمنا نظائر ذلك في أقسام الحيل لكن هذا الفعل إنما حرم بالقصد وهذا أمر لا يمكن الحكم عليه ظاهرا بخلاف الذي بعده ولا فرق بين أن يكون التحريم لجنس الفعل أو لقصد يقترن بالفعل ولا يقال فقد يباح لها الإختلاع إذا كانت تخاف أن لا تقيم حدود الله معه

فكذلك يباح لها الاستقصاء في الحقوق حتى تفارق لأنا نقول الإختلاع يتضمن تعويضه عن الطلاق برد الصداق إليه أو رد ما يرضى به وهو شبيه بالإقالة في البيع وهذه تلجئه إلى الطلاق من غير عوض فليست بمنزلة المختلعة وإذا كانت لا تستحق أن يطلقها بغيرعوض وفي ذلك عليه ضرر فإذا قصدت إيقاع هذا الضرر به بفعل هو مباح أوخلا عن هذا القصد دخلت في قوله ﷺ: [ من ضار ضار الله به ومن شق شق الله عليه ] وهوحديث حسن وهذا ليس مختصا بحقوق النكاح بل هو عام في كل من قصد إضرارغيره بشيء هومباح في نفسه

بقي أن يقال: فهي لا تقصد إضراره وإنما تقصد نفع نفسها بالخلاص منه فيقال الشارع لم يجعل هذه المنفعة بيدها ولوكان انتفاعها بالاخص حقا لها لملكها الشارع ذلك وحيث احتاجت إليه أمرها أن تفتدي منه كإفتداء العبد والأسير ألا ترى أن العبد لا يحل له أن يقصد مضارة سيده ليعتقه إذا لم يكن السيد متسببا إليه ثم إن كانت نوت هذا حين العقد فقد دخلت على ما تضاره به مع غناها عنه فإنه ليس لها أن تتوصل إلى بعض أغراضها التي لا تجب لها بما فيه ضرر على غيرها فكيف إذا قصدت أن تحل لنفسها ما حرم الله عليها بإضرار الغير فهذا الضرب قريب مما ذكر بعده وإن كان بينهما فرق

المرتبة الرابعة: أن تتسبب إلى فرقته بمعصية مثل أن تنشز عليه أوتسيء العشره بإظهار الكراهة في بذل حقوقه أو غير ذلك مما يتضمن ترك واجب أو فعل محرم مثل طول اللسان ونحوه فإن هذا لا ريب أنه من أعظم المحرمات وكل ما دل على تحريم النشوز وعلى وجوب حقوق الرجل فإنه يدل على تحريم هذا وهذا حرام من ثلاثة أوجه من جهة أنه في نفسه محرم؟ ومن جهة أنها تقصد به أن تزيل ملكه عنها بفعل هو فيه مكره إذا طلق أو خلع مفاديا من شرها والاحتيال على إبطال الحقوق الثابتة حرام بالاتفاق وإنما اختلف في إبطال ما انعقد سببه ولم يجب كحق الشفعة وإن كان الصواب أنه لا يحل الاحتيال على إبطال حق مسلم بحال ومن جهة أن مقصودها أن تتزوج غيره لا مجرد التخلص منه وقريب من هذا أن تظهر معصية تنفره عنها ليطلقها مثل أن تريه أنها تبرج للرجال الأجانب ويكونوا في الباطن ذوي محارمها فيحمله ذلك على أن يطلقها فإن هذا الفعل حرام في نفسه إذ لا يحل للمرأة أن تري زوجها أنها فاجرة كما لا يحل لها أن تفجر فإن هذا أشد إيذاء له من نشوزها عنه فهذا أشد تحريما وأظهر إبطالا للعقد الثاني من خطبة الرجل على خطبة أخيه

وهذا نظير أن يخبب الرجل على امرأته ليتزوجها فإن السعي في التفريق بين الزوجين من أعظم المحرمات؟ بل هو فعل هاروت وماروت وفعل الشيطان المحظي عند إبليس كما جاء به الحديث الصحيح ولا ريب أنه لا يحل له تزوجها ثم بطلان عقد الثاني هنا من بطلانه في المسألة الأولى وأقوى من بطلان بيعه على بيع أخيه وشرائه على شرائه

فإن فسخ العقد الأول هنا حصل بفعل مباح في الأول لوتجرد عن قصد مزاحمة المسلم وهنا فيه قصد المزاحمة وإن الفعل في نفسه محرم ومع هذا فقد صحح بعض أصحابنا العقد الثاني وإنما صار في صحة مثل هذا خلاف لأن التحريم لحق آدمي ولأن المحرم متقدم على العقد الثاني والاعتقاد أن التحريم هنا لا لمعنى في العقد الثاني ولكن لشيء خارج عنه؟ وقد تقدم التنبيه على هذا؟ لكن إن تزوجت بنية أن تفعل هذا بأن تنوي أنها تخلع منه فإن لم تطلق وإلا نشزت عنه وأن تحتال عليه لتطلق فهذا العقد الأول أيضا حرام وإذا كان من تزوج بصداق ينوي أن لا يؤديه زانيا أو من أدان دينا ينوي أن لا يقضيه سارقا فمن تزوجت تنوي أن لا تقيم حقوق الزوج أولى أن تكون عاصية فإنها مع أنها قصدت أن لا تفى بموجب العقد قد قصدت أن تفارقه لتتزوج غيره فصارت قاصدة لعدم هذا العقد ولوجود غيره بفعل محرم وتحريم هذا لا ريب فيه وقد قال الله تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } وهذه تنوي أن لا تقيم حدود الله فهي أبلغ من التي لا تظن إقامة حدود الله وهذا مثل أن يبيع لم سلعة وبنيته أن لايسلمها إلى المشتري أو يؤجر دارا بنية أن يمنع المستأجر من سكناها بل هو أبلغ من ذلك لأنها تقصد بمنع الحقوق حمله على الفرقة فتقصد منع حقوق العقد وإزالة الملك ومثل هذا العقد يطلق أصحابنا وغيرهم صحته لأن العاقد الآخر لم يفعل محرما ففي الحكم ببطلان العقد ضرر عليه والإبطال إنما كان لحقه فلا يزال عنه ضرر قليل بضرر كثير وليس العقد حراما من الطرفين حتى يحكم بفساده ومتى حكم بالصحة من أحد الطرفين حكم بحل ما يأخذه صاحبه ذلك السوء فيحكم بوجوب عوضه عليه وإلا كان آكلا له بالباطل ومتى قيل بوجوب العوض عليه فإنما يجب للآخر الخادع فصار كأنه قصد أخذ مال الغير بغير عوض فأوجب الله عليه العوض الأول بغير اختياره ولزم من هذا استحقاقه لذلك المال بغير اختيار

فصحة العقد توجب الاستحقاق من الطرفين وحد الإنتقاع مشروط ببذل العوض فإن منعت المرأة ما يجب عليها لم يكن لها حق على الزوج ومن أصحابنا من يقول بفساد مثل هذا العقد حتى قالوا مثل ذلك في النجش وتلقى الركبان والمتوجه أن يقال: يحرم عليه الانتفاع بما حصل له في هذا العقد مع حل الانتفاع للآخر كما تقول في الرجل يحول بين الرجل وبين ماله فعليه بدله ينتفع به مالك المال حلالا مع أن الحايل لا يحل له الانتفاع بما في يديه من المال الذي حال بين مالكه وبينه فكان العقد صحيحا بالنسبة إلى أحدهما فاسدا بالنسبة إلى الآخر ومعنى التصحيح ما حصل العوض المقصود به وهذا مما يمكن تنويعه وقريب من هذا أن تخدعه بأن تستحلفه يمينا بالطلاق ثم تحثه فيها بأن تقول أقاربي يريدون أن أذهب إليهم وأنا أكره ذلك فأحلف على أن لا أخرج إليهم بالطلاق الثلاث فيحلف ثم تذهب إليهم ونحوذلك فهذا أيضا لا ريب في تحريمه فإن هذه عصته بأن فعلت ما نهاها عنه من الخروج ونحوه وخدعته بأن احتالت على أن طلق ومثل هذه الحيلة حرام بالاتفاق وهذه مثل ما قبلها

المرتبة الخامسة: أن تفعل هي ما يوجب فرقتها مثل أن ترتد أو ترضع امرأة صغيرة حتى تصير من أمهات النساء أو تباشر أباه أو ابنه وقد قدمنا أن مثل هذه المرتدة لا ينبغي أن ينفسخ نكاحها فأما الإرضاع والمباشرة فينفسخ بهما النكاح فهذا أيضا تحريمه مقطوع به وهذا قد أزيل نكاحه بغير فعل منه كما صرف الخاطب بغير فعل منه ثم إزالة النكاح الذي قد حصل ليس مثل منع المنتظر فإذا كانت قد قصدت هذا حين العقد فقد تعددت المحرمات وفساد العقد الثاني هذا أظهر من فساد عقد الخاطب الثاني بكثير وفساد العقد الأول هنا محتمل

فإن هذه بمنزلة المحلل حيث نوت أن تفعل ما يوجب الفرقة كما نوى الرجل الفرقة ولا فرق بين نية الفرقة ونية سبب الفرقة فإن نية المرأة والمطلق بيع الزوج العبد لها لما كان سببا للفرقة كان بمنزلة نية الزوج وحده الفرقة لكن يقال أنها قد لا تتمكن من الإرضاع والمباشرة كتمكن الزوج من الطلاق وتمكن المتطلق من بيع العبد

وأيضا فإن المنوي هنا فعل محرم في نفسه فقد لا يفعله بخلاف ما كان مباح الأصل وأيضا فإن المرأة لم يجعل الشرع إليها هذا الفسخ مباشرة ولا سببا فنيتها أن تفعله مثل مخادعة أحد المتعاقدين للآخر وذلك لا يقدح في صحة العقد بالنسبة إلى الزوج بخلاف نية الزوج للفسخ فإن الشارع ملكه إياه فإذا نواه خرج العقد عن أن يكون مقصودا وكذلك إذا نواه السيد والزوجة فإنهما يملكان الفرقة شرعا بنقل الملك في الزوج فإذا قصد ذلك خرج العقد عن أن يكون مقصودا ممن يملك رفعه شرعا لا سيما والسيد بمنزلة الزوج في النكاح والسيد والعبد في النكاح بمنزلة الزوج الحر فهو يملك العقد بمواطأة المرأة فنيته للفسخ كنية الزوج إذ النكاح لايصح إلا بإذن الزوج ولم يوجد للزوج إذن رغبة والمرأة لا تحتاج إلى رغبتها إذا رضيت بالعقد كما تقدم لأنها إذا ملكت استوى الحال في رغبتها وعدم رغبتها

وبالجملة فهذه قصدت الفسخ بفعل محرم فالواجب أن تلحق بالتي قبلها إذ لا فرق بين أن يكون الفعل المحرم يوجب الفسخ مباشرة أو بطريق التسبب المفضي إليه غالبا أو السبب المغلب بالمباشرة

المرتبة السادسة: أن تقصد وقت العقد الفرقة بسبب تملكه بغير رضى الزوج ومثل أن تتزوج بفقير تنوي طلب فرقته بعد الدخول بها فإنها تملك ذلك في إحدى الروايتين عن أحمد وغيره فإنها إذا رضيت بمعسر ثم سخطته ففي ثبوت الفسخ قولان معروفان فهذه إلى المحلل أقرب من التي قبلها إذ السبب هنا مملوك لها شرعا كطلاق المحلل وبيع الزوج العبد بخلاف ما لو قالت لم أعلم أنه معسر أو لم أعلم أنه ناقص عني ليس بكفء أولم أعلم أنه معيب فإن هذا يثبت لها الفسخ لكن إذا نوت ذلك فقد نوت الكذب فتصير من جنس التي قبلها إذا نوت الإرضاع أو المباشرة وهذا أقوى من حيث إن هذا الكذب ممكن فإنه من الأقوال ليس من الأفعال وإنما يفارق المحلل في جواز التوبة

ومسألة المعسر محتمل فيها تجرد اليسار فليس المنوي هنا مقطوعا بإمكانه كنية الطلاق والبيع وهذا القدر ليس بمؤثر فإنه قد لا يمكن أن يبيعها العبد أيضا بأن يحدث له عتق أو يموت المطلق أويرجع السيد عن هذه النية

ومسألة التزويج بمعسر ونحوه شبيهة بمسألة العبد فإن الفرقة قد نواها من يملكها ومتى نواها من يملكها فلا فرق بين أن يكون هو الزوج أو السيد أو الزوجة وحدها أو الزوجة وأجنبي كما لو كانت المطلقة أمة فاتفقت هي وسيدها أن يزوجها بعبد ثم يعتقها فإنهما قد اتفقا على فرقة لا يملكها الزوج مثل مسألة بيعها الزوج العبد وسائر المسائل التي قصدت الفرقة بسبب محرم مثل دعوى عدم العلم بالعسرة أو النقص أو العيب أيضا قريبة من هذا ومتى تزوجت على هذا الوجه وفارقت فهي كالرجل المحلل وأسوأ فلا يحل لكن لو أقامت عند الزوج فهل يحتاج إلى استئناف عقد كافي الرجل المحلل ولو علم الرجل أن هذا كان من نيتها وهي مقيمة عليه فهل يسعه المقام معها هذا فيه نظر فإن المرأة في النكاح مملوكة والزوج هو المالك وإن كان كل من الزوجين عاقدا ومعقودا عليه لكن الغالب على الزوج أنه مالك والغالب على المرأة أنها مملوكة

ونية الإنسان قد لا تؤثر في إبطال ملك غيره كما يؤثر في إبطال ملكه وإن كان متمكنا من ذلك بطريق محرم فالرجل إذا نوى التحليل فقد قصد ما ينافي الملك فلم يثبت الملك له فانتفت سائر الأحكام تبعا وإذا نوت المرأة أن تأتي بالفرقة فقد نوى هو للملك وهي قد ملكته نفسها في الظاهر والملك يحصل له إذا قصده حقيقة مع وجود السبب ظاهرا لكن نيتها تؤثر في جانبها خاصة فلا يحصل لها بهذا النكاح حلها للأول حيث لم تقصد أن تنكح وإنما قصدت أن تنكح والقرآن قد علق الحل بأن تنكح زوجا غيره

وقد تقدم أن قوله: حتى تنكح زوجا غيره يقتضي أن يكون هناك نكاح حقيقة من جهتها لزوج هو زوج حقيقة فإذا كان محللا لم يكن زوجا بل تيسا مستعارا وإذا كانت قد نوت أن تفعل ما يرفع النكاح لم تكن ناكحة حقيقة وهذه المسائل المتعلقة بهذا النوع من الأحكام دقيقة المسلك وتحريرها يستمد من تحقيق اقتضاء النهي والفساد وإمكان فساد العقد من وجه دون وجه ويكون الكلام في هذا لا يخص مسألة التحليل لم يحسن بسط القول فيه وهذه المراتب التي ذكرناها في نية المرأة لا بد من ملاحظتها

ولا تحسبن أن كلام أحمد وغيره من الأئمة أن نية المرأة ليست بشيء يعم ما إذا نوت أن تفارق بطريق تملكه فإنهم عللوا ذلك بأنها لا تملك الفرقة وهذه العلة منتفية في هذه الصورة ثم إنهم قالوا أن نية المرأة ليست بشيء فأما إذا نوت وعملت ما نوت فلم ينفوا تأثير العمل مع النية على أن النية المطلقة إنما تتعلق بما يملكه الناوي فعلم أنهم أرادوا بالنية أن تتزوج بالأول ولا ريب أنها إذا نوت أن تتزوج بالأول لم يؤثر ذلك شيئا كما تقرر فإن هذه النية لا تتعلق بنكاح الثاني ولم يكن اللفظ يقتضي ذلك فإن العرف قد دل على أن نية المرأة عند الإطلاق هي نية مراجعة الأول إذا أمكنت فأما إذا نوت فعلا محرما أو خديعة أو مكرا وفعلت ذلك فهذا نوع آخر وبهذا التقسيم يظهرحقيقة الحال في هذا الباب

ويظهر الجواب عما ذكرناه من جانب من اعتبر نية المرأة مطلقا والمسألة تحتمل أكثر من هذا ولكن هذا الذي تيسر الآن وهو آخر ما يسره الله تعالى في مسألة التحليل وهي كانت المقصودة أولا بالكلام ثم لما كان الكلام فيها مبنيا على قاعدة الحيل والتمس بعض الأصحاب مزيد بيان فيها ذكرنا فيها ما يسره الله تعالى على سبيل الإختصار بحسب ما يحتمله هذا الموضع وإلا فالحيل يحتاج استيفاء الكلام فيها إلى أن يفرد كل مسألة بنظر خاص ويذكر حكم الحيلة فيها وطرق إبطالها إذا وقعت

وهذا يحتمل عدة أسفار 
 
====== والله سبحانه وتعالى يجعل ذلك خالصا لوجهه وموافقا لمحبته ومرضاته آمين والحمدلله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل 
=============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هل المقحمات هي الذنوب العظام كما قال النووي أم أنها ذنوب أرتكبت بقصد طاعة الله لكن التسرع والاندفاع دافع للخطأ من غير قصد

تعقيب علي المقحمات يتبين من تعريف المقحمات بين النووي ومعاجم اللغة العتيدة أن النووي أخطأ جدا في التعريف { المقحمات مفتوح للكتابة...